بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين وآله واصحابه الطاهرين الطيبين
سماحة رئيس محكمة الاستئناف المذهبية الدرزية العليا المرحوم الشيخ حليم تقي الدين، ذكراه باقية حاضرة في وجداننا ووجدان أبناء العشيرة والوطن. فمن مثال القاضي الذي عمل جاهداً في إعلاء شأن القضاء المذهبي الدرزي تنظيمًا واجتهادًا وتأليفًا وقولًا للحق، الى الرجل الحكيم المتابع في الزمن الصعب لمجريات الأحداث الخطيرة التي عصفت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في جبلنا العزيز، مبديًا للقاصي والدّاني قامةً وطنيَّة ذات أصالة ووفاء لكلِّ القيَم، دفاعًا عن الكرامة بحقّ وعدل، وموضحًا التباسات الواقع ببصيرة نافذة، وقلب نقيّ، وبلاغة مستنيرة، ليس دفاعًا عن قومه وحسب، بل عن وطن الرسالة والعيش المشترك، مجسِّدًا امتثاله الصادق لحقيقة تاريخ الموحدين الدروز ودورهم السياسي والاجتماعي والثقافي بكل صراحةٍ وجرأةٍ حتى الرمق الأخير الذي به كانت شهادته.
إنَّ رجلا كالمرحوم الشيخ حليم تقي الدّين لا يُخمد الموتُ له حضورا طيّبًا باقيًا في ضمير شعبه، ولا يمحو له ذكرى مشعَّة من صفحات التاريخ الوطنيّ الأثيل.
شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
نعيم حسن
اليوم وفي كلِّ يوم تتداعى الذِّكريات، وتتزاحم المعاني لترسمَ بمِدادٍ من نور سيرة شهيد الحريّة والعدالة ووحدة الإيمان الإسلامي المغفور له الشيخ حليم تقيِّ الدّين.
كان رحمه الله، علَماً من أعلام القضاء والفِقه الإسلامي، وواحداً من رجالات الفكر والثقافة البارزين. تميَّز كاتباً، وخطيباً ومُحاضراً، وأستاذاً جامعيّاً، ورائد وطنية، وداعية محبَّة، ومحاوراً من الطّراز الأوّل. وأُثِرَ عنه حبُّه للعلم وأهله، وشغفه بالتراث العربي الإسلامي، وميله الطبيعي إلى اكتناه المعرفة الكُلِّيَّة، والاشتغال بالأعمال الحضاريّة عبر مجالس الثقافة ومراكز الأبحاث.
جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك. يضفي على جلسائه فيضاً من لباقته ومرَحِه وتفاؤله… ولطالما ردّد على مسمع أصدقائه وفي مواجهة محاوريه أنَّ لبنان هو الإنسان فإن مات إنسانُه ظلماً وقهراً وعدواناً فأيّ وطن يبقى لنا بعد ذلك؟ كان الشيخ حليم مثال الرجل الجَدِّي الرّصين، ومن شعاراته في الحياة العملية: “ما تريد أن تقولَه افعلْه”، و”قيمة الإنسان ما يُحْسِنُه”.
جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك.
نشأته وبيئته
وُلِدَ الشّيخ حليم تقي الدين في بعقلين، الشّوف، في 18 كانون الأول سنة 1922 وتوفِّي شهيداً، اغتالته يد الغدر والخيانة في أوّل كانون الأول 1983.
والده القاضي والشاعر الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين.
عاش مع إخوته العشرة، حياة أُلفة ومحبّة ورعاية من الوالدين: رعاية الوالد كانت في إعطائه المثال في التواضع والاستقامة والقدرة على التعامل مع الناس جميعاً، بصدق وإخلاص، ورعاية الوالدة كانت في حُسن التربية والتوجيه الأخلاقي والوطني مع عطف وحنان. فشبَّ مُجتهداً طموحاً، وقد رافقه الاجتهاد والطموح خارج المدرسة في حياته العملية. تأثّر بعوامل البيئة التي نشأ وترعرع فيها وكانت مثاليّة: أبٌ قاضٍ وشاعر، وأعمام وأخوال أدباء وشُعراء، وعائلة لها تاريخ طويل تميَّز برجال الدين، من مؤلِّف كبير في الدين، إلى شيخ عقل يرعى شؤون الطائفة دينياً واجتماعياً إلى رجال في القضاء المذهبي والعدلي، كانوا قدوةً في نهجهم وسلوكهم. فتأثيرات البيت والمدرسة والبيئة كانت كبيرة وعميقة جعلت منه رجلاً عصاميّاً يعرف حدَّه ويعطي جهده، مؤمناً بما يقول واثقاً بما يعمل.
