الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشيخ حسين الهجري

  • ثورة الموحّدين (الدروز) على إبراهيم باشا

بدأت هذه الثورة في جبل حوران، وامتدّت إلى جهات جبل الشيخ الشرقيّة والغربيّة، وكادت تمتدّ إلى دمشق والغوطة. كان جبل حوران يُعرف، آنذاك، باسمه هذا، ثم صار يُعرف باسم “جبل الدروز”، لأنه أخذ اسم “الدروز” الذين تكاثَروا فيه منذ توَطُّنهم له سنة 1685، ثم صار يُعرف منذ ثلاثينيَّات القرن العشرين باسم “جبل العرب”، وهو حاليًّا يُعرف باسم “محافظة السُّوَيداء” في الجمهورية العربية السورية. لكنّنا سنذكره باسمه الذي عُرف به في المرحلة التي نتكلّم عنها، أي جبل حوران.
بعد أن أعفَى محمد عليّ دروز جبل حوران من التجنيد الإجباري في جيشه، وأبقى لهم سلاحهم ليدافعوا عن أنفسهم كونهم مُقيمين على أطراف البادية ومعرَّضين لغارات البدو واعتداءاتهم على المراعي والحقول والسكان، عاد وطلب من ابنه إبراهيم تجريدهم من السلاح، وأخذ شبابهم إلى الخدمة الإجبارية أسوةً بسائر السكّان بمن فيهم دروز وادي التَّيم وجبل لبنان الذين نفَّذوا المطلوب منهم بعد رفض واحتجاج.
استدعى الوالي شريف باشا (حكمدار الشام) شيوخ دروز جبل حوران إلى دمشق فحضروا إليه وعلى رأسهم كبيرهم وشيخهم يحيى الحمدان، وطلب منهم تسليم السلاح وتقديم 170 شابًّا إلى الخدمة الإجباريّة، فرجَوهُ أن يُبقي لهم سلاحهم وألاّ يجنِّد شبابهم كي لا تضعف مقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم من هجمات البدو. وكان الشيخ يحيى الحمدان أكثرهم إلحاحًا عليه وترجِّيًا له، لكن شريف باشا ازداد إصرارًا على تنفيذ المطلوب، وغضب من الشيخ لإلحاحه، وتقدّم منه وصفعه، وطلب منه ومن سائر الشيوخ العودة إلى الجبل والمباشرة فورًا بتنفيذ ما طلب منهم.
كان ما جرى لشيخ مشايخ دروز جبل حوران، بالإضافة إلى صعوبة تسليمهم لسلاحهم، وتجنيد شبابهم في الخدمة الإجباريَّة، أبرز أسباب ثورتهم على الحُكم المصري، وقد بدأوها بالهجوم على القائد عليّ آغا البصيلي وإبادة حملته. وفيما كان والي الشام يستعدّ لإرسال حملة تأديبيّة بقيادة مفتّش الجيش المصري، محمد باشا، كان دروز الجبل قد لجأوا إلى ما يسمُّونه “الهجيج” أي الرحيل عن قراهم والاحتماء بوعرة “اللّجاه” المنيعة التي يعرفون مسالكها الصعبة ومغاورها، ويجهلها الأعداء ويتيهون في مجاهلها. وقد استطاعوا أن يقضوا على الحملة الثانية التي قادها محمد باشا، وأن يشتِّتوا الحملة الثالثة الكبيرة التي قادها شريف باشا وأحمد منيكلي باشا (وزير الحربيّة المصريّ).
إن هذه الهزائم الثلاث للجيش المصري الذي أخضع الثورات في سورية، وأخضع من قَبل الثائرين في اليونان وفي الجزيرة العربيّة، وقهر الجيوش العثمانيّة مرّات عدّة، اضطرّت القائدَ إبراهيم باشا أن يقود الحملة الرابعة بنفسه، ممهِّدًا لإخضاع الثّوّار في جبل حوران بإخضاع إخوانهم الذين ثاروا لنصرتهم في وادي التَّيم بقيادة شبلي العريان، والذين انضمَّ إليهم مناصروهم من دروز جبل لبنان. وهو لم يستطع وقف تمرُّد الثوّار في جبل حوران إلاّ بعد ردمه للينابيع وتسميمه للمياه، لكنه قنع بإعادة السِّلاح الذي غنموه، مقابل إبقاء سلاحهم بأيديهم وبعدم تجنيدهم، وذلك لكي يتفرَّغ لقتال الجيش العثماني الذي تجمَّع عند حدود سورية الشمالية، فلقد انتصر عليهم عسكريًّا، ولكنه لم يستطع فرض تدابيره التي كانت سبب ثورتهم.

  • المصادر التاريخية المعاصرة للحملة المصريّة ولثورة الموحِّدين (الدروز)

إن المصادر التاريخيّة المُعاصرة للحملة المصريّة على سوريّة، ولثورة الموحِّدين (الدروز) كثيرة، ومنها ما يتناولهما بتوسُّع، ومنها ما يتناولهما باختصار، وأبرزها ما يلي:
֍ وثائق سراي عابدين التي تبلغ أكثر من خمسة عشر ألف وثيقة “إضافة إلى عدد لا يُستهان به من الأوراق السِّرّيّة التي تتعلّق بأخبار الثورة الدرزية”(1).
֍ تقارير سُفراء وقناصل الدول الأوروبية ورسائلهم.
֍ الأرشيف العثماني.
֍ مخطوط الشيخ حسين إبراهيم الهجري المعروف بـ”قصة اللجاه”، وهو الذي سنتكلَّم عنه لاحقًا بتوسُّع، لأنه موضوع هذه الدراسة، ولأنه أهم وثيقة محلّيّة سورية تتكلّم عن أهم ثورة على الحُكم المصريّ لبلاد الشّام.
֍ كتاب “مذكَّرات تاريخيّة عن حملة إبراهيم باشا على سورية” لمؤلِّف مجهول(2)، هو أحد موظَّفِي الإدارة المصرية بدمشق إبَّان سيطرة إبراهيم باشا على سورية، وهو كان بعيدًا عن أماكن مجريات الحوادث العسكريّة فجاءت معلوماته عنها غير موسَّعة، إلا أنها تعبِّر عن وجهة نظر القادة والمسؤولين من خلال ما يَطّلع عليه من الرسائل والتقارير.
֍ قصيدتان للشيخ أبي عليّ قسّام الحنّاوي، أحد الرّؤساء الرُّوحيّين للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. كان أحد قادة الثورة في هذا الجبل، وقد وصفها شِعرًا في قصيدتَين له، طويلتَين، أُولاهُما مؤلَّفة من 111 بيتًا تتضمّن 22 بيتًا فيها أسماء القادة الدروز والمصريِّين وأسماء المعارك، ووصْف هذه المعارك وبطولات الدروز فيها. وثانيتهما مؤلَّفة من 85 بيتًا(3)، وتتضمَّن 14 بيتًا شبيهًا بأبيات القصيدة الأولى. ومع أن عدد الأبيات التي تتناول ثورة الدروز على المصريِّين قليلة في القصيدتَين، إلا أنها ذات أهمّية كونها صادرة عن شاهِد عِيان.

  • الشيخ حسين الهجري

الشيخ حسين الهجري (1821-1880) هو ابن الشيخ إبراهيم بن محمود بن سلمان زين الدين، من بلدة الخريبة في قضاء الشُّوف. نزح محمود إلى جبل حوران، وغدَا كاتبًا عند الشيخ الحمداني (شيخ مشايخ الجبل)، واستقرَّ في قنوات. وبالرغم من قِصَر سنِّه (1804-1840) اكتسب شهرة دينيّة واسعة نظرًا لتَقواهُ وأدبيَّاته الدينية، ولكونه أول رئيس روحي للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران، ومن قادة ثورتهم على إبراهيم باشا. أما شهرة “الهجري” فقد اكتسبها نسبةً إلى هجر في الجزيرة العربية لكثرة ما تغنَّى بها وأنشد فيها من قصائد نظرًا لدلالتها الدينية.
حين نشبت الثورة في جبل حوران على المصريِّين كان الفتى، الشيخ حسين، برفقة والده الشيخ إبراهيم، لذا كان شاهِدَ عِيان لفصولها، وقاتَل في بعض معاركها. وقد تسلَّم الرِّئاسة الرُّوحيّة في الجبل بعد وفاة والده، وكان لا يزال فتًى في حدود التاسعة عشرة من عمره كحدٍّ أقصى، هذا إذا اعتبرنا أن والده تزوَّج في سن السادسة عشرة، على عادة الكثيرين من أبناء زمانه، وأنه -أي الشيخ حسين- وُلد بعد سنة من زواج والده. عاونه في شؤون الرِّئاسة الرُّوحيّة الشيوخ الثلاثة: الشيخ أحمد جربوع، والشيخ شهاب أبو فخر، والشيخ أبو عليّ قسَّام الحنّاوي الذي وردت الإشارة إليه.
لم يكن للشيخ حسين الهجري الشهرة التي أخذها والده، بالرغم من أن مدته في الرِّئاسة الرُّوحية كانت أطول من مدّة والده، وبالرغم من أنه كان العضو الثاني في مجلس قائمقاميّة جبل حوران، ويلي القائمقام التركي. إلاّ أنه ذو أهميّة –وإن تكن محدودة- في مجال التاريخ كونه أول رائد في الكتابة عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. فهو مع مدوِّن كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب “الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، ومؤلِّف كتاب “عمدة العارفين” الشيخ محمد الأشرفاني، الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، من الأدلّة على تثقف رجال الدين الدروز، واهتمامهم بتدوين التاريخ وإدراكهم لأهمّيّته.

عندما كتب الشيخ حسين الهجري مخطوطته المسمّاة “قصة اللجاه” كان عمره في حدود الواحدة والعشرين سنة، إذ ذكر في نهايتها ما يلي: “كان الفراغ منها يوم الاثنين في شهر ذي الحجّة في العشر المبارك سنة ألف ومايتين وسبعة وخمسين”. وهذا التاريخ يوافق كانون الثاني 1842م. وذكر أن الفترة الزمنيّة التي استغرقتها كتابة مخطوطته، هي أربعة أيام. وهذه المدة تبدو قصيرة للغاية في تأليف أي كتاب، وقد تُوحي بحُكم سلبيّ عليه، لكن هذا الحكم لا يعود يخطر بالبال عند قراءة مخطوطته، ومعرفة أنها مكتوبة بشكل رواية أو قصة، وأنه ممّن عاش حوادثها وساهم فيها. يُضاف إلى ذلك أن الفاصل الزمنيّ بين انتهاء معارك اللجاه وكتابة الشيخ حسين عنها قصير هو دون الأربع سنوات، وأن مجريات الحوادث بالتالي لا تزال بعناوينها وتفاصيلها عالقة في ذهنه مما سهَّل له كتابتها في أربعة أيّام.

  • تَداوُل مخطوط الشيخ حسين الهجري وتحقيقه

كان العِلم بمخطوط الشيخ حسين الهجري محصورًا في دائرة ضيِّقة جدًّا، هي آل الهجري، وأقرباؤهم بالمصاهرة (آل أبو فخر)، ولم يكن تَداوله يتعدَّاهم إلاّ للقلائل جدًّا حتى أواخر القرن العشرين، حتى أن من احتفظوا بالأصل أو بنسخة منقولة عنه، ومن قُدِّر لهم الاطِّلاع عليه، لم يعطوه الأهمية التي يستحقّها، ممّا أضعف موضوع تعميمه، وأخّر تحقيقه ونشره .
حين كان المؤرِّخ حنّا أبي راشد يقوم في سنة 1925 بجولات ميدانيّة في جبل الدروز (جبل حوران)، لإعداد كتابه “جبل الدروز” الذي صدر في السنة نفسها، ثم أُعيد طبعه في سنة 1961، وصل في تجواله إلى قرية “تل اللّوز” في “المقرن الشرقي” من الجبل. وهناك قُدِّم له مخطوط قال عنه: “إنه لم يستفد منه بشيء سوى نقط تاريخية فقط، وذلك لأنه منسوخ بعبارة سمجة”(4). وفي الحقيقة أن كلامه هذا صحيح عن بعض عبارات المخطوط، خاطئ بالنسبة إلى الاستفادة منه.
إن التاريخ الذي أشار إليه حنّا أبي راشد هو نسخة عن مخطوط الشيخ حسين الهجري معنونة باسم “قصة اللجاه وما جرى فيها”. ونرجِّح أنها هي ذاتها التي وصلت إلينا، ذلك أن أحد رجال الدين الدروز من قرية “تل اللوز” أهدى كرّاسًا (كُتيِّبًا) إلى الشيخ حسين يوسف شبلي البعيني يشتمل – فيما يشتمل- على قصة اللجاه، فأخذنا صورة عنه، واعتمدنا عليه في حديثنا عن ثورة الموحِّدين (الدروز) على المصريِّين في كتابنا الصادر سنة 1985، بعنوان “جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين (الدروز)(5). مع الإشارة إلى أنه حصلت إضافات على الكرّاس بعد اطِّلاع المؤرِّخ حنا أبي راشد عليه في سنة 1925، وإلى أنه لا يتضمّن اسم المؤلف، فاعتبرناه في سنة 1985 مجهولاً لأننا لم نتأكّد في حينه أنه الشيخ حسين الهجري.
إن الكرّاس (الكُتيِّب) الذي وصل إلينا صغير الحجم، من النوع الذي يعتمده رجال الدين عند الموحِّدين الدروز لكتابة أدبيّاتهم. وهو يشتمل على منشور مرسل من الرئيس الرُّوحي الشيخ حسين الهجري، ونظيره الشيخ أبي علي قسّام الحنّاوي، إلى رجال الدين في السُّويداء بتاريخ 16 صفر 1289هـ (نيسان 1872م) حول إجرائهم عقد زواج غير مطابق كلّيًّا للأحكام الشرعية، وتليه “قصة اللجاه”، فجَدولٌ بتواريخ وفَيَات شيوخ آل الهجري وصولاً إلى الشيخ أحمد الهجري الأول المتوفَّى في سنة 1372هـ (سنة 1953م)، فجدولٌ بتواريخ أحداث جبل حوران (جبل العرب) ومعاركه، وصولاً إلى انتفاضته ضد رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي في سنة 1954، ويليه أخيرًا أشعار دينية.
تقع “قصة اللجاه وما جرى فيها” في 128 صفحة من الكرّاس، يتراوح عدد الأسطر فيها بين 11 و12 سطرًا في الصفحة الواحدة، وعدد الكلمات بين 6 و7 كلمات في السطر الواحد. باشرْنا بتحقيقها من أجل المساهمة في كتابتنا بالتاريخ العامّ من جهة، وبتاريخ جبل العرب من جهة أخرى. واتصلْنا بالدكتور فندي أبو فخر الذي أشار إلى “قصة اللجاه” في كتابه “انتفاضات الشام”(6)، وذلك من أجل مقارنة النسخة التي نمتلكها مع النسخة الموجودة عنده لكي يأتي التحقيق متكاملاً، ومستوفيًا جميع الشروط، وجميع عوامل النجاح. لكننا عدَلْنا عن متابعة العمل بعد تحقيق الدكتور فندي للمخطوط بعنوان “حروب اللجاه”(7). ثم إن الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) في سورية، الشيخ حكمت سلمان الهجري، نشره بعنوان “قصة حروب اللجاه”(8) مُدرجًا صورة عن كل صفحة من النص الأصل، تقابلها صفحة مطبوعة تشتمل على بعض التعليقات والتوضيحات. والشيخ حكمت هو ابن أحمد بن سلمان بن أحمد بن حسن بن حسين الهجري الذي هو مدوِّن المخطوط.
قارنَّا بين صفحةٍ مخطوطةٍ نشرها المؤرِّخ فندي أبو فخر، والصفحة التي تقابلها في ما نشره الشيخ حكمت الهجري، فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا، ممّا يعني أنهما اعتمدا على نفس النسخة التي نرجِّح أنها الأصل. وقارَنَّا بين النصَّين اللَّذَين نشراهما، ونص النسخة الموجودة لدينا فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا معها، ممّا يدلّ على النقل الأمين عند كاتب هذه النسخة. وإذا كنّا قد عدَلْنا عن تحقيق المخطوط، بعد أن قام بذلك غيرُنا، فإنه من الضروري، ومن المفيد، الحديث عن مؤلِّفه، والحديث عنه لأنه أهمُّ مصدر محلّيّ معاصِر للثورة التي قام بها الموحّدون (الدروز) ضد إبراهيم باشا.

  • مميِّزات كتابة الشيخ حسين الهجري

كَتب الشيخ حسين الهجري بلغة تتضمّن العديد من الكلمات العامّيّة، والعديد من الأخطاء في اللغة والقواعد. وكتب بأسلوب السرد المتواصل دون ذِكر أيّ عنوان بحيث يصعب على القارئ معرفة نهاية الفكرة أو الفقرة، إلاّ عند ذكر الأبيات الشِّعرية التي يستشهد بها، كما عند وصفِه حصار إبراهيم باشا لِعكَّا، ومعاركِه مع الجيش العثماني، ومعارك حملاته مع الدروز الثائرين عليه. وإذا كان هذا ممَّا يميّز كتابته في الشكل، فإن مضمونها يتميَّز بِنَواحٍ عدة أبرزها المصداقيَّة، والطابع الديني، والأسلوب الرِّوائي والسجع.

المصداقيّة

كان الشيخ حسين الهجري صادقًا في تدوينه للوقائع، شأنه في ذلك شأن إخوانه رجال الدين من الموحِّدين (الدروز)، الذين يعتمدون الأمانة الكلية في القول والكتابة، اعتمادًا على مبدأ الصدق(9) الذي هو مرتكِز عقيدتهم (التوحيد). ومن الدلائل على مصداقيَّته تطابُق ما جاء عنده عن سَير المعارك مع ما جاء في تقارير قناصل الدول الأوروبية وتقارير ورسائل الموظَّفين والقادة المصريِّين، وغير ذلك من المصادر. وما ورد عنده عن الأعداد مبالَغًا فيه كان على ذمّة القائلين به، لا على ذمّته، كمجموع أعداد القتلى من الجنود المصريين التي قال عنها ما يلي: “الذي فُقِد من القوم الخاسرين الأرذال نحو اثنين وثلاثين ألفًا ومنهم من يقول أربعين ألفًا على هذا المنوال ومنهم من يقول إنه أكثر من ذلك فالله أعلم وأخبر بالحال”.
دَوَّن الشيخ حسين عباراته بصفة المتكلِّم، وبالضمير “نحن”، وعبّر عن مشاعره ومشاعر قومه وآلامهم ومعاناتهم خلال هجيجهم، رجالاً ونساء وكبارًا وصغارًا، وتنقُّلهم باستمرار من مكان مهدَّد باقتحام الجند المصري، إلى مكان أكثر أمانًا. وعبّر عنه نقمته ونقمة قومه على إبراهيم باشا الذي دفعهم بظلمه واستبداده إلى الثورة، والذي تمادَى في أساليب قمعه لثورتهم فعمد إلى ردم الينابيع وتسميم المياه لإجبارهم على التسليم، لكن مصداقيّته هذه في التعبير عن المشاعر كانت مشوبة أحيانًا بالهوى. فالجنود المصريون عنده هم: “الفراعنة الأغتام، والخوارج ذات الجور والعدوان، والقوم الطغاة البغاة، والمشركون الأضداد الكثيرون البلس والنجس والنفاق والفساد”.
إن الأوصاف المُعطاة للجنود المصريِّين تنطبق بالطبع على قائدهم إبراهيم باشا، الذي وجَّهَهم لقتال الدروز الثائرين طالبًا منهم تنفيذ تدابيره، إلا أن الشيخ حسين يذكره بدولة إبراهيم باشا وبالملِك، ويصفه فقط بالعلج، وبالغشوم الكشور الغضبان الذي لم يرحم بجوره الشيوخ والأطفال والنسوان. وبشاعة صورة ابراهيم باشا في نظر الشيخ حسين وسائر الدروز، تخففّها مأثرته التي يذكرونها”، وهي عدم سماحه لأي جندي بالاعتداء على نسائهم.

الطابع الديني

من الطبيعي أن يظهر الطابع الديني في كتابة الشيخ حسين الهجري، وخصوصًا أنه ليس رجل دين عادي، بل هو رئيس روحي، نشأ في كنف والده الشيخ إبراهيم، وتتَلْمَذ على يده، وقد اشتهر والده بتديّنه وبأدبه الديني. وهذا الطابع الديني ظهر في كتابة الشيخ حسين ابتداء بمقدمة مخطوطه وانتهاء بخاتمته مرورًا بمعظم صفحاته ومواضيعه. ومن وجوه ذلك إكثاره عبارات شكر الله وحمده، ووصفه عظيم جبروته وقدرته، واعتباره كل ما جرى خلال حملة إبراهيم باشا على سورية وحُكمه لها وثورات أهلها عليه، وكل ما يجري في هذا العالم، مقدَّرًا وسائرًا بالإرادة الإلهية، واعتباره النصر الذي حققه الثوّار الدروز القليلو العدد على الحملات المصرية الأكثر عددًا وتسليحًا، نصرًا من الله.

الأسلوب الروائي والسجع

كَتب الشيخ حسين الهجري بأسلوب روائي ملحميّ، شبيه بأسلوب روايات عنترة والزِّير وبني هلال وسواها. ولعلّ ذلك هو السبب الذي حمله على تسمية مؤلِّفه قصة مقرونة بِاسم المكان الذي جرت فيه معظم حوادثها، أي اللجاه. وقد كثرت عنده عبارات السجع، وكان كَكُلّ من اعتمد هذا الأسلوب يفتش غالبًا عن الألفاظ الملائمة.
وأسلوب السجع هذا هو الأسلوب الشائع في عصره، والأسلوب الذي اعتمده في كتاباته بعد ذلك، بدليل أن الرسالة التي أرسلها ونظيره الشيخ قسّام الحنّاوي، والتي وردت الإشارة إليها، تحفل بعبارات السجع. إذ جاء مثلا في مقدمتها ما يلي:
“بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وبه في كل الأمور نستعين فهو المنجا والملتجا يوم الفزع الأكبر المهول العظيم. فبجلالك اللهم يا عالي الشان ويا عظيم المجد والكبرياء والسلطان يا غيور عند وقوع الموهفات وتغلب المخترصين على الأديان يا من بقدرتك وعظمتك استقامت البسيطة والسموات بلا عمد ولا أركان يا عون المستعين ومظهر دين الحق على الأديان يا غوث المستغيثين يا شديد الأركان يا من لا يشغله شان عن شان يا حفيظ عبادك الطايعين ويا نصير المستضعفين من غلبات تحامل المبدعين بلا حقيقة ولا برهان…”.

موجز عن مخطوط الشيخ حسين الهجري

كان الشيخ حسين الهجري، بالرغم من صغر سنّه عند تدوينه مخطوطه، مطّلعًا على معظم الحقائق والوقائع التاريخية المتصلة بحملة إبراهيم باشا على سورية، إذ ذكر خروجه من مصر وحصاره الطويل لعكا، وموقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى في جبل لبنان منه، ومعاركه، وانتصاراته على العساكر العثمانية، وإصلاحات والده محمد عليّ وتدابيره في بلاد الشام، وأوضاع السكّان في مرحلة تحوّلهم من الخضوع للحكم العثماني إلى الخضوع للحكم المصري، وأسباب الثورات على هذا الحكم وصولاً إلى ثورة دروز حوران المسمّاة “قصة حروب اللجاه”.
ذَكر الشيخ حسين الهجري مُجريات المواقع التي جرت بين ثوّار جبل حوران وبين العساكر المصرية الموجّهة إليهم، وأوضح كيفية انتصارات الثوّار في أكثريّتها، والخطط التي اعتمدوها في المواجهة والانسحاب. وذكر موقف قبيلة السلوط المقيمة في اللجاه منهم، واكتفاء أبنائها بإعلامهم عن قدوم العساكر المصرية، وبمشاركتهم فقط في تقاسُم المغانم. كما ذكر الاجتماعات التي عقدها الثوّار، وكيف أن الدِّفاع عن أعراض النساء كان سبب استماتتهم، وانتصارهم على الأعداد الأكثر منهم عددًا وعدّة. وتكلَّم عن انتقال شبلي آغا العريان من اللجاه إلى منطقة وادي التَّيم لإشعال الثورة فيه وللتخفيف عن ثوّار الجبل. وتكلم عما جرى في هذه المنطقة من معارك. وقد خصّ بالذِّكر بعض القادة إضافة إلى شبلي آغا العريان، كالشيخ يحيى الحمدان (شيخ مشايخ دروز حوران) والشيخ إبراهيم الهجري، وبعض القادة الأبطال، كإبراهيم الأطرش وحسين عسّاف وحسين درويش، وأعرض عن ذِكر الكثيرين غيرهم تجنّبًا للإطالة. وأنهى كتابه بالحديث عن نهاية الثورة والسبب الرئيس في ذلك.
لم يُسمِّ الشيخ حسين الهجري أسماء المواقع التي جرت بين الثوّار والحملات المصرية، لذا لا يستطيع التعرّف عليها إلاّ القُرّاء المثقّفون، وخصوصًا المهتمِّين بتاريخ بلاد الشام عمومًا وتاريخ جبل حوران تحديدًا. وهذه المعارك التي لم يسمِّها معروفة عند أبناء الجبل باسم “الذبحة” كذبحة البصيلي، وبأسماء الأيام كيوم بصرى ويوم براق ويوم القسطل ويوم لاهثة ويوم الصورة ويوم صميد ويوم جب النعام.
وبما أن المجال لا يتّسع للحديث، وإنْ بإيجاز، عن جميع المحطّات التاريخية والمواقع الحربية التي تناولها الشيخ حسين، نكتفي بذكر بعض النصوص من مؤلَّفه، نوردها كنماذج مع بعض التوضيحات، لفهمها ولوضعها في إطارها التاريخي.

  • موقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى من الحملة المصرية

استطاع الأمير بشير الشِّهابي الثاني، بمساعدة محمد علي باشا التخلّص من منافسه الشيخ بشير جنبلاط الذي هو أكبر زعماء الدروز آنذاك. لذا كان حليفه إبَّان حملته على بلاد الشام وحكمه لها، وأيّده في ذلك فريق من اللبنانيِّين جلُّه من النصارى فيما عارضه فريق آخَر جُلّه من الدروز الذين نكبهم الأمير بشير وحليفه محمد عليّ بالقضاء على زعيمهم، وانضم بعضهم الى العساكر العثمانية وعن موقف الأمير بشير والدروز جاء عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ثم ان ابراهيم باشا أرسل منه المكاتبات إلى والي جبل معن الأمير بشير الشهابي يدعوه بضمها إلى الطاعة له والاذعان والانقياد إلى دولته بالأمن والاطمئنان. فلما وصلت كتابته إلى المذكور بالتهديد وبها يحذر من سطوته بالتخويف والتشديد فعند ذلك بادَر هذا الأمير العميد وجميع مناصب بلاده من عقل سديد وراي مصوب حميد من أكابر الدروز والنصارى يخبرهم بأمر هذا الملك العنيد ولسبب المخابرة بينهم بهذا الشان الوطيد. ثم انه من بعد المفاوضة بهذه الحال عوّلوا الجميع على محاربة هذا العنيد واعتمدوا الجميع على حربه والقتال وتعاطوا بينهم بالعلي المتعال وانصرفوا الجميع من عند هذا على هذا المنوال، ثم انه بعدما رجعوا الجميع لمحلاتهم أرسل الامير المذكور استدعى كبار النصارى وارادوا أن يجعلوا لهم حالاً بذاتهم مع ابراهيم باشا المذكور يكون سببًا لاصلاح شأنهم بغبا(10) علم مناصب الدروز وارادوا انهم يوقّعوا الدروز بالمكر والخديعة والصوج عند الدولة القادمة. ثم انه الأمير بشير أرسل إلى الملك القادم ابراهيم باشا كتابات منه ومن النصارى يعلن فحواها ان الأمير المذكور وجميع النصارى طائعين مسلمين مذعنين للدولة القادمة سوى ان طائفة الدروز لم يمكنهم التسليم بل انهم جميعًا قد عوّلوا على الحرب والقتال والعصاوة إلى الدولة المصرية القادمة… ثم انه بعد هذا الحال ارسل ولده بمكاتبه على هذا المنوال ومعه جماعة من أكابر النصارى قد جهروا لملاقاته والدخول تحت طاعته فعند ذلك تباشر بملك البلاد وإيلاء ما بها من الخلق والعباد. ولما علموا مناصب الدروز بهذه الروية وتحقق عندهم من الامير خبث الطويه لم يمكنهم التسليم إلى دولة هذا الملك ذو الرهط والصولة والأمر الجسيم بل انهم صاروا طالبين الدولة العلية إلى أرض الشام”.

  • مظالم إبراهيم باشا

تَشدَّد إبراهيم باشا في جمع الضرائب المفروضة على دروز حوران أسوةً بسائر سكّان بلاد الشام، لكنه تساهَل في جمع السلاح منهم، ولم يلجأ في البداية إلى تجنيدهم الإلزامي. وعن هذه الأمور يرد عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ثم ان ابراهيم باشا المذكور قد أنشا المظالم الذي لا طاقة للعباد بحملها وهي محاليه(11) مثل زيادة أموال ميرية ومثل زيادة فدن على الرعية ومثل زيادة أعداد أنفار مجازًا لا حقيقية. ولم يكن بقلبه رحمة ولا للعدل في ذاته بقية خصوصًا محل بلادنا الذي هو جبل دروز حوران فإنه أذاقنا أنواع البلايا والنكال في زيادة الأموال وظلم الأهالي والولدان حتى شتّت من الأهالي كثيرًا بالأقطار والبلدان وناءهم عن الديار والأوطان لكونهم عاجزين عن تأدية المطلوب بالتمام ولم يقبل بذلك عذر ولا بقلبه لأحد ارتحام حتى كثيرًا من الناس اخذوا في التخفي والهرب من عظيم ازدياد الشدائد والبلايا والكروب، وبالغوا بإهانة النسا والاولاد مع كسر الحرم وصدع القلوب، وليس لنا مشتكى سوى لعلاّم الغيوب. ثم انه لم يزل بهذا وبمثله بالتبيين من سنة 1247 سبعة واربعين إلى تاريخ مستهل سنة 1252 اثنين وخمسين. ولكن مع اصناف هذه التعاديل العظيمة والمظالم والأفعال الجسيمة لم يكن يأخذ من السلاح بالمراد لكون اننا ملتقيين(12) بأطراف البلاد ولسبب أن علينا خصايم من العربان والبواد”.

  • موقعة الثعلة وبداية ثورة الدروز على إبراهيم باشا

أرسل حاكم دمشق (شريف باشا) عليّ آغا البصيلي على رأس أكثر من أربعمائة فارس إلى جبل حوران ليجمع السلاح منه وليأخذ العدد المطلوب من شبابه الى الجندية. فنزل هذا القائد في قرية “الثعلة”، وكاتَب أعيان الدروز، وطلب منهم في كتابَيْه أداء المطلوب منهم. وحين أصرَّ على تنفيذ أوامر إبراهيم باشا ولم يَلِنْ لاسترحامهم وتلطُّفهم، قرَّروا الهجوم عليه، وفاجأوه بكبسة عند الفجر وقضوا على الأكثريّة الساحقة من جنوده. وعن هذه الموقعة، المعروفة بـ”ذبحة البصيلي”، التي كانت بداية الثورة، جاء عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ولمّا علموا (دروز الجبل) ان لا بد للقوم اللئام من تنفيذ المرام فعند ذلك تحزّبوا وتحرّضوا على الحرب والشدايد والأهوال وجعلوا يشدّدوا بعضهم بعضًا للمعارك والقتال وتجمّعوا ومشوا على توفيق العلي المتعال وقصدوا لمحق هذا القتّال الضليل المحتال ليسقوه ولجنوده كاس البلية والويل والنكال. ثم انهم زمجروا كأنهم سباع ضاريات وأسود غضنفرية كاسرات أو ليوث قسورية عاديات وقصدوا ذلك القايد وجنوده الطغاة واستعانوا عليه بجبّار الأرض والسموات، وأتوا للبلد المذكورة فيا ويلها من بين البلدات. ثم انهم لبثوا حولها إلى أن برق الصباح وأضا بنوره ولاح فعندها هجمت عليهم السباع بالقتل والجراح وقد اسقوا الاعادي كؤوس البلا والويل والذباح… فما استقامت هذه الأهوال والعبر الا ساعة حتى اتى النصر والظفر وحلت بالقوم الزلازل والأرجاف والغير وأيقنوا بالخسف والحتف من خلاق البرية والبشر… ولم ينجى سوى قايدهم بنحو ثلاثين من الفرسان فتبعهم الأسد الهمام والشبل الباسل الضرغام ذو الغيرة على العيال والولدان اعني به جناب شبلي آغا العريان والشيخ فندي عامر والشيخ ابراهيم الأطرش الكواسر الفتيان وقد أردوا منهم كثيرًا في البراري والقيعان وشتتوهم من تيك الأماكن والديار والأوطان. وقد فقد بذلك النهار الشيخ ابراهيم الأطرش وثلاث عشر نفرًا غيره”.

  • هزيمة الحملة المصرية الثالثة

بعد إنزال الثوّار الهزيمة الساحقة بحملة عليّ آغا البصيلي، أنزلوا هزيمة كبرى بالحملة التي أرسلها حاكم الشام، شريف باشا، بقيادة محمد باشا. وحين بلغت محمد علي باشا (والي مصر) أخبار هاتَين الهزيمتَين أرسل وزير الحربيَّة أحمد منيكلي باشا على رأس حملة كبيرة أمدّها إبراهيم باشا بقوات إضافية فبلغ مجموعها أربعة وعشرين ألفًا بحسب ما جاء في كتاب الشيخ حسين الهجري.
أَعلَمَ بدْوُ السلوط الثوّارَ بوصول هذه الحملة إلى حدود جبل حوران، فاجتمعوا في محلّ الشيخ يحيى الحمدان ومعهم الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري، وقرَّروا التصدِّي للحملة. فسار شبلي آغا العريان على رأس ما يقارب الخمسمائة مقاتل، وقسَّمهم إلى ثلاث فرق، لكنهم اضطرُّوا إلى الانسحاب أمام ضغط الحملة المصرية إلى حيث تركوا نساءهم وأطفالهم. ولما تبعهم العسكر إلى هناك استبسلوا واستماتوا في الدِّفاع عن أعراضهم وأطفالهم وشيوخهم، وهزموه شرَّ هزيمة بفضل بطولاتهم، وبفضل نجدة نصيرهم أبي إبراهيم الذي رآه البعض، بحسب مايروى، يقاتل معهم في هذه الموقعة كما في المواقع التي تصدَّوا فيها للحملة الثانية، فاعتُبر نصرهم نصرًا من الله، كالنصر الذي حقَّقه ثوَّار الجبل على الفرنسيِّين يومَي الأول والثاني من آب 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، والذي قال عنه بعض مَن كتبُوا عن الثورة السورية الكبرى (1925-1927) كمُنِير الريِّس، إنه نصر من الله. وكالنصر الذي حقَّقَته المقاومة الإسلامية في صيف 2006 على العدوان الإسرائيلي، واعتبرَته نصرًا إلهيًّا. ولقد أشار السيخ أبو علي قسّام الحنّاوي، الذي كان أحد قادة الثوار، الى نصرة أبي ابراهيم للثوار بالبيت الشعري الأتي:

جانا أبو ابراهيم فازع بعزمه            وسيفــو بشـوف العين يلهب نار

إن هذا النصر الكبير تَحقَّق في رأي الشيخَين: حسين الهجري وقسَّام الحنّاويّ، بفضل سيف أبي إبراهيم، كما تحقق بفضل سيوف المقاتلين الأشدّاء الذين قال عنهم السائح الأميركي رسل ريزنع ما يلي: “متى سُلّت السيوف من الأغماد كان الضّارب بها أصلب قوم في غربي آسيا “الدروز” حتى إن زهرة الجيش المصري انكمشت وانهزمت من وجه تلك السواعد التي لا تُلوَى”.

جاء عند الشيخ حسين الهجري عن الحملة الثالثة ما يلي:

“وفرّينا امامهم إلى أن دنينا من الأهالي والعيال ونحن نقاسي بالشدايد على مثل ذلك الحال. فعند ذلك تصارخت النساء والأطفال والبنات والشبان والرجال مستغيثين بالعلي المتعال وبرسوله النبي الكامل ذي المجد والأفضال أن يوقّينا من هذه البلايا والأهوال ويمنع عنا كيد المارقين الفجرة الباغيين الضلال. فعند ذلك انقلب مع العساكر المصرية هذا الحال وحلّت بهم العواصف والصواعق والزلزال والسحق والمحق والهول والوبال وحضرت بهم البلايا والرزايا والنكال وصار يمرح بينهم أبو ابراهيم وهو بهم كنار زادت اشتعال حتى شاهدوه بعيونهم كبرق تدانى بالقيعان والجبال وقد اشفق علينا وأجاب دعانا بحضوره مع السؤال. فعند ذلك زمجرت منا الأبطال والشجعان وتطاحمت خلفهم الاسود الكواسر الفتيان وصاحت بحربهم فرود الرجال والشبان وتسابقت عليهم السباع الضواري بشده الباس والأركان وغنّى بهم السيف مع طعن السنان وعود الزان.
ثم اننا لم نزل بهذه الأفعال وهم بين أيدينا كأغنام للذبح تنادى عليها بسوق الدلاّل وقد أذاقوا شدة البلا والفوادح والأهوال بما حلَّ بهم من الخسف والحتف والنكال حتى صار رجل منا يجوز منهم مئة ويسلبهم الأرواح والأموال، وأملت جثاثهم ذلك الأماكن من سهلها والجبال. وقد نزل بهم الرواجف والبلايا والوبال. فلم نزل بطلبهم بهذا الحال نحو ساعتين ثم بعد ذلك وصلوا إلى الذخاير والمدافع والحمال وجميع زهابهم وجباخاناتهم المنقولة على عوالي الجمال وزمجروا على بعضهم بالحرب والقتال وطمعوا أن المدافع تدفع عنهم هذه البواعث والأحوال ولبثوا نحو ساعة على هذا المنوال وظنوا أن المنارة توقيهم من أسودنا والأبطال. ثم ان بعد هذه الساعة تجمّعت رجالنا وصاحت بهم أبطالنا وظهرنا فيهم شدايد أفعالنا. فعند ذلك ولّوا هاربين وللسلامة والنجاة طالبين وعلى أعقابهم ناكصين خايبين منعكفين وأرموا سلاحهم وفاتوا ذخايرهم وأموالهم وقد ذبحت روساهم واستوسرت أبطالهم. فعند ذلك استغنمنا جميع سلاحهم ومدافعهم والجباخانات واخذنا نوباتهم مع عزهم وبوقاتهم والنايات وفزنا ببيارقهم وذخايرهم مع لباسهم والرايات وتتبعناهم على هذا الحال حتى غدو ما بين أشتات وأموات ومنهم كثيرًا من التعب والنصب به الفوت فات لأننا قد رأينا منهم نحو خمسماية في جحيف واحد ما بين تلافًا وأموات من غير حرب ولا ضرب بل من شدة الزلازل والصيحات… واما هذه العساكر العظيمة قد بالغوا انه لم رجع الا نحو ثلثها إلى العرضي أو يزيد عن ذلك وعدم منها نحو ثلتينها ما بين قتيل وجريح وشتات في البراري وأسير”(13).

  • ردم إبراهيم باشا للينابيع وتسميمه لمياهها

لم يستطع إبراهيم باشا إخضاع دروز حوران وإخماد ثورتهم إلاّ بردمه للينابيع وتسميمه للمياه التي يشربون منها وتشرب حيواناتهم، بالرغم من احتجاج الطبيب كلوت بك ومعارضته لهذا العمل اللاإنساني. وهذا ما جاء عن ذلك عند الشيخ حسين الهجري:
“ثم انه هذا الظالم مشى على جميع قرايا اللوا(14) وهدم مناهلها وعدم ابيارها(15) كل قرية بقرية وكل منهل بمنهل وكل بلد يصير بيننا وبينه مجرا(16) عظيم وأمر جسيم ولله بذلك إرادة وتحكيم. ثم انه سار قاصدًا بعساكره إلى قرية لاهثة وكان ذلك الوقت منها ورودنا ونزل بجحفله عليها وجعل يهدم مناهلها فالتقينا وصار بيننا وبينه حرب شديد وفقد منه ذلك اليوم خلق عظيم ولم يفقد منا سوى رجل واحد فلما هدم مناهل البلد المذكورة وأهال عليها الجدران وقد وضع بالماء الجاز والسموم والجيف والدواب الزايدة القذار والانتان وانصرف خارجًا بعساكره من هذا المكان…

ثم انه بعد ذلك اتى إلى جميع القرايا المستديرة بجانب اللجاه وفعل بهم هذه الأفعال حتى كادت تهلك جميع الناس من هذا الحال وقد مات كثير من الظمأ وعدم الماء الزلال ولولا ذلك وعدم الماء لم يكن له علينا بعون الله سلطان ولا مجال… ثم انه بعدما هدم مناهل هذا البلد لم يكن هدم مناهل ام الزيتون ثم اننا لم نزل بالورد اليها فلما علم الظالم الغشوم بذلك فجهّز عساكره ومدافعه على جاري معتاده وقصد البلد ام الزيتون والقرى الذي لم يكون دمّر مناهلها وصار يفعل بهم الأفعال كما فعل بغيرهم من المناهل”.


المراجع

(1) أسد رستم: بلاد الشام في عهد محمد علي باشا، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1995، ص214-215. وأسد رستم: آراء وأبحاث، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1967، ص64.
(2) مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سورية لمؤلف مجهول، نشرها قسطنطين باشا المخلصي، وأعاد نشرها أحمد غسان سبانو، دار قتيبة، دمشق 1981.
(3) معظم أبيات القصيدتين واردٌ في كتاب زيد سلمان النجم: أبو علي قسّام الحنّاوي شيخ مجاهد وبطل قائد، دار العراب، دمشق 2013، ص 179-186.
(4) حنا أبي راشد: جبل الدروز، مكتبة الفكر العربي، الطبعة الثانية، بيروت 1961، ص46.
(5) انظر كتابنا: جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، دار النهار، دار عويدات، بيروت 1985، ص180-183.
(6) فندي أبو فخر: انتفاضات الشام على مظالم محمد عليّ باشا (1831-1840) دار الينابيع، دمشق 2004، ص129-147.
(7) فندي أبو فخر: الشيخ حسين إبراهيم الهجري، حروب اللجاه 1837-1838، دار كتب للنشر، بيروت2013.
(8) صدَر الكتاب عن دار الرّيّان في السويداء (سوريا) في أواخر سنة 2017.
(9) تَرِدُ في أدبيّات الموحّدين (الدروز) الدينية كلمة “الصدق” بحرف “السِّين” لا بحرف “الصاد”. ولحرف “السِّين” تفسير في حساب الجمّل الذي يعتمدون عليه، مختلف عن تفسير حرف “الصاد”.
(10) بغبا: بغير.
(11) محاليه: من كلمة “المحال” بمعنى أنها صعبة جدًّا.
(12) ملتقيين: موجودين بالصدفة أو بناءً على تفاهُم.
(13) يذكر عمر طوسون أن الحملة المصرية الثالثة بقيادة أحمد منيكلي باشا فقدت أكثر من أربعة آلاف جندي وستة آلاف بندقية ومدفعين وخمسين جملا محمّلًا بأزواد وكل متاع الضبّاط. انظر صفحات من تاريخ مصر. ذكرى مئوية البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948، ص366. وللمزيد من المعلومات انظر مقالتنا في مجلة “الضحى” العدد 10 (تشرين أول 2014)، ص28-37. وعنوانها “ثورة الموحِّدين (الدروز) على الحكم المصري”.
(14) اللوا: اللواء. وهو القسم الشمالي من جبل العرب، وقاعدته الرئيسة شهباء.
(15) أبيارها: آبارها.
(16) مجرا: قتال.

العميد الركن عصام أبو زكي بطل من هذا الجبل (1941 – 2018)

غيَّبَ الموتُ واحداً من الرّجال الأَشِدّاء، وقائداً عسكريّاً امتاز بالشّجاعة، والجُرأة والإقدام، بكلّ معنى الكلمة، فكان شخصيّةً فذّةً ورجلاً حواريّاً مع جميع الأفرقاء، فرض احتراماً وتقديراً من الجميع، وكانت له ميزات مُختلفة، ومكانة مُمَيّزة رفيعة، بين زملائه الضبّاط، عَنَيْتُ به بكلِّ فخرٍ وإباء العميد الرّكن الممتاز عصام أبو زكي.
ترك الرّاحل بَصمات لا تُمحى وإرثاً كبيراً فهو القائد العسكريّ الفذّ، والرّجل الكبير الذي عرفناه معرفة جيّدة، وقضينا وقتاً طويلاً معه. كان طيّب القلب، هادئ الطبع، ذا نظرة ثاقبة، رَصيناً مُحترماً عزيزاً مُكرَّماً حيث حلَّ وأين ارتحل، وفي عدّة مناصب أمنيّة كانت له مواقف وبطولات يعجز عنها الرّجال كما يعجز عن وصفها القلم في مواقف البطولة والفداء.

رحل عنّا العميد الرّكن المتقاعد عصام أبو زكي، في ظرف عصيب وفي أزمة اقتصاديّة وأمنيّة غير مستقرّة. تدرَّج وبلغ أعلى المناصب فتبوَّأَ المراتب العسكريّة الرّفيعة وكان قائد الشّرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي، بقي فيها نحو تسع سنوات متواصلة، وهذا يدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّه كان قويَّ الشكيمة، بلا منازع.
هو أحد الضبّاط البواسل القلائل الذين تمرّسوا بالوظائف العسكريّة الخطيرة فكان لها وكانت تليق به. رجل من القلائل الذين حافظوا على مكانتهم العسكريّة، وكانت لهم الكلمة المسموعة في جميع الميادين السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والإنسانيّة.
جريءٌ – كما قلنا – لا يهاب الموت، كان يحمل دماءه على كفّيه ويمضي حيث معارك الموت والقتال ماثلة أمام ناظريه. تحمَّل مسؤوليّاتٍ مختلفةً ومهمّاتٍ صعبةً فكان الإنسان الفذّ السّاهر على الأمن في الوطن وعلى أمن المواطن وسلامته وصحّته.
اختارَه الله إلى جانبه مبكّراً فاختطفه الموت، وهو مبتسم يخالطه المرح رغم تعاقب الأيام والسنين التي تحدّثنا عن رجل اقتحم غمرات الموت مرّات كثيرة، ورأى الظّلام بسواد عينيه وضلوعه وفي جميع أنحاء جسمه، إنَّه أحد الجبابرة الذين كانوا في انتظار الموت يقترب منهم في كلّ لحظة، والموت حقٌّ، وإرادة الله وحكمته لا مهربَ ولا مناص منهما لأنّ القضاء والقدر محتوم علينا القبول بهما فمشيئة الله وإرادته لا رادَّ لهما.
كان كلّما سنحت له الظّروف يزور القيادات الرّوحية في الطّائفة الدرزيّة، ويأخذ منها البركة والدّعاء بالتّوفيق والنّجاح والرّضى والتّسليم والمشورة واتّباع الرّأي الحكيم السّليم. كان العميد الرّكن عصام أبو زكي من أوفى الأوفياء وأخلص الخُلصاء وأنبل النّبلاء. هكذا عرفته وهكذا أعطي شهادة فيه في ختام حياته أمام النّاس جميعاً بصورة صادقة.

يمكننا القول بكلِّ فخرٍ واعتزاز: لقد كان العميد الرّاحل ضابطاً عسكريّاً باسلاً من ضبّاط الجيش اللّبنانيّ، كما في قوى الأمن الداخلي، وهو بذلك ينضمّ إلى كوكبة من أبرز الضبّاط المعروفييِّن الذين تعاقبوا عُمراً أو زمناً أو رتبة في تولّي أدقّ المسؤوليّات في الجيش اللبنانيّ كما في قوى الأمن الداخليّ، فنهضوا بها على أحسن وجه، وكانوا مثالاً يُحتذى في القيادة والنّزاهة والشّجاعة والحِرص على الوطن.

ولادته وعلومه
هو عصام بن أنيس بن أمين بن علي أبو زكي. وُلِد في “عينبال” الشُّوف، في جبل لبنان في 22 حزيران عام 1941.
تلقّى علومه الابتدائيّة في بلدته “عَيْنبال” ثمَّ انتقل إلى مدرسة الأمريكان في طرابلس، ومنها انتقل إلى مدرسة “الفرير” في منطقة فرن الشبّاك في بيروت، ثم انتقل إلى مدرسة عينطوره، ثمَّ إلى الجامعة الوطنيّة في “عاليه” وبعدها أكمل دروسه الثانويّة في مدرسة طريق الجديدة الرسميّة في بيروت “مدرسة البرّ والإحسان”.

مع الشهيد كمال جنبلاط
مع الشهيد كمال جنبلاط

قيادات عسكرية تولاها
تولّى القيادات العسكرية التالية:
قيادة سَرِيّة بعلبك، قيادة سريّة مدينة طرابلس، قيادة سريّة المُساندة، قيادة سريّة الجنوب، قيادة سريّة الطّوارئ في الفرقة 16.
كما تسلّم قيادة الشّرطة القضائيّة من عام 1984 إلى عام 1993.

