الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

من ذاكرة الجبل

من ذاكرة الجبل

درس مـن فدعــــــــــــة صعــــــــــــب
إلــــــى نسيــــــب بــــــك الأطــــــرش
ونجيب بك طراد استردّ دينه ذهباً

كان نسيب بك الأطرش شيخ بلدة صلخد قبل مئة عام ونيّف، من كبار زعماء الجبل وقادة الرّأي فيه، وكان من كبار الملّاكين في تلك المنطقة، وله أراض تتوزع في أكثر من قرية حول صلخد ومنها قرية شنّيرة. وأورد محمود خليل صعب، الأستاذ في الجامعة الأميركية هذه القصة التي جرت لابن عمٍّ له في جبل حوران في كتابه “قصص ومشاهد من جبل لبنان”، وقد أكّدها أحفاد نسيب بك المقيمون على تركة جدّهم في مدينة صلخد، ومؤدّاها أنّه في العام 1909 ذهب نسيب بك لزيارة قرية شنّيرة القريبة من صلخد ونزل ضيفاً مُكَرّماً على وكيله أبي ظاهر يوسف السّعدي، وتماشّياً مع عادات القوم دعا أبو ظاهر رجال شنّيرة للعشاء في مضافته على شرف نسيب بك، وبعد العشاء جلس النّاس للسّهر والسّمر، وكان بين الحضور فدعة (اسم علم مذكّر ذو دلالة على القوّة. على صيغة المؤنّث: كعنترة) بن عبدالله أحمد صعب من الشّويفات، فخصّه نسيب بك بالحديث وأخذ يسأله أسئلة محدّدة عن لبنان ورجال لبنان وكان فدعة على بيّنة من ذلك كلّه، وتشعّب البحث من السياسة إلى التّاريخ إلى المواسم، ثم الأدب الشعبي فدهش نسيب بك من سعة اطّلاع فدعة، وفهمه وطلاقة لسانه وسرعة خاطره. ولمّا انصرف النّاس آخر السّهرة أبدى نسيب بك لمضيفه أبي ظاهر يوسف إعجابه الشّديد بالضّيف الشويفاتيّ الشوفانيّ، وقال له: “إنْ كان هذا الرّجل يحتاج إلى أيّ دعم سياسيّ أو مادّي فأنا مستعدٌّ لمعونته”، فقال له أبو ظاهر” إنّه قريبنا وصهرنا، ولا يحتاج إلى شيء ممّا تفضلت به فهو تاجر، وعنده مخزن كبير هنا في شنّيرة، فانتفض نسيب بك وضرب كفّه الأيمن على كفّه الأيسر وقال لأبي ظاهر “ ماذا تقول يا أبا ظاهر؟ هذا الرّجل تاجر! يا للخسارة”.

الشويفات سنة 1891
الشويفات سنة 1891

كانت تلك نظرة الناس وخصوصاً زعماء العشائر إلى التّجارة والتّجار، وكذلك لأصحاب المهن والحرف، فقد رُوِيَ أنّه كان للأمير مصطفى أرسلان وكيل تجاريّ في دمشق، وهو من أصحاب الثّراء ويملك داراً فخمة فيها، لكنّ الأمير مصطفى لم يكن ينزل في ضيافته عندما يزور دمشق، بل ينزل عند بعض أبناء العائلات الوجيهة و”السّياسيّة”، ولو كان المنزل خشناً؛ ترفُّعاً عن مساواة التّاجر الذي كانوا يسمّونه “البيّاع!” بوجهاء القوم.
بعد مغادرة نسيب بك الأطرش شنّيرة حكى أبو ظاهر لأبي معروف فدعة ما كان من نسيب بك، فنظم فدعة قصيدة زجليّة من نحو ثلاثمائة بيت ضمّنها الكثير من الحِكَم وآداب الحياة والتّشديد على الأخلاق مهما كان ومهما تنوّع العمل، وأرسلها إلى نسيب بك الأطرش. وهنا يبدو أنّ نسيب بك المعروف بحصافته وكياسته تنبّه إلى غلطه بحق الرّجل فحاول استرضاءه، ودعاه إلى زيارته في صلخد، لكنّ فدعة لم يرضَ ولم يقبل الدّعوة.
كان فدعة من أزاهر الرّجال في بني صعب، فقد اجتمعت فيه الفطنة والأناقة والفصاحة، فهو مثل أبيه من الطّبقة الأولى بين شعراء الزجّل، وقد تحلّى بتلك الثّقافة الشّفويّة العفويّة التي تميّز بها “ أهل الذكاء”، ( وهذا هو التعبير الذي كان يطلق على جماعة الشعراء العاميين)، ولقد شدّته مهنة التجارة إلى جبل حوران، إذ قَدِمَ إليه بادئ الأمر مع قريبه علي محمود صعب، لكنّ عليّاً لم يلبث أن ترك العمل في الجبل، وبقي المخزن لفدعة وحده، لكنّ فدعة نفسه عاد إلى السّكن في الشويفات، غير إنّه أبقى على تجارته بالوكالة في شنّيرة، وكان يسافر إليها كلّما اقتضى العمل ذلك.
وحدث مرّة وهو في الشويفات العام (1915) أن أعدّت زوجته رأس خروف لغداء العائلة، وبعد تناول الطّعام رفعت الزّوجة الصّحون ورمت فضلات الأكل والعظام على الطّريق ودخلت إلى المطبخ، فيما كان فدعة يجلس قرب النافذة مسترخياً بعد الغداء، بينما انصرف ابنه الطفل مازن إلى اللّعب في الغرفة، ولاحت من مازن إلتفاتة نحو والده فرآه يتطلّع نحو الطّريق وهو يبكي، ركض إلى قُرْبه يستطلع السّبب فشاهد عدداً من الأطفال وقد تحلّقوا حيث رمت أمّه العظام وهم ينهشون ما بقي عليها من اللّحم.

نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه
نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه

كانت مجاعة الحرب العالمية الأولى قد اشتدّت وانتشرت، وفي مثل لمح البصر قرّر فدعة أمراً. نادى زوجته وقال لها “اجمعي أغراض البيت، فنحن مسافرون غداً إلى حوران”. وقبل أن تسأله زوجته عن سبب هذا القرار المفاجئ أخذها بيدها نحو النّافذة وأراها المنظر المُحزِن وقال لها “ما من أحد يدري ما سيكون مصير النّاس وأموالنا في جبل الدّروز، فماذا يحدث لنا إذا انقطعت المواصلات بيننا وبين الجبل؟” وبدأ الاستعداد للرّحيل.
ولبس فدعة ثياب السفر، وذهب من فوره إلى حيّ العمروسيّة لزيارة نجيب بك طراد، وكان هذا الرّجل من وجوه الشويفات المشرقة، وعلى صداقة حميمة به. أخبره فدعة بعزمه على السّفر إلى جبل حوران، وطلب منه أن يقرضه مائة ليرة ذهبيّة ليستعين بها على تجديد وتنشيط تجارته في الجبل، فأعطاه نجيب بك ما طلب ورفض أخذ أيّ مستند بالقيمة.
في الجبل، عاش فدعة مع عائلته في بحبوحة لكنّه لم يتمكّن من جمع المال اللّازم لتسديد دينه إلى نجيب بك طراد إلاّ سنة 1919، فجاء إلى الشويفات وذهب تَوّاً إلى منزل نجيب بك. وبعد تبادل السّلام والأشواق أخرج فدعة صرّة دراهم من جيبه، وعدّ منها مائة ليرة ذهبيّة وناولها إلى نجيب بك.
فقال له نجيب بك: “يظهر أنّك لم تعرف أنّه صدر قانون يسمح بتسديد الديون المعقودة في أيّام الحرب على أساس ليرة لبنانيّة عن كلّ ليرة ذهبيّة؟ وقد أفاد من هذا القانون حتّى الكبراء والأغنياء”، فانتفض فدعة وضرب طربوشه بيده وقال: “نعمْ، لقد عرفت بهذا القانون، ولكن أنا لا أقبل أن أستغلّ القانون لأردّ إليك مالك ناقصاً، فأنا لا أتقيّد إلاّ بقانون الشّرف”.
وكان نجيب بك طراد يستطيب أن يروي ما قاله وفعله فدعة صعب كلمّا ذكرت مكارم الأخلاق.

قرية حوط جبل العرب

قرية حوط جبل العرب

أحبهــــــــــا الأميـــــــــــر عــــــادل أرســـــــــــلان
وأنــــــــس بأهـلها وذكرهــــــا في شعــــــره

قدمت 24 شهيداً في الثورة السورية الكبرى
و16 من عسكرييها سقطوا منذ العام 2011

مضافة لال الصالح في قرية حوط
مضافة لال الصالح في قرية حوط

الوظيفة مصدر أول للعيش والزراعة دخل إضافي
.وتحويلات الاغتراب تخفف ثقل الأزمة المعيشية

غنية بالآثار النبطية والرومانية والمملوكية
وبنو معروف بدأوا بتعميرها في العام 1840

أول ما يشدّ انتباهك لدى وصولك إلى قرية “حوط” الواقعة إلى الجنوب من مدينة السويداء بحوالي 28 كم عمرانها القديم المتداخل مع آثارها التي تشهد على قصة حضارات تعاقبت على المنطقة الضاربة جذورها في عمق التاريخ.
ويشير الباحث في آثار المنطقة توفيق الصفدي إلى أن قرية “حوط” تقع في أرض بركانية محجرة بين وادي الزعاترة جنوباً ووادي البردية شمالاً وتخترقها قناة “السيد” إلى جوار طريق صلخد- بصرى القديم. وتعتبر قرية نبطية قديمة ازدهرت زمن المماليك بين عامي 1073-1186 ميلادية حيث عثر فيها على تمثال أسد يعود للعصر الملوكي بالإضافة إلى مقبرة نبطية قديمة ومذبح لا يزال بابه الحجري موجوداً وهو قائم إلى الشرق من بركة ماء كبيرة لا تزال جدرانها قائمة.
وتضم القرية آثاراً تعود لعهود مختلفة من الرومان والأنباط والبيزنطيين والغساسنة وصولاً إلى العرب المسلمين، ومن آثارها المهمة منازل من الحجر البازلتي المنحوت إلى جانب العديد من اللقى الأثرية المهمة التي تشهد بأن القرية ازدهرت في العصور الماضية غير إنها تعرضت في ما بعد للتخريب إلى أن تمت إعادة إعمارها ابتداء من العام 1840.

جغرافيا القرية
تقع قرية حوط على ارتفاع أقصاه 1118 م فوق سطح البحر على السفح الجنوبي الغربي لجبل العرب في جنوب سورية، فوق هضبة تميل إلى الغرب، ذات منشأ بركاني وَعِر، كثيرة الحجارة والصخور، وقد نجح بُناتها الأقدمون من العرب الأنباط في استصلاح مساحات من تلك الأرض وتأهيلها للزّراعة والتّشجير، وأحاطوا تلك البقاع المستصلحة بحيطان من الحجارة والصّخور التي قاموا بتنظيف التربة منها بهدف استزراع الأرض، ولعلّ اسم القرية “حوط” مشتقّ من الفعل العربي”حاطَ”، ويفيد الحفظ والصّون ومنه “حَوّط الساحة أي: بنى حولها حائطاً1 وهناك اجتهادات وتفسيرات أُخرى، لكنّ هذا يبدو الأقرب لحقيقة اسم القرية موضوع بحثنا.
وتبعد حوط إلى الجنوب من مدينة القريّا بنحو ستة كيلومترات، وعن السويداء عاصمة الجبل بـ 28 كلم. يحدّها من الغرب قريتا بكّا وذيبين، ومن الجنوب أمّ الرّمان، ولجهة الشرق الرّافقة والمنيذرة ولجهة الشمال القريّا ونمرة.

في شعر الأمير عادل
ربطت بين الأمير عادل أرسلان وآل العبد الله صداقة وطيدة وخاصّة مع رشيد العبدالله، ويروي المعمرون طرائف ومزحات لطيفة متبادلة بين الرّجلين، وذكر الأمير قرية حوطَ في شعره عندما افتخر بقومه بني معروف قائلاً:
وحــــــوليَ من قحطانَ قومٌ رَمَتْ بهــم
إلــــــى فَلــــــَوات النّبـــــــــك عِتــــــــْرةُ عــــــدنــــــــــــــــــــــــــــانِ
بقيّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أبـطــــــــــــــــــالٍ لَـــــــــــــــــــــــــــــــوَ أنّ زمـــــــــــــــــــــانـــهم
تقـــــــــــــــــدّمَ لـــــــــــــــــم تســــــــــــــــمع بـعبـــسٍ وذبـــيــــــــــــــــــــــانِ
قـــرأت لــــــــــــــــــــهم شـعــــــــــــــــــرَ الزّرْكِــــــــــــــــــليِّ فيهـــــــم
فهـــــــــــــــــــزّ بهــــــــــــــــــــــــــــــم من نَـجـدةٍ أيَّ أغصـــــــــــــــــــان
وهَمُّـــــــــــــــــــــوا فَلـــولا حِــكمــــــــــــــــــةٌ لا أذيـــعــــــــــــــــــــها
سمعتَ الوغى مابين حــــــــــوطٍ وعرمانِ

قرية نبطية الأصل
وفي مخطوطة لدى محمد متعب العبدالله ــ أحد مواطنيّ حوط ــ ما يفيد أنّها قرية نبطيّة أصلاً، وقد عثر في العديد من بيوتها على زخارف ونقوش وكتابات يونانيّة وشواهد قبور قديمة تعود لتلك العصور البعيدة، كما ازدهرت في العهدين الأيوبيّ والمملوكيّ، ولعلّ هذا يعود إلى موقعها على الطريق القديمة بين بصرى ــ صلخد التي تتصل بالعراق، وطريق قوافل شبه الجزيرة العربيّة جنوباً والشام شمالاً.
وعلى هذا، فإنّ العمران الأوّل في حوط يعود إلى عصور الأنباط الذين سبقوا الرومان في إعمار المنطقة، وهناك آثار تدلّ على ذلك ومنها تماثيل لحيوانات وبقايا تماثيل لآلهة وبقايا دور وجدران ومغاور وبرك تعود لأكثر من ألفي عام.
المنازل الأولى القديمة في حوط مُشادة من الحجر البازلتيّ المنحوت، وفيها “بقايا معبد نبطي حُوِّل إلى كنيسة ومن ثمّ إلى مسجد”.
يقول باحث الآثار علي أبو عسّاف في حوط:” قرية نبطيّة اكتسبت أهميّة في عصر المماليك 1073ــ 1186م حيث وُجِد فيها تمثال الأسد المملوكي وكان على الأرجح في مخفر إضافة إلى بركة ماء وبقايا بيوت”2 .
وتمتدّ أراضي القرية بين وادي الزّعاترة إلى الجنوب منها ووادي البَرْدِيّة شمالها وتعبر أراضيها القناة المنسوبة للشيخ سعيد الأطرش التي كانت تزوّد قريتي ذيبين وبكّا بالماء المستجرّ من أعالي الجبل قبل أن تنجح الدّولة السورية بتأمين المياه لحواضر الجبل من الآبار الجوفيّة.

آثار مملوكية
هذا ولم تُدرَس القرية دراسة آثارية جادّة بعد، غير إنّ القسم الأوسط منها غنيّ بالآثار التي تظهر بين الحين والآخر حيث ظهر في الجانب الشرقي منها تمثالان لأسدين مملوكيّين أحدهما محفوظ في بيت محمد بن اللواء المرحوم متعب العبدالله. وفي بيت السيّد حسن خيزران أبو الحسن كتابة تعود إلى العصر البيزنطي، ومن الدّور الغنيّة بالآثار دار ورثة المرحوم سالم الصالح ودار صياح رشيد العبدالله ودار ورثة آل وهبة وغيرها..
كان التحضّر قد تراجع في معظم ديار جبل حوران في العهد العثماني، وأصبحت البلاد مراعي ومرتعاً لغزوات البدو وعندما زار الجبل الرحّالة السويسري بركهاردت، المكلّف من بريطانيا باستكشاف البلاد عام 1810 كانت حوط وسائر قرى المقرن القبلي من الجبل والواقعة إلى الجنوب من القريّا وشرقها خراباً لا سكّان فيها، ولا ننسى في هذا المجال تأثير الجفاف الدّوري الذي لم يضرب البلاد بين عام وآخر، ولكن النّزاعات الحزبية ــ الاجتماعية بين الزّعامات الدرزيّة الإقطاعية في جبل لبنان التي أضرّت بالموحّدين الدروز، بالإضافة إلى ضغط المارونيّة السياسية المتحالفة مع فرنسا والشهابيين الذين ورثوا الإمارة المعنية، كلّ ذلك دفع بموجات متوالية من بني معروف للجوء إلى جبل حوران.

مورج لدرس المحصول
مورج لدرس المحصول

قدوم بني معروف إلى حوط
وفي مرويّات آل العبدالله أنّ أوّل من سكن قرية حوط وكانت خربة قبيل عام 1840 كان “الشيخ قاسم بن حسين بن عبدالله بن علم الدين معن بن نعمة الله” مع أولاده الثلاثة حمد وحامد ومصطفى، قادمين إليها من بلدة القريّا التي كانت معقلاً لإسماعيل الأطرش وآله، في تلك الفترة من الزمن، وإلى هذا يشير الأمير متعب الأطرش وهو حفيد الشيخ إسماعيل مؤسس مجد الأطارشة في الجبل في مخطوطة مذكّراته ص27 فيقول إنّ جدّه إسماعيل أعطى قريبه قاسم العبدالله قرية حوط والذي من ذرّيته آل العبدالله..”، ولكنّ خلافاً نشأ بين الرّجلين إسماعيل وقاسم حول حق وِرْد الماء على مطخي حوط وبركتها، فقد أراد إسماعيل أن ترد مواشيه على مناهل حوط ورفض قاسم ذلك، وقد تمت التّسوية بين الرّجلين على وضع حد التملّك والرّعي شمال قرية حوط في موقع الكدنة بين حوط والقريا ويبقى حق الاستثمار في الرعي والمياه داخل الحد المتفق عليه من حق قاسم العبدالله وساكني حوط. كان آل العبدالله من النازحين من بلدة بقعسم في إقليم جبل الشيخ وقبلها كانوا قد نزحوا من جنوب جبل لبنان، ويذكر الرّاوية نايف الصالح أنّ الناس قد اصطلحوا في ذلك الوقت أن يعرّفوا بأولاد الشيخ قاسم العبدالله بأنّ ولده الأكبر حمد همّته وهمّه في الحرب والسّيف، وحامد في السياسة والمجتمع، ومصطفى للعناية بالرّزق.
في ذلك الزّمن كان السكّان الدروز الذين اعتمدوا التحضّر والزّراعة نمط حياة لهم في مواجهة حياة البداوة التي كانت تعتمد على نمطي الرّعي والغزو كمورد لعيشهم، بحاجة ماسّة الى توطيد وجودهم في جبل حوران، ولم تكن علاقة آل العبدالله قد انقطعت مع المنطقة التي نزحوا منها في بقعسم، إذ كانت لهم دار وممتلكات تشدهم إليها، ولكنهم نزحوا منها بتأثير ملاحقات الأمير بشير الشهابي الثاني لهم ولأقربائهم آل عبد الغفّار الأطارشة في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر.
في زيارة مصطفى لدياره الأولى في بقعسم مرّ بقرية خربة السّودا التي يقطنها أحمد الصالح خال أبيه قاسم، فنزل ضيفاً عليه، وجد عنده ستّة أبناء، فسأله:
ماذا يعمل أبناؤك يا خال؟
ــ كما ترى رعاة ماعز وحراثة ومن ثمّ بطالة..
ولما كان بنو معروف حديثي عهد بالتوطّن في قرى المقرن القبلي وكانوا بحاجة الى الرّجال لتأكيد وجودهم وتوطيد التّحضّر والزراعة في مواطنهم الجديدة، فقد قال مصطفى للخال:
ــ أعطني اثنين من أولادك.
فـأعطاه الخال ولديه بهاء الدين ومحمود وكانا يافعين.
ومن مرويات نايف الصّالح الطّريفة أنّ مصطفى أركب الولدين؛ بهاء ومحمود على جمل من قافلته، وقاد بهما وهو على ظهر فرسه، ولمّا تعب الولدان من ركوب الجمل مع طول الطريق من إقليم جبل الشيخ إلى جبل حوران، فقد خشي مصطفى أن ينعسا على ظهر الجمل ويسقطا أرضاً، لذا أنزل كلاًّ منهما في عديلة من العديلتين المتقابلتين على ظهر الجمل ليأمن عليهما، وليغفوا بعدها بأمان.

توسع الوجود المعروفي
وفي حوط عمل الفَتَيان في رعي الخيل والجمال عند ابن عمتهم الشيخ قاسم وأبنائه. وكبرا، فَحَنّا إلى موطنهما السّابق في خربة السّودا فعادا إليها، ولكنّهما قَتَلا رجلاً على أثر نزاع عائلي من آل طليعة، فأُجلي بهاء الدين من القرية، وتبعه شرف الدين وهبة، وقصد الرجلان حوط تجنباً للثارات. كان قاسم قد توفّي، وكان ابنه الثاني حامد رجلاً ذا دهاء وحنكة سياسيّة أكثر من أخيه حمد الذي كان رجل حرب وقتال يلقبونه بالسّبع الأحول، فاعتمد حامد عليهما وجرت بينه وبينهما علاقات مصاهرة ونمت أسرتان جديدتان من آل الصالح وآل وهبة في حوط، أمّا بهاء الدين الصالح فقد عمّر نحو مئة سنة وتوفّي نحو عام 1926 وبناء عليه يكون قدومه الأوّل إلى حوط نحو عام 1840 أو ما بعدها بقليل.
بالإضافة إلى آل العبدالله وآل الصالح وآل وهبة، فقد قدم إلى حوط من القريّا آل أبو طافش، وهؤلاء أصلاً من آل أبو شقرا في جبل لبنان، نزحوا من بلدة عمّاطور نحو أوائل النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر إلى شمال فلسطين وهم من جب جزّان أبو شقرا، (ومن هذه الأسرة كان الثائر أحمد طافش الذي قاد ثورة في شمال فلسطين ضد الإنكليز واستشهد على أثر المواجهات الحربية عام 1929) وقد انتقل بعض أفراد من هذه الأسرة إلى جبل حوران ونزلوا في القريّا زمن الشيخ إسماعيل الأطرش في منتصف ذلك القرن. ومن عائلات حوط آل المصفي، وآل الشمعة وآل سريّ الدين وآل جابر وآل ملاّك وآل النّجم الذين هم أصلاً من آل عمار من جبل لبنان، وآل مداح من راشيّا وآل اسكندر وأبو دقّة وهم يلتقون بجمهرة آل الأطرش، وآل خيزران والخطيب وهم متفرّعون من آل أبي الحسن المتنيين، وآل الصفدي النازحون من شمال فلسطين، وآل الوزير قدموا من قضاء عاليه، وآل شرّوف من حاصبيّا وفي القرية بضعة أسر بدوية من عشيرة الشّنابلة.

الأمير عادل أرسلان زارها مرارا وأحبها ومدحها شعرا
الأمير عادل أرسلان زارها مرارا وأحبها ومدحها شعرا

شهداء الثورة السوريّة الكبرى
في أهالي قرية حوط يقول الشّيخ صالح عمار أبو الحسن وهو الشاعر الشعبي للثّورة السوريّة الكبرى 1925ــ 1927، في ص 14 من ديوانه:
في حوط ينبوع الذكا وبحر العــــــــلوم
أهـل السخا والمرجلي وفيها قــــــــــــــــــــــــــــروم3
مثل الشمس مـــــن حين يبدي ضَوّها
من نورها تغيب الكواكـــــــب والنّجوم
يذكر أسماء شهداء قرية حوط وهم: عبدالله العبدالله، وولده حسين وخلف وقاسم العبدالله، وحسن خيزران وحسين وحسن الخطيب وعقاب وعسّاف ومحمد وطافش أبوطافش، وحسن وهايل وكايد وزيدان وحسين وهبة وحسن وسليمان العزقي سريّ الدين وحسن الصالح ومحمد وزير ومحمد ويوسف الشمعة وسلمان وقاسم وفارس مداح وعبدالله النجم عمار وحسن شلهوب الأحمديّة.

الزّراعة في حوط
اعتمد السكان الأوائل لحوط من بني معروف على الزّراعة واستمروا على هذا النمط من الكد والعيش أجيالاً طويلة، لكنهم اتجهوا بعد ذلك، خصوصاً بعد الاستقلال، للاعتماد على الوظائف الحكومية ومنها الجيش وهذا ما يفسّر وفرة عدد الشّهداء (16 شهيداً) من شبان القرية المتطوّعين في الجيش خلال الأزمة السّورية بين 2011 و2017.
وفي الوقت الحالي فإنّ غالبيّة العاملين في الزّراعة هم من الكهول المتبقّين في القرية أو من الموظفين الذين يتّخذون من الزراعة مورداً إضافياً يدعمون به مداخيلهم التي تآكلها الغلاء في سنوات الأزمة السّورية السبع المنصرمة، وهؤلاء يعتمدون على ما تجود به السّماء من مطر وثلوج تتذبذب كميّاتها من عام لآخر، فيزرعون الزّيتون والكرمة والتين واللوزيّات، لكنّ كل تلك الجهود تبقى في إطار الزّراعة المعيشية التي لا تكاد توفّر أكثر من المؤونة الضّروريّة للعيش. ويضاف إلى ذلك تربية المواشي من أغنام وماعز وأبقار حلوب، ولكنّ هجرة العمالة إلى الخارج وخاصة دول الخليج تشكّل مورداً هامّاً للعيش والعمران في القرية وهو الأمر الذي يوفّر قدراً من البحبوحة المؤقّتة لأسر المغتربين.

معلومات وإحصاءات
تمتد حوط على مساحة 12,735 هكتار، مساحة المستثمر منها حالياً نحو 4,369 هكتار بسبب وعورة الأرض، غير إنّه يمكن زيادة تلك المساحة بفضل التكنولوجيا الحديثة.
زراعة الحبوب وهي زراعة بعليّة: المزروع قمحاً 1500 دونم، ثمّ 1200 دونم حمّص، ومثلها للشّعير، وهناك زراعة بقوليّات محدودة.
الأشجار المثمرة: الزّيتون يشغل الزّيتون مساحة 264 دونماً، والكرمة 201 دونم، والتّين 102 دونم، واللّوز 30 دونماً.
وهناك زراعة لبعض الأشجار المثمرة تعتمد السّقي على بئر ارتوازية قامت الدّولة بحفرها لصالح القرية، ومن هذه الزراعات الفستق الحلبي (40 دونماً) والتّوت (4 دونمات)، والجوز ( دونمان).
وفي الحدائق المنزليّة ضمن المخطط التنظيمي للقرية يزرع المواطنون أشجاراً يروونها من شبكة مياه المنازل، منها 50 شجرة توت تعطي الواحدة منها نحو 200 كلغ، و 1,000 شجرة فستق حلبي تعطي المثمرة منها نحو 10 كلغ.
أمّا في داخل القرية فهناك 60 هكتاراً من الأراض غير القابلة للزراعة لكونها: أبنية ومرافق عامّة ومدارس ضمن المخطط التنظيمي البالغة مساحته 280 هكتاراً، والباقي عبارة عن حدائق منزليّة.
يضاف إلى ذلك 2,000 هكتار هي حرج صناعي.
ويوجد في القرية خمسة جرارات بالإضافة إلى 30 فرّامة (محراث صغير).

الثروة الحيوانية
يعتمد مزارعو حوط على تربية الأغنام (1,500 رأس) والماعز ( 462 رأساً) وتتم تربيتها بالتّعاون مع رعاة من البدو، غير إنّ أحد شبّان القرية العصاميّين (هو السيّد شاكر أبو طافش) أقدم على تربية الأغنام معتمداً على مبادرته ونشاطه، وحقق نجاحاً في عمله وأرباحاً مجزية. وأما تربية الأبقار الحلوبة التي عملت دائرة البيطرة في وزارة الزراعة على إنتاج الأنواع المحسّنة منها، فيبلغ عددها في القرية 73 بقرة، منها 53 حلوبة، تَحلب كلٌّ منها ما متوسطه 7 أرطال يومياً لمدة 9 شهور من السّنة. ويبلغ ثمن البقرة المنتجة نحو 1,000$ وربّما يزيد على ذلك. وهناك مزرعة في خراج القرية تتضمن 50 جملاً، وفي بعض البيوت يقتنون البطّ والأوز بأعداد قليلة.

المخطّط التنظيمي والخدمات
تبلغ مساحة المخطّط التنظيمي لـ “حوط” 280 هكتاراً، وأطوال شوارعها المعبّدة نحو 10 كلم، وتتبع حوط لبلديّة مدينة القريّا، وتتوفّر فيها خدمات الشوارع المعبّدة والماء والكهرباء والهاتف والإنترنت، وفي البلدة محلّات ميني ماركت ومحلات تجارية أو محلات للخدمات الحديثة مثل الهاتف وكذلك محلات لمهن مختلفة.
الخدمات التّربوية/ التعليمية والطبيّة: في القرية مدرسة ابتدائية ذكور/ إناث، باسم الشّهيد علي النّجم عمار، ومدرسة إعدادية ذكور/ إناث باسم الشهيد فيصل الصالح. ومباني المدرستين ملك لوزارة التربية، كما توجد روضة أطفال تتبع للاتحاد النّسائي.
وفي القرية جمعية تعاونيّة رابحة، باسم “جمعيّة النقل” ساهمت بشراء باص عمومي يؤمن النقل اليومي للمنتقلين من حوط إلى السويداء بدواعي الوظيفة أو قضاء الحاجات اليومية لمواطني القرية، كما توجد جمعيّة تعاونية فلاّحية تؤمّن للفلاحين القروض والبذار والأسمدة والأعلاف لمواشيهم بأسعار معتدلة ومدعومة.

موقع حوط في محافظة السويداء بين القريّا وصلخد ونمرة وبكّا

محطّة البحوث العلميّة الزراعيّة
عمدت وزارة الزّراعة السوريّة إلى إحداث محطّة للبحوث العلميّة الزراعيّة بمساحة تزيد على 300 دونم في المجال الزراعي للقرية، وعلى مسافة نحو خمسمائة متر منها بهدف تطوير زراعة المحاصيل الحقليّة في منطقة الاستقرار الثالثة والرابعة في المنطقة الجنوبية من محافظة السّويداء، وهي محاصيل القمح والشعير وأصنافها، وتنشئة الملائم منها لظروف المنطقة، بالإضافة إلى البقوليّات من حمّص وعدس وجلبان وباقية، واختيار الأصناف المتفوّقة منها لزرعها في البيئة بحيث تتمّ دراسة التّربة والوسائل المناسبة لتحسين مواصفاتها الفيزيائية والكيميائيّة، ووقاية النباتات والأشجار المزروعة من الأمراض والحشرات الضارّة بها، ومن مهامّها احتساب احتياجات التربة للماء، وتقدير مدى خصوبتها. وكذلك العمل على اختبار أفضل أنواع المحاصيل الزّيتيّة كالسمسم وفول الصويا لزرعها في المنطقة وبالإضافة لذلك تُجرى الدراسة على تطوير وتحسين زراعة الزّيتون والفستق الحلبي واللّوز والتّين والدرّاق، كما يُعنى العاملون في المحطّة بإجراء تجارب على تحسين زراعة الشمّام والخسّ والثوم والبطاطا والكوسا والفليفلة ووضع خلاصة تجاربهم في خدمة المزارعين في سائر المنطقة موضوع الدراسة لا في قرية حوط وحدها، ويتم تزويد المحطّة بالماء بواسطة بئر ارتوازية على عمق نحو خمسمائة متر لتأمين احتياجاتها.

سليمان حسن مجاهد

كاتم أسرار الأمير حسن الأطرش

سليمان حسن مجاهد وشاهد على الآمال الكسيرة

“لقاء أفكار” مع كمال جنبلاط في دار حسن الأطرش
أثلج صدر سليمان وعزز إيمانه بالزعيم الاشتراكي

كان مستشاراً للأمير حسن وسنداً له في الظروف العصيبة
لكنه خالفه في الموقف من كمال جنبلاط ومن عبد الناصر

لم يكن سليمان أبو علي حسن زعيماً سياسياً ولا وارثاً لجاه أو مال لكنه مجاهد عنيد لم يترك فرصة ولم يبخل بتضحية من أجل القضية التي آمن بها وهي قضية استقلال ووحدة سورية ثم قضية الوحدة مع مصر. وبسبب ثقافته الواسعة وحنكته السياسية ورصيد الثقة التي حصل عليها وجد سليمان حسن نفسه يلعب أدواراً مؤثرة في مرحلة من مراحل تطور الجبل، وذلك بسبب قربه من قادة الأسرة الطرشانية مثل سلطان وسليم ونسيب وعبد الغفار وأخيراً الأمير حسن الأطرش الذي كان لوقت طويل أمين سره ومستشاره وكاتم أسراره. فمن هو “رجل الظلّ” المحنك هذا؟ وما هي سيرته السياسية والأدوار التي قام بها في زمانه المضطرب والمفعم بالأحداث الكبيرة؟

النشأة
ولد سليمان حسن (أبو توفيق) في عترين الشوف العام 1892 وتوفي فيها العام 1991 عن عمر ناهز المائة عام تقريباً، وهو أصغر أبناء محمود يوسف حسن، المعروف بلقبه (أبو علي). كان والده من “ شيوخ الصلح” في ما كان سائداً خلال عهد “ المتصرفية” في جبل لبنان؛ وقد ألحقه وهو فتى صغير في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت، كما فعل من قبل مع شقيقتيه، وقد كان والده من الثقافة وسعة الأفق ما جعله سبَّاقاً في تعليم بناته على صعيد طائفة الموحدين الدروز ، بل ومن الندرة في القرن التاسع عشر على الصعيد اللبناني1 .
أنهى سليمان في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت مرحلة “العلوم الإكمالية” أو ما يعادل في أيامنا المرحلة المتوسطة )البريفيه)، وهي آنذاك مرحلة متقدمة في التحصيل العلمي، لينتقل بعدها إلى إحدى الصيدليات العام 1913 بغية تعلم مهنة الصيدلة بالتمرين بحسب ما كان معمولاً به آنذاك فمكث فيها قرابة السنة ليتركها مضطراً بسبب مرض والده في القلب مما استوجب ملازمته إياه، حيث بات الرجل الوحيد الذي يعتمد عليه، وهذا لأن شقيقه الأكبر ملحم كان وقتذاك مهاجراً إلى أميركا بينما كان أخوه يوسف مقيماً في بيروت حيث كان يملك في العاصمة كراجاً لعربيات الخيل، وكان والد سليمان من الناشطين في “حزب اللامركزية” لكنه كان قد بدأ يعاني من ضعف في سمعه بسبب تقدمه في العمر، وهذا الأمر فرض على الإبن ملازمة والده بل ومرافقته في الكثير من اجتماعاته واتصالاته، إذ لم تكن السماعات حينها عملية لكبر حجمها، لذلك كان الأب يستعين بابنه سليمان مسـمياً إياه : “سـماعتي” وهذا جعله بالضرورة مستودع أسراره.
وبسبب نشاطه في حزب اللامركزية قضت المحكمة العرفية بنفي محمود يوسف حسن إلى “الأناضول”، وقد أخبرنا سليمان انه عندما حضر الدرك لتنفيذ الحكم كان قد مضى على وفاة والده ثلث ساعة، فخرج إليهم ليقول “إذا جئتم لأخذه فقد استخاره الأكبر منكم” . يقول سليمان إن موت والده كان من ألطاف القدر لأنه كان سيموت على الطريق بحكم مرضه الذي اشتد عليه فيدفن في مكان لا يعلمه إلا الله وحده في ظل تقهقر الجيوش العثمانية، وما صاحبها من فوضى في تلك الأيام من منتصف العام 1917.
إضطر سليمان أن يغادر لبنان العام 1918 قاصداً جبل حوران (جبل العرب)، أما مبعث الاضطرار فقد كان وجوب تسديد نصيبه من الديون المترتبة على والده والتي نجمت عن أمرين: الأول هو الرحابة التي يقتضيها مركز “شيخ الصلح” فكيف في أحوال ذلك الزمن من الحرب العالمية الأولى الذي انتشر فيه القحط والمجاعة، والثاني العمل السياسي، وقد كان معظم جماعة “حزب اللامركزية” ينفقون على نشاطهم السياسي من جيبهم الخاص نائين بأنفسهم عن قناصل الغرب و”عطاياهم”! وذلك خلافاً لحال العديد من المطالبين بالانفصال عن السلطنة! وقد اقتصرت معارضة “اللامركزيين” على المطالب الإصلاحية في إطار الولاء لدولة السلطنة.

جبل العرب والعهد الفيصلي
كان جبل العرب خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ينعم بمزايا جعلته مقصداً للكثير من أبناء بلاد الشام التي اجتاحتها المجاعة، حيث الغلال الوفيرة التي لم يصبها الجراد، كما جرى في لبنان، ولم يصادرها العسكر التركي، كما كانت الحال في معظم الأماكن، وقد تجنّب الأتراك الاقتراب من محاصيل الجبل خشيةً انتقام الدروز باعتراضهم لقوافل تموين الجيش التركي التي تمر بجوار الجبل، وهكذا شهد الجبل فترة ازدهار استثنائية وتحول إلى مأوى يتوافد إليه سكان جبل لبنان أو جنوبه لدرء الجوع عن عيالهم.