علومُه ونشاطُه
- تلقّى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة اليسوعية في بيروت، ومدرسة الجامعة الوطنية في عاليه، ومدرسة الحكمة في بيروت. تابع دراسته الجامعية في الأكاديمية اللبنانية (1950 – 1951) حيث نال شهادة في الحقوق العامّة وشهادة في التاريخ الدبلوماسي.
- نال من الجامعة اللبنانية إجازة تعليمية في التاريخ والجغرافيا سنة 1955 وإجازة في الحقوق سنة 1962.
- عُيِّن أستاذاً متعاقداً في الجامعة اللبنانية؛ معهد العلوم الاجتماعية، ابتداء من العام 1960 ولغاية 1981 حيث حاضر في التاريخ الاجتماعي والنّظم السياسية في البلاد العربية وفي الجريمة وأشرف على الرسائل والأبحاث التي قام بها طلاب الماجستير في المعهد المذكور.
- مارس المُحاماة ابتداء من عام 1963 محامياً بالاستئناف وحتى تعيينه رئيساً لمحكمة الاستئناف العليا عام 1968، واستمرّ في هذا المنصب إلى يوم استشهاده في أول كانون الأول عام 1983.
- رَشَّح نفسه للانتخابات النيابية – عن قضاء الشوف – عام 1964.
- انتُخِب عُضواً في المجلس المذهبي للطائفة الدرزية ثم أميناً لسرّ هذا المجلس بالإجماع سنة 1966 وحتى 1968.
- أسهم في تأسيس المجلس الدرزي للبحوث والإنماء وانتُخِب عضواً في مجلس أمنائه.
- شارك في وضع الثوابت الإسلامية العشر مع سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وعدد من كبار رجال الفكر الإسلامي والوطني- وشارك في تأسيس المكتب الدائم للمؤسّسات الدرزية عام 1982 وكان أحد أركانه العاملين بفعالية ونشاط.
مؤلَّفاته
-
- “ديوان الشيخ أحمد تقي الدين – شاعر القضاة وقاضي الشعراء”، الطبعة الأولى 1967، والطبعة الثانية 1982.
- “قضاء الموحدين الدروز في ماضيه وحاضره” 1979.
- “الأحوال الشخصية عند الدروز وأوجه التباين مع السُنَّة والشيعة مصدراً واجتهاداً”.
- “الوصيّة والميراث عند الموحّدين الدروز ومئة مثال في تقسيم الإرث”، صدر عام 1983. وشارك في تأليفه قاضي المذهب يومذاك الشيخ مرسل نص.
وللشيخ حليم عدد من المحاضرات والندوات في مواضيع مختلفة منها في الأحوال الشخصية، وتنظيم الأسرة، والقضاء بوجه عام، وتنظيم القضاء المذهبي الدرزي، ومنها حول قضايا وطنية مُلِحّة، وقد ألقيت هذه المحاضرات والندوات في مؤسسات تربوية وروابط اجتماعية ومؤتمرات دولية داخل لبنان وخارجه. وله أحاديث ومقابلات إذاعية وتلفزيونية وصحفية متنوعة، عالج في بعضها قضايا اجتماعية، وتطرَّق في بعضها الآخر إلى قضايا وطنية، ورؤىً مستقبلية. وفي الأشهر الأخيرة قبل استشهاده، كانت له تصريحات صحفية يومية، أدلى من خلالها برأيه، بصراحة ووضوح واعتدال، وبموضوعية رصينة، بعيداً عن التشنُّج الطائفي، مُقوِّماً الأمور بمنظار القاضي العادل والوطني المخلص النزيه.