واشترك في دورات وبعثات ومؤتمرات هي التالية:
◄ انتُدِب لمتابعة دورة دراسيّة في حقل الأمن في فرنسا في عام 1964، وفي عام 1965.
◄ تخصّص في حقل مُكافحة المخدِّرات والجرائم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، من عام 1973 إلى عام 1985، كما انتُدِب لتمثيل لبنان في مؤتمر (الإنتربول) والمؤتمر الدّولي للشّرطة الجنائيّة في (لوكسمبورغ) في عام 1984، وترأَّس وفد لبنان إلى مؤتمر (الإنتربول) الذي عُقد في واشنطن في عام 1985، ثم ترأَّس وفد لبنان إلى مؤتمر الإنتربول الذي عُقد في يوغوسلافيا في عام 1986.

انتُدِب لمتابعة الأعمال الأمنيّة التالية:
◄ متابعة دورة دراسيّة في إيطاليا لمكافحة الإرهاب، ثم تابع دورة أمنيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عام 1988 عنوانها (كيفيّة معالجة الكوارث).
◄ تابع دورة في مكافحة الجرائم في ولاية فرجينيا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عام 1992.
◄ ترأَّس وفد لبنان في عدّة أمكنة دوليّة وجال في عدد من الدّول العربيّة والأجنبيّة..

مع الزعيم وليد بك جنبلاط والوزراء الدروز
مع الزعيم وليد بك جنبلاط والوزراء الدروز

الأوسمة والتنويهات
حاز على الأوسمة التقديريّة التالية:
◄ نال الوسام التَّذكاريَّ في عام 1965.
◄ ثمَّ نال وسام الاستحقاق الوطنيّ برتبة فارس في عام 1984، ووسام الأرز الوطنيّ برتبة فارس في عام 1981.
◄ وسام التّقدير من جمهورية هايتي في عام 1982.
◄ وسام الاستحقاق اللبنانيّ من الدّرجة الثانية في عام 1983.
◄ نال أيضاً وسام الحرب في عام 1983.
◄ ووسام الصّليب الأكبر من رئيس الجمهوريّة في هايتي في عام 1984.
◄ ثم ميداليّة الجدارة في عام 1985.
◄ شهادة تقدير من وزارة العدل في الولايات المتّحدة الأميركيّة في مكافحة المخدِّرات في آذار سنة 1986.
◄ ثم وسام الحرب في عام 1992.
◄ ونال عدداً من الأوسمة الأجنبيّة والكثير من شهادات التّقدير من مختلِف البلدانِ العربيّة والأجنبيّة، ووسام الاستحقاق اللبنانيّ من الدّرجة الأولى في عام 1996، ثم وسام الأرز الوطنيّ من رتبة ضابط في عام 1997.
أمّا المِنَحُ التي أُعطِيت له بمرسوم جمهوريّ فهي التّالية:
◄ صدر مرسوم جمهوريّ في عام 1974، بمنحه ترقية للأقدميّة، سنة واحدة لبلوغه رتبة أعلى لأعمالٍ عسكريَّة باهرة قام بها.

◄ صدر مرسوم جمهوريّ لترقيته حسب الأقدميّة في سنة واحدة لبلوغ رتبة أعلى لقيامه بأعمال أمنية دقيقة في ظروف صعبة في مدينة طرابلس.

مع-رجل-الاعتدال-و-الحوار-سماحة-المفتي-الشهيد-الشيخ-حسن-خالد
مع-رجل-الاعتدال-و-الحوار-سماحة-المفتي-الشهيد-الشيخ-حسن-خالد
مع المرحوم الشيخ الجليل أبو حسن عارف حلاوي
مع المرحوم الشيخ الجليل
أبو حسن عارف حلاوي

بطولات ومآثر
◄ تصدّى للقوّات الإسرائيليّة في أثناء تولّيه قيادة سَرِيّة الطوارئ (فرقة 16) وحال دون تمكُّن الإسرائيلييِّن من الدّخول إلى حَرَمِ الثُّكْنَةِ العسكريّة في (ثُكنة الحلو على كورنيش المزرعة).
◄ أماط اللّثام عن شبكة تجسّس وأوقف أحد عناصرها.
◄ كشف الكثير من الجرائم الخطيرة وأوقف مرتكبيها.
◄ انتُخِب رئيساً لرابطة آل أبي زكي الاجتماعيّة في بلدته “عينبال” الشُّوف، بتاريخ 10/1/1986، وساهم مساهمة فعَّالة لبناء دار العائلة مُقدِّماً الكثير من المساعدات والخدمات في مُختلِف الحقول الإنسانيّة والاجتماعيّة، كما انتخب عضواً في المجلس المذهبي بموجب عام 2006 وتولى رئاسة اللجنة الاجتماعية وكانت له مساهمة فاعلة على صعيد تقديم الخدمات الاجتماعية. ويُذكر أنَّ والده الضابط الشّجاع أيضاً العقيد المرحوم أنيس أبو زكي (1910 – 1989)، ووالدته هي نجلا محمّد أمين حسن من بلدة عترين الشُّوف، في جبل لبنان، وكان متزوِّجاً من مَيّ فؤاد الغريب من بلدة “كفر مَتّى” قضاء عاليه، وأنجب منها ولدين هما: أنيس وباسل.

وفاته
مَرِض مَرَضاً شديداً في أواخر أيّامه، وعلى الرغم من العلاجات المتكررة في الدَّاخل وفي الخارج، إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى فوق كلّ إرادة إذ اختاره وهو بين أفراد عائلته وأقربائه في “عينبال” الشُّوف مسقط رأسه.
رحل العميد عصام أبو زكي إلى الأبد، ولكنّ ذكراه باقية، فهي دعامة الخلود في الآخرة… ولن ينال منك النّسيان مهما كان طاغياً ولا من ذكرك وذكراك أيّها البطل.

توفِّي الرّاحل الكريم في 25 شباط سنة 2018 وكان الوداع الأخير للعميد الذي أعطى ما في وُسْعه من أعمالٍ ومآثرَ وبطولاتٍ يعجز فيها الكلام.

مع الشهيد رفيق الحريري
مع الشهيد رفيق الحريري
صور من التشييع
صور من التشييع

كان مأتمه حاشداً إذ سدَّت الوفود الطّرق المؤدِّية إلى “عينبال” الشُّوف، من الإقليم وبعقلين وغريفة ودَير القمر.
حضر حفل التشييع ممثلون عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء حيث قلّده ممثل رئيس الجمهورية وسام الأرز برتبة ضابط أكبر.
كما حضر المأتم أيضاً جمع غفير من مشايخ طائفة الموحدين الدروز وفي طليعتهم سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن.
ومن أبرز الوفود المشاركة كان وصول الرئيس وليد كمال جنبلاط يرافقه نواب اللقاء الديمقراطي ومسؤولون في الحزب التقدمي الاشتراكي وشخصيات أخرى.
كما حضر المأتم أيضاً قضاة المذهب الدرزي ووفد كبير من مؤسسة العرفان التوحيدية برئاسة الشيخ علي زين الدين وأركان المؤسسة وأساتذة العرفان. بالإضافة الى حضور مدير عام وضباط قوى الأمن الداخلي ورئيس أركان الجيش اللبناني اللواء حاتم ملاك.

وقد تقبّلت العائلة التّعازي أيضاً في دار الطائفة الدرزيّة في بيروت التي كانت مزدحمة بالمُعَزّين فضاقت عن استيعاب الحشود التي جاءت من جميع المناطق اللبنانيّة لتقديم التّعازي الحارّة والأسف الشّديد على فَقْدِ هذا الرّكن الرّكين في البلاد.
وقد قدّم واجب التعزية بالفقيد أيضاً عطوفة الأمير طلال أرسلان.
كان العميد عصام أبو زكي شجاعاً جريئاً ثابتاً في مواقفه بالرّغم من محاولات بعض السياسييِّن إقصاءه عن قيادة الشّرطة القضائية في سنة 1993 إذ كافح الاتجار بالحشيشة والفساد والرّشوة والجريمة، وتمكّن بفعل خبرته وشجاعته وشفافيّته من الإمساك بأصعب الملفّات والإيقاع بأخطر عصابات التجسّس والاتجار بالمخدِّرات. كانت قبضة العميد الرّكن أبو زكي قبضة وطنية من حديد، وبخاصة في اللحظات الحرجة، كما كان لا يُبارى في نزاهته وبشهادة جميع عارفيه وزملائه.

العميد الركن المرحوم عصام أبو زكي مدرسة في الوطنيّة والإخلاص والمحبّة والوفاء ورفعة الأخلاق، انتزع احترام النّاس بمواقفه وحرصه على تنفيذ القانون وتفانيه في خدمة مجتمعه وأهله، كما لقوى الأمن الساهرة على أمن المواطن والدّولة معاً.

عصام ابو زكي
عصام ابو زكي

حمَد صعب

حمَد صعب
أسطورة جهاد معروفيّة

المجاهد المعروفي في ثورات المشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين

خُلِق حَمد صعب لِيخوضَ غِمار الثّورات التي نشبت في زَمَنِهِ في المشرق العربي الذي شهد أفول شمس الدّولة العُثمانيّة عام 1918، فمن أين جاء هذا الرجل الذي انخرط منذ بواكير شبابه في ميادين الكفاح باحثاً عن تجسيد للحُلُم العربيّ يتجاوز ذلك الخمول الذي ران على الأمّة طيلة قرون مديدة سيطر فيها التخلّف على العرب والمسلمين؟.

نعم؛ لم يَزَل الرّجل حاضراً في ذاكرة النُّخبة من المؤرّخين والمثقّفين العرب الذين يقرّون بحقائق التاريخ. وكذلك هو الحال في أوساط أبناء المجاهدين وأحفادهم في جبل العرب.
كتب المجاهد الأستاذ الصحافي أكرم زعيتر مُشيداً بنضال بني معروف وانتمائهم إلى تراث العروبة يقول: ” تتردّد في ذاكرتي أسماءُ الشّهداء الأبطال من بني معروف كرشيد طليع والقائد العبقري فؤاد سليم وعادل نكد وحمد صعب من دروز لبنان وأمّا الشهداء من جبل العرب فلا يحصيهم عَدٌّ…”(1).

من هو حمد صعب!
وُلِدَ حَمَد بن محمود بن حسين بن محمود بن مرشان صعب عام 1891 في قرية الكحلونيّة في الشّوف وقد تلقّى علومه الأولى في المدارس المحلّيّة. التحق بالجندية العثمانيّة عام 1913، وتركها عام 1918 ليلتحق بالحكومة الفيصلية العربيّة في دمشق واشترك في معركة ميسلون في 22 تموز 1920 وكان أحد الأبطال الوطنيين الذين شنّوا حرب العصابات بقيادة فؤاد بك سليم ضد قوّات الاحتلال الفرنسي عند دخولها البلاد فشغلوا الجيش الفرنسي من جبل عامل حتى جبال العلوييِّن مدّة من الزّمن، وكان من رفاقه حسيب ذبيان وسعيد ملحم بشير ونجيب حمادة وكامل حمادة وناصيف ذبيان وحمد الحسنية وسلمان الحسنية، ثم نزح مع بعض المجاهدين إلى إلى الأردن حيث بقي فيها إلى أن اندلعت الثورة السوريّة الكبرى سنة 1925 فالتحق بها..(2)
كان حمد صعب من خاصّة الرّجال المقرّبين من الرّئيس ــ رتبة عسكريّة آنذاك ــ فؤاد سليم، الذي كان قائد الفوج المؤلّف من سلاح الفرسان والمشاة في جيش الثورة العربيّة الذي دخل إلى الشام مع الملك فيصل بن الحسين، وعندما انسحب فيصل من سورية بعد معركة ميسلون أرسل فؤاد سليم إلى حيفا بمهمّة لدى الإنكليز، ثم عهد إليه بأن يذهب إلى الأردن لتمهيد الأمر مع رؤساء العشائر العربية والإعداد لثورة شاملة ضدّ الفرنسييِّن تشترك فيها سوريا والأردن وجبل الدروز وتكون عمّان مركزها …”(3)
واستمر حمد صعب إلى جانب فؤاد سليم يجمعهما هدف عروبي جهادي واحد، فأولئك النّخبة من رجال الحلم العربي الذين كافحوا ضد العثمانييِّن وكانوا إلى جانب فيصل في دمشق قد انتقل غالبيّتهم إلى الأردنّ، ولكنّ بعضهم، وبعد أن تبيّن لهم أنّ عبد الله بن الحسين أمير دولة شرق الأردن ينفّذ سياسة الإنكليز خِفيَةً عنهم ومنهم رشيد طليع وعادل أرسلان وحمد صعب ورفقاؤهم فقد انتقلوا تباعاً إلى جبل الدروز (كما كان يُدعى حينها) للانضمام إلى القتال في معارك الثّورة السورية الكبرى بعد انتصاراتها الأولى التي حقّقتها على القوّات الفرنسيّة. ومن الثابت أنّ حمد صعب ورد اسمه مراراً في مذكّرات سلطان باشا الأطرش (4) وكان من بين أولئك الرّجال الذين لم يتنازلوا عن الحلم بالدّولة العربية الذي قاتلوا العثمانييِّن من أجله، ومن ثمّ قاتلوا الفرنسييِّن، وتناقضوا مع الإنكليز من أجل تحقيقه أيضاً.

بلدة الكحلونية حيث ولد حمد صعب
بلدة الكحلونية حيث ولد حمد صعب

الملك فيصل بن الحسين، وعندما انسحب فيصل من سورية بعد معركة ميسلون أرسل فؤاد سليم إلى حيفا بمهمّة لدى الإنكليز، ثم عهد إليه بأن يذهب إلى الأردن لتمهيد الأمر مع رؤساء العشائر العربية والإعداد لثورة شاملة ضدّ الفرنسييِّن تشترك فيها سوريا والأردن وجبل الدروز وتكون عمّان مركزها …”(3)
واستمر حمد صعب إلى جانب فؤاد سليم يجمعهما هدف عروبي جهادي واحد، فأولئك النّخبة من رجال الحلم العربي الذين كافحوا ضد العثمانييِّن وكانوا إلى جانب فيصل في دمشق قد انتقل غالبيّتهم إلى الأردنّ، ولكنّ بعضهم، وبعد أن تبيّن لهم أنّ عبد الله بن الحسين أمير دولة شرق الأردن ينفّذ سياسة الإنكليز خِفيَةً عنهم ومنهم رشيد طليع وعادل أرسلان وحمد صعب ورفقاؤهم فقد انتقلوا تباعاً إلى جبل الدروز (كما كان يُدعى حينها) للانضمام إلى القتال في معارك الثّورة السورية الكبرى بعد انتصاراتها الأولى التي حقّقتها على القوّات الفرنسيّة. ومن الثابت أنّ حمد صعب ورد اسمه مراراً في مذكّرات سلطان باشا الأطرش (4) وكان من بين أولئك الرّجال الذين لم يتنازلوا عن الحلم بالدّولة العربية الذي قاتلوا العثمانييِّن من أجله، ومن ثمّ قاتلوا الفرنسييِّن، وتناقضوا مع الإنكليز من أجل تحقيقه أيضاً.

حمد صعب يواجه منفرداً فصيل المداهمة الفرنسي في بيته في الكحلونية
يقول نبيه فيصل: ولعلّ أبرز شخصية في تاريخ الكحلونية هو المغفور له حمد بك صعب، وقد كان قائداً فذّاً شارك في الثّورات العربيّة الثلاث المشهورة: ثورة الشريف حسين (أي: الثورة العربيّة الكبرى على العثمانيين عام 1916)، وثورة سلطان باشا الأطرش (أيّ: الثّورة السورية الكبرى عام 1925ــ 1927)، وثورة فوزي القاوقجي؛(أي: الثورة الفلسطينية عام 1936)، وقد استشهد في العراق عام 1941(على أثر قصف الطائرات البريطانية لقافلة سيّارات من بينها السيّارة التي كانت تُقِلُّه إلى جانب فوزي القاوقجي على أثر مشاركتهما مع العديد من الثُّوار السورييِّن والفلسطينييِّن واللبنانييِّن في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضدّ الإنكليز وعملائهم) حين رمى بنفسه على القاوقجي فنجا (أي: القاوقجي) وأصِيب حمد يومها إصابة قاتلة…
ويذكر نبيه فيصل لحمد صعب حادثة بطولة فريدة بقوله: جاءت ” كَبْسة فرنسيّة”، (أي: جماعة من عناصر الدّرك الفرنسي) بُعَيْدَ طلوع الفجر تطرق بابه للقبض عليه في قريته الكحلونيّة، كان قائد المجموعة برتبة ضابط. فتح حمد بك الباب بنفسه إذ لم يكن من رجل غيره في البيت، وكان لا يزال في ثياب النوم، فالمداهمات تكون عادة عند طلوع الفجر، سألوه عن حمد صعب، فقال: ” تفضّلوا بالدّخول وسوف يحضر حمد حالاً بعد أن تكونوا قد شربتم القهوة، وتركهم يشربون القهوة في بهو منزله الأثري الذي لم يزلْ قائماً، ويسمّى الآن ” الخلوة” وهو منزل جميل فعلاً وفسيح يقيم فيه ذووه. دخل إلى غرفته وارتدى الزّيّ العسكريّ الذي يرتديه أثناء خوض المعارك وامتشق سلاحه وجُعَبَ رَصاصِه ودخل إليهم قائلاً: “تفضّلوا؛ أنا حمد صعب بتصرِّفكم”!.
ويُحكى أنّ الضابط وقف احتراماً لهيبته، ثمّ قال: “يبدو أنّي لست بالحجم والمستوى المناسبين للقبض على حمد صعب، وسوف أعتبر نفسي لم أحضر حتّى الساعة، فجوادك مُسْرَج وقد رأيناه، يمكنك امتطاؤه والذّهاب حيث تريد…”(5)
ويذكر أدهم الجندي وعلى أثره يسير الدكتور الباشا أنّ حمد صعب التحق بالثّورة(الدّرزيّة)، وحقيقة الأمر أنّ ما يدعوه كلّ منهما بـ (الثورة الدرزيّة) ما هو إلاّ الثّورة السوريّة الكبرى؛ لأنّ بني معروف؛ المُوَحّدين الدّروز لم يقوموا بثورة طائفيّة تنحصر حدودها في حدود تواجدهم الطائفي، ولو كان هذا هدفهم لقبلوا بالدّولة الدّرزيّة التي منحتهم إيّاها فرنسا واعترفت لهم بها، وقد كانت حدود تلك الدّولة المعترف بها من سلطات الانتداب آنذاك تتجاوز ضعف مساحة محافظة السّويداء الحاليّة، إذ إنّ كافة الحكومات الوطنيّة التي تعاقبت على السّلطة منذ استقلال سورية بدون استثناء؛ قد قامت بتقليص مساحة المحافظة إلى نحو نصف ما كانت عليه في عهد الانتداب.
ما يهمّنا هنا أنّ حمد صعب وأقرانه من مجاهدي بني معروف لم يقاتلوا لأغراض درزيّة طائفيّة؛ بل قاتلوا من أجل دولة عربيّة مستقلّة؛ حدودها من عدن إلى جبال طوروس…

حمد صعب كاتباً لدى الشيخ يحيى الأطرش في دار إمارة الموحدين الدروز في بلدة عِرى
من خلال البحث الميداني في التاريخ الشّخصي للمجاهد حمد صعب يبدو لنا أنَّ هناك فترة منسيّة لم يُشر إليها أحد ممّن أرّخوا لحياة هذا المجاهد الكبير، وهي الفترة التي تلت انتهائه من مدرسة بعقلين، أي فترة شبابه الباكر، وهي أنّ حمد صعب عمل كاتباً عند شيخ مشايخ الدّروز يحيى بيك الأطرش في بلدة ” عِرى”(6)، وكان على صلة حسنة به، ومن المعروف أنّ يحيى الأطرش توفّي عام 1914، وأنّه أي يحيى بيك كان على صلة بالحركات العربيّة السرّيّة المناهضة للعثمانيين، وأنّ الوالي العثماني على الشام آنذاك جمال باشا السفّاح قد أرسل قوّة من الجنود العثمانيين لاعتقاله بدعوى انتمائه لـ “الجمعيّة العربية الفتاة “التي يقوم العثمانيون بملاحقتها؛ غير أنّه عندما وصل هؤلاء إلى قرية “عِرى” كان أمامهم حشود من الموحّدين الدّروز يحضرون جنازة زعيمهم المتوفّى يحيى بيك الأطرش…
والسؤال هنا؛ لئن كان يحيى الأطرش عضواً في الجمعيّة العربيّة الفتاة، فهل يُسْتَبْعَدُ أن يكون كاتبه والمقرّب منه، الدّرزي اللّبناني حمد صعب بعيداً عن التأثّر بفكرة العربيّة الفتاة ودعوتها العروبيّة للتحرّر من النّير العثماني؟ وعلينا ألّا ننسى أنّ عدداً غير قليل من اللّبنانييِّن؛ ومنهم الدّروز لم يكونوا بعيدين عن المشاركة في الحركة الاستقلاليّة عن الحكم العثماني، وقد أثبتت ممارسات حمد صعب طيلة حياته أنّه قد وضع حياته رهناً لفكرة العروبة النّبيلة إلى جانب من رافقه في النّضال من أجل تحقيق ذلك الحلم الذي مازال متعثّراً إلى يومنا هذا.
وبالاستناد إلى رواية الدكتور ملاعب نستنتج أنّ الشّاب حمد صعب مارس عمله كاتباً في دار إمارة الدّروز قُبيل انتسابه إلى الجيش العثماني في عام 1913 حسب ما يذكره المؤرّخون الذين سبق لهم أن تناولوا سيرة حياة الرّجل بشكل مُختصَر لفقدان مذكّراته يوم استشهاده، وهذا التقصير في التأخّر في جمع المعلومات حول سيرته يرتّب على الباحث أن يُنَقّب في مذكّرات وسيَر معاصريه لكشف صورة واضحة تجلو ما أحاط جهاد ذلك المناضل من غموض.

المجاهد حمد صعب
المجاهد حمد صعب

حمد صعب، ومحاولة اغتيال الأميرال مورني في بعقلين عام 1919
في شهر آب من العام 1919 كان قائد الأسطول الفرنسي الأميرال مورني يصحبه الدبلوماسيّ الفرنسيّ جورج بيكو ويرافقهما ضباط كبار وموظفون تابعون، وكانوا بصدد زيارة سماحة شيخ العقل؛ الشّيخ حسين حمادة. في تلك الأثناء أُطْلِق رصاص غزير على مورني ومن يرافقه، فأصيب وصدرت الأوامر بالرّد، وعلى أثر هذه الحادثة حَمَّل الفرنسيون مسؤوليّة ما جرى إلى كلّ من مجموعة شكيب وهّاب ومجموعة حمد صعب(7)، لذا فقد بعثوا بحملة عسكرية إلى الشوف قامت بمداهمة القرى الشّوفيّة، فَدَمّرت البيوت وأَحرقت القرى، وبطبيعة الحال كان لبعقلين بصفتها مكان عمليّة محاولة الاغتيال، وغريفة بلدة شكيب وهّاب؛ ومزرعة الشوف والكحلونية بلدة حمد صعب نصيبٌ وافرٌ من الدَّهْمِ بقصد ملاحقة شكيب وهّاب وحمد صعب وغيرهم من الثوّار، أمثال فندي أبو ياغي زهر الدّين، وسعيد ملاعب وكان لكلّ من حمد وشكيب مجموعة يقومان بقيادتها في مقاومة الفرنسيين، ومن بين المطلوبين أيضاً كان المجاهدان فارس سَرِيّ الدّين، وأحمد عبد الباقي…
إن عبئاً غير قليل يقع على كاهل من يبحث في حياة حمد صعب هذا المجاهد البارز الذي لم يقيّض له من يبحث بتوسّع في موضوع كفاحه الوطني لظروف عديدة، ولكن أخباره تنتشر متفرّقة في بطون الكتب التي تناولت بطولات المجاهدين وثوراتهم وأخبارهم في سنوات العقد الثاني من القرن العشرين وحتى سنة استشهاده عام 1941م، ومِمّا يذكره نديم الدبيسي أنّه ” في عهد الانتداب الفرنسي كان الثّوار يلجأون إلى قرية مْرستي للاختباء في منازلها وفي جبلها هرباً من العساكر التي كانت تلاحقهم، أو للاستراحة من عناء السّير عند ذهابهم إلى البقاع وسوريا والأردن وفلسطين، وأثناء عودتهم منها. وقد شارك في الثورة ضد الانتداب الفرنسي عدد من الثوّار والمجاهدين…” وفي معرض أسماء المجاهدين الذين يذكرهم الدّبيسي(8) ممّن كانوا من روّاد مرستي تلك الأيام العصيبة يرد اسم المجاهد حمد صعب، وتقتضي منّا الأمانة ألاّ نكتفي بذكر المجاهد صعب لكونه موضوع البحث الرّئيس هنا، بل علينا أن نذكر أسماء رفاقه لكي يبقى ذكرهم مثلاً يقتدى به للأجيال، ومن أولئك الأبطال:” شامل نجم عزام من قرية معاصر الشوف، وفؤاد علامة من بعذران، وصالح العسل من بكّيفا، واسماعيل عبد الحق من عين عطا، وحسن ثابت من باتر، وأحمد سليمان هاني من بعذران، وزين الدّين شاذبك من بعذران، وخطار أبو هرموش من السمقانية وفارس سريّ الدين من عترين، وسعيد وشاهين ملاعب وشفيق سليمان الحلبي من بيصور، وسليم وغضبان الدّبيسي من عرمان (جبل العرب)، وقاسم زهر الدين وفندي أبو ياغي زهر الدين من كفر فاقود، وهاني الدّلغان من كفر نبرخ وسعد نجم الغصيني من بعقلين ويوسف حسين الحلواني من مرستي، وهاني زحلان من عاليه، وأحمد البتلوني وعمار الخفاجي وعلي شرف من جباع الشوف”. كان أهالي قرية مرستي بنتيجة إيوائِهم ومساعدتهم للثوّار يعانون أشد أنواع القهر والعذاب من قبل رجال الجندرمة الفرنسييِّن الذين كانوا يداهمون القرية على شكل مجموعات من ثلاثين أو أربعين عسكريّاً مع خيولهم؛ حيث يقومون بتفتيش المنازل وتوقيف الأشخاص والتحقيق معهم، ويفرضون على الأهالي غرامات ماليّة، وتقديم الطعام لهم والعلف لخيولهم.

حمد صعب؛ الناشط ضد
الاحتلال الفرنسي
ولعلّ ما يؤكّد صلة حمد صعب بالنشاط السرّي في الجمعيّات العربيّة صلته الوطيدة بالعقيد فؤاد سليم وهذا هو أحد الضباط الأحرار في جيش الثّورة العربيّة الذي شارك في دحر العثمانييِّن من الحجاز والشام. وعلى أثر فضح الشّيوعيين البلاشفة عام 1917 خداع الإنكليز والفرنسيين للعرب ونشرهم معاهدة سايكس بيكو التي كانوا قد أبرموها سرّاً عام 1916، وردّاً على الغدر الأ نكلو فرنسي بأماني العرب الوطنية؛ أقدم الضبّاط الأحرار في الجيش العربي آنذاك على عقد اجتماع سِرّيّ واختاروا العقيد فؤاد سليم رئيساً لِتَجمّعهم باسم ” تجمّع الضبّاط الأحرار”.
كان هذا قبل أن يتمَّ تحرير بلاد الشام من الاحتلال العثماني عام 1918، وكان حمد صعب قد التحق في أواخر تلك السنة بقوّات الثّورة العربيّة التي كان يقودها الأمير فيصل بن الحسين. وعندما تمّ تشكيل الحكومة العربيّة الأولى برئاسة رضا باشا الرِّكابي في دمشق بعد طرد العثمانييِّن منها كُلّف العقيد فؤاد يوسف سليم بقيادة فوج المشاة السيّار، وكان هذا الرّجل، ولبعد نظره، ولإحساسه بالمخاطر التي تتهدّد البلاد قد بادر باختيار فريق من الرّجال الشّجعان الموثوق بإخلاصهم الوطنيّ، ومن هؤلاء الرّجال المختارين كان المجاهد حمد صعب؛ الذي كانت رتبته في الجيش العثماني؛ نائب وكيل، وبهذا يكون حمد صعب قد كرّس انشقاقه عن الجيش العثمانيّ ليلتحق مقاتلاً في جيش الثّورة العربيّة الذي كان يقاتل للتخلّص من النّير العثماني الذي خيّم على العرب طيلة ما يربو على أربعة قرون…
كان العقيد فؤاد سليم قد اختار رجاله فرداً فرداً من مختلف الطوائف والفئات الاجتماعية في البلاد وأطلق عليهم اسم ” فرقة المغاوير الفدائية “، وكان حمد صعب واحداً من أولئك النّخبة الذين كافحوا ضد آلة الاستعمار الفرنسية العاتية؛ أقوى دولة على البر الأوربي آنذاك، وقد عملت هذه الفرقة المُنْتقاة من المجاهدين على تنفيذ عمليّات مقاومة وقتال شاغلت فيها الجيش الفرنسيّ في مواقع عديدة في سهل البقاع وعلى الحدود اللبنانيّة والسوريّة…
حمد صعب وعشرات من الدّروز يقاتلون في معركة ميسلون
في مقابلة شخصية أجراها الدكتور حسن أمين البعيني مع النائب شبلي العريان بتاريخ 23 آب 1986، ذكر العريان أن الأمير زيد بن الحسين، أخا الملك فيصل أرسل حمد صعب، وسعيد محمود وأخاه مصطفى، من دروز الشّوف إلى توفيق العريان،والده؛ ليستنفر المقاتلين من أجل الذهاب إلى ميسلون(التي هي عبارة عن ممرّ إجباري للجيوش على الطريق إلى دمشق)، والتصدّي للفرنسييّن. فحضر والده إلى ميسلون مع الرسل الثلاثة (أي: حمد صعب والأخوان محمود)، وعشرات المجاهدين واشتركوا في القتال، وأبرز المقاتلين الذين يتذكّرهم شبلي العريان هم علي أسعد العريان، وسليمان سيّور، وفؤاد الحلبي، وملحم سلّوم وسعيد ملاعب(9)
و ” ابتداء من نيسان 1919شرعت الحكومة العربيّة (أي الحكومة الفيصليّة في دمشق) بتشجيع العصابات الوطنية في “المنطقة الغربيّة”،(أي الساحل السوري اللّبناني) …
ومن بين تلك المجموعات الوطنيّة مجموعة من المجاهدين ” مؤلّفة من 103 مجاهدين من مناطق متعدّدة سوريّة ولبنانيّة، بينهم الكثير من الدّروز اللُّبنانييِّن الذين يأتي في طليعتهم القائد فؤاد سليم ومعاونه الملازم حسيب ذبيان”(10) كما أنّ “الحكومة العربيّة أرسلت عصابَتَيّ سعيد محمود وسعيد ملاعب الدرزيّتين للقيام بعمليات إخلال الأمن في جهات الجُرد والشحّار وجبل الباروك. ولم تتصدّيا ومثيلاتهما للفرنسييِّن فقط، بل تصدّتا أيضاً أيضاً للعصابات المسيحيّة التي شكّلوها (أي: الفرنسييِّن) لمساعدتهم…”.
كان الفرنسيّون وحتى الإنكليز من ورائهم يستعجلون الإجهاز على الدّولة التي تجرّأ السوريّون من سائر بلاد الشام على إعلانها واعتبارها تشمل سورية بحدودها الطبيعيّة”، فالفرنسيون يريدون سورية ولبنان(11)، والإنكليز يريدون فلسطين والأردن، وهم معاً كغرب استعماري؛ لا يريدون أن يَرَوْا في العرب دولة قويّة قد تُفْشل خططهم التي حبكوها مع اليهود الصّهاينة لتمزيق المنطقة العربيّة وسلب فلسطين من شعبها، لذلك كان يوم ميسلون يوماً فرضته مصالح أوروبيّة، وكان غورو يعتبر نفسه سليل إفرنج القرون الوسطى الذين غزوا بلاد العرب باسم الصّليب، وهو بهذه الرّؤية يمثّل المصالح الفرنسيّة في الشرق.
كان الحضور الدّرزي في ميسلون بارزاً سواء على صعيد المجنّدين النّظامييِّن، أو على صعيد المتطوعين. طلبت قيادة الفرقة السوريّة ضابطين يتطوّعان لكشف مواقع العدو في المؤخِّرة فلم يتقدم لتلك المهمّة الخطرة إلاّ سعيد عمّون (هو مسيحي عروبي من دير القمر، وابن اسكندر عمّون وقد كان هذا وزيراً في الحكومة العربيّة في الشام، وكان يرى أن استقلال لبنان تَضمنُه حماية عربيّة لا أجنبيّة)وحسيب ذبيان (درزي من مزرعة الشُّوف كان ضابطاً في الجيش العثماني، ومن ثمّ التحق بالحكومة العربيّة). وقد اشترك فؤاد سليم في ميسلون مع المناضلين الذين قادهم في حرب العصابات، ومن بينهم العديد من الدّروز”، (12)
وثبت فؤاد في ميسلون ساعة التقهقر، وكاد يؤسر ونجا بأعجوبة(13). كما يشير البعيني إلى اشتراك اشتراك عشرات المجاهدين من دروز راشيا في معركة ميسلون.(14)

فؤاد سليم
فؤاد سليم

حمد صعب في ميادين الثّورة السّوريّة الكُبرى عام 1925م
كتب الدِّيبلوماسي اللّبناني حليم أبو عز الدين أنَّ حمد صعب كان من رفاق سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وحمد البربور ونسيب الأطرش ومحمّد عز الدين الحلبي وفوزي القاوقجي وأحمد مريود وزيد الأطرش وغيرهم.
يقول القاضي أمين طليع: “سمع رشيد طليع صوت النّفير يعلنه صديقه سلطان باشا فأخذ لفوره يدبّر ما يمكن تدبيره للمساعدة والاشتراك ويمَّم وجهه شطر فلسطين من حيث أرسل الرّسل إلى الرّفاق فكان أول الوافدين العقيد فؤاد سليم الذي كان ذاهباً إلى اليمن (بدعوة من قبل الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن لتنظيم الجيش اليمني، وبانتمائه للثّورة السوريّة فقد عمل فؤاد سليم بمبدأ (الأقربون أولى بالمعروف )، ثم حضر البطل أحمد مريود من العراق؛ (كانت السّلطات الفرنسيّة تلاحقه بدعوى اشتراكه في محاولة قتل الجنرال غورو)، وسبقه إلى الجبل نبيه العظمة وتمّت المراسلة بينه وبين صديقه ابراهيم هنانو ثم جاء شكري القوتلي والقائد محمّد اسماعيل والمجاهد حمد صعب وكثيرون غيرهم…”.(15)
ومن متابعتنا لمرويّات الثّورة السورية الكبرى والأدوار التي لعبها قادتها والرّجال المسهمون فيها نلاحظ أن الدّور الذي لعبه حمد صعب كان دوراً قياديّاً وتنفيذيّاً فهو قائد فعّال حيث يتطلّب الأمر، “كان حمد صعب يقود جماعة من الثوّارمؤلّفة من ثلاثين مجاهداً هاجمت القرية (كفر مشكي) من الجنوب، فيما تقدّمت مجموعة أحمد سلمان هاني من الشمال، وفيها خمسة وعشرون مجاهدًا، ومجموعة شكيب وهّاب من الغرب وفيها خمسون مجاهداً، وقد احتلّ أولئك المجاهدون مخفر بلدة كفر مشكي الحصين بعد معركة ضارية، وأسروا عدداً من عناصر المخفر، واقتصُّوا من بعض المتعاونين مع السّلطة الفرنسيّة”(16)، وبعد تلك المعركة تقدّم الثوّار إلى بلدة ” حَلْوَة حيث أفلحوا في طرد القوات التابعة للفرنسييِّن منها، وإصابة نحو العشرين من عناصرها بين قتيل وجريح.
بعد تلك المعركة اتّجه المجاهدون نحو بلدتي البيرة والرفيد، وهناك اصطدموا بالقوّات الفرنسيّة التي سيّرها الفرنسيون لمواجهتهم بقيادة الكولونيل لوفو بتاريخ السّادس عشر من شباط 1926، كانت قوات المجاهدين بقيادة كلٍّ من شكيب وهّاب وحمد صعب، وخطار أبو هرموش وأحمد هاني. وفي تلك المعركة الضّارية تمكّن المجاهدون من السّيطرة على مُجرَيات القتال، فانهزمت القوّات الفرنسيّة، وتقهقر الكولونيل “لوفو” مع حملته الجريحة نحو راشيّا في الثامن عشر من شباط وقد خسر الفرنسيون في تلك المعركة أكثر من مئتي قتيل وجريح، كما غنم المجاهدون الكثير من الأسلحة والذّخائر والخيول(17)…

حمد صعب في معركة ينطا
في ينطا كان الثوّار مُوَزّعين على شكل مجموعات من المجاهدين يقودهم كلّ من شكيب وهّاب وحمد صعب وأحمد هاني، وخطار أبو هرموش، وإلى جانب تلك المجموعات شارك أهالي المنطقة بقيادة آل الداود وآل العريان، وأبدى المجاهدون بسالة في مقاومة الجيش الفرنسيّ، وقد انسحب الثوّار تجنّباً لوقوعهم في طَوْق القوّات المُعادية، بعدما ألحقوا بالقوّات الفرنسيّة “مئة إصابة بين قتيل وجريح، في حين سقط للمجاهدين عشرين إصابة”، ويؤكّد الدكتور حسن أمين البعيني أن حمد صعب كان قائداً لإحدى مجموعات المجاهدين في الثّورة السورية الكبرى.(18)
كانت مواجهات مجموعات الثوّار ضد القوّات الفرنسيَّة قد جعلت قيادتها تتخوّف من سيطرة قوّات المجاهدين على البقاع، وذلك خوفاً من ضرب الحصار على قوّاتهم في جنوب سوريا، وكان المجاهدون يصدرون في تحرّكاتهم الحربيّة عن تكتيك واستراتيجيّة صحيحين، لكنّ مُشكلتهم كانت تكمن في نقص الإمداد بالأسلحة، فهم يحاربون دولة أوربيّة كبرى ولديها الأسلحة الثقيلة من الطيران والمدفعية والدّبابات والعربات وما إلى ذلك، أمّا هم فأسلحتهم لا تتعدّى البنادق وبعض الرشّاشات والأسلحة الفرديّة الخفيفة والسّيوف، وهم يتنقّلون على ظهور الخيول أومشاة ومع ذلك فهم يحاربون مدفوعين بإيمانهم بحرّيّة الوطن واستقلاله.

حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها
حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها

حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها
كان لهيب الثّورة السوريّة الكبرى عام 1925 قد انتشر معظم أنحاء سورية كما امتدت إلى مناطق عديدة من لبنان. ويقول الدكتور محمّد الباشا أنّ حمد صعب “حضر كلّ معارك الثّورة في وادي التيم، وكان من الأبطال وهو واحد من أولئك المجاهدين الذين اقتحموا باب قلعة راشيّا، ودخلوها في 25 تشرين الثاني 1925م، ومنهم شكيب وهّاب وحمزة درويش وغيرهم”، وفي الاستيلاء على كفرمشكي كان يقود مجموعة من 30 مجاهداً سيطروا مع المجموعات الأُخرى المجاهدة على البلدة ومخفرها الحصين بعد معركة ضارية، صحيح أنّهم كانوا دروزاً، ولكنّ أهدافهم كانت تتجاوز أفق الطّوائفية الضّيّقة إلى فضاء الحُلُم الأوسع بوطن كبير قصَّرت عن تحقيقه الأجيال اللّاحقة؛ وإلى يومنا هذا…

وفي معارك مجدل شمس، كان حمد صعب من القادة الأبطال البازين، وخاض معركة الرَّشيدية الرّهيبة، إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وجرح فيها، وهذا قليل من كثير من المعارك التي خاضها حمد صعب بشجاعة فائقة ورجولة نادرة(19).

حمد صعب يحتضن فؤاد سليم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة
كان حمد صعب يقاتل قريباً من فؤاد سليم في معركة مجدل شمس تلك البلدة التي أصبحت قاعدة للثّوار السّورييِّن بعد خروجهم من حاصبيّا وراشيّا، لكنَّ الفرنسييِّن قاموا بقصف المجدل بالطّيران والمدفعيّة، ولمّا وصلت قوّات الثوّار إلى مشارف البلدة جرت معارك حامية مع الفرنسييِّن الذين أعجزتهم قوّات المجاهدين من التقدّم لاحتلال المجدل، فاضطرّوا إلى الانسحاب، فما كان من الثوّار إلاّ أن قاموا بملاحقتهم إلى قرية “سحيتا”.

في تلك المعركة يوم 20 كانون الأوّل 1925م كان الطّيران الفرنسي يعمل على إسناد قوّاته المُنْسَحبة أمام ضغط المجاهدين الذين يدفعون بها بعيداً عن مجدل شمس”وبعد أن أمّن فؤدا سليم على رفاقه وأحسّ بطعم النصر في هذه المعركة المهمّة وفيما كان يحاول أن يمتطي صهوة جواده ليتقدّم نحو التلال ويتابع مطاردة الفرنسيين وإذ بقذيفة مدفعيّة تسقط بالقرب منه فتطايرت شظاياها فأصابت منه مقتلاً في بطنه فارتمى على الأرض يصارع الموت فاقترب منه رفيقه في النضال والجهاد حمد صعب فحمله على ذراعيه وأبلغ الثوّار فتمّ نقله إلى قرية قريبة في التلّ الأسود في سحيتا أُطلق عليها فيما بعد تلّة “فؤاد” وقام بدفنه رفاقه في الحملة زيد وصياح الأطرش (20)
سلطان باشا الأطرش يشهد:
“حمد صعب من صناديد المجاهدين في معركة “بقع جمرة”
كتب سلامة عبيد “وإلى اللّجاة انتقل قادة الثّورة الكبار سلطان باشا والأمير عادل أرسلان ومحمّد عز الدين والشّهيد حمد صعب وغيرهم تؤازرهم مجموعات باسلة مُتَمرّسة وخبيرة…”(21) وإلى هناك وصل النازحون من الثوّار وأُسرُهم من راشيّا وإقليم جبل الشّيخ إثر ضغط القوّات الفرنسية عليهم على حدود مِنطَقة اللَّجاة. كان الوقت عصراً، وفي موقع هو بين قَرْيَتَي خَبَب وجَدْل، كانوا يستعينون بأَدِلّاء من قبيلة السّلوط؛ لكنّ هؤلاء ضَلّلوهم وغدروا بهم، إذ ساروا بِهم وسط ضباب كثيف شمال غرب قرية “جَدْل”، إلى مستنقع موحل في منطقة تُدعى “بَقْع جَمْرة”. كانوا نحو عشرة آلاف نازح (22)
هناك، وجد النّازحون أنفسهم في حالة حصار من قبل عشائر السّلوط وبعض المتآمرين من أهالي المنطقة المتعاونين مع الفرنسييِّن الذين شجّعوهم ليعترضوا طريقهم وَيَنْهَبوا ما يمكنهم نهبه من مواشٍ وأمتعة ومال لإرباك الثّوار الدّروز…
في ذلك الطّقس البارد، والوحول المُغْرِقة، وتحت سماء ماطرة، كان مأزق النازحين الذين يرافقهم عدد من المجاهدين بقيادة فضل الله النجم الأطرش وأسعد كنج أبو صالح ومحمود كيوان وسواهم…

تمكّن الثوّار مِنَ الصّمود في المعركة إلى أن وصلت إليهم النَّجدات من قيادة الثورة ، وكان سلطان باشا والأمير عادل يرافقهم بعض المجاهدين مُتمركزين في قرية جَدْل وسط اللجاة. يقول سلطان باشا: “عهدت بقيادة القافلة إلى محمود كيوان لينقل إلينا فوراً تلك الأخبار، وسَيّرت معه من صناديد المجاهدين: حمد صعب، سعيد الحلبي، يوسف الشوفاني، خليل مريود، يوسف عبّود الشعراني، فوصل هؤلاء إلى حيث كنّا بقرية جدل الواقعة في قلب اللّجاة مع بعض أركان القيادة وكبار المجاهدين أمثال الأمير عادل أرسلان، فضل الله هنيدي، علي عبيد، صيّاح الأطرش”(23)
ولمّا كان عدد المجاهدين الذين يتّخذون من قرية جدل مركزاً لهم، فقد أرسل سلطان باشا إلى السّويداء برسالة إلى قائد الدّرك الوطني حُسني صخر، ورسالة أُخرى إلى عبد الغفّار الأطرش شيخ مدينة السُّويداء، يطلب منهما المبادرة إلى إرسال قوّات من الثّوار في الجبل للمساندة السّريعة…
لم ينتظر سلطان ومرافقوه من الثّوار وصول نَجدات المجاهدين من الجبل بل بادروا مع الصّباح إلى موقع المعركة، لكنَّ الأمير عادل برؤيته الاستراتيجيّة الحكيمة للأحداث اعترض على مشاركة سلطان باشا في تلك المعركة وحاول أن يثنيه عن عزمه في الرّكوب إلى ميدان المعركة، ذلك لأنّ المعركة ليست معركة مواجهة مع الفرنسييِّن، ويجب الحرص على سلامته كقائد للثورة، وتَحَسُّبَاً من أن يُصابَ على أيدي مُرتزقة عملاء فيتباهَوْنَ بفعلتهم على الثوّار، وهم بذلك يحققون هدف الفرنسييِّن. حقّاً لقد كان الأمير الأرسلاني مُصيباً في ما ذهب إليه من بُعد نظر وتبصّر في عواقب الأمور، فالمعركة تدور في موقع شديد الحَرَجِ، والطّقس قاسٍ…
يقول سلطان في هذا الشّأن: ” لم تَعُدْ نفوسنا الثائرة القَلِقَة تطيق الانتظار، وإنّما انطلقنا من جَدْل صبيحة يوم 11نيسان، نحن والأمير عادل أرسلان وفضل الله هنيدي وصياح الأطرش وعلي عبيد وحمد عزّام وشاهين المحيثاوي وشبيب القنطار وحسّان أبو سرحان وعبّاس أبو حسّون ومسعود مرشد والمفازيع الذين جاؤوا مع محمود كيوان من جهة كناكر العجم، وقد حاول الأمير عادل أن يثنيني عن الرّكوب(24) في تلك اللحظة قائلاً: إنك القائد العام لهذه الثّورة، ولا نريد أن تُصاب بخدش بسيط على يد هؤلاء المُرتزقة المتآمرين،فيغدو ذلك موضع فخرهم ومباهاتهم على مدى الأيّام، فكيف إذا أُصِبت لا سمح الله إصابة خطرة ومعركتنا معهم ستكون خطرة وفريدة من نوعها في ذلك المكان. وقد وافقه على ذلك فضل الله هنيدي وشاهين المحيثاوي ومحمود كيوان، وقالوا: نرجو أن تبقى هنا يا باشا إذ إنّنا سنعود عمّا قليل بإذن الله، ونحن نحمل إليك البُشرى السارّة بِدَحْر المُرتزقة وخروج إخواننا من أبناء الإقليم سالمين من الشّرَك الذي نصبوه لهم…
لكنّ سلطان لم يُطق البقاء بعيداً عن المُشاركة في معركة إنقاذ المُحاصَرِين في بَقْع جمرة، فشكر لرفاقه المجاهدين مشاعرهم، وتوجّه بخطابه للأمير عادل قائلاً: “كيف أطيق البقاء هنا ولو لساعة واحدة، وإخواننا في محنة عظيمة، وعِرْضُنا يُستباح هناك؟!، فَلْنَسِرْ في طريقنا واللهُ الموفِّق على كلِّ حال”.
على أرض المعركة كان القائد العامّ سلطان باشا والأمير عادل وسط صفوف المقاتلين، فارتفعت معنويّات المجاهدين، وفعلت السُّيوف فعلها، ووقع الخوف والرّعب في نفوس المُعتدين، كانت المشاهد مُرِيعة فى ذلك المُسْتَنقع، الشَّرَك،واستمرّت المعركة ساعاتٍ كَدَهر مَديد. كانت أصوات النَّخوات المُنْطَلِقة من حَرَس النّازحين تُشبه زئير الأسود، وقد انتشروا حولهم يذبّون عنهم ويحمونهم، كان حمد صعب واحداً من أولئك الصناديد الذين سبق لسلطان باشا أن اختارهم لحماية تلك القافلة التي أراد بها الأدلاّء وعملاء الفرنسييِّن شَرّاً ولكن إرادة الله، وبطولة المجاهدين خيّبت ما إراده الأعداء.

مؤتمر بلودان ايلول عام ١٩٣٧وقد تمثل فيه من الدروز الاول من اليمين في مقدمة الصورة حمد بك صعب والثالث علي بك عبيد والسابع محمد باشا عز الدين الحلبي. الثاني من اليمين من العراق سعيد الحاج ثابت الرابع رياض الصلح رئيس وزراء لبنان يليه احسان بك الجابري (سورية) يليه محمد علي الطاهر وقادة وشخصيات عربية آخرون..
مؤتمر بلودان ايلول عام ١٩٣٧وقد تمثل فيه من الدروز الاول من اليمين في مقدمة الصورة حمد بك صعب والثالث علي بك عبيد والسابع محمد باشا عز الدين الحلبي.
الثاني من اليمين من العراق سعيد الحاج ثابت الرابع رياض الصلح رئيس وزراء لبنان يليه احسان بك الجابري (سورية) يليه محمد علي الطاهر وقادة وشخصيات عربية آخرون..