ضابطا-في-خدمة-العهد-الفيصلي
ضابطا-في-خدمة-العهد-الفيصلي

في خدمة أمير الجبل
وصل سليمان إلى جبل العرب مطلع العام 1918 وتعرف على أميره الشاب سليم الأطرش، ومقرّه في عرى، والذي لفته كياسة وثقافة سليمان فكلّفه بأعمال المحاسبة الخاصة بأرزاقه وحصر غلال أراضيه الواسعة، ولم يمض زمن طويل حتى التحق سليمان في مطلع نيسان 1919 بسلك الشرطة برتبة مفوض ثان2، وكان هو وأقرانه نواة القوة الأمنية للحكومة العربية الأولى برئاسة رضا باشا الركابي ، وقد باشرت الحكومة المذكورة في بناء هيكلية “الدولة السورية”، وكان من أولى مهماتها ضبط الأمن الذي أُفلت من عقاله في دمشق بعد انسحاب الجيش التركي منها. وبالنظر إلى تحصيله العلمي وحسن أدائه في المهام الأمنية التي أوكلت إليه فقد رُقِّي إلى رتبة مفوض أول في مطلع العام 1920. ومن الذكريات التي لم تفارقه ما شهدته دمشق صباح الاثنين من 8 آذار سنة 1920 من الإعلان عن قيام “مملكة سورية”. يومها وقف محمد عزت دروزة من على شرفة مبنى السراي في ساحة المرجة أمام حشود الناس ليعلن باسم المؤتمر السوري قيام المملكة الفتية ومبايعة فيصل مليكاً عليها.
ولطالما كان سليمان أبو علي حسن وهو يستعيد ذكرياته خلال الحقبة الفيصلية يستذكر تلك اللحظة التاريخية بفخر ولاسيما دخوله إلى قاعة التتويج مع زملائه المفوضين واضعاً يده بيد الملك فيصل مبايعاً وفقاً للأعراف المتبعة. يومها كانت “مملكة سوريا” حلم المستنيرين من جيل سليمان أبو علي حسن، فيما كان فيصل رمزاً يلهم هذا الرعيل من القوميين بإمكان تحقيق حلم الدولة العربية المشرقية التي تضمُّ، إلى الشام، العراق والحجاز وذلك بوصفها أول دولة عربية يحكمها عربي، منذ 800 سنة وهو تاريخ سقوط الدولة العباسية في بغداد!
وبقي سليمان يحمل في وجدانه آثاراً من هذا الولاء الذي منحه مع أقرانه للملك فيصل كما بقي يحمل الذكرى الأليمة لخروج الأخير من دمشق إثر دخول الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال الفرنسي غورو إليها، وقد كان قدر الرجل أن يشهد انكسار حلمين – كما كان يردد- سقوط الدولة العربية مع دخول الجيوش الفرنسية إلى دمشق في تموز من العام 1920، وسقوط دولة الوحدة المصرية السورية بفعل حركة الانفصال في 28 أيلول من العام 1961، ولطالما سمعناه أكثر من مرة يقول: “مرتين بكيت فيهما: فيصل عندما غادر سوريا، ومن بعده عبد الناصر”.
خلال عمله مع سليم الأطرش أمير الجبل تعرف سليمان على العديد من رجالات الجبل ومن ضمنهم أقرباؤه من آل الأطرش ، نذكر منهم عبد الغفار باشا ونسيب بك وحسن الأطرش والمجاهد الكبير صياح الأطرش وهذا الأخير كان صديقه الأثير إلى حدود “التآخي” بحسب ما كان سائداً أيامه. أما سلطان الأطرش فكان الأقرب إلى وجدانه وعقله ومحطّ إعجابه بسبب عبقريته القيادية وسموّ أخلاقه وتمسكه بقيم البيئة التوحيدية التي ترعرع فيها3.

النضال ضد الانتداب
شكل دخول غورو إلى دمشق في 25 تموز 1920، وزيارته لقبر صلاح الدين واضعاً قدمه على ضريحه قائلاً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، طعنة لكرامة كل وطنيّ أو مسلم. ووسط الذهول العام من عمق الفاجعة والانكسار النفسي ترك سليمان العمل في 30 تموز 1920أي بعد خمسة أيام من دخول فرنسا، وكانت هذه حال البعض من زملائه أيضاً، وبالرغم مما سبب له ذلك من ضائقة ماديّة فإنه آثر أن لا يترك سوريا ملتحقاً بالأردن كما البعض من زملائه الذين ساروا مع الملك فيصل ليحتضنهم شقيقه عبد الله “أمير شرق الأردن” آنذاك، وفيهم من تبوّأ مراكز مهمة في ما بعد؛ وقد سألناه عن السبب فقال: “لقد كان ولائي لفيصل وليس لعبد الله الذي لم أكن أعرفه، وأما الذهاب إلى الأردن فهو مثل الهارب من الدلف إلى تحت المزراب” وكان يقصد بذلك الانتداب البريطاني، وبالفعل فقد اضطر العديد من الوطنيين إلى مغادرة الأردن في ما بعد بسبب عدم مماشاتهم للبريطانيين الذين كانت بيدهم عملياً مفاتيح الحل والربط في الأردن آنذاك، ومن هؤلاء رشيد طليع وفؤاد سليم وغيرهما ممن عاد والتحق بالثورة السورية الكبرى.

أمين سر معتمدية الجبل
لم تمض ِ أشهر على احتلال سوريا حتى شرع الانتداب بتقسيمها إلى دويلات ، وهكذا أُنشئت حكومة جبل الدروز ربيع العام 1921 برئاسة الأمير سليم الأطرش، وعُيِّنت لها معتمديّة في دمشق برئاسة نسيب بك الأطرش، وقد قام هذان الأخيران بالتوسط لدى السلطات الفرنسية لإعادة سليمان حسن إلى الخدمة، بالنظر الى ما يعرفانه عن أمانته وكفاءته، فتحقق لهما ذلك ليعيَّن سليمان حسن أميناً لسر المعتمدية المذكورة برتبة ملازم ثان، فكان بمثابة الدينامو فيها فضلاً عما أنيط به من مهام تولى حلها بحنكة حتى لقبه نسيب الأطرش: “صاحب الوجه الأخضر”، وقد بقي سليمان في منصبه هذا حتى أيلول من العام 1923 حين ألغت سلطات الانتداب الإدارة الأهلية للجبل مقيمةً مكانها سلطة عسكرية على رأسها الكابتن “كاربييه”. وكان هذا الأخير رجلاً مستبداً متسلطاً، وعلى قدر كبير من الرعونة والكراهية بالآن عينه4.. وضمن سياسته الإستبدادية وسّع كاربييه جهاز المخابرات باثاً المخبرين بين الناس يرصدون حركتهم ولاسيما زعماء الجبل والأطارشة بشكل خاص.

أساليب الفرنسيين
بعد حل “معتمدية جبل الدروز” نُقل سليمان حسن إلى الجبل ووضع بتصرف رئيس شرطتها “موريل” وكان نسخةً عن الحاكم “كاربييه” ، إذ طلب منه أن يتجسس على أصحابه ومعارفه من وجهاء وزعماء الجبل وبالأخص أصدقائه من الأطارشة، فما كان من سليمان إلا أن أعلمهم بالأمر، وليحذرهم من بعض الجواسيس المعروفين لديه والذي دسّهم كاربييه بين الناس!. حجب سليمان حسن كل معلومة مفيدة عن كاربييه ما أثار شكوك الأخير من حيث ولائه للانتداب، فاتخذ قراره بإبعاده مطلع نيسان من العام 1925 إلى بيروت ، جاء ذلك والجبل في حالة غليان في ما كان سلطان باشا يعبئ الناس تمهيداً للثورة. وإمعاناً في الإذلال تعمّد كاربييه إرسال سليمان بشاحنة لنقل الفحم، وفي بيروت أمرته المفوضية الفرنسية بعدم مغادرة المدينة، فكان عليه كل يوم الحضور إلى مقرها صباحاً ومساءً، كما تمّ شطب اسمه من لائحة الترقيات التي كان عليها مرشحاً لرتبة ملازم أول تمهيداً لتسريحه من الخدمة .
قرر المفوض السامي الجنرال ساراي إبعاد الكابتن “كاربييه” إلى باريس بداعي الاستشفاء، بغية امتصاص غضب الناس، وتولى بالوكالة أمور الجبل مساعده الكابتن “رينو” في 17 أيار من العام 1925 وكان هذا الأخير متذمراً من “السياسة الإرهابية” التي اعتمدها كاربييه فأوصى بإعادة النظر في العديد من قراراته، وبناءً عليه أعيد سليمان حسن إلى عمله في “حكومة جبل الدروز”، ولكن بعد أن دفع الثمن بخسارة الترقية ثم جرى عزل رينو منتصف تموز ليحلّ مكانه تومي مارتان والذي جاء والجبل على فوهة بركان، فتقرر بصورة عاجلة إبعاد سليمان عن الجبل، وغيره من المشكوك بولائهم للانتداب وليتحدد عمله في دائرة شرطة دمشق .

مع مساعدين له يتفقد مشاريع وزارة الأشغال في السويداء
مع مساعدين له يتفقد مشاريع وزارة الأشغال في السويداء

عين للثورة في دمشق
لم تمض أيام معدودات حتى اندلعت الثورة في جبل العرب محققة انتصارات سريعة، إذ تلا انتصار الثوار الساحق في معركة الكفر سقوط السويداء بيد الثوار ثم الهزيمة المروعة لفرنسا في معركة المزرعة في الأول والثاني من شهر آب، هنا قررت سلطات الانتداب التخلص من المشكوك في ولائهم لها ولاسيما الأصدقاء المقربين من الطرشان، وبناء عليه جرى تسريح سليمان حسن أوائل شهر آب من العام 1925 ودون إبداء للأسباب. والحقيقة أن شكوك سلطات الانتداب كانت في محلها، فقد دلّت أوراق سليمان حسن انه بعد تسريحه تفرغ ليكون أحد عيون الثورة في دمشق ، منتحلاً في مراسلته اسم “عبد اللطيف الحسن” والتي كتبت بلغة شبيهة بالشيفرة في الإشارة للثورة ، مثل “التجارة رائجة” أو “الخسائر كبيرة “ و”المؤونة قليلة” و”البضاعة المؤمل بها فاسدة” وما شابه، ولا شك أن مثل تلك المهام كانت حسّاسة ومهمة فيما الجبل يمد ثوار الغوطة بكوكبة من مجاهديه حتى أمكنهم السيطرة على بعض أحياء دمشق ومهاجمة مقر مندوب المفوض السامي في “ قصر العظم “ بهدف قتله.

سليمان-أبو-علي-حسن،-الثاني-من-اليسار-في-الصف-الأمامي،-في-حفل-للكتلة-الوطنية-ضم-بعض-اعيان-مدينة-دمشق
سليمان-أبو-علي-حسن،-الثاني-من-اليسار-في-الصف-الأمامي،-في-حفل-للكتلة-الوطنية-ضم-بعض-اعيان-مدينة-دمشق

مهمة سرية
روى بعض من أرَّخ لتلك المرحلة أن سلطان الأطرش كلّف في أيلول من العام 1925 محمود كيوان وهو رجل موثوق به بنقل رسائل منه إلى زعماء دمشق وإيداعها لدى الزعيم الدمشقي نسيب البكري، ويبدو أن كيوان تهيّب الأمر فلجأ إلى صديقه سليمان حسن طالباً منه مساعدته في ايصال الرسائل على اعتبار أن تجواله هو (أي كيوان) في دمشق سيكون مثيراً للشبهة قائلاً له: “جواسيس فرنسا يا أبو علي ملأوا الأرض” سائلاً إياه القيام بالمهمة بوصفه أيضاً من أهل الثقة عند قائد الثورة فما كان من سليمان إلا أن استجاب ناقلاً رسائل سلطان إلى نسيب البكري5 وهذا الأخير كانت تجمعه بسليمان وطيد المعرفة منذ أيام العهد الفيصلي.
هذه الواقعة يعرفها سلطان تماماً وآخرون من أصدقاء سليمان، ومن تفاصيلها المحجوبة أن البكري بعد استلامه للرسائل حدد لسليمان موعداً لأخذ الجواب وليكون شاهداً على قسم يمين الولاء والالتزام بالتحرك تحت راية سلطان، بحيث تشمل الثورة المدينة وغوطتها وكان الموعد في وقت متقدم من الليل. يذكر سليمان، في ما يذكر، أنه عندما همّ الحضور بقسم اليمين على مصحف القرآن الكريم موضوعاً فوق طاولة وسط القاعة، قال نسيب للبكري: “من باب طمأنة الحضور أنضم إليكم بحلف اليمين في ما لو رغبتم” فأجابه البكري: “مو نحنا بدنا منكم اليمين، الباشا بدو اليمين منا، وأنت كمان، لأنك لو لم تكن أهلاً للثقة لما حمَّلكم هذه الأمانة”.

الملك فيصل الأول يعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، سليمان أبو علي حسن لا يزال يحمل شعور الاعتزاز لدخوله دار الحكومة وم
الملك فيصل الأول يعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، سليمان أبو علي حسن لا يزال يحمل شعور الاعتزاز لدخوله دار الحكومة وم

مستشاراً للأمير حسن الأطرش
بعد انتهاء الثورة ، وهجرة رجالاتها إلى الأردن حصلت تطورات سمحت للبعض منهم بالعودة إلى سوريا منتصف العام 1927، ومنهم حسن الأطرش الذي آلت إليه إمارة جبل العرب منذ العام 1926. استدعى الأخير سليمان إلى دار عرى ليتولى في البداية إدارة أملاكه وليصبح خلال فترة قصيرة الساعد الأيمن للأمير وأمين سره. جاء ذلك على خلفية معرفته المسبقة بسليمان حسن وإخلاصه لعمه الأمير سليم وبعده نسيب الأطرش في معتمدية الجبل بدمشق، فضلاً عن تضحيته بوظيفته في سبيل الثورة كما أسلفنا، وقد كان حسن الأطرش من فرسانها المجلين .
كتب سليمان حسن يومياته في دار عرى منذ التحاقه بها وحتى مغادرتها أوائل العام 1929 وتعتبر هذه اليوميات مرجعاً مهماً سجلت فيه الكثير من الأحداث والأسرار التي دارت في قصر الزعامة وفي الجبل عامةً. ويلاحظ المتابع لهذه اليوميات أن سليمان تعامل بصبر وحكمة مع الأمير الفتى قليل الخبرة وذي الثلاثة وعشرين عاماً من العمر، بل إنه تعامل معه بمحبة كما يظهر جلياً في يومياته، ولعب دور الأخ الموجه له ما اقنع والدته وشقيقتيه للوقوف على رأي سليمان أو طلب مساعدته خصوصاً عندما كانا يجدان الأمير منغمساً في عبث الشباب المترف!
وفي هذا الإطار، كتب سليمان في 24 حزيران 1928 بأن والدة الأمير اجتمعت به وهذا في معرض قلقها على ابنها، لتسأله رأيه “بخصوص حالة الأمير السياسية”، ففاجأها بصراحته كما ورد في يومياته: “بأن ابنها ليس بالرجل السياسي القدير وأن منازعيه الرئاسة أقدر منه سياسياً، لذلك لا يمكنه التفوق عليهم إلا بأمرين كرم يديه ومكارم أخلاقه” لكن من يقرأ تلك اليوميات يعرف بأنه يشملها هي أيضاً، وبالتحديد في موضوع كرم اليد! ملمحاً لها أن تتغلب على ما تطبعت عليه بعد أن غدت أم أمير الجبل، وواجهة دار عرى ذات الصيت كرماً وضيافةً!.
لكن هذا النمط من الصراحة لا يُرضي أصحاب المقامات عادةً، فقد استفزت صراحته الحلقة الأسرية الأقرب للأمير وحركت دسائسها، ما جعل علاقته بالأمير مثل موج البحر مدّاً وجزراً! لكن اللافت فيها بأنها لم تصل إلى درجة الصدام أو الافتراق، وهنا يُسجَّل لحسن الأطرش بأنه تصرف مغلباً العقل، واضعاً مزايا وكفاءة الرجل في الكفة الأخرى من الميزان حتى واجه مرةً والدته وشقيقته بالقول :”لا يمكنني الاستغناء عنه”، لكن سليمان من جهته فكّر ولأكثر من مرة بترك دار عرى، وفي كل هذه المرات كان عبد الغفار باشا الأطرش يثنيه ويلحّ عليه بالبقاء، لأنه كان يدرك أهمية وجود سليمان بجوار الأمير حسن كمصدر للنصح الحسن وكصمّام أمان له وسط الظروف العدائية التي كانت تحيط به ودسائس يحيكها بعض أقاربه وعلى رأسهم متعب بك الأطرش .

نصحه الدائم للأمير حسن

البيت الذي بناه الأمير حسن لزوجته اسمهان في مدينة السويداء
البيت الذي بناه الأمير حسن لزوجته اسمهان في مدينة السويداء

تجدر الإشارة إلى أن عبد الغفار باشا شيخ السويداء وأحد أبرز أقطاب الجبل لم يكن ميالاً لمتعب بك شيخ دار الرساس خلافاً لحاله تجاه الأمير حسن؛ وعليه كان دأب سليمان لفت نظر الأمير لضرورة التحالف مع عبد الغفار بغية تشكيل كتلة كبيرة إلى جانبه مقابل متعب الرجل الداهية والقريب من الفرنسيين؛ وهذا الأمر لم يعره الأمير حسن اهتمامه في بداية الأمر، لكنه عندما فعلها حصد نتائج إيجابية إذ قام عبد الغفار باشا بإفساد مؤامرة أعدها متعب ضده. ومن القضايا الكبيرة إلى اليومية العابرة كان حسن الأطرش الشاب آنذاك يتلمس مشورة سليمان ويحرص على أن يبقيه قريباً منه، من ذلك مثلاً زيارة الكاتب اللبناني أمين الريحاني للأمير حسن في 18حزيران 1928، يقول سليمان: “وحيث إن الأمير لا يعرف ما هي منزلة الرجل أخبرته عن مكانته لكي يعطيه حقه من الترحيب” .
ومن الأدوار التي لعبها سليمان مجنِّباً حسن الأطرش الوقوع في أفخاخ نُصِبت له، نذكر مثالاً على ذلك حادثة نزول “عرب المساعيد” في أراضي عرى في بادرة تحدٍّ للإمارة في عقر دارها، وهي حادثة بدا أنها محسوبة ومرتبة، وهنا سعى سليمان لكي لا يقع الأمير في فخٍ منصوب له خاصة عندما قرر طرد الدخلاء بالقوة. يقول سليمان في يومياته 13 نيسان 1928: “ لقد أقنعته بعد جهد بأن هذا غير مناسب وطلبت منه أن أذهب وإياه إلى السويداء ونخبر الحكومة فرضي بهذا الرأي بعد جهد جهيد”، أما المفارقة الطريفة التي تعكس الوجه الآخر المزاجي للأمير فكانت أنه ترك تدبير هذا الأمر الجسيم لسليمان حسن مفضلاً في اليوم التالي رحلة صيد بعد أن أخبره أحدهم أنه رأى مجموعة من الغزلان في أحد الكثبان! وبالفعل سطّر سليمان باسم الأمير كتاباً لمدير الداخلية والآخر لرئيس المخابرات الفرنسية ووضعهما كليهما أمام مسؤولية نشوب “حرب بين الدروز والعرب” ، وبهذا تحول الأمر إلى قضية أحرجت السلطة ما دفعها للإسراع في حل الأمر.

رابط الشعور الوطني
ومما لاشك فيه أن السبب الموضوعي لحرص سليمان على حسن الأطرش كان مردّه للقاسم المشترك بينهما وهو النزعة الوطنية الكارهة للانتداب والرافضة لفصل الجبل عن سوريا. ومع ذلك حرص سليمان على إبقاء الأمير على مسافة أمان من زواريب العمل السياسي حتى أنه حال دونه ودون الصحافة ما وسعه الأمر، ومن طرائف ما أورده بهذا الخصوص بتاريخ 5 تشرين الأول 1928 أن الأمير صرح لإحدى الصحف بـ “أمور غير مناسبة” مما حدا بسليمان للحاق بالصحفي وإقناعه بتصويب التصريح، وقد كان حريصاً أن لا يغلب حماس الشباب في الأمير على عقله فيُستدرج إلى مواجهة مع الانتداب ستكون بالقطع غير متكافئة بينما الناس يعانون من صدمة انكفاء الثورة ورجالاتها لاجئين إلى وادي السرحان في السعودية، كما كان آخرون أيضاً يتحينون الفرصة لينقضوا على الأمير وعلى إمارته وعلى رأسهم ابن عمه متعب الذي كان من أدهى الرجال فضلاً عن ممالأته للانتداب الذي لم ينسَ بدوره أن حسن الأطرش كان إلى جانب سلطان في الثورة، وأن الأخير جاء به إلى دار الإمارة بعد أن خلع سلفه وعمه حمد الأطرش إبان الثورة العام 1926 وذلك لوقوفه في صف الانتداب .
إنطلاقاً مما سبق، كان سليمان يرى بأن من الحكمة والمصلحة تحصين إمارة حسن الأطرش بتجنيبها الانزلاق في أعمال أو أقوال غير محسوبة فيما الأجدى والممكن أن يلعب عبرها دوره الوطني وبمهمة محددة وهي تعطيل حركة التيار الانفصالي المطالب بتكريس “جبل الدروز” دولة مستقلة عن “دولة سوريا” وهي آنذاك دمشق وحلب. وتشهد اليوميات على وقفات من الشجاعة والوطنية للأمير خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين منها على سبيل المثال ما قاله في اجتماع صلخد بتاريخ 17 أيلول 1928 بحضور الكولونيل موريه “رئيس استخبارات جيش الشرق” مطالباً فيه بانضمام الجبل إلى “دولة سوريا”. يقول سليمان إن كلمات الأمير “نشطت عزيمة الناس فأعلنوا وقوفهم إلى جانبه “.
قام سليمان بعدة زيارات لعمان خلال العام 1928 بتكليف من الأمير وبعضها برفقته قابل فيها زيد وصياح الأطرش وكانا من بين المبعدين من الثوار الذين لم يشملهم العفو، أما ما دار في هذه اللقاءات التي كانت تمتد لساعات أحياناَ فلم تفصح عنها اليوميات سوى بجمل قصيرة ، مثل : “البحث بشؤون البلاد “ أو ما شابه !!. والأرجح أنها لقاءات تعرضت لقضايا حساسة قرر عدم تدوينها في يومياته خشية أن تقع بيد السلطات الفرنسية، وكانت هذه عادته في التحوّط حيث اكتفى بالقول: “وكانت عبارة عن أبحاث تتعلق بعودتهم للبلاد وفي الحالة الحاضرة”.

الأمير حسن الأطرش مع زوجته المطربة أسمهان
الأمير حسن الأطرش مع زوجته المطربة أسمهان

أزمة وراثة
واجهت زعامة حسن الأطرش تحدياً كبيراً في شتاء 1928 بعد وفاة الإبن الوحيد للأمير سليم وكان صغير السن، مما سيؤدي الى توزيع تركة الأمير المذكور على ورثته وهذا برأي سليمان: “يفضي لخراب دار الأمير حسن بل الطرشان”، لأن موضوع الوراثة ثغرة قد ينفذ منها متعب لوضع اليد على دار الإمارة باعتباره وأخيه وباقي أولاد العم على درجة واحدة في القرابة مثل حسن ، فضلاً عما سيتسبب به ذلك من تبديدٍ لثروة دار عرى وهي بوصف سليمان “ التي تحمل الأحمال “ ولعله في هذا يستقي رأياً سابقاً لسلطان باشا الذي كان يعتبر أن دار عرى مؤهلة لتحمل أعباء الدروز بالنظر إلى غناها.
لعب سليمان دوراً رئيساً في خضم هذه الأزمة ومنذ يومها الأول، ومما كتبه في 5 كانون الأول 1928 تاريخ الوفاة: “الولد توفاه الله الساعة 6 صباحاً، ركبنا من الشام إلى الجبل وأول ما قمت به تقابلت مع خال الولد سليمان بك الأطرش، وطلبت منه أن يضع يده بيد الأمير فعاهدني على ذلك، ثم اجتمعت بتوفيق بك الأطرش وطلبت إليه أن يكون هو واسطة للمصالحة بين الحكومة والأمير فكان مسروراً للغاية من هذا الاقتراح”. وكان همّ سليمان بالاستناد إلى الوقائع الواردة في يومياته أن يجمع تكتلاً وازناً في صف الأمير حسن باذلاً مع آخرين جهده لتسهيل نقل أكبر قدر من التركة إليه وتكريس شرعية وجوده في دار عرى. ولعلّ هذا ما حدا بالأمير في ما بعد للزواج بأرملة الأمير سليم، والخلاصة أن أمر التركة دخل في دوامة تجاذبات كان سليمان خلالها بمثابة العقل المفكر ولعل ما كتبه بتاريخ 10 كانون الأول 1928 ينبئ بذلك، يقول:”اجتمعت بالأمير ورسمت له الخطة التي يجب أن يتخذها تجاه متعب وأفهمته أنه من الضروري أن يوضح لعبد الغفار بأنه مستعد لأن يعوض عليه قيمة ما يلحقه من الإرث مقابل أن يساعده على إسقاط الورثة لنصيبهم”.

قرار فرنسي بتسريحه من الخدمة
لم يكن الكابتن أوليف، رئيس الاستخبارات الفرنسية، مرتاحاً لدور سليمان في قصر الأمير وسجله في “خيانة الانتداب” محفوظاً بالكامل لديهم، هذا فضلاً عن دسائس متعب عليه، وعن هذا كتب سليمان في يومياته تاريخ 15 أيلول 1928: “فهمت من مصدر موثوق أن الحكومة قررت إبعادي عن الجبل”، لكن الأمير أحبط الأمر فيما رأى سليمان أن السكوت عنه مسألة وقت، وبالفعل فقد بات تحت أنظار الفرنسيين وكتب بهذا أنه لما خاطب الأمير “رئيس استخبارات جيش الشرق” بخصوص الوحدة السورية في لقاء صلخد 17 أيلول 1928 كانت أنظار الحضور تشخص إليه من جماعة الاستخبارات. من جهة أخرى، لم يكن سليمان في أمان من متعب الذي ما انفك يحيك حوله التهم، وفي المقابل لم يكن في يسر مادي حيث كان الأمير مُقتِّراً في المال وفي هذا كتب سليمان يوم 7 نيسان 1927 “المال أخذه صعب من حسن إذا دخل الصندوق”! وكثيراً جداً ما كان يأخذ راتبه على شكل كمية من القمح يتدبر بيعها في دمشق! لذا ما إن لاحت له فرصة الوظيفة الحكومية في وزارة الأشغال العامة والمواصلات حتى غادر دار عرى، وكان الأمير ممتعضاً من تلك الخطوة، غير إن هذا لم يحل دون استمرار العلاقة بينهما بشقيها السياسي والشخصي، كما ظل سليمان حسن أحد المقربين من الأمير، وخاصة بعد تبوّئه لمركز محافظ الجبل، ثم خلال المرحلة الحرجة التي تخللت وأعقبت فتنة “الشعبية والطرشان” بل إن هذه العلاقة اتسعت لتشمل أسرة سليمان في صداقةً وطيدة مع المرحومة الست ليندا جنبلاط زوجة الأمير وبناته، وقد عشت بداية طفولتي في كنفها وهذا بحكم الجوار أيضاً، حيث منزل جدي يجاور قصر الأمير في السويداء، فيما كنت أتردد إليه كي ألعب في فسحة قصره في السويداء مع ابنته المرحومة نجوى لتقارب الأعمار بيننا، وما زالت صور الأمير منطبعة في ذاكرتي: وجه باش وشخصية متواضعة .
كان ثبات الثقة والمحبة المتبادلة بين الرجلين من المفارقات الغريبة، غير إنها باتت علاقة مبنية على الوفاء ورصيد العلاقة الإنسانية وحسب، هذا بحكم الصداقة أو كما يقال: “الخبز والملح” فيما بات الرجلان على طرفي نقيض في السياسة بفعل ما استجد من شؤون وشجون في أربعينات وخمسينات القرن الماضي كما سنرى في ما بعد.

في وزارة المواصلات
إلتحق سليمان بالوزارة المذكورة في نيسان من العام 1929 بصفة مراقب فني متدرب وقد أتاح له علمه وكفاءته أن يترقى إلى مراقب فني أصيل بعد أن اجتاز امتحاناً لهذه الغاية، وتابع صعوده في السلم الوظيفي حتى بلغ أعلى المراتب في تصنيفه وهي مرتبة “مراقب فني ممتاز”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المراقبين الفنيين كانوا عماد الوزارة المذكورة بالنظر الى قلة أعداد المهندسين في سوريا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. تنقّل سليمان حسن بين عدة أماكن في سورية؛ وفي الأربعينات بات المسؤول التنفيذي الأول عن مشاريع محافظة درعا حتى إنه لما أرادت الوزارة نقله إلى مكان آخر طلب محافظها بكتاب خطي استبقاءه معللاً ذلك “بأنه يدير مشاريع المحافظة بكفاءة بحيث لا يمكن الاستغناء عنه”. في مطلع الخمسينات تحدد عمله في السويداء مديراً للمكتب التنفيذي في مديرية الأشغال العامة والمواصلات ونائباً لمديرها، وعلى يديه تتلمذ الكثير من المراقبين الفنيين، ولطالما كان مشهوداً له بين الناس كما من مرؤوسيه بالكفاءة وحسن التنظيم وعلى رأسهم آنذاك أمينها العام أنيس شباط أحد كبار المهندسين في سوريا. وبالنظر الى استقامته ونظافة كفه كُلِّف بالتحقيق في حوادث السرقة أو شبهة الرشوة وما شابه التي كانت تحدث، ومازالت بعض مسوداتها محفوظة بين أوراقه، ويعرف كل من عاصره من أبناء محافظة السويداء أنه كان عملياً دينامو مشاريع المحافظة، ولاسيما ورشة البناء التي نهضت فيها خلال عهد “الوحدة المصرية السورية”، والذي كان “العصر الذهبي” لجبل العرب على حد وصفه، نال خلالها اهتماماً خاصاً عوض سنوات الإهمال، وقد ذكر سليمان أنه أُنجٍز خلال 3 سنوات ونصف من عهد الوحدة ما يزيد على 360 كلم من الطرقات، وهي أكثر من ضعف ما أنجز في المحافظة طوال عهود الاستقلال السابقة، فيما لم تخل قرية من بناء مدرسة ابتدائية، ومدارس متوسطة في مركز كل ناحية (قضاء)، فضلاً عن ثانوية شكيب أرسلان في السويداء، ومستشفى السويداء الوطني الذي استُقدمت له أحدث المعدات والتجهيزات الطبية. حمل سليمان أعباء تنفيذ مشاريع “وزارة المواصلات” مع فريق من المساعدين الفنيين لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد الواحدة.

سليمان أبو علي حسن مع سلطان باشا الأطرش
سليمان أبو علي حسن مع سلطان باشا الأطرش

النشاط السياسي
في مطلع ثلاثينات القرن الماضي إنتسب سليمان إلى حزب “الكتلة الوطنية” في سوريا والذي ضم وجوهاً وطنية ساهمت في استقلال سوريا ومقاومة مشاريع تقسيمها وتعرف سليمان خلال نشاطه الحزبي على شخصيات سورية بارزة مشكلاً مع بعضهم صداقات نضالية طيبة، نذكر منهم على سبيل المثال: سعيد الغزي، فخري البارودي، سعيد الجزائري وحسان الشريف. لكن محطته البارزة في الحزب برزت في نشاطه الحثيث لعرقلة مساعي “فريق الانفصاليين” في الجبل وعلى رأسهم متعب الأطرش والذي استهدف إعادة فصل الجبل عن سوريا.
وفي العام 1937 انفجرت أزمة في الجبل إثر ترشيح حكومة “الكتلة الوطنية” لحسن الأطرش محافظاً للسويداء الأمر الذي استغله متعب ليضم إلى فريقه عبد الغفار ما جعل فريقه هو الأقوى في الجبل. يقول سليمان بهذا الصدد أنه نصح الأمير حسن بالتنازل عن المنصب مؤقتاً لصالح عبد الغفار “وعدم حشره في زاوية تضطره للتحالف مع متعب” الذي كانت “ تديره المخابرات الفرنسية “ مذكراً إياه بالمحطات السابقة التي كان يفوز بها عندما يتحالف مع عبد الغفار، “لكن هذه الفكرة لم ترق للأمير”، وحيال تشبث الأمير وضغط فريق متعب – عبد الغفار جاء المخرج يومذاك في تعيين محافظ من خارج الجبل لكن حسن لم يلبث أن عاد ومدّ الجسور مع عبد الغفار مشكلاً معه “هيئة الدفاع الوطني” والتي اعتبرها سليمان وسيلة لعزل “الفريق الانفصالي” وإضعافه لينجم عنها تعيين حسن الأطرش محافظاً للجبل في شباط من العام 1938.
كان متعب يستشعر الدور الخفي لسليمان حسن، مثلما أن سليماناً كان ملماً بالدور السلبي لمتعب، ونتيجة لهذا الجفاء الممتد وصلت درجة البغضاء بينهما إلى حد التصادم الكلامي حيث قال متعب للأخير يوماً “بعد ناقصني أذناب الكتلة الوطنية” ليأتي رد سليمان صاعقاً:”ذنب أسد ولا رأس واوي”6 ومن الاستطراد المفيد هنا الإشارة إلى أن هذه الأزمة كادت أن تؤدي لحرب أهلية في الجبل خصوصاً وأن العديد من خيوطها كانت تحركه المخابرات الفرنسية الساعية لضرب وحدة سوريا، لكن حنكة سلطان باشا الذي كان قد عاد ظافراً إلى الجبل أحبطت المكيدة.

المجاهد نسيب البكري في مطلع العشرينيات من القرن الماضي
المجاهد نسيب البكري في مطلع العشرينيات من القرن الماضي

نصير العمّال
ترك سليمان حزب الكتلة الوطنية أوائل الأربعينات جراء الانقسامات التي انتابته، وفساد بعض قادته لينتقل إلى محطة جديدة، فقد كان لاحتكاكه بالطبقة العاملة شبه المعدمة وبالأوساط الريفية البائسة تأثيرها الذي شده إلى القضايا الاجتماعية والتي شكلت نزعته الاشتراكية، ومما لا شك فيه أنه، وهو المثقف والقارئ الحصيف تأثر أيضاً بالنفوذ الذي كانت الفكرة الاشتراكية بدأت تحرزه على النطاق العالمي، فبات بالممارسة مناصراً للعمال المسجلين على جداول مديرية المواصلات في السويداء لجهة تحسين أجورهم أو تدبّر الطبابة المجانية لهم مع أصدقائه الأطباء، ونذكر منهم أديب المقدسي ونزار ملحس رحمهما الله وكانت لهما ذات النزعة الاشتراكية فضلاً عن سجاياهم الإنسانية، كما كان سليمان يضغط على المتعهدين ممن يتهربون من دفع أجور عمالهم، حتى إنه بلغ في الضغط حدّ تأخير تسديد كشوفاتهم ومع مجيء عهد الوحدة التي انتهجت الخط الاشتراكي أمكن لسليمان أن ينتقل إلى مرحلة متقدمة فكان في طليعة المؤسسين لنقابة العمال في محافظة السويداء العام 1959، وقد عاش سليمان حسن قناعاته ومبادئه سواء من حيث نظافة الكف أو في تعاطيه الإنساني مع العمال والفقراء، وأحياناً كان ينتفض أمام بعض المظالم في ما قد يراه البعض مغامرةً أو تهوراً. وعلى هذا نروي ما كان من أمره خلال جولة لأحد وزراء الأشغال يتفقد ومحافظ درعا مشاريعها وقد تصادف مرورهم على إحدى الورش والعمال في استراحة الغداء فوجد الوزير أحدهم يتناول طعامه رغيف خبز من الذرة والشعير وقطعة بندورة، فالتفت إلى المحافظ قائلاً: فاجأني مستوى معيشة العمال !!، كنت أظن الوضع أسوأ من هذا!!. استفزّ هذا القول سليمان فالتفت إلى الوزير قائلاً بلهجة ممازحة: “ولكن يا معالي الوزير ربما لن يؤلمه بطنه لو أمكنه أن يأكل ربع أوقية لحم في الأسبوع”، فنفر الوزير مشيحاً بوجهه ليقول للمحافظ بصوت منخفض “من هذا !!..شايف أفكاره حمراء”!!.

لقاء أفكار مع كمال جنبلاط
حصل اللقاء مطلع الخمسينات في دارة الأمير حسن عندما كان كمال بك جنبلاط يقوم بزيارة لشقيقته ليندا زوجة الأمير حسن في السويداء، وقد شاركتهم الجلسة الست ليندا رحمها الله، وعندما همت بالانسحاب لتترك لهما الحرية لتبادل الحديث قالت لسليمان “ساترككم مع بعض، أكيد ستكون مسروراً عندما تسمع أفكار كمال”، فقد كانت على اطلاع على ميول سليمان الاشتراكية كما إنه لم يكن قد مضى سوى أشهر قليلة على إعلان كمال جنبلاط تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، وهذا اللقاء الذي امتد زهاء الساعة ونصف كما روى سليمان شرح فيها كمال جنبلاط أفكار الحزب، وكان سليمان سعيداً، معجباً بسعة اطلاع الزعيم الجنبلاطي وثقافته الإنسانية الواسعة، ومنذ ذلك الحين بات كمال جنبلاط مالئاً لوجدان وقلب سليمان حسن، وقد ازداد تعلقاً به مع انجذاب كمال جنبلاط للخيار العربي وصداقته الوطيدة مع القائد العربي جمال عبد الناصر فضلاً عن موقفه الجذري من القضية الفلسطينية.
نذكر هنا أن الموقف من كمال جنبلاط كان أحد الأسباب المباشرة للافتراق السياسي بين الأمير حسن الأطرش وسليمان حسن، فقد كان الأمير محافظاً في أفكاره كما زوجته والست نظيرة، ويروي سليمان أن حسن قال ذات مرة أمامه بأن “نهاية بيت جنبلاط ستكون على يد كمال”، فردّ عليه سليمان: “بل قد تصبح على يديه بداية جديدة للجنبلاطية ..الزمن يتغير يا أمير “.. وكان من بعض الافتراق بينهما جمال عبد الناصر وبالأخص أثناء معركة السويس لدرجة قال سليمان إنه كان يتجنب اللقاء مع الأمير خلالها لكي يكفي نفسه سماع سخريته من عبد الناصر، وكان سليمان بأفقه الواسع يحاول أن يلفت نظر الأمير حسن ولأكثر من مرة إلى أهمية الانفتاح على الجيل الصاعد من شباب الجبل مع انتشار التعليم بينهم وطلائع المتخرجين من الجامعة السورية، وهذا قبل وبعد فتنة “الشعبية والطرشان”، وقد كان في ذلك مدفوعاً بموجبات الصداقة التي تشده للأمير وحيث الصديق هو الصَدوق ، فضلاً عن موجبات الأمانة التي تمليها ثقة الأمير به والذي بقي يطلب مشورته في بعض المسائل. وبنفس السياق كان أيضاً من الناصحين لأصدقائه من آل الأطرش بأن يلجأوا الى تطوير زعامتهم بتعليم أبنائهم لأن الزعامة المعاصرة “انتقلت من ميدان الفروسية إلى ميدان المعرفة”، وهو في هذا يلمح إلى ما يجول في صدره من الرفض لاستئثار آل الأطرش بالمناصب الحكومية في الجبل بُعيد الاستقلال، والذي جاء على غير كفاءة أو علم ، الأمر الذي استثار العامة من أبناء الجبل في ما بعد موجداً التربةً الخصبة لفتنة “الشعبية والطرشان”.