تنظيم القضاء المذهبي
عندما تسلَّم الشيخ حليم تقي الدين القضاء المذهبي الدرزي عام 1968 كانت السجلّات في بيوت القضاة، فأكَبّ على تنظيم القضاء، يعمل فيه ليلاً نهاراً. وبعد سنتين أُصيب بنوبة قلبية، بسبب الإرهاق والجهد والسهر والعطاء في ميدان التنظيم، حتى غدا القضاء المذهبي الدرزي بشهادة عدد كبير من المحامين والقضاة اللبنانيين من أرقى المحاكم المذهبية في لبنان والعالم العربي. حتى أنّ بعضهم تمنَّى لو كان القضاء العدلي كالقضاء الدرزي. كان في أحكامه ينسى كلَّ من حوله لدى تصفّحه الأوراق المعدّة للدرس. حتى إذا فرغ من دراستها كتب الحكم بكل ضمير حيّ، لا صديق ولا قريب يعرف سبيل الوساطة إليه، كان يقول: “أنا لم أُعطِكم شيئاً من عندي، الحقُّ مُلْكُكم أنتم”. أحبّ رسالة القضاء وأكبرَها إيماناً وثقة، إيماناً بالله وثقة بالنفس، كما أحبَّ رسالة القاضي وأكبرها عدلاً وإنصافاً، عدلاً مقروناً بالقناعة وإنصافاً مقروناً بالمساواة. وكما قال ذات مرة رحمه الله لدى سؤاله عن مشاعر القاضي وهو يقضي بين الناس: “إنّ من أولى واجبات القاضي، العُصمة في ضميره فإذا تحقّقت هذه العُصمة كان مثالاً وقدوة بين الناس، وفي إيماني أضاف: “إنّ المساواة بين الناس بالقانون، هي روح الحقّ ومُقتضى العدل، وإنّ المساواة بينهم بالمحاكمات، هي روح القانون ومُقتضى الشريعة.
مؤلَّفاته القضائية
بعد أن انتهى من عملية تنظيم القضاء واطمأن إلى استمراره بقضاته وموظّفيه، شرع في التأليف في موضوعات من صميم عمل القضاء المذهبي، وكانت غايته من ذلك تسجيل التاريخ وحفظ التراث. وأوّل ما كتبه في هذا المجال: “قضاء الموحِّدين الدروز” وهو من أهم المؤلفات في تاريخ القضاء المذهبي وأدب القاضي. جمع في هذا الكتاب الكثير عن تاريخ القضاء الدرزي وتطوره ورجالاته، آخذاً بعين الاعتبار مروره بمراحل زمنية كان خلالها قضاء متميِّزاً في تقاليده وسلوكه. استند فيها إلى اجتهادات المذهب في الأحوال الشخصية، وبخاصة في الزواج من جانب وحدانية الزوجة وفي الطلاق وواجب المساواة بين الرجل والمرأة، وفي الميراث وتقسيمه حسب مشيئة المُوصي. والمؤلف يذكر في معرض شرحه لأهداف الكتاب “إننا أردنا من هذا المؤلَّف إعطاء المثال في أنَّ هذا القضاء ما يزال مستمرَّاً في نهجه وسلوكه من حيث تحقيق العدالة بالاستناد إلى العلم والقانون بالإضافة إلى الاقتناع والضمير وهذه أكثر المزايا توافقاً مع مهمّة القضاء وتاريخ هذا القضاء.
وكتب الشيخ حليم أيضاً عن الأحوال الشخصية الدرزية ومقارنتها مع المذاهب الإسلامية الأخرى، وذلك لتعريف الدروز بنظام الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، وواجبات الموصى لهم وواجبات المورِّث وحقوق الوُرَثة، ولتعريف رجال الفقه والقانون من قضاة ومحامين وطلاب حقوق بمصدر الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، فهو مصدر إسلامي في أصله الديني، يتَّخذ من اجتهادات المذهب أحكامه الخاصة التي تبقى متَّصلة بأصله وعائدة إليه مع اجتهاد متطوِّر.