يصف سلطان باشا تلك المعركة بقوله” كانت جثث الآدَمييِّن والحيوانات التي تساقطت في المعركة غائصة في الأوحال، أطفالاً يختلط صُراخهم باستغاثات النِّساء، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، وثُغاء الماعز والأغنام.. جرحى خارت قواهم فتلوّثت جراحهم بمياه المخاضة الآسنة، وعجزوا عن النّهوض فاستسلموا للقدر، أمٌّ نجت بطفلها الرّضيع فانتحت به جانباً محاولة تهدّئة روعه بقَطَرات نَضَحَتْها بِراحَة يدها مِنْ مَسيلِ ـ ماءـ هناك، فأصابوها برصاصة في صدرها، ولمّا ذهب قريبٌ لها لإسعافها وإنقاذ طفلها، وجدها تلفظُ أنفاسَها الأخيرة والطّفل مشدودٌ بذراعيها إلى صدرها، يرضع لبناً ممزوجاً بالدّم!..”.
في تلك المعركة؛ لم تفعل السّيوف في تمزيق قوى المُرتزقة وتحقيق النّصر بالشّكل الذي أحدثه حضور سلطان باشا والأمير عادل أرسلان ومن معهما إذ ما كاد قدومهم يُلْحَظ من قِبَل حُماة القافلة ومن بينهم أسعد كنج أبو صالح وحسيب ذبيان ومحمود الطّويل وغيرهم حتى سَرَت في نفوسهم موجة من الحماسة ضاعفت من معنويّاتهم وشدّدت من عزائمهم في القتال.
لقد تراءى لِحُماة القافلة عندما رأَوْا القادة بينهم أنّ بيارق الجبل قد ملأت وَعرَة اللّجاة من خلفهم، أمّا المرتزقة الأعداء فقد اعتقدوا أنّه أُحيط بهم، فأخذ كلٌّ منهم يلتمس طريقاً ليهرب، وكان حمد صعب مجاهداً في تلك المعركة وأحد أبطالها…

حمد صعب؛ من الثورة السورية إلى ثَورة فلسطين 1936 ــ 1939
لقد كان نزوع المجاهد حمد صعب أكبر من أن تَحِدَّه الحُدود التي رسمتها معاهدة سايكس بيكو لتقسيم المشرق العربي، فهو أكثرُ أصالةً من أن يقبل بما أقرّه وعد بلفور البريطاني بإقامة دولة صهيونيّة عدوانيّة في فلسطين، ومن هنا فإنَّه لم يتوانَ عن الالتحاق بالثّورة الفلسطينيّة ضدّ البريطانييِّن والصّهاينة عندما أخذت نُذُر التَّنفيذ العَمَلِيِّ لِوَعْد بَلفور تلوح في الأفق الفلسطينيّ، إذ غادر منافي الثّوار السّورييِّن في بَوادي السّعودية والأردن إلى ميادين القتال ليجاهد في الثّورة الفلسطينيّة وكان المسؤول عن مفرزة الشّباب الدّرزي إلى جانب القائد فوزي القاوقجي في معاركها عام 1936م.
كانت مقاومة الفلسطينيين مُتَعَثِّرة قبل عام 1936م،(قبل قُدوم القاوقجي ورفاقه وفي طليعتهم حمد صعب)، فالثّورة المُسَلّحة التي قادها أحمد طافش عام 1929 (وهو العربي الدّرزي اللُّبناني الأصل من آل أبو شقرا في عمّاطور) من سكّان قرية قدس المُهَجَّرة والتي تقع في الجليل الغربي شمال صفد، وبالرّغم من شنّه الهجمات على مواقع لليهود، وتصدّيه لدوريات البوليس البريطانيّ فإنّ ثورته حوصرت نشاطاتها من قبل الأعداء، فلجأ إلى إمارة الأردنّ، لكنّ حكومة الأردن سلّمته إلى حكومة فلسطين المُصَنّعة من جانب البَريطانييِّن، وحُكم عليه بالسّجن 15 سنة في محكمة الجنايات في مدينة حيفا!.
تجدّدت الثّورة في فلسطين عام 1935 ضدّ اليهود الصّهاينة وأرباب مشروعهم البَريطانييِّن، وقد امتدَّت الفترة الزّمنية لنشاط تلك الثّورة إلى ما تلاها من الأعوام حتى عام 1939، وفي تلك الثّورة قاد حمد صعب المفرزة الدّرزيّة في قوّات الثّورة التي قادها القاوقجي، وعن دور تلك المفرزة يذكر فوزي القاوقجي في مذكّراته: “أعترف أن المفرزة الدّرزية اللّبنانيّة كانت نموذجاً عظيماً للمجاهدين في تحمّلهم وصبرهم وقلّة مَشاكلهم. وكان قائدها حمد بك صعب مثال النّخوة والإقدام…”(25).
وعلى أرض فلسطين في معركة بَلعا الثانية، وَزّع القاوقجي القوّات على الأرض: المفرزة العراقيّة بقيادة جاسم الحسين، والمفرزة الدّرزيّة بقيادة حمد صعب ويعاونه محمود أبو يحيى (من بلدة شَقَّا في جبل العرب)، والمفرزة الحَمويّة ــ الحِمصيّة بقيادة منير الرَّيّس، والمفرزة الشّامية الأردنيّة بقيادة محمّد الأشمر، فالمفرزة الفلسطينيّة بقيادة فخري عبد الهادي وعبد الرّحيم حاج محمّد والشّيخ توفيق من عَلار، إضافة إلى الشّيخ فرحان السّعدي والعريف يونس ومحمّد الصالح (أبو خالد)، والشّيخ عطيّة أحمد عوض ويوسف الحمدان، وأُنيطت بالمَفرزة الفلسطينيّة حراسة جبل المنطار.
ويذكر الفلسطينيّ وجدي جميل حسن في دراسة جامعيّة له عن مُذكرات القاوقجي أنّ القاوقجي تَقصَّد ألّا يجعلَ المجاهدين الفلسطينييِّن في خطّ النَّار كي لا يواجهوا صدمة عنيفة ويُجْبَروا على مُجابهة الأسلحة الميكانيكيّة الفتّاكة طيلة النّهار، وكان مُبرّر القاوقجي في تصرّفه هذا اعتقاده بِعَدَم اعتياد المُجاهدين الفلسطينييّن على هذا النّوع من الدّفاع”.
كان القاوقجي بعد وصوله ورفاقه إلى فلسطين في الخامس والعشرين من آب عام 1936، وتسلّمه قيادة الثورة الفلسطينيَّة وهذا عائد لخبرته وتجاربه في الثَّورات التي سبق وشارك بها؛ قد أصدر بلاغات إلى الأمّة العربيَّة والإسلاميّة كي تذيع أخبار المعارك التي تخوضها قوّاته. كانت بلاغاته تحثُّ على حمل السِّلاح والجهاد من أجل إنقاذ فِلسطين من الظُّلم والاعتساف والمستقبل الذي يتهدّدها. كما أسّس محكمة ثوريّة، كان يرأسها المجاهد منير الرَّيِّس وحمد صعب وآخرون(26) ولجاناً خاصة للإعاشة والتّموين مرتبطة به…

فوزي قهوجي
فوزي قهوجي

بطولة حمد صعب في معركة بَلعا
بدأت المعركة صباح 3/ 9 / 1936م، ولم يكن الإنكليز يتوقّعون مثل تلك المُفاجأة، ممّا أوقعَ إصابات في صفوفهم منذ اللَّحظات الأولى للقتال، فدفعوا بسلاح الطّيران إلى المعركة، وقد تمكّن الثوّار من إسقاط ثلاث طائرات، وقَتْل مئةٍ وخمسين قتيلاً. كانت معركة عنيفة خاضها الثّوار في مواجهة القوّات البريطانيّة استبسل فيها القادة الشّيخ محمّد الأشمر والمُجاهد الدّرزي حمد صعب قائد المفرزة الدّرزيّة ــ وقادة المفرزة العراقيّة إضافة لاستبسال المفرزة الفلسطينيّة بقيادة الشّيخ فرحان السّعدي.. (27) وقد انتهت المعركة “بِفَوْز المُجاهدين على المُستعمرين، وبفوز الإيمان والإرادة على الظّلم وعلى قوّة الميكانيك فوزاً باهراً لاتُقَدِّرُ قيمتَه ولا تأثيرَه ونتائجه إلّا الأجيال المُقبلة” حَسَب أقوال القاوقجي. وعن خسائر المفرزة الدّرزيّة جاء في مذكّرات القاوقجي بخصوص استشهاد المجاهد محمود أبو يحيى الذي استُشهِدَ في معركة” بلعا” يقول: “كان له الفضل في الصّمود والمحافظة على خطّ دفاعنا المركزيّ، وقد أبدى شأنه في كل معركة عرفته فيها في معارك الثَّورة السّوريّة (كان الرّجلان، محمود أبو يحيى وفوزي القاوقجي من مجاهديّ الثّورة السوريّة الكبرى عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش)، من الجرأة والشّجاعة ما يعجز عن وصفها القلم”.
ويشير المجاهد أكرم زعيتر في مذكّراته إلى استشهاد عدد من المجاهدين الدروز ومنهم حسين البنّا من بلدة شارون وهي إحدى بلدات قضاء عاليه ــ وكان قد استشهد في معركة “بلعا”ــ واستشهاد ملحم سعيد سلّوم حمادة من بعقلين إحدى بلدات الشوف، في معركة كفر صور في الثامن من تشرين الأوّل 1936، بعد أن أردى ضابطاً بريطانياً من ثقب الدبّابة، ولقد تحاشى أهله في بعقلين الإجابة عن أسئلة السّلطة المتكرّرة عن سبب مَوْته، وإقامة عزائه من دون جثّة، نظراً لما كان يتعرّض له أهل المجاهدين من ملاحقات ومضايقات وعمليّات دَهْمٍ في وقت ساعدت فيه السّلطة الفرنسيّة المنتدبة على سورية ولبنان السلطة البريطانية المنتدبة على فلسطين، بهدف قمع الثّورة الفلسطينيّة ومنع وصول المُساعدات إليها والتحاق المجاهدين من سوريّة ولبنان بها.

حمد صعب يلتحق بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق “نهاية بطل”
التحق حمد صعب بالثّورة العراقيّة إلى جانب القاوقجي في عهد رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، كان القاوقجي يعرف حمد صعب حق المعرفة، “ويثق به ويدّخره للمُستقبل…” على حد ما صرّح به أكرم زعيتر الذي كان يعرف الرّجلين حقَّ المعرفة. في تلك الآونة كان الدّعم المُقدّم للقاوقجي من الحكومة العراقيّة غير المتجانسة حينها أقلّ من المطلوب للدّفاع عن الثّورة في مواجهة البَريطانييِّن، كما كان للحاج أمين الحُسَيني مفتي فلسطين الذي لم يَكُن على وفاق معه تأثير في التقليل من تقديم الدّعم اللّازم لنشاطاته الثّوريّة. وفي مجال التّنازع بين المفتي الحسيني وبين القاوقجي فإنَّ حمد صعب أخذ الجانب القتالي ــ الجِهادي البَحت في نِضاله من أجل أُمّته وقضاياها الوطنيّة ولم ينخرط في مسائل التَّنازع على المناصب بين المتنازعين؛ ذلك التّنازع بين القادة الذي أضرّ ولم يزل يضرّ بقضايا العرب فآلت إلى ما نرى…
في تلك الفترة كان الإنكليز قد احتلُّوا دمشق وطردوا الفرنسييِّن الفيشييِّن الموالين للألمان منها في حزيران 1941، ثم زحفوا باتّجاه تدمر، وكان همّهم يتمثل بالإجهاز على أيّة قوة حليفة لِثَورة الكيلاني المناوئِة لمشاريعهم في العراق وهم يخشَوْن من امتداد تأثيرها إلى سائر المَشْرِق العربي، ومن خطّتهم أن تتقدّم قوّاتهم من تدمر إلى دير الزّور، وأن تتوَجّه بكامل قُواها باتّجاه مدينة حمص.
أمّا الفرنسيّون من جماعة فيشي الموالين للألمان والمؤيِّدين لِثورة الكيلاني فكانوا على اتّصال مستمرّ بالقاوقجي لتلاقي المصالح في ما بينهما، فَفَوزي ومن في فريقه ومنهم حمد صعب يَرَوْن في ثورة الكيلاني بارِقة أمل للأمّة العربيَّة التي خَيّب الغربيُّون آمالَها منذ الحرب العالميّة الأولى. والألمان وحلفاؤهم من الفرنسييِّن الفيشييِّن يعتبرون من مصلحتهم الإفادة من سائر القُوى المناوِئة للإنكليز والحلفاء في المِنطقة، ولهذا فإنَّ فرنسيِّي فيشي اتّفقوا على أن يستعينوا بِفَوزي وفريقه في صدّ هجمات الإنكليز من جهة تدمر، وعلى هذا تعاون معهم، وكان عليه أن يرشدهم إلى الطريق بنفسه، فمضى بسيارته “وإلى يمينه حمد صعب وكان بجانب السائق حميد (خادم) فوزي. انطلقت سيارة فوزي في مُقَدّمة سيَّارات الفرنسييِّن، ولمّا غادرت السيَّارات مدينة دير الزُّور، وبعد مُدّة من ذلك، فاجأتهم ثماني طائرات بريطانيّة في سماء البادية الصافيّة إذ حامت الطّائرات حول القافلة التي فوجئت، ولم تلبث إحدى تلك الطائرات أن اقتربت من السيَّارة التي تُقِلُّ فوزي وحمد، ورشقتها بوابل من رشّاشاتها، فأصابت حمد الجالس مِنْ عن يمين فوزي بِعدَّة رصاصات وكان حمد قد ارتمى على فوزي لِيَقِيه الإصابة، فأدى ذلك إلى استشهاده في الحال في 25 تمّوز سنة 1941. وفي رواية أُخرى أنّ حمد كان في سيارة القيادة إلى جانب القاوقجي عندما وقع على المجاهدين هجوم بالطّائرات وسقطت قذيفة قرب السّيارة ارتمى حمد على القاوقجي يحميه بجسده فقتل هو ونجا فوزي، ويقول الدّكتور محمّد خليل الباشا أنّ القاوقجي قد أخبره بذلك شخصيّاً(28).
كما أصيب فوزي بعدّة رصاصات في رأسه وساعِدِه وَرَقَبته، فَقَد على أثرها وَعْيَه، ونَزَف كثيراً من دمه، واستُشْهد سائقُه وهو عراقي من الموصل، وأُصيب حميد برصاصة جرحته في كتفه جرحاً غير مميت.
على أثر تلك الحادثة، نُقل القاوقجي إلى المستشفى العسكريّ الفرنسيّ في مدينة حلب، أمّا حمد صعب فقد دُفِنَ قرب مدينة دير الزور (قرية الحصيبة)، وانطوَت باستشهاده أروعُ صفحة في التّضحية والمفاداة في ميدان الجهاد في سلسلة الثورات العربيّة.
وعلى أثر استشهاده ” احتفلت دير الزُّور بدفن حمد صعب ورفيقه السّائق احتفالاً مهيباً، وقد خطب في المقبرة الكولونيل الفرنسيّ مؤبّناً الشهيد، وكذلك فعل بعض شباب دير الزور”(29)

شكيب وهاب
شكيب وهاب

حمد صعب في حياة وذاكرة فوزي القاوقجي وأكرم زعيتر وعادل أرسلان
ومِمّا يدلّ على علوِّ مكانة حمد صعب في ذاكرة القاوقجي أنّه استذكره ربطاً بحدث موت ابنه الشّابّ مجدي القاوقجي عندما تُوفِّي في ألمانيا نتيجة حادثة تسمُّم مُرِيبة، إذ لمّا علم فوزي بما حدث لابنه قال”لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، ما مجدي بأوّل ضَحِيّة، فلقد فقدت كثيراً من أعزّائي، وهم على مقربة مِنِّي في مُختلف ميادين الجهاد، وبالأمس استُشْهِد حمد صعب، وهو قريب مني، وهذا مجدي واحد منهم”(30)
وهكذا نجد فوزي القاوقجي رغم ماله وما عليه عظيماً في تعاطيه مع الأحداث، وهو هنا في ذروة مأساته بفقده ولده العزيز لا ينسى رفيق جهاده الذي كان الأقرب إليه؛ حمد صعب.
لقد وضع فوزي خسارته بفقدانه ابنه بمرتبة فقدانه حمد صعب الذي كان يقاسمه المسكن في العراق، ويشاركه الهدف الوطني المُشْتَرَك في ساحات الجهاد التي خاضاها معاً…
أمّا أكرم زعيتر فيذكر واقعة جرت في بيت فوزي القاوقجي في بغداد وكان هو الشاهد عليها، يقول:
“جاءت إخباريَّة إلى السّفارة البَريطانيّة من بغداد أنَّ فوزي يخبّئ أسلحة وعتاداً جَمّاً، في البيت الفُلاني (وقد كان ذلك صحيحاً) وكانت الحكومة الإنكليزيّة تطالب الحكومة العراقيّة أن يجري تفتيش البيت المذكور للاستيلاء على أسلحته ومعاقبة فوزي (كان القاوقجي وحمد صعب وأكرم زعيتر ورفاقهم من السورييِّن والفلسطينييِّن اللّاجئين إلى العراق موضع شُبهة من البريطانييِّن وذلك عائد لنشاطاتهم في الثّورة الفلسطينيّة سابقاً، ولِتَخَوُّف الإنكليز من تسريبهم السّلاح إلى فِلِسطين، ولتأييدهم ثورة رشيد عالي الكيلاني في سياستها المناوئة للاستعمار في البلاد العربيّة)، وقد سارع السيّد طه الهاشمي وكان وزيراً للدّفاع في عهد الوزارة الكيلانيّة إلى إخبار فوزي وعادل(العظمة) بالأمر، وشرح لهما خطورة الأمر، لا سيّما وأنّ السّلاح المذكور هو عراقيّ، وهو من طه نفسه؛ قُدِّم ليكون نواةً لمشروع الثّورة في سورية وإنقاذها من الفرنسييِّن حينها. على أثر ذلك نُقِلَ السّلاح كلّه والعتاد ليلاً إلى بيت فوزي نفسه، بطريقة لم يشعر بها أحد، وقد حُفِرَت في أرض بيت فوزي هُوَّات (الهوّة حفرة عميقة)، وأُخفِيَ ذلك السّلاح بالكامل، وغُطّي بالتّراب، ولم تَكَد تُشرق شمس اليوم التالي حتى كان السّلاح مُغّيَّباً تحت الأرض، و سارع عادل وفوزي إلى إخبار طه باشا (الهاشمي) بأنّ السّلاح قد تمّ تهريبه إلى سورية، وهو الآن في الأرض السّوريّة على الحدود، وفي مأمن من العيون والأرصاد، فَسُرَّ طه باشا طبعاً، لا سيّما وهو يحمل نصيباً من المسؤوليّة، وقد فهمت من عادل العظمة أنّهما آثرا أن يُخْبرا طه بأن السّلاح قد أُخرج من البلاد ولم يشاءا أن يبوحا له بأن السّلاح مطمور في الدّار خَشْية أن يطالبهما يوماً بهذا السّلاح، وأن يحملهما على ردّه إذا ما طرأ طارئ. واحتفالاً بنجاة السّلاح وإنجاز العمليّة أقام فوزي ليلة ساهرة، وقد زعم وعادل إثر ذاك أنّ السّلاح وصل إلى سورية، وكانت الحفلة السّاهرة في بيت فوزي نفسه، حضرها كما أذكر عادل وفوزي وسعيد فتّاح الإمام، وعبد الكريم العائدي وعثمان الحوراني وشفيق سليمان وأبو الهدى اليافي وصبحي العمري وواصف كمال وعز الدين الشوّا وسعيد الكاتب على ما أظن، وحمد صعب، وحميد، وكانت من أمتع وأبهج السّهرات، وقد كان فوزي يصيح ونحن نُرَدّد:” يادار حقّك علينا، ويعني بالدّار الوطن، ثمَّ كان فوزي وصبحي العُمَري لا يفتأان ينشدان: آن الأوان يالله يالله! (وهي شطر من أنشودة يا اللي تحب البُرتقال)، أي أنَّ أوان الثَّورة وإنقاذ البلاد قد آن. ولقد رقص في تلك السَّهرة سعيد الإمام وعزِّ الدّين الشوّا وعثمان الحَوراني فرحين … حقّاً لقد كانت سَهْرة ماتعة لذيذة، استمرّت إلى ما بعد منتصف اللَّيل”(31).
يصف أكرم زعيتر حمد صعب بقوله:” وحمد صعب هذا عربيٌّ شُجاع من شوف لبنان، قويّ البُنْية، مُكتنز العضل، مؤمن العقيدة، شجاع القلب، اشترك في ميسلون دفاعاً عن دمشق، ثمّ التحق بالثّورة السوريّة سنة 1925، وعمل فيها مع الأمير عادل أرسلان، وتجلّت فيها شجاعته وصبره، وقد رافقها إلى أن انتهت، وحين نشبت ثورة فلسطين سنة 1936،كان حمد صعب في طليعة المُتطوعين في تلك الثّورة، وعمل مع فوزي فأبلى فيها أَيَّ بلاء، الأمر الذي جعل فوزي يعتمد عليه ويثق به يدّخره للمستقبل، وحين انتهت الثورة لجأ إلى سورية، ولمّا فكّر باستئناف الثّورة أعدّ حمد نفسه للاصطلاء بنارها ، ولكنّ تأخير فوزي ثم عدوله عن الذّهاب لأسبابٍ حال دون ذهاب حمد إلى فلسطين، ثم جاء إلى العراق وعاش في بيت فوزي في بغداد لا يفارقه، وهناك عاهده أن يبقى إلى جانبه، وحين نشبت حركة العراق الأخيرة، (يقصد ثورة رشيدعالي الكيلاني)، وهبّ فوزي للقيام بواجبه فيها، كان حمد صعب في مُقَدّمة المتطوّعين في حملة فوزي، وقد حارب في الحملة المذكورة وأبلى بلاء حسناً ثم رافق فوزي إلى سورية إلى أن لَقِيَ مصرعه على الشكل الآنف الذِّكر رحمه الله، وإنَّه لَيَعِزُّ علينا أن يموت حمد هذه الميتة وأن يَظِنّ ظانٌّ أنَّه مات دفاعاً عن الفيشييِّن ضدّ الإنكليز، أو أنَّه مات في سبيل فرنسا.

الجنود السوريون في معركة ميسلون
الجنود السوريون في معركة ميسلون

كلاّ إنّما مات حمد في سبيل المثل الأعلى، في سبيل الفكرة التي آمن بها وخاض غمرات الثورات من أجلها، إنَّ الفرنسييِّن في سورية؛ الفرنسييِّن الذين أذاقوا البلاد نِكالاً وسلبوها حُرّيتها، وحاربهم حمد مرات لا يستحقُّون أن يُضحّي حمد من أجلهم بِقُلامة ظِفره(32).
ويعتب الأمير عادل أرسلان على المُفتي الحُسَيني لأنّه بعد مرور سنة على استشهاد حمد صعب أُقيمت حفلة في ألمانيا لم يحضرها المفتي الحُسيني وأنصاره، وكان ذلك ناشئاً من موقفه الشّخصي من فوزي القاوقجي الذي يخوض وإياه منافسة على الزّعامة، إلّا أنّه وهو الزّعيم الفلسطينيّ الأوّل (حينذاك) كان الأولى به المبادرة بتكريم الشَّهيد حمد صعب الذي قاتل من أجل فِلسطين، بل والسّعي بنكران ذات، وخلاص نِيّة لتوحيد كلّ القوى المُكافحة من أجل فِلسطين والقضايا العربيّة والإسلاميّة التي كان يجهر بالعمل من أجلها؛ عملاً بالحِكمة القائلة “لتكن نيّتكم خلاص أرواحكم تُقْضَ حوائجُكم”. هكذا كانت العلاقات بين أولئك القادة من العرب الذين يمثّلون القضية الفلسطينيّة والقضايا العربيّة لدى دول المِحور؛ علاقات مشوّشة ومتوتّرة، وقد انعكست علاقاتهم تلك بصورة سلبيّة عليهم، وعلى علاقاتهم ببعضهم البعض في بلاد الغربة، وعلى أُمّتهم بشكل عام، فخابوا، ولم يكن نظراؤهم على المَقلب الثاني ممَّن كانوا مَسحوبين في دولاب الحلفاء بأوفر حظّاً منهم، ذلك لأنّهم لم يكونوا ذوي قرار، وعندما استلموا بلدانهم بعد الاستقلالات الشّكليّة لم يقدّموا نماذج لقادة ناجحين في مستوى العصر الحديث، وبذلك لم تزل الأُمَّة في ضياعها، وخابت المُثُل العروبيّة التي قاتل من أجلها حمد صعب وأمثاله من المجاهدين الرُّوَّاد …
يكتب الدبلوماسي اللُّبناني حليم أبو عز الدّين يصف لقاءه بحمد صعب في العراق عام 1939، فيقول:” قبلاً كنت أسمع كثيراً عن القائد فوزي القاوقجي، ولم أكن بعد قد اجتمعت به، فذهبت لزيارته في بغداد فاستقبلني عنده مجاهد لبنانيّ كنت قد سمعت به ولكنَّني لم أحظَ بمعرفته هو: السيّد حمد صعب، وسرّني كثيراً أن أتعرّف إليه، وأن أُوَثّق صِلتي به بالنّسبة إلى مناقبيّته الوطنيّة الكبيرة وتاريخ جهاده في الحقل القوميّ العربيّ…
وهكذا فإنّ حمد صعب كان شخصيّة عروبيّة المَنْزِع، سعى لتحقيق أمانيِّه عبر مواقفه الميدانيّة في ساحات الجهاد الوطني، ومن هنا فليس غريباً أن يصفه اليبلوماسي اللبناني حليم أبو عز الدين بقوله:” كان حمد صعب من رفاق سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وحمد البربور ونسيب الأطرش ومحمّد عز الدّين الحلبي وفوزي القاوقجي وغيرهم…”.
كان مجيء حمد صعب إلى فلسطين برفقة القاوقجي يهدف لتحريرها من الاحتلال البريطاني وقطع الطريق على المشروع الصّهيوني فيها ولكنَّ هذه المهمّة لم يُتَحْ لها أن تبلغ هدفها؛ وفي ذلك يقول عجاج نويهض “عندما اسْتَشْرَت الثّورة والإضراب، والنّسف للقُرى والبيوت أتى فوزي القاوقجي رحمه الله من العراق بقوّة متطوّعة ورابط في أعالي الجبال في قضاء نابلس وطولكرم، ونازل القوّات الإنكليزية المُسلّحة في عدّة معارك ضارية. لكنّه اضطُرَّ إلى العودة مع القوّة التي جاء بها عندما قبلت اللَّجنة العربيّة وقف الإضراب، هذا الإضراب الطّويل الشّهير تجاوز الستّة أشهر، ثم انْحَلّ بعد وساطة فريق من ملوك العرب وأمرائهم. طُلِبَ من عرب فِلسطين فكُّ الإضراب، فاستجابت اللّجنة العربيّة العليا برئاسة المُفتي أمين الحسيني لهذا؛ إذ أكّد الإنكليز للملوك والأمراء والحكّام العرب أنّهم سَيُجرون العدل في هذه القضيّة”(33) ويُعقِّب عجاج نويهض على هذا الموقف غير المتبصّر من الملوك والأمراء العرب ومن الفلسطينيين فيقول
“وإذا كان الإنكليز قد خَدعوا أوّل مرّة الملك حُسين بن علي، ملك الحجاز، في أثناء الحرب العامَّة الأولى بشأن الوطن القوميّ اليهوديّ في فِلسطين، ففي سنة 1936 خَدعوا ثاني مرّة مجموعة من الملوك والأمراء بشأن فِلسطين”.
إنّ سيرة المجاهد حمد صعب من حيث جانبها النّضالي المَيْدانيّ ضدّ العدوان الأوربيّ ــ الصّهيونيّ على الأمّة العربيّة والإسلامية تتشابه إلى حد كبير مع سيرة المجاهد القاوقجي، ذلك “أنّ فوزي القاوقجي كان هاوياً للجهاد. لا يكاد يسمع بحركة نضال في بلد عربيّ حتى يشدَّ رحاله إلى ذلك البلد،.عمل في لبنان وسورية وفلسطين والأردن والجزيرة والعراق. نعم كان القاوقجي يعتبر نفسه، وعن حقٍّ مواطناً في كلّ بلد عربي يقيم أو يعمل فيه… وهكذا كان حمد صعب رفيقه في الجهاد، ومفتديه بحياته يومَ قصفِ الطائرات البريطانيّة لهما…
كما يذكر حليم أبو عزّ الدّين أنّه ما أن بدأت الحركات في العراق في نيسان وأيّار 1941 أيام وزارة رشيد عالي الكيلاني حتى ذهب القاوقجي على رأس قوّة من المجاهدين إلى البادية لقطع خطوط التّموين البريطانيّة عن قاعدة الحبّانيّة.
كانت هذه القاعدة من أهمِّ قواعد الطَّيران البريطانيّة في المشرق العربيّ في مواجهة الطّيران الألمانيّ وقوّات المحور في الحرب العالميّة الثانية وقد استخدمها الإنكليز للقضاء على ثورة رشيد عالي الكيلاني في ما بعد.
ويشير أبو عزّ الدين إلى أنّ القاوقجي ورفاقه في الجهاد قد اشتبكوا مع القوات البريطانيّة ومع القوّات التابعة لهم؛ القادمة من الأردنّ؛ تلك القوّات التي أرسلها الأمير عبدالله والمندوب السّامي البريطاني “أبو حنيك” (غلوب باشا)، وأنّه قد اسْتُشهد عدد من رفاق القاوقجي في تلك المعارك، وكان في مُقَدَّمة أولئك الشّهداء الشّهيد حمد صعب.
كما يكتب القاوقجي في يوميّاته في ما يخصّ استشهاد حمد صعب فيقول: “كنت قد عاودت الاتّصال برجال القبائل على الحدود، ولكنِّي علمت وقبل أن أُتمِّم الإعداد بأنَّ قوّة بريطانيّة تتقدّم نحو تدمر لتطويقها، وتوجّهت مع جماعة صغيرة لإنقاذ تدمر، وخَشية أن تطول المسافة وجّهت نداءً خاصّاً دعوتُ فيه القبائل للانضمام وطلبتُ من أكرم زعيتر أن يذيعَه بعد انطلاقي واتَّجَهْتُ من الحُصَيبة إلى البوكمال في رتلٍ من السيّارات، وبعد استراحة قصيرة في الطّريق سبقتني خلالها مخابرات قائد المنطقة الفرنسيّ الكولونيل ريو دو كرو وكان مقرّه في” دير الزُّور” وقامت طائرات بريطانيّة بقصف سيارتي، وكنت أستقلّها مع ثلاثة آخرين بينهم حمد صعب. ولم أَسمع سوى أصواتٍ مُدَوّية ودماء ساخنة تسيل على جسمي، ما حدث فعلاً ، إنّه أثر القصف قُتِل حمد صعب والسائق وجُرِحْت مع مرافقي الآخر…”.
نعم ” إنّ حَمد صعب هو أثمن رجل عرفه القاوقجي، وبغيابه فُقِدَتْ إحدى ركائز القتال المُهِمَّة. كما أشاد القاوقجي ببطولة قاسم زهر الدين”(34).
وقد كتب حافظ أبو مصلح وهو مترجم كتاب ” ثورة الدّروز وتمرّد دمشق” لمؤلّفه الجنرال الفرنسي أندريا يُعرّف فيه بـ حمد صعب ص 329 يقول: كان ” حمد صعب ، رفيق شكيب وهّاب. كان شجاعاً بطلاً، لا يهاب الموت، قُتِلَ في طريق العراق مع فوزي القاوقجي،. كان يكتب مُذَكّراته يوماً بعد يوم، لكنّه مات (استُشْهِد) وماتت (فُقِدَتْ) معه مذكّراتُه.
وباستشهاد حمد صعب طُوِيَت صفحة بطولة عربيّة معروفية يعتزُّ بها كلُّ عروبيّ أصيل.

سقط سهواً
– سقط سهواً اسم كاتب مقالَي “سعيد ابو الحسن” و”رشيد طليع” في العدد 23 وهو الأستاذ ابراهيم العاقل.
– سقط سهواً ذكر اسماء الشهداء “الشيخ علي درغام، قاسم عسل درغام، عباس دهام، صالح أبو بركه” من قرية بكيفا في موضوع “شهداء وادي التيم”

شهداء وادي التيـم في أثناء الثورة السورية الكبرى 1925-1926

جدول بالشهداء الأبرار الذين قدّمتهم بلدات منطقة وادي التيم. في أثناء الثورة السورية الوطنية الكبرى في مواجهة عدوان المستعمر الفرنسي. لأرواحهم الرحمة، لذكراهم المجد والخلود، ولمنطقة وادي التيم الأبيّة التحية لعطاءات لها لم تتوقف دفاعاً عن الأرض والشرف والكرامة. أعد الجدول وزوّد به الباحث في تاريخ وادي التيم الأستاذ أمين خير.

أفراد من بني معروف يتجهزون للإلتحاق بالثورة الى جانب سلطان باشا
أفراد من بني معروف يتجهزون للإلتحاق بالثورة الى جانب سلطان باشا

[su_accordion]
[su_spoiler title=” شهداء حاصبيا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أسعد شرف
قاسم أبو دهن
محمود أبو دهن
علي أبو غيدا
علي بدوي
علي الغزال
سلمان الشمعة
سلمان الشوفي
سلمان شرّوف
فارس أبو عمّار
فارس حامد
فايز بدوي
فايز وزير
قاسم محمد أبو دهن
محمود يوسف ابو دهن
قاسم بدر الدين
محمد أبو دهن
محمود أبو غيدا
ملحم شروف
محمد بدوي
سعيد الحلبي
نجيب سابق
علي رعد
يوسف ايو عمّار
يوسف الحرفاوي
يوسف عزالدين
يوسف العيسمي
جميل قيس
ابراهيم أبو دهن
علي يوسف بدوي
اسماعيل بدر الدين
أسعد جبر
صالح ابو دهن
صالح الخماسي.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء راشيا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشيخ سلمان زاكي
الشيخ نعمان زاكي (قاضي مذهب)
سليم سعيد زاكي
سليمان أحمد زاكي
يوسف حسين زاكي
علي أبو غطاس مهنا
شرف الدين أبو غطاس مهنا
غطاس أبو غطاس مهنا
أسعد حسين مهنا
أحمد عثمان مهنا
رشراش الصبّاغ
خطار صعب
علي صعب
علي صالح فايق
صافي ناجي
إبراهيم علبي
محمد أبو صفا
أسعد صافي
جبر الحلبي
عسّاف الحلبي
يوسف البيطار
يوسف التقي

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء ميمس
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم أبو قنصول
حسن أبو قنصول
سليم أبو العز
بشير دحدوح
ذوقان مدّاح
محمود عربيد
يوسف غالب صالح

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء عين قنيا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

فارس كبّورة
قاسم محمد أبو رافع
غانم سنان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء شويا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سليم جماز
بشير علوان
سليمان أبو سيف
قاسم جماز

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عيحا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

محمد يوسف
جميل حمود
يوسف سلمان
قاسم بهاء الدين
يوسف بهاء الدين
يوسف حسين بو لطيف
يوسف السقعان
أسعد السقعان
حسين السقعان
قاسم البرقش
أسعد حمصي

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عين عطا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سعيد ريدان
أسعد ريدان
رشراش القاضي
سليم القاضي
علي شاهين القاضي
ابراهيم القاضي
حسين ميرهم
سعيد حسين البرّي
شمس الدين غزالة

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء كفرقوق” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

علي مرعي أبو درهمين
محمود عبد الخالق
محمد شرف

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء حلوا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

رشراش البلانة
سليمان البلانة
أسعد سجيم
حسن سجيم
إبراهيم سجيم
مزيد الطويل

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء الخلوات” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

حسن علي بوفاعور
قاسم أبو سعد
وهبي حسين بوفاعور

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء الكفير
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سعيد أحمد سعيد
يوسف عدنان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء تنورة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أحمد التقي
صالح أبو زور
حسين سرحال

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء ظهر الأحمر
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سلمان منذر
شهاب العوّام

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء عين جرفا
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أسعد الحسنية

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء دير العشاير
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

محمد الذيب
ابراهيم ابو سعدى
محمد فايق

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء مجدل بلهيص
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم محمود

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” شهداء ينطا
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إبراهيم تمراز
صالح الحلبي
سليم الحلبي
ابراهيم الحلبي
يوسف ياغي
سليمان شتيه
سليم نصر الدين الحلبي
حسن مظفر
سالم علاء الدين
قاسم الحكيم
حسين كمال

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

بلدة عَنْز الأَثريّة

تقع بلدة عنز على السفوح الجنوبيّة من جبل العرب، وهي إحدى بلدات المقرن القبلي من محافظة السويداء، وتتبع ناحية الغاريّة. يبلغ ارتفاعها 1250م فوق سطح البحر، وتُقسم أراضيها الزراعية إلى قسمين:
1 ــ الأراضي الواقعة شمال البلدة باتجاه الجبل وتتّصِف بوعورتها وكَثرة حِجارتها البازلتيّة وتتّجه للارتفاع كلّما اتّجهنا شمالًا، ممّا يلي صلخد وتلّ عبد مار الذي يتربّع على قمته مقام مقدس لـ “عبد مار، أو: مار عبدا” الذي يزوره الموحّدون الدروز والمسيحيون معا.
ويمكننا القول إنّ القرية القديمة الأولى التي تعود لما قبل عصور الأنباط بُنيت على تلّة بازلتيّة هي مدخنة بركان خامد يتربع على الضفة الغربية لـ “وادي العاقب” الذي يعبر إلى الشرق من القرية القديمة قادمًا من أعالي القمم الجبليّة لجبل حوران، فيملأ مطخًا واسعًا متوسط العمق؛ كان يستفاد منه في توفير المياه لسقاية المواشي.

2- أمّا إلى الجنوب من البلدة فتميل الأراضي إلى السّهولة نسبيّاً باتجاه الحدود الأردنيّة، وعنز بالأصل كانت قرية قديمة العمران حيث كان الأنباط أوّل من مارس الزراعة والعمران فيها بل وفي القسم الجنوبي من الجبل منذ القرون الأخيرة للألف الأوّل قبل الميلاد.
يدلّنا على هذا عمرانها القديم الذي بقيت منه آثار معبد وَثَني يعود لما قبل المسيح، ولكن مع انتشار المسيحيّة ” لم يتخلّ كلّ السكّان عن تقديس آلهتهم الموروثة من المرحلة الوثنية، ففي عام 362م وعندما أباح الامبراطور الرّوماني جوليان Julien العودة للوثنيّة، سارع الناس إلى تجديد معبدهم وممارسة طقوسهم الدّينيّة فيه. وبعد أن ترسّخت المسيحية فإنّ كنيسة عَنْز تُعْتَبر أحسن نموذج لكنيسة بيزنطيّة قرويّة، إذ تتألّف من قاعة مستطيلة ذات ثلاث قناطر لحمل السّقف وفي نهايتها قدس الأقداس، وهو مستطيل الشّكل وقد فُصِل عن الكنيسة بقنطرة أضيق من القناطر الأخرى وترتكز على قواعد أعلى من قواعد القناطر الأخريات، ويفصل الكنيسة عن مسكن رجال الدّين في الشّمال من المبنى باحة مبلّطة يقود منها قبو في المسكن إلى الشّارع”(1). وبعد الفتح العربي الإسلامي بني جامع إسلامي قديم العهد قريب من الكنيسة الأثريّة.

تتألّف مادة البناء القديم في القرية الأولى من الحجر البازلتي المقصوب بشكل متقن مما يدل على حياة مستقرة كانت تسود المنطقة، وكذلك لم تزل بعض السقوف من البلاطات (صفائح مستطيلة من البازلت بطول نحو مترين ونصف وعرض نحو 30 سنتمرأ) تُصَفّ منحوتة متلازمة ببعضها فوق القناطر بحيث لا يمكن لإبرة أن تدخل بين سقيفة وأخرى، وكان للقرية الأثريّة سوران داخلي وخارجي لم تزل بعض الجوانب منهما ماثلة للعيان، كما كان لها أربع بوابات ممّا يدلّ على أهميّتها التّاريخيّة التي لم تأخذ حقّها من الدّراسة بشكل كاف، وتقع القرية الأولى على طريق القوافل التي كانت تتحرّك جنوبًا وشمالًا من وإلى شبه الجزيرة العربية، وشرقًا وغربًا إلى العراق في العصور القديمة وفيما بعد بين مملكتي الغساسنة في الشام وكان مركزها مدينة بصرى إلى الغرب منها على مسافة بضعة عشر كيلومترًا، ومملكة المناذرة في الحيرة في العراق إلى الشرق منها. وفي العصور الإسلامية بقيت عنز ممرًّ للقوافل بين جنوب سورية وبغداد والبصرة… كما كانت ممرّا تجاريًّا ناشطًا للقوافل التجاريّة بين الجبل وشبه الجزيرة العربية إلى نحو تسعين عامًا مضت قبل أن توضع حدود سايكس بيكو المشؤومة موضع التّطبيق بعد عام 1916.

وفي دار السيّد نبيل الأطرش إلى الشرق من التلة الأثريّة للبلدة وخارج سوريها وعلى سهل منبسط بقايا جدار لخان (فندق)، يروي العارفون بأنّ الطابق الأرضي منه كان مُعَدًّا لدواب المسافرين، والطابق العُلْويّ للمسافرين أنفسهم… أمّا اسمها “عنز” فقد يكون مشتقًّا من “العَنَز” أي الارتفاع (والبلدة القديمة مبنية على مرتفَع)، والعنَز: الأكَمَة السّوداء (وهذا صحيح)، والأرض ذات حُزونة ورمل وحجارة (2) وهذا التّفسير لاسم البلدة الحالية هو الأكثر واقعية من التأويلات التي تخبط في ضباب من التخيّلات.
عَنْز كانت بلدة وفيرة المياه والينابيع
كان المطخ الكبير الذي مَيّز البلدة بالإضافة إلى عدّة ينابيع لم يزل بعضها ينبض بالماء رغم فترة الجفاف المسيطرة منذ عقود عديدة، ففي البركة المسمّاة بالسوريّة التي تقع شرقي القرية القديمة جوار العنزاوي إلى الغرب منه، نبع ماء هو اليوم شحيح يشاهد عيانًا، وقد ازداد شِحًّا بعد أن جاء شخص يدعى “القُدسي” قُبَيل منتصف القرن الماضي، استعمل هذا لغمًا بدعوى أنّه سيقوّي النبع، لكنّه أضعفه بعدها. وهناك بئر نبع لآل النّجم. بالإضافة إلى نبع بئر طرنجة إلى الغرب من القرية الأولى والذي كان في زمن مضى يفيض إلى سهلة المرجة غرب البلدة الأثريّة وهي عبارة عن سهل خصب صغير منبسط يتميز باخضراره الدائم ممّا يوحي بأنّه يتغذّى من عروق مياه باطنية تحته.

السُّكّان في عنز
في مطلع القرن التّاسع عشر لم يكن من عمران في عنز؛ فقد كان العمران لا يتعدّى بلدة القريّا في القسم الجنوبي من الجبل وكانت صلخد خرابا عندما زارها بيركهاردت عام 1810، ومن صلخد التي بُدِئ إعادة إعمارها من قبل الموحّدين الدّروز بشكل نهائي بعيد منتصف القرن التاسع عشر قدمت أغلبية العائلات المعروفيّة التي أعادت إعمار البلدة التي كانت خربة بسبب انعدام الأمن وغياب سلطة الدّولة وغزوات البدو وفوضى مواشيهم التي تتنافى مع حياة زراعية مستقرّة؛ ولكنّ بني معروف بفضل تماسكهم الاجتماعي تمكّنوا من تحقيق الأمن والحدّ من غزوات البدو ممّا سمح بقيام زراعة راسخة في المنطقة وليس لدينا جدول زمني دقيق يحدد قدوم المُعَمّرين الجدد إلى البلدة، ولكن من المرجّح أنّ ذلك حدث خلال العقد السابع من القرن التّاسع عشَر بعد إعمار صلخد. ومن العائلات المعروفيّة التي سكنت عنز واستقرّت فيها بالإضافة إلى آل الأطرش، آل النّبواني وهم أصلًا من جبل لبنان ينتمون لآل البتدّيني. وآل وهب وآل عمّار وآل القاضي ارتحلوا عام 1888من قرية المطلّة الواقعة على الحدود اللّبنانية الفلسطينيّة بعد أن باعها مالكها الإقطاعي الصيّداويّ من آل رزق الله إلى المتموّل اليهودي روتشيلد أواخر القرن التاسع عشر، ويلاحظ أنّ معظم العائلات المعروفيّة في عنز تعود لأصول لبنانيّة كآل الأطرش والنّجم وفليحان وحديفة والجمّال والصبّاغ والحجلي(صعب) وجمّول ورباح.
والعائلات السنّيّة هم: آل الحْمُود، والابراهيم والنّعسان والنّصار والعُقْلَة والنّابلسي والعبد الله. وهناك أسرة بدوية هم آل الحَمَد.
أمّا الأسر المسيحيّة في عنز فهم: آل الشمّاس والعسّافين والخوري والعَوَض والعَوْدي وعَصفور والنّويصر وإلياس وحدّاد والعيّا والعطيّة والدّاود والرّباع والظّواهري والصّايغ.
يبلغ عدد سكّان البلدة نحو3800 نسمة، المقيمون منهم 2500، وبتأثير الأزمة السورية فقد عادت كثير من الأسر التي كانت قد اتّخذت من العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية سَكَناً لها، إذ كان الجبل هو الأكثر أمنًا من سائر المحافظات السّوريّة. ويشكل عدد الموحّدين المسلمين الدّروز نحو 50% من سكان البلدة، والمسلمون السّنة الرّبع ومثلهم المسيحيّون من أرثوذكس وكاثوليك، وكان محمّد بن اسماعيل الأطرش شيخ صلخد قد أرسل بعض العائلات المسيحيّة والسّنّيّة إلى ولده نايف في عنز وأوصاه بهم خيرًا: “أرسل إليك كم واحد من ها الحوارنة بسيطين مساكين، اهتمّ بهم وملّكهم أرضًا”.
بلديّة عنز
تبلغ مساحة المخطّط التّنظيمي للبلدة 2015 هكتارًا، وأطوال الشّوارع المعبّدة 11كلم، وتوازيها أطوال شبكة المياه التي تخدّم سائر بيوت البلدة، كما أنّ سائر بيوت عَنْز مُخدّمة بالكهرباء.
أمّا المحلاّت التّجارية والحرفيّة فتتوزع بين: محلّات تجارية(دكاكين) 15، نوفوتيه 1، عصرونيّة1، محلّ بيع فرّوج مذبوح 1، حدّادة أفرنجيّة 1.
وفي البلدة مدرسة ابتدائيّة واحدة باسم مدرسة الشّهيد أديب الخوري. وتتألّف من 4 شعب، وعدد تلاميذها 85 تلميذًا وتلميذة. ومدرسة إعداديّة واحدة باسم الشّهيد سالم عَمّار من 6 شعب وعدد طلّابها 122 تلميذًا وتلميذة.
كما توجد في البلدة نقطة طبّيّة تقدّم الخدمات لمواطنيها من قبل 6 ممرّضات وموظفات.
بالإضافة إلى مجلس/ جامع للمسلمين الموحّدين الدروز، وجامع للسّنّة، وثلاث كنائس؛ كنيستان أرثوذكسيّتان وكنيسة كاثوليكيّة.
العائلات في عنز: آل الأطرش، وهم العائلة المشْيَخية التي تزعّمت نشاطات الدّروز السّياسيّة والاجتماعيّة في الجبل منذ نحو أواسط القرن التّاسع عشر، وبرز دورهم أكثر بعد إقصائهم لآل الحمدان زعماء الجبل من قبلهم فكان منهم شيوخ قرى المقرن القبلي المُعترف بهم اجتماعيًّا، وأوّل من وفد إلى عَنْز شيخًا هو الشاب نايف بن محمّد الأطرش شيخ صلخد، وقد اهتمّ نايف بالعمران في عَنْز، فاستقدم بنّائين مَهَرة من ظهور الشّوير في لبنان، ولكنه لم يعمّر إذ مات شابًّا على أثر قفزه من فوق قناطر كانت قيد البناء وغير موثقة البنيان فانهارت به ومات في الثّالثة والثلاثين من عمره.

الزّراعة في عنز:
يبلغ المعدّل المطري في بلدة عَنز 220 مم3 /سنة وذلك استنادًا إلى أرقام الوحدة الإرشادية الزّراعية فيها، ولكن تذبذب كميّات الأمطار بين عام وآخر يؤثّر سَلْبًا على الإنتاج الزّراعي، وخاصّة أنّ متوسّط ما يحتاجه القمح البعليّ هو 250مم3 / بالسنة.
تبلغ المساحة العقاريّة لأراضي عَنْز 42800دونماً، منها 1000دونم مشجّرة حرجيًّا. أمّا الأرض المستثمرة زراعيًّا فتبلغ مساحتها 25000 دونم.
متوسّط مساحة المزروع قمحًا بالسّنة 9000دونم، ومتوسّط إنتاج القمح 60ـ 70 كلغ للدّونم، و7500 دونم للحمّص، إنتاج الدّونم الواحد منه 35 كلغ، ونحو 4000 دونم للشعير، إنتاج الدونم 80 كلغ، والباقي سبات (تُفلح إراحة) للسّنة القادمة.
الأشجار المثمرة: مساحة المزروع بالزّيتون 470 دونمًا، بالإضافة لما يزرع منه في حدائق المنازل، وتبلغ كمّية الإنتاج بين 40ــ 50 طنًّا بالسنة. وتبلغ المساحة المزروعة باللّوز 230 دونمًا متوسّط إنتاج الشّجرة الواحدة 10 كلغ. ومساحة الكَرمَة 70 دونمًا والتوت 13. أمّا الأشجار المثمرة الأخرى كالفستق الحلبي والتّين وغيرها فهي زراعات تحميليّة أو تزرع في الحدائق المنزليّة التي حلّت من حيث اهتمام الأهالي بها على حساب الكروم القديمة بسبب توفّر المياه في المنازل؛ هذا في الوقت الذي تقلّصت فيه كميّات الأمطار الهاطلة خلال العقود الأخيرة. وحيث تُزرع فيها الكَرْمة على شكل عرائش تعويضًا عن الكروم التي ضربها الجفاف. حيث تتوفّر المياه من الشبكة العامّة المُغَذّاة من الآبار الارتوازية التي حفرتها الدولة.