عهد الانفصال
رغم قناعاته الاشتراكية فقد أنكر سليمان حسن على خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري رفضه الوحدة المصرية السورية ومغادرته سوريا إلى بلغاريا، تاركاً أعضاء حزبه يحصدون نتائج مواقفه، وعندما انفصمت عرى الوحدة السورية المصرية العام 1961 كان سليمان حسن من الساخطين على بكداش وقادة البعث آنذاك صلاح البيطار وميشال عفلق وأكرم الحوراني لاشتراكهم في التوقيع على وثيقة الانفصال، وعليه تحول بكل طاقته للعمل مع القوى السياسية الوحدوية آنذاك من أجل إحياء الوحدة، ولطالما شهد منزله في السويداء عدة اجتماعات لوجوه وفعاليات بارزة من المناهضين للانفصال كانت تحترمه وكثيراً ما تقف على آرائه وكانوا بالعشرات منهم على سبيل المثال : الشاعر الكبير سلامة عبيد، والمحامون سلمان معروف وحسين عزيز، والمجاهد حسن رسلان.
نتيجة لنشاطه السياسي، تعرض سليمان حسن لضغوط من حكومة الانفصال لكن ذروتها بلغت باستدعائه للتحقيق معه في المخابرات العامة في السويداء وذلك على أثر مشاركة ابنه الإعلامي توفيق حسن في (ثورة حلب) ضد الانفصال (نيسان 1962) واضطراره للفرار إلى مصر ثم الحكم عليه في سوريا غيابياً بالإعدام، هنا ألحّ ولداه سلوى وتوفيق عليه بترك العمل في سوريا إشفاقاً عليه من الضغوط التي كان يتعرض لها ولاسيما وأنه مريض بالقلب إثر تعرضه لأزمة قلبية قبل سنوات، وبالفعل انسحب سليمان حسن بهدوء إلى لبنان حيث أمضى بقية حياته بعد أن كان قد بنى لنفسه بيتاً في قريته عترين من التعويض الذي حصل عليه عن خدمته في سوريا.
عقلية سابقة لزمانها
إمتاز سليمان حسن بعقلٍ متفتح سابق لزمانه، سواء موقفه من تعليم المرأة أو رفضه لبعض العادات البالية المقيِّدة للتطور والانفتاح على العصر، وهذا ما حدا به لتعليم ابنته سلوى باذلاً أمامها ما بذله في سبيل ابنه توفيق، فيما كان في التزامه الإسلامي يتحلى بعقل متحرر من التقليد والتعصب والقوالب الجاهزة، وكان على قدر كبير من الثقافة والاطلاع التاريخي وفي هذا كان مشدوداً لشخصية النبي العربي (ص) الإنسانية، كما التاريخية بوصفه عبقرية وحّدت العرب في أمة مبنية على رسالة إنسانية عالمية جامعة، وفي سياقها كان شديد الإعجاب بشخصيتين هما عمر بن الخطاب باني الإدارة الإسلامية وقائد فتوحاتها، وعلي بن أبي طالب الذي كان يعتبره “فيلسوف الإسلام”، ولعلّه يستمد هذا الإعجاب بهما من نزعته الاشتراكية، والرجلان من نماذجها البارزة في التاريخ الإسلامي والإنساني .

خلف الزيد

من ذاكرة الجبل

خلف الزّيد بطل الصّحراء وفارسها
تحدّى بني معروف الدّروز فأنقذوا حياتَه

حكايةٌ عن حروب القبائل وشِعرِها وتقاليدِها
وكيف اعترف أكبرُ فرسانها بفضل بني معروف

ينتمي خلف الزّيد إلى عائلة الزّيد من آل الشعلان أمراء قبيلة الرّوَلَة من قبيلة عَنَزَة الكبرى وكانت مواطنهم شتاءً في بَوادي الحماد وكانوا في تَرحالهم يعبرون الحدود العراقيّة والأردنيّة فيوغلون داخل الحدود السّعودية ليصلوا حدود الجَوف وصحراء النّفود ونجد وجنوب العراق، ولكنّهم كانوا يَفدون إلى بلاد الشّام في شهر أيّار من كلّ عام لترعى مواشيهم في السّهول التي يتمّ حصاد زروعها ولكي يحصلوا على مَؤونة الشّتاء من حبوب وغيرها، وفي ذلك الزّمن من العهد العثمانيّ لم يكن من حدود سياسيّة بين البدان العربيّة، إذ يكفي أنّ يرضى الباشا العثمانيّ في الشّام وتُدفع له الإتاوة لتدخل القبيلة إلى أيّة جهة شاءت.
يقول الرّحالة بركهاردت، المكلّف من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب والذي زار بلاد الشّام في مطلع القرن التّاسع عشر أنّ أرض حوران كانت تتغطّى “بأرجال من بدو الصّحراء ويظلّون هناك حتّى أيلول وهم على الإطلاق من قبيلة عَنَزة ( الرّوَلة)… وعندما تصل عَنَزة فإنّ البدو المقيمين (أي بدو البلاد) وقد يحدث أنّ يكونوا على خلاف مع عنزة فيلوذون بالنّواحي الغربيّة من الجبل (جبل حوران)، أو الصّفاه ( بادية حجريّة شمال شرق الجبل) أو يتراجعون إلى الصّنمين والمزيريب في غرب سهل حوران حيث كانت هناك قوّة عثمانية يحتمون بها.
كانت قبيلة خلف الزّيد مرهوبة الجانب وواحدة من أقوى القبائل البدويّة وأشدّها بأساً وكانت تفرض هيبتها في المناطق التي تحل بها فيضطرّ الفلّاحون وبدو الدّيرة لدفع الخوّات لشيوخها وفي حال المخالفة فهم عرضة للنّهب وقد يصل الأمر إلى سَبي النّساء، “يذكر ذلك أحمد وصفي زكريّا في كتابه “عشائر الشّام ص 247”…
كانت عائلة آل نايف من عشيرة الشّعلان هي عائلة الرّئاسة في الرّوَلة، أمّا عائلة أبناء عمّهم آل زيد التي منها خلف فتأتي بعدها مرتبة، لكنّ خلف كان يشعر بتميّزه في الفروسيّة وصواب الرّاي في حروب القبيلة في تلك السنين البعيدة من عشيّة القرن التّاسع عشر، حيث كانت الأرياف والبوادي البعيدة عن العواصم تعيش أسوأ أيامها لشيوع الغزو وتقاليد النّهب والسّلب يمارسها الأقوياء على الضّعفاء.
ذلك الشّعور بالتّميّز والإحساس بالقوّة دفع بخلف أكثر من مرّة إلى تحدّي أبناء عمّه أهل الإمارة الوراثيّة المُتعارف عليها في القبيلة، فقد غضب مرّة من شيخ القبيله ابن عمّه هزّاع الشعلان ــ وكنيته أبو فهد ــ لخلاف نشب بينهما فجاء إليه مُتَقلّداً سيفه مُمْتَطياً فرسه وعَيّره بعيب خلقي في شخصيّته وخاطبه (شعراً) بصلف دون أن يترجّل، فلم يجرؤ ابن عمّه الشّيخ هزّاع على تحدّيه وسكت على الإهانة.
وعلى هذا فإنّ الآخرين من مشايخ آل شعلان الذين عاصرهم خلف توارثوا الحقد عليه على الرّغم من حاجتهم الماسّة إلى فروسيّته في معارك الرّوَلة، فأوامرهم التي تسري على عموم القبيلة لا يقدرون على تنفيذها عليه، إذ لا يجرؤ أحد منهم ولا من سواهم على تحدّيه، وهو على شجاعته يلتفّ حوله فريق من بني عمّه الأقربين آل زيد وهم فرسان أبطال يحبّونه ويذخرونه للملمّات، وكان من طبعه في معارك القبيلة وغزواتها أنّه لا يقتل إلاّ الفارس الذي له شهرة وموقع في قومه حتى قيل أنّه قتل تسعة شيوخ فرسان من أبرز شيوخ القبائل البدويّة التي اشتبكت مع قبيلته، ولهذا فإنّه إذا لُفظ اسمه في الدّواوين والمضافات أضافوا إليه “أبو الشيوخ”.

صورة-نادرة-لخلف-الزيد-مع-حصانه
صورة-نادرة-لخلف-الزيد-مع-حصانه

قَتْلُهُ تركي بن مْهيد شَيخ قبيلة الفِدْعان
كان تركي بن مهيد شيخ قبيلة الفدعان فارساً من أشجع الرّجال، شاعراً كريماً بلا حساب حتى لقّبه أهل عصره بـ “مْصَوِّت بالعَشا”، لأنّ له في كلّ مساء على موعد العشاء وليمة مفتوحة حيث يأمر أحد رجاله فيرقى مرتفعاً من الأرض ثمّ يرفع صوته مُنادياً :”من كان يريد العشاء فليتفضّل” وكان تركي قد أغار على إبل لآل الزّيد من الشّعلان ونهبها وهم غائبون عنها. كانت تلك الإبل الوُضْح التي تتّصف ببياض لونها في بلاد نجد تسمّى بـ “العُلِي” تمييزاً لها عما سواها.
تأثّرت قبيلة الرّوَلة لهذا الأمر، لكنّ زعيمها الشيخ سطّام الشّعلان لم يَرِد حسم الأمر بالقتال وكان يفضّل مفاوضة تركي بن مهيد وحلّ المسألة معه سلماً بلا قتال لكون تركي، أخاً لزوجته تركيّة بنت مهيد، غير أنّ تركي رفض عروض التّسوية التي قدّمها سطّام، وتصعّد التأزّم بين القبيلتين وأصرّ خلف وآل الزّيد على الثّأر من عدوان تركي على إبلهم وأيّدتهم أخيراً قبيلة الرّوَلَة وقبل سطّام على مضض أن يشارك في غزوة الثأر من تركي مخافة أن يقود القبيلة بدلاً منه ابن عمه النّوري بن شعلان المتربّص للوصول إلى رئاسة الرّوَلَة، وفي ذلك إنقاص من قدره كشيخ للقبيلة.
ويذكر محمّد بن أحمد السّديري كاتب سيرة خلف أنّه عندما حصل هجوم الشّعلان وقبائل الرّوَلة على قبيلة الفدعان وظهرت كراديس الخيل وفي مقدمتهم آل شعلان وأوّلهم النّوري بن هزّاع وخلف الزّيد أبو الشيوخ وحصلت المعركة وحمي الوطيس كانتركي يلبس درعاً وخوذة وقد وقف في الميدان موقف الأبطال وعجز الفرسان أن يتغلّبوا عليه. كان خلف قد تنحّى جانباً بجواده المسمّاة “خلفة” على تلّة مشرفة على المَيْدان يرقب، وما أن لاحظ عجز الفرسان عن قهر تركي حتى أغار عليه واختطفه من على ظهر جواده وترجّل به على الأرض وضربه بسيفه المسمّى (شامان) على أنفه فأطاره، وقيل أنه احتزّ رأسه بسكّينه، وروى آخرون أنه تركه مرميّاً وراح يطارد بقيّة الفرسان وقال لمن حوله من فرسان الرّوَلَة إنّ هذا تركي بن مهيد وقصْدُه أنْ يحرّض من كان حاقداً عليه على قتله، وتداعى فرسان الرّوَلَة على تركي وقتلوه وكان ذلك اليوم خسارة كبرى لقبيلة الفدعان إذ فقدوا جميع أرزاقهم واستردّ الرّوَلَة الإبل العُلِي.

الأخت تحاول الثّأر لأخيها
كان قتل تركي بن مهيد بتلك الصّورة المُهينة شديد الوقع على قلب شقيقته تركيّة زوجة سطّام الشعلان شيخ القبيلة الكبرى؛ الرّوَلة، قبيلة خلف، فأخذت تتحيّن الفرص لقتله، وجاءها من نصحها بقتله خِفْية بالسّم، لكنّها أبت واعتبرت أنّ الكرام ينأون بأنفسهم عن مثل ذلك الفعل، غير أنّها صمّمت على أمر لا يقدم عليه إلّا أشدّ الرّجال عزيمة. كانت تعرف كراهية آل شعلان المُضْمَرة لابن عمهم خلف، فهو صلف، وكثيراً ما يعصى أوامرهم مع أنّهم رؤساء القبيلة، وقد سوّلت لها نفسها معتمدة على هذا الإحساس أن تقرّر قتله مواجهة.
في ضحوة أحد الأيّام قَدِم خلف لتناول القهوة في ديوان الشّيخ سطام حيث مُلتقى نخبة القوم، فما كان من تركيّة التي حشت بَكَرة مسدّسها بالرّصاص إلّا أن برزت من المَحرم وتوجهّت إلى حيث يجتمع الرّجال في ديوان الشّيخ ونهرت العبد قبل أن يسكب القهوة لخلف فتنحّى جانباً، ووجّهت فوّهة مسدّسها إلى وجه خلف قائلة له:”أخَلَف، ما تذكر دم تركي اللّي ببطنك؟ خُذْ” وأطلقت الرّصاصة الأولى نحوه، فلم تُصبه أمّا هو فلم يرفَّ له جَفن بل قال لها بعدم اكتراث:
تْخَسِينْ.
فكالت له رصاصة ثانية أخطأته.
فقال لها :تْخَسِين. وهكذا إلى أن أفرغت رصاصات مسدّسها.
بعدها رمت المسدّس بوجهه وارتدّت باكية.
أما خلف فنهض من مجلس شيخه وركب فرسه عائداً إلى فريقه يغتلي غيظاً من تواطؤ ابن عمه الشيخ سطّام الذي لم يحرّك ساكنا بوجه زوجته…

حلف دروز الجبل مع قبائل جنوب سورية
ولمّا كانت قبيلة الرّْوَلَة الصّحراوية واحدة من أقوى القبائل البدويّة في شمال شبه الجزيرة العربية، فقد كانت وهي في سبيلها للمَقيظ في سهل حوران وجنوب دمشق تخلق حالة من الاضطراب والتشوّش في الدّيار التي تحل فيها ويصفون زحفها على أنّه “كالجراد المنتشر انتشاراً رائعاً يستحق النظر والتصوير…”.
وكان البدو من أبناء الصّحراء لا يعبأون بممتلكات الفلّاح أو بمزروعاته، وغالباً ما كانت تحدث مواجهات بينهم وبين الفلاحين وبدو الدّيرة الأقل قوة منهم فيعتدون عليهم وعلى الممتلكات والحرمات. في ذلك الوقت كان شبلي الأطرش شيخ مشايخ بني معروف في عصره قد أسكن أخاه سعيد القوي الشّكيمة والمهاب في قرية ذيبين قرب بصرى ، تلك القرية التي تقع في أقصى جنوب غرب جبل الدروز كما كان يدعى آنذاك ممّا يلي منطقة دخول الرّوَلة إلى سهل حوران وجنوب دمشق لمنع أذاهم عن الموحّدين، ومن جانب آخر عقد شبلي حلفاً مع قبائل منطقة بادية الأردن تلك المنطقة التي تمتد من جنوب سهل حوران إلى شمال الحجاز، ومن قبائلها بني صخر والسّردية والعيسى وغيرهم.
وقد تسبب هذا الحلف بمضايقة للرّوَلة الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مقاومة تحدّ من حركتهم في رحلة الصّيف التي تعوّدوها إلى الشام من قبل. كان الولاة العثمانيّون يتّخذون من الخلاف بين أبناء جبل حوران وسهله ذريعة لشنّ سلسلة من الحملات العسكريّة على الجبل فكانوا بذلك يشغلون بني معروف الموحّدين بتلك الحملات ويستنزفونهم فتطمع بهم وبديارهم القبائل البدويّة الآتية من الصحراء كالرّوَلة وغيرهم من الغُزاة …
وقد وجد شيخ قبيلة الرّوَلة سَطّام بن شعلان في انشغال بني معروف بحرب العثمانيّين فرصة مناسبة للزّحف بقبيلته على بني صخر ومن والاهم في منطقة البلقاء في شمال الأردن جنوبي سهل حوران بحجة نهبهم جِمالاً تعود لأحد عبيد الشّيخ الشّعلاني يُدعى (النّيص)، ورغم الجفوة الموروثة ما بين خلف وأبناء عمّه المشايخ من آل شعلان فإنّه أظهر تعطّشاً للحرب باعتبارها فرصة له للتّعبير عن فروسيته في تلك الغزوة الانتقامية على بني صخر وحلفهم والذين كان يكنّ لهم العداوة. ويذكر محمّد أحمد السّديري في ص 210 من كتابه “أبطال من الصّحراء”، أنّه حصلت معركة هُزم فيها بنو صخر وشُرّدوا عن بلادهم وبعضهم هرب إلى جهات غَوْر الأردنّ وفي تلك المعركة قَتَل خلف الزّيد (الملقّب بالأذن) عدداً من مشايخ بني صخر ومنهم الشّيخ طَه والشّيخ مناور والشّيخ سَطعان وقد امتدح في تلك القصيدة ابن عمّه اللّدود الشّيخ سطّام “رغم ما كان بينهما من الجفوة، ولكنّه كان راضياً عنه، لأنّه شفى غليله من أعدائه آل فايز وآل زبن رؤساء بني صخر” وفي تلك القصيدة يصف المعركة ويعرّض بالحلف بين شبلي الأطرش وبين طراد بن زبن شيخ بني صخر فيقول:
عيّـــا الفَـهد ما كلّ الأشـــوارْ طاعَهْ
قَصّــــار مـــــــــــــن شــارب خَصيمه ليا زاد
مــــــــن صـــافي البالود فيه القَطاعــــــه
مِفـــــــــــــــراص بــولاد الدّول هــم والاكــــــــــراد
ســَمْحــــــان زاع وْســَمّحَ اللهْ مَزاعــه
قـــوطر يِـــــــــــــهِزِّ الرّيـــــــــــش مــن غير قَوَّاد
بين الفْدِيْنْ وبينْ بُصــــرى مِزاعَــــهْ
غَصْبٍ على شِــْبلي وعَنْفٍ عن طْراد
وقطعانهم صارت لِربعــــــي طماعـهْ
وقـــمْنـا نْـــــــــــعزّل بـــــــــــيننا شُــقْح الاذْواد
كم سابــــقٍ جــــتنا بــــــــالأيدي قْلاعـــه
وكمْ راسْ شيخٍ طــــــــــاح بسيوف الاولاد

وقد أسكره ذلك النّصر المؤزّر على بني صخر مع أنّه لم يُنكر عليهم شجاعتهم ولكنّه عيَّرَهم بالبَوق والغدر وسَخِر من جَدَّيْهم الوَلِيَّيْن : فرج وأسعد، اللّذين كانوا يتباركون بهما ويعقرون الذّبائح والنّذور على قبريهما ومع ذلك فلم يحمياهم من بطش خلف وقبيلته على الرّغم من استنصارهم بهما. يقول خلف:
يــا رْميــحْ لولا البـوق ما انتــمْ رَديّـين بـــْذبـــحِ الـعديـــــــم وصـــبّـــــــــــكم للإدامِ
بِـنْيِت بيـــوت الحــــــــــــــرب حدِّ اللّبـــابين وشُـــقْحٍ تنـازى بالمشـاتي مَظـــــامي
يـا ذيب صوّت للنّســـور المْجيــعيــن اِرْعَ الشّـــــــيوخ مْجَدّعَـــة بالكــــــــــــــــَزامِ
وْفَــرج مع اَسعد لايَعُوْهم شـــياطين ويــارْميح حـــظّ اجدودكم بانْـخدامِ
جــــــــــــوْكــم هَــلِ العليا عْيــال الشَّــعالين فوق المَهارى مْثَـــوْرات العَسامي

الشيخ-نوري-تسلم-زعامة--الشعلان-بعد-مقتل-زعيمها-المحبوب-تركي-ويظهر-هنا--حملا-وسام-الدولة-الفرنسية
الشيخ-نوري-تسلم-زعامة–الشعلان-بعد-مقتل-زعيمها-المحبوب-تركي-ويظهر-هنا–حملا-وسام-الدولة-الفرنسية

الحَرب تَلِدُ الحَرب
كانت هذه الواقعة فاتحة عراك متواصل بين الرّوَلة وقبائل بادية الأردن وفي طليعتهم بنو صخر، وأخذ الشّيخ طراد بن زبن وشيوخ حِلْفِه يترصّدون خَلف وقبيلته ليأخذوا بثأرهم منهم وكان من عادة الشّعلان إذا ارتحلوا رحلتهم الصّيفية إلى الدّيار السّورية لا يسيرون مجتمعين لكثرتهم الكاثرة إذ كان أهل عصرهم يلقّبونهم بـ “دود الكَرْش” لكثافة جموعهم، بل كلّ عائلة منهم يكون معهم فريق من قبيلة الرّوَلَة وكان من عاداتهم أنّ أوّل من يتقدّم بالمسيرة فيهم آل مِجْوَل ومعهم فريق، ثمّ عائلة المشهور ومعهم فريق، ثمّ عائلة آل نايف الرّؤساء ومعهم فريق ثمّ عائلة آل زيد عائلة خلف ومعهم فريق، وكان شيوخ بني صخر وكبيرهم الشّيخ طراد بن زبن لايكفّون في كلّ عام عن ترقّب عبور الرْوَلَة لديارهم باتّجاه الشّام لأخذ الثّأر من خلف وقومه.
موقعة ميقوع
في موقع يقال له آبار ميقوع في منطقة وادي السّرحان على طريق الرّوَلَة إلى سوريّة كَمَنَ الشّيخ طراد بن زبن ومعه عدد من شيوخ بني صخر وفرسانهم ومنهم شلاش بن فايز الشّيخ الشّجاع المقدام الملقّب بالضّمّان لأنّه كان يضمن إبل ومواشي قبيلته من أنْ ينالها عدوّ لهم وقد استنجد طراد حينها بفرسان قبيلة السّرديّة يقودهم شيخهم الجنق.
عندما اقتربت الرّوَلة من الماء المذكور وكانت الإبل قد سبقتهم لتشرب وكان الشّيخ خلف على أثرها بالظّعينة حماية للنّساء يرافقه أبناء عمّه آل زيد ومن يتبعهم من القبيلة وكان كلّ واحد منهم راكباً على هجينه مُسْتجْنِباً جواده وهذا تقليد عربي قديم لكي لا يتعب الجواد في مسير الصّحراء الطّويل وكي يظلّ جاهزاً لساعة القتال الذي قد يكون كامناً وراء الكثبان.
كان الرجال آمنين وهم يتقدّمون الظّعائن فشاهدوا نَسراً قَشعماً (هرماً) وقد حطّ على الأرض، وعندما قربوا منه راح يدرج مُتعَباً وكان في حاله تلك لا يقوى على الطّيران لشدّة جوعه، فالتفت إليه خلف وقال كم أتمنّى لو تكون معركة قرب هذا النَّسر المُنهك ليعتاش من القتلى وليطير. ضحك رفاقه لأمنيته تلك … لم تمضِ دقائق على أمنية خلف المشؤومة وقد أشرفوا على آبار ميقوع وإذ بِخَيْل طراد وحِلْفِه تلتفّ على إبلهم وتسوقها غنيمة، فما كان منهم إلّا أن تَرَجَّلوا عن هِجْنِهِم ولبسوا دروعهم وركبوا سراعاً على خيولهم ولحقوا بالفرسان الذين نهبوا الإبل واتّضح لهم أنّ غرماءهم هم أعداؤهم بالأمس؛ حِلْفُ بني صخر والسّرديّة والعيسى المشهورين بعداوتهم لهم…
كانت موقعة قاسية حَميَ وطيسُها، وبعد عَناء طويل خلّص الشّعلان إبلهم من خصومهم، ومَضَوا يطاردونهم، فقتل خلف الشّيخ شلاش ثمّ قتل الشَّيخ الجنق أما الشّيخ طراد فقد نجا لأنّ جواده كان سريعاً جدّاً فلاذ بالفرار، وعجز الشّعلان عن اللّحاق به وقد غنموا خيولاً كثيرة وانتصروا على بني صخر وأعوانهم.

هزيمة الرّْوَلة في موقعة المناخ
ظلّ الشيخ طراد بن زبن مُصِرّاً على موقفه العدائي من الرّْوَلة إذ هم لم يتمكّنوا من سحق مقاومته التي لم تَهُنْ ضدّهم؛ وفي هذه الموقعة نجح طراد في ضمّ قبيلة الشرارات إلى حلفه الواسع، ويذكر أحمد وصفي زكريّا في كتابه عشائر الشّام ص 371 أنّ الزّبن من بني صخر كالوا الصّاع لسطّام الشّعلان “ وغنموا منه غنائم جمّة “. ففي تلك المعركة الحامية أناخ المتقاتلون جمالهم وتفرّغوا لقتال مستميت مميت، ومن هنا لاتزال تلك البقعة من الأرض التي تقع جنوب قرية ذيبين بعدّة كيلومترات تحمل اسم “المناخ” إلى يومنا هذا، ووفي ذلك اليوم المشؤوم على الرّوَلة كَثُر القتلى من الفريقين على أديم الأرض، وسقط خلف الزّيد، فارس الشّعلان بل الرّْوَلة بأسرهم من على جواده وقد أصيب بكسر في فخذه. وفيها تمكن ذلك الحلف الواسع من القبائل البدوية المتضرّرة بصولات الرّوَلَة من إلحاق الهزيمة بتلك القبيلة الباطشة التي طالما أرهبت الحواضر والبوادي في بلاد الشام.
هرب الرجال من حول خلف وتركوه كسيراً على أرض المعركة، ولو لم يتيسّر رجال من بني معروف الدروز نقلوه إلى قرية عنز إحدى قرى الموحّدين الذين سبق له أن تحدّى شيخهم شبلي الأطرش لأكلته الضّبعة العرجاء التي سبق له أن جعل من غريمه الجَنق شيخ السّرديّة عشاء لها…
كانت قرية عنز وشيخها آنذاك الأمير حسين الأطرش المعروف بكرمه وسعة اطّلاعه على أحوال مجتمع المنطقة المحيطة بالجبل وأنساب القبائل والعشائر وله علاقات واسعة بأهل البداوة بحكم شخصيته الاجتماعية المرموقة وموقع قريته على تخوم البادية التي تفضي إلى الصحراء العربية. هناك في حمى الأمير حسين عولج كسر خلف الزّيد وبدأ يتماثل للشّفاء تدريجاً وكانت مضافة الأمير في ذلك العصر مقصداً يؤمه الوجهاء وأهل الرّأي في القرية وسائر حواضر الجبل، والضّيوف والتّجّار من كلّ حدب وصوب لقضاء حوائجهم أو حلّ مشاكلهم؛ إذ ما من فنادق في تلك الدّيار آنذاك وإلى يومنا هذا. وفي المساء يحلو السّمَر وأحاديث سوالف الزّمن الماضي وحكاياته وكان في ذلك تسلية ومتعة للفارس الذي بدأ يملّ الثّواء على فراش الكسير.
خلف الزّيد ضَيفُ أمّ الرّمّان
ذات يوم من أيام إقامة خلف في كنف الأمير أبو نايف حسين الأطرش سمع حديثاً يُطري بكرم وأفعال أهالي وفرسان قرية أمّ الرّمان التي تقع غرب قرية عنز، وهم الذين كلّفوا ستين فارساً منهم يتناوبون على حماية الجهة الجنوبيّة للجبل ممّا يلي قريتهم باتجاه بادية الأردنّ حيث جعلوا من قمّة تلّ الشيح موقع رصد لمنع أيّ غزو أو اعتداء ينال من حمى الجبل من جانب قريتهم الأكثر قرباً للبادية، وعلى أثر ذلك الحديث قال خلف “يا هَنُو من كان مع ها السّرْبة” ــ أي تمنّى لو كان واحداً من بين أولئك الجماعة ــ وجاء من نَقَل كلام خلف ذاك من مضافة الأمير حسين لأهل أمّ الرمّان، فقام وفد من وجهائهم وبضعة شبّان استصحبوهم معهم لغرض العَوْنة، بزيارة للأمير الأطرش في عنز وطلبوا منه إذناً باستضافة ضيفه خلف أيّاماً في قريتهم أمّ الرّمان، فقبل، وهكذا كيّفوا سُلّما خشبياً ومدّوا عليه فراشاً ثم مددوا خلفاً عليه، ونقله الشبّان على أكتافهم مسافة سبعة كيلو مترات إلى دار الشيخ حمد الأطرش في أمّ الرّمان، وهناك على بيدر قريب من دارة شيخ القرية نصبوا للشّيخ خلف بيتاً من الشَّعر وعملوا ما أمكنهم على العناية به والاهتمام بكسره ليجبر سريعاً وكانوا يقدمون له أحسن المذخور المتوفّر لديهم من الطّعام، وإلى هذا يشير بقصائده التي مدحهم بها بعد مغادرته الجبل، حيث هم أطعموه البطّيخ المذخور من أيام الصيف في فصل الشتاء وفي هذا يقول:
من دار أبو دنيـــــــــــــــــــــــا لَـ مقعـــــــــــــــــــد هلال مَنْ لَهْ ذخيرة جابها وما جحدهــــــــــــــــــا
وقد تناقلت الرّكبان في صحارى العرب قصائده في تخليد استقباله كسيراً في جبل بني معروف وضراعته لله أن يشفيه مما ألمّ به على الرّغم من أنّه كان واحداً من أعتى جبابرة الصّحراء…
وفيما بعد أذيع بعضُ ذلك القصيد مُغَنًّى على الرّباب في إذاعة المملكة العربيّة السّعوديّة وإذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، ولكن مما يؤسف له أنّ محمّد بن أحمد السّديري مؤلّف كتاب “أبطال من الصّحراء” في معرض سرده سيرة حياة خلف الزّيد لم يأتِ على ذكر سقوط خلف كسيراً في موقعة المَناخ، ولم يُشر إلى محاولة قتله الفاشلة مواجهة بالمسدّس من قبل تركيّة زوجة ابن عمّه الشّيخ سطّام بن شعلان طلباً لثأر أخيها تركي بن مهيد الذي سبق لخلف أن قتله (في رواية ذبحاً)، ولا إلى إنقاذ حياته من قبل بني معروف الدّروز وعلاج كسره وشفائه منه واستضافته في حمى الموحّدين في قريتي عنز وأمّ الرمّان!.
وفي قصيدته في أم الرمان يقول خلف:
يا الله يـــــا اللّــي للمـــــــــــوازيـــن عـَــدّال
تِفْـــرجْ لَــرِجلٍ غاب عنــها ســَعَدهــــــــا
يامِفْرِّج الشِّــــــدَّات يا شـــايف الحــال
يا عـــالم النّــفْس الخَفيّـــه بوجـــدهـــــــــــا
هم اتـرَكوني واودعــــوني على جـــــال
وانا كســـير وهان كســري عَضدهــــــا
واللي احسنوا بي ترثة الجود وافضال
شـــدوا لي حُصْرة وانهضوا بِعَمَدها
من عَنـــز عَ كْتـــوف ماضين الافعال
لامّ الــرمّان اللــي ســـريعٍ نَجَــــدْهـــــــــــــا
لو تنشـــدون الطّيــــب ما بين الرّجــــال
الطّيـــب واجــــد ميــر هذي وحَدهـــــــــا
عاداتهم وليـــــــــــــــــــــــا اعتــلوا فـــوق مِشْــــــوال
كم مـــــــــــــــــــن عـــجوزٍ احــرموها ولـدهـــــــــــا
يــــاعلّها مـــــع طـــول الايّـــــــــــام بِغْلال
القـــــرية اللي تعزّ كل من قصدهــــا
هَلِّــــــنْ هلاليـــنْ وَاَنـــا اليـوم بِهْــــــلال
والنّفــــس مـــا ســمعت كلامٍ لَهَدْهــــــــا
يْقلْطـــون الـــزّاد من كلّ الاشــــــكال
مــن الــدَّرّ والإِدام واللّي يجـــدهـــــــا
مـــن دار أخــــو دنيـا لَمقعد هلال
مَـــنْ لـو ذَخيرهْ جابها وما جَحَدهــــــا
يـــا الله يــا اْللّي عَ المخاليق مِتْعال
سُـــــرْبِة اْمّ الرُّمّان تِظْـهِر سَـــعدهـــــــا
تبني لهم بِيْضٍ على روس الاجْبال
وقَبْلي بفــعل الطّيـــب كلٍّ حَمـــــَدْهـــا

وعندما تعافى خلف أقيمت له ولائم التَّكريم في مضافات أمّ الرمّان، حيث لكلّ عائلة مضافة أو أكثر، ومن ثمّ قَدِم ذووه من الصّحراء وَمَضَوا وإياه معاً إلى عنز لوداع الأمير حسين الأطرش مُضيفه الأوّل ومن بعدها لحق خلف بقبيلته في نجد.

أحد-رجال-قبيلة-الرولة-مع-قصة-شعر-مميزة-وضفائر
أحد-رجال-قبيلة-الرولة-مع-قصة-شعر-مميزة-وضفائر

نهاية بطل
رجع خلف إلى قبيلته، ولكنّ العداوة القديمة الموروثة بينه وبين أولاد عمّه من مشايخ آل الشّعلان رؤساء القبيلة ظلّت مُسْتَعرة تنتظر عودته، واستمرّت الكراهية لخلف في قبيلته تتعاظم إلى أن اضطرّ إلى الرّحيل مع أبناء عمّه آل زيد على مَضض بعيداً عن القبيلة إلى نجد عند آل الرشيد أمراء حائل، ولكن رحلته تلك لم ينلها التّوفيق.
ويروي محمّد أحمد السّديري أنّه بعد مدّة غير طويلة من عودة خلف من لَدُن آل الرّشيد وكان نازلاً في أطراف الحَرَّة بين الحماد ووادي السّرحان هاجمهم غُزاة من عشيرة التّومان من قبيلة شمّر في منتصف اللّيل وقبل أن يُعْلموا أطلقوا عدداً من العيارات النّارية على خلف في فراشه داخل بيته فقُتل هو وزوجته وهما نائمان وكان مريضاً وقد طعن بالسّن…
وعلى أثر مقتل خلف شنّت قبيلة الرّْوَلة غارة على التّومان قَتَلَتِة وأخذت بثأرها منهم
وبهذا طويت صفحة حياة أحد أبرز أبطال الصّحراء العربيّة في العصر الحديث، حياة ذهبت ضحيّة حروب القبائل العبثيّة فيما كان العالم المعاصر يتقدّم بلا هوادة في عصر الصناعة وبناء الحضارة الحديثة.

الامير حسين الاطرش

وصفٌ حيٌّ لأيّامٍ عَنْزاويّة قبْل أكثرَ من تسعينَ عاماً

الأمير حسين الأطرش في مرآة رحالة أميركي

ويليام ب. سيبروك
ويليام ب. سيبروك

“أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا
ولا يمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم”  (ويليام ب. سيبروك)

كان الفرنسيّون يعتبرونه “لصّاً فظّاً قاطع طريق” لأنّه كان مع سورية حرّة مستقلّة، وكان أحد قادة الثّورة العربيّة من بني معروف ضدّ العثمانيّين، فاوضَ وقاتل من أجل دولة عربيّة كبرى؛ غدر الإنكليز والفرنسيّون بمشروعها، وتخاذل العرب وملوكهم وحكّامهم دون ذلك الحلم العربيّ، ومن الجدير ذكره أنّ الأمير حسين الأطرش كان كريماً ــ طعّام عيش ــ وقاضياً يأتي النّاس إليه ليفضّ ما بينهم من خلافات من دون اللّجوء إلى المحاكم، وكان من مواليد 1880م وتوفّي عام 1967.
في ما يلي توثيق لأيام من عنز، ونماذج من قضاء بني معروف العشائري قبل نحو قرن من الزّمان، ذلك القضاء الذي رغم صرامته وقسوته ساعد على تثبيت الأمن والاستقرار في منطقة لم تكن لتعرف العمران والأمن، لو لم يعمّرها الدّروز بعد انتقالهم من لبنان الذي هجّرتهم منه السّياسة الفرنسيّة التي دعمت سياسة الأمير بشير الشهابي السني المتنصِّر في التنكيل بزعماء الدروز واغتصاب إقطاعاتهم الواسعة وقتل العديد منهم وتهجير أتباعهم، وقد استغلت الأمير بشير وحلفاءه الفرنسيين النّزاعات الدّاخليّة بين الزّعامات الإقطاعيّة الدّرزيّة، كما استفاد من سياسات التفرقة العثمانيّة التي استهدفت المسيحيين والدّروز معاً…
الرحالة الأميركي ويليام ب. سيبروك William Buehler Seabrook وزوجته (كاثي) زارا بلدة عَنْز في جبل العرب عام 1925، وقبل أن يصلا إليها كانا قد باتا في القريّا في دار سلطان باشا الأطرش، الدّار التي كان الفرنسيّون قد دمّروها بالطّائرات عام 1922 قبل ثلاثة أعوام من تلك الزّيارة. يقول سيبروك: “وفي إحدى غرف الدّار نِمْت أنا وكاتي على الطريقة الشّرقيّة، فُرْشاً مَحشوّة بالقشّ “.
بعدها بيومين توجّه سيبروك وكاتي إلى عَنْز ليقصدا على حدّ تعبيره: “زعيماً كبيراً من زعماء الحرب الدّروز من العائلة ذاتها (آل الأطرش)، وهو حسين باشا الأطرش، زعيم قرية عَنْز، وكان علينا أن نتخلّى عن الكاديلاك ونلجأ إلى الجِمال”.
كانت دار حسين باشا التي وصلناها بعد الغروب مَعْقِلاً حصيناً ضخماً على سفح تلّ، وقد تراصفت تحتها على المُنْحدر مئات المنازل ذات السّقوف المُسْتوية والجُدران الحجريّة السّميكة.