مواقفه التقدّمية والإصلاحية
كان في كل ما يؤول إلى المجتمع العربي أُسرةً وأفراداً مُصلحاً اجتماعياً من الدرجة العالية، وكان النصيب الأكبر لجهده واجتهاده في مصلحة وخير المرأة الشرقية بصورة عامة والمرأة الدرزية بصورة خاصة.
واستناداً لروح القانون ونصّه الصادر في 24 شباط 1948 ومبادئ العدل والإنصاف، أصبحت المرأة الدرزية ومن خلال عمل القضاء الدرزي وممارساته واجتهاداته متساوية في حقوقها وواجباتها مع الرجل، فبيدِها أمر الطلاق، كما بيد الرجل، تَطْلُب التفريق منه، كلَّ مرة يُسيء إليها بقصد إيقاع الضّرر بها. وحقوق المرأة الدرزية لم تَعُد مقتصرة على ما يكتب لها في صداقها المؤجَّل عند طلب التفريق منها. فحقوقها تُقاس بمقياس ما يلحق بها من ضرر مادي وأدبي وهذه القواعد القانونية والأخلاقية مُستمَدَّة من شرح الإمام السيد قدس الله سره الذي يُوْلي المرأة الموحِّدة جميع حقوقها. والشيخ حليم كان في كل المناسبات، وبالنظر إلى حريّة الإيصاء عند الموحدين الدروز الصّرخة المُدَوِّية من أجل إنصاف المرأة الدرزية في تَرِكة زوجها ووالدها عند الإيصاء.
مواقفه الوطنيّة والإسلاميّة
خاض الشيخ حليم تقي الدين مُواجهات ومناقشات متعدّدة ومتنوّعة بشأن الإصلاح السياسي والنظام الطائفي والامتيازات، وكان له دور كبير في الرَّد على الآراء الفاشية ومُخطَّطات التسلُّط والهيمنة. وكانت مساهمته في وضع “الثوابت الإسلامية العشر” وفي الاحتفالات المُشتركة للطوائف الإسلامية جزءاً من عمله الجاد لتوحيد كلمة المُسلمين ونُصرة الحَق. فبتاريخ 21/9/1983 اختتم اللقاء الإسلامي الموسّع الذي عُقِد في دار الفتوى وصدر عنه بيان بثوابت الموقف الإسلامي. حضر اللقاء مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ورئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين. والرؤساء: عادل عسيران، وصائب سلام، وسليم الحص، وحسين الحُسيني والوزير السابق سامي يونس. حذَّر البيان الذي أذاعه شمس الدين من الخطر الذي يشعر به المسلمون نتيجة السياسات والمواقف والممارسات الطائفية والفئوية ومحاولات الهيمنة الحزبية (الكتائبية) على الدولة وإداراتها ومؤسساتها، من دون أن تحزم السّلطة أمرها أو أن تُفيد محاولات النّصح والتحذير من عاقبة هذا النهج في وجودها في منطقة وغيابها في منطقة، وممارسة السلطة بأسلوب في منطقة وبأسلوب مُغاير في منطقة أخرى. وأكّد على وجوب تحقيق الذاتية الوطنية الصادقة وتعزيزها، وحدّد ثوابت الموقف الإسلامي بلبنان وطناً نهائياً بحدوده الدولية. سيِّداً، حرَّاً، مستقلاً، عربيّاً، مُنفتحاً على العالم ولجميع أبنائه، لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات ومبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. التزام النظام الاقتصادي الحرّ، والإنماء الاقتصادي والاجتماعي. إعطاء القضايا الاجتماعية حقَّها الكامل في العناية لإزالة التفاوت بين المناطق والفئات.