لآبار الارتوازيّة
في خراج البلدة أربعة آبار ارتوازيّة تتبع لمؤسّسة المياه الحكوميّة، تغذّي بلدات عَنْز والغاريّة والمشقوق، ومنها بئر آخر لسقي الأشجار (لوز وكرمة وتين وفستق).
الوحدة الإرشاديّة: يقوم موظّفوها المختصّون بتقديم الإرشاد الزّراعي والبيطريّ المجّانيّ للمزارعين، ويعملون على التّوجيه والمشاركة في مكافحة فأر الحقل ودودة الثّمار والسّونة ودبّور ثمار اللّوز وذبابة ثمار الزيتون.

خطّة زراعيّة لمواجهة الجفاف
تبنّت منظمة أكساد التّابعة لجامعة الدّول العربيّة ومنظّمة إيكاردا التّابعة للأمم المتّحدة تّوجيه المزارعين إلى خطّة زراعيّة تقوم على زراعة الأرض في منطقة الدّراسة على الشّكل التالي:
سنة فلاحة، تليها سنة قمح، ثمّ سنة حمّص تليها سنة فلاحة. وينصح في السنوات الأخيرة بسبب غلبة الجفاف على مناخ المنطقة عمومًا بزراعة الشّعير الذي يتحمّل الجفاف ويعطي إنتاجًا مضمونًا أكثر من القمح.

آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
مدخل الكاتدرائية الأثرية
مدخل الكاتدرائية الأثرية

تربية الحيوان
إن تربية الحيوان كالأبقار الحلوبة من سلالات فريزيان، وفريزيان هولشتاين هي مصدر إضافي للرزق في عّنز، حيث تعطي الواحدة منها ما متوسّطه نحو 40 كلغ يوميًّا لمدّة سبعة شهور، ويبلغ ثمن البقرة الواحدة ما يعادل ثلاثة آلاف دولار تقريبًا، وإنتاج البقرة الواحدة يغطّي دخل الأسرة إلى حدٍّ ما، وأمّا مولودها فيسمّن العجل منه ليباع لِلّحم بسعر يتراوح بين 500$ إلى 800$ تقريبًا حسب درجة التّسمين.
كذلك تربية الأغنام والماعز في البلدة بالمشاركة مع رعاة من البدو ويبلغ عدد رؤوس الأغنام 1045 رأسًا، وإنتاجيّتها من الحليب واللّحم منخفضة لعدم توفّر الأعلاف الخضراء ولقلّة المطر، ولكون تربيتها تعتمد الرّعي التقليدي في البرّية لا في حظائر نموذجيّة للتّسمين. والماعز 200 رأس، وما ينطبق على تربية الأغنام ينطبق على تربية الماعز في البلدة وخراجها.
وتقدّم الدولة لقاحات دوريّة مجّانيّة لحماية الثّروة الحيوانيّة الرّيفيّة كما تقدّم الأعلاف بأسعار منخفضة. بالإضافة إلى أنّها تعمل على تحسين السّلالات بواسطة كِباش مُحَسّنة للتّلقيح، وتيوس للماعز من مركزين للأبحاث تابعين لمنظّمة إيكاردا الأمميّة في كل من حماة ودرعا. وتُقام ندوات توجيه توعية دوريّة للمربّين بإشراف بيطريّ مجّاني.
وإلى ذلك تربية الدّواجن: ويُرَبّى في البلدة حاليًّا نحو 1000طير من الدّجاج البلديّ، ونحو 100 طير من الحمام، و100 طير حبش، وسعر زوج من الحبش البالغ؛ نحو 25ــ 30 ألف ل.س، والصّوص منه 3000 ل.س، وتُعتبر تربية الدّواجن من مُستلزمات تكملة حاجات الأسرة الرّيفيّة.

تربية الرّاماج: يبلغ عدد مربّي طيور الرّاماج في عنز 20 مُرَبًّيا. وقد قامت الدّولة بمنح قروض تشجيعيّة من 70000 إلى 100000 ل.س لمربّي الرّاماج بغية تشجيع الناس على عدم الهجرة، وتساهم تربية طيور الرّاماج في تحسين دخل الأسرة الرّيفيّة، إذ لا تحتاج تربيته إلى يد عاملة كثيفة.
عَنز، باختصار، وريثة تاريخ غني عريق وأصيل عمره مئات السنوات، وربما أكثر. لكن تحديات الحاضر أمام سكانها ليست بالقليلة وهم مضطرون للتكيّف مع ضرورات العيش والتقدّم المستجدة بوسائل عدة، وبجهود مضنية.

المسجد العمري القديم في البلدة (بعدسة أكرم الغطريف)
المسجد العمري القديم في البلدة
(بعدسة أكرم الغطريف)
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين

سعيد أبو الحُسْن

سعيد أبو الحُسْن
حياة مليئة بالحيوية الفكرية والفاعلية الاجتماعية

رجل معروفي أصيل، عروبي النزعة لعب دوراً مؤسساً في تنمية الوعي الوطني الأصيل بعروبة مستنيرة

هو ذاكرةٌ نابضةٌ بما يختزنه بنو معروف من كَمٍّ متراكم من النّضالات يتوارثه الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل، ويورّثونه لمن يليهم. يعبّر الكاتب عن ذلك في كتابه الذي عرض فيه لمواقف من سيرة حياته التي تحتاج إلى أكثر من مجلّد فيما لو أريد توثيقها بتفاصيلها؛ لغناها بالمضامين المؤشّرة على شخصيّة وافرة الثراء من الجانب الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ. فهو منذ طفولته الباكرة عينٌ ساهرة ترصد ما حولها من وقائع وأحداث تأثّر بها، وأثّر فيها فيما بعد مع تقدمه عبر مراحل العمر. يقول في ص 8 من كتابه نيران على القمم: “أوَّل مشهد وعيته منذ ولادتي ولم يفارق ذاكرتي أبدًا هو مشهد عدد من البغال الدّهماء المزيّنة صدورها وأعناقها بعقود جِلديّة مزيّنة بالوَدَع الأبيض، في حوش دارنا، فكأنّما ارتبطت حياتي بالكوارث منذ بدايتها. سألت والدي عن تلك البغال فأفهمني بلغة يدركها الأطفال أنّها لأقارب لنا من أسرتنا في لبنان، وأنّهم قادمون لنقل القمح من بلادنا إلى بلادهم لحدوث مجاعة كبرى بسبب الحرب العالميّة الأولى وانقطاع الواردات من الخارج ومصادرة السلطة العثمانية الحاكمة آنذاك جميع المحاصيل لحساب جيشها، ولولا بسالة أهل بلادنا ــ جبل حوران ــ لما بقي في البلاد حبّة من القمح لنا أو لسوانا. وكان بعض الأقارب من لبنان يُقْدِمون للإقامة بيننا طوال مدّة مجاعة الحرب ومن هذا المشهد الأوّلي الذي تفتّح عليه وعيي، انطلقتُ أحدّد مكاني من الدّنيا: إذا كان هؤلاء هم أقاربي من لبنان فنحن إذن من أصل لبنانيّ ــ من المتن بالتّحديد ــ ووجودنا في جبل حوران بالذّات وجود طارئ نسبيّاً، وهذ الوجود تفسّره هذه الهجرة الجزئيّة التي شهدتها بذاتي: فنحن إذن ــ بوجودنا كلّه ــ نتائج كوارث قديمة: حروب ضدّ الدول الغازية، أو حروب أهليّة، أو معارك قَبَلية”.

ولادته ودراسته وتميّزه
وُلِد سعيد أبو الحسن في 12/11عام 1912 في قرية عرمان، وفيها درس المرحلة الابتدائية في كُتّاب القرية، في عام 1929 نال منحة دراسيّة لتفوّقه أهّلَته للدّراسة في كلّية القدّيس يوسف في بيروت، وفي عام 1937 جرى تعيينه في مديريّة المعارف (أي التّربية اليوم) في السويداء حتّى بداية عام 1940، عمل بعدها مساعدًا عدليًّا مُترجمًا لتضلّعه باللّغة الفرنسيّة حتّى أوّل عام 1943، وخلال عمله الوظيفي ثابر على دراسة الحقوق، وحصل بنتيجة ذلك عام 1942على إجازة من معهد الحقوق الفرنسيّ في بيروت. عام 1948عُيّنَ معاوناً للنائب العام في مدينة القامشلي، ليستقيل من الوظيفة الحكومية في العام التالي 1949 ويعمل بعدها في مهنة المحاماة في المدينة ذاتها حتى عام 1960 إذ انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة فيها منذ العام 1961 وبقي في وظيفته تلك إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.
أثناء وجوده في القامشلي عام 1948 واطلاقاً من ميوله الثّقافيّة أصدر مجلّة نصف شهريّة أسماها “الخابور” تيمّناً بنهر الخابور العريق الذي يعبر المدينة، وفيما بعد أسماها “المواكب” تيمنًّا بجبران الذي كان يحبّه.

لقد حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأشرف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر

سمات شخصيّة ورساليّة مميّزة
تميّز سعيد أبو الحسن بعفّة لسان وبتهذيب عالٍ قلّ نظيره، وبنقده الجاد لتقاليد مجتمع غلب عليه التخلّف، ولكنّه لم يعتبر التخلّف قَدراً لا فكاك منه؛ لأنّه كان يرى أنّ تَسَلُّح الأجيال بالعلم والثّقافة والمعرفة سبيل لقهر التخلّف، وكان يجد غرابة عندما يرى أنّ بعض من يعرفهم يقرأون ولا يكتبون، لأنّ القراءة عنده نوع من الفعل النّقدي (1).

التّعليم في عصره
يوثّق لنا نمط التعليم إبّان الاحتلال الفرنسي فيقول: “جاءنا أستاذ يرتدي اللّباس الأوروبي، ويدرّسنا العربيّة والفرنسيّة وعلى الأصحّ يدرّسنا كلّ شيء بالفرنسيّة، واللّغة العربيّة تُدرّس كلغة فقط، أمّا العلوم فكلّها بالفرنسيّة.. والحديث كلّه بالفرنسيّة. كان يتدرّج من الإلزاميّة المُتساهلة حتى الإلزاميّة المؤيَّدة بالعقوبة، كانت هناك إشارة Signal وهي كناية عن قطعة خشب بحجم حجر الدّومينو تُعطى للتلميذ الذي يلفظ كلمة ما باللّغة العربيّة بدلاً من الفرنسيّة، وبهذا يصبح هَمُّه أن يتخلّص منها فيبحث عن مخالف آخر ليعطيه إيّاها، وهكذا يعاقب المخالفون في اليوم التالي(2) من قبل المعلّم المرتبط بالاستخبارات الفرنسية والمكلّف بفَرْنَسَة تلاميذه”.
عندما انتقل ليدرس في بيروت يقول: ” كانت الثانويّة اليسوعيّة تتبع تقليداً عظيماً وهو إعطاء طُلاّب الصفّ المُنتهي فترة أسبوع خلوة للاعتكاف والتّفكير في المستقبل، وَوَضْعِ شبه خطّة للحياة، وتحديد الأهداف والطّرق المؤدّية إلى تحقيقها…
لقد حدّدت موقفي ذِهنيًّا، حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأَشْرَف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر من أجل الوطن والأمّة”.

تراث كفاحي في الأسرة؛
قتال ضدّ العثمانيّين والفرنسيّين
كانت البيئة التي نَشَّأتْ سعيد أبو الحسن بيئة مشحونة بالهمّ الوطني النّضالي، فعرمان؛ قريته، إحدى أهم حواضر الجبل في مواجهة الاستبداد العثمانيّ والاستعمار الفرنسيّ، ووالده محمّد أبو الحسن كان أحد وجهائها، وهو واحد من أربعمئة رجل من مقاتليّ بني معروف نفاهم العثمانيّون بُعَيْد الهزيمة المدويّة التي ألحقها أهالي قريتهم وقرى المقرن القبلي والشرقي بحملة عثمانيّة انتقاميّة ضدّ الدروز، ممّا تسبب برد فعل عثماني حاقد وبحملة انتقام ثانية قادها الجنرال ممدوح باشا. كان النّفي إلى طرابلس الغرب من نصيب والده الذي كان نَصيراً للتّغيير الاجتماعيّ أيضاً، فهو إلى جانب موقفه التحرّري من المحتلّ العثمانيّ كانت لديه نوازع ثورة على واقع مجتمعه الإقطاعيّ لا تقف عند حدود اقتسام الأرض وتملّكها، بل تتعدّاها إلى محاولة تغيير ذلك الواقع والسّعي إلى ما هو أفضل: فهو لا يقبل بالعادات قبولاً أعمى، بل يناقش صَلاحَها وهذا ما أدّى إلى الإكثار من خصومه ومُنتقديه حتى من بين أقاربه.

صُوَر من ذاكرة الطّفل عام 1925؛ تحدّي أهل عرمان للطّيران الحربي الفرنسيّ
الطّفل سعيد؛ ابن الثلاثة عشر عاماً شاهد صادق على عصره، يقول: “كان يومها سلطان باشا ورفاقه ضيوفاً في “عرمان”، وكانت تلك الزيارة حربية تعبويّة للهجوم على صلخد وتحريرها والزّحف إلى السّويداء.. يومها ضجّت سماء القرية بطائرتين حربيّتين فرنسيّتين قَدِمَتا لِرَصد تحرّكات سلطان ورفاقه، قفز كلّ رجل مسلّح إلى سطح منزله وبدأ إطلاق النّار على الطائرتين وكان والدي من أسرع القافزين إلى السّطح وأنا معه، أخذ يطلق الرّصاص وأنا أجمع الفَشَك (الخرطوش) الفارغ.. وفي لحظة قال لي بعد إحدى الطّلقات: لقد أصيبت الطّائرة. كان قد خرج دُخان من بيت النّار منها؛ رأيته بأمّ عينيّ..”.
من هو الثائر المجهول الذي أصاب الطّائرة؟! من يدري؟! قد يكون والدي الذي رأى الإصابة لحظة حدوثها.. وقد يكون غيره من أبناء القرية الذين كانوا عدّة مئات فوق سطوحهم وكلّ رجالنا رُماة مَهَرَة، المُهمّ أنّ الطائرة أصيبت.. وسقطت في قرية “امتان” المجاورة وأُسِرَ طيّاراها الاثنان. كان ذلك يوم 19 تموز 1925″.

الطالب سعيد: مواجهة مع
الأمن الفرنسيّ
لَعلّه كان أوّل من انتبه إلى أهمية العمل التطوّعي التّعاونيّ في تحسين واقع الناس، يقول: “عدت في تموز 1935 لقضاء العطلة الصّيفية في قريتي عرمان. وصلت إلى القرية واستدعيت أوعى شابّين فيها، بحثت معهما واقع بلادنا وضرورة العمل على تغييرة، فعلينا أن نعمل انطلاقاً من قريتنا ونتوسّع شيئاً فشيئاً. قرّرنا تأسيس جمعيّة سرّيّة سمّيناها “جمعيّة الأمل” واتّفقنا على إبقاء الجمعيّة سرّيّة، وأن يكون عملنا الأوّل تمثيل رواية اجتماعيّة.
صارت حفلتنا حديث الناس في القضاء كُلِّه وخارجه. بعد بضعة أيّام جاءني رجلٌ مسرعاً يقول: “المستشار الفرنسي يريدك..”، ذهبت في الموعد إلى صلخد، وبدأ الحوار الهجوميّ على النّحو التالي: “أبَلَغَتْ بك الجرأة أن تدعو إلى حفلة تقوم بها جمعيّة سرّيّة غايتها توعية الناس وتحريضهم ضدّ فرنسا؟
– لم يكن هذا قصدي.
– لا.. لا تحاول

أن تُنْكر فأمامي نظام جمعيّتك كلّه. كان الإنكار هو الوسيلة المثلى للدفاع. قلت: “كل ما في الأمر أنّ الجمعيّة ترمي إلى تحسين أوضاع القرية من جميع الوجوه، وهذا ما تقولونه أنتم أنفسكم حين تبنون المدارس، وتَشقّون الطّرق وتجرّون المياه.
– نحن نفعل وحدَنا ما نراه مناسباً.
– ولكنّني أعرف الكثير عن مبادئ ثورتكم (يقصد مبادئ الثورة الفرنسية) وليس فيها ما يُقِرُّ الذي تقوله لي الآن.
– هذا ما تقرأه في كتبنا، ولكنّ الكتب كُتِبَت لتطبّق في فرنسا لا خارجها، ثمّ أريد أن أسألك: “لماذا يتّصل بنا رفاقك ولا تتصل بنا أنت!”.
أنا مشغول بتدبير عائلتي قبل أن أعود إلى المدرسة، نهاري في البيت والبيدر، وليلي في الكَرْم، ولست أبحث عن زعامة في عرمان حتى تكون لي اتّصالات بالمسؤولين السياسيين، أي بكم أنتم..
– متى ستعود إلى المدرسة؟
– في أوائل تشرين الأوّل.
– حسناً… ستبقى في القرية حتى يوم سفرك. لن تغادر القرية إلى أي مكان ومهما تكن الأسباب، هل هذا مفهوم؟
– مفهوم طبعاً، إقامة جبريّة داخل القرية حتى نهاية العطلة الصّيفيّة.
– أراك فهمت جيّداً. انصرف الآن واعلم أنّنا نرى كُلّ شيء ونعرف كلّ شيء.
خرجت من مكتب المستشار رأساً إلى عرمان، وكانت حصيلة التّجربة الأولى في حقل العمل العام، هي أنّ اختيار الأشخاص يجب أن يتمّ بعناية أكبر، والكفّ عن الحفلات العامّة، والاكتفاء بالعمل السرّي، وأنّ القاعدة في النضال السّياسي السّلبي هي: التدرّج في نشر المعلومات.

شاب ورجل مجتمع
كان سعيد أبو الحسن واسع الاهتمامات والتّأثير في البيئة التي يتواجد فيها، فهو قُطب ثقافيّ وسياسيّ كبير في همّه القوميّ النّهضويّ، وبهذا فقد كان له دور رِياديّ فعّال في أحداث الجبل الاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة والسياسيّة، إذ كان في طليعة شباب الجبل العاملين في سبيل وحدة الوطن السّوريّ آنذاك، ورفض فكرة الدّويلات الطائفيّة التي سعى بها الاحتلال الفرنسيّ، ومن هنا كان تأسيسه عام 1942 فرعاً لِعُصبة العمل القوميّ في السّويداء بلغ عدد أعضائه ثلاثة آلاف شاب وكان من أهدافها إقامة دولة عربيّة من المحيط الأطلسيّ إلى الخليج العربي، وقد ساهمت العصبة بنشاط بارز إلى جانب القادة الذين نفّذوا عمليّة انقلاب الجبل الناجحة والأولى في سورية على الإدارة الفرنسيّة عام 1945.
كما كان من مُشجّعي التّعليم العصريّ وتعليم المرأة والعمل كسبيل لنهضة المجتمع، وانطلاقاً من نزوعه الثّوريّ إلى التّغيير في مجتمع تسيطر فيه العلاقات الاقطاعيّة واحتكار مقاعد التّمثيل النّيابي فقد شارك في توسيع نشاطات هيئة الشّعب الوطنيّة في الجبل منذ العام 1943، عام نضوج وعيه السياسي، وتحديد توجّهاته الفكرية يقول ” عام 1943 وضعت مُسَوّدة كتيّب بعنوان (ما بعد الحرب) وحتى عام 1946 عام تحوّلها (أي هيئة الشعب) إلى مسمًّى جديد هو “الحركة الشّعبيّة”، ضمّنته أفكاري الاشتراكيّة، وقلت: إنّ حلّ جميع مشاكل العالم بعد الحرب سيكون بالنّظام الاشتراكيّ، وحدّدت موقفي من الاشتراكيّة على أساس قوميّ، بعيداً عن الأمميّة التي كانت الشّيوعيّة متمسّكة بها كثيراً في تلك الأيّام ــ وقد أرسلت مُسوّدة الكتاب إلى الشيخ فؤاد حبيش (في لبنان) لعلّه ينشره في منشورات “دار المكشوف” فأجابني: إنّ مثل هذه الأفكار سابقة لأوانها وربّما تُسبّب لي بعض الإزعاجات ــ وأعاده إليّ”.

قيادي ناشط في الانقلاب على الفرنسيين وتحرير الجبل في 29 أيّار 1945
عمل الشاب الثّوري سعيد أبو الحسن وتنظيمه عصبة العمل القومي إلى جانب الأمير حسن الأطرش محافظ السويداء الذي قاد الانقلاب على الفرنسيين حينذاك، ففي حفل استقبال أقامه الأمير المحافظ جرى بينه وبين المسؤول الفرنسيّ في المحافظة (سارازان)، حوار دلّ على مدى وعي الشاب أبو الحسن وحنكته السياسيّة. يقول “كنّا أربعة أو خمسة من الأصحاب نتحدّث وقوفاً بالقرب من أحد الأعمدة، وإذا بـسارازان يتقدّم من حلقتنا ويُحيّينا ثمّ يوجّه إليّ فجأة من دون مقدّمات السؤال التّالي: “ما رأيك في كيفيّة إنهاء الوضع في البلاد بمعاهدة أو بلا معاهدة؟ فأجبته جوابًا حاسمًا مقتضبًا: بلا معاهدة.
– ولماذا؟
– لأنّ عَهْدَنا بنقضكم العهد ليس ببعيد، فمعاهدة عام 1936 تمّت لمصلحة فرنسا ومع هذا فقد نَكَلتم بها، وألغيتم تواقيعكم، فكيف يكون الأمر لو كانت المعاهدة بكلّيتها لمصلحتنا؟ إنّ قبولنا بالمعاهدة بعد التجربة الأولى يعني أنّنا أغبياء لا أكثر ولا أقلّ وأنّنا لا نفيد من التجارب، وأنت تعرّف ولا شكّ ما أعنيه بقولنا “لا يُلدّغ المؤمن من جُحْر مرّتّين”.
– ولكنّ الكثيرين من شعبكم يقولون غير ما تقول، يقولون بضرورة عقد معاهدة مع فرنسا والإبقاء على نوع من الوجود الفرنسيّ في بلادكم لمصلحة هذه البلاد بالذّات.
– من هم هؤلاء الكثيرون من شعبنا؟
– كثيرون كتبوا بهذا الموضوع…
– أنت تدري أنّهم من عملاء مخابراتكم، واحتدم النّقاش حتى لَفَت انتباه الآخرين فانضمّ إلى الحلقة عدد من الضبّاط وغيرهم من المدعوّين وكان المحافظ صاحب الدّعوة قد انضمّ إلينا وسمع آخر ما قلناه.
فوجّه سارازان الحديث إليه وسأله: ما رأي سيادتكم في الموضوع؟
فأجابه المحافظ بلا تردّد: أنا من رأي فلان ــ أي من رأيي ــ فيجب أن ينتهي الوضع حسب وعودكم من دون معاهدة، ولا امتيازات. امتعض سارازان وبلعها وغيّر موضوع الحديث.
ويعقّب الشاب المتحمّس سعيد “كان موقف المحافظ مفاجأة سارّة لي وضعتها في كفّة التّعاون الممكن معه في مقبلات الأيّام”.

نبوءة الشاب الجذري القادم من الرّيف، واحتكاكه بزعامات دمشق التقليديّة!!
ينقل إلينا سعيد أبو الحسن الخريطة السياسيّة للعاصمة دمشق عام 1946حيث كانت الكتلة الوطنيّة آنذاك تواجه أحزاباً معارضة لها أقدمت على تشكيل تجمّع باسم “اتّحاد الأحرار”، كان ذلك الاتّحاد يضمّ عصبة العمل القوميّ، ممثّلاً بفهمي المحائري وجماعة الأحرار ويرأسهم منير العجلاني والدكتور سامي كبّارة والدكتور صبري القبّاني، وكان الدكتور سامي كبّارة ذا قلم أمضى من السّيف في جريدته (النّضال)، وإلى جانبه عدد من كبار المستقلّين أمثال الأستاذ رئيس مجلس الشورى سابقًا سعيد حيدر والأستاذ نبيه الغزّي المحامي الذي سيصبح قاضيا ثمّ رئيساً لمجلس الدولة فيما بعد والأستاذ سعيد محاسن محام ووزير سابق والأستاذ نزهة المملوك والأمير جعفر الحسني الجزائري رئيس المجمع العلمي العربي فيما بعد والأستاذ علي بوظو من شباب حزب الشعب والأستاذ زكي الخطيب وزير العدل السابق وكان يتعاون مع هذا التجمّع حركة البعث الاشتراكي والحزب العربي الاشتراكي.
كان تجمّع الأحرار هذا قد اتّخذ لنفسه مكتباً في شارع العابد حيث كانت أوّل مناسبة لظهوره يوم الثامن من آذار عام 1946 يوم ذكرى إعلان استقلال سورية (بحدودها الطّبيعية: بلاد الشام) كما أقرّها المؤتمر السوري عام 1919، وقد ألقى الأستاذ فهمي المحائري خطاباً عنيفاً هاجم فيه الحكم على كلّ مستوياته، وأُلْقِيَتْ خُطب عديدة منها خطبة الشاب سعيد أبو الحسن، الذي كانت تغلب على خطبته المسائل الراهنة، ولكونه وجهاً جديداً في ذلك الوسط الدمشقي التقليدي، فقد أثار رَيْبة ما؛ في مجتمع سكوني يسوده قادة تقليديون ينتمون إلى فئة مُلّاك الأراضي والبورجوازية التجارية العائدة إلى العهد العثمانيّ والاحتلال الفرنسيّ، يقول أبو الحسن: “.. سمعت بعض القوم يتهامسون: تُرى هل سيخلقون لنا زعامات جديدة؟”.
مثل هذا الموقف النّكوصيّ من أولئك القوم الدّمشقيّين الذين يشير إليهم أبو الحسن أثار في نفسه المرارة، وهو الشاب العروبيّ الذي يتجاوز بوعيه العُلَبَ المذهبيّة والطائفية ونزعة المدينة المنغلقة على نفسها وعلى زعاماتها؛ تلك النّزعة الموروثة من العهد العثمانيّ القروسطيّ.
يقول مشخّصاً الأمر الواقع حينها، ومتنبّئاً بما سيكون عليه المستقبل “إذن هذا كل ما يهمّ هؤلاء الناس: زعاماتهم!، وهذه الزّعامات يجب أن تكون دمشقيّة معروفة، وإلّا فهي مرفوضة مبدئيّاً؛ ويومها أدركتُ الأسرار كلَّها: أدركت لماذا يتحدّث المؤرّخون عن (معركة) ميسلون ولا يتحدّثون عن (معركة) المزرعة، أدركت لماذا يُعَتّمون على معاركنا الرّائعة خلال العهدين العثمانيّ والفرنسيّ ويبرزون أقلّ تظاهرة تجري في دمشق ولو اشترك فيها عَشَرة من الصّبية، إنّها عصبيّة إقليميّة، عمياء مُغرضة هي مرضُنا نحن العرب، وهي التي ستكون سبب كلّ هزائمنا الداخليّة والخارجيّة”.
في حقل عمله الوظيفي بعد عمله في القامشلي عام 1948 في القضاء ومن ثم في المحاماة عام 1949 حتى عام 1960 انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة في دمشق منذ العام 1961 وبقي فيها إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.

لقاؤه مع علي ناصر الدين
وحسين أبو شاهين
عام 1947كان استحقاق انتخابات؛ سياسيًّا كان سعيد أبو الحسن منظِّماً حزبيّاً وسياسيّاً وقائداً سابقاً عصرَه في ميدان النّشاط الاجتماعيّ، فهو من الجيل التّابع لجيل الثّوار الآباء، وكان قد تعرّف في لبنان بحكم دراسته في الجامعة اليسوعيّة وبحكم أصوله اللبنانيّة المتنيّة على علي ناصر الدّين وزميله في النّضال حسين أبو شاهين عام 1934، وعليٌّ هذا هو مؤسّس عُصبة العمل القومي ذات التوجّهات العروبيّة والوحدويّة، وقد تأثّر سعيد بأفكاره. يقول “كان لهذه الزّيارة أثرها البعيد في نفسي مدى عمري كلّه. لقد وجدت هناك صورة حيّة لما أفكّر وما أريد، وتزوّدت بالقوّة والوعي بمشاكل الأمّة العربيّة، وفي طليعتها مشكلة التّجزئة وأمراض الطّائفيّة والإقطاع والعمالة والجهل والمرض والفقر والتخلّف بكل مظاهره، وحدّدت هُويّتي الوطنيّة، وعقيدتي القومية، ومنذ ذلك التّاريخ صرت أعمل كأنّي فرد من العصبة”.
على هذا أسّس سعيد أبو الحسن العصبة في الجبل عام 1942 بدأ بأفراد قلائل، تكاثروا فيما بعد، يقول: “وقد سبق أن قلنا إنّ العُصبة ضُربت وشُتّت قادتها واستتر أعضاؤها. فكيف السّبيل إلى إعادة الحياة إليها؟ نحن من الوجهة القوميّة لم يكن لدينا أيّ فرق بين ارتباطنا بالعصبة في لبنان، وارتباطنا بالعصبة في دمشق أو في أيّ قطر عربيّ آخر، ذلك بأنّنا وحدويّون تساوت في نظرنا وأعماقنا جميع أجزاء وطننا الواحد، فَذَرّة الرّمل في حضرموت، والحجر الكلسيّ على شواطئ المتوسط والشاطئ المقابل لأوروبا على المحيط الأطلسيّ، كلّها في عقيدتنا مُتساوية وتستحقّ أن نناضل من أجل تحريرها، وأن نموت من أجل وحدتها وسيادتها”.
لقد كانت شخصيّته القياديّة الآسرة عنصراً مؤثّرًا في توسّع المنظّمة، من حيث النّوع قبل الكم، فلم يأتِ آخر عام 1944 حتى كان قد انتسب إلى العصبة نُخبة طليعية من الجبل، بلغ عددهم ما ينوف عن الثلاثة آلاف عضو من المعلّمين والطلّاب والموظّفين وصغار الملّاكين ــ وهم أبناء وأحفاد فلاحي الثّورة العامة في العقد التاسع من القرن التاسع عشر ويمكن القول: إنّه لم يبرز شخص من محافظة جبل العرب من الأربعينيّات إلى الستينيّات إلّا وكانت له صلة قديمة بالعصبة، أو تخلّق بأخلاقها وترعرع في جوّها.

نزوع للتغيير الاجتماعي
لم يكتفِ سعيد أبو الحسن فقط بالعمل ضدّ المحتلّ، يقول: “كانت تختمر في ذهني أفكار بعيدة عن الاهتمامات المباشرة لرجال المعارضة، كان يجب أن نبدأ الثّورة الاجتماعيّة في الجبل، فما عاد يجوز القبول بالوضع العشائري العائلي الإقطاعيّ القائم، كان الحكم أضحوكة، مَهزلة، فالقانون لا يُطبّق على أحد من الزّعماء، ويُطبّق على أبناء الشّعب العاديّين… كلُّ شيء سيّئ، كلّ شيء يحتاج إلى تغيير أو إصلاح؛ هذه كانت قناعة الجميع، ولكن من يبدأ؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟ كل هذه العيون كانت تتطلّع إلينا وتنتظر أن تستأنف هيئة الشّعب الوطنيّة نشاطها وتبدأ معركتها: ولكن على أساس أن نكون نحن الطّليعة ونحن العمود الفقريّ لها”.
وهكذا فقد كان الرّجل واحداً من أبرز مُحَرّكي الأحداث في جيلهِ بالاستناد إلى التّنظيم المُتماسك ــ عصبة العمل القوميّ ــ الذي يقوده، ويذكر رفاقاً كانوا إلى جانبه في قيادة العصبة أبرزهم جادالله عزّ الدّين واسمه الحركي(أنت) وذوقان قرقوط (أنا) وهو، أي سعيد، واسمه الحركي (هو)، وقد لعب رفيقاه هذان أدواراً بارزة في حياة الجبل الاجتماعيّة فيما بعد.
كانت الانتخابات البرلمانيّة مقبلة في صيف عام 1947، والنّاس في شبه تربص وترقّب، يقول: “أصدرت بياناً، حدّدت فيه المشاكل الاجتماعيّة التي يعاني منها مجتمعنا وكيفية حلّها، وركّزت على ضرورة تحلّي المناضلين بأخلاقيّة مُتميّزة صارمة وختمته بهذه الفقرة: “أيّها الإخوان هذا هو برنامجكم فاحرصوا على تنفيذه وليعلم كلّ واحد منكم أنّه مسؤول عن تنفيذ هذا البرنامج كلّه فإذا سكت أحدكم على ضيم، وصبر على ظلم ورأى اعوجاجاً ولم يفضحه، ورأى خيانة ولم يحاربها ورأى دسيسة تُحاك ضدّ الأمّة والوطن ولم يقاومها، فليعلم أنّه خان رسالته ومبادئه وواجبه القومي المقدّس”. وفي هذا نفهم منه أن الروح الحزبية في زمنه كانت نقيّة لم تُسْتَلحَق بسلطةٍ بعد.
وممّا يدلّ على ا لمنهج الاجتماعيّ الجادّ للرّجل؛ تصريحاته المتناثرة في بيانات عصبة العمل القومي وأقواله: “سنحارب كلّ اعوجاج نراه، وسنقاوم كلّ إجحاف نصادفه وسندافع عن كلّ حق هَضيم وعن كل مشروع نافع”.
وممّا كان يؤلمه بعد تَحقُّق الاستقلال، غياب الإنصاف بين المواطنين، يقول: يالَضياع الدّماء والأرواح إذ كان يسيطر يوم عيد الجلاء رجال كانوا مع الأجنبيّ قبل (ميسلون) وقبل (المزرعة) وقبل (أيار 1945) ثم شاءت سياسة التّرضية، سياسة الوصوليّة والمحافظة على الكراسيّ، السياسة الرّأسماليّة الاستثماريّة شاءت أن يبقى هؤلاء في مراتبهم وأن تتّسع صلاحيّاتهم وأن يتصرّفوا في شؤون الوطن العامّة فسيطروا على مصالح الأفراد والجماعات..”.

الدّعوة إلى سياسة صائبة
ولأنّ شخصيّة الرّجل شخصيّة قياديّة ذات هم اجتماعيّ يقول” علّمتنا التجارب أنّه علينا أن نتدخّل في كلّ شأن من شؤون الجبل، لأنّ موقف الحياد من مشاكل الحياة يجعلنا على هامش الحياة، ولأنّ عدم الاهتمام بشؤون الحياة جهل مطبق بأمور الحياة كلّها، لأنّ السياسة تسيطر على كلّ شيء في هذا العصر فلا علم ولا عمل، ولا خبز ولا تقدّم ولا نظام، ولا أمن إذا لم تكن هناك سياسة صالحة موجّهة؛ دلّوني على عمل يمكن أن يقوم به الإنسان بدون أن يصطدم بمشكلة سياسيّة، بمشكلة قانونيّة لها صلة متينة بالسّياسة نفسها؟”.
انطلاقًا من هذا الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ العميق لسعيد أبو الحسن نما جمهوره في عصبة العمل القوميّ التي يقودها وتعاظم الدّور السياسيّ الذي اضطلعت به، إلى أن وصل الأمر إلى مواجهة اجتماعيّة دامية في الجبل بين أنصار القديم وأنصار التّجديد ــ على حد تعبير الأستاذ عارف النّكدي محافظ الجبل آنذاك ــ على أثر انتخابات نيابيّة جرى تزويرها عام 1947، وقد نصحه حينها بالابتعاد قليلاً عن الجبل، وعلى هذا الأساس تمّ تعيينه معاون نائب عام في القامشلي في أقصى الشمال السّوري عام 1948.

مواقف يساندها
سلطان باشا الأطرش:
كان الاستقلال قد تَحقّق ولكنّ الآمال لم تتحقّق ممّا دعا الأستاذ فهمي المحائري رئيس العصبة في دمشق إلى انتقاد السّلطة بشخص رئيس الجمهوريّة (شكري القوّتلي) آنذاك، فأحيل إلى المحكمة وعندها تظاهر المحامون، وتطوّع للدّفاع عنه نحو خمسة وثمانين محامياً، ورفضت الحكومة إخلاء سبيله بكفالة فكان لابدّ من الضّغط الشّعبي، عندها أعدّ سعيد برقية شديدة اللّهجة تضمّنت دفاعاً عن حرّية المواطنين وعبارة “يجب إخلاء سبيل فهمي المحائري” وقام جميل كوكاش بحمل البرقيّة إلى سلطان باشا فوقّعها متضامناً، وطُيِّرَت البرقية إلى دمشق وبعد 24 ساعة من وصولها إلى رئيس الجمهوريّة؛ أُخْلِي سبيل الأستاذ المحائري.

إسقاط المرسوم 50
كان سعد الله الجابري أيّام أصبح رئيساً لوزراء سوريّة قد أصدر المرسوم 50 الذي يصادر الحُرِّيّات ويجعل من حليفه صبري العسلي نوعاً من دكتاتور، كانت الغاية من ذلك السّيطرة على نتائج الانتخابات القادمة، وعلى الأثر تنبّه الوطنيّون في دمشق لنوايا الجابري والعسلي، فَقَدِم كلٌّ من الأستاذين سعيد حيدر ونزهة المملوك إلى سعيد أبو الحسن في السويداء بصفته شخصيّة وطنيّة، ورئيس فرع عصبة العمل القومي في السويداء، وأوضحا له أنّ إلغاء هذا المرسوم بحاجة إلى وِقفة من سلطان باشا نظير وِقفته من قضيّة فهمي المحائري، وبالفعل ذهب الثلاثة إلى القريّا مَعْقِل سلطان، وعقدوا معه اجتماعًا سِرِّيًّا، وبَسطوا له الوضع، قائلين: “إذا بقينا ساكتين وظلّت الحكومة سائرة في غِيِّها فسيأتي يوم نترحّم فيه على أيّام الانتداب والاحتلال” فاستجاب سلطان باشا لِطَلَبِهم ووقّع بيانًا نُشر في الصّحف ووزّع على نطاق واسع، يوم 6 تشرين الثاني عام 1946، وسقط المرسوم”.

سعيد أبو الحسُن العروبي ورجل المجتمع والسياسة، أديب وشاعر أيضاً
هو شخصيّة مُتعدّدة المواهب إذ كتبَ القِصّة والمسرحيّة وجمع الشعر الأصيل إلى ما سبق ذكره، ففي ديوانه القيّم “الديوان، من الرَّباب إلى السيمفونيّة” والذي يمثّل شهادة الشاعر على عصره؛ ويضمّ مئة وثماني وثلاثين قصيدة معظمها من الشعر العمودي، بعضها من الشعر الحديث، وجميعها من الشعر الجيد المتعدّد الأغراض بين الوطني القومي والاجتماعي والتاريخي والذاتي والعاطفي ــ الأسري، وله نظرة جادة في الشعر يعبّر عنها بقوله “الشعر بمضمونه وليس بشكله”، هذا مع أنّه التزم في شعره بإتقان الشكل والمضمون معاً، وهو يعرّفنا على موقفه من الشعر بقوله: “هل صاحب هذا الديوان شاعر سياسيّ أم سياسيّ شاعر؟ ولعلّ الإجابة الصحيحة هي أنّه مواطن وإنسان قبل كلّ شيء يعيش آمال أمّته وآلامها، يحسّ بؤسها وينتشي بانتصاراتها ولا يقبل بنظريّة الفن للفن، أو الشعر غير الهادف” ويلخّص رأيه بقوله: “إنّه يؤمن بالأدب في خدمة الشعب، لا الشعب في خدمة الأدب”. ومن قصائده اللافتة في الموضوع الوطني ــ القومي قصيدته “جراح وآمال” ولها مناسبة طريفة يقول فيها: استمعت إلى الشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري وهو يخاطب دمشق في لهفة وكأنّه لا يصدّق أنّه استطاع الوصول إليها، فتجسّدت في نفسي مأساتنا القوميّة الكبرى، وكتبت هذه القصيدة (نُشرت عام 1979) مهداة إليه نقتطف منها قوله:
أَتـــرَعتُ من لَهبِ الجوى أقداحي وشربتُ حتى صِرتُ بعضَ الرّاحِ
ورأيتُـني فـوق السـحاب غمامـــةً حمـراءَ تنشرُ في السّماء جـراحي
جُــرحُ الحــدودِ قديمُـها وحديثُـها جثـمت عـلـى الأجســـادِ والأرواحِ
والقصيدة مُطوَّلة، ومن بعض عناوين قصائده “بلدتي عرمان” و “وادي بردى في الخريف” و “يوم التضامن مع الفلسطينيين” و “تحيّة إلى جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله” و “أَبَيْتُ الذلّ” و “النصر أو الكفن” و “تحيّة عربية إلى هانوي” و “إلى غزة المناضلة” و “جبل الشيخ رفيق الأزل” و “المتن” و “إلى رفيقة العمر مي (زوجته) بعيد ميلادها” و “إلى أمي” و “وقصائد إلى “أميرة في عيد ميلادها وقصائد أُخرى إلى أحفاده دينا ولارا ورامي …
حقّاً لقد كان سعيد أبو الحُسن شخصًا سابقًا عصره، لكنّه على تَمَيُّزه لم ينل حقّه في حياته بسبب ظروف الفترة القلقة المليئة بالتقلّبات والإرهاصات التي عرفتها سورية، تلك الفترة التي عاشها هذا الرّجل الموهوب.
إنّ الحديث عن دوره وتأثيره الاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ يحتاج مُجلّدًا ضخماً، لا مقالة محدودة بعدد ما من الصّفحات، فحقيقة الرّجل ساطعة سطوعَ شمسٍ في رابعة النّهار.

رشيد طليع

أحد أبرز أركان الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927

رشيد طليع
إداريّ قائد، وسياسي عربي مُتَعدّد المواهب

هو رشيد بن علي بن حسن بن ناصيف طليع، ولد في قرية جديدة الشّوف بلبنان عام 1876م، وتلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة القرية ثم انتقل إلى المدرسة الداوديّة في عبيه وبعدها في المكتب الإعدادي في بيروت عام 1892 فنال شهادته بتفوّق، ومنذ أيام الدراسة تلك برزت لديه إمارات الذّكاء والنُّبوغ،
بعد المكتب الإعدادي، بعثته الدّولة مع بعض أبناء العشائر إلى الآستانة ليلتحق بمكتب العشائر ومعهد الإدارة والمال وكانت مدّة الدِّراسة ثماني سنوات ، فتخرَّج سنة 1900، وعاد إلى بيروت فَعُيِّنَ برتبة مأمور معيّة لولاية سورية، وفي عام 1901 عُيِّن وكيل قائمّقام بعلبك، وفي عام 1902 عين قائمقامًا للزّبَداني، وفي 1903 قائمّقامًا لراشَيّا وفي عام 1906 قائمقامًا لحاصبيّا ثم قائمقامًا في جبل الدّروز (كما كان يُدعى آنذاك) في بلدة عاهرة (عريقة اليوم) بين عامي 1907و 1909وفي سنة 1910 نُقِل قائمّقامًا إلى المِسِمْيَة (في اللّجاة) ومن ثم مُتصرّفاً في لواء حوران(درعا) عام 1912 وقد انتخب عضواً في “مجلس المبعوثان” (مجلس النّواب العثماني) عن لواء حوران في العام نفسه ، وفي آب عام 1914عيّن مُتَصَرِّفاً على طرابلس الشام وفي 13 تموز 1915 عُيّن متصرّفاً لِلِواء الإسكندريّة (الإسكندرون ــ أنطاكية) وعندما سقطت الدّولة العثمانيّة عام 1918 آبَ إلى موطنه لبنان (1).
وهو سليل أسرة وجيهة أنجبت رجالاً مُمَيّزين منهم الشّيخ حسن طليع الذي كان شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز بين عامي 1917 وإلى تاريخ وفاته عام 1949.
في أثناء وجوده في الآستانة، وفي فترة عُضْوِيّته في البرلمان العثماني عام 1912، كان لرشيد موقف يُحسب له في باب نقده أخطاء الحكومة العثمانيّة (2). وفي تلك الفترة التقى بالأمير فيصل بن الحسين الذي كان نائباً عن مدينة جدّة (في الحجاز). وفي العام ذاته أُعيد إلى الوظيفة مُتصرّفاً لدرعا بعد حلِّ مجلس المبعوثان.. وفي العام 1913 كان له دور مؤثِّر في انتخاب الأمير شكيب أرسلان نائباً عن لواء حوران في مجلس النوّاب العثماني، وفي عام 1914 جرى تعيينه مُتصرّفاً لطرابلس الشام. وفي العام التالي نقل ليكون متصرّفاً في اللاذقية حتى عام 1918. كانت سرعة التنقلات للولاة سُنَّةٌ عثمانيّة قديمة لمنع استئثار الولاة في ولاياتهم أو تفكيرهم في الانفصال.
وعلى أثر يأس العرب من الإصلاح العثماني، انتسب رشيد إلى “الجمعية العربية الفتاة” عام 1918، وهي جمعيّة عربيّة انتقلت من المطالبة بالحكم اللّامركزي في إطار الامبراطوريّة العثمانيّة إلى الدّعوة للانفصال عن الحكم العثماني. وفي العام نفسه عُيّنَ حاكماً عسكريّاً لحماة.

تعارُف الأزمة بين رجلين كبيرين
المُتَصرِّف رشيد باشا طليع والشّاب سلطان الأطرش
حصل التّعارف بين الرّجلين عَبْر أزمة نزاع على الأرض، فقد كان سلطان الشاب وسائر الدّروز آنذاك في حالة يأس من عدالة الدّولة العثمانيّة التي جرّدت عام 1910حملة انتقاميّة على الجبل بذريعة “حوادث فرديّة (بين الدّروز والحوارنة) كان حلُّها مُمْكِنًا”(3)؛ أسفرت عن إفقار مُتَعمّد و دمار وسلب وقتل في مجتمع جبل الدروز وإعدامات لستّة من زعمائه، بينهم ذوقان الأطرش والد سلطان. ومن التُّهم التي وُجِّهَتْ إليهم تُهْمة الخروج على الخلافة والكفر بالإسلام، وقد تمكن رشيد بحنكته من حل الخلاف بين الدروز والحوارنة وإعادة الأرض المستولى عليها بالتراضي لأهل القريا.