الترجمة الفرنسية لكتاب ويليام سيبروك -مغامرات في بلاد العرب-الذي وصف فيه مشاهداته في جبل الدروز
الترجمة الفرنسية لكتاب ويليام سيبروك -مغامرات في بلاد العرب-الذي وصف فيه مشاهداته في جبل الدروز

ضِيافة مُترَفة
إستقبَلَنا الخدم عند مدخل الدّار، وتبعونا قائدينَ جِمالنا إلى الباحة حيث الزّرائب ومخازن الحبوب. كانت درجات ضيّقة ومنحدِرة ومُستقيمة طولها أكثر من مئة قدم تؤدّي إلى مصطبة مُعَمّدة تشرف على الوادي، دخلنا من المصطبة إلى غرفة الاستقبال وكانت غرفة عالية السّقف ومُتْرَفة الفرش على النّمط الشّرقيّ إضافة إلى أثاث أوروبي مُنَجّد ومُزخْرف جُلِب خِصّيصاً على ظهور الجمال من دِمشق، وفي إحدى زوايا الغرفة وُضِعَ سرير أوروبيّ كبير فخم عالي القوائم تعلوه ظُلّةٌ مُتْقَنة الصّنع كان هذا أوّل سرير رأيناه في جبل الدّروز ولكنّه كان فخماً للغاية ولقد نمنا فيه تلك اللّيلة.
دخل حسين باشا إلى غرفة الإستقبال بعد لحظة من وصولنا، إنحنى لنا معيداً لكلّ واحد منّا: “أهلاً وسهلاً، شرّفْتم بيتنا”، كان رجلاً بديناً وقصيراً في منتصف العمر، ووجهه ينمّ عن قوّة عظيمة وكان يلبس على رأسه لباس أمير عربيّ: كوفِيَّة حريريّة بيضاء ثبّتتها في موضعها عقال مُزْدوج مذهّب، وعباءة سوداء مُطرّزة بالخيوط الذّهبيّة والفضية، وعلى كلّ حال اتّضح لنا في ما بعد أنّه قد ارتدى هذه الحُلّة الفاخرة كرامةً لنا ليس غير، إذْ إنّه لبس في الأيّام التّالية لباس العربيّ العاديّ وكان العبد الأسود الشابّ يقف على مقربة منه هو الأبهى على الدّوام.
خرجنا بعد غروب الشّمس وجلسنا على المصطبة الأكثر اعتدالاً، في حين كانت المصابيح والقناديل تُعَلّق، وما لبث أنْ أتى أولاد حسين باشا مُضطَرِبِيْن من الحَياء لاستقبال الضّيوف الغرباء، كان الإبن الأكبر ــ في السابع عشرة ــ مضفور الشعر، والابن الثاني صبيّاً في الثّانية عشرة شعره مُنْسَدل على كتفيه مثل شَعر غُلام الفارس في العصر الوسيط وكان لابساً ثياباً مُخملية حمراء، والثّالث في الخامسة، وكان يرتدي زِيَّ الجيش البَرِيطانيّ ، وقد فُصِّل على قَدِّه في القُدس، والرّابع كان طفلة في الثّانية أُحضرت للجلوس على ركبة حسين باشا قبل العشاء، وكانت مثل دُمْيَة، أو أميرة في حكاية من حكايات الجِنّ ثمّ إنّ عينيها كانتا مكحّلتين ووجهها مصبوغاً صبغاً دقيقاً، وفنّياً وشعرها مجدولاً مع قِطَع ذهبيّة، وجواهر لامعة، وأطراف أصابعها مُخَضّبة بحنّاء أكسبتها لون الفجر الورديّ وبالأصابع تلك كانت تشدّ شاربيّ والدها العاتي التي كانت تظهر تعلقاً شديداً به.

الأمير بين منظورين: فرنسي ــ إنكليزي
يتابع سيبروك روايته بهذه الكلمات: “وصف لي ضابط فرنسيّ في بيروت حسين الأطرش بأنّه قاطع طريق (لصٌّ فَظ)، أمّا تقدير الإنكليز له فكان مختلفاً، إذ إنّه ساعد في أواخر الحرب العالميّة على حشد ثلاثة أفواج من الخيّالة لدعم اللّنبي Allenby والحلفاء ضدّ الأتراك، وأصبح عقيداً في القوات المحلية التّابعة للجيش الإنكليزي، ونوّهت الرّسائل الإنكليزيّة الرسميّة بالشجاعة التي كان يتّصف بها.

الأمير على حقيقته
أمّا بالنّسبة لنا، فقد وجدنا “اللّص الفظّ” مُضِيفاً إنسانيّاً ورجلاً ساحراً. قدّم لنا العشاء على المصطبة عبدان أسودان كأنّهما قد خرجا من كتاب “ألف ليلة وليلة” بثوبيهما الواسعَين، وخِنْجرَيهما المُرصّعين بالجواهر، ولكن مع أنّهما شكّلا خلفيّة تاريخيّة ترجِع إلى عصر هارون الرّشيد، فإنّ الوجبة كانت “حديثة” حتى اللّمسة الأخيرة، كان على المائدة الطويلة غِطاء نظيف وكثير من الأواني الفضية وأكواب طويلة السّوق وخَزَف سيفر Sevres أمّا الشمبانيا فكانت كوردون روج Cordon rouge 1912.
ومن تأثير الشّمبانيا المُسْكر، أخذ حسين باشا يعيد مرّة بعد أُخرى بالإنكليزيّة والفرنسيّة معاً من أجل مساعدة كاتي على فهم حكاية مهذّبة كان قد حكاها بالعربيّة حول يهودي واثنتي عشرة بذرة بطيخ، قاطع الحكاية مؤقّتاً طبق حجل، وبما أنّ حسين باشا من أهل الدار، فقد قبض وهو شارد الذّهن أحد الطّيور بيد المُحارب القويّة، وقضم قطعة ملكيّة منه بكلّ لحمها وعظمها وغضاريفها.
لقد أحببته من تلك اللحظة، فبعد الإرتباك الذي انتابه، وفكّاه يمضغان تلك القضمة الكبيرة أخذ يبتسم معتذراً وقال: “ مُلتفتاً إلى كاثي: “أرجو ألّا تلوميني يا سيّدتي، لقد تعوّدت ذلك من طول مرافقتي للإنكليز الذين يأكلون الطّيور بالأيدي”.
إنّ الأيّام التي قضيناها في عَنز هي من أجمل ذكرياتنا عن بلاد العرب لقد أُتيحت لنا الفرصة خلالها أن نحتكّ أكثر بالحياة التي لم يطرأ عليها أيُّ تغيير في قرى الجبل النائية.

نموذجان من القضاء الدرزيّ
وفي عصر أحد الأيّام صَحبني حسين باشا إلى اللّجاة لأحضر محكمة قرويّة يُقام فيها العدل الدّرزيّ، جرى ذلك في مقعد شيخ القرية الذي كان هو نفسه القاضي، جلس معه شيوخ ووجهاء آخرون، والمدّعي الذي كان فلاّحاً مسيحيّاً من حوران وقف أمامه يندب حمولة أربعة جمال من الحبوب كانت قد سُلبت منه في اللّيلة السّابقة، سُمِح له بأن يقدّم شهوداً من الدّروز ليدعمَ أقواله، وبعد التّباحث، أصدر الشّيخ الكبير الحكم: “حتى لو لم يكن الذي سلبك قمحك دُرْزيّاً وحتى لو كان الجاني بَدويّاً أو أيّ رجل غريب آخر، فإنّ العيبَ يُنْسَب لنا، والمسؤوليّة تقع علينا، بما أنّك كنت ضيفاً في قريتنا. فمن مخازن القرية العامّة سيُعاد إليك قدر ما فقدت من الحبوب في الحال ونحن الآن نطلب منك رسميّاً أن تقبل اعتذارنا”.
وفي ما بعد حاول الشّيوخ أن يعثروا على اللّص، وكان واضحاً أنّ ذلك تفصيل لا أهمية له.
سألت حسين باشا عن العقوبات التي تُنزَل بالجناة في آخر الأمر.
قال: “ توجد في السّويداء سجون تخضع للقانون الفرنسيّ أمّا نحن فليس عندنا سجون، فإذا كان الجاني غريباً يُغَرّم ويُمْنع من الدّخول إلى جبل الدّروز مرّةً أُخرى، وإذا كان درزيّاً يُغَرّم أيضاً ويُعفى عنه إذا كان ذنبه بسيطاً، أمّا إذا كان الذّنب يتعلّق بالشّرف، فإنّ الخِزي والعار الدّائمين هما عقوبته الأشدّ.
قلت له: “ولكن هناك بالتأكيد جرائم لا يشكل العار عقوبة كافية عليها”.
فأجاب:”عقوبة ذلك هي الموت طبعاً”.
وفي طريق العودة روى لي هذه القصّة.
قال: “نحن الدّروز لانُحْسِنُ التّجارة. إنّ أكثرَنا لايُحْسِن إلّا القتال، ومن أجل بناء منازلنا نستقدم بنّائين من لبنان. منذ عامين قدم من الشّوير بنّاء مسيحيّ إلى قرية الشّيخ عامر ليبني منزلاً جديداً لأحد الأغنياء، أحضر هذا البنّاء معه زوجته الشابّة الجميلة التي لا تلبس الحجاب، شأن النّساء المسيحيّات جميعاً، ولمّا أوشك بناء المنزل أن ينتهي، ذهب شقيق الشّيخ عامر الأصغر ذات يوم إلى بيت البنّاء واعتدى على زوجته.
أخبرت المرأة زوجها في الحال فخاف الرّجل، وحزم أمتعته كلّها وحمّلها على حمارين، ورحل مع زوجته ليلاً. وفي صباح اليوم التّالي لحقه صاحب المنزل على حصانه، وسأله عمّا دعاه إلى الرّحيل قبل إنجاز العمل. ّفأجاب المسيحيّ: لقد خسرت شرفي، وإذا قلت لك السّبب خسرت حياتي أيضاً، والرّجل الذي أساء لي درزيّ يخشاه حتى الدّروز فما الذي في وسعي أنا المسيحيّ أن أفعله ردّاً على ذلك؟ فأرغم صاحب المنزل المسيحيَّ على إخباره بما حدث، ثمَّ عادا معاً إلى القرية.
مضى رأساً إلى الشّيخ عامر وقال: أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا، ولا يمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم، وأعقب ذلك اجتماع كبير للزّعماء والمحاربين، وحضر الاجتماع الشّقيق المذنب نفسه، وكان شاكي السّلاح مثل الآخرين. وقف الفرسان مشكّلين حلقة كبيرة، في حين جلس في حلقة أصغر نحو أربعين شيخاً وزعيماً.، قدّم لهم القهوة خدم الشّيخ عامر الذي كان المُضيف، كان الاجتماع عُقِد خارج القرية.
وقف بعد ذلك الدّرزي الغني الذي لم يُنْجَز بناءُ منزله، وقال: “ يا شيخ عامر: افترض أنّك فقير، وقصدت قرية أنت وزوجتك للعمل بين الغرباء، وافترض أنّ رجلاً من القرية دخل، وأنت تعمل إلى مسكنك، واغتصب زوجتك!”.
هبّ الشيخ عامر واقفاً واستلّ سيفه بغية قتل المتكلّم ــ لا لأنّه ظنّ أنّ الأمر يخصّ شقيقه، بل لأنّ الإشارة إلى زوجته في سياق قبيح أغضبه، غير إنّ الشّيوخ الآخرين انقضّوا عليه، وأوقفوه، وقد فَهموا معنىً خَفِيّاً في كلمات صاحب المنزل.
إستأنف صاحب المنزل كلامه: “ اقتلني في ما بعد إذا شئت، ولكن أجب الآن على سؤالي: إذا وقعت هذه الكارثة، فما العقوبة التي يجب أن تنزل بالجاني؟”.
أجاب الشّيخ عامر: “ يجب أن يموت بلا ريب”.
ــ إفترض أنّ درزيّاً فعل فعلة مُماثلة؟
ــ يجب أن يموت حتّى لو كان إبني.
ــ هل تؤيّد هذا الحُكم؟
ــ أعيد: يجب أن يموت حتى لو كان من لحمي ودمي.

قلعة حسين باشا الأطرش كما شاهدها سبيروك في عشرينيات القرن الماضي
قلعة حسين باشا الأطرش كما شاهدها سبيروك في عشرينيات القرن الماضي

صاح المتكلّم : هل هذا هو حكم الجميع؟
فأجاب الشيوخ: أجل إنّه حُكْمُنا.
أُحْضِرَ المسيحيُّ وقد أُرتِج عليه من الخوف. فقال صاحب المنزل بعد أن روى الحكاية نيابة عنه: آمرُك أن تُشير إلى الفاعل”.
فأشار إليه البنّاء وهو يرتجف وانجلت الحقيقة. وبحسب التقاليد، فإنّ أسرة الجاني هي التي تُنزل به عقوبة الموت، لذلك قَتَل الشيخ عامر شقيقه هناك، وبذلك تحقّق العدل.

الأمير الحضاريّ
هذا الرّجل الذي روى لي هذه الحكاية الدّامية عن عدالتهم الفظّة، جلس بعد ساعة في بستانه، وعلى ركبتيه طفلان يتجاذبان عباءته، كان أحد العبيد قد تسلّق شجرة توت، وملأ بثمارها وعاء فِضياً، وكان حسين باشا يلقّم الطفلين قوتاً من ذلك الوعاء، كانت على إحدى ركبتيه ابنته الصغيرة، وعلى الأخرى طفل زنجيّ، هو ابن العبد.
لقد ملأ فَمَيهما المُتَلهّفَين من غير تمييز ومَسَح وجهيْهما المُلَطّخين بطرف ردائه.
ولمّا رجَعنا من البستان بعد غروب الشّمس، كانت الطّفلة نائمة على ذراعيّ كاثي، والطّفل الأسود جاثماً على كتف حسين باشا.

فَضْلُ الله باشا

فَضْلُ الله باشا هنيدي

شهيــــــد جهــــاد حرفتــــه البطولــــة

«كــان من بني معروف الأشـــــاوس، باسلاً في وثباته، عظيماً في حــملاته»
(محي الدين السفرجلاني)

إحتل المجاهد فضل الله باشا هنيدي موقعاً في الثورة السورية الكبرى جعل منه أحد أبرز أركانها وأمضاهم جهاداً وأشدّهم في المواجهة مع القوات الفرنسية التي لفرط كرهها له سارعت بعد إصابته بقليل برمي المناشير من الطائرات لتعلن لثوار الجبل عن وفاته ولم يكن قد توفي بعد وذلك على أمل أن يؤدي خبر استشهاد هذا البطل إلى زعزعة معنويات الثوار وإضعاف إرادتهم في القتال. فمن هو هذا المجاهد الكبير وما هو الدور الذي لعبه في الثورة السورية الكبرى؟

يعتبر آل هنيدي (هُنَيديّ) من الرّواد الأوائل الذين سكنوا جبل حوران قبيل عام 1685، وذلك استناداً إلى ما يشير إليه صاحب الأصول والأنساب يحيى حسين عمّار، وهو يشير أيضاً إلى أنّهم يعودون بأصولهم مع أبناء عمومتهم آل المصري إلى آل خير الدّين القحطانيّين من عرب اليمن.
ويتّفق صاحب الأصول والأنساب مع الرّحالة حنّا أبو راشد الذي زار الجبل في فترة الإعداد للثّورة السوريّة الكُبرى ووثّق تاريخ الكثير من عائلات الجبل في كتابه “جبل الدروز” على أنّ آل هنيدي يعودون في أصلهم إلى بلدة صليما المتن من أعمال جبل لبنان، وأنّ أصلهم من عائلة المصري المعروفة فيها حتى الآن، وكُنية هنيدي تعود إلى لقبٍ رجوليّ ــ فُرُوسيّ، حمله جدّ الأسرة هَزيمة بن اسماعيل المصريّ وكان” يعدّ من الأبطال المشهورين، إذ كان يحمل سيفاً ثقيلاً فاشتُهر بصاحب المُهنّد، وغلب اللّقب على الأصل ثم تحوّر المهنّد إلى هنيدي، وعُرف بـ :”هزيمة الهُنيَدي”.
وفضل الله باشا موضوع بحثنا هو أحد أحفاد هزيمة المذكور وُلِدَ في قرية مَجْدل الهنيدات في المقرن الغربيّ من الجبل عام 1876، وفيها تعلّم القراءة والكتابة ثم درس في الآستانة. عاش فضل الله هنيدي مُعظَم سِنيِّ عمره في العهد العثمانيّ، إذ كانت دراسته في الآستانة ، ثم أنه عاش مرحلة أفول السلطنة العثمانية وصعود النزعة الطورانية المتعصِّبة للزمرة العسكرية الماسونية التي استولت على السلطة بانقلاب عسكري كان من نتائجه خلع السّلطان عبد الحميد الثاني.
نتيجة لتلك التطورات، إنضم هنيدي مع العديد من الشباب إلى التيّار الإصلاحي فانتسب إلى جمعيّة “العربيّة الفتاة”، وكانت هذه تعمل بادئ الأمر من أجل حقوق العرب في إطار الدّولة العثمانيّة، ثمّ انتقلت إلى العمل على استقلال العرب عن تركيا بعد أن اتّضحت نوايا جماعة الاتّحاد والتّرقّي المعادية للشّعوب غير التّركيّة، وتأثر هنيدي الشاب بقوة بالحملة العثمانيّة الظّالمة على جبل الدروز بقيادة الجنرال سامي باشا الفاروقي عام 1910 والتي عاثت دماراً وقتلاً في سكان الجبل، وكان من الأسباب المباشرة لتلك الحملة إقدام الدّروز على الثّأر من أهالي قريتيّ غصم ومعرّبة لقتلهم ثلاثة من التجار الدّروز العابرين كانوا ضيوفاً لديهم، ويذكر سلطان باشا الأطرش في كتابه (أحداث الثّورة السورية الكبرى)،”أنّ العثمانييّن كانوا يروّجون في أوساط مواطنينا (يقصد الجوار الحوراني والدّمشقي والبدو) دعاياتهم الكاذبة المُغرضة ويستفزّونهم ضِدّنا بالتّهم الباطلة التي كانوا

فضل-الله-هنيدي-١
فضل-الله-هنيدي

يوجّهونها إلينا كالكُفر والإلحاد والزّندقة والتمرّد على الخلافة، وذلك بواسطة الفتاوى الصّادرة عن بعض المشايخ المأجورين في الحواضر الكبرى التي تُبيح لهم قتلنا وتدمير قُرانا وحرق بيوتنا ونهب أرزاقنا ومواشينا، فذلك ما حصل بالفعل أثناء حملات عديدة جُرِّدت علينا، وعلى أبناء طائفتنا بلبنان في أزمنة سابقة”.

مجاهداً في الثّورة العربية
لعب المجاهد فضل الله هنيدي دوراً مهماً في الثّورة العربيّة، إذ كانت دارته في قريته “المجدل” مَقصداً لأعضاء الحركة الاستقلالية عن تركيا، وممّن قَدِموا إليها من وجهاء دمشق محمّد وجميل وعبد القادر الجزائري، وعمر وسعيد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وشارك هنيدي في اجتماع مهم عُقِد في منطقة الكراع وهي منطقة وعرة شرقي الجبل وبعيدة عن أنظار الرّقيب التركي ودَعا إليه سلطان باشا الذي اختير في ذلك الاجتماع قائداً عاماً لثوّار الجبل، بينما اختير فضل الله هنيدي قائداً للمنطقة الشّماليّة والغربيّة وحسين الأطرش قائداً للمنطقة الجنوبيّة.
عند نشوب الثّورة العربيّة الكُبرى التي قادها الشّريف حسين بن علي سنة 1916، كان فضل الله هنيدي في الطّليعة من فرسان الجبل الذين توجّهوا لملاقاة القوّات العربيّة الثّائرة في مدينة العقبة جنوب الأردنّ تمهيداً لدخولها إلى سوريا وتحرير دمشق، وهكذا ففي الثّلاثين من أيلول 1918 كان الرّجل في مُقَدَّمة فرسان الجبل الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش قبل دخول الجيش العربيّ الذي يقوده فيصل بن الحسين، وقبل دخول الجيش البريطانيّ الذي يقوده الجنرال البريطانيّ، اللّنبي.

موقعة دامية مع العثمانيين
يذكر حنّا أبو راشد في “حوران الدّامية” (ص 137ــ 138) إلى أنّ فضل الله هنيدي ونسيب بك نصار ومتعب بك الأطرش ورجالهم من الدّروز اشتبكوا عند وصولهم قرب قرية الدّير علي التي تبعد عن دمشق مسافة ثلاث ساعات “في موقعة دمويّة” قُتِل فيها عدد كبير من الأتراك، وقد غَنِم فيها المجاهدون بقيادة سلطان باشا 21 مدفعاً مع ذخائر حربيّة كثيرة، وساقوا الأسرى أمامهم، ودخلوا بعدها دمشق ظافرين في 29 أيلول 1918، وبعد انفتاح أبواب دمشق ودخول الأمير فيصل إليها “نال كلّ من الزّعماء الآتية أسماؤهم لقب البَاشويّة وهم: سلطان باشا الأطرش وحسين باشا الأطرش، وفضل الله باشا هنيدي وأمّا عبد الغفّار باشا الأطرش ونجم باشا عزّ الدين وعبد المجيد باشا عزّ الدّين الحلبي وطلال باشا عامر، فنالوها قبلاً من جمال باشا، ونالها أخيراً متعب بك الأطرش من السّلطان (الشّريف) حسين سنة 1924، ولكنّه لم يعلنها “اجتناباً من جواسيس الحاكم الفرنسي كاربييه”.

طرائف الحرب

في معرِض حديثه عن الخطط والخِدع الحربيّة التي كان الدّروز يتّبعونها في مصادماتهم مع الفرنسيّين بهدف الإيقاع بقطار كان ينقل القوّات والعتاد والمؤن من دمشق إلى مواقع القوّات الفرنسية في سهل حوران، يورد مؤرّخ الثّورة حنّا أبي راشد هذه الحادثة فيقول: “إنقسم الدّروز في أوائل تشرين الأوّل 1925 إلى فِرقتين، فرقة مشت في جانب القطار الذي ينقل الجيش من دمشق إلى أزرع، وبعد أنْ وصل القطار إلى قرب الفِرقة الثّانية المرابطة في جهة أزرع وقف القطار بسبب الأحجار المتراكمة على الخط الحديديّ فرجع حالاً إلى الوراء خوفاً من الكمين الذي تأكّد وجوده! ولكنّه لم يرجع ثلاثة كيلومترات حتى اصطدم بأحجار ثانية على الخط، أي بعد مرور القطار، كانت الفرقة الثّانية قد نفّذت خطّتها، وتلك اللّعبة الشّيطانيّة قد ربّحت الدّروز جميع الذّخائر الموجودة في القطار، وبهذه المناسبة قال حمزة الدّرويش متسائلاً: “الذي يقوم بهذه الخطط الحربيّة هل يكون جاهلاً كما ادّعى كاربييه بأنّه جاء إلى الجبل ليهذّبنا؟ احكموا يا قوم، ألا يحقّ لنا أن نعيش أحراراً في عقر دارنا ومسقط رأسنا!”..
ولم يُنهِ كلامه حتّى قال فضل الله باشا هنيدي: “والدّهر دولاب، فيوم لك ويوم عليك، فاليوم الذي كان لكاربييه كان فيه مُهَذِّباً لنا طبعاً، أمّا اليوم فأظنّ بأنّنا نحن نُهذّبه بقوّة ساعدنا ومواضي سيوفنا”. فضحك سلطان باشا وقال: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للنّار للنّار”.

في مواجهة الفرنسيين
كان فضل الله باشا هنيدي يدرك أهمّية العمل السّياسيّ قبل الإقدام على العمل الحربيّ، ومن هنا فقد “اقترح على سلطان باشا زِيارة الجنرال غورو على رأس وفد يمثل جبل الدّروز”لمعرفة مرامي السّياسة الفرنسيّة تجاه سوريّة، وذلك في عام 1919 قبل نشوب الثّورة بعدّة سنوات، ولكن غورو الذي قَدِم إلى الشّرق بعقليّة ملوّثة بالإرث الصّليبّي، صرحّ للوفد بكثير من العنجهية بأنّ “سورية هي من نصيب الفرنسييّن!!”.
على أثر ذلك حسم فضل الله هنيدي أمره بضرورة مقاومة الإحتلال الفرنسي، في ذلك الحين كان هذا المجاهد عضواً في المجلس الإسلاميّ الفلسطينيّ وعضواً في المؤتمر السّوريّ الفلسطينيّ، كما تسلّم منصباً كبيراً في إدارة العدليّة بدمشق.
وعندما تناقلت الأنباء توجّه جيش غورو نحو دمشق، دعا سلطان باشا إلى اجتماع في القريّا، وتوجّه على أثر ذلك نحو ثلاثة آلاف من الفرسان والمشاة إلى دمشق، وعند وصول الثوّار إلى قرية المزرعة بلغهم نبأ دخول الجيش الفرنسيّ العاصمة، وكان فضل الله هنيدي حينها على رأس خيّالة المقرن الغربيّ من الجبل، وذُكر حينها أنّ طلائع من أولئك الثوّار وصلت إلى بصر الحّرير في سبيلها نحو العاصمة دمشق.
وفي عام 1921 اختير عضواً في أوّل مجلس نيابيّ في دولة جبل الدروز وأمّا في نيسان 1925 فقد كان أحد أعضاء وفد الجبل الذي تشكّل برئاسة الأمير حمد الأطرش للمطالبة بتغيير كاربييه؛ الحاكم الفرنسيّ المستبدّ لدولة جبل الدّروز، وكانت المواجهة بين أعضاء ذلك الوفد وبين المندوب الساميّ الفرنسيّ على سورية ولبنان ساراي حادّة، إذ طالبوه بأنّه يتوجّب على فرنسا أن تحترم تعهّداتها للدّروز التي نصّت على أن يكون الحاكم من أبناء الجبل، لا فرنسيّاً، فأجابهم ساراي بأن تلك المعاهدة حبر على ورق، وهو لا يعترف بها، وأنذرهم بمغادرة دمشق أو يُنفَوْن، ولكنّه أمر بنفي رفيقهم الزّعيم الوطنيّ المسيحيّ عقلة القطامي إلى تدمر لاعتراضه على تنصّله (أي: ساراي) من تنفيذ الاتفاق المعقود سابقاً مع ممثّلين من مواطنيه الدّروز، إذ كان ساراي يرى أن واجب القطامي بإعتباره مسيحياً تأييد الفرنسيّين وليس أخذ جانب مع مواطنيه الدروز.
وقبيل نشوب الثّورة التي كان سلطان باشا يمهّد لها بتصفية الخلافات العائليّة والعشائريّة في الجبل، تشكّلت خمس لجان لهذا الغرض في مقارن الجبل، وكان فضل الله هنيدي بحكم مركزه الاجتماعي المرموق رئيساً للجنة الأولى. وقال في كاربييه قولة فصل في حاكم ظالم: “أنا أرغب السّلام ولكنّني لا أرغب الظّالم ولا أعلم ما هو سبب تمسّك الجنرال ساراي بأثواب كاربييه، مع أنّ الجبل بمن فيه طلب إبدال حاكم فرنسيّ ظالم بحاكم فرنسيّ عادل .. كان الأولى بالحكومة الإفرنسيّة أن تسمع صوتنا وتعمل بإرادتنا”.
وفي حزيران عام 1925، كان فضل الله هنيدي من ضمن وفد يمثّل وطنيّي الجبل إلى دمشق ضمّ نسيب ومتعب وصيّاح الأطرش ونجم وسعيد وفواز عز الدين وأسعد مرشد ويوسف العيسمي عقدوا اجتماعين سِرِّيّين في منزل عبد الرّحمن الشّهبندر، وتمّ الاتّفاق مع ممثليّ الحركة الوطنيّة في العاصمة على حشد القوى لمدّ يد العون ودعم الثّورة المنشودة. وفي ما بعد قَدِم وفد دمشقيّ من كلّ من أسعد البكري وتوفيق الحلبي وزكي الدّروبي إلى دارة فضل الله هنيدي في المجدل لتنسيق المساعي الوطنيّة ومجابهة المحتلّ.
ومن موقعه في المجلس النيابي آنذاك، كان فضل الله هنيدي على رأس الفريق المعارض لعودة كاربييه لحكم الجبل، ولئن فاتته المشاركة في معركة الكفر؛ إلاّ أنّه كان في طليعة الثوّار الذين تصدَّوْا لحملة الجنرال ميشو منذ عبورها قرية بصر الحرير الحورانيّة باتجاه الجبل، في 31 تموز، إذ كان على رأس المجاهدين الذين تعقّبوا مؤخّرة إمدادات وتموين الجيش الفرنسيّ، واستولَوْا عليها، وقد مثّلت تلك العمليّة الجريئة البادِرة الأولى في النّصر المؤزّر الذي تحقّق على جيش ميشو في معركة المزرعة في 2 و3 آب 1925، كما كان الرجل في طليعة فرسان الدّروز الذين هاجموا موقع نصبه الفرنسيّون في تلّ الخروف قبل نصر المزرعة بيوم واحد، وقد خسر الثوّار في ذلك اليوم نحو ثلاثين شهيداً من ألمع فرسانهم، وكان من بينهم حمد البربور رفيق سلطان باشا وساعده الأيمن في الثّورات السّابقة، غير إنّ فضل الله هنيدي كان واحداً من بين النّاجين القلّة في ذلك الهجوم الخاسر، لكنه في اليومين التّاليين كان ممن قاموا بأعمال بطولية خارقة في معركة المزرعة، وأصيب يومها بإصابة بالغة، وقد أشاد سلطان باشا ببطولته تلك في مذكّراته.
وفي 15 آب وعلى أثر اجتماع في قرية المجيمر اختير عضواً في لجنة مؤلّفة من سليمان عبدي الأطرش، وهايل عامر ومحمد باشا عز الدّين الحلبي وسليمان نصّار بهدف دراسة الشروط التي قدّمها الفرنسيّون بإسم الجنرال ساراي.

في هذه المواقع الوعرة من اللجاة دارت الحرب بين المجاهدين والفرنسيين
في هذه المواقع الوعرة من اللجاة دارت الحرب بين المجاهدين والفرنسيين

الحملة على دمشق
وبعد الهزيمة المدوّية للفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة شارك فضل الله هنيدي في محاولة لم يكتب لها النجاح لتحرير دمشق على يد مجاهدي الدّروز ومن شاركهم من مجاهدين من العشائر البدويّة في الجبل والأردن، وذلك بسبب فعالية سلاحي المدفعية والطيران الفرنسيين، وقد تجاوز عديد الحملة ثلاثمائة خيال وسبعمائة من الهجانة والمشاة، لكن المقاتلين الدّمشقيّين لم يظهروا -كما وعدوا- لملاقاة الثوّار ومشاركتهم في مواجهة القوات الفرنسية. وقد علّق سلطان باشا على نتيجتها بقوله: “وبذلك حقّق الفرنسيّون نصرهم الأوّل علينا في معارك الثّورة وأدّى فشل هذه الحملة إلى دفع الوطنيين في دمشق وغيرها من المدن السوريّة إلى الالتحاق بالثّورة في الجبل حيث ساهموا في صفوفها كلٌّ حسب طاقته وخبرته”.

عضواً في مجلس أركان الثورة
على أثر فشل حملة دمشق قَدِم ممثّلون عن الحركة الوطنيّة فيها وعقد مؤتمر ريمة الفخور، الذي اهتم المشاركون فيه (بمن فيهم ممثلو الحركة الوطنية الدمشقية) بوضع قواعد عامّة للتّعاون والتآزر بين جميع العناصر الوطنيّة في سورية ولبنان، لتقوية دعائم الثورة وتوسيع نطاقها، وإيجاد الوسائل الكفيلة بتمويلها وتأمين السلاح لها، كما رسمت الخطوط الرئيسية لنظام جهازها القيادي وشؤونها الإداريّة والسياسيّة والعسكريّة، وأنهى المؤتمر أعماله بإعلان قرارات مهمّة منها: متابعة الثّورة حتى تنال البلاد استقلالها التّام، وتسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عامّاً للثّورة، وتولية الدّكتور عبد الرّحمن شهبندر إدارة الشّؤون السّياسيّة للثورة، وتسميته ناطقاً رسميّاً لها، وتشكيل أركان قيادة للثّورة من قادة الرّأي وذوي الشّجاعة في القتال من بني معروف ومن بينهم فضل الله هنيدي1، وفي مجريات التّمهيد لمعركة المسيفرة قاد هنيدي قوّة استطلاع عبر قرى صمّا الهنيدات وقرية علما وخربة غزالة الحورانيّـتين واشتبكت قوّته مع مخافر ودوريّات معادية مكلّفة بحماية خطوط تحرّك ومواقع الفرنسيّين. وفي يوم 17 أيلول كان وبحكم موقعه القياديّ من المشاركين في معركة المسيفرة الأسطورية وقد أصيب فيها2.
واستمرّ هنيدي يقاتل بعد شفائه من الإصابة قائداً في طليعة الفرسان المجاهدين الذين تصدّوا لزحف جيش الجنرال غاملان في محاولة لاحتلال السّويداء ثم في معارك قُرى المجيمر وعرى ورساس وكناكر والثّعلة وتلّ الحديد والمزرعة، وقد انتهت هذه السلسلة من المعارك بصد القوّات الفرنسيّة ونكوصها من دون تحقيق أهدافها في السيطرة على السويداء، وفي معركة تل الحديد أصيب المجاهد فضل الله هنيدي، وقد أشاد سلطان باشا به لبسالته في معركة رساس.
كان الباشا هنيدي ماثلاً دوماً في الثّورة، إنْ في الحضور الاجتماعي ــ السّياسيّ، أو في الميدان الحربيّ القتالي، ففي عام 1926 انتُخب عضواً في المجلس الوطنيّ، في اللّجنة الممثلة لقريته المجدل، كما عُهد إليه بقيادة المنطقة الغربيّة من الجبل وذلك بحكم وقوع قريته “المجدل” في تلك المنطقة وبالتالي خبرته الطويلة بها. وفي أوائل نيسان من عام 1926 كان من بين قادة الثّورة الذين قاتلوا في موقعة بقع جمرة وهم سلطان باشا والأمير عادل أرسلان، وصياح الأطرش وعلي عبيد ومحمود كيوان وسواهم، تلك المعركة التي كادت أن تكون مأساة على بني معروف، إذ تعرّض الفرنسيّون وعملاؤهم من بدو اللجاة لعشرة آلاف نازح من الرّجال والنّساء والشيوخ والأطفال من دروز إقليم جبل الشيخ ووادي التّيم كانوا قاصدين جبل الدّروز، وقد تمكّنوا على قلّة عددهم من دحر المعتدين وإنقاذ المحاصَرين في منطقة وُحُول ومستنقع ضلّلهم إليها العملاء بقصد الإيقاع بهم..
وعندما هاجم أندريا السّويداء في ما عُرِف بمعارك السّويداء الثّانية، ما بين 23 و26 نيسان سنة 1926، تلك المعارك التي انتهت

بلدة صميد التي اشتهد فيها المجاهد فضل الله باشا هنيدي
بلدة صميد التي اشتهد فيها المجاهد فضل الله باشا هنيدي

باحتلال السّويداء، كان المجاهد فضل الله باشا مشاركاً فيها، وينقل محمد جابر في كتابه “أركان الثّورة..” شهادة للسّوفياتي لوتسكي يشيد فيها ببسالة مجاهديّ بني معروف ويقول فيها: “انتظر الثوّار العدو عند مشارف السّويداء، فاحتشدت قوّات الدروز كلّها هناك وحُفرت الخنادق، ونُصِب المدفع الوحيد الموجود لديهم، وتخلّى الدّروز هذه المرّة عن تكتيكهم المُعتاد وقرّروا للمرّة الأولى خوض معركة دفاعيّة، فانقضّ الفرنسيّون عليهم بكلّ ما لديهم من قوّة مُجَهّزة بأحدث المعدّات الحربيّة، وتحوّلت المعركة إلى مجزرة، وصمد الدّروز بشجاعة وذلك باعتراف الأعداء أنفسهم، فقد أشار أندريا إلى القدرة الخارقة التي تُلْهِمُ هذا الشّعب الذي بالرُّغم من هزيمته وتكبّده خسائر فادحة لم تراوده فكرة إلقاء السّلاح، بل على العكس تابع القتال يحدوه الأمل بالنّصر النّهائيّ، لكن ورغم المقاومة البطوليّة التي أبداها الدّروز تمكّن الفرنسيّون من اقتحام السّويداء.
فعلاً لم يستسلم بنو معروف بعد اقتحام الفرنسيّين عرين الجبل الذي لطالما رَوَوْا ترابه بدماء شهدائهم، ففي شهر أيّار كان أندريا قد أرسل حملة توجّهت من السّويداء باتّجاه شهبا، عبر قرى عتيل وسليم، وفي طريق عودتها مرّت بقرى بريكة وكفر اللّحف وقريته المجدل فالمزرعة (السَّجَن سابقاً)، وكان فضل الله باشا مع فرسانه ورجاله يقوم بتعقّب تلك الحملة ويشنّ الهجمات عليها وعلى ذلك يعلّق أندريا: “في المجدل استسلم الوجهاء والفلّاحون مخالفين شيخهم فضل الله هنيدي، الذي كان يشغل وظيفة كبيرة في عدليّة دمشق، ويرأس اليوم عصابة، وهذا الشيخ عضو في اللجنة السوريّة الفلسطينيّة”3.
ولشدّة مقاومته وبسالته في جهاده الفرنسيين فقد فجّر الفرنسيّون داره التي شبّهها أندريا بالقلعة الإقطاعيّة، وفي مجال قيادته لعمليات الثّورة في المنطقة الغربية من الجبل فقد واجه الفرنسيّين في معركة نجران وكان أندريا بَرِماً بإخلاص وولاء فلاّحي بني معروف لقادتهم في الثورة فيقول:” علينا ألّا ننسى أنّ الفلاّحين الجاهلين يصعب عليهم الوقوف في وجهيّ الشّيخين القادرَين اللّذين يحرّكان ساعة يشاءان المقرن الشّمالي وهما فضل الله باشا هنيدي من المجدل ومحمّد باشا عزّ الدّين الحلبيّ من وادي اللّوى”.
ولشدّة حقد الفرنسيّين عليه فقد أشاعوا نبأ موته قبل استشهاده لأجل تثبيط معنويّات المقاتلين في اللّجاة، إذ كانوا يلقون المنشورات ملفوفة داخل مواسير يلقونها من الطّائرات لتعميم نبأ موته، وكان قد أُصيب في رأسه برصاصة من رشّاش طائرة خرقت رأسه، في الوقت الذي كان فيه يرصد المعركة بمنظاره في معركة قلاع الجفّ بتاريخ 4 أب 1926 بين قريتيّ المزرعة ونجران في اللّجاة،

قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش
قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش

وقام الدّكتور خالد الخطيب بإسعافه، ولكنّ الأجل المقدور تغلب في نهاية الأمر على كلّ شيء.
كان فضل الله باشا هنيدي من أركان الثّورة بطلاً ومقداماً، صبوراً على المكاره ذا بأس، وإليه يعود الفضل في الدّفاع والمقاومة في الموقعات الأولى التي جرت في نجران وعريقة ومجادل وأم الزيتون، وذكر حفيده فضل الله داود هنيدي أنّ الثوار أخلوا جدّه بعد أن أصيب من موقع قلاع الجفّ إلى قرية ريمة اللّحف ثمّ إلى قرية جديّة، فقرية صميد، وكان الذين نقلوه قد أوكلوا أمر رعايته إلى المجاهدة السيّدة بُسْتان شلغين وقفلوا للإلتحاق بالمعركة، وحينما فاضت روحه هناك لم تجد السيّدة شلغين قربها سوى أخيها الصّغير محمّد شلغين، فانتخت فوق رأس الشّهيد، ونخت أخاها فقاما بعملية دفنه في قريتهما صميد”4.
وأبّنه سلطان باشا بالقول: “فقدنا بإستشهاده أعزّ صديق وأوفى رفيق على طريق النّضال منذ أيّام الثّورة العربيّة الكبرى.”5
أمّا الدّكتور الشّهبندر فقد اعتبره “من فحول الثّورة السّوريّة الكبرى” ووصفه محي الدّين السّفرجلاني بأنّه “من بني معروف الأشاوس كان باسلاً في وثباته، عظيماً في حملاته، كبيراً إذا انقضّ على أعدائه، جمع بين المزايا الحسان جميعاً “ .
وفي قصيدة للشاعر المجاهد فارس سلامة النّجم الأطرش، أثبتها رفيق جهاده المجاهد علي عبيد في مذكّراته ينعته فيها بأنّه سليل البطل جدّه هزيمة هنيدي، وبأنّه مُضيف كريم يدفأ البردان في مضافته.. وأفعاله الخارقة تحقق الأهداف المطلوبة، يقول فيه:
خِلْفِةْ هَزيمة ياذِرا كُلّْ بَرْدان شِفْنا افعالك ماضْيَةْ بالمطاليب

فارس الخوري

فارس بك الخوري

فارس الاستقلال والعروبة والوحدة الوطنية

ابن الكفير المسيحي رأس الحكومة السورية
وأحبه المسلمون لدرجة تعيينه وزيراً للأوقاف

إحتجت فرنسا بحماية المسيحيين لإدامة احتلالها لسوريا
فهرع مع رفاق إلى الجامع الأموي معلناً نحن مسلمون فاذهبوا عنا

فارس بك الخوري أشهر شخصية مسيحية في التاريخ العربي المعاصر وأكثر زعيم سوري شعبية، وطنيٌّ صلب جعل من وقفاته التاريخية حديثاً للصغير والكبير ومادة دسمة لكاتبي التاريخ السوري والعربي. اشتهر بشخصيته المحببة وحس الطرفة وسرعة الخاطر بحيث تسابقت أرقى البرلمانات والصالونات السياسية والأدبية على استضافته والتمتع بحضوره وطيب مجالسته. قليل من أبناء جيلنا المعاصر تعرفوا على هذا العملاق العربي وعلى حياته الحافلة بالنضالات والمواقف المجيدة. لذلك، ومن أجل التعريف بهذه الشخصية الكبيرة وأحد مؤسسي تاريخنا المضيء نعرض في ما يلي لسيرة حياة فارس بك الخوري على أن ننتقل في الأعداد التالية من “الضحى” للإضاءة على شخصيات تاريخية لبنانية وعربية تركت بصماتها على تاريخ المنطقة وعلى مسارها في الماضي والحاضر.