التمسّك بلبنان متلازم مع التمسّك بوحدة غير منقوصة، ورفض أي شكل من أشكال اللامركزية السياسية، وترحيب باللامركزية الإدارية. إلغاء الطائفية السياسية بكل وجوهها. ورفض كل ما يتعارض مع الشرعية، والإقرار بحقّ المهجرين منذ بداية أحداث 1975 بالعودة إلى مساكنهم ومناطقهم والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأمين انسحاب القوات غير اللبنانية وفق قرار الأمن مع رفض أيّة محاولة لفرض معاهدة صلح أو تطبيق علاقات مع إسرائيل. وشَكَّل اللقاء الإسلامي الموسّع لَجنة من خالد وشمس الدين وتقي الدين لمواصلة المساعي في شأني الجبل وإقليم الخروب اللذين يبعثان على القلق الشديد.
وفي الثامن والتاسع من شهر تموز عام 1983، تواصلت الاتصالات واللقاءات لإقامة صلاة عيد الفطر في باحة الملعب البلدي في الطريق الجديدة فأعلن رئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين أنّه سيشارك في صلاة العيد، وقال في تصريح صحفي: “إنّنا نرى أن الواجب الإيماني والموضوعي، يدعونا للمشاركة في صلاة عيد الفطر المبارك إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وذلك تأكيداً على وحدة الصف الإسلامي سياسياً ووطنياً، وأضاف: إنّها لمناسبة كبيرة في عيد ديني كبير، أن يلتقي المسلمون إيماناً ومحبة وتسامُحاً في صلاة هذا العيد المبارك، إنني أتمنى توحيد موعد إقامة هذه الصلاة الدينية المباركة بين المذاهب الإسلامية الثلاث، السُنّة والشيعة والدروز، وأن يكون هذا التوحيد مُنطلقاً مستمرَّاً في هذا الاتّجاه الديني السليم.
وفي الخامس عشر من أيلول 1983 أجرى المُفتي الشيخ حسن خالد اتصالاً هاتفياً برئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين دعاه فيه لحضور صلاة عيد الأضحى، وعلى أثر الاتصال قال الشيخ تَقي الدين: اتّصل بي مفتي الجمهورية ودعاني إلى صلاة عيد الأضحى المبارك، وقد لبيت الدّعوة بكل سرور، إيماناً مني بأن استمرار الصلاة الموحِّدة هو استمرار للموقف الإسلامي المُوَحَّد، فلقد توحدنا إيماناً وعلينا أن نتوحد فكريَّاً ووطنيّاً، وأضاف: إنّ إقليم الخرُّوب هو جزء من قضاء الشوف، كان عبر تاريخه واحداً بين مسلميه ومسيحييه. وإنّ التقاء أهالي إقليم الخروب هو التقاء السُنّة والدروز والموارنة حيث كانوا يشكِّلون عبر تاريخهم وحدة وطنية اجتماعية. وكانوا دائماً على وفاق وتعاون وهم جميعاً من بناة هذه المنطقة التي هي من أساس لبنان، وتأثيرها تأثير وطني في كيان لبنان ووحدته. ونحن نقول للقوات الغريبة من اللبنانيين ومن غير الشوف، الآتية من بيروت ومن الأشرفية وكسروان وغيرها من المناطق، أن تعود إلى قواعدها سالمة، وتترك أهالي إقليم الخروب والشوف الأصليين على تآلفهم وتعاضدهم ووحدتهم. وقال: نحن لم نكن نعرف تفريقاً، لا بين سُنَّة ولا بين شيعة وموارنة ولا بين كاثوليك وأرثوذكس في كلّ من إقليم الخروب والشوف وعاليه. حتى بدأت نغمة حماية المسيحيين، وكأن الحماية تتطلَّب هذه القوات المسلَّحة، مع أنَّ الحماية هي في الألفة والمحبة والصلات الاجتماعية التي كانت قائمة وسائدة في هذه القرى التي جُبِلَت على حب الوطن وحب الآخرين بدون تفريق بين مذهب ومذهب وكلّنا تابعون إلى أديان سماوية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكفانا وكفى المسلَّحين المتطرفين فتنةً بعد فتنة في كل بقعة من بقاع لبنان، وفي كل قرية منه، فليعودوا سالمين إلى قواعدهم في بيروت والأشرفية وكسروان وجرود العاقورة وليدافعوا هناك عن الكرامة التي يتحدثون عنها وعن العنفوان الذي يتباهون به. إذ ليست الكرامة ولا العنفوان في الاعتداء على المناطق الدرزية والدروز، ولا على ممتلكات الدروز ومواقعهم السياسية والوطنية فيها، ولا على إقليم الخروب.
