-
ثورة الموحّدين (الدروز) على إبراهيم باشا
بدأت هذه الثورة في جبل حوران، وامتدّت إلى جهات جبل الشيخ الشرقيّة والغربيّة، وكادت تمتدّ إلى دمشق والغوطة. كان جبل حوران يُعرف، آنذاك، باسمه هذا، ثم صار يُعرف باسم “جبل الدروز”، لأنه أخذ اسم “الدروز” الذين تكاثَروا فيه منذ توَطُّنهم له سنة 1685، ثم صار يُعرف منذ ثلاثينيَّات القرن العشرين باسم “جبل العرب”، وهو حاليًّا يُعرف باسم “محافظة السُّوَيداء” في الجمهورية العربية السورية. لكنّنا سنذكره باسمه الذي عُرف به في المرحلة التي نتكلّم عنها، أي جبل حوران.
بعد أن أعفَى محمد عليّ دروز جبل حوران من التجنيد الإجباري في جيشه، وأبقى لهم سلاحهم ليدافعوا عن أنفسهم كونهم مُقيمين على أطراف البادية ومعرَّضين لغارات البدو واعتداءاتهم على المراعي والحقول والسكان، عاد وطلب من ابنه إبراهيم تجريدهم من السلاح، وأخذ شبابهم إلى الخدمة الإجبارية أسوةً بسائر السكّان بمن فيهم دروز وادي التَّيم وجبل لبنان الذين نفَّذوا المطلوب منهم بعد رفض واحتجاج.
استدعى الوالي شريف باشا (حكمدار الشام) شيوخ دروز جبل حوران إلى دمشق فحضروا إليه وعلى رأسهم كبيرهم وشيخهم يحيى الحمدان، وطلب منهم تسليم السلاح وتقديم 170 شابًّا إلى الخدمة الإجباريّة، فرجَوهُ أن يُبقي لهم سلاحهم وألاّ يجنِّد شبابهم كي لا تضعف مقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم من هجمات البدو. وكان الشيخ يحيى الحمدان أكثرهم إلحاحًا عليه وترجِّيًا له، لكن شريف باشا ازداد إصرارًا على تنفيذ المطلوب، وغضب من الشيخ لإلحاحه، وتقدّم منه وصفعه، وطلب منه ومن سائر الشيوخ العودة إلى الجبل والمباشرة فورًا بتنفيذ ما طلب منهم.
كان ما جرى لشيخ مشايخ دروز جبل حوران، بالإضافة إلى صعوبة تسليمهم لسلاحهم، وتجنيد شبابهم في الخدمة الإجباريَّة، أبرز أسباب ثورتهم على الحُكم المصري، وقد بدأوها بالهجوم على القائد عليّ آغا البصيلي وإبادة حملته. وفيما كان والي الشام يستعدّ لإرسال حملة تأديبيّة بقيادة مفتّش الجيش المصري، محمد باشا، كان دروز الجبل قد لجأوا إلى ما يسمُّونه “الهجيج” أي الرحيل عن قراهم والاحتماء بوعرة “اللّجاه” المنيعة التي يعرفون مسالكها الصعبة ومغاورها، ويجهلها الأعداء ويتيهون في مجاهلها. وقد استطاعوا أن يقضوا على الحملة الثانية التي قادها محمد باشا، وأن يشتِّتوا الحملة الثالثة الكبيرة التي قادها شريف باشا وأحمد منيكلي باشا (وزير الحربيّة المصريّ).
إن هذه الهزائم الثلاث للجيش المصري الذي أخضع الثورات في سورية، وأخضع من قَبل الثائرين في اليونان وفي الجزيرة العربيّة، وقهر الجيوش العثمانيّة مرّات عدّة، اضطرّت القائدَ إبراهيم باشا أن يقود الحملة الرابعة بنفسه، ممهِّدًا لإخضاع الثّوّار في جبل حوران بإخضاع إخوانهم الذين ثاروا لنصرتهم في وادي التَّيم بقيادة شبلي العريان، والذين انضمَّ إليهم مناصروهم من دروز جبل لبنان. وهو لم يستطع وقف تمرُّد الثوّار في جبل حوران إلاّ بعد ردمه للينابيع وتسميمه للمياه، لكنه قنع بإعادة السِّلاح الذي غنموه، مقابل إبقاء سلاحهم بأيديهم وبعدم تجنيدهم، وذلك لكي يتفرَّغ لقتال الجيش العثماني الذي تجمَّع عند حدود سورية الشمالية، فلقد انتصر عليهم عسكريًّا، ولكنه لم يستطع فرض تدابيره التي كانت سبب ثورتهم.
-
المصادر التاريخية المعاصرة للحملة المصريّة ولثورة الموحِّدين (الدروز)
إن المصادر التاريخيّة المُعاصرة للحملة المصريّة على سوريّة، ولثورة الموحِّدين (الدروز) كثيرة، ومنها ما يتناولهما بتوسُّع، ومنها ما يتناولهما باختصار، وأبرزها ما يلي:
֍ وثائق سراي عابدين التي تبلغ أكثر من خمسة عشر ألف وثيقة “إضافة إلى عدد لا يُستهان به من الأوراق السِّرّيّة التي تتعلّق بأخبار الثورة الدرزية”(1).
֍ تقارير سُفراء وقناصل الدول الأوروبية ورسائلهم.
֍ الأرشيف العثماني.