فارس الخوري: حياة حافلة

• في عام 1908 انتسب لجمعية الاتحاد والترقي، أول التزام له بالسياسة.
• في 1914 عيّن نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني.
• في سنة 1916 سجنه جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، ثم برّئ ونفي إلى اسطنبول.
• في 1919، عاد إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن الحكم العثماني.
• عيّن عضواً في مجلس الشورى الذي أسسه الشريف فيصل وتولى وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال عهد الملك.
• أسس معهد الحقوق العربي، وكان أحد أساتذته وشارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.
• مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا في 1920، انتقل الخوري للعمل كمحام ومدرس في معهد الحقوق.
• أسس مع عبد الرحمن الشهبندر حزب الشعب رداً على تعسف السلطة الفرنسية.
• اعتقل في 1925 مع قيام الثورة الكبرى، ونفي إلى معتقل جزيرة أرواد، ثم نفي إلى خارج سوريا.
• شارك في تأسيس الكتلة الوطنية التي قادت حركة المطالبة بإنهاء الانتداب واستقلال سوريا
• في عام 1936، بعد الإضراب الستيني الذي عمّ البلاد، شارك كنائب لرئيس الوفد الذي فاوض باريس لإنهاء الانتداب.
• انتخب رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936، ومرة ثانية في 1943.
• تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري، وهو المسيحي البروتستانتي، فكان لذلك صدى عميق داخل سوريا وخارجها.
• عين وزيراً للمعارف والداخلية في 1944.
• تولى وزارة الأوقاف الإسلامية، وحين اعترض البعض، دافعت عنه الكتلة الإسلامية في المجلس، إذ قالت على لسان نائبها عبد الحميد الطباع: “إننا نؤمِّنك فارس الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا”.
• ترأس الخوري الوفد السوري بإسم سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة، لبحث جلاء الفرنسيين.
• مثّل سوريا في مجلس الأمن الدولي (1947 – 1948)، ثم انتخب رئيساً له في آب 1947، وكان أول ممثل دائم لسورية في الأمم المتحدة.
• عام 1962 توفاه الله ودفن في دمشق.

فارس بك الخوري من الرجال الذين لا يجود التاريخ بمثلهم إلا نادراً شغل الناس وملأ الدنيا بمواقفه ونضالاته ومبادراته فهو شخص لم يسكت على ظلم ولم يهدأ له بال منذ شبابه وهو يعمل من أجل استقلال سوريا والعرب ومن أجل الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة، شرّع كقانوني لامع الكثير من القوانين والقرارات لكلّ من دولتي لبنان وسوريا ، واقتبست تلك في العديد من البلدان العربية والأفريقية.
ولد في الكفير، إحدى قرى وادي التيم في لبنان عام 1873، وتعلّم في المدرسة الإنجيلية في صيدا. سأله يوماً مديرها القسيس يواكيم الرّاسي والد الأديب سلام الراسي: يا فارس إذا جمعنا 5+3+2 كم يكون المجموع؟ وكان في الثانية عشرة من عمره فأجاب على الفور: ليس عشرة بل حسب ما تقتضي الأمور. ضحك المدير وقال: استبشروا به سياسياً كبيراً.

مفاوض الاستقلال السوري
بدأ حياته السياسية في العام 1914 عندما عيّنته السلطات العثمانية مندوباً عن دمشق في مجلس المبعوثان وتقلّب في مناصب عديدة (راجع الإطار) لكن أبرز المهام التي تسلمها كانت رئاسة مجلس النواب السوري ثم رئاسة الحكومة السورية ثم تمثيله لسوريا في مجلس الأمن وتولّيه المفاوضات التي انتهت بنيلها الاستقلال، وفي تلك الفترة انتخب عام 1947 رئيساً لمجلس الأمن ثم عين في العام 1954 رئيساً للوزارة السورية للمرة الثانية.
بعد أن أصبح نائباً في مجلس المبعوثان التركي عام 1914 عن مسيحيي سوريا كانت له صولات وجولات، ومن مواقفه المشهودة أن أحد المسؤولين الأتراك (من الذين كانوا تحت تأثير الأفكار العلمانية التي راجت في تركيا بتشجيع من الحركة الماسونية عمل بعد عودته من أوروبا، على إصدار قانون مخالف لجوهر الأحكام الشرعية الإسلامية، فقامـــت المظاهــــرات والاحتجاجات أمام البرلمان، لهذا تشــكلت لجنة من النواب يرأســها نائب دمشق محمد فوزي العظم ومقرّرها فارس بك الخوري لتصحيح الخطأ، وأثناء إحدى الجلسات بهذا الشأن وقف الأخير وتكلّم لأكثر من ساعة وباللّغة التركية ذاتها، إذ تمكّن خلال شهر واحد من إتقانها، وبعد الانتهاء من تجريح القانون وتبيان مخالفته مع الشرع الإسلامي هرع نحوه النائب الشيخ أحمد أفندي التركي فخلع عن رأسه العمامة ووضعها فوق رأسه قائلاً بالتركية: “هذه العمامة تليق بكم أكثر ما تليق بممثلي هذه الأمة من الطوائف الإسلامية”.
بعد ذلك، لمع إسم فارس بك الخوري في القانون العام، كعلم من أعلامه ووزيراً للعدل، واستاذاً للقانون في الجامعة السورية، وعندما برزت قضية لواء الإسكندرون في الثلاثينيات من القرن الماضي، وما اتخذ من إجراءات من قبل السلطة الفرنسية والتركية ثم كان ضمّها إلى الأخيرة ، كما حصل في ما بعد، أثناء ذلك قدم بحثاً تاريخياً في البرلمان السوري ونُشر عبر الصحف آنذاك مفنداً لما لهذا اللواء من أهمية إذ إنه من قلب الأراضي السورية كون أبناءه وقاطنيه عرباً يرتبطون بجيرانهم في حلب وسواها بصلة القربى والنسب، وكذلك ما للكرسي الرسولي الأنطاكي من مكانةٍ ورمزٍ عند جميع الطوائف المسيحية العربية، ومع هذا صمّت فرنسا آذانها عن الحقيقة ومضت في سلخ المقاطعة الساحلية المهمة لتجارة سوريا وموقعها الاستراتيجي وضمّتها إلى تركيا الأتاتوركية.

الجنرال--هنري-غورو
الجنرال–هنري-غورو

ردّ قاس على الجنرال غورو
بعد انتصار الجنرال غورو الفرنسي عام 1920 بجيشه الجرار على البطل السوري يوسف العظمة وزير دفاع الحكومة العربية في حينه واستشهاده في تلك المعركة، كان الوزير الأول والأخير الذي يستشهد في ساحات المعارك، مع العلم أنه لم يكن عربياً بل كردياً، وقد مثّل بعمله هذا دور جدّه الأول السلطان صلاح الدين. وبعد تقدم الجنرال المذكور غورو، وحيال وصوله إلى دمشق، وقف أمام قبر البطل صلاح الدين وخاطبه بصلف وغرور (مذكراً بالحملات الصليبية) قائلاً: “ها قد عدنا من جديد يا صلاح الدين”، ثم دعا وجهاء دمشق ومن بقي من حكومة الملك فيصل إلى وليمة عشاء في قصر المهاجرين ليقف بعد العشاء قائلاً ومتهكماً: “هذا هو قصر مليككم”.
سكت الجميع ولم يتجرأ أحد على الإجابة، غير إن الوزير آنذاك في حكومة الملك فيصل فارس الخوري وقف وأجاب قائلاً: “نعم، هذا هو قصر مليكنا فيصل وقد بناه سابقاً أحد الولاة الأتراك ويُدعى أسعد العظم ثم تركه وعاد إلى بلاده، ثم أتى بعده السّفاح جمال باشا وأيضاً سكنه ثم تركه وعاد إلى بلاده، وكذلك الجنرال اللّنبي الإنكليزي سكنه أيضاً ثم تركه وعاد إلى بلاده، وأيضاً أنتم تسكنونه حالياً وسيأتي وقت وستتركونه وتعودون إلى بلادكم، فالقصر باقٍ وأهله باقون” .
إعتقد الجميع بأن الوزير فارس الخوري سيكون مصيره السجن، غير إن المستعمر الذي صدم بهذه الجرأة من مواطن سوري مسيحي لم يجد أيّ مبرر قانوني لسجنه وهكذا بقي طليقاً …
عام 1945 كان من جملة الوفد السوري لتأسيس الجامعة العربية، ويوماً رغب أن يستبدل طربوشه القديم بطربوش جديد، وبعد أن جال نحو ساعتين في شوارع القاهرة بحثاً عن طربوش يناسب قياس رأسه الكبير، حتى عثر في أحد المحال، غير إن صاحب المحل بعد أن علم أنه جال على جميع المحال لهذا طلب ثمنه أضعاف سعره الحقيقي قائلاً: لم تجد ما يناسب قياس رأسكم سوى في دكّاني. ضحك الرئيس الخوري على الفور وقال: صحيح ذلك لكن ثق أنكم لو فتشتم العالم العربي بأكمله وليس في مصر فقط فلن تجدوا رأساً أكبر من هذا الرأس..
إبان التفاوض مع الدولة المستعمرة فرنسا كي تمنح الإستقلال للدول العربية أخذت الأخيرة تتذرع بحجج واهية ومنها أنها لا تغادر سوريا خوفاً على المسيحيين من أخوتهم المسلمين، مما حمل الرئيس الخوري إلى أن يجمع نحو عشرين رجل دين مسيحي مع جمهرة من أتباعهم ويذهب بهم إلى بهو الجامع الأموي، وكان نهار جمعة يغصّ بالمصلين، وأمام أعين وسائل الإعلام والسفراء الأجانب وقف وقال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإذا كانت فرنسا خائفة على المسيحيين من أخوتهم المسلمين فنحن منذ الآن وصاعداً أصبحنا مسلمين، وما عليها سوى أن تتركنا وشأننا”.

رئيساً لمجلس الأمن
عام 1946 أرسل مندوباً للحكومة السورية إلى الأمم المتحدة في نيويورك للتفاوض بشأن جلاء الجيوش الفرنسية عن الأراضي السورية..أثناء تلك المفاوضات وصل فارس الخوري إلى قاعة المجلس فوجد كرسي الرئاسة خالية فجلس قصداً، وكان رئيس المجلس آنذاك المندوب الفرنسي، وبعد أن وصل الأخير استشاط غضباً وقال: حقاً إنها وقاحة، كيف تجلسون على مقعدي وأنتم تعلمون ذلك؟؟
ضحك المندوب السوري فارس الخوري وقال: لم تسلني كم أصبح لي جالسٌ على هذه الكرسي، إذ ليس أكثر من عشر دقائق، استكثرتم ذلك ولم يتبادر إلى ذهنكم أنكم تجلسون على صدورنا لأكثر من عشرين عاماً..
عام 1947 انتخب رئيساً لمجلس الأمن في نيويورك إبان الحرب العربية الإسرائيلية، ويوماً أتاه أحد الزعماء العرب آنذاك قائلا:ً “يا حضرة الرئيس ما رأيكم بالهدنة التي تطلبها إسرائيل مع الجيوش العربية التي تقاتلها“؟؟
انتفض فارس بك الخوري قائلاً: لا، لا، لا، ثلاث مرات… أيها العرب لا توقفوا القتال مطلقاً فهذه خدعة حربية كي تجمع قواها العصابات الإسرائيلية وتستقدم سلاحاً جديداً.. وهكذا حصل في ما بعد.

فارس بك الحور مترئسا لمجلس الأمن في كانون الأول 1947
فارس بك الحور مترئسا لمجلس الأمن في كانون الأول 1947

 

صورة عن رسالة مرسلة من فارس بك الخوري إلى الشيخ علي حسين شجاع والشيخ عباس نعمان قيس
صورة عن رسالة مرسلة من فارس بك الخوري إلى الشيخ علي حسين شجاع والشيخ عباس نعمان قيس

 

 

 

 

 

 

حذر من خطط إسرائيل لتمزيق المنطقة
ويوماً يلتقي الأديب السوري الكبير محمود الجابري بالرئيس الإسرائيلي دافيد بن غوريون في أوروبا فخاطبه قائلاً: لنفترض أنكم حققتم حلمكم بقيام دولة إسرائيل، فهل باستطاعتكم إبقاءها حية بين محيط عربي هائل يكرهكم ويعتبركم جسماً دخيلاً؟
أجابه: في أيدينا سلاح سنستعمله وهو كفيل ببقائنا.
وقد أعاد الجابري الحديث أمام فارس الخوري مستفسراً عن ما يعنيه بن غوريون بـ “السلاح” الذي سيضمن بقاء إسرائيل وربما ظن أن أول رئيس حكومة للكيان الصهيوني كان يلمح إلى سلاح حربي متفوق، لكن فارس الخوري أجابه على الفور: “إنه سلاح التفرقة يا أخي وعلى مبدأ فرّق تسُد كما هو الحال اليوم بعد أن تشرذم العرب فرقاً وآحاداً ولم يبق أحد يفكر بالقضية عملياً وليس ادعاء ونفاقاً”.
كان فارس بك الخوري على صداقة متينة مع المناضل العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان حيث كان للأخير دور كبير في الإفراج عنه وعن رفاقه الأبطال بعد اعتقالهم من قبل السلطات الفرنسية وسجنهم في جزيرة أرواد عام 1932، وبقي إلى آخر لحظة في حياته يقول إن الأمير شكيب أرسلان أقرب الناس إلى قلبه، وتؤكد ذلك حفيدته الأديبة الكبيرة كوليت خوري قائلة إنه كان يسافر إلى جنيف لرؤية الأمير شكيب وقضاء بعض الوقت معه.
وأيضاً صداقته مع الوجيه الكبير سليم بك نوفل ممثل الدروز عن وادي التيم في دمشق إبان الحكم العثماني، وكان لهذا التعاون أن أبعد شبح الدمار والحريق لبلدة الكفير عام 1925. وأيضاً وأيضاً صداقته مع مشايخ البياضة، وهذه رسالة وجدتها عند الشيخ غالب قيس تؤكد صحة ذلك وهي مرفقة مع هذا المقال.
في النهاية لا يسعنا في هذا البحث الجليل إلا أن نشير إلى قول للأديب الكبير ظافر القاسم إذ يقول: “ إن فارس الخوري وليد القرون ولم يكن يشبهه أحد وقد تخطى قروناً، ولا يرزق العالم العربي بمن يماثله حقاً .. إنه كان رجلاً بدولة ودولة برجل”.

دور الدروز في نشوء الكيان اللبناني

عبدُ الرّحيم أبو حسين ينسف الرّواية التقليدية لتاريخ لبنان

التّمرّدُ الدّرْزيُّ على العثمانيّين ودورُه في ظهور الفكرة اللّبنانيّة

يُعتَبر البروفسور عبد الرحيم أبو حسين من المؤرّخين اللّامعين الذين تابعوا مدرسة المرحوم كمال الصّليبي في نقد التّاريخ اللّبنانيّ وأعمال المؤرّخين اللّبنانيين ولاسيّما الموارنة الذين أخذوا ومنذ عهد البطريرك أسطفان الدّويهي ترتيب وقائع التّاريخ اللّبنانيّ بالصّورة الأنسب لخدمة مصالح المشروع السياسيّ المسيحيّ، وقد درس أبو حسين على يد الصّليبي وعمل معه لسنوات وهو مثل الصّليبيّ لجأ بصورة وافية إلى الأرشيف العثمانيّ والوثائق العثمانيّة بهدف تحقيق الوقائع المزعومة والرّوايات المساعدة بالتّالي على التّمييز في التأريخ للبنان بين الحقائق التّاريخيّة وبين الخيال أو الأساطير.
وكان كمال الصّليبيّ أحد أبرز المؤرّخين الذين تفرّغوا للتّدقيق في الرّواية المارونيّة لتاريخ لبنان وقد أوصله عمله المستمرّ وتنقيبه في الوثائق العثمانيّة والأوروبيّة إلى كشف النّقاب عن حجم الهوى والإنتقائيّة المُغرِضة في أسلوب تناول معظم المؤرّخين الموارنة لتاريخ لبنان، وعرض الصّليبيّ نقده للكتابة المتحيّزة للتّاريخ اللّبنانيّ في كتابه الشهير “بيت بمنازل كثيرة” وأحدث الكتاب صدمة حقيقيّة لدى أولئك الذين اعتادوا على الرّواية المركّبة لتاريخ لبنان دون سؤال أو فحص نقديّ، لكنه كما يبدو ساعد كثيراً في إعادة النّظر في الكثير من المَقولات والمسلّمات التاريخيّة وزعزعة صدقيّة الرّواية العامّة التي هيمنت على كتابة التاريخ في لبنان أو تدريسه في المدارس والمعاهد أو تعميمه في الكتب والرّوايات والإعلام.
في هذه الورقة التي أعدّها البروفسور عبد الرحيم أبو حسين حول الموضوع نفسه (أي تمحيص الرّواية المارونية لتاريخ لبنان) ما يمكن أن يصدم أيضاً بسبب المراجعة الجذريّة التي يقوم بها لفترة أساسيّة من تاريخ لبنان وكذلك بسبب الاستنتاجات التي يقدمّها نتيجة أبحاثه الطّويلة (المستندة بجزء مهم منها إلى الأرشيف العثمانيّ) حول مواضيع حسّاسة مثل العوامل التي أدّت إلى بروز فكرة “الكيان اللّبناني” والتقيّيم الواقعيّ لمسيرة الأمير فخر الدّين الثّاني بعيداً عن الفولكلور اللبنانيّ والرّوايات المُتخيَّلة، لكن أحد أبرز المواضيع التي تهمّنا في هذا البحث هو التوثيق غير المسبوق لتاريخ العلاقة الصّعبة بين الدروز وبين الدولة العثمانية ودور ما يسميه المؤلّف “التمرّد الدرزيّ الطّويل” في المخاض العسير والطّويل الذي قاد أخيراً وفي الظّروف التي تلت إنهيار الدولة العثمانية في العام 1918 إلى بروز فكرة الكيان السياسيّ اللبنانيّ.

المسألة الأساسية التي يتناولها البروفسور عبد الرحيم أبو حسين في ورقته 1 المهمّة هي أنّ الفكرة اللبنانية كانت النتيجة غير المباشرة لما يسمّيه “التمرُّد الدّرزيّ الطّويل” الذي استمرّ ما يقارب القرنين وبدأ بعد قليل من فتح العثمانيّين لبلاد الشام واستمرّ حتى نهاية الحكم المعنيّ ومجيء الشّهابيين السنّة إلى سدّة حكم الجبل. ويقدّم أبو حسين البراهين القويّة، بالاستناد إلى الوثائق العثمانية، على أنّه وعلى عكس الفكرة التي رُسمت عن علاقة وثيقة بين الدّروز والسّلطنة العثمانيّة فإن الدّروز دخلوا ومنذ العهود المبكّرة للحكم العثماني لبلاد الشام في نزاعات متواصلة مع السّلطنة، وأنّهم كانوا لفترة طويلة في نظر العثمانييّن قوّة التمرّد الأكثر خطورة على وجودهم في ما كان يعرف إداريّاً بإسم سنجق صيدا-بيروت والذي كان يضم الشّريط السّاحلي الممتدّ بطول ستين كيلو متراً تقريباً، من خليج المعاملتين شمال مدينة جونية إلى وادي الزّهراني جنوب صيدا، ويشتمل على النّواحي الجبليّة المتاخمة للسّاحل وهي نواحي إقليم الخرّوب والشّوف والغرب والجرد والمتن وكسروان.
يوضح البروفسور أبوحسين في مقدمة بحثه أنه عمل خلال تاريخ عمله الأكاديميّ لأكثر من ثلاثين سنة على جوانب مختلفة من التّاريخ اللبنانيّ، واستعمل مصادر لم يسبق استعمالها من قبل، حتى الآن، وبشكلّ خاص مواد الأرشيف العثمانيّ، ولذا فهو يحاول، بناء على ما يتوافر له من معلومات وفيرة غير معروفة من قبل، تقديم قراءته الخاصّة لكيفيّة تشكُّل لبنان، وهي كما سنرى قراءة تختلف في نهجها التّحليلي وفي استنتاجاتها الجوهريّة عمّا يمكن اعتباره قراءات التّاريخ اللبنانيّ المتداولة بين أكثر المؤرّخين والمستقرّة في ذهن الرأي العام.
يبدأ المؤرّخ بتصويب أساسي للفكرة التي ربطت نشوء لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920 بجهود الموارنة ولاسيما كنيستهم القويّة فيقول: ” من المؤكّد أنّ الدّور الفرنسيّ والدّور المارونيّ كانا حاسمين في ولادة لبنان المعاصر بحدوده الحالية المعترف بها دولياً في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، ولكنّ لبنان هذا كان آخذاً في التّشكل وفقاً لعوامل محلّية وإقليميّة ودولية، على الأقل، منذ العقود الأخيرة للقرن السّابع عشر، وما أنوي القيام به في هذا البحث هو أن أسلّط الضّوء على التّطورات المحليّة لعملية التّشكُّل هذه. وأعني بذلك تطوّرات الأوضاع السّياسيّة والمواقف العمليّة لبعض الجماعات التي أدّت إلى نشوء الكيان السّياسيّ الذي قام حوله لبنان المعاصر”.
فلبنان الحديث حسب أبو حسين لم ينشأ بقرار من الجنرال غورو ولا هو كان نتيجة لـ “نضال لبناني” استقلاليّ ضد العثمانيين، والكتّاب اللبنانيّون أو واضعو الكتب المدرسيّة والمقالات والمسرحيات الذين يمجّدون تلك المقاومة المفترضة (مثل القول بأن “اللبنانيين” قاوموا العثمانيّين – أو التّرك- مدّة أربعمائة سنة) فإنّهم لم يقدّموا أيّ دليل على تلك المقاومة وأي أمثلة أو حالات ملموسة عليها.1 ويضيف أبوحسين: إنّ اللبنانيين قد يكونون أحقّ من جيرانّهم العرب بهذا الإدّعاء، إلّا أنّ الطّائفة اللبنانيّة (الموارنة) الأكثر إدّعاءً لهذه المقاومة لم تكن قائدها الرّئيسي، ولا المشارك الأساسي فيها، فهذه المقاومة التي اتّخذت شكلّ ما يسمّيه الباحث “التّمرّد الطّويل”، (وهو تمرد درزي في الغالب وقاده الدّروز) هو الذي أنتج عن غير قصد، ما يمكن أن نصفه ببداية تشكّل نوع من الكيان “اللبنانيّ” ظهرت بواكيره مع قيام متصرّفيّة جبل لبنان (1861) المتمتّعة بالحكم الذّاتي والإعتراف والضّمان الدّوليين، وهذه “المقاومة” (الدّرزية) هي حسب أبو حسين التي أنتجت للبنانيّين أبطالهم الوطنييّن التّاريخيين ونضالهم القوميّ “البطوليّ” وهي التي أدّت إلى خلق الشّروط المادّيّة لقيام الكيان السّياسيّ الذي ظهر في وقت لاحق.

متصرفية جبل لبنان 1860-1918
متصرفية جبل لبنان 1860-1918

التّمرّد الطّويل
يطلق البروفسور أبو حسين إسم “التمرّد الدّرزي الطّويل” على سلسلة الإنتفاضات وأعمال العِصيان والثّورة التي خاضها الدّروز في فترات متقطّعة في بلاد الشام ولبنان ضد الحكم العثمانيّ، وهو يعتبر أن التمرّد الدّرزيّ حصلت فصوله على امتداد القرنين السّادس عشر والسابع عشر وبالتّحديد ما بين العامين 1516 و1697. وهذه الحقائق تخالف في نظره تماماً الإنطباع الذي روّج له التّاريخ اللبنانيّ التّقليديّ عن علاقات إيجابيّة مديدة بين الدولة العثمانية وبين الأمراء والقادة الدروز. وفي هذا السّياق يقدم أبو حسين إحدى الرّوايات المستقرّة حول علاقة الولاء الدّرزيّ للسّلطنة، وهي رواية استقبال السلطان سليم الأول للأمير فخر الدّين المعنيّ (الأول) ومنحه لقب “سلطان البرّ” فيثبت أن الأمير فخر الدين الأول لم يرَ السّلطان سليم لأنه مات قبل فتح دمشق بنحو عشر سنوات. ويعتبر أبو حسين الرّواية الملفّقة عن بداية علاقة المعنيين بالعثمانيين في ذلك اللقاء المزعوم والكلمة المؤثرة التي ألقاها فخر الدين الأول بين يدي السلطان سليم الأول جزءاً من التأريخ المارونيّ الذي تبنّى فخر الدّين وكان يهمّه تعزيز مكانة الأمير والمعنييّن وإعطاء حكمهم شرعيّة تاريخيّة تبدأ قبل وقت طويل من صعود فخر الدين الثاني الكبير.
يضع المؤرخ أبو حسين التمرّد الدّرزي في سياق مجموعة التّحديات التي واجهت الدّولة العثمانيّة وهو يعتبر أنّ التمرّد الذي قاده علي باشا جانبولاد كان تحدّياً جدِّياً أضيفت إليه تحديات أقلّ شأناً تمثّلت بهجمات محدودة للقبائل البدوية الواقعة على طول طريق الحجّ إلى الحجاز، أو في مناطق أخرى من صحراء بلاد الشّام. إلّا أنّ مثل هذه القلاقل لم تمثّل تهديداً طويل الأمد لدولة السّلطنة بدليل أنّها نجحت في قمعها دون صعوبة، واستعادت في وقت قصير سيطرتها على المناطق المتمرّدة أو مناطق العصاة.
لكن الوضع لم يكن على هذا النّحو في المناطق الدّرزيّة في لبنان، فقد انفجر التمرّد مراراً و تكراراً ما بين العامين 1518 (أي بعد سنتين من فتح العثمانيين لبلاد الشام) و1697م (تاريخ وفاة الأمير أحمد المعني آخر الأمراء المعنيين من دون عقب) وكانت تلك الانتفاضات مبعث انشغال وقلق دائمين للسّلطات العثمانيّة الإقليميّة والمركزية لسببين أساسييّن: الأوّل هو القوّة القتالية للدّروز وتسليحهم والجماعات اللبنانيّة التي كانت تعاضدهم كالموارنة في جبل لبنان والشيعة في جنوب لبنان وصفد. أمّا السبب الثّاني فهو وجود الثّقل الدرزيّ السياسيّ والعسكريّ بالقرب من السواحل وهي البوابات البحرية الإستراتيجية لبلاد الشام والعمق الجغرافيّ للدّولة، وقد أشارت كثير من الرسائل العثمانيّة إلى أهميّة القرب الدّرزيّ من السّواحل للتّأكيد على خطورة تمرّدهم وامتلاكهم لكمٍّ كبير من الأسلحة، ولهذه الأسباب فإنّ الدّولة العثمانية وجدت نفسها مضطرّة مراراً وتكراراً لتوجيه الحملات ضدّ “المتمرّدين الدّروز” أو اللّجوء إلى اتّخاذ ترتيبات إداريّة جديدة لمعالجة الوضع.
رغم أهمّية الإنتفاضات الدّرزية المتكرّرة على الحكم العثماني يلاحظ أبو حسين كيف إنّ الدّراسات الحديثة حول تاريخ المنطقة لا تشير إليها، وباستثناء النّزاعات المتأخِّرة المتكرّرة بين الأمير فخر الدّين المعنيّ (الثّاني) والسّلطات العثمانيّة في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر تصوّر هذه الدّراسات العلاقات الدّرزيّة- العثمانيّة عامّة على أنّها علاقات يسودها الوئام. ويعثر أبو حسين على ما يعتبره السبب الأهمّ وراء هذا التجاهل وهو أنّ الكتابات عن هذا الموضوع كانت تعتمد على مصدر واحد يعكس هوى صاحبه، وهذا المصدر الوحيد هو تاريخ البطريرك المارونيّ إسطفان الدّويهي الذي تربّع على السدّة البطريركية من 1668 إلى 1704م.
يقول المؤرخ أبو حسين: “لأسباب عديدة فإنّ الدّويهي يصمت صمتاً مُريباً عن معظم مجريات هذا التّمرّد، ولا يشير إلى الهجمات العثمانيّة المبكّرة على المناطق الدّرزيّة ، كما إنّ الأكثر أهميّة بالنّسبة إليه كانت التّغطية على أيّ دور أوروبي كاثوليكيّ في التّمرّد. فالدّويهي حسب أبو حسين، وبسبب موقعه الكهنوتيّ، لا بدّ أنه كان على علم بالعلاقات بين البابا وآخرين من القوى الأوروبية الكاثوليكية مع القيادات الدرزيّة، ولكن لم يكن من مصلحة طائفته، ولا من مصلحة أصدقائه من القادة الدّروز أن يشير إلى مثل هذه العلاقات.2 ويحدّد أبو حسين هدف دراسته بمحاولة الإجابة على الأسئلة التّالية:
1. متى وكيف ولماذا بدأ العداء بين الدّروز والعثمانيّين؟
2. كيف ظهر هذا العداء في المرحلة التي نحن في صدد دراستها؟
3. وما الأثر الذي تركه على الأحداث التي تلته في لبنان؟
يتّضح من الدراسة المفصّلة مجموعة من العوامل التي لعبت دوراً في النّزاع الدّرزيّ العثمانيّ الذي امتدّ على مدى قرنين من الزّمن.

استنبول-في-مطلع-القرن-السابع-عشر---تحالف-صراعي-مع-أمراء-الدروز
استنبول-في-مطلع-القرن-السابع-عشر—تحالف-صراعي-مع-أمراء-الدروز

1. الهيمنة السّياسيّة للدّروز: من أهمّ هذه العوامل أنّ الدروز كانوا هم القوّة السّياسيّة المهيمنة على الجبل نزولاً حتى المدن الساحليّة وخصوصاً بيروت، وكان من الطّبيعيّ رغم علاقة التّعايش (النّفعيّ) التي كانت تربطهم بالدّولة العليّة أن يحرِص الدّروز على حماية وضعهم والردّ على محاولة الدّولة تأكيد وجودها في مناطقهم (لأغراض جباية الضّرائب الأميريّة أو ضبط السّلاح أو حفظ الأمن ومصالح الدّولة)، وقد نشأ عن هذا الوضع ما يمكن اعتباره علاقة “تحالف صراعيّ” حيث تحرص الدّولة مقابل منح الإلتزام للأمير الدرزي أن تَحوُل دون نمو قوّته وقوّة جماعته إلى حدّ يجعل منه خطراً مُحتَملاً على مصالحها، بينما يسعى الأمير الدّرزيّ والمجتمع الدّرزيّ عموماً للقيام بدور الحليف المخلص للدولة لكنْ مع الانتباه دوماً للاحتفاظ بعوامل القوّة الكافية للدّفاع عن الوجود في حال تبدّلت الأحوال أو نشأ تهديد مفاجئ لمصالح الجماعة المعروفيّة. من أجل ذلك ومن أجل حماية مصالحهم من مطامع الآخرين فقد كان على أمراء الدّروز أن يخوضوا على الدوام مواجهات ومعارك ضدّ المنافسين الكثر من العائلات السياسية والمقاطعجيين الآخرين، كما كان عليهم عند الحاجة أن يتصدَّوْا للولاة العثمانيّين الذين يسعَوْن لإخضاعهم أو لإبتزازهم، وقد كان النّظام الإداريّ للدّولة العثمانيّة يعطي للوُلاة صلاحيّات كبيرة وهامشاً واسعاً من الحركةِ فكان الكثير من أعمالهم لا ينطبق بالضرورة مع مصالح الدّولة المنشغلة بحروبها الخاصّة وبالدّفاع عن جبهاتها المختلفة. في هذا الإطار برز موضوعان شكّلا على الدّوام جبهتيّ النّزاع الأهمّ بين الدّروز والعثمانيّين وهما موضوعا السّلاح والضرائب.
2. موضوع السلاح: كان هذا الموضوع سبب الصدامات الدائمة بين الدّروز والعثمانيّين، لأن الأمراء الدّروز كانوا يعتبرون امتلاكهم للأسلحة بكميّات كافية بل زائدة عن الحاجة المباشرة أهمّ عنصر لبناء جيش قادر على تأكيد سطوتهم تجاه المنافسين وفي الوقت نفسه قادر على حماية المجتمع الدرزيّ الجبليّ من غوائل الزّمان والحكام. في المقابل فإن الدّولة العثمانية كانت تقرّ بأهمية وجود السلاح في تصرّف حكّام الجبل الذين يعملون بإسمها لكنّها كانت تتوجّس دوماً من زيادة قوة الأمير والأسلحة المتوافرة لجماعته وتخشى أن يساعده ذلك على شقّ عصا الطاعة أو عقد تحالفات مع أعداء الدّولة العليّة قد تهدد ملكها في جبهات معينة، وكان هاجس عصيان الأمراء وحكام المناطق حقيقيّاً في اسطنبول لأنّ الدّولة كانت رغم قوّتها محاصرة وعرضة دائماً للهجمات من الدول والممالك المحيطة ولاسيّما الممالك الأوروبيّة المسيحيّة وروسيا والدّولة الصّفويّة. وكانت محاولة علي باشا جانبولاد الإنشقاق عن الدّولة وتأسيس إمارة في حلب وسوريا تهديداً خطيراً كان يمكن أن يحدث أضراراً كبرى بالدولة الناشئة وقد تمت محاولة جانبولاد بدعم من الدّول الأوروبيّة المسيحيّة المتربّصة بالدّولة العثمانيّة، وربما عززت تلك المحاولة التي قمعت بشدة مخاوف الدّولة العثمانيّة من أطماع الملتزمين والمتولّين ومخادعتهم وعزّزت النّزعة المركزية في التّعامل مع الأطراف.
يورد المؤرّخ أبو حسين تفاصيل طريفة في موضوع السّلاح يستقيها من مواد الأرشيف العثماني (دفتر الأمور المهمّة) وقد وَرَد فيها “أن الدّروز امتلكوا كميات كبيرة من الأسلحة النّارية ورفضوا الإنصياع للأمرالسّلطانيّ بتجريدهم منها، ليعلنوا التّمرّد بدلاً من الانصياع” لذلك وحسب الوثيقة العثمانية فقد “صدر أمر جديد لوالي دمشق بأن يُهاجِم الدّروز، ويجرّدهم من السّلاح، مع تزويده بقوات عسكرية إضافيّة من الولايات المجاورة لتساعده في الحملة.3 وتضيف الوثيقة تفصيلاً أكثر أهميّة من ذلك إذ توضّح أنّ الدّروز في منطقة الجُرد فقط كانوا يمتلكون ثلاثة إلى أربعة آلاف بندقيّة وصفت بأنّها طويلة وتستطيع إطلاق سبع أو ثماني طلقات متتابعة وتتفوّق على البنادق التي يستعملها الجنود العثمانيّون.4 وتضيف الوثيقة في مكان آخر وعند الحديث عن تمرد درزي في منطقة المتن “أنّ معظم أهالي هذه النّاحية -المتن- كانوا مدرّبين جيداً على استعمال البنادق، وأنّه كان بحوزتهم أكثر من ألف بندقيّة. وتتابع فتحذّر من الوضع الخطر بسبب وجود هذا العدد الكبير من الأسلحة النّارية بأيدي أناس متمرّدين يعيشون “قريباً من السّاحل”.5
وحسب الوثائق العثمانيّة فإنّ عدد البنادق التي كانت الحكومة تطالب بتسليمها كان كبيراً جداً، وقد فُرض مثلاً على كلّ ربّ منزل أن يسلّم بندقيّتين (وهو ما يدل في حد ذاته على كثافة التّسليح الدّرزي) بينما كان على ابن معن، وابن شهاب، وقايتبايّ أن يسلّم كلّ منهم ألف بندقيّة، وإضافةً إلى هؤلاء فقد طُلِب من منصور عسّاف تسليم ألفي بندقيّة إذ كان من المعروف أنّه حصل في وقت سابق على عدد كبير من الأسلحة النّاريّة من قبرص، كما طلب الأمر السّلطانيّ من حاكم دمشق أن يؤدّب “الجماعة العاصية” وأعلمه أنّ المساندة العسكريّة لهذا الغرض سوف تقدّم له من قبل حكّام ولايات ديار بكر وحلب وذوالقدرية.6
3. مصادرُ السّلاح: يلقي بحث المؤرّخ البروفسور أبو حسين ضوءاً على موضوع مهمّ آخر يساعد على فَهم العلاقة الملتبَسة والصّعبة بين العثمانيّين والدّروز، إذ يكشف ليس فقط عن التسليح الكثيف للدروز وتفوّق أسلحتهم أحياناً على أسلحة الجيش العثماني، بل إن المصدر الأساس لتسليحهم كان الدّول الأوروبيّة ممثلة لفترة بدوقيّة البندقية (Venice) ثم بدوقيّة توسكانا. وكان قسم كبير من التّسليح يتم عبر جزيرة قبرص المواجهة للسّواحل اللبنانيّة التي كانت ما زالت خارج سيطرة الدولة العليّة. وفي مكان آخر يورد أبو حسين نقلاً عن الأرشيف العثمانيّ أن الدروز كانوا أيضاً يحصلون على السّلاح من السّوق السوداء في بلاد الشام نفسها ويدلّ على ذلك نصّ رسالة في الأرشيف العثمانيّ موجّهة من قاضي دمشق السّابق إلى الدّيوان الهمايوني (ديوان السّلطان) تفيد بأنّ “المدعو أبو بكر بن رزق الله المقيم في منطقة الصّالحية في دمشق له العديد من الاتّصالات والمعاملات مع الدّروز حيث يقوم بتزويدهم بالبنادق والبارود والرّصاص”، وتتّهم رسالة القاضي المشار إليها أبو بكر هذا بأنّه يتاجر أيضاً مع سفن الفرنجة، إذ يزوّدهم بالقمح، بالإضافة إلى تورّطه في أعمال أخرى ذات صلة بما سبق”، وقد صدر الأمر من الدّيوان الهمايوني بنفيه إلى جزيرة رودس.7
وقد كان من الطبيعيّ أن يبحث الدّروز عن السّلاح في أي مصادر تتوافر لهم لأنّ السلاح كان بالنسبة إليهم ضمانة حماية وضعهم وكرامتهم تجاه الدّولة المركزيّة أوّلاً وكذلك تجاه الطامعين الآخرين. لكنّ وفرة السّلاح الذي كان الدّروز يحصلون عليه من الدّول الأوروبيّة يوحي بأن تلك الدّول اعتقدت بإمكان الاعتماد عليهم لإضعاف الدّولة العثمانيّة أو لتحقيق مكاسب معيّنة على حسابها. ورغم أنّ الدروز لم يكونوا في الواقع معنيّين بهذه الخطط بل بحماية أنفسهم بالدرجة الأولى فإنّ العلاقات التي نسجوها مع الممالك الأوروبية في ذلك الوقت (خصوصاً في عهد فخر الدّين الثاني) وتدفّق السلاح عليهم من تلك الممالك كانت من العوامل التي زعزعت الثّقة بهم من قبل الدولة وسرّعت بالتالي في حصول المواجهة الحاسمة ونهاية الإمارة الدّرزية ومجيء السُّنّة الشهابيّين.