رشيد بك طليع
رشيد بك طليع

اللّجوء إلى جبل الدروز
والإعداد للثَّوْرة السُّوريَّة الكُبرى
لم يكن رشيد طليع لينسى الغاية العربيّة الاستقلاليَّة التي انضمَّ إلى الجمعية العربيَّة الفتاة من أجل تحقيقها، ولم ييأس الرّجل من هدفه ذاك حتى بعد احتلال غورو لدمشق وسقوط الحكومة العربية فيها، وكان بحكم معرفته لمواطن الفعل المؤثِّر في بُنى المجتمع السُّوري يرى في الجبل عامّة، وفي سلطان والفريق الملتفّ حوله منذ أيام الثورة العربيّة على العثمانيين بؤرة وطنيَّة مناسبة لمواصلة النِّضال لبلوغ هدفه الاستقلاليِّ العروبيّ، وعلى هذا فقد تَوَجَّه مُتَخَفِّياً إلى السّويداء بعد فشل ثورات الشّمال السوريّ.
يذكر علي عبيد وهو من العاملين على التَّأسيس للثّورة السُّوريَّة الكبرى إلى جانب سلطان في مذكِّراته أنّ رشيد طليع حضر إلى بيته في السُّويداء في تلك الفترة من عام 1920 وبقي “في بيته مدة تنوف على أربعة أشهر مُسْتَصْحِباً رفيقه (الدّمشقي) الشّهم الهمام نبيه بك العظمة وبدأوا يبثُّون نصائحهم بين الدروز لعدم الانصياع إلى وعود الدّولة الأفرنسيّة”(4).
كان لجوء رشيد طليع إلى الجبل إلى جانب قيادات من الحركة العربيّة عقداً للهيئة على المقاومة، وتطبيقاً لما كان عليه الاتفاق من الإقامة في حوران أو شرق الأردن، وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة (5).
وقد ذكرت الوثائق البريطانيّة أنّ رشيد طليع أرسل منشوراً إلى قرى جبل الدروز يطلب من رجالها الاشتراك في الهجوم الذي سيقوم فيه الأمير عبدالله بن الحسين على الفرنسييِّن و”أنّ الفرنسيين طالبوا بطرده “. كذلك اندفعت “السُّلطات الفرنسيّة إلى إنذار زعماء الدّروز بضرورة طرد رشيد من الجبل فوراً وإلاّ ستدمِّر بلدة السويداء على من فيها إذا بقي رشيد طليع يوزع المناشير الدّاعية لحركة الأمير عبدالله والانتساب إليها”. ذكرت ذلك صحيفة التايمس اللّندنيّة بتاريخ 10 آذار 1920، مشيرة إلى جهود رشيد طليع في تطويع المجاهدين العرب ونقلهم إلى الأردنّ (6)، إذ كان الجبل لم يزل باقياً على عهده إلى جانب الثورة العربيّة التي لم تخمد شعلتها فيه بعد، وكان الفرنسيُّون يَرَوْن فيه “ملجأً للمجرمين من كلِّ المناطق المجاورة (يقصدون بذلك لجوء رجال الحركة العربيّة إلى الجبل بعد ميسلون 1920)، وبحيث أنّ حكم الجبل يبدو أكثر صعوبة عليهم بسبب عدم انضباط زعماء عائلة آل الأطرش وأبرزهم الأمير سلطان”(7). حقًّا كان سلطان باشا وفريقه من زعماء الجبل يقفون في صف فريق رشيد طليع العروبي الاستقلالي، وكان نشاط هؤلاء العروبيين الذين يرفضون معاهدة سايكس بيكو يضع عبدالله بن الحسين حليفهم بادئ الأمر الذي كان يدعو لتحرير سورية من الفرنسييِّن في مو قف حَرِج، فإمّا أنْ يرضى بشروط البريطانييِّن وهم أقوى طرفي سايكس بيكو، وإلاّ فهو سيخسر إمارة الأردن إن استمرَّ في التعاون مع رشيد طليع وفريقه من الاستقلاليين العرب.
شكّل اعتصام رشيد طليع في السويداء عام 1920 إلى جانب عدد من قيادات الاستقلالييّن ومن ثم انتقاله بعدها مُكْرَهاً إلى عمّان على أثر ضغوط الفرنسييِّن بضرورة إخراجه من الجبل فترة تهيئة الأرضيّة بالتّعاون مع سلطان ونخبة من طليعة الرّجال الوطنييِّن في الجبل للإعداد للثورة الاستقلاليّة المقبلة. وظهر دوره الرئيسي جَلِيًّا في حزب الاستقلال في إمارة الشَّرق العربي (كما كانت تدعى الأردنُّ آنذاك)، إذ أصبحت بعد ميسلون موئلًا للسياسييِّن العروبييِّن في تلك الأيّام العصيبة، إذ حَلَّ بها سياسيُّو الحكومة العربيّة التي أطاح بهم الاحتلال الفرنسيّ لدمشق، ورجالات سوريّة، أي ” عصبة الاستقلالييِّن” التي اضطُرَّت إلى التشتّت إثر انهيار الحكم العربيّ. وفي محاولة منهم للتجمّع استقرّوا في عمّان وأبرز رجالاتهم الذين كانوا يجتمعون معاً: رشيد طليع وأحمد مريود والأمير عادل أرسلان ونبيه العظمة وسامي السرَّاج وعادل العظمة وخير الدين الزِّركلي وفؤاد سْليم، وأحمد حلمي عبد الباقي وعثمان قاسم وآخرون، وقد شكلت عصبة الاستقلالييِّن هذه لجنة مركزية لحزب الاستقلال تتولَّى قيادة النّضال ضد الانتداب الفرنسيّ (في سورية) مؤلّفة من زعماء الحزب: أحمد مريود ورشيد طليع وعادل العظمة وعادل أرسلان وغيرهم.. وكان رشيد طليع المرشّح الأول باسم الحزب لرئاسة أوَّل حكومة عربيّة في شرق الأردن وقد مثّلت اللَّجنة المركزيّة تلك وجود الرّجال الاستقلالييِّن (دعاة استقلال سورية كاملة بحدودها الطِّبيعيّة) من نواحٍ عربية مختلفة على امتداد سورية والعراق وفلسطين ولبنان، وقد اتَّخذوا من عمّان مقرًّا ومُنْطَلقاً.
لقد كان رشيد طليع أمينًا لمُنْطَلق الثّورة العربيّة على العثمانيين عام 1916 وفي السَّعي للتّحرُّر من أيّة سيطرة أجنبيّة، ومن هنا كان تقبّله لدعوة عبدالله بن الحسين التي أطلقها “للجهاد والتّحرير”، لتحرير سورية من الاحتلال الفرنسي. إذ وفد إلى عمّان على رأس “جمع كبير من فرسان الجبل في 27 آذار 1921، هم الذين كانوا يأخذون دعوة الأمير عبدالله لتحرير سورية على أنها أمر محتوم، وفيما بعد فإنّ رشيداً وسائر رفاقه الاستقلالييِّن اضطروا لمواكبته على مضض بعد رضوخه لمطالب بريطانيا إثر اجتماعه بـ ونستون تشرشل (وزير المستعمرات حينها) في بيت المقدس في 29 آذار 1921، لكنهم ظلّوا يعملون في الباطن على هدفهم العروبيّ.

رشيد طليع وفريقه في امتحان الخيار الصَّعب
لم يكن أمام أولئك الاستقلالييِّن العروبييِّن من خيار آخر، فَهُم “قَدِموا إلى الأردن، وأكثرهم لا يملك مكان الخطوة التالية (ملجأ) إذا انسحب من عمّان وغدا في مركز حَرِج، وبخاصّة أنّ هؤلاء الإخوان مبعدون من الدِّيار أو محكومون بالإعدام من السّلطة الفرنسيّة، أو هم غير مرغوب بإقامتهم في المناطق الخاضعة للنفوذ الإنكليزي”(8).
لقد كانت العلاقة بين الأمير عبدالله والاستقلالييِّن علاقة بين مضعوفين كلٌّ بحاجة للآخر، كما أنّ بريطانيا كانت ترى أنّهم “يَحْظَوْن باحترام أهالي البلاد ويتمتّعون بِصِلات ممتازة مع زعمائها ووجهائها، وكانت لهم في الغالب كلمة مسموعة ومقدرة بالغة التّأثير في الحياة العامّة إضافة لذلك فهم يملكون خبرة طويلة في العمل السياسيّ وتنظيمًا سياسيًّا اجتمع فيه وحوله العديد من السياسييِّن المتمرِّسين والإدارييِّن والعسكرييِّن المُحترفين”(9). لكنّ الافتراق قارب أن يقع أخيرًا بين الأمير والاستقلالييِّن.

رشيد طليع على رأس الحكومة الأردنيَّة
كان الاستقلاليّون قد طلبوا من الأمير عبدالله أن “يستدعي رشيد طليع بصفته رئيس حزب الاستقلال”، وبصفته أوسع رجل عربي في الأهليَّة والكفاية ليؤلِّف الحكومة” (10).
وكان رشيد طليع حينها يرأس حزب الاستقلال العربيّ ، ولهذا فقد أقنع رفاقه الاستقلالييِّن أن يقبلوا بتأليف حكومة عاديّة في الظاهر ثوريّة في الباطن مستندة إلى تأييد الأهلين والعشائر، وذلك من أجل تحقيق هدف حزب الاستقلال في “سوريّة دولة مُوَحَّدة مستقلّة”.
وفي شمال الأردن، كان اللّواء علي خلقي الشرايري رئيس حكومة إربد (المحلّيّة) لا يثق بعلاقات عبدالله ببريطانيا، وهو من جماعة حزب الاستقلال وعنده ريب من بريطانيا ومن عبدالله، ولكنّ رشيدًا (بِحِسّه العمليّ) أقنعه بدخول الوزارة إذ كان يرى أنَّها فرصة يواظب عبرها الاستقلاليُّون على تأكيد وجودهم وتحقيق هدفهم الوطنيّ.
كان عبدالله قد طلب من رشيد أن يقوم بتأسيس حكومة في المنطقة بينما يتقدمون إلى سورية (لتحريرها من الفرنسييِّن وكان هذا هدف الاستقلالييِّن أصلاً) فوافق (رشيد) على طلبه واشترط (على عبدالله) شرطين: الأوَّل أن تكون الحكومة دستوريَّة ذات مجلس نيابيّ، والثاني أن يبقى حُرًّا بالعمل في جبل حوران محافظةً منه على الحالة الولائيَّة التي كان قابضًا على ناصيتها (منذ أيام لجوئه إلى الجبل عام 1920) فوافق الأمير” (11).
كانت فرنسا تعلم نوايا حكومة رشيد طليع ضدّها فشّجعت تمرّد منطقة الكورة (في شمال الأردن الذي كان أساسه التّمنُّع عن دفع ضرائب متوجِّبة) وهو التمرّد الذي تزعّمه الشيخ كليب الشَّريدي ضدّ الحكومة ووقف الأمير عبدالله والبريطانيون موقف الفرجة (المتفرّج!) أثناء تحضير المسير بالحملة لتأديب الكورة وعدم مدّها بالسلاح والعتاد (12).

حاكماً عسكرياً في حماه
حاكماً عسكرياً في حماه

سَعْيُ رشيد طليع للاستغناء
عن المساعدة البريطانيّة وإقالته!
يقول خير الدين الزّركلي: “إنّ رشيد طليع شَمَّر عن ساعد الجدِّ ونظّم الحكومة في شرق الأردن على أساس الاقتصاد في النّفقات بحيث لم يَزِد أعلى مُرتّب (أي راتبه الشَّخصي) على أربعين جنيهًا في الشّهر (كان هذا يعادل 4 مرات مرتَّب المعلّم الأول يومها في مدارس عمّان الابتدائيّة)، مُراعيًا في ذلك قلّة موارد البلاد، وعدم إرهاق الأهالي بالضّرائب، والاستغناء عن طلب المساعدة الماليَّة من الحكومة البريطانيّة” (13).
من جانب آخر كان إنفاق الأمير عبدالله (شهريًّا) في حدود عشرة آلاف جنيه استرليني تقريبًا في حين أنّ المساعدة الشهريّة البريطانيّة له 5000 جنيه، وكان الأمير يُنفق بكرم على أتباعه وزوّاره وهذا الوضع كان يرهق حكومة رشيد طليع (بينما الأمير يضنُّ على الحكومة بقليل من المال تسدُّ فيه أرماق الجنود)، فتراكمت عليه الدّيون وكان البريطانيُّون يلوّحون بين حين وآخر لوقف مساعداتهم أو أن ينسجمَ الأمير مع شروطهم ليبقى أميرًا ضمن خطط سياستهم التي تقضي في بعض توجُّهاتها أن تكون للأمير عبدالله القدرة على التخلُّص من السورييِّن (وهم رجال الثورة العربيّة الذين خرجوا من دمشق بعد الاحتلال الفرنسيّ لسورية، والذين ناصروا الشّريف حسين في ثورته عام 1916على العثمانييِّن وكانت بريطانيا تسعى للتخلّص منهم ومن تأثيرهم في إمارة عبدالله الذي وجد نفسه في موقع القبول الاضطراريِّ بالشّروط البريطانيّة) وهذا ما جعله (أي عبدالله) يتحرَّك بالسُّرعة اللّازمة للافتراق عن رشيد طليع وإقالته (14). أضف إلى ذلك الشُّبهة اللّاحقة برشيد طليع وجماعته من الاستقلاليييِّن بأنَّهم من اتّخذ القرار بتنفيذ عمليَّة محاولة اغتيال غورو الذي “اتُّخِذَ في مجلس الوزراء” وأنّه بعد مناقشات طويلة ومطوّلة تحَمّل أحمد مريود مَسْؤوليَّة التَّخطيط والتَّنفيذ، وهناك من ينقل أنّ فكرة اغتيال غورو كانت سِرِّيَّة بين رشيد طليع رئيس الوزراء وأحمد مريود وزير العشائر (في إمارة الأردن)…
ولمّا لم تنجح المطالبات الفرنسيَّة والبريطانيَّة في تسلُّم المطلوبين من حكومة الأردن التي يرأسها رشيد طليع طلب هربرت صموئيل المندوب السامي (الصهيوني) البريطاني في فلسطين من (أبرامسون) المعتمد البريطاني في الأردن في 2 آب 1921، أن يُبلغ الأمير عبد الله “أنّ المستر تشرشل (وزير المستعمرات) أُحيط عِلمًا بأنّ الحكومة الأردنيّة أخفقت في اعتقال أيِّ شخص من المطلوبين، وأنّه يُصِرّ على استقالة رشيد طليع رئيس المشاورين (أي: الوزراء) وأنّ هناك بيّنات قويّة تدلّ على أنّ رشيد طليع يحوك المؤامرات مع الدُّروز ضدّ الفرنسييِّن” (15). كان البريطانيّون قلقين من طموحات رشيد طليع كونه “قادراً جداً وطموحاً جداً” (16).
وفي جوهر الأمر فإنّ رشيد طليع رئيس لجماعة حزب الاستقلال، وهؤلاء هم العروبيون الذين ثاروا على الدّولة العثمانيّة من أجل دولة عربيّة وهو كرئيس وزراء لحكومة عربيَّة في الأردن تتاخم فلسطين من الشّرق وسورية من الجنوب؛ لم يكن شخصًا مُريحاً للبريطانييِّن الذين يهيِّئون لتسليم فلسطين للصَّهاينة، ولم يكن مُريحاً للفرنسييِّن الذين احتلّوا سورية وأسقطوا الحكم العربي فيها. وفوق هذا فإنَّ لِرَشيد طليع صلات وطيدة بسلطان باشا الأطرش وفريقه من العروبييِّن في جبل الدّروز أولئك الذين لم يكن خافيًا أنّهم يحضّرون للثّورة على الفرنسييِّن.

لقاء بين رشيد طليع
وسلطان باشا في الأردن
لجأ سلطان باشا الأطرش إلى الأردن على أثر ثورته الأولى على الفرنسييِّن مع عدد محدود من رفاقه في 23 تموز عام 1922 لإعدامهم ضيفه “أدهم خنجر”، ولقتله الضابط الفرنسي “بوكسان” وثلاثة من مرافقيه، وهناك رصد الفرنسيُّون اجتماعًا له برشيد طليع والأمير عادل أرسلان. لكنّ سياسة الأردنّ كانت تسير على غير ما يهوى الاستقلاليّون الذين لم يزالوا على خُطى الثّورة الاستقلاليّة العربيّة، إذ كانت فرنسا وبريطانيا تُثَبِّتان حضورهما في المشرق العربيّ، ولمّا اضطُرَّ الأمير عبدالله (بناء على لوم من بريطانيا له بسبب وجود سلطان في الأردن) أن يطلب من فريدريك بيك قائد القوة البريطانيّة المرابطة في عمَّان (الموجودة بدعوى حماية الأمير) إخراج سلطان من الأردنّ بالقوّة؛ فإنّ طلبه ذاك أحبطه كلٌّ من رشيد طليع والأمير عادل أرسلان وأحمد مريود، وحديثة الخريشة ومثقال الفايز وطراد بن زبن (والثلاثة الأخيرون هم من شيوخ قبيلة بني صخر الوازنة في الأردنّ) وصبحي العمري وصبحي الخضرا وحسيب ذبيان وسعيد عمّون (17). يقول سلطان: “وصلنا إلى ديار بني حسن وخيّمنا في خربة “رِحاب” حيث مكثنا عَشَرةَ أشهرٍ كنّا خلالها موضع احترام العشائر المجاورة وحفاوتهم.. ولم يَفُتْنا أنْ نُعلِم الحكومة الأردنيّة بنزولنا في أرضها وقد كتبنا لها رسالة بهذا الخصوص ونقلها أخي علي إلى عمّان وعاد يحمل إلينا جواباً يتضمّن الموافقة والتَّرحيب غير أنّ السّلطة الإنكليزيّة لم تكن راضية عن ذلك، فحاولت إخراجنا وتسليمنا إلى الفرنسييِّن لو لم يعمل الأمير عادل أرسلان على إحباط مساعيها بالتَّعاون مع رشيد طليع وحديثة الخريشا ومثقال الفايز وطراد بن زبن وغيرهم من رؤساء العشائر العربيَّة في الأردن والتي كانت تربطنا بهم الصداقة منذ أيام الثورة العربيّة الكُبرى وفي تلك الأثناء ازدادت أواصر الصّداقة بيني وبين الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع فكنت أجد فيهما كلّ مزايا الصِّدق في القول والإخلاص في العمل والاندفاع في خدمة القضايا العربيَّة (18)، وشهادة سلطان هذه تؤكِّد أنَّ التَّنسيق بين رشيد وسلطان قائم على الهدف الاستقلاليّ العروبي”.

التَّضييق البَريطانيّ على رشيد طليع
بعد استقالته من رئاسة حكومة الإمارة، كانت إقامة رشيد طليع تترجّح بين عمان ومُدن فلسطين، ولم يتلقّ عرضاً لعمل ما، نتيجة حظر شامل فرضه البريطانيُّون على وجوده في الحكم (19)، بل كان حاكم القدس (البريطاني) يعيّن له المكان الذي يسمح له الإقامة صيفًا فيه (20)، بحيث كان تحديد المكان يبدو إبعاداً وَنفيًا إلى أماكن كانت تضايق رشيد طليع ولا تتَّسع له في خُلُق أو صِحّة أو سياسة.
هكذا كان رشيد طليع بشخصيّته الوطنيّة العروبّية يثير رَيْبَ الإنكليز والفرنسيين معًا، وعلى هذا فَهُم قد حَمّلوه تَبِعَة أحداث وقلاقل جَرَت في الشّوف عام 1921 (21).

البَريطانيّون يطلبون مغادرته فلسطين
لم تطُلْ إقامة رشيد في فلسطين، إذ أوردت صحيفة المُقَطّم “أنّ حكومة فلسطين أنذرته بمغادرة البلاد والسفر خلال أسبوع إلى مصر .. والسَّبب؛ رغبة الحكومة الفلسطينيَّة المُسَيَّرة بالسياسة البريطانيّة في استرضاء السّلطة الفرنسيَّة التي لا تنظر بارتياح إلى إقامة السورييِّن في فلسطين” (22).
لكنّ رشيدًا بقي في فلسطين بعد أن رفع “على الحكومة قضيّة أمام محكمة العدل العليا لمخالفتها في أمر إبعاده مبادئ الحقوق الأوّليَّة، “فاتفقت معه على أن يقطن غزَّةَ حيث احتفى الغزيّون بعطوفته مُرَحِّبين بالسياسيّ العربيّ النَّابغة” (23). خلال تلك الفترة لم يكن رشيد منقطعًا عمَّا يدور في سورية وهو المحكوم بالإعدام من قبل الفرنسييِّن بدعوى التَّفاهم مع العدو الذي يقصدون به (الملك فيصل والحكومة العربيّة في سورية قبل احتلال غورو دمشق!).

الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.
الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.

رشيد طليع: مُساهم ومُؤَسِّس
في التَّحضير للثّورة السّوريّة الكُبرى
مرَّ معنا أنّ رشيد طليع أقام شهورًا في الجبل في بيت المجاهد علي عبيد في السويداء على أثر احتلال الفرنسيين دمشق بهدف التّأسيس مع قادة الرأي الحرّ فيه للتحضير المستقبلي لمقاومة الفرنسيين وبقي مدة أربعة أشهر يتنقَّل من قرية إلى أخرى ويجتمع بالناس وينشر أفكاره الوطنيّة .. ويدعوهم إلى عدم تصديق الفرنسيين ووعودهم ويحضهم على الإعداد وعلى التمهيد للقيام بالثّورة وطرد المستعمر وتحرير البلاد فوافقه كثير من الوطنيين، وأقسموا على يده يمين الإخلاص للوطن ومنهم سلطان الأطرش.. (24). ولكنّه بسبب نشاطه هذا الذي ضاق الفرنسيون به اضطُرَّ للّجوء إلى شرق الأردن والتَّعاون مع عبدالله على أساس دعوته لتحرير سورية تاركًا خميرة تنضج مع تطور الأحداث وتؤسِّس للثّورة السوريّة الكبرى التي بادر فيها مجتمع جبل الدروز.
وفيما بعد جاءت مظالم كاربييه لتحلّ على مجتمع الجبل الذي كانت كبرياؤه حينها لم تتعوّد الانحناء أمام إدارة الدّولة الأمنية القمعيّة التي أدارها بشكل فظ، إذ إنَّ العشرين شهراً من حكمه التَّعسّفي “عرفت فرض العمل القسريّ على نطاق لم يُعرَف من قبل، وباتت الضّرائب وللمرة الأولى في تاريخ الجبل تُجبى بكاملها، كذلك فُرِضت رقابة صارمة على تنقّلات الأفراد بين القرى وشاع استخدام معلّمي المدارس كمُخبرين، وكانت العقوبات حتى بالنّسبة للإساءات التافهة تعسّفية وخاضعة للنّزوات. وقد تعرّضت الكبرياء الدرزيّة الحسَّاسة للإهانات مراراً (25).
في تلك الفترة ظلَّ الجناح المعارض لفرنسا بقيادة سلطان في الجبل مخلصًا للقضيّة العربيّة وعلى مواقفه السابقة منها، وقد استمرَّ على علاقته بالوطنييِّن السورييِّن في دمشق وحلب وعمّان (26)، ولم يكن رشيد بحسب موقعه الوطني بصفته رجلًا من رجال حزب الاستقلال الذي كان في صُلب المواجهة مع الفرنسييِّن بعيدًا عن تلك الأجواء حتى وهو في القاهرة التي كانت حينها “مدير دفّة الحركات الوطنيَّة منذ ما قبل الحرب العالميَّة الأولى” (27).
كان رشيد طليع (واستنادًا لنشاطه السابق وتَتَبُّعُه لمسار تطوّر الأحداث) يتوقّع الثَّورة في الجبل، ويتخوّف من نشوبها قبل أوانها؛ إذ ينقل أسعد داغر عن موقفه من أجواء الجبل في العشيّة البعيدة للثَّورة السوريّة الكبرى (أي في أواخر عام 1924)، قوله: “وعلى كلّ حال لا أعتقد أنّ الثورات تكون دائمًا نتيجة استعداد وتنظيم، بل هي على الأكثر انفجارات تنشأ عن شدّة الضَّغط وأنا أخشى أن يقع هذا الانفجار قبل الأوان” (28).
وبالعودة إلى دور رشيد طليع في الإعداد للثّورة السوريّة الكبرى، فإنَّ الموقف الأكثر وضوحاً يأتي كذلك من مرويّات أسعد داغر إذ يكتب مُتَذكّرًا بعد سماعه عن تفجّر الثّورة في جبل العرب:
“وقد خُيِّل إليَّ لأوّل وهلة أنّي فوجئت بإعلان هذه الثَّورة مفاجأة ولكني لما راجعت ذاكرتي أدركت حقائق كثيرة شهدتها ولم أفطن لها حال وقوعها وفي مُقدَّمة هذه الحوادث أنِّي ذهبت مرّةً إلى الإسكندريّة لمقابلة رشيد طليع في موضوع خاص وذلك قبل نشوب الثَّورة السوريّة في جبل الدّروز بستّة أشهر أو أكثر، فرأيته شديد الانهماك برسائل تلقَّاها من الجبل ولمّا سألته عن السبب قال لي إنَّ الحالة أصبحت لا تُطاق في سورية وإنَّ بعض زعماء الدّروز عازمون على القيام بوجه السُّلطة وأنّهم يسألونه رأيه في الموضوع فقلت: وما هو رأيكم في ذلك؟”.
قال: “إنّ البلاد على استعداد الآن للقيام بعمل واسع النّطاق وإنّه يسعى لتنظيم هذا العمل من مدّة ولكن مساعيه لم تُكلَّل بالنَّجاح المطلوب حتّى الآن..” (29).
عند نشوب الثّورة في تموز 1925 انتقل رشيد إلى القدس، إذ كان على اتصال وثيق ببعض زعماء الجبل فالمكاتبات “بين طليع وسلطان كانت مُطَّردة لا تنقطع وهي جدّ خاصة مكتومة لا يطّلع عليها أحد وكلّ موضوعاتها تتعلّق باستيقاد نار الثّورة عندما تسنح الفرصة لها” (30).

رشيد طليع وإسناد الثورة عبر فلسطين
لم يكن رشيد ببعيد عن تطوّرات الثّورة السوريّة منذ أيام التأسيس عام 1920 إذ إن اعتصامه في الجبل إلى جانب قيادات الحركة العربيّة كان إصرارًا للهيئة (أي: حزب الاستقلال العربي)على مقاومة الاحتلال وتطبيقًا لما كان عليه الاتّفاق من “الإقامة في حوران أو شرق الأردنّ وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة” (31). ومن هنا فقد شكّلت إقامة رشيد طليع في القدس عند إعلان الثّورة السوريّة ذراعًا داعمًا لتلك الثّورة، وإسنادًا لها من خارج الجبل من نواح ماليّة وسياسيّة وعسكريّة؛ لكون الرّجل يمتلك علاقات سياسيّة وشخصيّة واسعة ندر أن امتلكها غيره تعود لسعة أفقه الشّخصيّ وأصالته العروبيّة وانتمائه إلى “العربيّة الفتاة” عشيّة العهد العثمانيّ، وإلى “حزب الاستقلال العربيّ” أيّام الحكومة العربيّة في دمشق ولاحقًا بعدها، وموقعه في طليعة القيادة منها، وكذلك من تَبَوُّئِه مواقع إداريّة مُتصرّفًا ووالياً في مناطق واسعة من سورية أيام العثمانييِّن، ومن تسلُّمه وزارة الداخليّة في حكومة دمشق العربيّة، وفيما بعد من فترة تولّيه رئاسة الوزارة الأردنيّة الأولى في تاريخ شرق الأردن، واغتنت من تنقُّله بعد استقالته من رئاسة الحكومة الأردنيّة في مدن فلسطين، وقد وصلت تلك العلاقات إلى المدى العربيّ الأوسع في إقامته الطّويلة نسبيًّا في مصر حتى عشيّة انطلاقة الثّورة السوريّة (32).
وعن دور رشيد طليع المؤسِّس في الثّورة السّوريّة الكبرى يقول حسن أمين البعيني: “إنّ اتّصالات سلطان مع خارج الجبل انحصرت برشيد طليع رئيس وزراء الأردن سابقاً وكان يطّلع أيضاً على المحادثات السِّرِّيّة التي تدور حول الأوضاع في سورية، وضرورة إشعال نار الثورة بين زعماء دمشقيين وزعماء من الجبل يقيمون في دمشق أو يؤمُّونها هم حمد ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش ويوسف العَيْسمي، إلاّ أنّ قرار الثّورة وتاريخ البدء بها لم يكونا مجال بحث بين سلطان وبين أحد بل كانا رهن تطوّر الأوضاع ورهن إرادته وحده” (33).
يقول أسعد داغر “إنّ رشيد طليع قام في القدس بأعمال جبابرة فإليه يرجع الفضل الأوّل في تأليف لجنة الإعانة التي استطاعت أن تكفل لجرحى الثوّار ونسائهم الأغذية والملابس والعقاقير، وفي تنظيم الثورة بواسطة الضبّاط الذين ساعدهم على الالتحاق بها كالمرحوم فؤاد سليم وغيره، وفي إرشاد زعمائها إلى خير الخطط التي يجب أن يسلكوها، والتوفيق بينهم وبين جيرانهم (يقصد الدّماشقة والحوارنة والبدو) الذين كانوا خصومًا لهم (نتيجة الدَّسِّ العثمانيّ القديم بين فئات المجتمع في بلاد الشام)، وتوسيع نطاق الحركات الثوريَّة شمالًا وغربًا حتى سيطر الثوّار على أكثر من نصف البلاد السوريّة (34).
وكلّ هذا دفع بالجنرال أندريا إلى أن يشير إلى خطورة قيادة الفريق المثلّث الرّؤوس: “الشهبندر والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع” وكان هؤلاء يجتمعون يوميًّا ولم تكن ثورة الجبل إلاّ جزءًا من مخطّطهم، وكانوا يطمحون لإشعال الثورة لتشمل كلّ سورية. ويشير عجاج نويهض إلى العلاقة الوُثقى بين رشيد طليع والحاج أمين الحسيني مُفتي فلسطين وقد استثمرها رشيد في دعم الثّورة الماليّ والعسكريّ. ففي الجانب العسكريّ كان مقرّ رشيد في القدس مركز إسناد للثّورة وامداد بالأسلحة والخرطوش الملائم للبنادق من صنع ألماني التي كانت بأيدي الثّوار (كان الثوّار بحكم خبرتهم الميدانيّة يفضّلون البندقيّة الألمانيّة الصُّنع) بالتّنسيق مع الأمير شكيب أرسلان ومركز إعلام ومعلومات عن الثّورة ومعاركها وامتداداتها، ومركز تجميع ومعسكر انطلاق للمقاتلين الملتحقين بالثّورة من خارج سورية، والمثال الأبرز في ذلك يأتينا من كتابة رشيد طليع للقائد المقاتل أحمد مريود الموجود في العراق “لينتقل إلى جبل العرب”(35).
وعلى هذا كان الفرنسيّون دائمي التّشكّي من أنّ المواصلات بين مصر وجبل الدّروز مستمرّة عن طريق فلسطين وشرق الأردن وأنّ الذخائر تهرّب إلى الجبل عن الطّريق نفسها ولم تتوقّف إمدادات الأسلحة تلك إلّا بعد اتفاق فرنسي بريطاني جاء فيه: “.. ونعتقد أنَّ الأراضي الأردنيّة لن تكون بعد اليوم طريقًا للأسلحة والذّخيرة التي يشتريها الدّروز على حسابهم” (36).
أمّا من حيث الدّعم الماليّ وبالإضافة إلى ما كان يأتي من بلاد العرب والعالم الإسلاميّ، فقد كان رشيد طليع مُحَرِّك حركة الجباية في المهاجر الأميركيّة (37). وإلى أهمِّيَّة الدّعم المالي للثّورة يشير سلامة عبيد إلى أنَّ المقاومة المسلّحة ظلّت مستمرّة تغذِّيها أموال الإعانات التي كانت تصل بواسطة رشيد طليع من المهاجر “كان دور الدّعم الماليّ للثَّورة الذي يشكّل رشيد طليع مُنَظّمَه ومحرِّكه الرَّئيس يمنحه هيبة يغار منها الجنرال أندريا قائد الحملة الفرنسيّة ضدّ الجبل (الذي كان رأس حربة الثّورة السورية الكبرى). يقول أندريا: “كانت المنطقة تستقبل سلطان الأطرش أحسن استقبال لاسيَّما بعد أن جعل لكلِّ رجل ينضمّ إلى الثَّورة معاشاً شهريًّا يعادل المعاش الذي نُعطيه لجنودنا .. تلك دعاية ماهرة اختبأت خلفها شخصية رشيد طليع ..الذي حمل إلى الجبل مبالغ ضخمة من المال مجموعة من اللِّجان الإسلاميّة ( يقصد لجان دعم الثورة السوريّة) في القاهرة والهند وأميركا تساوي خمسين ألف ليرة ذهباً وُزِّعَت على الجبل منذ عودتنا إليه (آذار 1926)” (38). وبناء على ما سلف يستنتج منذر “وإذا ما تجاوزنا قضايا القيادة والتَّجنيد التي كانت من مهمّات القيادات في الدّاخل فإنّ اليد الطّولى في قضايا التّسليح وتأمين الذّخيرة كانت لرشيد طليع أثناء وجوده في فلسطين والقدس وكذلك كان دوره في توزيع المؤن والرَّواتب للمقاتلين بعد التحاقه بالدّاخل السوري” (39).
كان رشيد يبحث عن أيِّ إسناد للثّورة حتى إنَّه تفاوض مع مُفَوّض شيوعيّ مُكَلّف من قبل السّوفييت في القدس، وكان الاتفاق قد تمّ بين الاثنين على المساعدة بتقديم السّلاح على الطّريقة التي عاملوا بها مصطفى كمال في حرب الأناضول (كان الشيوعيون قد دعموا أتاتورك في حربه التي شنَّها ضدّ مشروع الغرب لتقسيم تركيّا على أثر الحرب العامّة الأولى وهذا ساعد في الحفاظ على كيان تركيا الحاليّ)، لكنَّ المفوَّض الشّيوعي وضع شرطًا ينصُّ على تطبيق مبادئ الشّيوعية في الثَّورة، فقال له رشيد: “ولكنَّكم لم تشترطوا هذا الشرط على مصطفى كمال، ونحن ليس في مصلحتنا تطبيق هذا الشرط في جبل العرب أو في أي مكان من سورية، ووقف الاتّفاق بين رشيد طليع والبلاشفة عند هذا الحدّ رغم محاولات لاحقة بلا جدوى” (40).
وفي معرض الخلافات التي كانت تجري بين قادة حزب الشَّعب والاستقلال العربي حول:
1ــ الثّبات في ميادين القتال:2ــ الذَّمِّة الماليّة 3ــ الارتباط المشبوه أمام قوى الخارج؛ فإن رشيد طليع كان يوم تأزُّم الثّورة يقف في صفوف الصِّدام والمواجهة على الرّغم من انحراف صِحَّتِه واعتلال جسمِه وهو خارج الاتّهام بأيِّ واحدة من تلك الكبائر الثّلاث. (41).

رشيد طليع في معمعان القتال
ومع وصول رشيد إلى الجبل اتّخذ لنفسه اسمًا حركيًّا (المقداد) وهو أحد صحابة النبيّ الأشداء و”عاون سلطان ووقف إلى جانبه واصطلحت الأمور بين سلطان والأمير عادل، وكان رَأْبَ الصّدعِ بينهما من هموم رشيد طليع، وحتى قبل وصوله إلى الجبل كان رشيد يُبَرِّد علاقات الطّرفين، وكذلك كان الرَّجل نقطة توازن بين قيادات الثَّورة المُتَنازِعِيْنَ في الغوطة، (ومنهم) محمد سعيد العاص وفوزي القاوقجي ونسيب البكري ومصطفي وصفي السمان وكان الخلاف (يدور بينهم) على الزّعامة والمناصب وكلٌّ منهم يتصلّب برأيه” (42).
ولم يكن النّجاح في الوصول إلى “الاتّفاق التّام” لدى قيادات الغوطة بعد إدارة شؤون المخابرات (الاتّصالات لتضييق الخلاف) فيما بينهم شأنه في ذلك شأن إدارته التّعارضات في الجبل والنّجاح في موازنتها وضبطها ولم يكن بعيدًا البتَّةَ عن صفاء مواقف رشيد طليع كمدخل أوّل، وعن قدرته في اكتساب احترام الآخرين فيصبح جلاء مواقفه في نظر المُتعارضين معه وسيلة إلى لقاء أكبر والتقاءات دائمة (43).
وأمّا عند وصوله إلى الجبل فقد أخذ رشيد موقعه القياديّ والقتاليّ في صفوف المواجهة ضد قوّات الفرنسييِّن داخل الجبل الدُّرزيّ وخارجه “إلى غوطة دمشق وعلى امتداد المواجهة ما بين الجبلين الدرزييّن في سورية ولبنان(44) إذ تردّد أنَّه وصل إلى منطقة الشُّوف في جبل لبنان .

قائد ميداني في صفوف الثوّار
التحق رشيد بالثورة قائداً ميدانيًّا بعد احتلال الفرنسييِّن للسويداء في أواخر نيسان عام 1926، أي في المرحلة الأكثر إحراجاً لمجاهدي الجبل. فبالرغم من سوء حالته الصحيّة، ذهب إلى الجبل وعمل على تنظيم الثّورة “تنظيماً عسكريّأً مُحْكَماً وجعل للجنود مرتبات يتقاضَوْنَها وحاول أن يكسب للثّورة صفة دوليّة” (45).
ولم يقتصرنشاطه المَيْدانيّ “داخل الجبل الدّرزي وحسب، وإنَّما كان موقعه في الصفوف الأولى على امتداد المواجهة ما بين الجبل وغوطة دمشق… والجبلين الدّرزيين في سورية ولبنان”. فقد روت أنباء دمشق وغوطتها “أنّ عطوفة رشيد بك طليع قد زار ميدان الغوطة وتفقد معسكرات الثّوار فاحتفلوا به أشدّ حفاوة وقد عاد عطوفته إلى جبل الدُّروز”. كذلك روت أخبار الثورة أنّ “عطوفة رشيد بك طليع … قد وصل إلى منطقة الشوف في لبنان لتقوية معنويات الثوار في تلك النواحي ثم عاد بسلامة الله إلى مقرّه في جبل الدروز”، كذلك “أشاعوا أنَّ رشيد بك وشكيب وهاب قد وصلا إلى الشُّوف، أمّا الأول فترجّح عدم قدومه لأنّه موجود في جبل الدّروز” (46).

رشيد طليع محور أساسيّ
في المداولات مع دي جوفنيل
في عام 1926 وفي الوقت الذي كان فيه رشيد طليع قائداً ميدانيَّاً في معارك الجبل، وفي مرحلة حرجة من المعارك بعد سقوط صلخد بيد الفرنسييِّن، تعذّر عليه وعلى سلطان باشا المجيء إلى الأزرق لمقابلة الملك فيصل الذَّاهب إلى أوروبا لتحميله المطالب السُّوريَّة إلى عصبة الأمم استنادًا لميثاق وطني وضعه عدد من القادة السورييِّن، ولكنَّ كلّ ذلك لم يمنعه مداولة الأمر مع الأمير شكيب أرسلان بضرورة السعي لتحسين شروط المفاوضات مع فرنسا وعدم القبول معها بمعاهدة بمستوى المعاهدة البريطانية العراقية لعام 1922 تلك التي “لا تمنح العراق استقلالًا ولا شبه استقلال..”. وهذا يدلُّنا على حصافة الرَّجل الذي يجمع بين أصالة الرَّأي وشجاعة القائد المَيْدانيّ في ساح القتال. وهكذا كان رشيد طليع مع عادل أرسلان في الجبل محوراً أساسيّاً في المداولات مع المندوب السامي دي جوفنيل ومع القادة الوطنيين في اللَّجنة الوطنية للمؤتمر السوري الفلسطيني أوعبر غيرهم من القادة الوطنيين الموجودين في دمشق (47).
ويبدو أنَّ سلطان الذي كان يَمْحَضُ رشيد طليع ثقته “إذ كانت له الكلمة المسموعة في جبل الدّروز خصوصًا عند سلطان باشا الأطرش الذي كان قد أوكل إليه أمر المفاوضات بالإضافة إلى الأمير عادل أرسلان ومن يليهم من الزُّعماء السورييِّن الآخرين. كان رشيد يحمل وثائق تخوِّله عقد الاتفاق النِّهائي بخصوص الثَّورة التي كانت قائمة ” كما يلاحظ نجيب الأرمنازي مندوب المؤتمر السوري ــ الفلسطيني لمباحثة الثّورة السوريّة في مهمة المفوّض السامي الفرنسي” (48).

رشيد طليع قائد مقاتل على نهج الثّورة العربيّة
هذا الثائر المتحدِّر من صفوف الثوّار الاستقلالييِّن العرب في الثّورة العربيّة، وهو الذي قد خَيَّبَت مؤمرات الإنكليز والفرنسييِّن آماله في تحقّق حلم الدّولة العربيّة؛ وجد في النَّصر الذي حقَّقه ثوّار الجبل بارقة أمل لاستعادة الحلم المفقود، حلم الاستقلالِ العربيّ، فبعد إقامته التَّحضيريّة في فلسطين لإمداد الثوّار بالمال والسِّلاح، وبالتّعاون مع الحاج أمين الحسينيّ رئيس اللجنة المركزيّة لإعانة منكوبيّ سورية (من مؤسسيّ تلك اللّجنة الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وشكري القوَّتْلي ونبيه العظمة وآخرون) انتقل مسرعاً من القدس عبر الأردنّ، فقد أثارت حَمِيّته هزيمة الفرنسييِّن في الجبل بعد نصر الثوَّار المؤزّر في معركتي الكفر والمزرعة؛ فحضر إلى السّويداء. كانت النفوس منتعشة حينها، و “زاد في انتعاشها قدوم رشيد طليع ببعض الإعانات التي بدأت تَرِدُ من المهجر بطريق فلسطين (49).
التحق رشيد بالثّورة جناحًا ميدانيًا عسكريًّا بعد سقوط السويداء بيد الفرنسييِّن في 25 نيسان 1926، وبعد أن كان الفرنسيّون في حالة انحسار قبلها في سائر جنوب البلاد السوريّة، ، كانت معركة السويداء من أكبر المعارك التي عرفها الجبل إنْ من حيث عديد القوى المُتَحاربة فيها، أو من حيث الخسائر البشريّة من الجانبين. كان الفرنسيّون يسعَوْن إلى العَودة إلى الجبل والتّمَركز فيه وقد نجحوا باحتلال السّويداء، وعلى هذا فقد كانت الثَّورة في حالة حَرِجة، خاصة أنّ بدو اللَّجاة كانوا يتعاونون مع الجيش الفرنسيِّ، ومن جهه ثانية كان الفرنسيّون قد عملوا على تجنيد فرقة درزيّة مُساعِدة لهم من الدّروز الذين يئسوا من النَّصر؛ أو أولئك الذين انقطعت موارد عيشهم وأصابتهم غائلة الفقر. وقد أخذ الفرنسيّون يدفعون لكل فارس درزيٍّ ينضمُّ لهم بسلاحه سبع ليرات ذهبية لمعيشته وإطعام جواده، وكان لهذا أثره السّلبيّ على قوى المجاهدين، وفي مواجهة هذا الوضع الحَرِج جاء في رسالة من رشيد طليع إلى الأمير شكيب بتاريخ 8 حزيران 1926 يقول فيها: “نحن نسعى الآن لتقوية المعنويّات وإعادتها كما كانت، وبدأنا في تشكيل جُنْد من الدُّروز بالمعاش، وقد قرَّرنا استخدام ألف رجل، ومايتين خيَّال ليكونوا مرابطين دائماً حول الجيش الفرنسيِّ أينما كان، وقد باشرنا بهذا القيد حين وصولي إلى الجبل، ولم يتم التَّشكيل بعد، وقد خصَّصنا للرّاجل ثلاث ليرات فرنسيَّة وللفارس أربعاً على أنْ يُعطى للمجنّدين نصف معاشهم سَلفًا”، وكان هذا تنظيماً قتاليًّا جديداً لم تعرف مثله الثّورات العربيّة من قبل!.

نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف
نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف

فِرْيَة الاستعمار: ” أجنبي اسمه رشيد طليع!”
بل هو قائد وطنيّ
كانت الثّورة السورية الكبرى قد دخلت في حالة تراجع بعد سقوط السويداء في 25 نيسان 1926، وصلخد في 4 حزيران 1926 بيد قوات الجنرال أندريا، ولكن تحرُّكات رشيد طليع في الجبل كانت تشكِّل حالة من النّهوض في تلك الفترة، وخاصة في المقرن القبلي من الجبل، حيث وصل رشيد طليع وأخذ يستنهض همم الدروز للمجاهدة فاجتمع عنده عدد كبير (50).
في واقع الحال لم يكن رشيد طليع أجنبيًّا عن سورية، فقد كانت له علاقات مواطنة سوريّة فعلية قديمة منذ العهد العثماني من خلال عمله الوظيفيّ فيها كما مَرَّ معنا، وتوطّدت أكثر فيما بعد في العهد الفَيصلي، فهو وزير الدّاخلية في حكومة دمشق العربيّة عام 1920، ووالي حلب بعدها، وعلى هذا فهو سوريٌّ أصيل من الوجهة القانونيَّة، والاجتماعيّة، ويرتبط مع دروز الجبل كونه درزيًّا بعلاقات قُربى وعلاقات شخصيَّة حميمة كما هو الحال في سائر العلاقات الدرزيَّة بين الجبلين. يقول أندريا متبرِّمًا من نشاط رشيد طليع: “توالت الأخبار من الجنوب والشرق. إنّ هذا الأجنبيّ يملك بيده اليوم مشايخ الدُّروز القَيِّمين على الثَّورة. لكن راح رشيد طليع ينتقل في الجبل .. وقد أشاع أن الأرض لم تُزرع وأنَّ البؤس سيصيب الذين يستسلمون لأنّ الحكومة الفرنسيّة لايمكنها تأمين المؤونة للدّروز فهي قبل كل شيء تسعى لتأمين الغذاء لجيشها..” (51)
كان رشيد حاضرًا كقائد مقاتل وكسياسي يوجه الرّجال لإرادة القتال في معارك الثّورة عام 1926 في وادي اللِّوى واللّجاة ومعارك المقرن الشّرقي من الجبل فهو ينتقل حيث تطلَّبت الظروف من موقع لآخر لِشَدِّ عزائم الرّجال، “في ذلك الوقت اجتمع رشيد طليع في صلخد بزعماء الثّورة ورتّبوا صندوق الإعانة وأمينًا له.. ثم ركب إلى…(عدة قرى)، فعاهرة (عريقة اليوم)، فأشعل الثَّورة هناك..” (52). وإلى المقرن الشّمالي والغربيّ لاستنهاض هِمَم الرّجال للقتال.. كان رشيد قائدًا حَدُوبًا على الثّورة التي يرى فيها أمل الاستقلالييِّن العرب الأخير بعد أن ضاعت منهم إمارة الشّرق العربيّ، واضطرّ عبدالله أميرها إلى التخلّي عنهم. أمّا في فلسطين، فإنَّ بريطانيا كانت ترتب ما ترتبه لتسليم البلاد لليهود، وما من بارقة أمل تلوح للاستقلالييِّن العرب سوى في سورية. وفي ظروف المواجهات، وعندما كان الفرنسيُّون يسيطرون في منطقة ما، فإنّه عندما تنسحب جيوشهم منها يعود الأهالي للثّورة، مُعتمدين على قواهم الذاتيَّة ومعونات تأتي من مُغْتَربي أميركا وغيرها عبره.. واستناداً إلى مذكرات علي سيف الدين القنطار فإنَّه بعد احتلال صلخد، “أرسل رشيد طليع تحارير يستحثُّ أهالي المَقْرَنَيْن الشّمالي والغربي للمعاونة، كانت الحملة الفرنسيّة قد وصلت إلى مَلَح (أقصى جنوب شرق الجبل)… بقيت الحملة في مَلَح ثلاثة أيام، وُجِّهت في أثنائها فرقة إلى خازمة (قرية صغيرة قرب ملح) فهاجمها الثوَّار مهاجمة المُسْتَقْتِلين دفاعاً عن عائلاتهم، وفي اليوم التالي رجعت إلى صلخد فاحتلَّت عرمان في طريقها…
وفي ذلك الوقت قَدِمَ وفد سوري من أميركا يحملُ مالًا للإعانة، فطلب رشيد بك طليع لمقابلته فتوجّه إليه..”.
ويكتب علي سيف الدّين القنطارأيضًا “كانت جبهة المقرن الشمالي قد تحرَّكت، ففي ريمة اللُّحف هاجم الثوّار الحملة مهاجمة لم نسمع بمثلها وبَقَوْا معها في الحرب حتى خيّمت قبل الغروب في رِيمة، واجتمع الثُّوّار في (قرية) جْدَيَّا فسلَّمهم رشيد طليع دراهم لأجل مُشْتراة الذّخيرة واستحثّهم على مُداومة القتال.. ولما ابتعدت الحملة عن جبهة اللَّجاة عاد معظم سكان هذه النّاحية للعصيان وحضر رشيد طليع وبدأ ببث روح الثّورة هناك، ويحرّض الأهلين على القيام بالمعاش المضمون واليقين الطّوعي، فعاد معه كثير من أهالي تلك النَّاحية الفقيرة للحرب، وجعلوا مقرَّهم شماليَّ (قرية) صمَيْد وغربيَّها. وهكذا كان رشيد طليع في الجبل قائدًا ومحرّضًا و “داعيةً مموِّلاً، أي إنَّه كان في الدّائرة العسكريّة الضيّقة (العُليا) للثَّورة وفي قطاع التّخطيط منها أوفي قطاع القيادة العسكريّة المباشرة” (53).
ففي دائرة التَّخطيط كان له دور فاعل وحاسم غالبًا في القرارات التي تتَّجه إليها قيادة الثّورة ومنها مثلًا:
1- اجتماع سالة بتارخ 17 أيار 1926، وحضره الشَّيخ أحمد
الهجري (شيخ العقل) وعبد الغفار باشا الأطرش وأبو نايف علي عبيد وأبو علي هاني (الحنَّاوي، شيخ عقل) والأمير عادل أرسلان وسليمان بك نصّار وغيرهم وقد تقرَّر تجهيز فرق مقاتلة برواتب شهريَّة من التّبرُّعات الواردة على صندوق الثّورة.
2- اجتماع الهويّا بتاريخ 12/6/1926، يذكر أندريا أنّ “سقوط
صلخد استدعى اجتماع قيادات الثّورة السوريّة من الدّمشقييِّن والدّروز وفي ذلك الاجتماع اقترح بعض الزّعماء استسلامًا عامًّا لكنّ رشيد طليع نجح في إعادة أكثرية المجتمعين إلى الأخذ بفكرة متابعة القتال” (54). ومن المؤكد أنَّ سلطان باشا كان يجد في مواقف رشيد طليع الجذريّة في مسألة استمرار الثورة سندًا لموقفه المماثل هو أيضًا.
3- اجتماع بوسان، كان الفرنسيّون يتجسّسون على الثّوّار وعلى
نشاط رشيد طليع، يقول أندريا (ص258): “وصل رسول (أي: جاسوس) من المقرن الشّماليّ يفيد بما يلي: حضرت اجتماعًا جرى في بوسان في 27/ حزيران 1926 برئاسة سلطان ورشيد طليع وأحمد الهجري وقد قيل فيه إنَّ عددًا كبيرًا من الجنود الفرنسييِّن ذهب إلى دمشق ممّا يسهّل عملية الهجوم على الحامية التي باتت ضعيفة. عارض سلطان الفكرة لأنَّ العاصمة مليئة بالأطفال والنّساء لكنّه اقترح استعادة مدينة صلخد عندما يبتعد الجيش الفرنسيّ عنها كما جرى في المرَّة السّابقة (عندما توجّهت الحملة نحو الحدود الأردنيّة) فاستُحْسِن رأيُه استحسانًا كبيرًا”.
وحسب رواية الجاسوس، فإنّ رشيد طليع قال في ذلك الاجتماع: “لن تتوقَّف الثَّورة حتى لو لم يبقَ درزيٌّ واحدٌ واقفًا على قدميه، ولن نسلّم السِّلاح حتى توافق فرنسا على مطاليب الثوّار وأهمّها العفو العام شرط أن تضمنه الولايات المتحدة الأميركيَّة..”، (كانت الولايات المتحدة في ذلك الزَّمن تبدو مسالمة بخلاف ما هي عليه الآن).
4- مؤتمر شَقّا ــ مَفْعَلَة: تمثّل هذا المؤتمر باجتماعين مُنفصلين
في 15 تموز 1926 وفي 29 منه ويعتبر هذا المؤتمرُ هو الأخير في مؤتمرات الثّورة السوريّة الكبرى، وقد مَثّلت مُقَرَّراته حالة القلق على مصير الثَّورة التي تأثِّرت من حالات “استسلام العديد من الزُّعماء والمقاتلين، ومرحلة تجنيدٍ لِمُتَطَوّعين من الدّروز في القوّات الفرنسيَّة ومرحلة الانقسام بين مُتَّحَدات الثَّورة ما بين جبليّة وجبليَّة وما بين جبليّة ودمشقيّة وما بين حزب الاستقلال وحزب الشّعب “غير أنَّ بصمات رشيد طليع تبدو واضحة في مقرَّرات هذا المؤتمر في وجوب المثابرة على الجهاد وفي ضرورة تجميع الجُند وفي قرارات حول التّموين ومنع التّعدّيات وحول إنشاء مجلس وطنيّ وحكومة وطنيَّة” (55).
كانت مقرَّرات مؤتمر شَقَّا تُعَبّر عن حالة تعبئة عامة إذ “اتّخذ المؤتمر الوطنيّ المُنعقد في شقّا قرارًا بوجوب وضع قوائم برجال كلّ قرية بدون استثناء ما خلا العاجز والولد، والعمل على سَوْق ربع العدد إلى جبهة القتال بصورة دائمة وبقاء الآخرين لتسيير الأمور وتولِّي مشايخ العقل إبلاغ القرار إلى القرى” (56).