֍ مخطوط الشيخ حسين إبراهيم الهجري المعروف بـ”قصة اللجاه”، وهو الذي سنتكلَّم عنه لاحقًا بتوسُّع، لأنه موضوع هذه الدراسة، ولأنه أهم وثيقة محلّيّة سورية تتكلّم عن أهم ثورة على الحُكم المصريّ لبلاد الشّام.
֍ كتاب “مذكَّرات تاريخيّة عن حملة إبراهيم باشا على سورية” لمؤلِّف مجهول(2)، هو أحد موظَّفِي الإدارة المصرية بدمشق إبَّان سيطرة إبراهيم باشا على سورية، وهو كان بعيدًا عن أماكن مجريات الحوادث العسكريّة فجاءت معلوماته عنها غير موسَّعة، إلا أنها تعبِّر عن وجهة نظر القادة والمسؤولين من خلال ما يَطّلع عليه من الرسائل والتقارير.
֍ قصيدتان للشيخ أبي عليّ قسّام الحنّاوي، أحد الرّؤساء الرُّوحيّين للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. كان أحد قادة الثورة في هذا الجبل، وقد وصفها شِعرًا في قصيدتَين له، طويلتَين، أُولاهُما مؤلَّفة من 111 بيتًا تتضمّن 22 بيتًا فيها أسماء القادة الدروز والمصريِّين وأسماء المعارك، ووصْف هذه المعارك وبطولات الدروز فيها. وثانيتهما مؤلَّفة من 85 بيتًا(3)، وتتضمَّن 14 بيتًا شبيهًا بأبيات القصيدة الأولى. ومع أن عدد الأبيات التي تتناول ثورة الدروز على المصريِّين قليلة في القصيدتَين، إلا أنها ذات أهمّية كونها صادرة عن شاهِد عِيان.
-
الشيخ حسين الهجري
الشيخ حسين الهجري (1821-1880) هو ابن الشيخ إبراهيم بن محمود بن سلمان زين الدين، من بلدة الخريبة في قضاء الشُّوف. نزح محمود إلى جبل حوران، وغدَا كاتبًا عند الشيخ الحمداني (شيخ مشايخ الجبل)، واستقرَّ في قنوات. وبالرغم من قِصَر سنِّه (1804-1840) اكتسب شهرة دينيّة واسعة نظرًا لتَقواهُ وأدبيَّاته الدينية، ولكونه أول رئيس روحي للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران، ومن قادة ثورتهم على إبراهيم باشا. أما شهرة “الهجري” فقد اكتسبها نسبةً إلى هجر في الجزيرة العربية لكثرة ما تغنَّى بها وأنشد فيها من قصائد نظرًا لدلالتها الدينية.
حين نشبت الثورة في جبل حوران على المصريِّين كان الفتى، الشيخ حسين، برفقة والده الشيخ إبراهيم، لذا كان شاهِدَ عِيان لفصولها، وقاتَل في بعض معاركها. وقد تسلَّم الرِّئاسة الرُّوحيّة في الجبل بعد وفاة والده، وكان لا يزال فتًى في حدود التاسعة عشرة من عمره كحدٍّ أقصى، هذا إذا اعتبرنا أن والده تزوَّج في سن السادسة عشرة، على عادة الكثيرين من أبناء زمانه، وأنه -أي الشيخ حسين- وُلد بعد سنة من زواج والده. عاونه في شؤون الرِّئاسة الرُّوحيّة الشيوخ الثلاثة: الشيخ أحمد جربوع، والشيخ شهاب أبو فخر، والشيخ أبو عليّ قسَّام الحنّاوي الذي وردت الإشارة إليه.
لم يكن للشيخ حسين الهجري الشهرة التي أخذها والده، بالرغم من أن مدته في الرِّئاسة الرُّوحية كانت أطول من مدّة والده، وبالرغم من أنه كان العضو الثاني في مجلس قائمقاميّة جبل حوران، ويلي القائمقام التركي. إلاّ أنه ذو أهميّة –وإن تكن محدودة- في مجال التاريخ كونه أول رائد في الكتابة عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. فهو مع مدوِّن كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب “الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، ومؤلِّف كتاب “عمدة العارفين” الشيخ محمد الأشرفاني، الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، من الأدلّة على تثقف رجال الدين الدروز، واهتمامهم بتدوين التاريخ وإدراكهم لأهمّيّته.
عندما كتب الشيخ حسين الهجري مخطوطته المسمّاة “قصة اللجاه” كان عمره في حدود الواحدة والعشرين سنة، إذ ذكر في نهايتها ما يلي: “كان الفراغ منها يوم الاثنين في شهر ذي الحجّة في العشر المبارك سنة ألف ومايتين وسبعة وخمسين”. وهذا التاريخ يوافق كانون الثاني 1842م. وذكر أن الفترة الزمنيّة التي استغرقتها كتابة مخطوطته، هي أربعة أيام. وهذه المدة تبدو قصيرة للغاية في تأليف أي كتاب، وقد تُوحي بحُكم سلبيّ عليه، لكن هذا الحكم لا يعود يخطر بالبال عند قراءة مخطوطته، ومعرفة أنها مكتوبة بشكل رواية أو قصة، وأنه ممّن عاش حوادثها وساهم فيها. يُضاف إلى ذلك أن الفاصل الزمنيّ بين انتهاء معارك اللجاه وكتابة الشيخ حسين عنها قصير هو دون الأربع سنوات، وأن مجريات الحوادث بالتالي لا تزال بعناوينها وتفاصيلها عالقة في ذهنه مما سهَّل له كتابتها في أربعة أيّام.