القوات العثمانية فوجئت بامتلاك الدروز بنادق أكثرتطورا من أسلحتها
القوات العثمانية فوجئت بامتلاك الدروز بنادق أكثرتطورا من أسلحتها

4. موضوع الضّرائب: من أهمّ نقاط التّصادم بين الأمراء والمقاطعجيّين الدّروز وبين السّلطنة العثمانيّة (بعد موضوع السّلاح) كان ولا شكّ موضوع الضّرائب التي لم يكن تعيّينها وجبايتها يخضعان لنظام واضح، وكان الدّروز ينظرون إليها غالباً كتكليفات تفوق قدرة مجتمعهم الزّراعي البسيط على الاحتمال وكأداة إفقار وإضعاف لشوكتهم لأن المداخيل المحقّقة من الأملاك كانت تمثّل عنصر قوة المجتمع وتمكن الأمير من تعبئة الجيش وتوفير الأسلحة واستخدام الأنصار والاحتفاظ بجهوزيّته لمواجهة التّحديّات الطارئة. لم يكن صدفة لذلك أن تكون الإنتفاضات الدّرزية ترافقت دوماً بإمتناع عموم الدّروز، مقاطعجيّين وفلاحين، عن دفع الضّرائب المتوجّبة عليهم للدّولة، والتي كانت تعتبر المناطق الدّرزيّة في حالة تمرّد متواصلة تقريباً نتيجة لذلك ولإصرار الدروز على الإحتفاظ بالسّلاح.
وهكذا وفي عام 1565م، حسب “دفتر الأمور المهمّة”، فإنّ أهالي عين داره في منطقة الجرد، وقادتهم المحليين الدّروز”رفضوا أن يدفعوا الضّرائب، وكانوا قد قاموا قبل ذلك بالهجوم على مقرّ إقامة السّباهي الذي كان مسؤولاً عن جمع الضّرائب. وسرعان ما انضمّت قرى أخرى مثل المتين (في اقليم المتن المجاور) وقيادات درزيّة أخرى الى هذا التّمرّد”.
ويذكر أبو حسين أن تمرّد المناطق الدرزية على دفع الضرائب وصل إلى حد امتناع أيّ من النّاس عن التّقدم لنيل إلتّزام هذه المناطق لجباية ضرائبها، ولذا اضطرّت الدّولة إلى تعيين “أمناء” (مفردها أمين) emin 8 لجباية الضّرائب، إلّا أنّ هؤلاء لم يحظوا بالطّاعة أو الإحترام من قبل الدّروز الذين كانوا يتذرعون بأنّهم دفعوا ضرائبهم حسب السّجل القديم (defteri Atik) أو أنّ مزارعهم غير منتجة، أو أنّها غير مسكونة، ولكنّهم كانوا يرفضون السّماح للقاضي أن يحقّق في صحة تلك الادّعاءات. وبإختصار فقد كان من غير الممكن أن يتواجد أيّ نوع من الحضور الرّسمي للدّولة في هذه المناطق، ولذا فقد توالت الأوامر لحكّام الأقاليم مطالبة بإعتقال مقدّمي الدّروز ومعاقبتهم9. وقد اتّسع التّمرّد بعد سنوات إلى خارج منطقة جبل لبنان ليشمل الدّروز والشّيعة في سنجق صفد إلى الجنوب، وبدأ هؤلاء يتعاونون مع الدّروز في الشّمال، وحذوْا حذوهم في الامتناع عن دفع الضّرائب المترتّبة عليهم وقاموا في الوقت نفسه بالإشتراك في أعمال تمرّد وعصيان أخرى.
5. إشكاليّة الأمير القويّ: بالنّظر لتركيبة لبنان المستندة إلى تنوّع مذهبي ومناطق جغرافيّة حصينة فإن سياسة إيجاد مقاطعجيّين أو ملتزمين كثر، وإن كانت تحدّ من خطر وجود الأمير القوي، إلا أنها لم تكن مفيدة لأن الحصيلة كانت تشرذم وجود الدولة تجاه التهديدات الخارجية الدائمة وغياب متولٍّ كبير يمكنه أن يفرض طاعة الدّولة على الجميع ويمدّ الخزانة العثمانيّة بما كانت تحتاجه لتأمين إنفاقها الكبير. لذلك قبلت الدّولة العثمانيّة بمخاطرة تأمير أسرة مثل المعنيّين كملتزمين2 للجبل باعتباره “شرّاً لا بدّ منه” لكنها عملت دوماً على مراقبتهم ومحاولة تحجيم دورهم ومتابعة تحركاتهم ومن ذلك محاولة تجريدهم وأتباعهم من السّلاح بين الفينة والأخرى، وهو ما كان الدّروز يقاومونه بضراوة. بل على العكس بالنظر إلى توجّس الدروز من إمكان تجريدهم من السلاح عبر شنّ الحملات المتكرّرة عليهم فقد أصبح هؤلاء أكثر حرصاً على التسلّح وكانوا من المقاتلين الأشدّاء، كما إنّ زعماءهم كانوا من الثّراء بحيث يمكنهم شراءالسّلاح حيث يجدونه ثم خزنه في مخابئ يصعب على الجيش العثمانيّ العثور عليها. ولهذا فقد كانت الدولة تعالج موضوع السّلاح بأن تفرض على الأمراء الدّروز وغيرهم من الملتزمين أن يسلّم كلٌّ منهم عدداً معيّناً من البنادق والذّخيرة أو أن تفرض الأمر نفسه على كل بيت درزيّ.
6. دور الدّروز في توسيع نطاق التمرّد على الدّولة العثمانيّة: بالنّظر لقوّتهم السّياسيّة والعسكريّة فقد كانت للتمرّد الدّرزيّ آثارٌ تتجاوز الدّروز أنفسهم إلى العديد من المناطق والجماعات التي تجاورهم في كنف الدولة العثمانيّة خصوصاً في نطاق جبل لبنان وشمال فلسطين. وقد رأت الدّولة العثمانيّة أنّ الدّروز وحدَهم يمكنهم إشهار التّحدّي لسياساتها بل لجيشها حاملين بذلك خطر نقل العدوى إلى غيرهم من رعايا الدّولة، وكان هذا الواقع سبباً إضافيّاًً في العنف الذي جرّدته الدّولة على الدّروز في حملات متوالية عبر القرنين السادس عشر والسّابع عشر، وقد تميزت الحملات العثمانيّة على مناطق الدّروز بالعنف والقسوة كما لو أنّ الدّولة أرادت أن تجعل من “العصاة” عبرة لغيرهم، وقد زاد هذا النّهج وأعمال القتل وحرق القرى التي لجأ إليها العثمانيّون من غضب الدّروز فوسّع ذلك بصورة فادحة الهوة بينهم وبين الدّولة. في الوقت نفسه فإنّ الأوامر التي استمرّت في الصّدور من اسطنبول إلى حكّام ولايات بلاد الشام تفيد بأنّ الدّروز استمرّوا في كونهم العصب الرّئيسي للعصيان وفي طليعة قيادته أو نظر إليهم على أنّهم المتمرّدون الأساسيون ضدّ السّلطة العثمانيّة 10، وأنّ التّمرّد انتشر على نطاق واسع ليشمل كلّ المناطق الدّرزيّة وأنّه ينبغي بالتالي تجريد الدّروز من السّلاح. وهكذا في أيلول عام 1574م كانت الخطة قد أعدّت وصدر الأمر إلى قوّات من الأسطول العثمانيّ بالتّعاون مع القوات العسكريّة المتوفّرة في ولاية دمشق لتنفيذ هجوم واسع مشترك لقمع التّمرّد.11 وحسب أبو حسين فإن هذا الهجوم ربما لم يحصل لكنّ المراسلات العثمانيّة بشأنه تبين أنّ المشكلّة استمرت قائمة لأنّ الأوامر المتتالية من اسطنبول لحكام ولايات بلاد الشّام تواصلت مطالبة إيّاهم بتجريد الدّروز من السّلاح.
7. عامل الخصوصية: رغم تكوينها كإمبراطورية متعددة الأعراق والأديان والمذاهب فإنّ الرابط الدّينيّ بل العصبية الدينية كان لها دور كبير في مجتمع السّلطنة العثمانيّة، ومن هذا المنظور فإنّ الأمراء الدّروز رغم ما كان يرى من انتمائهم إلى مذهب إسلاميّ خاص حافظوا على دورهم السياسيّ والعسكريّ المهم في حماية السّلطنة، وكان ذلك استمراراً للدور الذي لعبه أسلافهم في ظل الممالك الإسلاميّة المتعاقبة منذ استيطان القبائل العربية الأولى لبنان لذلك الغرض بتشجيع من الدّولة الإسلامية. وقد أظهر الدروز كفاءة كبيرة واحترافاً في قيامهم بهذا الدّور لكنّهم أثبتوا مع ذلك (بدليل التمرّدات المستمرّة التي ميزت علاقتهم بالسّلطنة) أنّهم حليف صعب المِراس وأنهم يتوقّعون مقابل دورهم التّاريخيّ وتضحياتهم درجة عالية من الحكم الذّاتي واحترام خصوصيّتهم السياسيّة والثقافيّة، وهذا التّمايز الدّرزيّ أو تلك الخصوصيّة الإيمانيّة وجدت في الإدارة العثمانيّة أو في الأوساط الدّينيّة الرسميّة من يعتبرها سبباً كافياً للتّشكيك بولاء الموحّدين الدّروز ، بينما وجدت بعض أوساط الدّولة في هذا التّمايز فرصة للتّحريض الطّائفي كأسلوب مناسب لتأليب الرأي العام وتبرير الحملات الإنتقاميّة على الدّروز “العصاة” ومحاولة إخضاع مناطقهم. ويعتقد أبو حسين أنّ التّحريض الطّائفي الذي كان يظهر أحياناً ضدّ الدّروز في الأوساط العثمانيّة ربّما ولّد لديهم الشّعور بالغربة وانعدام الأمان مما جعلهم ميّالين للتمرّد ضدّ العثمانيّين كلّما سنحت الفرصة لذلك”. في المقابل فإنّ الاعتقاد الأوروبيّ الخاطئ، ولكن الشّائع حينذاك، بأنّ الدروز يتحدّرون من سلالة صليبية جعل البنادقة يرَوْنَ فيهم الحلفاء المثاليّين لهم في بلاد الشّام.12
8. دور العامل الاقتصادي: يبينّ المؤرخ أبو حسين في بحثه أنّ التّمرّد الدّرزي لم يكن يدور فقط حول مسائل “وجوديّة” مثل السّلاح والضّرائب بل كانت له أسباب اقتصاديّة مهمّة تتعلّق بالمصالح الكبيرة التي كانت للدّروز في التجارة والموانئ ومدن ساحليّة، مثل بيروت، إبّان العهد المملوكي السابق، وقد كان الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام ومصر ( 1516-1517م) كارثة على مصالح البنادقة التجاريّة إذ حرمهم من أحد مصادر الإمداد أو الاستيراد الأساسيّة ومن أحد أسواقهم الهامّة كذلك. ومن المهم أن نتذكّر أيضاً أنّ الخسارة جرّاء ذلك لا بدّ أنّها قد لحقت كذلك بشركائهم التجاريّين المحليين في بلاد الشّام ومن بينهم زعماء الدّروز وتجّارهم وذلك نتيجة للقيود العثمانيّة على استيراد وتصدير العديد من الموادّ والسلع . وقد كان الزّعماء الدّروز، والطّائفة عموماً، الشّركاء المحليين للبنادقة في هذه التّجارة المربحة. ولذا فليس من المُستغرب أن يشترك البحتريّون والمعنيّون في تمرّد 1518م ضدّ العثمانيّين. هذا التّمرّد – كما تمت الإشارة سابقاً- بحيث يُعتقد أنّه كان محاولة لإعادة سلطة المماليك التي تمتّع في ظلها البنادقة، عمليّاً، بإحتكار التّجارة مع بلاد الشّام. ويَعتقد أبو حسين أنّ تلك الخسائر تركت أثراً سيّئاً للغاية على شركاء البنادقة المحليين خصوصاً الدّروز، الأمر الذي قد يكون ولّد لديهم الرّغبة والإستعداد للإتفاق مع البنادقة، ليس فقط في مجال تهريب المواد الممنوعة واستيرادها فحسب، بل في أن يكونوا جزءاً من الحرب السّريّة، وأحياناً الحرب العلنيّة التي كان البنادقة يخوضونها ضدّ العثمانيّين. وفي سياق هذا الصّراع، يمكن ربط هجوم عام 1520م على ميناء بيروت بمحاولة البندقيّة اليائسة للسّيطرة على أحد الموانئ الأكثر حيويّة لتجارتها مع بلاد الشّام.

السلطان سليم الأول لم يلتق بفخر الدين الأول ولم يعطه لقب سلطان البر كما تزعم الرواية التي يتم تدريسها للطلاب اللبنانيين
السلطان سليم الأول لم يلتق بفخر الدين الأول ولم يعطه لقب سلطان البر كما تزعم الرواية التي يتم تدريسها للطلاب اللبنانيين

مواجهات مُبكّرة
يذكر المؤرخ أبو حسين نقلاً عن المصادر التّاريخيّة أنّ أوّل حادثة تمرّد شهدت تورّطاً لزعماء من الدّروز حصلت بعد الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام بسنتين. وفي هذا الصّدد يروي المؤرّخ الدّرزي ابن سباط (توفي 1520) أنّه في عام 1518م ألقي القبض على أربعة من الأمراء الدّروز كان أحدهم من البحتريين، أمّا الثّلاثة الآخرون فقد كانوا من المعنيّين، لإشتراكهم في عصيان قاده ناصر الدّين محمد ابن الحنش ضدّ السّلطان سليم الأوّل، وكان ناصر الدّين هذا زعيماً بدويّاً سنّياً من سهل البقاع، وقد اعتبر هذا العصيان الأوّل بمثابة انتفاضة للعناصر الموالية للدّولة المملوكيّة البائدة ضدّ الدّولة العثمانيّة الحديثة العهد في المنطقة. وعلى أيّ حال كان ابن الحنش المتمرّد الرّئيسي، وقد اعتُقل في ما بعد، وأُعدم عقاباً له، أمّا الأمراء الدّروز فقد كانت عقوبتهم مخفّفة إذ اقتصرت على غرامة باهظة دفعها كلّ منهم 13.
بعد سنتين من تمرّد ابن الحنش، حصلت في 12 تشرين الأول 1520 حادثة اعتبرها العثمانيّون أكثر خطورة تمثلت في غزو مفاجئ لأسطول صغير من سفن الفرنجة لمرفأ بيروت في محاولة للإستيلاء عليه وعلى المدينة واستخدامه قاعدة لحملات عسكرية تالية ضد الأراضي العثمانية. يروي إبن طولون، المؤرّخ الدّمشقي الذي عاصر الحدث أنّ الحامية العثمانية تنبهت للهجوم فدارت معركة كبيرة قُتل فيها نحو 100 من المسلمين ونحو 400 من الفرنجة الذين أرسلت رؤوس قسم من قتلاهم إلى دمشق وتمّ عرضها في أحياء مختلفة من المدينة.
ثم يذكر إبن طولون الذي شهد الحدث الأوّل أنّه وبعد ثلاث سنوات من الإغارة الفرنجيّة أي في العام 1523 هاجم حاكم دمشق خُرّم باشا منطقة الشّوف الحيطي وقتل كثيراً من الخلق وعاد إلى دمشق في موكب النصر وقد حدّد إبن طولون المنطقة الدّرزيّة التي تعرضت لهذا الهجوم على أنّها شوف سليمان بن معن (أو الشّوف الحيطي). وعلم الدّين سليمان هذا كان من بين الزّعماء المعنيين الذين انتفضوا ضدّ العثمانيّين عام 1518م.
يعتقد المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين الواسع الإطّلاع على الوثائق العثمانية أنّ هذا العمل الهجوميّ للعثمانيّين قد يبدو مفتقراً إلى مبرّر مباشر لكنّه عند التمعًّن بتلك الفترة يمكن اعتباره ردّاً على دور للزّعماء المعنيين في تمرّد ابن الحنش عام 1518م، والاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أنّ الهجوم كان ناجماً عن الشّكّ في تواطؤ بعض أمرائهم مع البنادقة في الهجوم على ميناء بيروت عام 1520م. ويضيف أبو حسين أنّه و”مهما يكن سبب تلك الحملة العثمانيّة فإنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ الهجمات اللّاحقة على الدّروز اعتُبرت دائما ردّاً على “عِصيانهم” كما يرد في الوثائق العثمانيّة والكتابات الشّامية المحليّة.14
لكنّ الدّروز في ما يبدو استمرّوا في التّحدّي، وقتلوا الصّوباشي ورجاله الذين عيّنهم خرّم باشا لتطبيق القانون والمحافظة على النّظام. ومرّة ثانية قاد خرّم باشا جيشه إلى مناطق درزيّة أخرى وأعمل فيها تنكيلاً وحسب إبن طولون فإنّ “أكثر من ثلاثين قرية أُحرقت، ونُهبت قرى كثيرة أخرى”. ويورد مصدر دمشقيّ متأخّر أنّ خُرّم باشا أحرق في هجومه الثّاني هذا ثلاثاً وأربعين قرية منها قرية الباروك مقرّ قرقماز بن معن.
ويعرض المؤرّخ أبو حسين لوثيقة عثمانيّة تشير إلى امتداد التمرد المسلّح إلى سنجق صفد الذي كان أصبح تحت سيطرة الأمير قرقماز بن معن وجاء في الوثيقة أنّ أمير لواء صفد بالتّعاون مع السّباهية في اللواء وآغا الانكشارية على رأس خمسماية من جنوده قاموا بقتال الدّروز في مدينة صفد وريفها واعتقلوا زعيمهم ابن منذر و بعض رجاله ثمّ قتلوهم، وأرغم بقيّة المتمرّدين على تسليم 600 بندقيّة، وعلى التّعهُّد بدفع الضّرائب المتأخّرة المترتبة عليهم.15 ويرد في وثيقة أخرى أنّ دروز صفد وبدوها يشكلّون العناصر الأساسيّة في التّمرّد. وتوضح هذه الوثيقة أنّ السّكان المحلّيين وأرباب الزّعامات والتّيمار قد اشتكَوْا ضدّ المتمرّدين
و أشاروا في شكواهم إلى أنّ البدو والدّروز انتهزوا فرصة غياب أمراء الألوية والعساكر الذين كانوا في عداد المشاركين في السّفر الهمايوني (الحرب الخارجيّة) وقاموا بتمرّد مسلّح، وهكذا لم يكن من الممكن أن يجمع ولو مقدار أقجة واحدة من ضرائب تلك المنطقة، نظراً إلى أنّ عدد البنادق في سنجق صفد وحده قد وصل إلى سبعة آلاف بندقيّة. وتختم الوثيقة بالأمر باعتقال زعماء التّمرّد وإرسالهم مع السلاح المصادر إلى اسطنبول، وأن تتمّ معاقبة مستحقّي العقاب فوراً. 16
بذلك، بقي دروز لبنان أبرز أهداف النّقمة العثمانيّة وخصوصاً زعيمهم الأوّل قرقماز بن معن، الذي وسّع نطاق سيطرته، على ما يبدو، ليشتمل على سنجق صفد، ونظراً إلى ذلك فقد صدر الأمر إلى والي طرابلس بتقديم العون إلى والي دمشق للتّخلص منه.17
إلّا أنّ الجهود لإنهاء التّمرّد الدّرزي استمرت في التّعثر، وبقي الدّروز في حالة من التّمرّد المعلن في كلّ ولايات بلاد الشّام التي يتواجدون فيها في الأعوام 1583 و 1584 و 1585.18 ومرّة أخرى نُظِر إلى قرقماز بن معن على أنّه أكثر زعماء الدّروز خطراً و إلى الدّروز إجمالاً على أنّهم أكثر الجماعات تمرّداً، وطُلب إلى والي دمشق وطرابلس أن يوحدا قواتهما لمحاربتهم.19
حملةُ الحسم
وفي عام 1585م إنطلقت حملة تأديبية عثمانيّة كبيرة ضدّ الدّروز بإمرّة القائد إبراهيم باشا الذي قاد القوّات التي تجمّعت من مختلف ولايات بلاد الشّام والأناضول. وكان حجم الحملة يدلّ على مدى خطورة الوضع، وعلى أن القوات العثمانيّة الموجودة في ولايات بلاد الشّام لم تكن قادرة وحدها على القيام بما هو مطلوب.
وحسب مؤرّخ محلي فإنّ وقع هذا العرض الجبّار للقوّة العثمانيّة على السّكان المحليّين كان بالغاً لدرجة أن “ارتعب منه كلّ بلاد العرب”.20 وحسب المصادر والوثائق العثمانيّة، ومثلها العربية، كانت العمليّة العسكريّة ناجحة. إذ تمكّن إبراهيم باشا من تجريد الدّروز من السّلاح، وصادر آلاف البنادق، بالإضافة إلى الكثير من الأسلحة الأخرى، كما جمع مبالغ كبيرة من المال- التي يرجّح أن تكون ضرائب متأخّرة.21 ويبدو أن الحملة العثمانيّة الهائلة حققت أغراضها في فرض وضع حدّ للتمرد وفرض هيبة الدولة، يدلّ على ذلك غياب أيّ إشارة في الوثائق العثمانيّة والمصادر المحليّة إلى قيام الدّروز بأيّ اضطرابات أخرى حتى القرن السّابع عشر.
يلاحظ المؤرّخ أبو حسين بإستغراب أنّ المصادر المتوفّرة حول شؤون بلاد الشّام والدّروز لا تغطي أحداث تلك الحقبة المهمّة من الصّراع العثمانيّ – الدّرزي المبكّر مضيفاً: ”إنّ المصادر التي يمكن وصفها بـ”اللبنانيّة” لا تأتي حتى على ذكر تلك الحوادث وتصمت صمتاً كاملاً ومثيراً للرّيبة عن الشّؤون الدّرزيّة منذ بداية الفتح العثمانيّ إلى عام 1585م، وهي الفترة التي شهدت تطوّرات مهمّة تدلّ على استمرار التّمرّد الدّرزي من جهة والرّد العثمانيّ القمعيّ عليه من جهة أخرى”.
يبدو أنّ الحملة العثمانيّة ضدّ الدّروز عام 1585م كانت آخر حملة في القرن السّادس عشر، إذ لا تذكر الوثائق العثمانيّة أو الكتابات المحليّة، أيّ تمرّد درزيّ أو أيّة أعمال إنتقامية عثمانيّة مضادّة. وكما أشرنا سابقاً، ربّما كان هذا الهدوء عائداً إلى نجاح الحملة العثمانيّة، وإلى الضّعف الذي اعترى البندقيّة كقوّة بحريّة وتجاريّة في البحر الأبيض المتوسط.22 هذا علاوة على أنّ العثمانيّين أتبعوا نصرهم العسكريّ بإجراءات إداريّة تضمّنت إنشاء ولاية الدّروز.23
ولكنّ “ولاية الدّروز” هذه لم تعمّر طويلاً. وعوضاً عن ذلك، نقل العثمانيّون سنجق صيدا-بيروت من التّابعيّة لسلطة ولاية دمشق إلى تابعيّة سلطة ولاية طرابلس وبالعكس مراراً. وقد اتُّخذ هذا الإجراء، في ما يبدو، أملاً في أن تصبح المنطقة تحت سيطرة أكثر حزماً وربما أكثر ولاءً.24 إلّا أنّ هذا الإجراء أيضاً لم يعمّر كما يظهر من الإنتقال المتكرر للسّنجق ولم يؤت الثمار المرجوّة، فقد تجدّد التّمرّد الدّرزيّ مع بداية القرن السّابع عشر، هذا القرن الذي سيشهد صعود فخر الدين الثاني وتوسيع سلطانه بصورة لم يحققها من قبل أي أمير محلي. لكن هذا الصعود المبهر للزّعيم الدّرزي ما لبث أن اصطدم بالحقائق السّياسيّة الأساسيّة وكلّفه في النهاية ملكه ثم حياته. ومنذ ذلك الوقت أصبح فخر الدّين بتأثير الرّوايات اللبنانية لتلك الفترة القلقة بطل الفكرة اللبنانية ومؤسّس الكيان اللبناني الذي تكرّس بإعلان الجنرال الفرنسي غورو في العام 1920.

البندفيقة في مطلع القرن السابع عشر قوة تجارية كبرى لكن سيطرة العثمانيين على موانئ شرق المتوسط وجهت ضربة قويه لمصالحها
البندفيقة في مطلع القرن السابع عشر قوة تجارية كبرى لكن سيطرة العثمانيين على موانئ شرق المتوسط وجهت ضربة قويه لمصالحها

بناء على ملخص هذا البحث المهم لأحد أبرز مؤرّخي الحقبة العثمانية في لبنان وسوريا يمكن الخروج بنتائج جديّة ومهمة تقلب الكثير من المسلّمات والأفكار المتداولة بين كتّاب التاريخ اللّبنانيّ ولاسيّما التأريخ المارونيّ للبنان: ومن أهمّ هذه النتائج:
1. إنّ العنصر الحاسم تاريخيّاً في تشكّل فكرة لبنان كما تبلورت في أواسط القرن التّاسع عشر ومطلع العشرين ليس أيّ “مقاومة لبنانيّة” فلا يوجد أيّ دليل تاريخي على حدوثها بل “التمرّد الدّرزيّ الطّويل” على العثمانيّين والذي بدأ بعد سنتين من دخول السّلطان سليم الأوّل واستمر حتى نهاية العهد المعنيّ، إذ ساهمت نزعة الدّروز الاستقلاليّة عن العثمانيين وتمسّكهم بحماية وضعهم الخاص بما في ذلك حقهم في امتلاك السلاح ومقاومتهم للضّرائب والولاة العثمانيّين فضلاً عن وعورة مناطق تواجدهم وكفاءتهم القتالية، ساهم كل ذلك في إنتاج إحدى الإمارات القليلة التي لم تكن ولاية عثمانيّة محكومة مباشرة من السلطنة وغذّت بالتالي ديناميكيّة سياسيّة ومجتمعيّة كانت فكرة الكيان اللبناني إحدى ثمارها الطبيعيّة.
2. إنّ التّمرّد الدّرزيّ ضدّ العثمانيّين حتى عام 1633م، وربما حتى النّهاية في 1697، كان يستفيد إلى حد كبير من المخطّطات الأوروبيّة السّياسيّة والتجاريّة والدينيّة المرسومة لبلاد الشّام، وقد تصدّت البندقيّة لأخذ زمام القيادة في هذه المخطّطات الأوروبيّة في المرحلة الأولى للتمرّد خلال القرن السّادس عشر. أمّا في المرحلة الثّانية في القرن السّابع عشر، فقد حلّت قوى حديثة الصّعود كتوسكانا محلّ الدّول الكبرى، كالبندقيّة، لا كمجرد قوى قرصنة في شرق البحر الأبيض المتوسّط كما أشار بروديل،25 بل إلى ما هو أكبر من ذلك، كصاحبة مشاريع أكثر جرأة وطموحاً، كما تشير إلى ذلك حالات التّمرّد التي قام بها علي جانبولاد والأمراء المعنيون.
3. أمّا على المستوى المحلّي، فقد أتاح هذا التّمرّد الطّويل الفرصة لتأسيس إمارة الشّهابيين السّنّة، التي كانت تدبيراً اتُّخذ بمبادرة درزيّة ووجد العثمانيّون-الذين تخلّصوا في النّهاية من المعنيين – فيه مصلحة لهم، خاصّة حيث تضاءلت مقدرتهم على الإكراه وفرض الطّاعة بشكل ملحوظ، ليس فقط بسبب “التّمرّد الطّويل” السّابق الذّكر، ولكن أيضاً بسبب حربهم المستمرّة على الجبهة النّمساوية وهزيمتهم فيها. وقد أعطى هذا التّدبير الذي شمل أواسط جبل لبنان وجنوبه، من عام 1697 حتى عام 1841م لهذا الكيان طابع “الإمارة” الوراثيّة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشّهابيين يتحدّرون من السّلالة المعنيّة عن طريق النّساء؛ ذلك أنّ السّلالة المعنيّة، عن طريق الذّكور، قد انقرضت بوفاة أحمد بن معن 1697م دون أبناء.26
4. هذا التّطوّر السّياسيّ الهامّ ما كان ليحدث لولا “التّمرّد الطّويل” الذي صنع “للبنان” و “اللبنانيين” بطلهم الوطنيّ، وسلالتهم المؤسّسة. وهكذا فإنّه بالرّغم من الخلافات الجذريّة العميقة بين المؤرّخين اللبنانيّين التي أشرنا إليها أعلاه في ما يتّصل بطبيعة لبنان وتاريخيته، وفي سياق المرحلة العثمانيّة، فقد تبلور لدى هؤلاء المؤرّخين موقف مشترك يقف من فخر الدّين المعنيّ (توفيّ 1635) موقف إجلال، وكذلك من أفراد آخرين من السّلالة المعنيّة كأبطال مؤسّسين لشيء ما. بالنّسبة للقوميين العرب فإنّ ظاهرة فخر الدّين كانت تعبيراً مبكّراً عن القوميّة العربيّة، حيث مثّلت صداماته مع الدّولة العثمانيّة انتفاضات قوميّة عربيّة ضدّ الطّغيان التّركيّ. أمّا بالنّسبة للقائلين بخصوصيّة لبنان، فإنّ فخر الدّين هذا في حدّ ذاته بطل قوميّ لبنانيّ حارب الأتراك كما فعل أسلافه من قبله. وبالنّسبة للبنانيّين خصوصاً، فقد كان فخر الدّين هذا بطلاً وطنيّاً يحارب التّرك، كما فعل السّلف من قبله، وكما سيفعل الخلف من بعده. إلّا أنّ فخر الدّين يتميّز عن سلفه وخلفه، في النّظرة إليه، كمؤسّس للبنان الحديث. وقد اتّخذت وجهة النّظر الثّانية هذه صبغة شبه رسميّة – إن لم تكن رسميّة- في لبنان. ذلك أنّ هذا ما يرد في الكتب المدرسيّة اللّبنانيّة في المراحل الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة في كافّة أنحاء البلاد.
5. ويمكن القول إنّ المعنيين كسلالة احتلّوا -عموماَ- مرتبة الشّرف في الرّواية الوطنيّة اللبنانيّة. فهم إمّا أبطال النّضال ضدّ العثمانيّين، أو ضحايا ظلمهم ومزاجيّتهم أو كلا الأمرين معاً. فهذه هي الصّورة التي تقدّمها الأعمال البحثيّة، والكتب المدرسيّة، وأكثر أشكال التّعبير التّاريخيّة شعبيّة، مثل المقالات الصّحفيّة والمسرحيّات والأفلام.. إلخ تجمع على هذه الرّواية القوميّة لـ “تاريخ لبنان” في المرحلة العثمانيّة كما تمّ شرحها أعلاه. كانت كتب التّاريخ التي تُدرّس في المدارس اللبنانيّة، وما زالت، إحدى نقاط الخلاف الكثيرة بين مختلف القادة السّياسيين، أو الدّينيين، أو كليهما معاً. وقد حصل الإجماع في اتفاق الطّائف الذي وضع حدّاً للحرب الأهليّة الأخيرة على تشكيل لجنة تمثّل كلّ الأطراف للنّظر في التّاريخ في المنهاج المدرسيّ، وذلك لإعادة كتابته ليكون مقبولاً لدى جميع الأطراف، ولتنمية الشّعور بالإنتماء إلى لبنان ليحلّ هذا الشّعور محلّ الانتماءات الطّائفية، إلّا أنّ كافّة الجهود في هذا الاتجاه لم تثمر حتى الآن وما زالتّ الرّواية القوميّة المتعلّقة بفخر الدّين والمعنيّين الجزء الوحيد من رواية اللّبنانيّين لتاريخهم، التي مازالت تلقى شبه إجماع. دَعونا نتفحّص كيف قدّمت هذه الرّواية القوميّة، وكيف جرى بناؤها.
في العدد القادم : فخرُ الدّين المعنيّ

الهوامش

1. الاستثناء الهام الوحيد لذلك هو الدور الذي لعبه فخر الدين والذي يعتبره المؤرخون اللبنانيون والعرب صفحة مجيدة في مقاومة الطغيان العثماني.
2. حول الدويهي كمؤرخ لبلاد الشام العثمانية ومحاباته للمعنيين انظر A. Abu-Husayn, “Duwayhi as a Historian of Ottoman Syria”, Bulletin of the Royal Institute for Inter-Faith Studies 1, no. 1 (Spring 1999), 1-13; A. Abu-Husayn, “The Korkmaz Question: A Maronite Historian’s Plea for Ma‘nid Legitimacy”, Al-Abhath 34 (1986), 3-11.
3. دفتر المهمة العثماني (يرد في ما بعد د. م.) 26، رقم 101 بتاريخ حزيران 1546.
4. د. م. 5 رقم 565.
5. د. م. 5 رقم 1091، بتاريخ 1564- 1565 ؛ التشديد مضاف
6. د. م. 5 رقم 488 بتاريخ 28 اب 1574.
7. د. م. 42 رقم 273 بتاريخ 25 تموز 1581، د. م. 49 رقم 443 بتاريخ 10 تموز 1583.
8. الأمين (Emin) هو الموظف المكلف بتحصيل الضريبة لقاء راتب.
9. د. م. 29 رقم 70 بتاريخ 16 كانون الأول 1576.
10. د. م. 27 رقم 70 بتاريخ 23 شباط 1576.
11. د. م. 5 رقم 614 بتاريخ 18 أيلول 1576.
12. بقي فخر الدين، حتى أيامه الأخيرة في بلاد الشام حجر الزاوية في المشاريع الكاثوليكية لاحتلال جزيرة قبرص والأراضي المقدسة. استمر البابا والدوق الأكبر لتوسكانا في التفكير بهذه المشاريع حتى عام 1633 قبيل القاء القبض على فخر الدين، ففي احدى رسائله الى فخر الدين يتوجه اليه البابا كحفيد لـ Godefroy de Bouillon ويعبر عن أمله بأن فخر الدين سيعود في النهاية الى ديانة أجداده العظام، انظر بولس قر ألي فخر الدين المعني الثاني: حاكم لبنان ودولة توسكانا، بيروت 1992 (يرد في ما بعد قر ألي)، 272، 349-350. وقد عبر عدد من مبعوثي الباباوات والحكام الزمنيين عن هذه النظرة الى فخر الدين ففي رسالة وجهها فخر الدين الى السفير الفرنسي لدى البلاط الباباوي أثناء اقامة الأول في ايطاليا يدعي فيها أن عائلته تتحدر من القائد الصليبي Godefroy de Bouillon.
13. انظر A. Abu-Husayn, Provincial Leaderships in Syria, 1575-1650 (Beirut, 1985), 68-69; hereafter, Abu-Husayn, Provincial.
14. إعلام، 241.
15. د. م. 46 رقم 30 ب بتاريخ 1581- 1582.
16. د. م. 46 رقم 518 بتاريخ 1581- 1582.
17. د. م. 46 رقم 30 ب بتاريخ 1581- 1582.
18. د. م. 49 رقم 110 بتاريخ 27 نيسان 1583، د. م. 52 رقم 969 بتاريخ 26 نيسان 1584، د. م. 53 رقم 724 بتاريخ 12 شباط 1585، د. م.. 58 رقم 635 بتاريخ 31 آب 1585.
19. د. م. 53 رقم 724 بتاريخ 12 شباط 1585.
20. أسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، حرره الأب فردينان توتل بيروت 1951، 284؛ يرد في ما بعد الدويهي.
21. د. م. 58 رقم 636 بتاريخ أواخر آب الى أوائل أيلول 1585؛ الحسن البوريني، تراجم الأعيان من أبناء الزمان، حرره صلاح الدين المنجد (دمشق 1959- 1963) يرد في ما بعد البوريني، الجزء الأول، 324. G. Minadoi, Historia Della Guerra fra Turchi e Persiani (Venice, 1594) (hereafter, Minadoi), 295; M. Selaniki, Tarihi Selaniki (Istanbul, 1281 H), 194. صدرت طبعة من هذا العمل محررة باللغة التركية الحديثة. البطريرك والمؤرخ الماروني الدويهي يشرح أن سبب هذه الحملة هو حادثة نهب الخزينة المصرية التي حصلت في شمال الساحل اللبناني ويضيف بأن قرقماز بن معن والدروز قد اتهموا زوراً بالمسؤولية عن هذه الحادثة. كما إنه يضيف أن ابراهيم باشا قد قتل، خلال هذه الحملة ما لا يقل عن خمسمائة من المشايخ الدروز. للمزيد من التفاصيل حول هذه الحملة انظرA. Abu-Husayn, “The Ottoman Invasion of the Shuf in 1585: A Reconsideration”, Al-Abhath 33 (1985), 13-21.
22. حول ذلك أنظر Alberto Teneti, Piracy and the Decline of Venice, 1580-1615 (Berkeley and Los Angeles, 1967), xii-xiv.
23. د. م. 50 رقم 123، بتاريخ 1585.
24. حول هذا الانتقال المتكرر بين سنجق صيدا- بيروت وولايتي طرابلس ودمشق انظر Abu-Husayn, “Problems.”
25. Braudel, 865.
26. حول خلافة آل شهاب، انظر For a detailed discussion of the Shihab succession, see A. Abu-Husayn, “The Shihab Succession: A Reconsideration”, Archive Orientalni, Supplementa VIII, 1998, 9-16.

