تمهيد
قليلةٌ جدّاً الشخصيات الفكريّة والأدبيّة التي شغلت الناس والنقَّاد في دنيا العربية وهي على قيد الحياة، ثم ظلَّت تشغلهم، بالمقدار نفسه، بعد نحو ألف سنة من رحيلها. هوَ ذا حال أبي العلاء المعرّي، التَّنوخي المَحْتِد، بين أواخر القرن الرابع وأواسط القرن الخامس للهجرة.
لقد قيل في المتنبي، كعبةُ إعجابِ المعرّي ومثاله في الشعر، «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وكان ذلك حقّاً، لتفتُّق عبقريته الفكرية والفنية عن صور وأفكارٍ لم يسبق لها مثيل، باقية إلى اليوم، لا يزولُ وقعُها، ولا ينقضي ما احتوته من أفكار وصورٍ، بل ومعايير للفن الشعري الرفيع المستوى (الإغريقي المُناخ والسُّمو).
مع ذلك، فإنَّ ما عُرِضَ لشعر المتنبي من مديح ونقد، ولمعتقده من تفكّرٍ وظنّ، يبقى قليلاً قياساً بما حَظي به المعرِّي «العظيم»، في شعره، ونثره، وفي معتقداته، على وجه الخصوص، التي حيّرت كبار النقّاد من معاصريه، فتناقضوا واختلفوا في تفسيرها أيّما اختلاف. ثم تحوّلت بعد رحيله عن هذا الدنيا مصدراً لم ينضب لآراء ودراسات وكتب وأطاريح علمية بالغة الأهمية لمّا تزال تخرجُ إلى النور سنوياً، واستمرت، كما حالُ أحكامِ معاصريه، على تباينٍ شديد يصل حد التناقض الصريح – كما سنرى.
فمن هو المعرّي ذاك، «عبقري كلِّ الأزمنة»! بشهادة غير أديب
ومفكّر، قديمٍ وحديث، ووفق اعتقادي الثابت – وقد تعرّفتُ إلى أعماله الشعرية والنثرية منذ خمسين سنة، فدرستها مطوّلاً، ودرّستها مطولاً في قسمي الفلسفة واللغة العربية في كليَّات دراسية، 39 سنة جامعية عدّة.
حياة الرجل
يعود أبو العلاء في نسبهِ لـ «تنوخ»، قبيلة عربية يمنيّة قدمت مع جيش أبي عبيدة بن الجرّاح في فتح بلاد الشام. نزلت القبيلة في معرّة النعمان، وكان فيها القضاة والشعراء والعلماء. وقد ورث أبو العلاء منهم من دون شك الكثير من ثقافته ونبوغه. وورث، كذلك، عن أخواله «بنو سبيكة»، عشيرة قدمت من حلب ونزلت المعرّة، الكثير أيضاً. وكان لكرَم أخواله وجُودِهم الفضل في اكتفاء أبي العلاء المادي، وهو يذكر فضلهم ذاك في غير مناسبة.