-
تَداوُل مخطوط الشيخ حسين الهجري وتحقيقه
كان العِلم بمخطوط الشيخ حسين الهجري محصورًا في دائرة ضيِّقة جدًّا، هي آل الهجري، وأقرباؤهم بالمصاهرة (آل أبو فخر)، ولم يكن تَداوله يتعدَّاهم إلاّ للقلائل جدًّا حتى أواخر القرن العشرين، حتى أن من احتفظوا بالأصل أو بنسخة منقولة عنه، ومن قُدِّر لهم الاطِّلاع عليه، لم يعطوه الأهمية التي يستحقّها، ممّا أضعف موضوع تعميمه، وأخّر تحقيقه ونشره .
حين كان المؤرِّخ حنّا أبي راشد يقوم في سنة 1925 بجولات ميدانيّة في جبل الدروز (جبل حوران)، لإعداد كتابه “جبل الدروز” الذي صدر في السنة نفسها، ثم أُعيد طبعه في سنة 1961، وصل في تجواله إلى قرية “تل اللّوز” في “المقرن الشرقي” من الجبل. وهناك قُدِّم له مخطوط قال عنه: “إنه لم يستفد منه بشيء سوى نقط تاريخية فقط، وذلك لأنه منسوخ بعبارة سمجة”(4). وفي الحقيقة أن كلامه هذا صحيح عن بعض عبارات المخطوط، خاطئ بالنسبة إلى الاستفادة منه.
إن التاريخ الذي أشار إليه حنّا أبي راشد هو نسخة عن مخطوط الشيخ حسين الهجري معنونة باسم “قصة اللجاه وما جرى فيها”. ونرجِّح أنها هي ذاتها التي وصلت إلينا، ذلك أن أحد رجال الدين الدروز من قرية “تل اللوز” أهدى كرّاسًا (كُتيِّبًا) إلى الشيخ حسين يوسف شبلي البعيني يشتمل – فيما يشتمل- على قصة اللجاه، فأخذنا صورة عنه، واعتمدنا عليه في حديثنا عن ثورة الموحِّدين (الدروز) على المصريِّين في كتابنا الصادر سنة 1985، بعنوان “جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين (الدروز)(5). مع الإشارة إلى أنه حصلت إضافات على الكرّاس بعد اطِّلاع المؤرِّخ حنا أبي راشد عليه في سنة 1925، وإلى أنه لا يتضمّن اسم المؤلف، فاعتبرناه في سنة 1985 مجهولاً لأننا لم نتأكّد في حينه أنه الشيخ حسين الهجري.
إن الكرّاس (الكُتيِّب) الذي وصل إلينا صغير الحجم، من النوع الذي يعتمده رجال الدين عند الموحِّدين الدروز لكتابة أدبيّاتهم. وهو يشتمل على منشور مرسل من الرئيس الرُّوحي الشيخ حسين الهجري، ونظيره الشيخ أبي علي قسّام الحنّاوي، إلى رجال الدين في السُّويداء بتاريخ 16 صفر 1289هـ (نيسان 1872م) حول إجرائهم عقد زواج غير مطابق كلّيًّا للأحكام الشرعية، وتليه “قصة اللجاه”، فجَدولٌ بتواريخ وفَيَات شيوخ آل الهجري وصولاً إلى الشيخ أحمد الهجري الأول المتوفَّى في سنة 1372هـ (سنة 1953م)، فجدولٌ بتواريخ أحداث جبل حوران (جبل العرب) ومعاركه، وصولاً إلى انتفاضته ضد رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي في سنة 1954، ويليه أخيرًا أشعار دينية.
تقع “قصة اللجاه وما جرى فيها” في 128 صفحة من الكرّاس، يتراوح عدد الأسطر فيها بين 11 و12 سطرًا في الصفحة الواحدة، وعدد الكلمات بين 6 و7 كلمات في السطر الواحد. باشرْنا بتحقيقها من أجل المساهمة في كتابتنا بالتاريخ العامّ من جهة، وبتاريخ جبل العرب من جهة أخرى. واتصلْنا بالدكتور فندي أبو فخر الذي أشار إلى “قصة اللجاه” في كتابه “انتفاضات الشام”(6)، وذلك من أجل مقارنة النسخة التي نمتلكها مع النسخة الموجودة عنده لكي يأتي التحقيق متكاملاً، ومستوفيًا جميع الشروط، وجميع عوامل النجاح. لكننا عدَلْنا عن متابعة العمل بعد تحقيق الدكتور فندي للمخطوط بعنوان “حروب اللجاه”(7). ثم إن الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) في سورية، الشيخ حكمت سلمان الهجري، نشره بعنوان “قصة حروب اللجاه”(8) مُدرجًا صورة عن كل صفحة من النص الأصل، تقابلها صفحة مطبوعة تشتمل على بعض التعليقات والتوضيحات. والشيخ حكمت هو ابن أحمد بن سلمان بن أحمد بن حسن بن حسين الهجري الذي هو مدوِّن المخطوط.
قارنَّا بين صفحةٍ مخطوطةٍ نشرها المؤرِّخ فندي أبو فخر، والصفحة التي تقابلها في ما نشره الشيخ حكمت الهجري، فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا، ممّا يعني أنهما اعتمدا على نفس النسخة التي نرجِّح أنها الأصل. وقارَنَّا بين النصَّين اللَّذَين نشراهما، ونص النسخة الموجودة لدينا فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا معها، ممّا يدلّ على النقل الأمين عند كاتب هذه النسخة. وإذا كنّا قد عدَلْنا عن تحقيق المخطوط، بعد أن قام بذلك غيرُنا، فإنه من الضروري، ومن المفيد، الحديث عن مؤلِّفه، والحديث عنه لأنه أهمُّ مصدر محلّيّ معاصِر للثورة التي قام بها الموحّدون (الدروز) ضد إبراهيم باشا.