 

شبعا واعرقوب

شبعا والعرقوب شُركاءُ جِهاد
وأخـوةٌ مُتَلاحمون في المُلِمّات

تْربّيْنـــا على قِــصَص بطــولات المجاهــدين في جبـــل العــرب
وقهــــرنا معــاً شبَــح المجاعــة في الحــرب العالميّــة الأولــى

إقتداء بالأخ الصّديق الأستاذ الشيخ غالب سليقة الكاتب والباحث في شؤون وادي التّيم ومآثرها وقِيَمها ودور رجالها، والمنقّب عن تراثها الأخلاقي والإنساني، آثرتُ أن تتركّز هذه العُجالة على مواقف ومآثر الأجداد والآباء في جبل الشّيخ “حرَمون” لا سيّما في الأيّام الصّعاب والأحداث الأليمة وكيف تمّت مواجهتها بروح عالية ومواقف موحّدة لإجهاض المخطّطات التي يعتمدها كلّ محتل، لاسيّما تغذية الانقسام وإشعال روح التعصّب الطائفيّة والمذهبيّة ونشر الأحقاد التي لا ينتج عنها إلا الخراب والدّمار. وقد كان لتلك المواقف الموحّدة لأجدادنا أثرها البالغ في الحفاظ على الجميع وتحقيق الانتصارات الباهرة على كلّ غاصب محتلّ وعدوٍّ آثم.
لقد تَربّيت في بيت له اهتماماته بالجوار وعلاقاته الوثيقة بأهالي القرى المجاورة، وقلّما خلت سهرة أو جلسة من الحديث عن مآثر وبطولات وشهامة الرّجال ومواقفهم في المناطق المحيطة الأقربين والأبعدين من جبل العرب إلى الإقليم، ومن حوران إلى الجولان، ومن الحولة إلى وادي التيم. وقد تأثّرت أكثر ما تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبٌّ لهم، وتعلّق بقيمهم واقتداء بأخلاقهم وسجاياهم، وكلّها تؤكد على أهمّية التّفاعل الإنسانيّ والحفاظ على الجوار والتّعاون لما فيه خير الجميع، وكلّما مرّ حدث خطر كان الموقف الواحد هو السّلاح الأمضى. ففي الثّورات المتلاحقة ضدّ المستعمر الإفرنسي، في مطلع العشرينيّات من القرن الماضي، والتي توّجتها الثّورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش وما تبعها وسبقها من أحداث. وخلال ثورة 1958، وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ واعتداءاته المتكرّرة كانت المواقف واحدة والأيادي متشابكة لاسيّما الأحداث التي تعصف اليوم في الشّقيقة سوريا، أكّدت أنّ شبعا والعرقوب هما شركاء جهاد ورفاق نضال لبني معروف في حاصبيّا وراشيّا والإقليم والجولان، وهما كالبنيان المرصوص.
لن أتوقّف عند الأحداث التّاريخيّة ومجرياتها التي أتركها لأربابها، وهم كُثُر، ولكن سأتحدّث عن بعض المواقف المسؤولة التي تنمّ عن رجولة وكبرياء وكرامة وأخلاق عالية ومسؤوليّة وطنيّة وروح عربيّة بكلّ ما تعني هذه الكلمات.

تتزاحم الرّوايات والقصص والتي تحتاج إلى مصنّفات، لكنّني سأتوقّف عند بعضها والتي كانت تتكرر مرّات ومرّات في بيتنا لما فيها من عبر ودروس يلقّنها الكبار للصّغار لتكون لهم زادٌ في مشوار الحياة الطّويل والآتي من الأيّام الصّعبة.
فالحديث عن سلطان باشا الأطرش وثورته، وجبل العرب وبأس رجاله، وفؤاد باشا سليم والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وسعيد طليع وغيرهم من كبار قادة الثّورات العربيّة المتلاحقة يطول الحديث ويتشعّب ويشمل المقلب الشرقيّ لجبل الشّيخ بدءاً من عرنة آل كبول، وحضر آل حسّون وآل الطويل، إلى مجدل شمس أبو صالح معقل الثّوار ومرقد الشّهيد فؤاد سليم، إلى عين قنيا الشّعلان كما يسمونها العرب.
تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبّ لهم، وتعلّق بقيَمهم واقتداء بأخلاقهم وسجــــاياهم.
كثيرون يعرفون أو سمعوا عن الثّورة السّوريّة الكبرى، وحفظوا عن ظهر قلب نداء سلطان باشا الأطرش الذي أصبح نداء كلّ مخلص يثور في وجه ظالم، وعن بطولات بني معروف وشجاعتهم وتضحياتهم التي حقّقت الانتصار بوسائل بدائيّة وأعتدة قليلة على جيش دولة عُظمى وقد وصفها المؤرّخ محي الدّين السفرجلاني “لقد محا بنو معروف بأفاعيلهم هذه أعاجيب الأساطير الأولى”، وقد روى شاهد عيان أنّ كثيراً ما كان البطل الدّرزي يشطر الفرنسيّ بضربة سيف.
ولكن قلّة قليلة هي التي تعرف مواقف سلطان الإنسانيّة إبّان الثورات وشهامته وعزّة نفسه التي كان يرويها والدي: كانت تأتي المعونات والمساعدات والدّعم من الأردن وفلسطين إلى الجبل على ظهور الجمال، فكان سلطان يشرف على توزيعها على الجميع لا سيّما من كانت حالتهم الماديّة ضعيفة، ولم يسمح بإدخال شيء إلى داره، وكان والدي يسأله قائلاً: “يا باشا إنّك تتحمّل الكثير، فلماذا لا تدخل إلى دارك أي شيء من الدّعم والمَعونات؟”، فكان يجيب “أنا أتحمّل ولكن يجب أن ندعم الجميع”. هذه هي أخلاق القادة الكبار. أمّا الحديث عن سعيد طليع فكان يردّد بيتين من الشعر خاطب بها فرنسا قائلاً :
يــــــــــــــا فَـــــــــرَنسا لا تُغالـــــــــــــــــي فتقولي: الفتـــحُ طابْ
ســــــوف تــــأتيك الليالي نـــــــورُهـــــــــــــا لَمـــــــــــــْــع الحِـــــراب
أمّا عن المجدل فهي بلدٌ للأبطال ومرقد الثّائر الكبير فؤاد باشا سليم، إذ يختم أحمد الخطيب مذكّراته، بعد أن منعه المستشار الفرنسيّ من مغادرة شبعا والالتحاق بأحمد مريود في العراق، قال المستشار الفرنسيّ: “لا يمكنك أن تسافر وعليك أن تثبت وجودك دائماً، وقد وُضعت تحت المراقبة”.
وفي نهاية الصّيف وصلت بوادر الثّورة إلى حاصبيّا ومرجعيون وراشيا الوادي، وقد تأثّرت الثّورة بعد استشهاد فؤاد سليم قرب بركة رام التّابعة لمجدل شمس، وقد كان من كبار رجال الثّورات العربيّة، وقد تمكّن أحمد الخطيب من زيارة ضريحه ليلاً وقرأ الفاتحة، ورغم فرض الإقامة الجبريّة عليه، والحديث يطول عن دور العرقوب ووادي التّيم في تلك الثّورة.
لقد تعاون أبناء شبعا في تجارة القمح مع عرنة وبيت جنّ وحضر وجباتا والمجدل تعاوناً وثيقاً فكان لكلّ شبعاوي بيت في كلّ قرية، وكذلك كانت بيوت أبناء شبعا مفتوحة لهؤلاء، وفي كلّ بقعة من بقاع جبل الشّيخ ألف قصّة من قِصص البطولة والجهاد من أجل حياة كريمة لا سيّما في الصّراع مع رجال السّلطات المستعمرة التي كانت تمنع البيع والشّراء أيّام الحروب، وتحتكر الإنتاج لجيوشها. لكن أبناء شبعا والمجدل كسروا الاحتكار وأمّنوا القمح لجبل لبنان خلال الحرب وقد تحدّث عن ذلك الأديب الكبير سعيد تقيّ الدين تحت عنوان “أبطال أكارون” قائلاً: هل حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم وينشدون الأغاني في أبطالهم تراهم لا ينشرون إلّا صفحة مجيدة يجب أن تكون من ألمع صفحاتها أبطال أكارون أطعموا جياع لبنان في زمن الحرب حين سوّر الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود يمنعون الغلال والقوت، إذ ذاك نهض في جنوب لبنان فِتيان وكهول تزنّروا بالرصاص وشدّوا على الدواب وراحوا يتسلّقون الجبال فإذا بلغوا حوران بعد جهد أربع ليال رجعوا إلى لبنان بالحِنطة وزغردت أجراس بغالهم منشدة “لا جوع في لبنان ونحن صِبيانه”. إنّها قِصص بطولة مَجد حقيقيّة لا يهتمّ بها مسؤول ولا يعيرها حاكم اعتباراً بل ربّما كانت الملاحقة من نصيبهم.
فتحيّة لهؤلاء الأبطال، أطعَموا الجائع وحاربوا شبح الموت عندما خيّم فوق كلّ منزل. إنّهم الأبطال والشّجعان ورجال الوطن والوطنيّة.

مجلة “الضحى” تتوجه بالشكر والتقدير للأستاذ منيف الخطيب على هذه المساهمة القيمة في الإضاءة على علاقات المودة والمحبة والاحترام التي سادت وما زالت منطقة حاصبيا مرجعيون والتي نعتبرها نموذجاً يُقتدى به في جميع أنحاء لبنان .

(رسالة شُكرٍ
بسمِ الله الرّحمن الرّحيم

مجلّة “الضحى” الزاهرة
جانب رئيس التّحرير الموقّر
تحيّة طيّبة وتقدير جزيل..
“الضّحى” أصبحت رسالة العصر في مواضيعها العلميّة والأدبيّة والثّقافية والتّاريخيّة والصحيّة وغيرها.
وأوَدّ أن أنوِّه بصورة خاصة بالمؤرخ الشّيخ غالب سليقة وذلك لجهده المتواصل في التّعريف بالتراث الثقافيّ والأدبيّ لوادي التّيم المجيد.
مع الشّكر القائم الدائم لحضرتكم لعطائكم الجزيل في خدمة الطّائفة عبر هذه المجلّة المحترمة النزيهة والتي أثبتت في مناخات الاختلاف والتباينات أنها حرة وللجميع.
أدامكم الله وسدّد خطاكم على هذا النّهج السّويّ الصّحيح إنّه سميعٌ مُجيب.
حاصبيّا في 1 كانون أول 2016
حسين رعد)

قرية الكفر

قرية الكَفْـــر

كــانت منتجعــاًلمتقاعــــدي الجيــــش الرومانــي
وأعاد المعروفيون إعمارها في القرن التاسع عشر

الزراعــــة والاغتـــــــــراب أكبــــــــر مصــــدرين للعيــــش
وإنتــــاج الكرمــــة %30 من كــــــامل إنتــــــــاج الجبــــل

خلفية تاريخية
يعود إسم القرية الأولى لعدّة احتمالات، وكلمة “الكفر” من معانيها: كَفرَ الشيء : ستره، والكفر: الأرض البعيدة عن الناس، وتعني أيضاً: القرية، وهي من كفرا بالسّريانية ومعناها قرية أو مزرعة أو حقل، وتعتبر السّريانية من أمّهات اللغة العربيّة، والكَفر من الجبال: العظيم، وجمع الكَفر: كُفور.
ويمكن القول إنّ الكفر النّبطيّة واكبت من حيث زمن عمرانها إعمار صلخد وقنوات وسيع بدليل أنّه “عُثر في صلخد على كتابة نَبطيّة دينيّة موجّهة إلى (اللات) آلهة الخصب، وعثر في سفح تل القليب على هيكل نبطي للإله ذي الشّراة، وكذلك في سيع قرب قنوات حيث معبد الرب بعل شامين، وهذه آثار يعود قسم منها إلى السنوات الأخيرة قبل الميلاد وبعضها إلى القرن الأول الميلادي”1. وبهذا نستنتج أنّ العمران الأوّل في بلدة الكفر الحالية يعود لأكثر من ألفي عام، كما وجدت في تل القليب كهوف طبيعية ومغارة نَبطيّة لكن لم يبق من آثارها الكثير. وتحتوي القرية الأولى وما حولها على آثار مساكن وحصون في موقع تل الظّْهِيْر تعود إلى العصر الحجري استناداً إلى ما ورد في كتاب “السّويداء بين الزمان والمكان”.
كانت الكفر محاطة بسور وأربعة أبواب من الحلس كلّ منها بدرفتين من الحجر البازلتيّ لم تزل بعض آثارها ماثلة للعيان. هذا، إلى جانب منحوتات كثيرة محفوظة في متحف السّويداء، بالإضافة إلى عدّة كنائس أهمّها كنيسة القدّيس جورج، وآثار البلدة تشير إلى أنّها عرفت تتابع العمران في العصر اليونانيّ والرومانيّ والإسلاميّ، ولكنها تعرّضت للخراب على أثر الغزو المغولي في القرن الثّالث عشر الميلادي كسائر حواضر جبل حوران. وعندما زارها الرّحالة بيركهاردت في عام 1810 منذ مطلع القرن التاسع عشر كانت قرية يرين عليها الخراب. يقول الأستاذ سلامة عبيد في ترجمته لرحلة بيركهاردت إلى المنطقة:”ويتابع (أي بيركهاردت) طريقه إلى الكفر، حيث يتغدّى في كنيستها بعض طيور القطا التي اصطادها رفاقه ولا يذكر أنّها كانت مسكونة”. وفي ص28 ما يشير إلى أنّ الكفر على الرّغم من خرابها كانت تتضمن أبراجاً أثريّة ما يدلّ على أنها شهدت عمراناً ذا شأن في عصور سالفة، إلاّ أن إعادة إعمارها الأخير على أيدي بني معروف يعود لما بعد أواسط القرن التّاسع عشر.
ويذكر مثقّفون وكتّاب معاصرون من أبناء الكفر، وهم مهتمون بتاريخ بلدتهم، أنّ تلك البلدة كانت في العصر الروماني قرية يقطنها المتقاعدون من الجيش والموظفين الذين يؤثرون الحياة الوادعة فيها.
ولا بدّ أنّ هواء الكفر النّقي وهي البلدة المجاورة لحرج تاريخي2 وصيفها اللطيف جعلا منها مقصداً لآلاف الزّوّار والسّيّاح الذين يقصدون الحرج خاصة منطقة المطار الزّراعي على أقدام سفح تل القليب.
وعلى أرض الكَفر جرت باكورة معارك الثّورة السّورية الكبرى وأولى انتصاراتها على الفرنسيين، وقد شُيّدت حديقة الشّهداء الحاليّة في المكان الذي دارت فيه تلك المعركة حيث اختلطت دماء الشهداء بتراب تلك الأرض ممّا جعلها معلماً سياحياً وتاريخياً بارزاً. (راجع : معركة الكفر)

بيت قديم في الكفر
بيت قديم في الكفر

الموقع والمساحة
تقع الكفر على مسافة اثني عشَرَ كيلومتراً جنوب شرقي السّويداء على الطريق الواصلة إلى مدينة صلخد، ويتدرّج ارتفاع مجمل أراضي البلدة من 1300م حتى ارتفاع 1,650 م فوق سطح البحر، ويبلغ المعدل السنوي لتساقطات الأمطار فيها نحو 450 مم .
هذا، ويبلغ ارتفاع القرية القديمة 1,360م فوق سطح البحر، أما عدد السكّان الحاليّين فيزيد على 12,000 نسمة، كما ويساهم مال

الاغتراب بأكبر نسبة من عمرانها إذ يصل عدد مغتربي البلدة إلى ما ينوف على 1,700 مغترب، يتوزّعون بين دول الخليج وأوروبا وأمريكا وغيرها من بلدان الاغتراب.
يتوزع عمران البلدة على أربع تلال أشهرها تل القليب الذي يعتبره كثيرون أعظم من أن يوصف بـ “تل”، فهو يرمز إلى شموخ القرية بل وسائر جبل حوران، وفي ذلك يقول الشاعر عيسى عصفور وهو المسيحي الأرثوذكسي ابن قرية أم الرّمّان، متوجّساً من ابتعاد أهل هذا الزمان عن القيم الأصيلة للآباء والأجداد:
خايفْ على القْليبْ يِغْدي تَلّهْ
من بعدْ ما هُوْ عَ النَّوابيْ نايف
هذا، وتبلغ مساحة السكن في البلدة 512 هكتاراً وفقاً للمخطط التّنظيمي المعتمد من البلدية، وتبلغ أطوال شوارعها المعبّدة 35 كلم، ومساكنها كافة مزوّدة بمياه الشّرب بنسبة 100% أمّا من حيث الصرف الصحّي فتبلغ نسبة المساكن المغطاة 85%.وفي البلدة أكثر من عشرين عيادة لأطباء متنوعي الاختصاصات و6 صيدليّات و 250 محلّاً تجاريّاً وعدد من مؤسسات الحرف المختلفة.

الوضع الزراعي في الكفر
تبلغ المساحة العقارية للبلدة والأراضي الزّراعية التابعة لها 2514 هكتاراً، منها 271 هكتاراً عبارة عن حرش معظم أشجاره من السنديان والبلّوط المعمرة التي تربو على المئات من السنين، وفيما عدا ذلك تنتشر في البلدة زراعة الكرمة على مساحة 1,200هكتار، والتفاح على مساحة 600 هكتار، والتّين والإجّاص والجنارك والكرز والدرّاق والسفرجل والخوخ واللوز والرمّان والتوت الشامي كزراعات إضافية، وقد دخلت إلى البلدة منذ عقود زراعة الزيتون وهي زراعة دخيلة، إذ إنّ الارتفاع لأكثر من 900م فوق سطح البحر لا يخدم شجرة الزيتون، وكذلك فإنّ موسم الثلوج يضر بأغصانها لكن قيمة ثمار الزّيتون وزيتها يشجعان المزارعين على المجازفة بزرعها.
ويبلغ إنتاج البلدة وسطيّاً نحو 6,000 طن من العنب على اختلاف أنواعه، يذهب منه نحو 5,000 طن للعصير، وتصل مساهمة الكفر من حيث إنتاجها للعنب إلى نحو 30% من إجمالي إنتاج الجبل بشكل عام وهم يصنعون الزّبيب الجيد والدبس المعروف بنوعيته العالية.
كما يبلغ إنتاج البلدة من التّفاح نحو 8,000 طن، والزّيتون 4,000 طن.
ويفيد الأستاذ أنور الجوهري رئيس وحدة الإرشاد الزراعي في البلدة أنّه بعد أن كانت الأرض تُحرث بواسطة البغال والثّيران فقد حلّت الآلة محلّها ممثّلة بالجرّارات والعزّاقات ولم يبق من حيوانات الحراثة سوى 10 خيول و30 بغلاً.
وعلى هامش الزّراعة، يعمل العديد من الأسر على تربية الأبقار الحلوبة وعددها 80 رأساً، ودجاج بلدي 3,500 طائر، بالإضافة إلى60 خلية نحل، و100 غرفة لتربية طيور الرّاماج بهدف بيعها لتجّار يذهبون بها إلى التّصدير للخارج. وكانت تلك عملية مجزية غير إنّ الأحداث السّورية وتوقّف التصدير الذي كان بمعظمه يتمّ عن طريق حلب ينذر بخسائر فادحة للمربّين.

تربية طيور الراماج مصدر دخل أثرت عليه الأحداث الأمنية
تربية طيور الراماج مصدر دخل أثرت عليه الأحداث الأمنية

تاريخ إعمار القرية
ظلّت الكفر على غناها بالمياه والينابيع خَربة لفترة طويلة في الوقت الذي أحييت فيه وأعيدت إلى العمران القرى المجاورة لها، وذلك يعود لطبيعة أراضيها الوعرة، لكن ساكني الكفر تمكنوا من استصلاح معظم تلك الأراضي يدويّاً.
ومن ينابيع البلدة المهمة نبع عين موسى، ويروي المعمرون أنّه كان عليها بناء أثري يسمّونه “القصر” وهو في حقيقته كان معبداً لإلهة المياه في العصور الوثنيّة، وعين العلّيقة وعين الرّصفة ونبع المنسلطة وعين خْريم وعين السخنة وهاتان تغوران في فصل الرّبيع، يضاف إلى ذلك ينابيع لا تظهر إلاّ في السنوات الغزيرة الأمطار.
وإلى وقت قريب، كان سكّان الكفر يستمدّون مياههم من نبعي عين موسى وعين العلّيقة ولكنّ نمو سكان البلدة وتوافد قاطنين جدد إليها تسبّبا بأزمة مياه قادت إلى مساعدة من قبل إحدى منظمات الأمم المتحدة التي أمدّت البلدة بخزّانات تمّ توزيعها في أحياء الكفر للحَدّ من أزمة الاحتياج للمياه.
وفي البلدة مدرّج كبير للمناسبات العامّة من أفراح وأتراح أنشئ بمساهمة كريمة من مغتربي وأهالي البلدة.
ويطمح مواطنو الكفر لإنشاء سوق هال محلّيّة تستفيد منها بلدتهم والقرى المجاورة لتسويق الإنتاج الزّراعي من عنب وتفاح وغيرهما من المنتجات المحلّية هذا بالترافق مع إنشاء منطقة صناعيّة لمجموعة قرى السفح الجنوبي الأعلى من الجبل وهي قرى الكفر ومياماس والسهوة وحبران.

سكنى الموحدّين في الكفر
معظم العائلات التي اتّخذت الكفر سكناً لها تعود في أصولها إلى عائلات لبنانيّة، ويروي المعمرون بأنّ أوّل من سكن الكفر هو عبد الله مرشد الذي قدم إليها من قرية سهوة البلاطة، ومن عائلات الكفر، بالإضافة لآل مرشد، جمهرة آل حديفة ونكد وأبو عمر وآل سلّوم والشعّار وبدران وأبو حسن وخزعل وسابق والبراضعي وبركات ونصر الدين والبني وعبيد وحمدان وخضير وخير وسْعيد وعكوان والندّاف والنونو وقنديل والجوهري والصبّاغ وعدنان والحضوي والصفدي والسكّر والعسل وعدوان وكَحل وناصر وذبيان والحلبي والجرماني ومطرد والخطيب ويونس والعياش ومنذر وزين الدين وعبد السلام والنبواني وأمان الدين، وأبو سيف وملّاك والدّعبلّ.
ويقطن البلدة إلى جانب العائلات المعروفية نحو 400 نسمة غالبيتهم من عشيرة الشنابلة ويضاف إلى هؤلاء المواطنين الأصليين 170 أسرة من الوافدين إلى الكفر بسبب المحنة السورية قدموا من ريف دمشق وحلب وحمص ودرعا وإدلب وغيرها.

بيت جاد الله حديفة
بيت جاد الله حديفة

المؤسسات الخدميّة والدوائر الحكوميّة
في البلدة
في الكفر مجلس للعبادة خاص بالموحّدين المسلمين ومسجد للبدو السنّة، ومبنى خاص بدار البلديّة و 6 مدارس ابتدائية ومدرسة إعدادية واحدة بالإضافة إلى مدرسة ثانوية عامة ومدرسة مهنيّة ومدرسة ثانوية صناعيّة، وروضة أطفال تابعة للاتّحاد النّسائيّ و6 روضات أطفال خاصّة، ومركز صحّي يقوم بتقديم الخدمات الطبّية المجانية والمخبريّة للمواطنين من البلدة وخارجها، وشعبة لمنظمة الهلال الأحمر تقدّم الخدمات الطبيّة والمساعدات الخيريّة الإغاثيّة المنتظمة، ووحدة إرشاد زراعي، ومركز هاتف آلي ومركز ثقافي وجمعية خيرية وجمعية تعاونية فلّاحية.

حمد عامر

حَمَد عامر مجاهد الثّورتين

1875 ــ 1925

قاتل حملة الفاروقي وشارك في الثورة العربية
وخاض معارك الثورة السورية وسقط فيها شهيداً

رفض «هدية» الليرات الذهبية من الشريف حسين
والتقاه سلطان باشا لأول مرة في اجتماع مع الملك فيصل

نجا بأعجوبة من كمين تل الخروف وقاتل في المسيفرة
لكنه سقط وهو في الخمسين من العمر في معركة السويداء الثانية

الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر
أبّنه بالقول: فقدنا رجلاً لا تعادله الرجال

آلُ عامر في جبل حوران
لم يهنأ آل عامر طويلاً بعد قدومهم من إقليم جبل الشّيخ على أثر موقعة دامية جرت لهم في دير حِينَة في إقليم جبل الشّيخ، إذ اعتُدِي عليهم من قبل بعض الجيران، ومن ثمّ تمّت ملاحقتهم من قبل العثمانييّن الذين انحازوا للمعتدين تحت غطاء الانتماء المذهبيّ فأعدموا بعضهم ونجا آخرون منهم اضطرّوا للّجوء إلى جبل حوران نحو عام 1805، أما آل عامر فقد استقرّوا في شهبا وتمدّدوا إلى العديد من قُرى وادي اللّوى ونجحوا في تحقيق نوع من التّوازن بينهم وبين العشائر البدويّة التي كانت لا تقيم وزناً للزّراعة بسبب اعتمادها في رزقها على الرّعي والغزو.
المولدُ والنّشأة
في تلك البيئة القلقة والمُضطربة وُلد حمد عامر عام 1875م في عائلة تنتمي لكبار ملاّك الأراضي في المقرن الشّمالي من الجبل في قرية “البثينه” التي تقع إلى شمال شرقي مدينة شهبا بنحو عشرين كيلو متراً، ولنا أن نتصوّر العوامل التي أثّرت في تشكيل وعيه الوطني منذ بدايات شبابه الأولى، منها مثلاً توجّس السّلطات العثمانيّة من الموحّدين الذين شكّلوا مجتمعاً حَضَريّاً متماسكاً في جبل حوران الذي كان شبه مهجور لبعده النّسبيّ عن مركز الولاية في دمشق. كان ذلك المجتمع المترابط يمثّل عقبة يعسر على الولاة العثمانيين تطويعه بسهولة. وإلى الهاجس العثماني الدائم لاحتواء ذلك المجتمع النّامي في جبل حوران يشير سلطان باشا في كتاب “أحداث الثورة السّوريّة الكبرى” بالقول: لست أشكّ بأنّ لجوء الأمير سلطان بن الرّشيد إلى الجبل عام 1906 والاحتفاء به في مختلف قرى الشّمال والوسط والجنوب وخروج البيارق لحمايته والسّير في موكبه تحت سمع ممثّليّ السلطات التّركيّة وبصرهم قد أثار غضب ولاة الأمور في دمشق والآستانة ثم جاءت حادثة غزو المعجل في ضْمِير كل هذا زاد من حقد الأتراك وأعوانهم وتربّصهم بنا وجعلهم يحسبون لتلك المظاهر المسلّحة ألف حساب لما قد تثير من حماسة أحرار العرب في الأقطار المجاورة وتساعد على تقوية حركتهم القوميّة الناشئة وقتذاك، لذلك لجأوا إلى أسلوبهم التقليديّ المعروف في إثارة الأحقاد الدّينيّة في منطقتنا واستغلال الحوادث العاديّة التي كانت تقع بيننا وبين جيراننا الحوارنة لتبرير الحملات العسكريّة الكبيرة التي كانوا يجرّدونها علينا بقصد إخضاعنا لأنظمتهم الفاسدة وقوانينهم الجائرة في غفلة من ضمائر أخواننا العرب في كل مكان”.

المجاهد-حمد-عامر
المجاهد-حمد-عامر

عضو في “العربيّة الفتاة”
يشير سعيد الصّغير في كتابه”بنو معروف في التّاريخ” ص477 إلى أنّه في عام 1909 ألّف مجموعة من الأحرار العرب من بلاد الشّام في باريس جمعيّة “العربيّة الفتاة” ومن ثمّ انتقل مركزها عام 1912 إلى بيروت فدمشق وكان شعارها بادئ أمرها “العمل بالنّهوض بالأمّة العربيّة إلى مصافّ الأمم الحيّة”. ولم يكن لـ “العربيّة الفتاة” حينها هدف في الانفصال عن العثمانييّن غير إنّ ذلك الهدف تبدّل عقب إعلان الحرب العالمية الأولى إلى الدّعوة للإستقلال عن العثمانيين. ومن الذين اشتركوا بعضوية تلك الجمعية أنجال الشريف حسين وانضمّ إليها من الدّروز نسيب الأطرش وحمد ومزيد عامر وسليم ومعذَّى المغوّش وحمد البربور وأسعد مرشد وحسين مرشد رضوان ومزيد أبو عسلي وعبد الله العبد الله ومحمد الجرمقاني وعلي الملحم وغيرهم من المتحمّسين لاستقلال العرب عن العثمانيين.
وفي الحملة العثمانيّة على الجبل التي قادها الجنرال سامي باشا الفاروقي عام 1910 قاتل حمد عامر إلى جانب قومه بني معروف إذ اشترك إلى جانب ابن عمّه يحيى عامر في معركة تلّ المفعلاني قرب قريتي مفعلة وقنوات، وفي معارك المواجهات التي جرت بين الموحّدين والجيش العثماني المؤلّف من نحو ثلاثين ألف جندي. وتشير وثيقة عثمانيّة أوردها عبد الرحيم أبو حسين في كتابه “حوران في الوثائق العثمانيّة” (ص439 ) إلى أن يحيى عامر كان قد قاد “العصاة بنفسه مدة ثلاثة أيّام خلال اشتباكات قنوات”.
عام 1911 أعدم العثمانيّون إثنين من أقرباء حمد عامر هما يحيى عامر من شهبا ومزيد عامر من المتونة وذوقان الأطرش والد سلطان باشا وهزّاع عزّ الدين وحمد المغوّش وحمد القلعاني ومن التّهم التي وُجّهت إليهم دون أن يُدانوا بها تهمة الخروج على الخلافة والكفر كما سيق من أبناء الجبل حينها نحو ألف وثلاثمائة شاب للخدمة العسكريّة في بلاد الأناضول والبلقان
وهذا كله كان مبرّراً ليحسم حمد عامر موقفه من سلطة التّرك بصورة نهائيّة.
وفي عام 1914 أخذ الأحرار من قادة الجبل ومنهم سلطان الأطرش، حمد عامر، فضل الله هنيدي، حمد البربور وغيرهم ينظّمون الخطط لعرقلة حركات الجيوش العثمانية بين دمشق وفِلِسطين، كما رفضوا انخراط الدّروز بالجيش التّركي”.

يرفض مال الشّريف حسين
كان حمد عامر يعمل ضدّ العثمانيين لهدف وطني بحت هو التّحرر وتحقيق الاستقلال السوري والعربي عن الدولة العثمانية التي كانت قد وقعت تحت هيمنة الطورانيين من أصحاب سياسات التتريك وإخضاع العالم العربي. ولم يكن هذا المجاهد ليكترث للمال الذي كان يوزّعه الشّريف حسين وابنه فيصل لكسب الأنصار. ويروي مزيد عامر من قرية البثينة إثر مقابلة أجريت معه
عام 2010 بأنّه “عام 1918 بعث الأمير فيصل رسولاً إليه، (أي إلى حمد عامر) وإلى ابن عمّه زيد عامر يحمل رسائل، ومبلغاً من اللّيرات الذّهبية فاستلما الرّسائل وأعادا المبلغ مع الرّسول وهو من آل العسل”. كان للرّجل (أي حمد عامر) أنفته التي جعلته يرفض تقاضي المال كما لو أنه مكافأة لنضاله في الثورة العربية كما إنه لم يكن بحاجة إلى المال فهو يمتلك أراضي واسعة وثلاثة آلاف رأس من الغنم وبئراً في أرض فِناء دارته في قرية البثينة يملؤها بالسّمن ليطعم منها الصّادي والغادي…
ويشير سعيد الصّغير إلى أن حمد عامر ونجم عزّ الدّين وفضل الله هنيدي كانوا من بين قادة الرّأي وزعماء الجبل الذين أيّدوا فيصل بن الحسين قبل دخوله دمشق في 2 تشرين اوّل سنة1918 1 .
وإبّان دخول قوّات الثّورة العربيّة لتّحرير دمشق بقيادة الشّريف فيصل بن الحسين كان هناك الكثير من الثّارات بين القبائل والعشائر العربيّة التي اجتمعت على تأييد الثّورة العربية، ولذلك فقد أرسل فيصل المجاهد الشّيخ حديثة الخريشا وهو من زعماء قبيلة بني صخر المنتشرة في الأردنّ إلى دمشق بهدف إبلاغ قادة القوّات العربيّة وزعماء العشائر برغبته بدفن الخلافات والثّارات القديمة بينها من أجل جمع كلمة الأمّة، وقد التقى بهم الأمير فيصل في ديوانه في حيّ المهاجرين وكان حمد عامر أحد أولئك الزّعماء في ذلك الاجتماع. وفيه توطّدت علاقة سلطان بحمد كما يشير سلطان في مذكراته المخطوطة، (ج1، ص52) بقوله: “منذ ذلك الحين توثّقت علاقتي بحمد عامر فغدا صديقاً حميماً لي تمثّلت به روح التّضحية في سبيل الحرّيّة والاستقلال”، وعلى أثر الاحتلال الفرنسي لسوريا عام 1920 وانتقال الملك فيصل إلى فلسطين أرسل سلطان رسلاً من قبله دعا فيها الملك فيصل للعودة إلى الجبل من أجل متابعة الكفاح ضدّ الفرنسييّن2 لكن تجاهل فيصل للنداء خلق شعوراً بالخيبة وفراغاً كبيراً في الثورة العربية فتبلبل الرّأي العام في الجبل وبرز فريق يدعو إلى القبول بالأمر الواقع، بإستثناء سلطان وفريقه الذي لم يكن ليثق بالفرنسييّن.
دويلة في الجبل
إصطنع الفرنسيون في السّويداء دويلة أسمَوْها “دولة جبل الدروز”، واصطنعوا لها مجلساً نيابيّاً، في الأوّل من أيّار سنة 1921، وقد انتَخَب ذلك المجلس الأمير سليم الأطرش حاكماً للجبل، وفي ذلك المجلس النّيابي المُصْطَنَع كان هناك نوّاب وطنيّون يتعاونون مع سلطان وفريقه أبرزهم فضل الله هنيدي وحمد عامر ومحمّد عز الدين الحلبي وأخوه فواّز وعلي عبيد وحسني صخر، والمَسيحيّ يوسف الشّدياق، ، وقد كان حمد عامر حينها من بين الشخصيّات الحكومية وقادة الرّأي الذين حسموا موقفهم برفض قبول عودة كاربييه حاكماً على الجبل قائلين “إذا رجع الكابتن كاربييه إلى حاكميّة الجبل فنحن لايمكن لنا أن نقوم بالأعمال لذلك نطلب الاستقالة3 ”.