المجاهد السياسي والقائد في أيامه الأخيرة
كان رشيد قد التقى في اللجاة (المقرن الشمالي) بالأمير عادل أرسلان العائد من الإقليم وبصحبته كنج أبوصالح وشكيب وهّاب ونايف مرعي ونحو ثمانين مقاتلاً لبنانييِّن وإقليمييِّن (إقليم جبل الشيخ)، في أواخر آب 1926، فقابله رشيد طليع وعموم الثوّار مقابلة عظيمة، كانت الطيارات تحوم فوق المنازل وألقت قنابلها على ذلك الحشد لكنَّ القنابل سقطت بعيدة عن الثوَّار ولم يُصَبْ أحد ..
يقول علي عبيد في مخطوطة مذكّراته ص27 والخلاصة أنّ العسكر رجع عن وادي اللّوى (على حافة شرق اللّجاة) بصفة الخاسر تاركاً أكثر من ألف قتيل بهذه المواقع الدامية..”.
كانت الثَّورة في اللَّجاة تواجه حصارًا من بدو اللَّجاة والفرنسييِّن كما أسلفنا، فانتقل الثوّار بحالة تراجع إلى رامة (رامي، قرية في المقرن الشرقي وتبعد عن اللّجاة نحو ستِّين كيلو مترًا) وباتوا هناك، وفي تلك الدّيار جرت سلسلة من المواجهات مع القوَّات الفرنسيَّة، دامت إحداها “ستَّ ساعات متوالية لايُسْمَع فيها إلاّ هدير الطوائر ورعيد المدافع ولعلعة الرّصاص وما قابلت الشمس وجه الزَّوال حتى ولّت الحملة واعتصمت بوادي الرّشيدة ثم توجهت وجهة شقف (بل الصّواب: قرية شعف)، كانت تحرّكات الثّوّار تراجعيَّة مترافقة بقتال مع تحقيق بعض الانتصارات المحلّية كما في موقعة قيصما في الرُّكن الجنوبي الشّرقي من الجبل. وبشأن تلك الاشتباكات مع الثوّار في القسم الشّرقي من المقرن القبلي يقول أندريا: “المعلومات الواردة من المقرن القبلي كانت لا تبشِّر بالخير فقد حطّت طائرة لسبب مجهول (يُنْكر أندريا أنّها طائرة حربيّة) على نجد “طَرْبا” فقبض الأهالي على ركّابها (يعترف بأنَّهما طيّاران حربيَّان في ص 304)، وأعدموهم” (57).
كما يتحدث أندريا عن معركة أخرى في المقرن القبلي “صادفت فيها فرقة فرنسيَّة عصابة مؤلَّفة من ثلاثمائة ثائر فاشتبكت معها في معركة خسرتها بسرعة لقلَّة عددها وعادت إلينا ساحبة عددًا كبيرًا من الجرحى” ويُعَقّب: “توالت الأخبار من الجنوب والشَّرق على أنَّ دعاية قويَّة ينشرها أجنبي اسمه رشيد طليع أتى من الأردنّ حاملاً معه كميّات ضخمة من المال.. (58)، وفي ص 278 يتساءل أندريا “لماذا لم يتوقف القتال؟”، وذلك بعد أن نجح الفرنسيُّون في السَّيطرة العسكريَّة على الجبل واستسلم كثير من الثوّار بعد منحهم الأمان إفراديًّا دون الإقرار بالحقوق الوطنيّة التي تدعو إليها الثورة واضطُرَّ الثوَّار الذين يقودهم سلطان إلى اللّجوء للأراضي الأردنيّة فإنَّ أندريا يحمّل في كتابه (ثورة الدّروز وإضراب دمشق، ص280)، مسؤولية تجدّد مظاهر الثّورة وعدم توقف القتال كليًّا للدعم بالمال والتسليح من جانب اللجنة السوريّة الفلسطينية الآتي من فلسطين إلى سلطان وأقاربه، وإلى رشيد طليع الذي لا يكفُّ عن فضح الدَّور الفرنسي بقوله للدّروز “إن الفرنسيين يخدعونكم إذ ليس لهم إلّا هدف واحد وهو تجريد البلاد من السّلاح والقضاء على حرّيتها…”.

وثائق سلطان باشا: رشيد طليع قائد
في ثورة سوريَّة استقلاليَّة
في موقعة الصُّوْخَر التي فُوجِئ فيها مجموعة من الثّوار كان يقودهم سلطان باشا بقوَّة فرنسيّة تحاصرهم تزيد عن المئتي مقاتل قُتل حصانه، وبقي سلطان يقود الثوار في ساحة المعركة مُصِرًّا على القتال، فما كان من ابن عَمِّه المجاهد صيَّاح الأطرش إلاّ أن تصدَّى له قائلاً: “أنت قائد الثورة، يجب أن تنسحب الآن، ونحن نحميك، إن أُسِرْت أو قُتلت فما مصير الثورة!” ولم ينتظر منه جواباً، بل ناوله مِقْوَدَ حصانه وألزمه امتطاءه لينسحب بعيداً عن رصاص المها جمين، وهكذا أُنجِيَ سلطان، وبقي صياح يقود المجاهدين بانسحاب تراجعي. يقول أندريا:” فرّ الثوار يعطون لخيولهم العنان تاركين في السّاحة أربعة قتلى وثلاثة جرحى بينهم ضابط جزائري هارب من خِدمتنا وسبعة جياد مَيْتَةً، بينها جواد سلطان الذي كان خرجه مَحْشُوًّا بمستندات مهمّة للغاية وهي:
1- رسائل من أميركة ( تفيد بتبرعات من المغتربين وليست من
حكومة الولايات لمتحدة (تشجّع الدّروز على المقاومة وتعلن وصول المال) وتدعو السّورييِّن للمقاومة حتى الموت.
2- رسالة من (محمد) عزّ الدّين الحلبي أحد قواد العصابات
يعلن فيها انخفاض معنويات أهالي المقرن الشمالي.
3- رسالة من لوزان بعث بها الأمير شكيب أرسلان يطلب من
سلطان فيها أن لا يثق بوعود الجنرال الحاكم ولا بأقوال المفوّض السامي، وجاء في قوله: “إذا انقلب الأسود يوماً أبيض استطاعت فرنسا أن تتنازل عن كبريائها”.
4- رسالة من نسيب البكري قائد عصابة دمشق يُذكِّرُ فيها سلطانَ
أنّه أقسم على أن يطرد العدوَّ المُسْتعمر.
5- رسالة من سلطان إلى رشيد طليع مستشار ملك الأردن
يطلب فيها المال ليدفع معاشات الثّوار (كان رشيد طليع قد ترك مستشاريّة عبدالله أمير الأردن منذ العام 1922، أي قبل تاريخ الموقعة بنحو خمس سنوات وإنَّما المساعدات التي كان رشيد طليع قَيّماً عليها هي تبرعات العالم العربي والإسلامي وتبرّعات المغتربين). يقول أندريا “هذه المستندات تؤكّد من جديد علاقة الثائرين بالأجانب المعادين للانتداب الفرنسيّ”.
إن تلك الرسائل تؤكّد من خلال استشهاد الضابط الجزائري المُنشق عن الجيش الفرنسيّ، ومراسلة الزّعيم السوري الدّمشقي نسيب البكري وتبرعات المغتربين العرب، ودور رشيد طليع التَّمويلي للثَّورة وكان حينها يقاتل في المقرن الشرقي من الجبل، وقبل وفاته بنحو شهر فقط تؤكّد أنّ الثورة سوريّة الهُوِّيَّة، وليست درزيَّة فقط، كما تُبرهن على الدَّور الهامّ الذي كان يقوم فيه رشيد طليع في تلك الثّورة كواحد من أبرز أركانها، إنْ كان في التَّخطيط منذ العام 1920، أو في التَّمويل من خلال علاقاته العربيّة والإسلاميّة ومع المغتربين العرب، أو في دوره الإداريِّ والقتاليِّ، وهو الذي توفِّي في ساحات القتال في قرية الشّْبِكِيْ من قُرى المقرن الشرقي من الجبل. ففي معركة شهبا وفي وقت سابق على الاشتباكات في المقرن الشرقي، كان رشيد طليع قد سارع إلى المقرن الشّمالي يطوف قراه ودساكره داعيًا الناس إلى المقاومة مبيِّنًا أضرار التَّخاذل والتَّواني، فأقبلوا عليه وانضمُّوا إليه وعاهدوه على الدِّفاع حتّى النَّفَس الأخير، ثم قدِم سلطان ومعه عدد من الشيوخ والزعماء لتنظيم حركة المقاومة في تلك المنطقة فأضرم مجيئه نار الحماسة في الصّدور..
يقول أندريا إنَّه في السابع من أيلول مرَّت قوَّاته في(قرى) “مْشَنَّف”، فـ “شْبِكِي” فـ “رامي”، وفي الثامن من أيلول وصلت الحملة إلى تلّ الشَّرِيْحِي حيث “العصابات (يقصد الثُّوار) تتجوَّل في المنطقة منذ أيَّام وفعلاً، ما كدنا نترك المحلَّة حتى فرقع الرَّصاص خلفنا.. وصلت الحملة “الشّبكي” (59) حيث نَصَبت مُخَيَّمها، وهناك أفادنا مُخْبِرٌ عن وجود ثلاث عصابات في المنطقة .. إحداها يقودها سلطان .. والثانية (محمّد) عزّ الدّين الحلبي.. والثالثة رشيد طليع..”. وهذه الشّهادة من عدوٍّ كأندريا تدلُّنا على أهميّة الموقع الذي كان يشغله المجاهد القائد رشيد طليع في قيادة الثّورة، وقبل وفاته ببضعة عشر يومًا فقط !. وفي مسيرة تلك الحملة الفرنسيّة التي كانت تلاحقها جماعات الثّوّار بلا هوادة يقول أندريا
“جَهَّزْتُ المؤخِّرَةَ بالمدفعيّة الثّقيلة لأنَّ التَّجارب في حرب الدّروز علَّمتنا أَنّهم لا يهاجمون المُقدَّمَة وإنَّما ينقضُّون بِعُنْف على المؤخِّرة والجناحين، ويتَحدَّث أندريا عن معركة جرت في قرية الرّشيدي استمرَّت بضعَ ساعات قادها سلطان بنفسه، واشترك فيها الأمير عادل ورشيد (طليع ) وزيد الأطرش وصيَّاح الحمود (الأطرش) وشكيب وهَّاب وتابعت الحملة المؤلَّفة من 4500 عسكري و 1200 جمل لحمل الماء والذَّخيرة و 50 سيارة و8 طائرات و7 مصفَّحات وانتهت بارتداد الحملة إلى السُّويداء..” (60). تابعت الحملة سيرها باتجاه الجنوب وهي من وجهة النّظر الفرنسية حملة تطهير ولكنّها لم تكن لتتوطّن طويلاً في منطقة تتحرّك فيها مجموعات من الثّوار بأسلحتهم الخفيفة التي لا تعيق من سرعة تحرّكهم كما هو الحال لدى الجيش المزوَّد بالآليّات والمدفعيّة الثّقيلة. يقول أندريا ص310 من كتابه: “موقف العصابات في معركة رشيدي أظهر تمامًا نواياها وخطّتها فهي بعد إدراكها الطّريق التي تسلكها الشاحنات والعربات. قرّرت (مجموعات الثوّار) فيما بينها مهاجمة الحملة في هذه النقطة على النّحو التالي: تهاجم المؤخّرة عصابة عزّ الدين الحلبي القادمة من الشّمال وتهاجم الميسرة عصابة سلطان الخارجة من غَوْر الصّفا، وتهاجم الميمنة عصابة رشيد طليع القادمة من الغرب. أمّا المقدمة فلم يكن لها شأن في الخطة..”.
رشيد طليع: الخبير في التكتيك الحربيّ
من خلال دراسة سيرة رشيد طليع؛ تتجلَّى لنا خبرته في التَّكتيك الحربيّ واضحة في توجيهه التَّالي الذي نَسْتَدِلُّ من سياقه أنَّه صدر عنه قبيل وصول حملة أندريا إلى الجبل، حيث يخاطب الثوّار قائلًا: “لي ملاحظة عسكريّة صغيرة ومُهِمَّة، أريد أن أبديها لكم وهي: إنَّكم تعلمون أنَّ انتصاركم على حملة ميشو وتشتيتكم إيّاها كان بفضل الهجوم الذي عَمِلْتُموه عليها وهي سائرة من الجناح، فالجيش السّائر إذا هوجم من الجناح أو من الخلف فينكسر لا محالة مهما كان قَوِيًّا، وفي وسْعكم مُهاجمة حملة أندريا التي يَنْوَوْن سَوْقها إلى الجبل من أحد أجنحتها من ورائها. إذا فعلتم ذلك فإنَّكم تُشَتِّتُونها كما شتَّتُّم حملة ميشو، وهي، أي حملة أندريا؛ لا تزيد عن عشَرة آلاف عسكري كلُّهم أنهكهم الحرب وأصبحوا جبناء وضعفاء وفلول لا يُؤْبَه بهم، فاجمعوا عليهم قواكم وانقضّوا عليهم كالأبطال كما هي عادتكم، فَتَرَوْن أنَّهم لا يقفون أمامكم أكثر من بضع ساعات وخصوصًا من ضربهم من الجناح، أو من الوراء، فتأخذونهم كلَّهم مع ذخائرهم ومعدَّاتهم، وتجعلونهم عبرة لمن اعتبر”(61). كما تبدو لنا خبرة الرَّجل جليَّة في مسألة اسستثمار طبيعة الأرض في تقييمه للحرب في اللَّجاة إذ يقول: “إنَّ مجموعة من ماية أو مايتين بواردي (أي: المقاتل حامل البارودة) مع زعيم كـ: شبيب القنطار (أحد أبطال الثورة آنذاك) تكفي المنطقة حَصانَةً ومنعةً في مواجهة أيَّة قوَّة عسكريّة من خارج، فلا داعي إذن لأنْ تبقى “قُوَّة عسكريَّة كبيرة (من الثُّوّار بعيدة عن ميدان المواجهة) في اللّجاة أثناء حملة أندريا”.
تجاهل أندريا في كتابه وفاة رشيد طليع!، ولكنَّ الرّجل دخل تاريخ الامَّة العربيَّة رغم تجاهل الفرنسييِّن له.
الوثائق التي حصل عليها الفرنسيُّون في خرج الحصان الذي قتل تحت سلطان في موقعة خربة الصَّوْخَر تخالف وجهة نظر الجنرال أندريا نفسه بتسميته الثورة “ثورة الدُّروز”، وتُثْبِتُ أنَّ الثَّورة السوريَّة الكُبرى التي كان رشيد طليع الاستقلاليّ العروبيّ واحداً من المخطّطين لها منذ عام 1920أيام نزل في بيت علي عبيد حينها، ومن المقاتلين في صفوفها فيما بعد؛ هي ليست ثورة درزيَّة محصورة في حدود الجبل، بل إنّ تلك الوثائق تبين زيف الفِرْيَةِ الفرنسيَّة التي تصوِّر الثّورة على أنَّها ثورة طائفة..
نعم كان رشيد طليع قائدًا مخلصًا لتلك الثَّورة التي خطَّط لها، وكان قد التحق بها على أثر نشوبها وتحقيقها النَّصر الساحق على الفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة، وبالتحاقه بها اكتسبت الثَّورة دعما ماليًّا وبُعْداً استراتيجيًّا، بانضمامه إليها وهو الرّجل الإداري والسياسي والخبير العسكري الذي يقاتل في صفوف الثّوار من أجل الاستقلال العربي وشعار “الدِّينُ لله والوطن للجميع” شعاراً للثورة السوريّة الكُبرى اعتمده سلطان باشا الأطرش قائد جيوش الثورة الوطنيَّة السوريّة العام” وهو الشعار الذي كان قاعدة حضاريّة للدَّولة العربيّة التي اغتالها الفرنسيُّون عام 1920، وهذه حقيقة يغفل عنها كثير من المؤرّخين! كلُّ ذلك جعل من تلك الثَّورة قَضيَّة من كانوا وطنيين ثوريين بذاتهم شأن رشيد طليع وعادل أرسلان وفؤاد سليم وعادل النَّكدي وغيرهم من رجال الثَّورة العربيّة، لذلك كان تواصلهم مع الثَّورة السوريّة الكبرى في ظروف نشأتها الأولى، وكان اندماجهم فيها بعد انطلاقها. وعلى هذا كان رشيد طليع وهو في مصر على صلة متواصلة بسلطان باشا قبل الثورة وبعد نشوبها.

جرح لم يندمل وإصابة في مَيْدان
القتال وشهادة نبيلة وأصداءٌ عربيّة
في أيامه الأخيرة كان رشيد طليع يقاتل مجاهدًا وقائدًا في سياق سلسلة معارك مُتتابعة على الحافّة الشرقيّة من المقرن الشرقي في الجبل، وتضاربت الأنباء في طبيعة السّبب الذي أودى بحياته؛ بين وفاته بمرض معوي أصابه فَجأة، أو بسبب انسداد في الأمعاء لم يتوفّر له مُسهل، أو بين وفاة على أثر رصاصة أصابته تركت جرحًا لم يندمل في كتفه على أثر معركة قيصما (قبل وفاته بنحو شهر) كما جاء على لسان المطران نيقولاوس قاضي مطران حوران وجبل الدروز (62)، يضاف إلى ذلك احتمال أن تكون وفاته نتيجة لتداعيات مرضيّه مُزْمنة ناجمة عن حالة صِحِيّة سيّئة كان يعاني منها، لكن ذلك لم يمنعه من الجهاد في سبيل حُرِّيّة أُمَّته واستقلال وطنه، يشير إلى ذلك الأمير شكيب أرسلان في تأبينه إيّاه (63).

سلطان باشا يؤبن الشَّهيد
في صباح يوم من أيام آخر العشر الأوائل من أيلول عام 1926 كانت حملة فرنسية يقودها الجنرال أندريا تقوم بجولة ترافقت بمعارك عنيفة في المقرن الشّرقي من الجبل كما سلف بيانه. مشت تلك الحملة إلى صلخد وعاد الثُّوّار إلى “بوسان”؛ فقضَوْا ليلتهم هناك ثم انتقلوا إلى “سالة”، وتوعّك رشيد باشا فنقلوه إلى قرية “اسْعَنَه” ومن ثمَّ اشتدّ مرضه فتركوه فيها ومعه عشرة رجال حملوه إلى قرية “الشّْبِكة” وتقدَّم الأمير عادل أرسلان إلى قرية “الشّريحي” ثم “الطّيبة” فبات الثوَّار فيها ثم ارتحلوا إلى قنوات، فباتوا فيها ليلة جمعوا فيها بعض الدَّراهم والذَّخيرة للإعانة وعادوا في اليوم التالي إلى مفعلة فباتوا فيها ليلة، وفاجأهم خبر وفاة رشيد طليع في تلك اللَّيلة فركب الأمير عادل بالخيالة إلى “الشّْبِكِي” (64).
وفي وفاة رشيد طليع أبَّنه سلطان باشا مُسْتَشْعِرًا فداحة الخسارة؛ يقول: “.. في أواخر أيلول عام 1926 فُجِعْنا بوفاة المجاهد الكبير والبطل المقدام، والإداريّ الحكيم رشيد طليع ببلدة الشّبكة إثر مرض معوي أصابه بصورة مفاجئة، ففقدنا بوفاته رُكناً من أركان الثَّورة ورجلًا من خِيْرَة رجالات العرب الأفذاذ” (65).
وأمّا في جبل الشُّوف قد كان لوفاته صدًى كبيرٌ، إذ أقيمت له مناحة كبرى اشتركت فيها وفود القرى والزُّعماء واقيمت له في جديدة الشّوف مَناحة مهيبة لا تقلُّ عن أختها في الجبل الدّرزي (ميدان قتاله)، وقد اشترك فيها لبنان”(66)، وحضر مأتمه الألوف المؤلَّفة من الدُّروز وسائر الطّوائف، وفي إمارة شرق الأردن حيث كان عبدالله قد أخذ طريقًا معاكسًا لجماعة حزب الاستقلال العربيِّ فقد أذاع مكتب الاستعلامات السّوريّ أنّه أقيمت للفقيد الكبير “في الأزرق (بلدة كانت درزيّة في شمال الأردن) حفلة تأبين كُبرى للفقيد العظيم المرحوم رشيد بك طليع لمناسبة مرور أسبوع على وفاته حضرها عدد من رجال الأمّة السوريّة، وأبّنه الزّعيم الكبير الدّكتور شهبندر تأبيناً مؤثِّراً وقد حضر الاحتفال الأمير حسن الأطرش أمير جبل الدُّروز وعبد الغفار باشا الأطرش واسماعيل بك الحريري زعيم حَوْران والدّكتور خالد بك الخطيب وجمهور كبير من خاصة أهل البلاد”(67).
أما في القاهرة فقد نعاه مكتب الاستعلامات السّوريّ ووصفه بأنّه “أوفى عُظَماءِ الأُمّة” وممَّا جاء في النَّعيّ: “فُجِعَت سورية بزعيم من أعظم زعماء الأمة وكبير من أوفى عظمائها إخلاصًا لوطنه وسعيًا في سبيل إنهاضه والذَّود عن حياضِه وتّحريره من أنياب الاستعمار؛ ذلكم الزَّعيم البار رشيد بك طليع العضو في مجلس النُّواب العثماني ووالي حلب ووزير الداخلية في حكومة سورية العربيّة ورئيس وزراء شرقي الأردنّ عام 1921، والفقيد من أعظم من أنجبتهم سوريّة عِلْمًا وَحَزمًا وإخلاصًا وسداد رأي، وقد امتاز بالكفاءة والحزم وسداد المحجّة فكان شخصًا ممتازًا في المناصب الكبيرة التي تقلَّدها في الدّولة العثمانيَّة، وفي الحكومة العربيّة بعدها؛ وافاه الأجل المحتوم في قرية الشّبيكة (الشّبِكِي) من قرى المقرن الشَّرقي بجبل الدُّروز يوم الاثنين في 20 سبتمبر أيلول 1926 إذ اشتد عليه مرضه عقب قفوله من انتصار حربي أحرزه برجاله المجاهدين على جيش العدوّ في معركة الرّشيدة؛ فختمَ حياته الجليلة بأعظم ما يدّخره العظماء للحياة الخالدة والذِّكر الحَسن”(68).
وفي فلسطين كانت حفلات التأبين استثنائيَّة في دلالاتها فمن صلاة الغائبين “على الشّهيد الكبير رشيد طليع وجميع الأبرار الذين ماتوا في سبيل الحريّة” (69). إلى حفلات تأبين مشتركة ما بين العرب واليهود وتحدِّيًا من قبل العمال العرب واليهود؛ وبتحديد أدقّ من قبل العمَّال الشيوعييِّن من الطَّرفين، وننقل هنا ما أوردته صحيفة لسان الحال عن جريدة الاتّحاد العربي التي تصدر بطولكرم في فلسطين تقول: “علمنا أنَّ عمّال اليهود الشّيوعييِّن في تل أبيب أقاموا مؤخَّراً حفلة تأبين للمرحوم رشيد بك طليع في نادي طبقة العمَّال حضرها أكثر من مايتي عامل يهودي وثمانين من العمال العرب وقد ألقيت الخطب بالعربيّة والألمانيّة، وعدّد الخطباء ما كان للمرحوم رشيد بك من المزايا العالية والجهود الثَّمينة في خدمة بلاده ومما قاله أحد الخطباء إنَّ رشيد بك لو كان حيّأً ورأى بعينيه عدم إضراب عرب فلسطين واهتمامهم بيوم وعد بلفور المشؤوم لكان تأثره شديداً من سوء الحالة التي وصلت إليها فلسطين بسبب تخاذل الزُّعماء وانحلال عزائمهم وتفرُّق كلمتهم (70). ويفصح لنا هذا التّكريم عن دور أغفلته مصادر المرحلة عن أفعال “فلسطينيَّة” لرشيد طليع ، ليس فيها من ” تخاذل زعماء الثلاينيَّات ولا من من انحلال عزيمتهم”. كما يُفصح عن مواقف سياسيّة واستنكار علاقات مع أطراف من غير عربها، ومع الشيوعييِّن من يهودها تخصيصًا، كان فيها استنكار وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما يبدو من نَصِّ الاتّحاد العربي يدور سيَّاراً في سيرة رشيد طليع أقوالًا ومواقف (71).
وهكذا فإنَّ رشيد طليع كان من أولئك الوطنييِّن الرُّواد الذين لم يموتوا بالموت البيولوجي لأجسادهم، بل بقي مُلْهِمًا للنّضال اسمه ظل مُدَوّياً بعد موته وحاضرًا في المناسبات الوطنيَّة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب، ففي حفلة أقيمت في 21/ 2 سنة 1930 من قبل فريق من شباب القدس في كُلِّيَّة روضة المعارف لمعتقلي يافا؛ يقول أكرم زعيتر: “.. كلّما امتلأ سِفْرُ التّضحية بحوادث التّضحيات الغاليات اقتربت هذه الأمة من موعد خلاصها، فأحمد مريود وعادل نكد ورشيد طليع وفؤاد سليم والخرّاط عناصر روحانية تُذكي نيران الإخلاص في نفوس الشّباب المجاهدين…” (72).
وفي نابلس في 8 ــ 3ــ 1931 أقيم احتفال بذكرى استقلال سوريّة عام 1920 وقد أَمَّته وفود قادمين من القدس ويافا وغزة واللِّد والرَّملة وطولكرم وجنين وعكّا والنّاصرة وصفد.
وفي 9ــ 7ـ عام 1933 في معرض للصِّناعات الفلسطينية والسُّوريّة واللبنانيّة والمصريّة والعراقيّة .. في هذا المعرض الذي”ازدانت جوانبه بأعلام الدُّول العربيَّة وبصور كبار شهدائها ولا سيَّما شهداء الثَّورة السوريَّة الكُبرى كرشيد طليع وأحمد مريود وفؤاد سليم…”
وبمناسبة يوم احتفال الشهداء في القدس في 13 /5/ 1935 وفي 11/ 9/1936 كان ذكر رشيد طليع حاضراً .
وفي حفل تكريم للمجاهدين السوريين وقد حضره رجال من الأردن وسورية وفلسطين كان الإشارة صريحة بالأسماء إلى رشيد طليع مع آخرين من شهداء تلك الفترة.
ولنبيه العظمة وهو أحد قادة الثوار الدمشقيين شهادة بليغة في موقع رشيد طليع بين رجال عصره الكبار، يقول نبيه العظمة مخاطبًا أكرم زعيتر:
ثلاثة أشخاص موتهم كارثة وطنيّة، فُجِعت بموتِهم فجيعة لا وصف لها، إنَّهم: عمي يوسف العظمة، ورشيد طليع وياسين الهاشمي” (73).

تركة الشهيد رشيد باشا طليع وتكريمه!
مات رشيد باشا طليع ، بل استشهد فقيرًا من المال ولكنَّه لم يزل غنيًّا ومُلْهِمًا في حضوره التاريخيّ والسياسيّ في مجتمعات ومضافات جبل العرب ومنتديات مثقّفيه، بل وفي ذاكرة مؤرِّخيّ الثّورة السوريّة الكبرى وأخصّ بالذّكر منهم الدكتور حسن أمين البعيني الذي لم يخلُ كتاب من كتبه العديدة التي تناول فيها تاريخ الثورة السورية الكبرى من ذكر منصف لرشيد باشا طليع.ويذكر المجاهد متعب الجباعي وهو من مرافقي رشيد طليع يقول: “قُمْنا نحن أهالي القرية نحفر قبرًا للشهيد، وأثناء ذلك سمعنا امرأة تصيح بأعلى صوتها والدَّمع ينهمر من عينيها قائلة بكلمات تتدحرج على شفتيها الرَّاجفتين: “يا قوم.. يا ناس..أرجوكم، أتوسّل إليكم، لا تُوَسِّدوا هذا الميت الثرى كبقيّة الأموات.. بل احفروا له كثيرًا ليدفن واقفًا.. لأنَّ سعود الثّورة مرتبطة بالقائد رشيد طليع، وأخشى إن نام رشيد أن تنام معه الثّورة”. وتبادل المشيّعون النَّظرات وأطاعوا تلك المرأة الغيور “ضياء سعيد”، ودفنوا الميت واقفًا وكانّه مازال حيًّا، وبعد أقل من شهر وصلت حملة فرنسيّة إلى قريتنا “الشّبِكِي” وكان لنا معها قتال وخسارة شهداء… وأوقعنا بالعساكر أفدح الخسائر وأخيراً استطاعت القوَّات دخول البلدة .. بدأ القائد الفرنسيّ حملة تفتيش عن البطل المجاهد “رشيد طليع” وقيل له: طليع مات.. طليع توفّاه الله.. طليع أصبح في الدَّار الآخرة.. ولم يصدّق القائد “الليوتنان زهران”. وأخيرًا جمع كلَّ الحاضرين من أهل البلدة.. حول القبر الذي أرشدوه إليه وبدأ السؤال لكلِّ أحد.. عن القبر، وما يضمُّ القبر. وأجاب الجميع: هذا قبر رشيد طليع..!
قال زهران: لا أُصدّق حتى تُقسموا لي بإلهكم ودينكم بأنّ هذا قبر طليع!. وانتخب أربعة رجال أقسموا بالله العظيم وبكلِّ المقدّسات بأنّ هذا القبر يضم جسد الشهيد رشيد طليع.. عندها أمر الليوتنان زهران عساكره أن يصطفّوا أمام القبر وأن يطلقوا النّار في الهواء إكرامًا للرَّاقد فيه، ثمّ أوعز بتقديم السلاح وأداء التّحيّة لواحد من قادة الثّورة السوريّة ذي الرأس المفكر والعقل المدبّر رشيد باشا طليع. وقال كلمة حق: “الآن انقصم ظهر الثورة”.
أمّا المال الذي كان بحوزته فهو ألفا ليرة ذهبية مصدرها تبرعات لدعم الثَّورة، وزّعت على المجاهدين بالتساوي، “نال كلٌّ منهم ذهبيّة ونصف” بالإضافة إلى تركته الشّخصية وهي خمسون ليرة ذهبية من ماله الخاص أوصى بتوزيعها بعد وفاته على الرّجال المقاتلين من آل الجباعي في قرية الشّبِكِي وفاءً منه لعنايتهم به أثناء مرضه.
أما معاناة أهالي الجبل وهم الحاضنة الاجتماعيّة لرشيد طليع؛ فقد استمرّت مدّة ثلاثة أرباع القرن ونيّف (ستّة وسبعين عاماً) من المطالبة حتّى تمت الموافقة على إقامة نصب تذكاري على مشارف قرية الشّْبِكي في جبل العرب تكريمًا له في السادس من أيّار؛ عيد الشهداء، عام 2001.
وخلاصة القول؛ فإنَّ رشيد طليع سيبقى حيًّا في ذاكرة المناضلين العروبييِّن ما دام للمجتمع العربي قضية حُرّيّة يناضل من أجلها.

عارف أبو شقرا

عارف أبو شقرا
التربوي، الشاعر، والمناضل

في كثير من المناسبات نتذكر الأستاذ الذي علمنا التاريخ الحقيقي واللغة العريقة والأخلاق الحميدة، عنينا به شاعر العروبة والمقاصد وأستاذ العربية والتاريخ في مدارسها المعلم عارف أبو شقرا الهوزاني العماطوري.

الأصل والمولد والمسكن.
يقول عارف أبو شقرا في كتابه “الحركات في لبنان الى عهد المتصرفية” أن أصل أسرته من هوزان نزلت عماطور في زمن غير محدد.
وهوزان على ما يقول النسابة، هو هوزان بن منصور بن عكرمة، من قيس عيلان من العرب العدنانيين. كانت منازلهم من غور تهامة الى بيشة والسراة والطائف. وقد كثرة بطونهم وقبائلهم مثل بنو سعد (منهم حليمة السعدية مرضعة النبيّ) وثقيف وفروعها، وعامر وعقيل وخفاجة وهلال بن عامر.
وأخبار هوزان كثيرة في الجاهلية والإسلام، وهم من أكبر قبائل العرب وأشهرهم فروسية وشجاعة وقوة شكيمة، كانت لهم في أيام العرب ومعاركهم صولات وجولات مشهودة.
وعماطور أو “عي ماطور” بلدة قديمة جاء ذكرها في منشور صدر سنة 1256 باسم سعد الدين البحتري. وكان لها الحق بأن تحمي من يلجأ اليها مدة سنة، وكان المارة بها يمتنعون عن رفع أصواتهم بغناء او إنشاد. كما كان يفك وثاق المقيد والمكتوف أثناء مروره بها، بينما كان الفرسان يترجلون ويقودون أفراسهم حتى يجاوزوا البلدة.
من هذه الأرومة العربية، وفي هذه المدينة العريقة وفي بيت علم وأدب وشعر ولد عارف أبو شقرا. والده يوسف تخرج متقناً العربية على يد عبدالله البستاني درس الفقه وزاول المحاماة والصحافة وله نثر وشعر في ديوان صغير.
وسار الابن على هدي أبيه فأتقن العربية وأصدر مجلة “الأماني” وضمّته المقاصد الإسلامية إلى أساتذتها فبدأ عهده منذ الثلاثينات مدرساً للعربية في مدرسة أبي بكر الصديق. انتقل بعدها الى كلية المقاصد الحرج أستاذاً للعربية فثانوية علي بن ابي طالب مدرساً للعربية والتاريخ ومرشداً وطنياً واجتماعياً.

القائد جمال عبد الناصر، المعلم كمال جنبلاط، المؤرخ والشاعر والأديب عارف أبو شقرا (في المقدمة)، في قصر الضيافة في دمشق، يوم إعلان الوحدة بين مصر وسورية في 28 نيسان / 1958.
القائد جمال عبد الناصر، المعلم كمال جنبلاط، المؤرخ والشاعر والأديب عارف أبو شقرا (في المقدمة)، في قصر الضيافة في دمشق، يوم إعلان الوحدة بين مصر وسورية في 28 نيسان / 1958.

دروس في الإلقاء والكرامة
ومباراة في الخطابة.
ما يزال تلامذة عارف أبو شقرا في مدرسة ابي بكر الصديق – ومنهم العميد مختار عيتاني – يذكرون المباريات الخطابية التي كان ينظمها في ختام السنة المدرسية لتنمية ملكة الإلقاء والخطابة عبر التلامذة وكان منهم في تلك الحقبة الدكتور حسن صعب.
فيحفِّظهم قصائد من نظمه. جاء في قصيدة من تلك القصائد التي أراد بها أن يبرز موقفاً سياسياً وليد ظرف سياسي بين أنصار الاستقلال ومسايري الانتداب:

قل للذي اتخذ الزعـامة إرثه
الناس في الأديان أمة واحـدة
والعز والشرف المؤثل لم يكن
إن الذي شرع الشرائع في الورى
ومضى زمان عبـادة الأسياد

ما الخلق ملك أبيك كالأنعام
والمجد مستبق لكل همام
وقفـاً على أحد من الأقـوام
جعل المُرأَّس أصـغر الخُدام
والزعماء والأزلام والأصنام

يذكر انه في تلك الفترة سنة 1933 كانت عمليات المسح الإجباري قد افتتحت في بيروت. وقد حصل خلاف في حينه حول حدود قطعة الأرض المتاخمة لمجلس القنطاري (دار الطائفة الدرزية اليوم) مع ورثة أنطوان سيور حول ما اذا كانت القطعة المذكورة من ضمن أرض الوقف المذكور أم لا. وعلم تلامذة عارف أبو شقرا من أهالي المحلة بهذا الأمر فتوجهوا الى المنطقة وأخذوا يهزجون مع الموجودين هناك تحية لسلطان باشا الأطرش، وكان أستاذنا معجباً بسلطان باشا وعلق صورته في بيته:

يا سلطان السـوريين
رجال بني معروف

يا حامي الوطن والدين
للحرب مستعدِّين

الصورة مأخوذة عام 1935 في مدرسة أبي بكر الصديق - المقاصد. الأستاذ عارف أبو شقرا الخامس من اليمين.
الصورة مأخوذة عام 1935 في مدرسة أبي بكر الصديق – المقاصد.
الأستاذ عارف أبو شقرا الخامس من اليمين.

العروبة والوطن لا قيس ولا يمن
بعد المفاوضات التي واكبت إنشاء الجامعة العربية، تنادى العرب الى جمع كلمتهم ووحدة بلادهم ومقاصدهم. وقد أوحت هذه المناسبة الى أستاذنا عارف أبو شقرا فنظم سنة 1946 نشيد الوحدة العربية الذي لحنه الأخوان فليفل وأنشد في كثير من المناسبات وكان له أطيب الواقع في نفوس المستمعين، وأحيل الى دائرة الثقافة في الجامعة العربية ليكون في عداد أناشيدها الوطنية. وفيه يقول:

المـعـالي لنا وطـن
ليس في عزمنا وهن
نمشي على صرف النوب

نحن أكرومة الزمن
نحن لا قيس ولا يمـن
نحن الألى نحن العرب

يا رئيس البلاد: عدل المنهاجا
كان عارف أبو شقرا يدرس أنواع الحكمة التي تتهذب بها النفوس وتتوفر بها مكارم الأخلاق، فيدل بذلك على وفور فضله ورجاحة عقله وحسن خلقه. وكان يحث التلامذة على المطالعة ويحدثهم عن الزعماء والأبطال والحركات الوطنية في العالم العربي.
ولم يكن بعيداً عما يحصل في مجتمعه وبلده، وقد رأى أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري ما وقع في البلد من اختلال لإهمال بعض الرعاة مصالح الرعية واستطالتهم على الفقير ومد أيديهم الى أموال الناس بالباطل وخروجهم عن دائرة العدل وعدم الالتفاف الى حاجات المستحقين ومصالحهم، وتولت المناصب غير أهلها بحيث وقع الاختلال والفساد، فنهض في أحد المهرجانات الخطابية ورفع عقيرته بقصيدة عصماء يذكر الظلم الاجتماعي ويشير الى جنوح سفينة الحكم والسلطة وينبه الحاكم فيقول فيها:

ويختمها ببيتين خاتمة الثاني منهما عنوان القصيدة “عدل المنهاجا” وهما:

وقيل يومها إن رجال السلطة حاولوا اعتقاله على اثر انتهائه من إلقاء قصيدته، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر والاجتماع الشعبي الحاشد.
الفاء والنون وما بينهما.
لم يكن عارف أبو شقرا استاذاً للغة والتاريخ فحسب، يحبس عطاءه فيما يلقيه من دروس وأمثال وعبر، لم يكن استاذاً من حبر وورق، بل كان ينبوع فكر ومثير طاقات ومحرك همم وحافظ تراث. وما كان له ان يتجاهل ما حل بفلسطين وبالعرب بها من نكبة فنظم قصيدة من روائع ما نظم، ما زلنا نحفظ منها بيتاً يذكر فيه حق العرب في فلسطين (الفاء أولها والنون آخرها) وكل ما بين الفاء والنون من فنون الأدب والشعر والفروسية والحكمة، وهو البيت القائل:

وهذا الاعتزاز بتاريخ العرب وأمجادهم تراه في العديد من قصائد الأستاذ المعلم عارف أبو شقرا. تجلى في نشيد الوحدة العربية السابق ذكره، كما تجلى في نشيد المقاصد الذي ردده شباب المقاصد ولا يزالون ينشدونه بلحن الأخوين فليفل بادئاً بقوله:

عهدنا بالمقاصد
ناديك منـزلاً
دمت للحق وال

في ظلال المعاهد
ومباديك منهلاً
علا خير قائد

قد نمتنا عزة في يعرب
حسبنا إنا على هدي
في جوار الصنوبر
يا رفاقـاً على الزمـن

وتـراث خالـد في الأدب
النبـيّ في المحـامد
ضَمَّنـا خير معشـر
اشتروا المجد بالثمن

وعلى نصـرة الوطن
بالجنان واللسان والقلم
والحديد والعديد والهمم

فلنجـاهدِ فلنجاهدِ
والشباب المستنير بالحكم
والسواعد والسـواعد

اذا كان عارف أبو شقرا قد أشار في هذا النشيد الى “معشر ضّمَّنا وإياه في جوار الصنوبر – كان علم المقاصد يضم في زاويته العليا صورة لصنوبرة شعاراً – فلم يمنع ذلك معلمنا من التغني بأرز لبنان الخالد، ممجداً له واضعاً إياه في مصاف خوالد الدهر وأعاجيبه، فيهتف معتزاً مفتخراً في قصيدة بقي في الذاكرة منها:

أرز لبنان حرمة وتحيـة
زانـك اللـه بالجـلال
ياخدين الأهرام والهيكل

طبت دوحاً في أرضنا الشامية
فأمليت على كل بقعة أملية
الفخم وصهر الجنائن البابلية

ولم يغفل أستاذنا ومعلمنا عارف أبو شقرا دور المرأة عامة والممرضات خاصة اللواتي يبلسمن آلام المرضى وينعشن أمانيهم. فنظم لهن سنة 1951 نشيد الممرضات الذي لحنه الأخوان فليفل وأخذ به في مدرسة التمريض التي كان يديرها المرحوم الدكتور مصطفى خالد فأنشد في حفلاتها وانتقل الى مختلف مدارس التمريض.
وقد أحسن الشاعر باختيار مفردات من العربية تتوافق مع دور الممرضة وعملها مثل: الوفاء، الألم، الشفاء، الحان، الصبر، الرجاء والأمل الخ… فقال مخاطباً الممرضة:

اسمعي صدى الضمير
أنـت للسقم أنـت
نـادى الاشفيا

هاتفاً للوفا يا فتاة للوفـا
للألـم أن تعسفا
أنعشـي الأمـانيـا

واحملي الشفا
يا رسالة الرجاء والأمل
مهدي الوساد، هيئي

وانشـري الأمـان
تنعش النفوس تطرد العلل
الضماد، غالبي الوجل

وبعد،
اذا كانت حضارة الأمم والشعور تقاس بمقياس نتاج أبنائها وتكريم عطاءاتهم ومساهمتهم في تقدم شعوبهم والتعبير عن آلام أمتهم وآمالها، فإن واجب الأمة يكمن في تكريم اعلامها ونشر تراثهم.
واننا نتوجه الى أصدقاء معلمنا وتلامذته وأهله واخوانه والمسؤولين عن الثقافة والتربية لإخراج كنوزه من زوايا النسيان ونشرها على اللبنانيين والعرب إنصافاً لأستاذ علم الأجيال العلم والوطنية والأخلاق والرجولة.

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاة الأمير شكيب أرسلان

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاة الأمير شكيب أرسلان
«كلّ نهضة لا يكون ظهيرها العلم، ما هي إلا لحظة وتضمحل»

تمهيد
لم أجد تعريفاً بالأمير شكيب أفضل مما ذكره أديب مقدسي كتب في جريدة الشورى المصرية، عدد 6 آب، 1926، ونقله الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه “شكيب أرسلان، داعية العروبة والإسلام”، الصادر سنة 1963، عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر، قال:
“[كان طه حسين قد كتب] ….من الأدباء مَن يسبق الحوادث، ومنهم مَن يعيش معها، ومنهم مَن يجيء بعدها، وشكيب يجمع بين الأحوال الثلاث.” (الشرباصي، شكيب أرسلان، ص 297-298)
هذا نزر بسيط جداً من بحر ما قيل في شكيب، إطراء ومديحاً يستحق كل حرف منهما، لكني اخترت البدء بهذا النص لأظهر معايشة شكيب لأحداث أمته في عصره، ولتداعيات الأحداث تلك، ولتحوله من ثمة إلى عارف متبصر بأحوال أمته، بأمراضها وعللها، أولاً، وبأدوائها وسبل مداواة الأمراض تلك ثانياً. فماذا عساه يقول في حاجة أمته إلى النهضة، وفي ماهية النهضة، وفي مستلزماتها وشروطها أولاً وأخيراً؟ وهذه بعض مرتكزات تفكير الأمير شكيب في هذه المسألة:

1- قدرة العرب والمسلمين على التقدُّم
هو الأصل والقاعدة
أفاض الأمير شكيب في عشرات المؤلفات والمقالات والنصوص في تبيان الغنى الثقافي والروحي اللذين بعثهما الإسلام في ماضي الأمتين العربية والإسلامية. كما أحصى على وجه الخصوص مظاهر التقدم العلمي والتقني والحضاري الذي تحقق للعرب في ذروة تقدُّمهم، في مشرقهم ومغربهم، وبخاصة في الأندلس الذي كان بوابة لنهضة أوروبا بعد ذلك. (راجع على وجه الخصوص المقالة الرائعة الموثّقة “الحضارة الإسلامية ورقي العرب الفكري في القرون الوسطى”في حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 106-117). والمقالة “المدنية العربية” المرجع نفسه، ص 128-136، وأيضاً “الحركة العلمية في الحضارة العربية…”، ص 137-155، وهي لشكيب أو مما علّق عليه فأفاض وزاد عن الأصل.
وقد أحصى الأمير مظاهر الريادة والإضافة التي كان للعرب فضل السبق فيها، من مثل نقل تراث اليونان وحفظه وإيصاله من ثمة ومن طريقهم إلى بواكير النهضة الأوروبية. وكان الأمير كذلك محققاً علمياً دقيقاً حين أشار إلى الدور الذي لعبته مدرسة الإسكندرية على وجه الخصوص، وليس اليونان فقط، في نهضة العرب وأوروبا بالتالي. كذلك التجديد البارز الذي كان لهم في الكثير من المجالات العلمية والتقنية، وقد لفتني إظهاره التجديد العربي الأصيل في موضوع العلوم التجريبية – ناهيك عن عشرات المجالات الأخرى – فلنقرأ في “حاضر العالم الإسلامي”:
“وأما تفوقهم في العلوم فقد كان بالطريقة التي تلقوها عن يونان الإسكندرية، وذلك أنهم أدركوا أن مجرد التأمل بعيد عن أن يبلغ بالإنسان الغاية المقصودة، وأن هذه الغاية لا تنال إلا بمراقبة الأمور واختبار الأشياء أي بالطريقة التجريبية. وكانوا يرون الجبر والرياضيات آلات للمنطق، ويلحظ من تآليفهم الكثيرة في جر الأثقال (الميكانيك) وعلم موازين السوائل (الهيدروستاتيك) وعلم البصريات، وأن حلهم للمسائل العلمية كان دائماً بطريقة الاختبار المباشر أو بالمراقبة الآلية. وهذا هو السبب في وضع العرب لعلم الكيمياء، واختراعهم عدة آلات للتقطير والتصعيد والتذويب والتصفية. كذلك هو السبب في استعمالهم في مراقبة الفلك الآلات المدرّجة كالربوع المجيّبة والاسطرلابات. وقد استخدموا في الكيمياء الميزان الذي اتقنوا معرفة قاعدته وأنشأوا جداول للثقل النوعي. ولهم الزيجات الفلكية الشهيرة مثل زيجات بغداد، وقرطبة، وسمرقند، وكان ذلك من أعظم وسائل نجاحهم في الهندسة والمثلثات وتوصلهم إلى ابتكار علم الجبر واتخاذ طريقة الرقم الهندي، وذلك كله نتيجة اتباع العرب مذهب أرسطو في الفلسفة دون مذهب أفلاطون لأن الأول تفصيلي والثاني إجمالي…”
مدهشة معرفة شكيب التي ظهرت في هذا النص من حاضر العالم الإسلامي والذي أضاف إليه ما أضاف، وقد اخترته من نصوص كثيرة مباشرة أظهرت شكيباً مؤرخ العلوم الواثق الدقيق المتقن، وفيلسوف العلوم المدرك دقائق الأمور وأسبابها، وإلى ذلك كالبحر يفاجئك في كل لحظة بما تعرفه وبالكثير مما لا تعرفه.