-
مميِّزات كتابة الشيخ حسين الهجري
كَتب الشيخ حسين الهجري بلغة تتضمّن العديد من الكلمات العامّيّة، والعديد من الأخطاء في اللغة والقواعد. وكتب بأسلوب السرد المتواصل دون ذِكر أيّ عنوان بحيث يصعب على القارئ معرفة نهاية الفكرة أو الفقرة، إلاّ عند ذكر الأبيات الشِّعرية التي يستشهد بها، كما عند وصفِه حصار إبراهيم باشا لِعكَّا، ومعاركِه مع الجيش العثماني، ومعارك حملاته مع الدروز الثائرين عليه. وإذا كان هذا ممَّا يميّز كتابته في الشكل، فإن مضمونها يتميَّز بِنَواحٍ عدة أبرزها المصداقيَّة، والطابع الديني، والأسلوب الرِّوائي والسجع.
المصداقيّة
كان الشيخ حسين الهجري صادقًا في تدوينه للوقائع، شأنه في ذلك شأن إخوانه رجال الدين من الموحِّدين (الدروز)، الذين يعتمدون الأمانة الكلية في القول والكتابة، اعتمادًا على مبدأ الصدق(9) الذي هو مرتكِز عقيدتهم (التوحيد). ومن الدلائل على مصداقيَّته تطابُق ما جاء عنده عن سَير المعارك مع ما جاء في تقارير قناصل الدول الأوروبية وتقارير ورسائل الموظَّفين والقادة المصريِّين، وغير ذلك من المصادر. وما ورد عنده عن الأعداد مبالَغًا فيه كان على ذمّة القائلين به، لا على ذمّته، كمجموع أعداد القتلى من الجنود المصريين التي قال عنها ما يلي: “الذي فُقِد من القوم الخاسرين الأرذال نحو اثنين وثلاثين ألفًا ومنهم من يقول أربعين ألفًا على هذا المنوال ومنهم من يقول إنه أكثر من ذلك فالله أعلم وأخبر بالحال”.
دَوَّن الشيخ حسين عباراته بصفة المتكلِّم، وبالضمير “نحن”، وعبّر عن مشاعره ومشاعر قومه وآلامهم ومعاناتهم خلال هجيجهم، رجالاً ونساء وكبارًا وصغارًا، وتنقُّلهم باستمرار من مكان مهدَّد باقتحام الجند المصري، إلى مكان أكثر أمانًا. وعبّر عنه نقمته ونقمة قومه على إبراهيم باشا الذي دفعهم بظلمه واستبداده إلى الثورة، والذي تمادَى في أساليب قمعه لثورتهم فعمد إلى ردم الينابيع وتسميم المياه لإجبارهم على التسليم، لكن مصداقيّته هذه في التعبير عن المشاعر كانت مشوبة أحيانًا بالهوى. فالجنود المصريون عنده هم: “الفراعنة الأغتام، والخوارج ذات الجور والعدوان، والقوم الطغاة البغاة، والمشركون الأضداد الكثيرون البلس والنجس والنفاق والفساد”.
إن الأوصاف المُعطاة للجنود المصريِّين تنطبق بالطبع على قائدهم إبراهيم باشا، الذي وجَّهَهم لقتال الدروز الثائرين طالبًا منهم تنفيذ تدابيره، إلا أن الشيخ حسين يذكره بدولة إبراهيم باشا وبالملِك، ويصفه فقط بالعلج، وبالغشوم الكشور الغضبان الذي لم يرحم بجوره الشيوخ والأطفال والنسوان. وبشاعة صورة ابراهيم باشا في نظر الشيخ حسين وسائر الدروز، تخففّها مأثرته التي يذكرونها”، وهي عدم سماحه لأي جندي بالاعتداء على نسائهم.
الطابع الديني
من الطبيعي أن يظهر الطابع الديني في كتابة الشيخ حسين الهجري، وخصوصًا أنه ليس رجل دين عادي، بل هو رئيس روحي، نشأ في كنف والده الشيخ إبراهيم، وتتَلْمَذ على يده، وقد اشتهر والده بتديّنه وبأدبه الديني. وهذا الطابع الديني ظهر في كتابة الشيخ حسين ابتداء بمقدمة مخطوطه وانتهاء بخاتمته مرورًا بمعظم صفحاته ومواضيعه. ومن وجوه ذلك إكثاره عبارات شكر الله وحمده، ووصفه عظيم جبروته وقدرته، واعتباره كل ما جرى خلال حملة إبراهيم باشا على سورية وحُكمه لها وثورات أهلها عليه، وكل ما يجري في هذا العالم، مقدَّرًا وسائرًا بالإرادة الإلهية، واعتباره النصر الذي حققه الثوّار الدروز القليلو العدد على الحملات المصرية الأكثر عددًا وتسليحًا، نصرًا من الله.