وأكد طوال الفترة التي انقضت على الاتفاق اللبناني الإسرائيلي أن البديل لاتفاق 17 أيار 1983 غير المكتوب هو اتفاق الهدنة 1949 المكتوب. وهو الذي رفض أن يُبنى الوطن على المكاسب الفئوية والامتيازات، ولم يترك مِنْبَراً إلّا وأفاد منه لطرح فكرة الحلّ الديموقراطي للأزمة من غير تشنّج أو تعصّب ذميم، ومن غير تشبث إلَّا بأرض الوطن ووحدته وهُوِّيَّتِه العربية، والتآخي بين بنيه مُصِرَّاً على ضرورة الإصلاح الجذري للنظام السياسي.
لقد عرفه القريب والبعيد في صدقه وثباته، وفي حبه للتآخي الحقيقي بين بني الوطن، في تغليبه سلاح المنطق على سلاح الغرائز.
وآخر تصريح له قبل اغتياله قال فيه: “إنَّ القنابل مهما تنوعت وكثرت فلن تثني هذا الجبل وأهله وقادته والقادة الوطنيين في كلّ لبنان، عن تحقيق الوحدة الوطنية والسيادة لحكم مسؤول وعادل على مثال الأمير فخر الدين المعني الكبير الذي يجب أن يعود من أجل لبنان الجديد، وليس على مثال الحكم الطائفي للأمير بشير الثاني… تكلَّم الشيح حليم تقيِّ الدين بصوت عال، وإلى آخر لحظة من حياته عن انتفاضة الجنوبيين البطولية معلناً أن الجنوب ينتفض ذوداً عن حقِّه المُماثل لحقِّ الجبل في أرضه وكرامته ووجوده.
وآخر الذين زاروه قبل استشهاده، مُهَجَّرو كفرمتَّى واعبَيْه والبنيَّه وبعورته، حيث خاطبهم بقوله: لا يجوز تحميل وِزْر المجزرة هناك إلى الطائفة المارونية، وإنَّما لفئة ضالَّة حاقدة… والذين لم يعرفوا رئيس القضاء المذهبي الدرزي في عمله الرّوحي وفي رعايته لشؤون أبناء الطائفة ومعاملتهم، عرفوه في حرصه على رعاية الوطن كَحَدَقة عينه، فكان قاضياً باسم الشعب كلّه، وكان محامياً عن حقوق الناس الطيّبين والمقهورين في لبنان كلّه، وكان في نشاطاته المتنوِّعة العطاء كشمعة مُنيرة وسط ظلام حالك.
وبعد هذا هو الشهيد الشيخ حليم تقي الدين، وهذه بعض من ملامح سيرته العطرة. رجل كان في مستوى المرحلة، وعبقريٌّ مُتعدّد الميزات والمواهب، راهنَ على لبنان الإنسان فاكتملت في مبادئه وبواعثه التجربة الإنسانية، توحُّداً في الجوهر وتوجُّهاً غيريَّاً، وإيماناً بالعطاء الخَيِّر مقياساً لقيمة الرجال. لم يَخُن يوماً ذاته المتوهجة بروح الحق والعدل، والزاخرة بقيم الحريّة والتّوحيد. فكان دائماً أميناً على المبادئ حريصاً على إيقاع الانسجام بين ما يقول وما يفعل… لم يترك لحظة “الميزان” الذي التزم به ولم يدع لحظة واحدة الرّاية التي حملها، راية وحدة المسلمين ووحدة اللبنانيين وشراكة التاريخ والوطن – على حدّ قوله – بين الدُّروز والموارنة في الجبل… إنَّه وإن غاب عن مسرح نضاله جسداً وطبيعة بشرية، فهو حي بمبادئه السّامية… والمبادئ لا تموت.