فقد أبو العلاء بصره في الرابعة من عمره لإصابته بمرض الجُدَري. لكن ذلك لم يحُلّ دون دراسته وتحصيله العلمي إلى أقصى حدّ في كنف أسرة اشتُهرت بالعلم وتسلُّم القضاء. كذلك لم يحُل عَماه دون تَرحاله طلباً لمزيد من العلم في المدن المجاورة، أو لِلِقاء علماء أخذ عنهم وذكرَ فضلَهم. إلّا أنّ أشهر رحلاته كانت تلك التي قصد بها بغداد، مركز الخلافة العبّاسية ومدينة العلم والعلماء والأدباء، وذلك سنة 398 أو 399 للهجرة وعاد منها سنة 400 للهجرة. لقيَ أبو العلاء في بغداد حُسن وِفادة وكثيرَ تكريم، وكان قد بات معروفاً – وهو في الخامسة والثلاثين. حضر في بغداد مجالس العلم والحكمة والمناظرات. وأشهر ما جرى له في بغداد كان في مجلس «الشريف المُرتضى»، إذ جعل هذا يهاجم المُتنبي؛ وأبو العلاء شديد الإعجاب به. فما كان من المعرّي إلّا أنْ علّق قائلا: «لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلّا قولُه: لكِ يا منازل في القلوب منازلُ، لكفاه فضلاً». فغضب المرتضى وأمرَ بإخراجه من مجلسه، وأكمل: أتدرون ماذا أراد الأعمى من القصيدة؟ يريد قول المتنبي:
وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادةُ لي بأنِّي كاملُ
عاد المعرّي إلى المعرة بعد سنة ونصف، فاختار العُزلة نهائيّاً (في سجن عماه، ومنزله، وجسده، ثلاثاً ذكرها المعري في شعره). لم يغادر المعري محبسه إلّا في النادر (كما حدث حين دفعَ عن المعرة غضب صالح بن مرداس صاحب حلب بعد حصاره لها «إكراماً للشيخ). وكان في محبسه زاهداً، متقشّفاً، لا يأكل لحم الحيوان، ولا مشتقاتها، وحتى بعض النبات؛ مكتفياً بلبدة صوف فراشاً في قرِّ الشتاء وحصيرة قشر في حرّ الصيف. لمنامه، في روايات معاصريه. ومع ذلك فهو لم يكن معتزلاً متنسِّكاً، بل كانت داره كعبةً للقاصدين، زواراً وطلاب معرفة، إلى أن توفّاه الله سنة 449 للهجرة بعد مرض لأيّام عدّة.
أمّا ميزته الثابتة فكانت ترفّعه عن مِتَع الدنيا، فلم يكن ساعياً لمجد، أو منصب، أو مال أو حتى هديَّة؛ وقد ظهر ذلك في بغداد التي كانت تعيش زمن تكسّب الشعراء ووقوفهم أمام بلاط الخلفاء والوزراء والولاة. بخلاف سمة العصر في التكسّب من خلال فن المديح، أو التقرّب من السلاطين. كان المعري نزيل منزله، بل محبسه، يتقرّب إليه الولاة، ويحجُّ إليه العلماء، ويسعى جمهوره الواسع إلى طلب النصيحة، وردّ غائلة الزمن، كما حدث غير مرّة مع أهالي معرّة النعمان، إذ منع عنهم غدر الوُلاة أكثر من مرّة «إكراماً للشيخ»، كما لو كان «حِرزاً» عليهم؛ فبات الذين يقفون على بابه، كما قيل، أكثر من الواقفين بأبواب الولاة.
ثقافته وأعماله
لا جدوى من مقارنة ثقافة المعري بأيٍّ ممّن نعرف من ثقافات سواه من العلماء والأدباء. وبسبب من اتساع معرفته وثقافته غير العاديتين، في كل باب تقريباً، فقد اختلطت الحقائق بالأساطير.
وُهِبَ الرجل، بإجماع الباحثين، عقلاً، وذكاء، وذاكرة، تظنّ أنها ليست للبشر، بل لآلهة الإغريق، على سبيل المثال.
كيف لعقل إنسان فقد بصره وهو دون الرابعة من عمره أن يتقن حتى الكمال (الممكن) ما أُتيح أو عُرض له، بل لعصره، من ثقافة في أبواب: اللغة، والأدب، (من شعر ونثر وبيان وبديع وبلاغة وفنون أُخرى)؟ أضف إلى ذلك التاريخ بمراحله السابقة كافة، والأنساب، والديانات، والفلسفة، والفكر بعامة؟ وغير بعيد عن الصحة قولة من قال، إن اللغة لتأخذ بعد القرآن الكريم من المعرّي. أو قول آخر: لا أظن العرب نطقت لفظة لا يعرفها المعرّي.
وكيف لذكاء أيٍّ كان أن يُضارع ذكاء من يعرف ضيفه إذا تحدّث، أو حاله إذا تكلّم، أو ما قصد إليه ولم يظهره من ثنايا خطابه؟ أو أن يستشعر الفروقات البسيطة بين هذه وتلك، بمجرد إحساسه بها: فيدرك أنّ ورقة كانت تحت الفراش الذي يجلس عليه فأزيلت! وكذا في ما أوردناه من مجلس الشريف المُرتضى.