الأسلوب الروائي والسجع
كَتب الشيخ حسين الهجري بأسلوب روائي ملحميّ، شبيه بأسلوب روايات عنترة والزِّير وبني هلال وسواها. ولعلّ ذلك هو السبب الذي حمله على تسمية مؤلِّفه قصة مقرونة بِاسم المكان الذي جرت فيه معظم حوادثها، أي اللجاه. وقد كثرت عنده عبارات السجع، وكان كَكُلّ من اعتمد هذا الأسلوب يفتش غالبًا عن الألفاظ الملائمة.
وأسلوب السجع هذا هو الأسلوب الشائع في عصره، والأسلوب الذي اعتمده في كتاباته بعد ذلك، بدليل أن الرسالة التي أرسلها ونظيره الشيخ قسّام الحنّاوي، والتي وردت الإشارة إليها، تحفل بعبارات السجع. إذ جاء مثلا في مقدمتها ما يلي:
“بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وبه في كل الأمور نستعين فهو المنجا والملتجا يوم الفزع الأكبر المهول العظيم. فبجلالك اللهم يا عالي الشان ويا عظيم المجد والكبرياء والسلطان يا غيور عند وقوع الموهفات وتغلب المخترصين على الأديان يا من بقدرتك وعظمتك استقامت البسيطة والسموات بلا عمد ولا أركان يا عون المستعين ومظهر دين الحق على الأديان يا غوث المستغيثين يا شديد الأركان يا من لا يشغله شان عن شان يا حفيظ عبادك الطايعين ويا نصير المستضعفين من غلبات تحامل المبدعين بلا حقيقة ولا برهان…”.
موجز عن مخطوط الشيخ حسين الهجري
كان الشيخ حسين الهجري، بالرغم من صغر سنّه عند تدوينه مخطوطه، مطّلعًا على معظم الحقائق والوقائع التاريخية المتصلة بحملة إبراهيم باشا على سورية، إذ ذكر خروجه من مصر وحصاره الطويل لعكا، وموقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى في جبل لبنان منه، ومعاركه، وانتصاراته على العساكر العثمانية، وإصلاحات والده محمد عليّ وتدابيره في بلاد الشام، وأوضاع السكّان في مرحلة تحوّلهم من الخضوع للحكم العثماني إلى الخضوع للحكم المصري، وأسباب الثورات على هذا الحكم وصولاً إلى ثورة دروز حوران المسمّاة “قصة حروب اللجاه”.
ذَكر الشيخ حسين الهجري مُجريات المواقع التي جرت بين ثوّار جبل حوران وبين العساكر المصرية الموجّهة إليهم، وأوضح كيفية انتصارات الثوّار في أكثريّتها، والخطط التي اعتمدوها في المواجهة والانسحاب. وذكر موقف قبيلة السلوط المقيمة في اللجاه منهم، واكتفاء أبنائها بإعلامهم عن قدوم العساكر المصرية، وبمشاركتهم فقط في تقاسُم المغانم. كما ذكر الاجتماعات التي عقدها الثوّار، وكيف أن الدِّفاع عن أعراض النساء كان سبب استماتتهم، وانتصارهم على الأعداد الأكثر منهم عددًا وعدّة. وتكلَّم عن انتقال شبلي آغا العريان من اللجاه إلى منطقة وادي التَّيم لإشعال الثورة فيه وللتخفيف عن ثوّار الجبل. وتكلم عما جرى في هذه المنطقة من معارك. وقد خصّ بالذِّكر بعض القادة إضافة إلى شبلي آغا العريان، كالشيخ يحيى الحمدان (شيخ مشايخ دروز حوران) والشيخ إبراهيم الهجري، وبعض القادة الأبطال، كإبراهيم الأطرش وحسين عسّاف وحسين درويش، وأعرض عن ذِكر الكثيرين غيرهم تجنّبًا للإطالة. وأنهى كتابه بالحديث عن نهاية الثورة والسبب الرئيس في ذلك.
لم يُسمِّ الشيخ حسين الهجري أسماء المواقع التي جرت بين الثوّار والحملات المصرية، لذا لا يستطيع التعرّف عليها إلاّ القُرّاء المثقّفون، وخصوصًا المهتمِّين بتاريخ بلاد الشام عمومًا وتاريخ جبل حوران تحديدًا. وهذه المعارك التي لم يسمِّها معروفة عند أبناء الجبل باسم “الذبحة” كذبحة البصيلي، وبأسماء الأيام كيوم بصرى ويوم براق ويوم القسطل ويوم لاهثة ويوم الصورة ويوم صميد ويوم جب النعام.
وبما أن المجال لا يتّسع للحديث، وإنْ بإيجاز، عن جميع المحطّات التاريخية والمواقع الحربية التي تناولها الشيخ حسين، نكتفي بذكر بعض النصوص من مؤلَّفه، نوردها كنماذج مع بعض التوضيحات، لفهمها ولوضعها في إطارها التاريخي.