2- لكن تأخُّر العرب والمسلمين
هو الواقع منذ حين
مع ذلك، لا يختلف اثنان في أن البلاد العربية والإسلامية هي (في زمن شكيب، وفي أيامنا أيضاً وإلى حد كبير) أقرب إلى التأخر منها إلى التقدُّم، وإلى الضعف منها إلى القوة والمنعة، وبمعايير التقدم العلمي والمادي. هذا ما يسجله الأمير شكيب أرسلان، بادئ ذي بدء، في مطلع كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟” – رسالته الجوابية في الأصل لنخب “جاوة” في أندونيسيا سنة 1925 الذين سألوه عن سبب تأخر المسلمين قياساً بتقدم اليابان والفرنجة. يبدأ الأمير شكيب رسالته الجوابية بتسجيل حال التأخر ذاك قائلاً:
“إنّ الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب، لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في درجاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطراً. وبالإجمال، حالة المسلمين الحاضرة، لا سيما مسلمي القرن القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح، لا ترضي أشد الناس تحمساً بالإسلام وفرحاً به، فضلاً عن غير الأحمسي من أهله. إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، لا من جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنون فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار، ولم أعلم من المسلمين من ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلاّ …”. (لماذا تأخر المسلمون..، ص 43-44) (التشديد من الباحث وليس من المؤلف)
ويعيد الأمير تأكيد صحة هذه الملاحظة – المقدمة في أعمال أخرى لاحقة، وبخاصة في بعض مقالات مجلدي “حاضر العالم الإسلامي”. بيّن شكيب في مقالاته تلك حال العالم العربي والإسلامي بالتفصيل في المناحي العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعض مظاهر التقدم أو التمدّن، أو حتى الحضاري إلى حد ما.
ورغم ترسّخ فكرة أن “الإسلام راق بنفسه” وفق تعبير الأمير، إلا أن الغنى الروحي والثقافي اللذين بعثهما الإسلام ليسا كافيين في ظروف المسلمين التي استجدت إما لتبدل في المكان أو لتقدم في الزمان، فهو إذاً، وعلى غير منهج معظم السلفيين، لا يقف عند ذلك و لا يكتفي به. وهولا يعتقد تحديداً أن في وسع الشعوب العربية والإسلامية أن تجاري المتقدّمين، وأن تباريهم في مناحي الحضارة كافة، إن لم تأخذ بأسباب تقدّم الأمم التي سبقتنا، وبأسباب قوتها، في المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية عموماً، وبخاصة في ميدان تقدم العلوم – ومن دون أن نقطع الصلة بماضينا الروحي والثقافي والديني تحديداً. ولعلي لا أجانب الحقيقة إذا لاحظت مع سواي أن ما كتبه شكيب أو أضافه في التاريخ الوضعي، والشرط السياسي، والشرط الاقتصادي، والتقدم الحضاري (بل المادي) للشعوب الإسلامية (وبخاصة العربية) يفوق حجماً ما كتبه في الموضوعات العقائدية أو الكلامية أو الفقهية. وفي ذلك دليل واضح على أولوية مسألة التقدم العلمي والمادي والحضاري في فكر الأمير. أكثر من ذلك، فإن شكيباً لم يكن يقصد بالإسلام في حقيقة الأمر الجانب الديني أو الكلامي أو الفقهي فيه حصراً، بل الجانب السياسي والثقافي، ومما لا شك فيه أنه كان يعني بالإسلام الشرقيين المستعمرين والمستضعفين عموماً، على ما سنفصّل الأمر بعد قليل.

3- الشرط السياسي للنهوض والتقدم
شكّل العامل السياسي والوعي بذلك الشرط أحد المعالم السباقة الرائدة في فكر شكيب. وهو تجاوز واضح لمقولة شكيب الإسلامي التقليدي حصراً. وأحد المظاهر البارزة في فكر شكيب أرسلان النهضوي، هو اعتباره أن السمة الرئيسية لمعظم بلاد المسلمين هي أنها محتلة، وأن الاحتلال ذاك هو أحد أكبر عوامل تأخرها. وأن المسلمين هم الشرقيون المستضعفون، مسلمين وغير مسلمين، هم موضوع احتلال المستعمر ونهبه واستهدافاته السياسية والاقتصادية والثقافية. وهل من إشارة أقوى من تلك التي ترد في حاضر العالم الإسلامي في قوله:
“فليست إذاً الرابطة الإسلامية وحدها هي التي تجمع قلوب الجزائريين والتوانسة والمراكشة وغيرهم إلى قلوب أهالي الأناضول، بل هناك رابطة المستضعفين بعضهم مع بعض، ورابطة الأخ الذي هو تحت نير العبودية مع أخيه الذي تمكن من رفع ذلك النير عن عنقه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 329-330)
وقد دعا أكثر من ذلك إلى وحدة المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة الهندوس في الهند، لرد غائلة دسائس المستعمر وتمتين الوحدة الداخلية في مواجهته. وهو في مواضع كثيرة لم يميّز على الإطلاق بين نضالات الأعراق والأديان المختلفة، مسلمين وغير مسلمين، في مواجهة الاحتلالات والدسائس الغربية. فلنقرأ من شكيب هذا النص، يقول:
” يموت المغربي حتى تنتصر فرنسا على ألمانيا مثلاً، ويموت الهندي حتى تتغلب إنجلترا على عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسيا، والحال أنه بانتصار فرنسا على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلماً وابتزازاً لأملاك المسلمين وهدراً لحقوقهم.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 37)
تلك إشارة فقط إلى أولوية السياسي، لا الديني، في فكر الأمير شكيب. ووعيه لحال التأخر في أمته، كما وعيه للتقدم الجاري في الغرب أو اليابان في الشرق الأقصى، وعي سياسي بالدرجة الأولى.

4- الشرط الاقتصادي – الاجتماعي
للنهوض والتقدم
وإلى هذا الشرط السياسي، هناك شرط آخر لا يقل أهمية، هو الشرط الاقتصادي لكل تقدّم. وقد أفاض شكيب في مباحث “حاضر العالم الإسلامي”، كتابة أو تعليقاً، كما في كتب ومقالات ورسائل أخرى، في تفصيل الأوضاع الاقتصادية لكل قطر عربي وإسلامي، مبيّنا بالأرقام النهب الاقتصادي للثروات والموارد الطبيعية الذي تمارسه البلدان الغربية وشركاتها في البلدان الإسلامية المستعمرة. واقترح شكيب من ثمة ضرورة وجود “جامعة إسلامية اقتصادية” تعزز الجامعة الإسلامية السياسية (ومعناها استقلال البلدان العربية والإسلامية واتحادها)، وننقل من حاضر العالم الإسلامي:
“فما هي غاية الجامعة الإسلامية الاقتصادية؟ إنما هي ثروة المسلمين للمسلمين، وثمرات التجارة والصناعة في جميع المعمور الإسلامي هي لهم يتنعمون بها…. وليست للغرب… وهي [كذلك] نفض اليد من رؤوس الأموال الغربية والاستعاضة عنها برؤوس مال إسلامية. وفوق ذلك تحطيم نواجذ أوروبا، تلك النواجذ العاضة على موارد الثروة الطبيعية في بلاد المسلمين، وذلك بعدم تجديد الامتيازات في الأرضين والمعادن والغابات وقطر الحديد والجمارك، العقود التي ما دامت خارجة من أيدي العالم الإسلامي فهو يظل عالة على الغرب.” (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص 328)
ومن المرجع نفسه أيضاً:
“الثروة في الشرق [وبعد تفصيل حال البلدان الإسلامية لحظة وصول الفتح الغربي، يكمل].. زد على هذا أن التزاحم الغربي جاء فانتشر فزلزل الحياة الاقتصادية الشرقية زلزالاً هائلاً، إذ إنّ فتح أوروبا للعالم الإسلامي الفتح السياسي كان يماشيه الفتح الاقتصادي جنباً إلى جنب، وربما كان هذا الأخير أتمّ نظاماً وأكمل عدة، فبات كل صقع شرقي في طوف من البضاعات والحاج البخسة الأثمان، المنقولة من أوروبة، ووراء ذلك رؤوس الأموال الغربية متدفقة لا تحصى، تتسرب في البلاد وتنتشر بأخدع الصور، وأملق الأساليب، كالقروض، والامتيازات التي من شأنها ما عقدت أن تكون تمهيداً لاستقرار السيطرة السياسية الغربية.” (نفسه، ص 326).

الاستقلال الاقتصادي إذاً هو المدخل للاستقلال السياسي وللتقدم الحضاري عموماً للبلدان الإسلامية. وفي وسعنا أن نلحظ تحديداً إشارته إلى رؤوس الأموال الغربية وضرورة استبدالها برأس مال إسلامي طريقاً للتقدم. وهي مسألة لا تزال إلى الآن مطروحة وبكثير من الأولوية.
تلك هي بعض ريادة فكر الأمير شكيب أرسلان وراهنيته في آن معاً.
مباحث الأمير شكيب أو مشاركاته في الموضوع الاجتماعي، وخطورته، وأولويته لدى كل باحث عن أسباب الاضطراب السياسي والاقتصادي مدهشة في حداثتها حتى الآن، من موضوع تحديد النسل، إلى الأسر “الزراعية” إلى وجهات نظر الغربيين والشرقيين والدين في كل ذلك، وهي تستحق دراسات تحليلية لاستكناه ما فيها من عمق وحكمة لم تذهب بهما السنوات المئة ألا قليلاً التي انقضت على تحبيرها وكتابتها، وبما تفوق به من بلاغة واختصار واقتصاد في القول.
لا تسمح المناسبة بأكثر من هذه الإشارات البليغة والرائدة، وفي وسع من يرغب، وبخاصة من الباحثين الشباب، العودة إلى نصوص الأمير شكيب والتوسع فيها.

الأمير شكيب ارسلان في أوائل كهولته
الأمير شكيب ارسلان في أوائل كهولته

5- الشرط العلمي والتربوي
كل التفصيل اللاحق في السبل والمسالك التي يجب أن تتخذها النهضة العربية والإسلامية، إنما استند إلى الاعتراف إذاً بواقع التأخر القائم، عربياً وإسلامياً في لحظة شكيب. ولا يفيد في شيء التنكّر له. أما الزعم أن امتلاكنا الغنى الديني أو الروحي أو الصوفي أو ما تقادم إلينا من بضعة عقود من الازدهار الحضاري عاشته الأمة في حقب معينة من تاريخها، وتكرار ذلك في كل مناسبة، فلم يعد فيه من نفع أو فائدة تذكر. يعترف شكيب إذاً، وبخلاف”الجامدين”، كما أسماهم في رسالته “لماذا تأخر المسلمون..” أننا قد تأخرنا كثيراً في الميزان المادي والعلمي والحضاري عموماً، وأن علينا الابتكار وإيجاد السبُل الصحيحة للالتحاق بركب المتقدمين، وبخاصة الغربيين.
أما أول السبُل أو المسالك، بعد الاعتراف بحقيقة التأخر كما رأينا، فهو الأخذ بناصية العلم، العلم الوضعي والتجريبي والتقني، وحتى بالمعنى الغربي للكلمة. وقد رأينا قوله الفصل بل القانون الذي أرساه لكل تقدّم منشود عندنا، من لا يتخذ العلم ظهيراً مصيره الزوال، قال: “كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعة وتضمحلّ.” (النهضة العربية، ص 24)
والسبيل الثاني المتصل بالأول، هو التربية والتعليم. وقد أولى شكيب في محاضراته ومقالاته أهمية خاصة للتعليم النظامي الحديث، وعدم الاكتفاء بالكتّاب أو الزوايا أو المسجد أو المنزل، بيئة للتعليم الحديث، بل رأيناه عملياً يحث ملوك العرب على ضرورة فتح المدارس في بلدانهم، وكان ذلك جلياً في بلاد نجد والحجاز وعُمان واليمن، إذ ربما كان شكيب أول من حدّث إمامها بضرورة الانفتاح وتأسيس المدارس. والقارئ لمحاضرته المعنونة “النهضة العربية” سيجد ما يقرب العد للمؤسسات التربوية المبشّرة ببواكير نهضوية في كل قطر عربي.
وفي مقالاته الكثيرة في غير مجلة وجريدة والتي تعود إلى عشرينات القرن العشرين (الشورى، الفتح، الأهرام، مجلة المجمع العلمي، وسواها) رأى شكيب النهضة العلمية شرطاً لازباً لكل نهوض وتقدم. يقول من على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي:
“لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية إلخ، آخذاً بعضها برقاب بعض.” (مجلد 15، ص 416)
وكان شكيب من الوعي العلمي والتاريخي بحيث نصح العرب والمسلمين أن يأخذوا من علوم الغرب ما وسعهم، وأن لا يخشوا منها شراً يطال هوياتهم وشخصياته. لقد كان دفاعاً مستنيراً عن العلم والتقدم العلمي والتقني وإبعاداً لهما عن أية مضامين أو أبعاد أيديولوجية أو عرقية. يقول:
“أنصح للمغاربة أن يقتبسوا العلوم الأوروبية مع المحافظة على معتقداتهم ومشخصاتهم، وأنا لا اعتقد أن هناك علماً أوروبياً وعلماً شرقياً، فالعلم مشاع بين البشر أجمعين، واليابانيون أخذوا عن الغرب ما نفعهم، وحافظوا على شخصيتهم ودينهم….” ( مجلة الفتح، عدد شهر جمادي الأول، 1349 )
وفي مطلع محاضرته “النهضة العربية في العصر الحاضر” التي ألقاها في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937 – في زيارته القصيرة لسوريا يومذاك بعد توقيع الكتلة الوطنية مع فرنسا سنة 1936 والتي لم تدم طويلاً إذ سرعان ما تنكرت فرنسا لها – يضع شكيب ما يصح أن يكون قانوناً تاريخياً للنهضة، كل نهضة، يقول:
“نحن نتكلم الآن عن نهضة العرب العلمية، التي هي في الواقع أساس النهضة السياسية”، (نفسه، ص 23).
ويعمم الأمير شرط النهضة ذاك أكثر ليتجاوز النهضة السياسية إلى كل نهضة على الإطلاق فيقول:
“لا حاجة بنا إلى القول بأن أجلى مجالي هذه النهضة كان في العلم … وعندي أن لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات من سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية…” (نفسه، ص 24)
ويخلص الأمير شكيب من ذلك، ومن سواه، إلى قانون يختصر فيه – وكما كل قانون – أغلب الوقائع إن لم يكن كلها، فيصوغ قانونه الصلب على النحو الذي عرضناه قبل هنيهة:
“كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم، فما هي إلا ساعةٌ وتضمحل.” (نفسه، ص 24)
تلك هي إشكالية التأخر والتقدّم عندنا كما تصدى لها شكيب في معظم أعماله: كيفية توفير شروط النهضة والتقدم.
لم يتوان شكيب في الحض والدعوة إلى الأخذ بالعلوم الغربية وطرائق البحث المتصلة بها، كما رأينا، ولم ينظر إليها باعتبارها غربية.
أما في مسألة التربية والتعليم فقد كان أكثر حذراً في موضوع الاقتباس عن الغرب.
هو في المبدأ لا يرى أن التعليم الشرقي التقليدي في العالم الإسلامي قاطبة، على ما انتهى إليه في القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر، بات نافعاً في شيء. بل هو مظهر من مظاهر تخلف المسلمين، والشرق عموماً (حتى في الهند كما يقول).
مع ذلك فشكيب لا يأمن التربية الغربية كل الأمان، بخلاف رأيه في العلم الغربي. وقد بيّن في غير مكان أن سبب نهضة أوروبا هو أخذها بأسباب العلم والتعليم والتربية. إلا أن ما يريده الغربي من تربيته ليس هو بالضرورة أو تماماً ما يريد الشرقي. فمنظومة قيمنا، الدينية وغير الدينية، ليست هي نفسها منظومة قيم المجتمعات الغربية كما انتهى بها الأمر في العصر الحديث. وليس من سبب يدعونا للتخلي عن النقاط المضيئة في أخلاقنا وتراثنا وثقافتنا. فقيمنا ليست مسؤولة عن التأخر الذي حدث لمجتمعاتنا. ومن الممكن بالتالي المزاوجة بين التعليم الحديث والاحتفاظ بمنظومة قيمنا وما هو جيّد في تراثنا.
التحليل السريع للمسألة، سيكشف أنها مسألة إشكالية من الدرجة الأولى، بل لعلها الأكثر أهمية وإحراجاً، في الماضي كما في الحاضر، وبسبب ما تنطوي عليه مسألة التأخر والتقدّم من علاقة بالتراث المحلي؟ هل التراث ذاك عامل تأخر معيق للنهضة الحضارية ويجب اجتثاثه ليتحقق التقدّم بالتالي؟ أما أن له اعتبارات أخرى ليست بالضرورة مخالفة للتقدم أو مانعة له؟
نكتفي اختصاراً، وفي هذه العجالة، بنص متميز من شكيب، يظهر فيه عقله الجدلي المركّب، إذ يعلن فيه الانتماء كلياً إلى ثقافة العصر ركناً للتقدم المنشود، ولكن من دون شطط أو مبالغة أو أخذ بالمزاعم الغربية في الموضوع على وجه التحديد. يقول الأمير:
“أظنّ أن ثقافة العرب المستقبلة ستكون ثقافة عصرية، آخذة من التجدد بأوفى نصيب، لكن مع الاحتفاظ بالطابع العربي.” (نفسه، ص 39-40)
هذا هو الميزان الذي يضعه شكيب للتقدم والنهوض بالأمة العربية والأمم الإسلامية. ويضيف شكيب أن هذا الجمع بين المعاصرة والأصالة هو ما صنعه بنجاح العرب في حقب ازدهارهم العلمي والمادي والحضاري، ويضيف:
“هذا أشبه بما سبق للثقافة العربية في زمن بني العبّاس، وفي زمن بني أمية بالأندلس، حينما نقل العرب حكمة اليونان إلى لغتهم، واطلعوا على علوم فارس والهند، فجعلوا من هذه الثقافات الثلاث، ومن الثقافة العربية الأصلية، ثقافة جديدة عالية كانت أرقى ثقافة في القرون الوسطى… وهكذا ستكون ثقافة العرب بعد اليوم، لن تكون جامدة على القديم الذي ثبت للعرب المحدثين وجوب التعديل فيه والإضافة إليه، ولن تكون منسلخة من القديم، جاحدة في التبرؤ منه…”
ويخلص شكيب من ذلك إلى القول تفصيلاً وتحديداً في آن:
“ستكون ثقافة جامعة بين القديم والجديد، مختارة من كل شيء أحسنه، مع بقاء الصيغة العربية التامة غير المفارقة للعرب، وذلك على النحو الذي نحاه اليابانيون الذين اقتبسوا جميع علوم الأوروبيين ولم يغب عنهم منها شيء، ولا فاتهم من صناعات أوروبا دقيق ولا جليل، ولبثوا مع ذلك يابانيين أصلاء في لغتهم، وأدبهم، وطربهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع مناحي حياتهم. وحسب العرب قدوة للاقتداء، ومثالاً للاحتذاء، هذه الأمةُ اليابانية العظيمة التي لا يوجد أشد منها رجوعاً إلى قديم، ولا أخذاً منها بحديث. والآمال معقودة بأنه ستكون في الشرق الأدنى نهضة عربية علمية تضاهي النهضة العلمية التي رأيناها في الشرق الأقصى.” (ص 40)
هذا هو القانون الموضوعي الذي يرسمه شكيب للنهضة العربية المنشودة (كانت ولا تزال). لا يصحّ في شروط النهضة التبسيط، ولا أخذ عامل واحد على وجه الإطلاق شرطاً للنهضة والتقدّم. لقد كان عقل شكيب من العمق والتعقيد والموضوعية بالقدر الذي يؤسس لنهضة تكون جديدة تماماً (قول شكيب)، تأخذ بناصية كل جديد ضروري ونافع، ولكنها تكون أيضاً عربية وشرقية كذلك، لجهة اللغة والأدب ومناحي الحياة الشرقية التي أحصاها شكيب (ولاحظ معي مثلاً أنه لم يجعل من الاحتفاظ بالزي أو الملبس القديم شرطاً، وهو أمر يتقدّم فيه شكيب على الكثير من التقليديين في عصره كما اليوم).

6- الشرط النفسي أو الروحي
هو شرط حيوي آخر لم يملّ شكيب من التنبيه إلى خطورته وأهميته في مشروع النهوض والتقدّم. فالنهضة ليست فقط مجموع شروط تجتمع فتحدث النقلة إلى أمام أو التقدّم الحضاري. بل إرادة التقدّم والنهوض هي التي تجعل المشروع النهضوي ممكناً. فالشعب القانع الخانع الكسول لا يرى من حاجة للتقدّم ولا يمتلك الإرادة ليتقدم، بل الروح الوثّابة الطموحة هي التي تدفع دفعاً إلى البحث عن شروط التقدم، وتوفيرها، وتكون ذلك اللبنة الأولى أو الشرط الأول الذي إن لم يتوفر فلا معنى لتوفر الشروط الأخرى. هذا هو الشرط الأساسي الذي امتلكه العرب والمسلمون في أثناء فترات صعود دولتهم وحضارتهم وتقدمهم في الماضي، وهو أيضاً الشرط الذي فاتهم في أعصر انحطاطهم وتراجعهم في ميزان التقدم الحضاري.
في رسالته لأهل جاوة بإندونيسيا، كما في أعمال أخرى، لا يتردّد شكيب في جعل الانحطاط الذي حل بالروح الإسلامية سبباً في الانحطاط المادي والاقتصادي والسياسي اللاحق. فقد حل القعود عن العمل بديلاً للعمل المضني والشاق الذي كان للعرب والمسلمين في أعصر ازدهار دولهم. والقعود عن الجهاد أيضاً وحيث يجب سمح للفتح الغربي أن يحلّ هيناً في معظم حواضر العالم الإسلامي. فلا نزاع بالتالي في أن من أسباب القوة والمنعة، والنهوض بالدرجة الأولى، أن يتسلح المسلمون من جديد بالروح الوثّابة والإصرار والمثابرة على نيل استقلالهم وتحقيق نهضتهم وتقدمهم، وكذلك بالإيمان الحار ولكن من دون غلو أو تطرف أو مبالغة، فالقاعدة التي أرساها شكيب لا تزال صالحة: أعداء الإسلام اثنان، الجامد والجاحد، الأول الذي لا يرى ضرورة التغيير والتطور والنهوض والتقدّم، والثاني الذي لا يرى في الإسلام أية حسنة ولا له أي فضل. يقول شكيب:
“من أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم بدون النظر في ما هو ضار منه ونافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغيّر شيئاً ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي ظنّاً منهم بأن الاقتداء بالكفّار كفر وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفّار.” (لماذا تأخر المسلمون…، ص 77 )

ونكتفي هنا بنص واحد أخير من أعمال شكيب يختصر موقفه ورأيه في مسألة أهمية الشرط المعنوي والروحي، يقول:
“إن الإسلام لم ينتشر إلا بالقرآن وعمارة الصدور به إلى أن بلغ قراؤه من القوة المعنوية الدرجة القصوى التي مكنتهم من نواحي الأمم… فكل ما يقال من أن سبب الفتوحات الإسلامية هو مراس العرب للقتال أو حب البدو للغزو وغرامهم بالغنائم أو ملل الأمم المجاورة من ملكة حكامها، فهذا تضييع للمعنى الحقيقي وزيغ عن شاكلة الرمية. وإنما أمكنت هذه الفتوحات الخارقة للعادة بكلام منزل هو خارق للعادة، وبقوة معنوية أحدثها في النفوس خارقة للعادة أيضاً. ولقد كان العرب أهل حرب من قديم الزمان، وكان الأعراب مغرمين بالنهب والكسب من أيام الجاهلية، فلماذا لم يفتتحوا البلدان إلا بعد بعثة محمد؟” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 28)

7- التأخر والتقدم موضوعان
لا علاقة لهما بالدين
أما الموضوع الذي توقف عنده شكيب ملياً فهو ما قيل دائماً في وجه الإسلام والمسلمين من أن الدين الإسلامي حجر عثرة في وجه طموحات التقدم لدى الشعوب العربية والإسلامية، وما يقال بالتالي من اشتراط فصل الدين عن الدولة كشرط للتقدم السياسي والحضاري عموما.ً
بيّن شكيب في الموضوع الأول أن الإسلام لم يكن يوماً دين تأخر بل هو “دين راق بذاته”، وقد كان عاملاً مساعداً للتمدن الإسلامي في ذروة تقدم العرب في المشرق، كما في الأندلس، المكان الآخر الذي أضيئت فيه مشاعل التقدم الفكري والمادي العربي والإسلامي.
مع ذلك، وبخلاف ما يشاع عن فكر شكيب بعامة ومن دون تدقيق، فهو لا يقف موقفاً سلبياً حاداً من مسألة فصل الدين عن الدولة في الشؤون المتعلقة بالحياة الإدارية والتنظيمية العامة، يقول بوضوح:
“أما أن تنفصل الأمور الدينية عن الأمور الدنيوية فذلك ضروري لا نزاع فيه.” (حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 357)
إلا أن الفصل يجب أن لا يتجاوز ذلك، كأن يحاول انتزاع الإيمان الديني من روح المواطنين، كما حاول أن يفعل مصطفى كمال في تركيا الكمالية، وقد انتهت محاولته إلى ازدياد تعلق الأتراك بالدين الإسلامي. لكن شكيباً كان من الوعي التاريخي العميق بحيث جعل المسائل في مواقعها الصحيحة، فالتأخر لا يكون فقط مادياً، وليس الجهل وحده قاطرة الانحطاط، بل إن فساد الأخلاق، بل “فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص.. وظنّ هؤلاء أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون” (حاضر العالم الإسلامي، ص 268) هو عامل آخر حاسم في جلب اليأس إلى روح الأمة والانحطاط إلى أحوالها المادية وغير المادية.
وفي كل الأحوال، فالتحدي الحقيقي هو كيفية تحقيق النهوض الحضاري والتقدم العلمي والمادي من دون خسارة روحنا الشرقية، العربية والإسلامية. يقول شكيب:
“بقي علينا أن ننظر كيف يكون اتجاه الأمة العربية في المستقبل من جهة الثقافة! أتأخذ بالثقافة الغربية ولوازمها ومتمماتها إلى النهاية، أما تبقى معتصمة بثقافتها الشرقية الأصيلة، لا تبغي بها بدلاً، ولا عنها حولاً؟ أم تأخذ من الثقافتين معاً وتجعل من ذلك ثقافة خاصة لا شرقية ولا غربية؟” (النهضة العربية، ص 39)

نؤكد من جديد، إذاً، ومن خلال فكر الأمير شكيب أرسلان، أن الأخذ بشروط التقدّم والنهضة لا يعني الالتحاق بالغرب؛ لكنه لا يعني في شيء معاداة الدين، كل دين، والإسلام تحديداً رداً على مزاعم بعض المستشرقين والمغرّبين الذين روّجوا، ولا يزالون، أن الإسلام لا يتناسب ومجاري الحضارة الحديثة. لا تناقض بين الأخذ بأركان الإسلام ومستلزماته، والأخذ بأسباب النهضة ومستلزماتها، تلك هي توليفة شكيب أرسلان الحضارية. ويبرز شكيب في معالجته للمسألة جانبين مترابطين، واحد خبيث يروّج له الغرب، وآخر واقعي وعلمي وصحيح وقد مارسته أمم عدة في سياق نهوضها.

8- الاتحاد العربي السياسي والاقتصادي
هو المفتاح الأول لكل تقدم ومنعة
مع أهمية كل عناصر القوة التي ذكرناها، لكن أقواها على الإطلاق هو الاتحاد العربي، بل وحدتهم إذا تمكنوا. ذلك هو مفتاح قوتهم. يقول شكيب:
“وأما أسباب استخفاف الإنجليز بالعرب فيرجع إلى أمور كثيرة يطول شرحها، وإنما نجتزئ منها بذكر ما تراه إنجلترا بين العرب من النزاع الدائم والخصام المستمر، فهي تجد أمة شديدة البأس متوقدة الذكاء، إلا أنها مع كثرة عديدها مفككة الأجزاء مقطعة الأوصال…” (من مقالة له في الشورى المصرية في 20 أغسطس 1925)
ونقتطف من محاضرته عن الوحدة العربية في النادي العربي بدمشق في 20 سبتمبر 1937 قوله:
“لم يعد ممكناً إذاً أن يعيش العرب آمنين في أوطانهم، ما داموا مليوناً في هذا القطر، ومليونين في ذاك القطر، وثلاثة ملايين في ذلك القطر… وكل منهم لا يربطه بالآخر غير النطق بالضاد…لا أمل في ثبات العرب أمام دول كهذه [الدول الأوروبية الاستعمارية] إلا إذا كانوا متحدين جبهة واحدة في وجه الأجنبي الطامح”
ورأى تفصيلاً أنّ وحدة العرب لا تحدث دفعة واحدة، بل تدريجاً؛ وهي لا تتناقض مع الاستقلال الذاتي لكل قطر عربي. بل هو الطريق لمساعدة قويهم ضعيفهم فيستوي العرب اقتصادياً واجتماعياً؛ فما يجعل الشرط الاجتماعي مهماً لنهضة العرب إسوة بالشرط السياسي والاقتصادي، بل فصّل ذلك تفصيلاً في رسالة له إلى أكرم زعيتر. (راجع كتابنا “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي”)
لذلك عبّر شكيب في غير مقالة ومناسبة عن فرحته بنشأة جامعة الدول العربية ورأى إليها باعتبارها خطوة عقلانية نحو الوحدة. ويرى عدد كبير من الباحثين أن شكيباً ربما كان أول من دعا إلى كيان عربي جامع ومحتفظ بالخصوصيات في الآن نفسه، ومنذ سنة 1923، ثم في أزمنة أخرى لاحقة.
هذا هو، باختصار شديد، بعض إسهام الأمير شكيب أرسلان النظري والفكري والعملي في مسائل النهوض والتقدم وشروطهما ومستلزماتهما، إسهام جعل من شكيب مرجعاً تصبّ إسهامات من سبقه عنده، كما تصبّ الروافد في نهر عظيم، يستوعبها كلها ثم يُخرجها جديدة، في حلة قشيبة لها بيان الأدب حيناً وواقعية العلم وقوة المنطق في كل حين.
أما عن دور الأمير شخصياً في إطلاق نوازع النهضة، والدعوة لها، وفي التدليل على محاسنها، وتبيان شروطها، فلا تسلْ؟ وتكفي جملة واحدة استللتها من محاضرته “النهضة العربية” الذي ألقاها في المجمع العلمي بدمشق قبل نحو من ثمانين عاماً كافية لتختصر عظيم إسهام هذا المفكر المجاهد العالم الأديب الارفع المنقطع النظير لتصف بلباقة وموضوعية الجزء الشخصي من إسهام الأمير، يقول:
“… على أن النهضة الشرقية العربية، وإن كان قد ذرّ قرنها منذ قرن وأكثر، فهي لم تسر السير الحثيث إلا في الخمسين سنة الأخيرة التي شهدها كاتب هذه الأحرف بجميع صفحاتها… فلي الحق بأن أدّعي معرفة تاريخ هذه النهضة، وما دخلت فيه من التطورات، على قدر ما يستطيع خادمٌ أمينٌ للعلم زاول عمله في مكافحة الجهل طوال خمسين سنة دون أن يتخلّف يوماً واحداً!” (ص 12)
لله درّك يا شكيب، أميراً للبيان، وأقرأوا معي مفرداته: “خادم أمين للعلم” (وفي كل مفردة من المفردات الثلاث ما فيها من المعنى الدقيق)، ثم “زاول عمله في مكافحة الجهل” (وفي ذلك ما فيه أيضاً)، وذروة البيان والبلاغة والصدق أخيراً قوله: “دون أن يتخلف يوماً واحداً !” وفيه ما يكفي بياناً ولا يحتاج إلى شرح.

خاتمة
لا أجد ما أختم به مقالتي القصيرة هذه، أفضل ما ختمت به كتابي عن شكيب “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي” (طبعة أولى، بيروت، 1983، ثم ثانية، 1989، وثالثة، الدار التقدمية، 2008، ثم رابعة، الجزائر، 2013):
“عاش شكيب نصف عمره منفياً، وعاش عمره كله مجاهداً مناضلاً في سبيل ما اعتقده صحيحاً وحقاً مشروعاً… كان على الدوام صادقاً مخلصاً وأميناً…انجلت في أواخر أيامه كل سحابة، فحطّ رحال مسيرته الطويلة، واستقبل النعمى كما أراد بدار السلام، وفق رثاء شاعر القطرين خليل مطران له، في قصيدة طويلة مطلعها:
العـــالمُ العربـــيُ من أطرافـــــه بادي الوجوم منكس الأعلام
يبكي أميـر بيانــه يبكــي فتــى فتيانِه في الكرّ والإقدام
أشكيبُ حسبَ المجد ما بلغّته شرقاً وغرباً من جليلِ مقام
في كلّ قطر للعروبــة خُلّــدت ذكراكَ بالإكبار والإعظام
كانت حياتك دار حرب جزتَها فاستقبل النُعمى بدار سلامِ !

في الذكرى الحادية والسبعين لوفاته، رحم الله شكيباً، وطيّب ثراه، وستبقى ذكراه خالدة ما احتاجت أمتنا إلى رجال من وزنه، وإلى إخلاص في مثل إخلاصه، وإلى إسهامات فكرية وعلمية عميقة وغنية من نوع الإسهامات التي ملأ زمانه بها، فجعلته في العالم العربي والإسلامي، وعلى حد تعبير أمير شرق الأردن يومذاك، الأمير عبدالله، في يافا سنة 1947، “فوق كل فوق”!

قصّة نجاح من السويداء مستثمرون وطنيّون أوفياء

البساط الأخضر
مصنع رائد وناجح في مجال الاستثمار الزراعي في محافظة السويداء

في معمعان الأزمة التي تواجهها سورية وفي سنوات الدماء والخراب اللَّذين يعمّان الوطن هناك مستثمرون أوفياء لمجتمعهم أقدموا على وضع أموالهم قيد الاستثمار في سورية، وفي السويداء، ومن هؤلاء الأوفياء الأستاذ منصور حسن الصّفَدي وشريكه الأستاذ غسّان نسيب البريحي يقول الاستاذ الصفدي: “السيد غسان البريحي شريك لي، ومدير عام في مصنع البساط الأخضر وفي مزرعة عرى، وهو رجل جاد وصاحب خبرة لا يجاريه أحد في مجال عمله ويتمتع بخلق وأمانة لا تتوفر إلا في أفاضل الناس”، وانطلاقًا من اهتمامات الضّحى بهؤلاء النّخبة من رجالات بني معروف الذين اختاروا العمل في ميدان النّشاط الإنتاجي كان اللّقاء التالي مع الأستاذ منصور الصّفَدي:
من منصور الصّفدي في عين نفسه؟
أنا هو، منصور الصّفدي، من مواليد بلدة الغارية عام 1956، تخرّجت من الثانوية الفنّية الزراعية في السويداء عام 1975. منذ ذلك العام عرفت الاغتراب مُكْرَهًا خارج الوطن، عملت في ليبيا مدة ثلاثة عشر شهرًا في قطاع البناء. هناك تعلّمت تركيب السيراميك والرخام والصحيّة ونجارة الباطون، انتقلت بعدها إلى الأردنّ، وعملت في مدينة الزرقاء في المجال نفسه مدّة سبعة أشهر، وفي 3/8/ 1977 توجهت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. هناك واجهت صعوبة في التكيّف مع عوامل المناخ كارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، وانخفاض مستوى الدخل بشكل لا يكاد يفي بمتطلبات العيش، ولم يكن أمامي بدائل، عملت على تلك الحال أحد عشر عامًا دون الخروج من دولة الإمارات أو العودة إلى سورية ولو يومًا واحدًا، في تلك الظروف عملت على مضض، وشاءت الأقدار أن تؤول إليّ ملكيّة الشركة التي كنت مديرها بسبب سفر مالكها الذي تركها في وضع ماليّ سيّئ … كانت مغامرة فيها مجازفة، وكان يحفزني على الاستمرار فيها قول الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود:
فإمّا حياة تسرُّ الصّديق وإمّا ممات يغيض العدى


عملت بمثابرة، ووصلت ليلي بنهاري، فتمكّنت من إنقاذ الشركة والانطلاق بها لتوسيع الأعمال وتأسيس نشاطات جديدة أثمرت نجاحًا يتلوه نجاح، فلديّ حاليًّا شركة لتجارة مواد البناء لها ستّة فروع في دولة الإمارات، منها شركة لأعمال الأصباغ وشركة لكافة أنواع العزل ولي مشاركة في مصنع للبوليسترين (الفلّين الأبيض)، ومشاركة في شركة ديكور وفي شركة صيانة عامّة وفي شركة مقاولات عامة وفي شركة مبان عقاريّة أخرى، ومشاركة في اثنين من المتاجر. ولديّ طموح لتوسعة نشاطنا في إمارات أخرى لم ندخلها بعد.

وعلى الرغم من الظروف الداخلية والخارجية التي تواجه سورية فقد تمكنّا من إنجاز هذا المشروع خلال فترة لا تتجاوز الستّة أشهر

متى توجهتم بنشاطكم للاستثمار في سورية؟
منذ العام 1988 أخذ وضعنا المادي في الإمارات بالتحسّن ومنذئذ بدأنا بالاستثمار في سورية إذ تشكّل لديّ فائض من الدخل فتوجّهت لفتح مصالح في سورية في مجالات زراعية وتجارية وصناعية وعقارية تحت اسم “مجموعة منصور الصّفدي”. كانت رحلة كفاح توَّجَها الجهد والمثابرة للوصول إلى النجاح، فربّ ضارّة نافعة. بدأت بالاستثمار في قطاع النقل على خط دمشق السويداء، اشتريت حافلة ركاب كبيرة (سكانيا) وشاحنة مرسيدس قلّاب لنقل مواد البناء ومعدات أُخرى لم تزل قيد العمل بحمد الله، كما اشتريت:
1- 1500 دونم من الأراضي الزراعية موزّعة بين بساتين ومزارع
ومحاصيل حقلية لزراعة الحبوب.
2- صيدلية زراعية لدعم نشاطنا الزّراعي.
3- أنشأت معمل البساط الأخضر للكونسروة (موضوع بحثنا).
4- محل لبيع حديد التصنيع بالجملة.
5- محل لتسويق إطارات هانكوك (دواليب) للسيارات في المنطقة
الجنوبية من سورية.
6- معمل بيتون لتصنيع أحجار البناء.
7- منشر (معمل) لقص الحجر البازلتي وتسويقه في المنطقة
الصناعية غرب السويداء على طريق بلدة الثعلة.
8- ورشة تصليح غواصات الأبار الجوفية.
9- محل بيع قطع غيار وسيور (قشط) مراوح ومحركات ومكيفات
السيارات أو طرمبة المياه لتبريد المحركات..
10- مشاريع عقارية…
11- محل مخرطة معادن.

المبنى الرئيسي للمعملالمبنى الرئيسي للمعمل

 

فاكيوم إعداد مربى البندورة

فاكيوم إعداد مربى البندورة

وهكذا تناول نشاطنا عدّة مجالات تجارية وصناعية وعقارية، ومازلت أمارس نشاطاتي تلك بنجاح، يساعدني على ذلك نجاحي في مناخ الاستثمار العصري الذي تتمتع به دولة الإمارات حيث يتوفر جوّ الطموح لتحقيق الأفضل في كافة المجالات وهو قرار اتّخذته القيادات المعنيّة في الإمارات وقد التزم به قطاع الأعمال في كافة مجالات العمل. حقًّا إنَّ النجاح عدوى إيجابية.
ما النشاط الاستثماري الذي تقومون به في لبنان؟
في عام 2014 اتّخذتُ قرارا بالاستثمار في لبنان للربط بين أعمالي في الإمارات وأعمالي الكثيرة في سورية في مجال النشاط العقاري. شاركت في الشوف مع رجل أعمال لبنانيّ هو رائد زهير غنّام، بنشاط تجاري يتعلّق بالبناء (عمارة من 9 شقق) والاتجار في مواد بناء وخردوات وكهربائيات وأعمال مقاولات ومعرض لتجارة الحجر، مصادره من الداخل اللبناني ومن سورية ومصر… والعمل الذي نمارسه يبشّر بمستقبل جيد إن شاء الله، وما زالت قصة النّجاح مستمرة يرافقها إصراري على تخرّج كافة أبنائي الثّمانية (ثلاثة أبناء وخمس بنات) بشهادات جامعية، فقد تخرّج منهم أربعة، والأربعة الباقون مازالوا يواصلون الدّراسة دون المرحلة الجامعية. لديّ قاعدة في الحياة تقضي بأنّه على كل شاب وفتاة أن يحصل على شهادة جامعية على أقل تقدير… والحياة لا تعتمد على توفّر المادّة فقط، ولكن مع توفّر العلم والأخلاق فإنّ المادّة تصبح تحصيل حاصل…
ما المبدأ الذي تعملون عليه في نشاطكم الاقتصادي؟
إنني أعتبر أنّ الصدق في عملي هو الأساس الذي أرْتَكزُ عليه في مجال التعامل مع الآخرين، وأُشبّه النشاط الإنتاجي كَكَوْمة من القمح في بيدر؛ بحيث لا يمكنك زيادة ارتفاع كومة القمح دون أن تزيد من اتّساعها في القاعدة، ولئن أصبت خيرا فإنّك لا تستطيع زيادته دون أن تجعله يعمّ على من حولك، والأقربون أولى بالمعروف.

ما الدافع الذي حفزكم للعمل في مجال التّصنيع الزّراعي؟
إنّ مسألة الاستثمار في الزّراعة حاجة ضروريّة في مجتمعنا، إذ يمكننا عبرها تشغيل أعداد من الأيدي العاملة التي لا تحتاج إلى تدريب عالٍ، ثم إنّ المواد الأوّلية؛ من تربة مناسبة وماء وشمس؛ كل ذلك متوفر بحمد الله.

متى أسّستم شركتكم؛ مصنع البساط الأخضر؟
كان ذلك بتاريخ 16/ 12/ 2012 وعلى الرغم من فترة تصاعد المحنة السورية، فقد انطلقنا في عملنا الإنتاجي بشركة تضم الشّريكين؛ أنا، منصور حسن الصفدي، وصديقي غسان نسيب البريحي، وقد تم تأسيس الشّركة بناء على قرار رسمي رقم (312 /م. س)، بسجلّ تجاري رقم 1986، وسجل صناعي رقم 2.
وقد أسّسنا هذه الشركة لتواكب المتطلّبات الاقتصادية انطلاقًا من إيماننا المطلق باستثمار الموارد الطبيعية والبشرية المتاحة لتوظيفها في الوطن ومن أجل خدمة المواطن. وتبلغ مساحة العقار المشاد عليه المعمل 7000م2، أمّا مساحة البناء فتبلغ 3000م. وعلى الرغم من كل الظروف الداخلية والخارجية التي تواجه سورية فقد تمكنّا من إنجاز هذا المشروع بدءًا من رحلة التأسيس والبناء، وحتى مرحلة الإنتاج الفعلي والعمل الإنتاجي خلال فترة زمنية قياسية لا تتجاوز الستّة أشهر.

كيف تحصلون على الخضار والفواكه التي تصنّعونها؟
تمتلك شركتنا بستانًا مساحته 25000م2 من الأرض الزّراعية الخصبة قرب المعمل تروى من بئر جوفي بعمق 260م، بالإضافة إلى مزرعة قريبة من المعمل غرب بلدة (عرى)مساحتها 500 دونم تروى بالتنقيط بواسطة 3 آبار ارتوازية على عمق 500 م. فيها 30000 شجرة درّاق طلياني، ونكتارين ومشمش وخوخ (نوع جوهرة)، ورمّان فرنسي… ويعمل في المزرعة مئة عامل من محافظتيّ الحسكة ودير الزّور يقيمون مع أسرهم في المزرعة، كما نربّي في المزرعة أغنامًا وماعز وطيورًا متنوّعة من دجاج بأنواعه محلّي وفرعوني وبَراهمي وطواويس وإوز وبط وكروان وراماج والعاشق والمعشوق والفرّي والراماج وطيور الجن وحجل وحمام.

ما حجم الرأسمال الذي بدأتم العمل به ؟
بدأت الشركة برأسمال قدره 50 مليون ليرة سورية، أي ما كان يساوي نحو مليون ومئة ألف دولار حينذاك.

ما المجالات التي عمدتم إلى الاستثمار فيها؟
– كان ولم يزل هدفنا الاستثمار في مجال الخيرات الزراعية إذ قام عملنا على إنتاج وتعليب معجون الطّماطم (البندورة) وكافة أنواع الكونسروة من خضار وفواكه، وتعليب الطَّحينة والحلاوة الطّحينية.
ــ تبلغ الطاقة الإنتاجية السنوية لمعجون البندورة 1000طن
ــ كونسروة الخضار (حمّص، فول، بازيلّا) 300 طن
ــ كونسروة الفواكه 300طن
ــ الحلاوة الطحينية 125 طن
ــ الطحينة 50 طن

في المختبر
في المختبر
في المستودع
في المستودع

ما عدد العاملين في شركتكم؟ وهل حققتم الهدف الإنتاجي الذي خططتم له؟
ــ عدد العمال لدينا: 32 عاملًا، يعملون على ثلاث وارديات، الإداريون والمهندسون والفنيون عددهم 15، وفي فترة الذروة من موسم الإنتاج يصل عدد العاملين لدينا إلى 70 عاملًا.
وقد حققت شركتنا الطاقة الإنتاجية المخطّط لها خلال الموسم الثاني من انطلاقتها، ويتم تسويق إنتاجنا سنويَّا، ونعزو هذا لجودته من حيث كونه يتمّ حسب المواصفات السورية الصحّية والمعترف بها دوليًّا ممّا يتسبب بجديّة الطلب عليه.
كما قامت شركتنا بفتح أسواق لها في أكثر من دولة مجاورة، العراق ولبنان والأردن، وقبرص وحدها تستورد (56 طنًّا من المعلّبات)، هذا بالإضافة إلى جميع المحافظات السورية بمنتجات منافسة من حيث الجودة والمواصفات ومن حيث السعر أيضًا ، وهذا يتم في ظروف متقطعة تتأثر بالوضع الأمني للطرقات بسبب الأحداث المأساوية التي تعيشها البلد..
ولم نتوقّف عند هذه الحدود بل هناك العديد من التّصورات والخطط الاستراتيجية المستقبلية فيما يصبّ في مصلحة الشركة والعاملين فيها، ومصلحة الوطن على حد سواء ومن أمثلة ذلك:
1- السعي إلى تحسين خطوط الإنتاج بخطوط إنتاج عالمية
ذات كفاءة عالية تساهم في العملية الإنتاجية من حيث التسريع والاستثمار في الوقت المتاح، وتقليص الوقت الضائع والهدر غير الطبيعي، وتحسين المنتج بمواصفاته الفنية والشكلية.
2- فتح أسواق جديدة ونشر المنتج فيها وفي جميع أرجاء العالم،
وفرض الحالة التنافسية مع المنتجات العالمية المماثلة من حيث:
أ- الوصول إلى أعلى درجات الجودة (أيزو)، والحصول على
الامتيازات والتقديرات العالية.
ب- فتح منافذ تسويق إلكتروني وتحقيق متطلّبات الزبائن.
ج- ابتكار منتجات جديدة ترضي أذواق كافة المستهلكين.
د- إحداث طرق صناعية غير مسبوقة في المنتجات التقليديَّة.