دوره في الثورة السورية
في فترة التّحضير للثّورة على الاحتلال الفرنسي كان سلطان يدرك بفطرته السّليمة أنّه لابدّ من إنهاء الخلافات القديمة بين العائلات وتوحيد الجهود من أجل الانتقال إلى موقف موحّد في المواجهة مع الفرنسييّن وعلى هذا فقد تألّفت في الجبل لجنة مركزيّة ولجنة صلحيّة وخمس لجان فرعيّة لتغطية سائر حواضر الجبل، وكان حمد بك عامر رئيساً للّجنة الثّانية ومركزها شهبا، ومهمّتها إيجاد التّفاهم والتّعارف ورفع كلّ حقد بين العشائر والعائلات التي سبق وأن وقعت بينها خلافات في فترات سابقة في المقرن الشّمالي من الجبل، ومن أعضاء تلك اللّجنة كان الوجهاء جميل بك عامر وسعيد بك عز الدّين وسليم بك سلاّم وجبر بك شلغين.

في ميادين الثّورة
ممّا جاء في مذكّرات متعب الأطرش على لسان ولده هايل أنّ الذين أغاروا على مواقع الفرنسيين في تلّ الخروف كان عددهم سبعين فارساً ولم يعد منهم أحياء سوى 15 بسبب مكيدة مُحكَمة رتّبها الفرنسيّون للإيقاع بفرسان الدّروز وكان حمد عامر واحداً من أولئك الخمسة عشر فارساً الذين نَجَوْا من تلك المكيدة المُحْكَمة، ولكنّه عاد منها جريحاً، ويشير سلطان باشا في مذكّراته (ص131) إلى أنّ حمد عامر كان واحداً من أولئك الأبطال الذين كُتبت لهم النّجاة في معارك اليومين السّابقين لمعركة المزرعة كما يشير مهنّا كرباج إلى أنّه أصيب في موقعة تلّ الخروف بعد أن أبدى بطولة مشهودة.
ولكن جرح حمد عامر لم يمنعه من الاشتراك في اليوم التالي في موقعة المزرعة في 3 آب حيث تمكّن الثّوار في صبيحة ذلك اليوم من سحق الجيش الفرنسيّ الذي يقوده الجنرال ميشو. وإلى دوره البطوليّ المشهود في تلك المعركة يشير مهنّا كرباج في ص 27 من كتابه “تاريخ رجالات جبل العرب”.
بعد معركة المزرعة اضطُرّ الفرنسيّون لأن يساوموا على أسراهم لدى الثّوار وبعد مداولات جرى الاتفاق مع قيادة الثّورة على إعلان هدنة على أثر اجتماع عقد في قرية المجيمر وعلى شروط منها:
– دفن قتلى الجيش الفرنسي في المزرعة.
– مبادلة الأسرى الفرنسييّن بالزّعماء الذين سبق نفيهم إلى الحسكة والإفراج عن الشبّان المسجونين.
ولتنفيذ الشّرط الثاني تمّ تشكيل لجنة من حسن الأطرش وحمد عامر وهلال عزّ الدين مهمتهم تسليم الثلاثمائة أسير فرنسي إلى لجنة الهدنة واستقبال الزّعماء العائدين من المنفى، والشّبّان المُفرَج عنهم من السجون ليًصار إلى استقبالهم في بلدة عرى بحفاوة.

قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش اكتشف مواهب حمد عامر وصادقه وكلفه بمهام حساسة
قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش اكتشف مواهب حمد عامر وصادقه وكلفه بمهام حساسة

معارك دمشق
كان حمد عامر أحد فرسان حملة الرابع والعشرين من آب التي كان هدفها تحرير دمشق وذلك على أثر المفاوضات مع الزّعماء الوطنيين الشّوام في العاصمة، وكانت الخطّة أن ينطلق من الجبل ألف من الثوّار يلاقيهم ألف ثائر من دمشق في منطقة العادليّة جنوب المدينة بهدف الدخول إلى العاصمة معاً ولكنّ الفرنسييّن واجهوا حملة الجبل بالطّيران والمدفعية في الوقت الذي لم يفِ فيه زعماء دمشق بما وعدوا به من إرسالهم ثواراً من جانبهم لدعم حملة ثوّار الجبل لتحرير العاصمة، وقد كانت تلك من المعارك الخاسرة في الثورة.

حمد في مؤتمر ريمة الفخور
ونظراً إلى أهميّة دوره السياسي والجهادي فقد جرى في مؤتمر ريمة الفخور الذي عقد في أيلول عام 1925 تعيين حمد عامر واحداً من عشرة أشخاص اعتُبروا أركاناً للثورة، منهم سلطان باشا الأطرش، الذي بويِع كقائد عام للثورة السوريّة الكبرى. وقد تمثّلت في ذلك المؤتمر قوى وطنيّة سوريّة وشخصيّات أبرزها عبد الرّحمن الشّهبندر ونسيب البكريّ ونزيه وسعد الدّين المؤيّد العظم وجميل مردم بك وعبد القادر سكّر وقاسم الدّربخاني.
وعلى أثر ذلك المؤتمر، اتّسع نطاق الثّورة وأخذت النّجدات تصل إلى جبل الدّروز من جبل لبنان وغيره من المناطق ووصل الأمير عادل أرسلان قادماً من مصر ورشيد طليع وفؤاد سليم من الأردن لينضمّوا إلى أركان الثّورة.
في 17 أيلول اشترك حمد عامر في معركة المسيفرة، كما في شارك في معارك السويداء الأولى بعد 23 أيلول عام 1925 على أثر زحف غاملان بنحو ثلاثين ألف جندي وهذا العدد يشكّل أضعاف عدد جنود سلفه الجنرال ميشو المهزوم في المزرعة، كان هدفه فك الحصار عن 500 جندي فرنسي مُحاصَرين في القلعة منذ الهزيمة الفرنسيّة المدوّية في معركة الكفر، وفي ليلة دخول قوات غاملان إلى القلعة يقول علي عبيد ص 14 من مذكراته “إنّ تلك القوات “صار عليهم (دور) من قبل المرحومين أبطال الثّورة ورجال الشّرف حمد بك عامر وفضل الله باشا هنيدي والمجاهدين وخسر العسكر بتلك اللّيلة ما ينيف عن الخمسماية جنديّ وحاصروه من الأربع جهات.”

الجنرال موريس غاملان في العام 1936
الجنرال موريس غاملان في العام 1936

مطاردة حملة غاملان
في ص250 من كتابه يذكر الرّيس أنّ غاملان انسحب بجيشه باتّجاه سهل حوران على غير توقّع من الثّوار. ويضيف: “منذ الصّباح أخذ العسكر الذي كان محصوراً داخل القلعة وذهب، فتبعه (بالقتال) المذكورين ــ أي حمد عامر وفضل الله هنيدي ومن معهم من المجاهدين إلى قرب قلعة “السّودا”، لينسحب بعدها إلى درعا”..

الشّهبندر يوثّق موقعة السويداء
يذكر الشّهبندر في ص 177 من مذكّراته أنّ الثّوار قضَوْا عى نحو أربعين جنديّاً من الجيش الفرنسيّ خرجوا من القلعة لورود الماء في مصاد، وقد “ألقى ذلك الرّعب في قلب الجنرال غاملان وحَمَلَه على الانسحاب والتّقهقر بجنوده وبالقائد تومي مارتان ومن كان معه من المحصورين في القلعة منذ معركة الكفر الماضية، فغادرها خلسة تاركاً ما كان فيها من عتاد ثقيل وسلاح كثير وجَدّ في التّراجع (أي الانسحاب) بحيث ترك قدور الطّعام تغلي على النّار. وبعد خروجه من السّويداء يصف الشّهبندر تمركز الآلاف من قوّات غاملان لمدّة ثلاثة أيّام في قرية رساس “ضُرِبت أثناءها البيوت وقُطِعَت الأشجار بصورة همجيّة وفي اليوم التّاسع من تشرين الأول سنة 1925 انسحبت عند طلوع الشّمس فلاحقها المجاهدون وعلى رأسهم الأمير حسن الاطرش ويوسف بك الأطرش وسعيد بك العاص والمرحوم فؤاد بك سليم وصياح بك الحمّود وغيرهم مما اضطرّ الجنرال غاملان إلى نشر جنوده المشاة لكنّ حمد بك عامر البطل المشهور لاقاهم في جهات تل الحديد وقد دام الحرب حتى العصر إذ أصيب العدو بإنكسار شنيع فقرّر حمد عامر الانسحاب إلى المزرعة حيث قضى ليلته واشترك في هذه المعارك أيضاً زيد بك الأطرش وحمزة بك درويش وفضل الله باشا هنيدي الوطنيّ الصّميم والشّجاع الباسل وكانت خسائر العدوّ عظيمة بينها طيارتان وقتلاه تملأ السّهل أمام رساس لكنّنا فقدنا رجلاً لا تعادله الرّجال هو المرحوم حمد بك عامر وجرح أيضاً فضل الله باشا هنيدي” وعقّب الشّهبندر بقوله” ولما ظهرت بوادر الثّورة في سورية رأى الجنرال غاملان شدّة الخطر المُحدِق بالفرنسيين فاضطُرّ إلى الانسحاب من الجبل بصورة نهائيّة”.

الثوار-الدروز-يلبّون-نداء-سلطان-باشا-الأطرش-للانتفاضة-على-الفرنسيين-سنة-1925
الثوار-الدروز-يلبّون-نداء-سلطان-باشا-الأطرش-للانتفاضة-على-الفرنسيين-سنة-1925

 

وذكر السّفرجلاني أنّه في “الخامس من تشرين الأوّل بلغ الظمأ منتهاه بالجيش الفرنسيّ رأى أن يتوجّه إلى كناكر لورود الماء، غير إنّ الثّوار كانوا للعدوّ بالمرصاد إذ وقفوا وحالوا دونه والماء … فاضطُرّ غاملان إلى بثّ جنوده المشاة هناك لكنّ البطل حمد عامر لاقاهم من جهات تلّ الحديد ودامت الحرب بين الطّرفين حتى العصر وقد مُنِيَ العدوّ بخسائر فادحة في هذه المعركة وقد انسحب حمد العامر إلى المزرعة حيث قضى ليلته وفي اليوم الثاني تابع (الجيش الفرنسيّ)الانسحاب إلى المسيفرة وقد كان للأشاوس الرئابيل زيد الأطرش وفضل الله الهنيدي وحمزة الدّرويش أكبر الفضل في الانتصار بهذه الوقائع غير إنّ الذي كدّر هذا الظّفَر وعكّره استشهاد الباسل حمد العامر وجرح البطل الكبير فضل الله الهنيدي.
كان مبيت الجيش الفرنسيّ في المزرعة أمراً لا مفرّ منه للجنرال غاملان المنسحب أمام ضغط هجمات الثّوّار وملاحقتهم لقوّاته المتراجعة، وهنا يتساءل المجاهد الصّحافيّ منير الرّيّس وأحد شهود تلك المعارك فيقول:”لا أعلم ما هو شعور الجنرال غاملان ورجال جيشه في تلك اللّيلة وهم يبيتون على مياه المزرعة وفي أراضيها التي شاهَدَتْ قبل شهرين تقريباً أقسى صراع دمويّ بين الدّروز الذين يلاحقون حملته اليوم وبين جيش أفرنسيّ كجيشه أسفر عن سحق الجيش وإبادته تشهد على ذلك أرض المعركة المليئة بحطام المدرّعات وأنقاض المركبات والألوف من بني الإنسان والحيوان”.
ويضيف الريس القول:”إنّني أقدّر أنّ جفون الكثيرين من الضباط والجنود الفرنسييّن لم تغمض في تلك الليلة، لاسيّما وهم يسمعون طلقات الرّصاص تئزُّ حولهم من البنادق والرّشّاشات التي تحميهم من مناوشات الدّروز المحيطين بهم في اللّيل بقيادة حمد عامر وهم مقاتلة المقرن الشّمالي الذي اعتقد الجنرال غاملان أنّه خضع لفرانسة (فرنسا) ولم يبقَ أمامه غير المقرن الجنوبيّ”
وإلى انسحاب العسكر الفرنسيّ يشير المجاهد علي عبيد في
ص 15 من مذكّراته أنّ:” العسكر شال (أي انسحب) وأبقى المدرعات جانب رساس لحماية العسكر وحيث إنّ الدروز كانوا قبل بيوم وضعوا مدفع في هيش (أي حرش) السّهوة الذي هو عالٍ على منازل (أي مواقع) العسكر بأكثر من ألف متر فضربوا المدرّعات المذكورة ثلاث طلقات أجبروهم على الانسحاب والهريبة وأظنّ أنّ سبب رحيل العسكر هو مسبّب عن أخذ هذا الاستحكام لكون العسكر في أراضٍ سهليّة والمدفع مستولي (أي مسيطر) عليها فعند هرب المدرّعات المذكورة هجمت على العسكر شبّان الدّروز وكسروه شرّ كسرة إلى أن أوصلوه قرية الثّعَلَة مساء فخيّم بها وصباح اليوم التّالي شال قاصداً ماء المزرعة”، ويرى المجاهد الشّيخ علي عبيد أنّ تلك التحرّكات للقوّات الفرنسيّة كانت بناء على طلب بعض المتواطئين مع الفرنسييّن ضدّ الثورة الذين سبق لهم أن وعدوا غاملان بقدوم وفد للتسليم من المقرن الشّمالي، ولكن ما أفشل تلك الخطّة أنْ قابله (أي قابل الجيش الفرنسيّ) المرحوم حمد عامر وفضل الله باشا هنيدي ودروز المقرن الشّمالي والشّرقيّ ولم يمكّنوه من تنزيل الأحمال عن ظهور الجمال بل بقيت كلّ تلك الليلة الأحمال على ظهور الجمال وصباح اليوم التالي شال ورجع مدحوراً إلى درعا وأزرع تاركاً نيّف عن ثلاثة آلاف قتيل من حين دخوله إلى عرى (2 تشرين الأوّل عام 1925 حسب الرّيّس ص 241) لخروجه من المزرعة (9 تشرين الأوّل1925)، لكن استشهد المرحوم حمد بك وجرح فضل الله باشا”.
وإلى خسائر الجيش الفرنسيّ الذي كان يقوده غاملان يقول الرّيّس ص 254: “إنّ خسائر جيش غاملان أثناء انسحابه من الجبل كانت أضعاف أضعاف العدد الذي اعترفت به القيادة الفرنسية وربّما كانت الخسائر المُعتَرف بها هي بالفرنسييّن وحدهم دون خسائر الحملة من جنود الرّماة الأفريقيين والفيلق الأجنبي فجنود هذين اللواءين ليسوا فرنسييّن وخسارتهم لا تُعتَبَر خسارة للجيش الفرنسيّ”.

aجانب-من-مدينة-شهبا--السويداء-في-عشرينيات-القرن-الماضي
aجانب-من-مدينة-شهبا–السويداء-في-عشرينيات-القرن-الماضي

تأبين الشهيد
يقول الرّيّس في ص 253 من كتابه الذّهبي: “ما كاد فجر التّاسع من تشرين الأوّل يبزغ حتى هبّت الحملة تسرع بالرّحيل من هذا المكان الموحش بذكرياته والدّروز يناوشونها حتى دخلت أراضي حَوْران وخلّفت وراءها الجبل الثّائر الذي عادت إليه حماسته والذي لم تتجاوز خسائره في معارك الأيّام الثلاثة أكثر من بضعة عشر شهيداً وعشرات الجرحى وبين الشّهداء حمد عامر الذي يُعتبر أكبر زعيم في المقرن الشّمالي ومن أنبل زعماء الجبل وأكرمهم وأشجعهم. أمّا خسائر الحملة الفرنسيّة في أيام انسحابها فتقدّر بمئات القتلى والجرحى بينهم عدد من الضبّاط وكبار القادة فقد أقام الفرنسيّون يوم وصولهم إلى مواقعهم ومراكزهم في حوران حفلاً عظيماً لدفنهم.
وممّا ورد في مذكّرات حكيم آل الأطرش وعارفتهم أو عرّاف جبلهم الأمير متعب الأطرش4 على حد تعبير منير الرّيّس، في ص 106 من مذكّراته المخطوطة والتي تمّت مراجعتها وضبطها من قبل الباحث الأستاذ الأديب والمترجم عارف حديفة ، بأنّ “الجيش الفرنسيّ الذي هاجم الجبل لفكّ الحصار عن قلعة السّويداء المضروب عليها منذ أكثر من شهرين هاجمته دوريّة درزيّة بقيادة المأسوف عليه حمد عامر بقصد ألاّ يتركوه يهدأ ويرتاح وكان قصد الجيش أن يمتدّ من المزرعة إلى قضاء شهبا لأجل بثّ الدّعاية وضعضعة الثّورة ولكن هذه المهاجمة جعلته يقطع الأمل وعاد الجيش منسحباً إلى أزرع وثم صار الجيش الإفرنسيّ يتجمّع في درعا”.
وقد ذكر سلطان باشا في مذكراته ج 1 ص 186 فقال “ومن جملة شهدائنا في تلك المعركة الضّارية عمّي نسيب وعبد الله العبد الله ورفيق جهادنا البطل حمد عامر الذي كان من أركان الثّورة البارزين”.
ويذكر محمد جابر ص 29 من كتابه “أركان الثورة” أنّ حمد عامر استُشهِد في معركة السّويداء الثّانية في 8 تشرين الأوّل وكان يرافقه عبد له اسمه عُبَيد فما كان من عُبَيد إلّا أنِ انتقم لسيّده إذ انتخى (أي دبت فيه الحميّة)عنده وهو يتضرّج بدمه وهجم على الفرنسييّن فقتل أربعة منهم ومن ثمّ قام المقاتلون الذين يرافقونه بنقل جثمانه إلى قريته البثينة حيث دفن فيها.
وقد أبّنه محي الدّين السّفرجلانيّ في كتابه “الثورة السّوريّة الكبرى” ص 563 بقوله: “هذ الفقيد الفحل والشّيخ المُهاب يُعَدّ رُكناً كبيراً من أركان الّثّورة السوريّة الكبرى وقد انتخبته قريته البثينة ليكون علمها الخفّاق فيها فكان بذلك عند حسن الظّنِّ فساهم في أكثر الوقائع حتى كانت واقعة المزرعة الأخيرة عام 1925 وفيها كافح وقاتل حتى ختم الخمسين من عمره بأن أحرز لقب شهيد في سبيل العروبة”.
وفي معرض حديثه في شأن زعامة آل عامر اعتبره حنّا أبو راشد في ص 61 ــ 62 من كتابه المجموع “جبل الدّروز، حَوران الدّامية” أنَّه من زعمائهم الفُضَلاء، وأنّه كان محبوباً من الجميع، رحمة الله على الشّهيد”.
أمّا الزّعيم السّوريّ المجاهد الدّكتور عبد الرحمن الشّهبندر فقد قال فيه في ص 84 من مذكّراته “لقد فقدنا رجلاً لا تعادله الرجال هو المرحوم حمد بك عامر”.

سخاؤه الشهير
على مجاهدي الثورة

كان الشهيد حمد عامر ثريّاً ويملك أراضي واسعة في ثلاث قرى ولم ينجب ذرّيّة من الذكور وإنّما أربع بنات وقد بقي طيلة أيّام الحرب منذ يوم اشتراكه فيها إلى يوم استشهاده يأمر رجاله أن ينقلوا على جماله الماء والطّعام للمجاهدين يوميّاً سواء إلى معسكراتهم أو إلى ميادين القتال معرّضين أنفسهم للخطر وكان قد أعدّ خزاناً نظيفاً في فناء داره خصّصه للسّمن الذي تنتجه أغنامه إذ كان يملك ما يزيد على ثلاثة آلاف رأس من الغنم وغيرها من المواشي
وكانت النساء يصنعن الخبز يوميّاً في داره ويقمن بدهن رغيفين بالسّمن والسكّر يوميّاً، أو بالسّمن واللّبنة ولفّهما على شكل سندويشة ليكونا وجبة دسمة لواحد من الثّوار.

الدكتور عبدي الأطرش رئيس فرع الهلال الأحمر

مبــــــــــادرون رغـــــــــمَ أنـــــــــف الأزْمـــــــَة

الدّكتور عبدي صيّاح الأطرش

رئيسُ فرعِ الهلالِ الأحمرِ العربيِّ السّوريِّ في السّويداء

نعملُ في ظروفٍ غَيرِ عاديّة

مجتمعُنـــا حافـــلٌ برجـــالٍ يَتسابقـــون للعَــــطاء
وأحـــدُ أبـــرزِ الأمثلـــةِ برنامَـــج المِنَـــح الجامعيّـــــة

هو الابن الأصغر لصيّاح الأطرش المجاهد الكبير في الثّورة السّوريّة الكبرى عام 1925، ولئن كان والده مجاهداً بالسّيف والبارودة ضدّ الاحتلال الفرنسيّ فإنّ ابنَه الطّبيبَ عبدي المولود عام 1938والمتخرّج طبيباً من جامعة دمشق عام 1964 سار على خُطى والده في خدمة المجتمع لكنه وهو الذي عاش مرحلة الاستقلال السّوري والاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ اتّجه إلى ميدان الخدمة الاجتماعيّة في إطارالعناية بصحّة المواطنين والأسرة ونشر الوعي الصحّي، وهو عمل يراه الدكتور عبدي شكلاً من أشكال الجهاد الوطنيّ، وقد بات الآنَ متفرّغا بالتّطوّع للعمل الإنسانيّ من خلال عمله كرئيس لفرع الهلال الأحمر العربيّ السوريّ في محافظة السّويداء وكعضو مُنتخَب في المكتب التنفيذيّ للمنظّمة الأمّ في العاصمة دمشق. وقد سعى الدكتور عبدي في المدة الأخيرة لتأمين انتقال مسؤوليّة هذه المؤسسة إلى جيل الشّباب، بهدف التفرّغ لأعماله الخاصة وللنّشاطات الثقافية والفكرية والكتابة، لكن منظّمة العاصمة طلبت منه بإلحاح الاستمرار في دوره الحيويّ مشدّدة على عدم إمكان الاستغناء عن خبراته الغنيّة في مجال العمل الإنسانيّ الهلاليّ في هذه المرحلة التي تخيّم بغيومها السّوداء في سماء الوطن الحبيب.
لكن وبرغم الوقت الذي يتطلّبه إشرافه على جمعية الهلال الأحمر في المحافظة فإنّ الدّكتور عبدي يجد الوقت للإسهام الوافر في العديد من النّشاطات الثقافيّة والرّياضيّة والإنسانيّة، فهو عضو في عدد كبير من الجمعيّات الأهليّة الرّياضيّة والثّقافية وهو المحاضر الدّائم في شؤون حماية البيئة ومشكلات إدمان الكحول والمخدّرات وغيرها من الآفات الاجتماعية وعدد من المسائل الإنسانية والثقافيّة والأدبيّة.
له العديد من الكتب والمنشورات والمقالات الأدبيّة والشعريّة والوطنيّة ، ومن أبرز أعماله كتابُه في سيرة والده المجاهد صياح الأطرش الذي استند بصورة خاصة إلى يومياته التي سجلها الوالد إبان أحداث الثورة السوريّة الكبرى الجليلة، كما صدر له مؤلف شعري بعنوان “الحسام” وديوان بعنوان “الغيمة الماطرة”.
بسبب هذه الانشغالات والوضع غير العادي الذي تمر به البلاد السّوريّة فإن الدّكتور عبدي يبدو مستنزَفاً بفعل الضّغوط الشّديدة على طاقته ووقته، حتى أصبح انتهاز وقت للقاء به أمراً يحتاج إلى ترتيب وانتظار، لكن رغم ذلك فإنّ سليل الجهاد الوطني حرص على أن يرحّب بمجلة الضّحى التي يقدر عالياً دورها الثّقافيّ، وأن يضعها في جوٍّ بعض التّطوّرات المهمّة في عمل فرع الهلال الأحمر في محافظة السويداء وبعض أهمّ مشاريعها الاجتماعيّة والصحّية، فكان هذا اللقاء:

> ما دور فرع الهلال الأحمر في محافظة السويداء في الظروف الرّاهنة؟
منظّمة الهلال الأحمر في السّويداء منظّمة إنسانيّة تركّز على مواجهة الأحداث المأساويّة التي ألمّت بالوطن والتصدّي لنتائج تلك الأحداث من خلال أعمال الإسعاف والإغاثة والصّحّة والدّعم النفسي والعلاجي.
> ما المهام التي تقومون بها من خلال موقعكم كرئيس لفرع الهلال الأحمر في محافظة السّويداء؟
لابدّ لي من التأكيد على اعتزازي بهذه المنظّمة الإنسانيّة، وهي التي كان المرحوم سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى قد شغل منصب رئيسها الفخريّ بعد تأسيسها، وفي ما يخص عملنا راهناً فإنّه تقع علينا حاليّاً مسؤوليّات وطنيّة في إطار إدارة عمليّات فرع المنظّمة في محافظة السويداء، وأعطي مثالا على ذلك باجتماعات مجلس الإدارة إذ بلغت نحو خمسين اجتماعاً في السّنة الواحدة أو ما يوازي اجتماعا واحداً في كل أسبوع، ولهذه الكثافة في الاجتماعات أسباب عدّة أوّلها يتعلّق بالوضع الاستثنائيّ الذي نعيشه ويلقي أعباء غير عادية على عمل الفرع وهيئاته ومتطوّعيه، وثانيها كون مجلس الإدارة ليس مجرّد هيئة تقريريّة تتولّى المصادقة على أوجه العمل الأساسيّة بل يتحمّل أفراده مسؤوليّات إشراف ومتابعة على الأرض خصوصاً لأعمال لجنة المتطوّعين الشّباب وكافة نشاطات الجمعيّة في المحافظة. وأوَدُّ هنا أن أُشيرَ إلى إنجاز حققته لجنة الإعلام والتّواصل لدينا وذلك عندما نجحت بتصوير فيديو بمناسبة اليوم العالميّ للصّليب الأحمر والهلال الأحمر اختير كأفضل فيديو لعام 2014 عُرِض في جنيف أمام المؤتمر السّنوي لجمعيّات الهلال الأحمر والصّليب الأحمر الدّوليّة.
> ما هي أبرز النشاطات والمبادرات التي تقومون بها في المرحلة الرّاهنة؟
نحن في عمل دائم لمواجهة المتطلّبات الإضافيّة التي تفرضها الظّروف الرّاهنة على عمل وخدمات الهلال الأحمر، ومن الخطوات التي نعلّق الأهميّة عليها إنشاء المركز المتخصّص في الاستجابة للكوارث والإغاثة والإسعاف الأوّلي الذي أحدثه الفرع بالتّعاون مع المركز الرّئيسيّ للمنظّمة واللّجنة الدوليّة للصّليب الأحمر. وقد تمّ افتتاح المركز في 29 كانون الأوّل من عام 2013 في السّويداء وبات في جهوزيّة تامّة لتقديم المعونة والمساعدة للفئات الأشدّ ضعفاً في المحافظة.

> كيف تعاملتم مع موجات الوافدين إلى السويداء بتأثير الأحداث الأليمة في سورية؟
من أجل استيعاب الحاجات الجديدة والأوضاع الملحّة لبعض الوافدين فقد قمنا أوّلاً باستحداث مركز الاستجابة للكوارث وأعمال الإغاثة الطّارئة في فرع الهلال الأحمر في السّويداء وتتركّز مسؤوليّات هذا المركز على تقديم الخدمات الصحيّة والإنسانيّة العاجلة مثل دراسة الوضع الأسريّ والاجتماعيّ للوافدين وإجراء تقييم صحّيّ لهم في أماكن تواجدهم، ومن خدمات هذا المركز أيضاً تقديم الدّعم النّفسي والصحّي. وإنشاء دورات في الإسعافات الأوّليّة والصحّة المجتمعيّة. كما يتولّى المركز تأمين نقل المرضى من عَجَزة وأطفال في الحالات الطّارئة إلى المشافي الرّئيسة في مدن المحافظة.
> كيف تلبّون الطّلب المتزايد على خدمات الجمعيّة في المحافظة؟
يَصدُق القول أنّنا نعمل في ظروف غير عاديّة والمطلوب في هذه الظّروف من الجميع التحلّي بروح العطاء والمسؤوليّة أكثر من أيِّ وقت، ونحن نطلب من أنفسنا أوَّلا ومن زملائنا أن يعطوا كلَّ ما في إمكاناتهم من أجل مواجهة الظّرف القاسي الذي يمرّ بها بلدنا الحبيب. إنّ جوابنا على الطلب المتزايد على خدمات الجمعيّة هو المزيد من العمل والمزيد من التّعاون خصوصاً التّعاون مع الشّعب الهلاليّة في القرى.
ونظراً للثّقة الممنوحة من كلّ الجهات الحكوميّة والرّسميّة والشّعبية لفرع الهلال الأحمر فإنّنا نحصل على دعم في كافة الخدمات الصّحيّة على مساحة المحافظة، وبات الفرع يملك أربع سيّارات إسعاف مجهّزة وعيادة متنقّلة مجهّزة بكامل المعدّات الطبّيّة اللازمة. مع العلم أنّ العيادة المتنقلة مجهّزة بجهاز تخطيط قلب وجهاز إيكو وجهاز صدمة مع كادر طبي وطبيب عام وممرّض وإداري.

رعاية التّعليم الجامعي
> من المعروف أنّ لمنظّمتكم دوراً في مجال الخدمات العامّة يتجاوز التّعريف الضّيّق للرّعاية الصحيّة أو الإسعافيّة، كرعاية التّعليم مثلاً؟ كيف دخلتم هذا الحقل؟
نعم، رغم الظّروف القاهرة فإنّ منظّمتنا تهتمّ بالتّنمية البشريّة والعلميّة عن طريق تقديم المنح الجامعيّة والمعهديّة للطلّاب غير القادرين على الاستمرار في التأهيل التّعليمي، ويتمّ ذلك بعد دراسة واقعهم بواسطة لجنة تنتقي الطّالب الذي تتوافر فيه شروط اللائحة الدّاخليّة للمنحة، وهذه مفخرة لنا تميّزنا عن باقي الفروع في القطر العربيّ السّوريّ.

> ما عدد الطلّاب الذين استفادوا من هذا البرنامج حتى الآن؟
بلغ عدد المستفيدين منذ بداية مشروع المنح عام 1997، 576 مستفيداً وعدد الخرّيجين 210. هذا ولا ننسى أن بعض الشُّعَب والنقاط الهلاليّة قد استطاعت الحصول على المنح الجامعيّة من بعض المحسنين في قراهم.

> من هم أبرز المساهمين في برنامج المنح الجامعية؟
لقد كان السيّد أنور الجرمقاني في طليعة المحسنين الكرماء المساهمين في تقديم 125 منحة جامعية و25 منحة معهدية، وكان بذلك القدوة الحسنة لمجموعة من المتبرّعين أبرزهم: المحسن الكريم زياد صيموعة الذي خص البرنامج بـ 25 منحة جامعيّة. والمحسن الكريم جمال أبو حسن الذي قدم 8 منح جامعيّة، والمحسن الكريم المهندس يحيى القضماني الذي دعم البرنامج بتقديم منحتين جامعيتين والمحسن الكريم الأستاذ محمد طربيه الذي تكرم بتقديم منحتين جامعيتين وقدم منحة جامعية واحدة كل من المحسنين والمحسنات السيدات والسادة الأكارم: إحسان جانبيه وعاطف الحلبي والدكتور ناصر جانبيه والدكتور أنس مالك الأطرش والدكتورة رولا كمال الفقيه والسيد عمر المروّد والسيدين عمّار ياسر فرمند وبليغ الجباعي (والسّيدان الأخيران هما من الخرّيجين الذين ردّوا الجميل عبر المساهمة في البرنامج نفسه الذي منحهم يوماً الفرصة لاستكمال تعليمهم الجامعيّ.

> ما دور اللّجنة الاجتماعيّة في منظّمتكم؟
تتعاون هذه اللّجنة مع جمعية أصدقاء مرضى السّرطان، وجمعيّة الوفاء للمعاقين وغيرها من الجمعيّات الأهليّة والفعاليّات النّقابيّة في أنشطة المشاركة بالأفراح والأتراح، كالمشاركة مع لجنة الطوارئ والإسعاف في أحداث قريتي داما ودير داما بالتّواصل مع المجتمع المحلّي وتوضيح طبيعة الأزمة وآليّة عمل الهلال الأحمر.

> لديكم في المنظّمة لجنة نسائيّة، ما الدّور الذي تقوم به هذه اللّجنة؟
تقوم اللّجنة النّسائيّة بالتّعاون مع جمعيّة تنظيم الأسرة بتنفيذ عدّة أنشطة منها القيام بزيارات ميدانيّة لمراكز الإيواء المؤقّتة للوافدين من خارج المحافظة، وتوزيع الإعانات واللّقاء مع العديد من الأسر وتقديم الدّعم النّفسي والاجتماعي لهم. وتقوم اللّجنة النّسائيّة بتقديم خدمات صحّيّة للأطفال والأمّهات في الشّعب الهلاليّة في المحافظة بواسطة الفريق الطبّي التابع لجمعيّة تنظيم الأسرة.

> ما خطّتكم للعمل المستقبليّ كمجلس جديد لفرع المنظّمة؟
سنعمل على دراسة مقترحات الهيئة العامّة للفرع وتنفيد الممكن منها. وسنتابع إقامة دورات الإسعاف الأوّليّ والدّورات المتقدّمة مع إيلاء اهتمام خاص بمركز الاستجابة للإسعاف والإغاثة، وسنُعنى بصورة خاصّة بتعزيز ثقافة التطوّع والنّجدة والتّنمية المستدامة، من خلال لجنة الشّباب المتطوّعين مع تعميق وتعزيز التّشاركيّة مع الجمعيّات الأهليّة والمنظّمات الشّعبيّة ومواصلة العمل مع اللّجنة الفرعيّة للإغاثة.

رئيــــس الهــــلال الأحمــــــر الدكتــــور عبـــدي الأطرش ينوه بالدور البارز للمحسن أنــــــــــور الجــــــــــــــرمقاني

الدكتور عبدي صياح الأطرش في مكتبه في السويداء

مع تقديره الكبير لمساهمات أهل الغَيْرة والسخاء في جبل العرب، وهم كُثُر، طلب الدكتور عبدي الأطرش السماح له بتنويه خاص بالدّور البارز الذي يلعبه رجل الأعمال والمحسن الكبير أنور الجرمقاني في دعم مؤسّسة الهلال الأحمر في السّويداء و وفي مشروع مِنَح التّعليم والعديد من المبادرات الاجتماعية والتّنموية والإنسانيّة.
وقال الدكتور الأطرش إنّ مساهمات أنور الجرمقاني تعود إلى أكثر من أربعين سنة وبالتّحديد عندما رتب في منتصف سبعينيات القرن الماضي زيارة لفرع الهلال الأحمر في السّويداء إلى نيجيريا لتنظيم حملة تبرّعات هناك كان الهدف منها وضع حجر الأساس للمركز الإقليميّ لتدريب الكوادر الهلاليّة والإسعاف الأوّلي ومواجهة الكوارث في منطقة البحر المتوسّط وشمال إفريقيا. وقد ساهم نجاح تلك المبادرة في نقل هذا المركز الذي كان مقره في يوغوسلافيا سابقا إلى سورية.
ويضيف الدّكتور عبدي الأطرش أن المحسن الجرمقاني أوسع للوفد في بيته وخصّص لأعضائه جناحاً فسيحاً أقمنا فيه محاطين بالحفاوة والتّكريم من قبله وقبل عقيلته الفاضلة السيّدة ماجدة توفيق أبو مطر التي تجاريه إخلاصاً في العمل الخيريّ والعطاء الإنسانيّ. وبفضل مكانته هناك والقدوة الصّالحة التي يمثّلها فقد لقينا من جانب أبناء الجاليتين السّوريّة واللّبنانيّة تجاوباً واسعا وحققنا نجاحاً باهراً كان للمضيف الكريم الباع الطّويل فيه وفي تعظيم حصيلته. ونتيجة لتلك المبادرة ولنجاح حملة تعبئة التمويلات تَحدّد مكان هذا المركز في جبل العرب كمركز شامل لتدريب أعضاء وكادرات الجمعيّات الوطنيّة للصّليب الأحمر والهلال الأحمر وخصوصاً خدمات الإسعافات الأوّليّة ومواجهة الكوارث الطّبيعيّة أو الناتجة عن عمل الإنسان.
وقال الدكتور الأطرش إنّ مساهمات المحسن أنور الجرمقاني السّخيّة في دعم فرع الهلال في السّويداء لم تتوقّف، وهو قدِمَ العام 1996 من نيجيريا خِصّيصاً للمشاركة في حضور احتفال العيد الفضّي للهلال الأحمر في السّويداء، وكان المتبرّع الأوّل كشأنه دائماً، وفي ذلك الاحتفال نال التكريم الذي يستحقّه من قبل الحشد المعترف بجميله، وقُدِّم له سيفٌ عربيّ من قبل أهل الهلال الأحمر في السّويداء.
ونوّه الدّكتور عبدي الأطرش بدور المُحسن الجرمقاني في إطلاق ودعم مبادرة المِنَح الجامعيّة لأبناء المحافظة وهو الذي كان من أوّل المشجّعين لمشروع المِنح الجامعيّة التي دعوناها بـ “المنح الهلاليّة” المقدّمة إلى الطلاّب الجامعيين المتفوّقين والمحتاجين، وكان منذ الانطلاقة أكبر المساهمين في دعم هذه المبادرة، وهذا المشروع السّبّاق لتنمية الموارد البشريّة ليس له مثيل في غالبيّة الجمعيّات الوطنيّة في العالم وقد بلغ عدد المِنح الجامعية التي قدمها المحسن أنور الجرمقاني 100 منحة جامعية و25 منحة للمعاهد، وبفضله فقد خرّج الهلال الأحمر في السّويداء 180 خِرّيجاً وخِرّيجة حتى الآن ومن مختلف الاختصاصات في الجامعات السوريّة ناهيك عن الطلاّب والطّالبات المتخرّجين من المعاهد الأخرى المنتشرة في القطر.

من أعلام بني معروف