-
موقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى من الحملة المصرية
“ثم ان ابراهيم باشا أرسل منه المكاتبات إلى والي جبل معن الأمير بشير الشهابي يدعوه بضمها إلى الطاعة له والاذعان والانقياد إلى دولته بالأمن والاطمئنان. فلما وصلت كتابته إلى المذكور بالتهديد وبها يحذر من سطوته بالتخويف والتشديد فعند ذلك بادَر هذا الأمير العميد وجميع مناصب بلاده من عقل سديد وراي مصوب حميد من أكابر الدروز والنصارى يخبرهم بأمر هذا الملك العنيد ولسبب المخابرة بينهم بهذا الشان الوطيد. ثم انه من بعد المفاوضة بهذه الحال عوّلوا الجميع على محاربة هذا العنيد واعتمدوا الجميع على حربه والقتال وتعاطوا بينهم بالعلي المتعال وانصرفوا الجميع من عند هذا على هذا المنوال، ثم انه بعدما رجعوا الجميع لمحلاتهم أرسل الامير المذكور استدعى كبار النصارى وارادوا أن يجعلوا لهم حالاً بذاتهم مع ابراهيم باشا المذكور يكون سببًا لاصلاح شأنهم بغبا(10) علم مناصب الدروز وارادوا انهم يوقّعوا الدروز بالمكر والخديعة والصوج عند الدولة القادمة. ثم انه الأمير بشير أرسل إلى الملك القادم ابراهيم باشا كتابات منه ومن النصارى يعلن فحواها ان الأمير المذكور وجميع النصارى طائعين مسلمين مذعنين للدولة القادمة سوى ان طائفة الدروز لم يمكنهم التسليم بل انهم جميعًا قد عوّلوا على الحرب والقتال والعصاوة إلى الدولة المصرية القادمة… ثم انه بعد هذا الحال ارسل ولده بمكاتبه على هذا المنوال ومعه جماعة من أكابر النصارى قد جهروا لملاقاته والدخول تحت طاعته فعند ذلك تباشر بملك البلاد وإيلاء ما بها من الخلق والعباد. ولما علموا مناصب الدروز بهذه الروية وتحقق عندهم من الامير خبث الطويه لم يمكنهم التسليم إلى دولة هذا الملك ذو الرهط والصولة والأمر الجسيم بل انهم صاروا طالبين الدولة العلية إلى أرض الشام”.
-
مظالم إبراهيم باشا
تَشدَّد إبراهيم باشا في جمع الضرائب المفروضة على دروز حوران أسوةً بسائر سكّان بلاد الشام، لكنه تساهَل في جمع السلاح منهم، ولم يلجأ في البداية إلى تجنيدهم الإلزامي. وعن هذه الأمور يرد عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ثم ان ابراهيم باشا المذكور قد أنشا المظالم الذي لا طاقة للعباد بحملها وهي محاليه(11) مثل زيادة أموال ميرية ومثل زيادة فدن على الرعية ومثل زيادة أعداد أنفار مجازًا لا حقيقية. ولم يكن بقلبه رحمة ولا للعدل في ذاته بقية خصوصًا محل بلادنا الذي هو جبل دروز حوران فإنه أذاقنا أنواع البلايا والنكال في زيادة الأموال وظلم الأهالي والولدان حتى شتّت من الأهالي كثيرًا بالأقطار والبلدان وناءهم عن الديار والأوطان لكونهم عاجزين عن تأدية المطلوب بالتمام ولم يقبل بذلك عذر ولا بقلبه لأحد ارتحام حتى كثيرًا من الناس اخذوا في التخفي والهرب من عظيم ازدياد الشدائد والبلايا والكروب، وبالغوا بإهانة النسا والاولاد مع كسر الحرم وصدع القلوب، وليس لنا مشتكى سوى لعلاّم الغيوب. ثم انه لم يزل بهذا وبمثله بالتبيين من سنة 1247 سبعة واربعين إلى تاريخ مستهل سنة 1252 اثنين وخمسين. ولكن مع اصناف هذه التعاديل العظيمة والمظالم والأفعال الجسيمة لم يكن يأخذ من السلاح بالمراد لكون اننا ملتقيين(12) بأطراف البلاد ولسبب أن علينا خصايم من العربان والبواد”.
-
موقعة الثعلة وبداية ثورة الدروز على إبراهيم باشا
أرسل حاكم دمشق (شريف باشا) عليّ آغا البصيلي على رأس أكثر من أربعمائة فارس إلى جبل حوران ليجمع السلاح منه وليأخذ العدد المطلوب من شبابه الى الجندية. فنزل هذا القائد في قرية “الثعلة”، وكاتَب أعيان الدروز، وطلب منهم في كتابَيْه أداء المطلوب منهم. وحين أصرَّ على تنفيذ أوامر إبراهيم باشا ولم يَلِنْ لاسترحامهم وتلطُّفهم، قرَّروا الهجوم عليه، وفاجأوه بكبسة عند الفجر وقضوا على الأكثريّة الساحقة من جنوده. وعن هذه الموقعة، المعروفة بـ”ذبحة البصيلي”، التي كانت بداية الثورة، جاء عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ولمّا علموا (دروز الجبل) ان لا بد للقوم اللئام من تنفيذ المرام فعند ذلك تحزّبوا وتحرّضوا على الحرب والشدايد والأهوال وجعلوا يشدّدوا بعضهم بعضًا للمعارك والقتال وتجمّعوا ومشوا على توفيق العلي المتعال وقصدوا لمحق هذا القتّال الضليل المحتال ليسقوه ولجنوده كاس البلية والويل والنكال. ثم انهم زمجروا كأنهم سباع ضاريات وأسود غضنفرية كاسرات أو ليوث قسورية عاديات وقصدوا ذلك القايد وجنوده الطغاة واستعانوا عليه بجبّار الأرض والسموات، وأتوا للبلد المذكورة فيا ويلها من بين البلدات. ثم انهم لبثوا حولها إلى أن برق الصباح وأضا بنوره ولاح فعندها هجمت عليهم السباع بالقتل والجراح وقد اسقوا الاعادي كؤوس البلا والويل والذباح… فما استقامت هذه الأهوال والعبر الا ساعة حتى اتى النصر والظفر وحلت بالقوم الزلازل والأرجاف والغير وأيقنوا بالخسف والحتف من خلاق البرية والبشر… ولم ينجى سوى قايدهم بنحو ثلاثين من الفرسان فتبعهم الأسد الهمام والشبل الباسل الضرغام ذو الغيرة على العيال والولدان اعني به جناب شبلي آغا العريان والشيخ فندي عامر والشيخ ابراهيم الأطرش الكواسر الفتيان وقد أردوا منهم كثيرًا في البراري والقيعان وشتتوهم من تيك الأماكن والديار والأوطان. وقد فقد بذلك النهار الشيخ ابراهيم الأطرش وثلاث عشر نفرًا غيره”.