لبنانيون في اليمن

لبنانيون في اليمن

نجيب أبو عزّ الدين

في صيف 1934 نشبت حرب بمقاييس ذلك الزمان بين ملك المملكة العربية عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يحيى حميد الدين، وذلك في خلاف على منطقة عسير التي يعتبرها اليمنيون تاريخياً جزءاً من اليمن كونها ولاية من ولايات بلادهم أثناء الحكم العثماني وقبل أن يستقل بها فعلياً محمد الإدريسي. ووصل الأمير فيصل نجل الملك عبد العزيز ورجاله المزودون بعقيدة ناشئة وبأسلحة أكثر حداثة إلى ميناء الحديدة اليمني بعد تراجع قبائل ومقاتلي اليمن بقيادة الأمير أحمد ولي العهد اليمني. وتداعت القيادات والشخصيات العربية والإسلامية الناشطة آنذاك إلى تشكيل لجنة لإصلاح ذات البين بين العاهلين العربيين المستقلين عن الإنتدابين البريطاني والفرنسي، واللذين اقتسما القسم العربي من السلطنة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأُولى، وذلك بموجب اتفاق سايكس بيكو عام 1916.
وكان من بين أعضاء اللجنة (الرباعية) الأمير شكيب أرسلان المناضل العربي والإسلامي الذي كلفته مواقفه وسياسته ضد الانتداب، خاصةً الفرنسي، النفي إلى سويسرا حيث راح يتابع حياته السياسية من هناك، ويراسل زعماء حركات التحرر والإستقلال في كل من لبنان وفلسطين والمغرب والجزائر وتونس، ويعقد صداقات متينة ورصينة مع زعماء العالم العربي آنذاك، وقد نجحت هذه اللجنة في إيقاف الحرب بين الطرفين، وتمّ عقد اتفاقية الطائف عام 1934، وتراجعت القوات السعودية الى الحدود الحالية بين البلدين، وظلت اتفاقية الطائف تحكم العلاقات بين البلدين رغم عدم إقتناع حكام اليمن بها، إلى أن كرّس الرئيس السابق علي عبد الله صالح هذا الاتفاق بموجب اتفاق جدّة عام 1990.
وتعود علاقة الأمير شكيب باليمن إلى الفترة التي كان فيها نائباً في مجلس «المبعوثان العثماني» وصديقاً للأعضاء اليمنيين فيه، وهو كتب تقريراً وافياً عن رحلته إلى بلاد الحجاز، وقدّم إقتراحات مفصّلة عن وجوب تطوير علاقة السلطنة بولاياتها اليمنية البعيدة، ومن بين الاقتراحات تمديد خط سكة حديدية من ولاية الحجاز آنذاك إلى اليمن على إمتداد البحر الأحمر، حتى إن الموظف العثماني يوسف بك حسن من قرية بتلون الشوفية حين عيّن قائمقاماً على أحد أقضية اليمن ووصل إليها عام 1910 كان يقول إنه رسول سياسي وسري للأمير شكيب الى اليمن وإنه مبعوث الأمير اليها، كما قال الصحافي والمناضل عجاج نويهض. صحيح أن علاقة الأمير شكيب بالإمام يحيى كانت سبقت التوسط في إنهاء الخلاف بين العاهلين الجارين إلا أن اهتمامه باليمن قد زاد بعد ذلك، وقد صُدِم بتخلف هذا القطر وعزلته عن العالم،

نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني
نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني

 

 

ذهب إلى اليمن بتشجيع من الأمير شكيب أرسلان
فأمضى فيها عقدين كاملين ولعب فيها أدواراً مهمة

وكان القادة والمناضلون العرب والمسلمون يعولون أن يكون الإمام يحيى وعاصمته صنعاء منطلقاً أو مركزاً لكيان سياسي ما يجتمع العرب تحت ظلاله، خاصةً بعد فشل تجربة الهاشميين في الحجاز وسوريا. واقترح الأمير شكيب إطلاق نهضة عربية عن طريق الإستعانة بالشباب العربي الناهض المتعلم والمتخرج من الجامعات في كل من لبنان ومصر وفلسطين والعراق لإطلاق هذه النهضة، التي تشمل قطاعات الإدارة والتربية والتعليم والمواصلات والجيش أهم عوامل قيام الدولة الحديثة. ولهذه الغاية، إتصل الأمير بمعارفه في لبنان وخارجه من أجل تشجيع الشباب المتعلم للذهاب إلى اليمن، إلا أن الإمام يحيى خيّب أمل كل هؤلاء وآثر أن تبقى إمامته تطوق أراضي اليمن وتمنع عنها رياح التغيير المتمثل بالعوامل المذكورة، أو الإستعانة بالغرباء، مع ما قد ينتج عن هذه الرياح من فساد وإفساد خلقي وديني!!
هكذا كان قدر نجيب سعيد أبو عزالدين أن يكون من بين الذين دعاهم الأمير شكيب للذهاب الى اليمن رغم معرفته بصعوبة المهمة والتي اقترح الأمير أن تكون لمدة سنة على سبيل التجربة مشبّهاً إياها بـ “الخدمة الإجبارية” في بلد عربي!! والشاب نجيب المولود في 1909 تخرّج من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وهو ابن سعيد الموظف الذي خدم في السودان التابعة آنذاك لراية ملك مصر (تحت الحماية البريطانية)، وشقيقه الأصغر حليم، السفير لاحقاً في وزارة الخارجية اللبنانية. هذه العائلة الدرزية من بلدة العبادية معروفة بعِلمِها وعملها في الإدارة والقضاء والشأن العام منذ عهد المتصرفية، ولما لم تعد المتصرفية ولبنان الانتداب لاحقاً، يستوعبان علم وطموح ونشاط أبنائها فقد وصلت بهم أقدارهم إلى السودان ومصر واسطنبول وكذلك سويسرا، حتى إن الشاب نجيب كان قد خرج من المساحة الضيقة للعمل في لبنان الانتداب وتوظّف في مشروع منتجع مياه الحمة في فلسطين، والذي كان يملكه متمول من لبنان من عائلة ناصيف من بلدة المختارة الشوفية، وخلال عمله هناك تلقى رسالة من والده نقل إليه فيها عرض الأمير شكيب عليه الذهاب إلى اليمن، ولو لسنة واحدة للتجربة، خدمة للعروبة التي كانت الأزمات التي أصابتها تؤرق فكر الأمير، ورغم أن معرفة نجيب باليمن كانت كمعرفة باقي المتعلمين قليلة جداً، ورغم استشارة بعض الذين التقاهم، ومن بينهم الناشط السياسي والمفكر أمين الريحاني الذي زار اليمن عام 1922 وقابل إمامها، والذين نصحوه بالصبر والاستعداد لتحمل المشقة، ورغم الرسالة المبهمة التي تلقاها الأمير شكيب من الإمام بهذا الشأن والتي تعطي إنطباعاً واضحاً عن عقليته وأسلوبه في إدارة البلاد، نقول رغم كل ذلك تحمس الشاب للذهاب مثل بعض أقرانه اللبنانيين العاملين في كل من العراق والمملكة العربية السعودية.

نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع
نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع

عشرون عاماً في اليمن
أمضى نجيب أبو عزالدين عشرين عاماً في اليمن بدأت في أيلول عام 1936 وانتهت في أواسط العام 1956، نصفها في اليمن الإمامي الشمالي على مرحلتين والنصف الآخر في عدن مع البريطانيين، وهي مدة تعتبر طويلة في الظروف التي كانت تمرّ بها اليمن آنذاك، ورغم أن جميع الأطراف التي عمل معها قد طلبت منه الاستمرار، إلا أنه آثر، بعد عشرين عاماً، الاعتذار عن عدم مواصلة عمله هناك والعودة إلى لبنان. وكان من بين الأسباب التي دعته إلى ذلك وفاة والده من جهة ثم اعتلال صحته من جهة أُخرى، وكان قد أجرى أربع عمليات جراحية وعانى الكثير حتى إنه إضطر أثناء الحرب العالمية الثانية ومن أجل العلاج أن يسافر إلى لبنان عن طريق الهند ثم البصرة ثم براً الى بيروت!!) وهو شكا يوماً أن كل أمراض اليمن استقرت فيه!

مع الإمام يحيى
دامت هذه المرحلة ثلاثة عشر شهراً فقط، من أيلول 1936 لغاية تشرين الأول1937، وتعتبر هذه المدة من أصعب المراحل في حياته المهنية. وكما كان مفترضاً فقد التحق بوزارة الخارجية والاتصالات، وفوجئ أن الوزارة تقوم على موظف واحد هو التركي محمد راغب الذي خدم السلطنة العثمانية كقائمقام في طرابلس الشام ثم كمتصرف في اليمن قبل أن يستدعيه الإمام يحيى للخدمة بعد سقوط السلطنة. وقد شكا هذا “الوزير” لاحقاً في عهد الإمام أحمد من ضعف دوره في مواضيع العلاقات الخارجية وإهماله من قبل الإمام وأبنائه. وكانت الوزارة تتألف من غرفة في المبنى الحكومي، وكان على الموظف الجديد “نجيب” أن يترجم كل ما يصل المملكة من تقارير وطلبات وعروض أسعار، إضافة إلى أمور ليست لها علاقة بالوزارة، لأنه كان المترجم الوحيد!! كان عليه أن يستقبل الفضوليين في المكتب، يأتونه دون موعد أو سبب، ومنهم من يأتي فقط كي يستمع إلى الراديو الوحيد الموجود والمسموح به. كان على نجيب أن يتابع ما أمكن من نشرات الأخبار، ومنها نشرة أخبار إذاعة برلين باللغة العربية، وان يقوم بإعداد تقرير شبه يومي عن أحوال العالم يرفعه للإمام!!
كانت جلسة العمل الحكومي تجري حين يصل الإمام الى الديوان، فيجلس على فراش أعلى من غيره يحيط به بعض “سيوف الإسلام” من أبنائه والمكلفين ببعض المهام، وبعض الموظفين الذين يعرضون عليه أعمالهم، حيث يقرأها موظف ويبت هو فيها ويوقّع عليها بخاتمه، ثم يستمع لبعض الحضور قبل أن يخرج الى قصره للغداء، وللإستعداد لجلسة القات عصراً التي تعتبر جزءاً من العمل كذلك.
كانت الآلة الطابعة التي استقدمها معه نجيب موضوع تعجب واستغراب من الإمام والحضور في المجلس، حتى إنه طلب منه مرة أمام حضرة الإمام أن يشرح كيف يضع أوراق الكاربون بين الصفحات ويطبع بسرعة دون النظر إلى مكامن الحروف، ثم يسحب خمس نسخ من أية صفحة يطبعها!! لا بل صدم مرة حين دخل إلى المكتب موظف لوضع قيد حديدي في رجليه مبلغاً إياه أنه معاقب مع زميل له لخطأ طباعي وقعا فيه! وهو الذي كان عليه أن يعمل مساءً على ضوء قنديل كاز (نمرة 4) لينهي ترجماته وتقاريره الفائضة عن عمله في المكتب.
بدأت الأحوال تسوء والشكوى من كثرة العمل والإرهاق تتسع، علاوة على أن الحذر الدائم منه والشك به وشعوره بقلة الثقة بشخصه جعلته يفكر بعدم تجديد العقد الذي كان مقرراً لسنة واحدة قابلة للتجديد، ولما نقل تبرّمه إلى ولي العهد مطالباً بتحسين أوضاعه الوظيفية والمادية ورغبته بالعودة الى وطنه، أجابه هذا ممازحاً أن عليه أن يختار بين المتابعة في العمل وبين دخول السجن!! لكن المرض وندرة الأطباء (طبيب إيطالي واحد) عجّلا في حسم خروجه من صنعاء مرفقاً بشهادة إنهاء الخدمة التي حملت عبارات عمومية وجافة أوحت له بنكران الجميل وقلّة التقدير.

الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري
الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري

 

في حكومة عدن
وعلى عكس الإحباط وعدم التقدير اللذين حملهما “نجيب” من تجربته مع الإمام يحيى وأولاده، عرفت حكومة عدن البريطانية قيمته، وقدرت الحاجة إليه، واستفادت من تجربته في الشمال، ومن معرفته بأطباع الإمام وسياساته، ومن إجادته للغات، وعيّنته ضابط ارتباط سياسياً وأُسندت إليه مهاماً تضخمت مع الوقت ومنها:
1. تسوية الخلافات القائمة بين السلطنات المتحالفة مع حكومة عدن، ومنها الخلافات حول توزيع المياه النادرة والاختلاف على المراعي.
2. تسوية الخلافات بين هذه السلطنات وحكومة عدن خاصةً تلك المتعلقة بتوزيع الرواتب على السلاطين وحاشياتهم والمخصصات التي كانوا يطالبون بها. وكم من مرة عبّر عن دهشته واستغرابه لشعوره أنه عاد الى القرون الوسطى خلال زياراته الى السلطنات من أجل حل بعض القضايا العالقة بين الحكام وأنسبائهم ورعاياهم.
3. تسوية الخلافات والتعدّيات الحاصلة بين السلطنات المحاذية لدولة اليمن الإمامية الشمالية، حيث اشتكى السلاطين غالباً من جور الإمام وتعديات عماله على أراضيهم خاصةً أن هؤلاء العمال كانوا يعيبون على السلاطين والتابعين لهم عمالتهم للمحتل البريطاني ويصفونهم بالخونة للإسلام والعروبة!!
ومن أفضل من هذا الضابط الأشقر البشرة والعربي اللسان ليتعاطى مع هذه الأزمات الدائمة الوقوع، التي يصعب على الضابط البريطاني التعامل معها! لا بل أصبح “نجيب” صلة الوصل بين مسؤولي حكومة عدن ومبعوثي الإمام العلنيين والسريين. ويكشف أبو عزالدين بعض السياسة السرية التي كان ينتهجها الإمام مع البريطانيين، فبينما كان يهاجم الإنكليز علناً وجهاراً لأنهم استعماريون ومحتلون، إذ به يرسل، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، مندوباً رفيع المستوى بمهمة سرية إلى ضابط الإرتباط ليشجع الإنكليز على احتلال مضيق باب المندب خوفاً من أطماع إيطاليا الفاشية، والتي كانت تحتل أثيوبيا وأريتريا والصومال، وتحاشياً لسيطرتها على سواحل البحر الأحمر من جهتيه، غير إن مصالح الإنكليز آنذاك وبعد نظرهم الاستعماري جعلهم يرفضون هذا العرض حتى لا يستعدوا العالمين العربي والإسلامي.
كما إن بوادر العمل السياسي بدأت تظهر لدى أبو عزالدين. فنتيجة للسياسة القمعية للإمام يحيى وولده أحمد، حاكم تعز، تجاه العناصر المتنورة في البلاد وانتشار بعض الأفكار التحررية في بلدان العالم العربي ومقاومة الاستعمار وتأثر اليمنيين بهذا الجو، اضطر بعض المتعلمين في اليمن الإمامي لأن يلجأوا إلى عدن ويطالبوا بالإصلاح والديمقراطية، وطلب بعضهم

شيبام في حضرموت عام 1945
شيبام في حضرموت عام 1945

اللجوء السياسي رسمياً، ما جعل النفور يزداد بين حكومة عدن وحكم الإمام الذي طالب بإعادة هؤلاء المعارضين أو طردهم من البلاد. وبات أبو عزّ الدين يلتقي سراً أو علناً مع هؤلاء، أمثال محمد الزبيري الذي قتل في ما بعد والأستاذ أحمد محمد نعمان، وهذا ما جعل وضع أبو عزّ الدين حرجاً تجاه السلطتين الجنوبية والشمالية، حتى إن موظفي الاستخبارات البريطانيين لم ينظروا بعين الرضا الى لقاءاته التشجيعية لهذه العناصر التحررية المطالبة بالاستقلال والمتأثرة بالجو السياسي المتنامي.وكان “نجيب” يساعد هؤلاء العناصر على صياغة بيان سياسي أحياناً أو على تخفيف ملاحقة الإنكليز لهم احياناً أخرى. لقد استمرت صداقته لهؤلاء اللاجئين حتى عندما عاد لاحقاً للعمل مع ولي العهد سيف الإسلام أحمد، الذي لبّى رغبته بتخفيف الحكم عن المناضل الأستاذ أحمد محمد نعمان المسجون في سجن مدينة حجة (وكان اسم هذا السجن يوحي بالرعب) ثم بالإفراج عنه!! ورغم الاتكال عليه من قبل حكومة عدن كان أبو عز الدين يطالب بتحسين وضعه الوظيفي، خاصةً أن صحته تراجعت نتيجة لذلك العمل في المناخ اليمني المضني. ولهذا لبى دعوة وجّهها اليه ولي العهد أحمد، أثناء زيارة رسمية له إلى عدن، للعودة إلى العمل معه في تعز ثم في صنعاء، الأمر الذي اعتبره “نجيب” إعترافاً من ولي العهد بأهميته.

مع الإمام أحمد
فشل انقلاب 18 شباط عام 1948 بالتخلص من الحكم الإمامي، رغم مقتل الإمام الكهل والمريض يحيى وإثنين من أبنائه ورئيس وزرائه عبد الله العمري، وسارع الإمام أحمد بالعودة من تعز ليقضي، بالتعاون مع القبائل، على العهد الجديد قبل شهر آذار من العام ذاته، حيث نكّل بالانقلابيين وسجن بعضهم. تلقى السيد أبو عزّ الدين برقيتين متلاحقتين من شقيق الإمام أحمد يلحّ عليه بالعودة إلى تعز للعمل مع الإمام الجديد وكان قد طلِب منه قبل الاستدعاء بحوالي سنة الإلتحاق بالوفد اليمني الذاهب الى لندن لحضور الطاولة المستديرة حول القضية الفلسطينية، رغم أنه لم يكن مرتبطاً بالنظام الملكي، فإن الحاجة إلى مهارته وخبرته السياسية وقدراته اللغوية باتت ملحة أكثر من قبل ، خصوصاً بعد أن أبصرت الجامعة العربية النور وأصبحت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل للعالم العربي، وبات الانفتاح أو الاهتمام بالشأن الإقليمي والدولي حاجة إضافية للنظام اليمني بعد أن أصبحعضواً مؤسساً للجامعة، مما حتّم خروج هذا النظام مما كان معتاداً عليه من عزلة وعدم مشاركة في القضايا العربية.
عاد أبو عزّ الدين إلى الشمال مقدَّراً ومستفاداً من خدمته وخبرته السابقتين للإمام الراحل ولولده الإمام الحالي، وقد تلقى عبارات التقدير والثناء من الإمام ومن كبار المستشارين، وأنزله الإمام في دار الضيافة في تعز ليظل قربه وليشرف على راحة الضيوف الرسميين، وليتابع جهاز راديو البطارية الوحيد الذي ينقل أخبار العالم ولتعود غرفته من جديد ملتقى الفضوليين ونزلاء دار الضيافة. وأُضيفت إلى مهامه وظيفة جديدة حساسة وهي تدريس ولد الإمام، الإمام البدر، اللغة الإنكليزية ومبادئ القانون الدولي على اعتبار ما سيكون له من دور في المستقبل، ولما رأى أن المسؤوليات التي باتت تلقى عليه بهذا القدر من الأهمية، طالب بالحصول على لقب “سفير”. ولعلّ السيد نجيب تمنى الحصول على هذا اللقب لوجود بعض أقرانه اللبنانيين يعملون كما أسلفنا في العراق والمملكة العربية السعودية، وحصلوا على لقب مماثل، كما هي الحال مع فؤاد بك حمزة اللبناني من بلدة عبيه، والذي حصل على ذلك اللقب في السعودية، علاوة على أن أخاه حليماً صار بمثابة قنصل عام لبناني في القاهرة، وقد التقى به نجيب مرة هناك أثناء مروره بالقاهرة.

مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946
مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946

دور سياسي ودبلوماسي
لم يلب الملك يحيى، الذي لم يكن متساهلاً كعادته رغبة نجيب وأقنعه بأن كونه المستشار السياسي الأوحد له يفوق هذا اللقب! وكانت وزارة الخارجية قد “ تضخمت” وباتت تضم حوالي عشرة موظفين ومن بينهم السيد سامي أبو عز الدين الذي استقدمه نجيب ليعمل معه في الوزارة لمدة يبدو أنها لم تطل كثيراً! وكون “نجيب” قد صار مسؤول المراسم وقريباً من الملك، فإنه بات يتابع معظم اللقاءات والزيارات والوفود التي كانت تزور تعز، ولقد روى بعض الأحداث الطريفة التي كان شاهداً عليها ومنها تقديم أوراق اعتماد سفير باكستان. كانت باكستان عضواً في رابطة دول الكمنولث في ذلك الحين، وكان سفراؤها يقدمون أوراق اعتمادهم باسم جلالة ملكة بريطانيا، وهذا ما رفضه الملك أحمد واعتبره إهانة للإسلام أن يقدم سفير مسلم أوراق اعتماده باسم ملكة بريطانيا!! عقد كبار رجال الخارجية إجتماعاً هاماً وزاروا الإمام راجين منه أن يقبل كتاب الرئيس الباكستاني بمثابة أوراق اعتماد والضرب صفحاً عن كتاب الملكة. “وقد ألهم الله جلالته قبول رجاء المسؤولين في الخارجية فقام السفير بمقابلة جلالة الإمام وقدم له أوراق اعتماده الرسمية” قبل أن يعود الى مقر إقامته في القاهرة!
هكذا صار الأستاذ نجيب جزءأً ضرورياً من الجهاز الإمامي الدبلوماسي اليمني يمارس البروتوكول والترجمة والعلاقات العامة والنصح للإمام الناشئ ولي العهد البدر، وكذلك عضواً في البعثات اليمنية التي ستنتدب الى خارج البلاد. ففي أواخر العام 1948 تشكل وفد يمني رفيع المستوى برئاسة الإمام البدر غايته التوسط في الخلافات وحل النزاعات الناشئة بين بعض الملوك والرؤساء العرب، وكذلك تدشين سياسة انفتاح يمني تحل محل سياسة العزلة التي تميزت بها السياسة اليمنية تقليدياً، واستهدف الوفد أيضاً التعرّف على ما كان يجري في العالم العربي، وقد شعر أبو عز الدين بالفخر لهذا الانفتاح واعتبره نتيجة تأثيره وتعاطيه الدائم مع الإمام البدر وشملت الزيارة، الرسمية والسياحية، كلاً من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وسوريا ولبنان ومصر ودامت مدة 125 يوماً قابل خلالها ولي العهد والوفد الرسمي كل المسؤولين في هذه البلدان، وكان للسيد نجيب دور في تكريم واستضافة الوفد في لبنان وفي عقد معاهدة سميت “معاهدة الصداقة والتجارة بين لبنان واليمن”، وجرى تعيينه لاحقاً مرافقاً للوفد اليمني إلى دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول 1949، وساهم في ما بعد في إنشاء المفوضية اليمنية المتوكلية في واشنطن عام 1951.

الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد
الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد

مديراً في هيئة الأمم المتحدة
استفاد السيد أبو عز الدين من وجوده في نيويورك لينتقل الى الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة بمنصب مدير مساعد لقسم الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أوصله هذا المنصب ليكون بين عامي 1954 و 1956 مستشاراً وضابط ارتباط في بعثة الأمم المتحدة في الصومال خلال فترة نقل هذا البلد من الاحتلال الإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية الى أصحاب البلاد الشرعيين. هذا الانتقال للعمل في المنظمة الدولية لم يتم برضا الإمام، فإذا به يستدعيه لمرافقته إلى جدة لحضور جلسات الحلف الدفاعي الثلاثي الذي انعقد بين الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس جمال عبد الناصر وإمام اليمن، وشارك “نجيب” في هذا الاجتماع الهام رغم كونه ما زال محسوباً على هيئة موظفي الأُمم المتحدة في الصومال.
لم يسمح إعتلال صحة “نجيب” بمتابعة عمله وتنقله في مناخ غير مؤات في اليمن أو الصومال، فآثر العودة رغم إلحاح الإمام احمد وولده البدر عليه بالبقاء ومحاولة إغرائه بتحسين وضعه الوظيفي والمادي، وقد تزامن اعتلال صحته مع وفاة والده عام 1956 فاستقر في لبنان نهائياً.

كتابان عن أيامه اليمنية
أرّخ الأُستاذ نجيب أبو عزالدين تجربته اليمنية في كتابين: الأول بعنوان “الإمارات اليمنية الجنوبية 1937-1947” وصدر عام 1989، والثاني بعنوان “عشرون عاماً في خدمة اليمن” وصدر عام 1990. وفي حين اقتصر الكتاب الأول على تجربته وعمله ومغامراته في القسم الجنوبي من اليمن الخاضع للحماية البريطانية، صدر الكتاب الثاني بصورة أشمل وأعمق، ويبدو أنه كان يدون قسماً من مضمون الكتابين على شكل مذكرات كتبها أثناء عمله ثم عاد ليصيغها من جديد بأُسلوب فيه من السلاسة واللباقة، والسخرية أحياناً، للتعبير عن غرابة الموقف والحدث. وتنمّ تجربته عن الصدق والمثابرة والتواضع وحتى التفاني والصبر في ممارسة عمله، مما أكسبه تقدير وثقة من تعامل معهم في ناحيتي اليمن، ولو لم يكن يتمتع بهذه الصفات لما تحمّل ما تحمّله، ولما صار موضع ثقة الإمام وأبنائه رغم حذرهم منه غالباً، ومن كل غريب يتعامل معهم.
والى جانب الأحداث والمهام الموكلة إليه، جمع الأستاذ نجيب كمية كبيرة من الملاحق والوثائق ونصوص المعاهدات، كذلك أضاف الى تدوين تجاربه معلومات عن المحميات الجنوبية وطرق تعاطيها مع البريطانيين، كذلك عن عادات الأئمة وتاريخهم دون أن يتطرق الى مذهبهم الزيدي إلا لماماً، لذا يبقى هذان الكتابان مرجعاً لنصوص المعاهدات والاتفاقيات المبرمة آنذاك، وهي نادرة الورود في مراجع يمنية أُخرى. وهو لم يستند إلى تجاربه ومشاهداته فقط، إنما تزود بمعلومات قيمة من مراجع إنكليزية وعربية، ما زالت حاضرة في مكتبته، هذا الى جانب مجموعة من الصور النادرة عن بعض الأئمة أو الأمراء والسلاطين والضباط البريطانيين والشخصيات التي التقى بها.

دار الهجرة - وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي
دار الهجرة – وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي

لقد عزّ على الأستاذ نجيب ألا تنال هذه العشرون سنة من خدمة اليمن التقدير اللازم ومن التعويض المعنوي والمادي، كما لم يحصل على أي لقب يليق بما قدمه، مثل لقب سفير أو ممثل دولة أو ملك كما حصل على مثله بعض من خدم في عواصم أُخرى. ونحن حين نعود الى سيرة الأستاذ نجيب والكلام عن تجربته في اليمن، نكون قد أعدنا ذكراه إلى الضوء وأوفيناه بعض التقدير الذي كان يستحقه، لينضم الى قافلة عريقة من شخصيات عائلة أبوعز الدين، وليبقى علماً من أعلامها في الوطنية والخدمة العامة في لبنان والخارج.

نجم أبو عاصي بعد خمسة وستين سنة غربة

نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه

في لبنان الكل يسأل عن دينك أما في البرازيل فلا أحد يسألك «لا شو دينك ولا شو معك ولا شــــو عليك»

نورا: الإلفة هي أجمل ما في لبنان لكن الناس يدخنون بكثرة وزحمــــة سيـــــر كبـــــــــيرة

نجم أبو عاصي بعد
خمسة وستين سنة غربة

مش مصدِّق إني بالمعاصر !

نبيه ونجم ونزيه في جلسة فاكهة وذكريات
نبيه ونجم ونزيه في جلسة فاكهة وذكريات

ظهر كمال بك فجأة ليعينني على رفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة، وعندما رآه الناس بُهتـــــــــــــــــوا وراحــــــــــوا ينادونه «لا يا بيك لا يا بيك»!!

قف وأسند راحتيه على الحافة الحديدية في أعلى نقطة مشرفة على كل القرية، كانت عيناه تسرحان في ضيعة تختزن ذكريات طفولته، ضيعة تغيّرت كل معالمها لدرجة أنه لم يعرفها لكنه عرف جبالها وبريتها واخضرارها الممتد حتى القمم كما عرف أيضاً أن حبه لهذا المكان لم يتغير أبداً.
> ما هو شعورك وأنت تنظر إلى المعاصر؟
إستدار وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة وفي عينيه لمعة حزن: “حاسس حالي عم بحلم، ما عمصدق إني بالمعاصر”… هو أيضاً لا يصدّق أنه يرى أبناء وبنات شقيقته وأشقائه وكل ما التقى أحدهم سأله “أنت مصدّق أني هنا أمامك… أنا لا أصدق”.
عشرون يوماً منذ وصوله من البرازيل وهو يحاول أن يعوّض ولو قليلاً ما فاته خلال خمسة وستين عاماً من الغربة البعيدة. إنه عمر طويل بمقياس الزمن وقد أخذه بعيداً إلى الجانب الآخر من الكرة حيث لم تكن هناك مواصلات سهلة ولا وسائل تجعل من السهل البقاء على تواصل كما هي الحال اليوم. كانت الغربة منفىً اختيارياً طويلاً وربما أبديّاً، لكن ها هو يعود محاولاً أن يصدق فعلاً أنه في لبنان وفي بلدة الطفولة. إطلالة واحدة جديدة على الوطن حرّكت فيه كل الحنين.. الحنين إلى الأماكن وإلى الناس، الأصول والفروع لعائلة من ثلاثة أخوة وأخت وحيدة هاجر وهي في الخامسة عشر وعندما عاد كانت هي رحلت عن الدنيا… كل هذا العمر هاتفها مرة واحدة عندما توفّي زوجها، غصّ هو وغصّت هي بالبكاء ولم يستطع أي منهما الكلام فأجلا المكالمة لليوم التالي. الشيء نفسه تكرر مع ابنتها الكبرى، ولكن الفارق أن اتصاله بأخته كان من على بعد ثماني عشرة ساعة سفر في الطائرة، أما ابنتها فكان أقرب، كان يبعد عنها ثلث ساعة بالسيارة.
لم يكن نجم ابن الثمانية عشر عاماً يعلم وهو يلملم رحاله إلى البرازيل أن الله سيمد في عمره في المهجر ليعود يوماً إلى بلدته وهو

كأني عم بحلم
كأني عم بحلم

ابن ثلاثة وثمانين.. وعندما غادر المعاصر في العام 1934 كان وهو الشاب الصغير يتحرك بحماس وشوق لخوض المغامرة وملاقاة المستقبل في قفار بعيدة، وقد رأى في السفر فرصته للخلاص من الكدح في تجارة مضنية باغتته وهو في الثامنة من عمره. لم يكن يائساً من العودة لكن كان أمله بذلك يضعف مع مرور السنين في تلك البلاد. يقول: “ما بعمري خفت إرجع على لبنان بس العين بصيرة واليد قصيرة”… ولكنه في النهاية عاد.. عاد وهو يحمل أثقال الحنين المتجمِّع في قلبه، حنين لا يجد كلاماً مناسباً لشرحه فلا يبقى إلا الدموع.
“أريد أن أخبرك كيف كنت أعمل في لبنان”… هكذا، بالعربية وباللهجة المعاصرية القروية، وبحماسة وابتسامة تعلو محيّاه، يبدأ نجم حديث السنين الخوالي. “من عمر الثماني سنوات بدأت أعمل، كنت أذهب إلى البقاع وأبادل التين والعنب والتفاح والإجاص الذي تنتجه أرض يملكها أهلي، بالعدس والسميد”، في ذلك العصر كانت المقايضة هي الوسيلة الغالبة في التجارة، فبدل دفع المال كان الناس يبادلون بضائع فائضة عنهم ببضائع فائضة عن غيرهم وهم في حاجة إليها.
ورغم المشاق التي تكبّدها بعمله المبكر، إلا أن “عين مصعر”، تلك البقعة التي كانت تنتج بضاعته وعاش فيها طفولته، كانت أول مكان أراد الذهاب إليه فور عودته، ولكن أمله خاب عندما رأى الحال الذي آلت إليه، اذ تغيّرت كل معالم ذلك البستان المثمر المخبّأ في ذاكرته.

مفاجأة في ساحة المختارة
عدا البقاع كان نجم يذهب نهار الأحد إلى نبع الباروك ليبيع التين والعنب، وفي بعض الأحيان كان يذهب إلى المختارة.
وبسبب حداثة سنه وضعف بنيته لم يكن نجم، وكان بلغ التاسعة من عمره، قادراً على إنزال البضاعة عن حماره، فكان الناس يساعدونه في تحطيط حمولته. وفي أحد الأيام كان في المختارة، انتهى من بيع البضاعة وأراد أن يرفع الصناديق الفارغة إلى بردعة (جلال) الحمار ولكنه لم يكن قادراً على ذلك.. يشرح ما حصل له في تلك اللحظة ويقول: كنت أجاهد عبثاً لرفع الأقفاص التي فرغت من البضاعة وبسبب قصر قامتي فإنني لم أجد وسيلة إلى ذلك لأن عليك أن تتمكن من وضعها على ظهر الدابة مرة واحدة. كان الناس في السوق ينظرون ولم يتقدم أحد لمساعدتي، وكنت فعلاً محبطاً بعض الشيء. فجأة إذا بالمعلّم كمال جنبلاط، يأتي إليّ مسرعاً، أخذ يرفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة؛ وعندما رآه الناس بُهتوا ولم يصدقوا فراحوا ينادونه “لا يا بك لا يا بك”.. لكنه لم يُعرهم إهتماماً وتابع عونه لي إلى أن تمكّنت من تثبيت الصناديق على ظهر الدابة وتابعت بذلك طريق العودة إلى بلدتي.
حادثة المعروف الذي قدّمه المعلم بعفوية تامة إلى هذا الطفل الصغير ما زالت منطبعة في ذاكرة الرجل الكهل كأنها البارحة، وهو كما يقول لن ينسى ذلك النبل وتلك الإنسانية العفوية ما دام حيّاً وسيبقى يلهج بها لما فيها من تعليم للكثيرين. عدا هذه الحكاية الجميلة، فإن ذاكرة نجم مزدحمة بفصول الحياة القاسية التي عاشها وهو طفل.. لكنه يتوقف ويتحول فجأة وبالحماسة نفسها للحديث عن البرازيل، الموطن:
“بدي خبرك عن البرازيل، بلاد ما في أحلى منها.. حرة حرة.. تفعل ما يحلو لك ولكن عليك أن تلتزمي بالقانون”.
ذهب والد نجم، عبد الخالق، إلى البرازيل في العام 1920، عاد منها إلى لبنان في العام 1928 ولكنه اضطر أن يعود اليها وهو في السبعينات من عمره لبيع أرض عالقة تعذر على قريبه بيعها، وهكذا أمضى ما تبقى من عمره في تلك الأرض البعيدة ليعود إلى لبنان قبل وفاته ببضعة أشهر عن عمر ناهز الخمسة وتسعين عاماً، ولم تكن عودة عبد الخالق إلى العائلة والوطن بأقل غرابة من عودة إبنه نجم، فالكل تفاجأ به في ذلك الوقت، والمفاجأة الأكبر كانت بقصته مع قارئة كف مشّته الدرب الدرب، وعاد ليموت في لبنان بعد أن تنبأت له بأنه سيموت في شهر محدّد من سنة محدّدة، وقد أصابت معها السنة ولكنها أخطأت التاريخ المحدّد بشهر واحد..

لطعام.. أول صدمة ثقافية
كان نجم الثاني بين ثلاثة أشقاء وشقيقة، وكان شقيقه الأكبر عارف كرّس نفسه لمعاملة خاله وعليه كان نجم المرشّح الأبرز للذهاب إلى والده، ولكن ذلك لم يلق إستحساناً لا عند والدته ولا عند شقيقه عارف.
فنجم لم يكن حينها قد أكمل الثامنة عشر عاماً، لكنه انتظر قليلاً حتى بلغ السن القانوني الذي يُسمح فيه للشاب بالتصرف كمواطن كامل الحقوق، فأسرع إلى مختار القرية وبدأ بإعداد الأوراق اللازمة للسفر.
نسأله عن سبب حماسته للهجرة فيقول والضحكة تعلو وجهه: “أنا كنت شايف بدي روح عند بيي بالبرازيل.. لأنه في لبنان كنت أعمل وأنا صغير وكنت أنا المسؤول نوعاً ما عن المنزل في غياب والدي، فأخي الأكبر كان يعيش عند خالي، وعندما كان والدي في لبنان كان يتنقل بين القرى ويبيع البضاعة بخسارة، في البرازيل كان يبيع ويقبض مقابل بضاعته أما في لبنان فلا أحد يدفع”.
ليس بين لبنان والبرازيل ساعات سفر طويلة وحسب، فالبلدان مختلفان في الجذور من حيث الثقافة واللغة… وقد تكون أول صدمة ثقافية عاشها نجم في البرازيل هي الطعام. وبضحكة عالية يخبر قصته مع أول وجبة طعام أكلها هناك: كان والدي يملك عربة خيل، وأول ما وصلت أخذني معه، عرّج على دكان واشترى لي رغيفاً، ورغيف تلك البلاد كبير فعلاً، وضع فيه قطعة لحم مقدّد وأعطاني إياه”، وعلى ما يبدو قرّف نجم من هذا الطعام فقال لوالده لا أريده وبضحكة يكمل نجم “أجابني والدي بشيء من الحمق وعدم الإكتراث: على مهلك ما تاكل… يلي ساواك بنفسه ما ظلمك”.
كان هذا أول لقاء تعارف بين نجم والبرازيل، بعدها أخذه والده إلى سان باولو وعرّفه بأصدقائه وأعطاه حقيبة مليئة بالأغراض ليتجوّل ويبيع ما فيها.
لم تكن اللغة مشكلة بالنسبة الى نجم لأنه كان يتكلم الفرنسية بشكل جيّد، بعد التجول في الطرقات فتح محّلاً، وهنا يقول بابتسامة الفوز: “أغلب البرازيليين كانوا أميين، فإذا أراد أحدهم أن يرسل مكتوباً إلى أهله كان يطلب مني أن أخطه له”. وكان في البرازيل الكثير من العرب واللبنانيين تحديداً. وعند سؤاله عن شعوره بالغربة يجيب “كنت أحن إلى بلدي ولكنني أحببت البرازيل واعتدت على الجو”. “البرازيل غير شي”، هكذا يصفها.

كرامة لأمي تزوجت لبنانية
من يرى نجم والحنين في عينيه والمحبة الكبيرة لعائلته يستغرب كيف يمكن لشخص يملك قلباً مليئاً بهذا الحب أن يبتعد كل هذه السنوات ولكن كما يبدو كان خائفاً من العودة..
“ممّ كنت خائفاً”… لم يعط جواباً صريحاً ولكن جوابه كان: أخي عارف كان عند خالي وأنا كنت سعيداً ولا أريد العودة”.. ومن هذا الجواب تقرأ أنه ربما كان خائفاً من عبء المسؤولية التي ألقيت عليه باكراً..
هاجر ولم يرد العودة ولكن قلبه بقّي حاملاً ما أخذه معه. وفي هذا الصدد، يتحدث نجم عن الزواج. “قبل أن أسافر إلى البرازيل نادتني والدتي إلى درج مقام خالي وقالت لي اجلس هنا، لا تتزوج إلا بفتاة منّا”.. بقيت كلمات والدته محفورة في قلبه، ولم يخيّب أملها. وهنا يبدأ بسرد قصته مع زوجته والابتسامة تعلو ثغره وعينيه “بعد ثماني عشرة سنة من وجودي في البرازيل لم تعد لدّي معارف عرب، ولكن كان هناك رجل من حاصبيا يعيش في سان باولو على بعد 1500 كلم مني، ويعمل في تجارة الثياب وكان لديه 5 شركاء.. قال لي أريد أن أعرّفك على أصحاب لي وأخذني إلى منزل بيت عمي الحاليين، عندما وصلت إلى المنزل كانت هناك فتاة جالسة في الزاوية قلت لرفيقي لا أريدها، وإذا بزوجتي أميرة مارة فقلت هذه هي من أريدها”.. وعندما تسأله ماذا حصل معه يجيب وكل معالم وجهه منفرجة.. “أحببتها” ويعقّب “لا أزال أحبها حتى الآن”.. ويشرح نجم أن زوجته، وهي أصلاً من مواليد المديرج في لبنان، عاشت كل حياتها في البرازيل وعلى ما يبدو لم يعن لها لبنان شيئاً. يقول وكأنه يحاول أن يبرّر عدم مجيئها إلى لبنان أبداً “مرتي ما بتحب الطيارات”.

نورا تنضم إلى الجلسة الأكل طيب لكن عندكم زحمة سير كبيرة
نورا تنضم إلى الجلسة الأكل طيب لكن عندكم زحمة سير كبيرة

العقدة في الزوجة؟
لو شجعتك هي هل كنت ستأتي قبل الآن؟ بهدوء المحّب يجيب: “لا أعرف إن كنت أتيت لو حمستني.. هي ربيت هناك”. ويتابع بلهفة المتشوّق: “هالسنة ما قدرت جبتها معي بس انشالله السنة الجاية”.
وهنا نسأله: “هل من المحتمل أن تأتي زوجتك إلى لبنان ثم تغير رأيها وتقول لا أريد العودة إلى البرازيل” وبسرعة كان الجواب لا لا”.

تزوجت وصار عندي بيت
تزوج نجم ولكن ماذا تغيّر في حياته؟ يقول بإبتسامة تعكس الراحة: “صار عندي بيت لما تزوجت” وهو لم يقصد بذلك المعنى المادي للمنزل، فهو كان لديه منزل ولكنه كان يفتقد لروح العائلة التي تعطيه معنى.
أما ماذا حمل معه من لبنان إلى البرازيل؟ “أخذت لبنانية”… يجيب بعفوية الأطفال. ويتابع ليقول: “حافظت على ديني، ما غيّرت ديني فهناك بيعملو أديان كثيرة”. وهنا يعقّب أخوه نبيه: “أنا زرته في البرازيل، هو لا يتعدى على أحد، لا يكذب، لا يسرق ولم يتعاط الأشياء الممنوعة، بقيّ محافظاً على أخلاقياته”.
ويختم بالقول: “خمسة وستون عاماً في البرازيل ولا يزال محافظاً على نفس العادات والتقاليد”.
ومع أنهم لا يتكلمون اللغة العربية البتة هناك، يعلّق نجم بأن العرب يسيطرون على 80 في المئة من التجارة البرازيلية، وأكثرهم لبنانيون. وعن علاقة لبنانيي المهجر بالوطن الأم يقول إنهم يأتون إلى لبنان أكثر منه بكثير، إلا أن الغالبية لا يعودون أبداً خصوصاً أولئك الذين يتزوجون بنساء برازيليات.
لم تكن البرازيل بالنسبة إلى نجم ملاذاً من شقاء الحياة في لبنان وحسب، ولكنها كانت مكاناً آمناً بالنسبة إليه على عدة صعد وربما أبرزها الحرية الشخصية، ففي لبنان كان معتاداً أن الكل يسأله عن دينه أما في البرازيل فلا أحد يسألك “لا شو دينك ولا شو معك ولا شو عليك”.
فجأة تراه يبدأ بالضحك، فهذا الحديث أعاد إلى ذاكرته المقالب التي كان يحيكها للشباب البرازيليين والذين كانوا ينادونه بـ Turku نسبة إلى تركيا التي كانت حاكمة لأولاد العرب على حد تعبيره.
وراح يسرد أحد المقالب وعينيه شبه مغلقتين من كثرة الضحك.. “مرة قلت لأحد الشباب هل تريد أن تعرف معنى اسمك باللغة العربية، تحمّس كثيراً للأمر.. فقلت له معناه على أنه اسم لأحد الحيوانات، واذا به من فرط حماسته ينادي على أحد الشباب العرب ويقول له صرت أعرف معنى اسمي بلغتكم، وعندما نطقه انفجر كل الحاضرين بالضحك عليه”.
بفعل الخبرة والزمن تطوّر عمل نجم وبات يملك معملاً للخياطة يشغّل نحو أربعين عاملاً، وهو حالياً متقاعد ويعيش من تقاعده ومن التجارة الحرة في العقارات.
قد تكون العائلة كلها استسلمت لهجرة نجم وأصبح بعده جسدياً ومعنوياً أمراً اعتيادياً بالنسبة إليها، إلا نبيه، أخوه الأصغر، الذي حرص على التواصل معه وإعادته إلى لبنان ولو في زيارة قصيرة.

من الرسائل بالباخرة إلى الواتس
كان نبيه يتواصل مع أخيه عبر الرسائل بالبواخر أولاً ومن ثم الطائرات، وكانت تأخذ وقتاً طويلاً لتصل، حتى العام 1980، حيث أصبح الهاتف متوفراً ولكن طبعاً ليس باليسر الموجود حالياً. ويروي كيف أخذ أخواته في إحدى المرات إلى السنترال وحاول الاتصال بنجم، إلا أن الاتصال انقطع مرتين ولم يتمكنوا من التحدث إليه.. وانحصر التواصل مع نجم المهاجر بنبيه وعائلته، وتلقى الأخير منه دعوة للزيارة لبّاها مطلع عام 1995، ذهب إلى البرازيل ومكّث هناك ثلاثة أشهر. هذه الزيارة عزّزت العلاقة بين الأخوين وصارا بعدها على تواصل دائم، تخلله بعض المقاطعة، ولكنه أثمر في النهاية زيارة إلى لبنان ظلّت حلماً لكلا الطرفين حتى بعد تحقّقه.
وهنا يعلّق نبيه بالقول: “استطعنا أن نقنعه أن يأتي لزيارة لبنان، ما توصلنا إليه في النهاية هو أن يأتي هو وابنته التي كانت متخوفة جداً من المجيء، ولكن تبدّد عامل الخوف لديها بعد أن أتت، أخذناها إلى الشمال وتحديداً طرابلس، كما ذهبت إلى حاصبيا مسقط رأس أحد معارفها في البرازيل”.
ويضيف نبيه أنه حاول أن يقنع أخاه بالمجيء إلى لبنان عندما زاره في التسعينيات ولكن أولاده كانوا صغاراً وقتها، وكانوا يهربون عندما يسمعون باسم لبنان الذي كان يتخبط

بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي(1)
بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي(

بالأحداث السياسية وتبعات الحرب.
نورا هي الابنة الثانية بين ثلاثة أولاد لنجم: ابنتان وصبي، وهي على خلاف والدها الذي يرى كل شيء بعين الحنين، ترى لبنان بعين نقدية عقلانية. لم تزره يوماً ولم تحمل له أي حب أو ذكريات، كان بالنسبة إليها بلد الحرب والخوف، تبدّدت هذه النظرة بعد أن أتت وشعرت بالألفة والمحبة بين العائلة ولكنها لا تخفي شعورها بالخيبة، “الناس هنا يدخنون بكثرة، وزحمة سير كبيرة وهناك مشاكل كبيرة في البنية التحتية”.
تحمل نورا لبنان في جيناتها وهذا ما خلق مودة بينها وبين أولاد عمها وعمتها حتى لو لم تكن تعرف من اللغة العربية الا بضع كلمات كان عمّها يعلّمها إياها.

أينما تذهب طعام طعام!!!
وعندما تسألها عن أكثر شيء أحبّته في لبنان، تجيب بحماسة وابتسامة عريضة “I liked food”، وتفتح يديها وعينيها على وسعهما وتقول باستغراب ممزوج بنوع من الإمتعاض “أينما تذهب طعام طعام طعام”..
وتعقّب بأن الطبيعة في لبنان جميلة جداً، ولفتها أن الناس هنا يحترمون كبار السن. وفي الاطار العائلي، تقول نورا إن أفراد عائلتها في البرازيل مقربون جداً من بعضهم بعضاً ولكن في بعض الأحيان يكون

الأصدقاء أقرب من الأهل هناك.
تعتبر نورا أن الحرية في البرازيل متاحة أكثر منها في لبنان. وعن الصورة النمطية أن السرقة منتشرة بقوة هناك تقول: “يجب أن نبقى حذرين ولكن لم يحصل معنا أي حادث يوماً”.
أما عن الفساد، تقول نورا إنه مستشرٍ في البرازيل ولكنه ليس بالحجم الذي في لبنان. وعندما تسأل والدها يقول بضحكة عالية “ما الرئيس البرازيلي أصلو لبناني”.
قد تبدو نورا غربية المنشأ بطريقة تفكيرها ومنطقها في الحياة ولكن كان واضحاً تعلقها بوالدها، وعندما تسألها عن الشيء الذي لن تنساه عن لبنان، تمسك بيد والدها بكلتا يديها تنظر إليه بحب وتقول “أعتقد ذلك، الألفة بين أفراد العائلة هنا، فوالدي كان غائباً لفترة طويلة جداً، ولكن الكل أفاض عليه بالمحبة”.
وعما إذا كانت نورا مهتمة بالعودة مرة ثانية إلى لبنان، تصمت لبرهة وهي تفكر وكأنها لا تريد أن تعطي جواباً تعرف سلفاً أنه لن يتلاءم مع تطلعات العائلة: “لا أعرف، كل شيء غالٍ هنا، ومن المكلف جداً البقاء”.
أما اذا كانت ستشجع والدتها وأخوتها على المجيء تقول بحماسة شديدة “نعم نعم” وتتابع بضحكة: “الناس يقولون أشياء كثيرة عن لبنان، الجيدة والسيئة ولكنني أرى أن الدروز مختلفون بعض الشيء”.

«بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي»
عندما تراه مع أخوته، تشعر بألفة ومحبة لا تصدق معها أنه غاب عنهم خمسة وستين عاماً.
كل هذه السنوات من البعد ولكن ما هو الشعور بعد أول زيارة؟
“توّلد عندي شعور بالندم لو أني أتيت قبل”، يقول نجم بحرقة. وهنا يعلّق مقيم، إبن أخيه، في زفاف إبنة عمتي كان يقول أنا أحلم. ويعقّب أخوه نبيه: “لا يعرفكم ولا يعرف أحد هنا وعندما التقاهم شعر وكأنه يحلُم”.
تتلألأ الدموع في عيني نجم ويقول بدوره: “أنا مش مصدّق حالي إني بلبنان.. كنت حاسس إنو هيدا الشي ما رح يصير بحياتي.. مش مصدق إنو بنتي أجت على لبنان”.
ينظر إلى أخيه الثاني يحضنه بابتسامة ممزوجة بالدمعة: “بعدني لهلق بس ضم خيي نزيه ببكي، خيي نبيه كنت احكي معو وراح لعندي بس نزيه لأ، ما حكيت معو أبداً كل فترة سفري”.
في ختام اللقاء سألنا نجم إن كان يندم على شيء، أجاب بالنفي ولكن عندما سألناه إن كان مجيئه إلى لبنان ولّد عنده شعوراً “لو أتى منذ زمن”… “إيه”.. ومجدداً راح يردّد “مش مصدق إني بلبنان مش مصدق إني بالمعاصر. رح إرجع السنة الجايي على لبنان، وإذا قبلت مرتي بدها تجي معي”.1)

دير المخلص في جون الشوف 1898 /دير القمر في العام قبل نحو 100 سنة في العام 1919
دير المخلص في جون الشوف 1898 /دير القمر في العام قبل نحو 100 سنة في العام 1919

 

من أعلام بني معروف