-
هزيمة الحملة المصرية الثالثة
أَعلَمَ بدْوُ السلوط الثوّارَ بوصول هذه الحملة إلى حدود جبل حوران، فاجتمعوا في محلّ الشيخ يحيى الحمدان ومعهم الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري، وقرَّروا التصدِّي للحملة. فسار شبلي آغا العريان على رأس ما يقارب الخمسمائة مقاتل، وقسَّمهم إلى ثلاث فرق، لكنهم اضطرُّوا إلى الانسحاب أمام ضغط الحملة المصرية إلى حيث تركوا نساءهم وأطفالهم. ولما تبعهم العسكر إلى هناك استبسلوا واستماتوا في الدِّفاع عن أعراضهم وأطفالهم وشيوخهم، وهزموه شرَّ هزيمة بفضل بطولاتهم، وبفضل نجدة نصيرهم أبي إبراهيم الذي رآه البعض، بحسب مايروى، يقاتل معهم في هذه الموقعة كما في المواقع التي تصدَّوا فيها للحملة الثانية، فاعتُبر نصرهم نصرًا من الله، كالنصر الذي حقَّقه ثوَّار الجبل على الفرنسيِّين يومَي الأول والثاني من آب 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، والذي قال عنه بعض مَن كتبُوا عن الثورة السورية الكبرى (1925-1927) كمُنِير الريِّس، إنه نصر من الله. وكالنصر الذي حقَّقَته المقاومة الإسلامية في صيف 2006 على العدوان الإسرائيلي، واعتبرَته نصرًا إلهيًّا. ولقد أشار السيخ أبو علي قسّام الحنّاوي، الذي كان أحد قادة الثوار، الى نصرة أبي ابراهيم للثوار بالبيت الشعري الأتي:
جانا أبو ابراهيم فازع بعزمه وسيفــو بشـوف العين يلهب نار
إن هذا النصر الكبير تَحقَّق في رأي الشيخَين: حسين الهجري وقسَّام الحنّاويّ، بفضل سيف أبي إبراهيم، كما تحقق بفضل سيوف المقاتلين الأشدّاء الذين قال عنهم السائح الأميركي رسل ريزنع ما يلي: “متى سُلّت السيوف من الأغماد كان الضّارب بها أصلب قوم في غربي آسيا “الدروز” حتى إن زهرة الجيش المصري انكمشت وانهزمت من وجه تلك السواعد التي لا تُلوَى”.
جاء عند الشيخ حسين الهجري عن الحملة الثالثة ما يلي:
“وفرّينا امامهم إلى أن دنينا من الأهالي والعيال ونحن نقاسي بالشدايد على مثل ذلك الحال. فعند ذلك تصارخت النساء والأطفال والبنات والشبان والرجال مستغيثين بالعلي المتعال وبرسوله النبي الكامل ذي المجد والأفضال أن يوقّينا من هذه البلايا والأهوال ويمنع عنا كيد المارقين الفجرة الباغيين الضلال. فعند ذلك انقلب مع العساكر المصرية هذا الحال وحلّت بهم العواصف والصواعق والزلزال والسحق والمحق والهول والوبال وحضرت بهم البلايا والرزايا والنكال وصار يمرح بينهم أبو ابراهيم وهو بهم كنار زادت اشتعال حتى شاهدوه بعيونهم كبرق تدانى بالقيعان والجبال وقد اشفق علينا وأجاب دعانا بحضوره مع السؤال. فعند ذلك زمجرت منا الأبطال والشجعان وتطاحمت خلفهم الاسود الكواسر الفتيان وصاحت بحربهم فرود الرجال والشبان وتسابقت عليهم السباع الضواري بشده الباس والأركان وغنّى بهم السيف مع طعن السنان وعود الزان.
ثم اننا لم نزل بهذه الأفعال وهم بين أيدينا كأغنام للذبح تنادى عليها بسوق الدلاّل وقد أذاقوا شدة البلا والفوادح والأهوال بما حلَّ بهم من الخسف والحتف والنكال حتى صار رجل منا يجوز منهم مئة ويسلبهم الأرواح والأموال، وأملت جثاثهم ذلك الأماكن من سهلها والجبال. وقد نزل بهم الرواجف والبلايا والوبال. فلم نزل بطلبهم بهذا الحال نحو ساعتين ثم بعد ذلك وصلوا إلى الذخاير والمدافع والحمال وجميع زهابهم وجباخاناتهم المنقولة على عوالي الجمال وزمجروا على بعضهم بالحرب والقتال وطمعوا أن المدافع تدفع عنهم هذه البواعث والأحوال ولبثوا نحو ساعة على هذا المنوال وظنوا أن المنارة توقيهم من أسودنا والأبطال. ثم ان بعد هذه الساعة تجمّعت رجالنا وصاحت بهم أبطالنا وظهرنا فيهم شدايد أفعالنا. فعند ذلك ولّوا هاربين وللسلامة والنجاة طالبين وعلى أعقابهم ناكصين خايبين منعكفين وأرموا سلاحهم وفاتوا ذخايرهم وأموالهم وقد ذبحت روساهم واستوسرت أبطالهم. فعند ذلك استغنمنا جميع سلاحهم ومدافعهم والجباخانات واخذنا نوباتهم مع عزهم وبوقاتهم والنايات وفزنا ببيارقهم وذخايرهم مع لباسهم والرايات وتتبعناهم على هذا الحال حتى غدو ما بين أشتات وأموات ومنهم كثيرًا من التعب والنصب به الفوت فات لأننا قد رأينا منهم نحو خمسماية في جحيف واحد ما بين تلافًا وأموات من غير حرب ولا ضرب بل من شدة الزلازل والصيحات… واما هذه العساكر العظيمة قد بالغوا انه لم رجع الا نحو ثلثها إلى العرضي أو يزيد عن ذلك وعدم منها نحو ثلتينها ما بين قتيل وجريح وشتات في البراري وأسير”(13).
-
ردم إبراهيم باشا للينابيع وتسميمه لمياهها
“ثم انه هذا الظالم مشى على جميع قرايا اللوا(14) وهدم مناهلها وعدم ابيارها(15) كل قرية بقرية وكل منهل بمنهل وكل بلد يصير بيننا وبينه مجرا(16) عظيم وأمر جسيم ولله بذلك إرادة وتحكيم. ثم انه سار قاصدًا بعساكره إلى قرية لاهثة وكان ذلك الوقت منها ورودنا ونزل بجحفله عليها وجعل يهدم مناهلها فالتقينا وصار بيننا وبينه حرب شديد وفقد منه ذلك اليوم خلق عظيم ولم يفقد منا سوى رجل واحد فلما هدم مناهل البلد المذكورة وأهال عليها الجدران وقد وضع بالماء الجاز والسموم والجيف والدواب الزايدة القذار والانتان وانصرف خارجًا بعساكره من هذا المكان…
ثم انه بعد ذلك اتى إلى جميع القرايا المستديرة بجانب اللجاه وفعل بهم هذه الأفعال حتى كادت تهلك جميع الناس من هذا الحال وقد مات كثير من الظمأ وعدم الماء الزلال ولولا ذلك وعدم الماء لم يكن له علينا بعون الله سلطان ولا مجال… ثم انه بعدما هدم مناهل هذا البلد لم يكن هدم مناهل ام الزيتون ثم اننا لم نزل بالورد اليها فلما علم الظالم الغشوم بذلك فجهّز عساكره ومدافعه على جاري معتاده وقصد البلد ام الزيتون والقرى الذي لم يكون دمّر مناهلها وصار يفعل بهم الأفعال كما فعل بغيرهم من المناهل”.
المراجع
(1) أسد رستم: بلاد الشام في عهد محمد علي باشا، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1995، ص214-215. وأسد رستم: آراء وأبحاث، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1967، ص64.
(2) مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سورية لمؤلف مجهول، نشرها قسطنطين باشا المخلصي، وأعاد نشرها أحمد غسان سبانو، دار قتيبة، دمشق 1981.
(3) معظم أبيات القصيدتين واردٌ في كتاب زيد سلمان النجم: أبو علي قسّام الحنّاوي شيخ مجاهد وبطل قائد، دار العراب، دمشق 2013، ص 179-186.
(4) حنا أبي راشد: جبل الدروز، مكتبة الفكر العربي، الطبعة الثانية، بيروت 1961، ص46.
(5) انظر كتابنا: جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، دار النهار، دار عويدات، بيروت 1985، ص180-183.
(6) فندي أبو فخر: انتفاضات الشام على مظالم محمد عليّ باشا (1831-1840) دار الينابيع، دمشق 2004، ص129-147.
(7) فندي أبو فخر: الشيخ حسين إبراهيم الهجري، حروب اللجاه 1837-1838، دار كتب للنشر، بيروت2013.
(8) صدَر الكتاب عن دار الرّيّان في السويداء (سوريا) في أواخر سنة 2017.
(9) تَرِدُ في أدبيّات الموحّدين (الدروز) الدينية كلمة “الصدق” بحرف “السِّين” لا بحرف “الصاد”. ولحرف “السِّين” تفسير في حساب الجمّل الذي يعتمدون عليه، مختلف عن تفسير حرف “الصاد”.
(10) بغبا: بغير.
(11) محاليه: من كلمة “المحال” بمعنى أنها صعبة جدًّا.
(12) ملتقيين: موجودين بالصدفة أو بناءً على تفاهُم.
(13) يذكر عمر طوسون أن الحملة المصرية الثالثة بقيادة أحمد منيكلي باشا فقدت أكثر من أربعة آلاف جندي وستة آلاف بندقية ومدفعين وخمسين جملا محمّلًا بأزواد وكل متاع الضبّاط. انظر صفحات من تاريخ مصر. ذكرى مئوية البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948، ص366. وللمزيد من المعلومات انظر مقالتنا في مجلة “الضحى” العدد 10 (تشرين أول 2014)، ص28-37. وعنوانها “ثورة الموحِّدين (الدروز) على الحكم المصري”.
(14) اللوا: اللواء. وهو القسم الشمالي من جبل العرب، وقاعدته الرئيسة شهباء.
(15) أبيارها: آبارها.
(16) مجرا: قتال.