كيف لذاكرة بشريٍّ أن تضاهي ذاكرة المعري الأُسطورية، ولطالما نسج المؤرخون حولها الأساطير: يزور مكتبة المدينة الفلانية أو الحاكم الفلاني، فيطلب لمرافقه أن يقرأ له ما وسعه من كتب، فتصبح في ذاكرته وعقله وكأنه رآها وقرأها غير مرّة؟ أو تمرّ القافلة في طريقه إلى بغداد سنة 399 للهجرة بشجرة تعوق العبور على الطريق، فيُطلب من العابرين، في العادة، خفض الرؤوس، فإذا به في أثناء عودته بعد سنة كاملة (400 للهجرة)، يخفض رأسه في المكان عينه وسط استغراب من معه، فالشجرة المعنية كانت قد قُطعت ولم يعد لها من وجود.
أو خذ حافظة ذاكرته أيضاً، أنّ المعري الصبي سمع شجاراً بين فلاحَيْن بالسِّريانية، (وهي شائعة في قرى شمال سورية آنذاك)، وحين ذهب الرجلان إلى القاضي ليفصل في خلافهما، طلب شهوداً، قالا له لم يكن هناك غير صبي أعمى؛ وإذ طُلِب ليشهد ردّد ما قالاه حرفيّاً وهو لا يفقه شيئاً من معناه؟
توفرّت للمعري ثقافة وعلوم عصره جميعها، وما أتيح له ممّا سبقه: اللّغوية، والأدبية، والفقهية، والفلسفية. قال فيه بعض أهل عصره: كانت معرفته باللغة معرفة تامة. (إبن الجوزي) وقال آخر: ما أظن نطقت العرب بكلمة لم يعرفها الشيخ. (البديعي) وبدا تأثير ذلك جليّاً في أعماله شعرِه، ونثرِه، كما في أعماله المبتكَرة والرائدة. بلغت أعمال المعري، حسب مؤرِّخ عصره، القفطي، خمسة وخمسين كتاباً، عدا الرسائل، وهي بالمئات. أهمُّ أعماله التي وصلتنا: «اللزوميات» في مجلدين، جعلها المعري في أبواب الحكمة والوعظ والرأي. «سِقط الزند»، هي شعر المعري، غير الفلسفي كحال اللزوميات. فيه بعض أرقّ شعره، كما قيل. «رسالة الغفران»، فيها ظاهراً شروح لمسائل لغوية وفقهية، وأعمق من ذلك نقده في غير اتجاه. اهتم المستشرقون برسالة الغفران أيّما اهتمام، فتُرجمت باكراً، بل عدّوها رائدة في بابها، نسج على منوالها بعد ذاك بعدة قرون «دانتي» وآخرون. إلى أعمال لغوية وأدبية أُخرى، حيّرت معاصريه، لغرابة بعضها، وغُنوض الكثير منها، فذهبوا في تفسير مُعتقد المعري انطلاقاً من الغموض ذاك.
معتقده
إذا كان للمؤرخين والباحثين، من زمن أبي العلاء أو في أزمنة لاحقة، أن يتنازعوا في نقطة وحيدة أيّما نزاع، فهي من دون شك تلك المتصلة بمعتقديه، الفكري والديني. والنزاع في الثاني أبعد غَوْراً وأشدّ خطراً ممّا هو في الأول. يقول أدوار البستاني في كتابه «أبو العلاء المعري، متأمّل في الظُّلمات»: «لم يختلف الرأي في عقيدة رجل كما اختُلِف في عقيدة المعري. فقد أجمع قوم على تكفيره… من أمثال أبي الوفاء بن عقيل (القرن الخامس للهجرة)… وابن الصابئ… والقاضي أبو جعفر الزوزني… وعبد السلام القزويني… (وآخرون)»ص 44-45.
في مقابل هؤلاء، نهض تلامذته، ومُريدوه، يردّون تهمة الكفر تلك، ويوضحون ما ومن قصد شيخ المعرة في نقده؛ وأنه إنما تناول مظاهر الخروج على الدين، لا الدين؛ وأن نقده اتجه للمنافقين، لا للدين، ولا للمتدينين الورعين المخلصين. وسيرى القارئ، التفسير الحقيقي، كما اعتقد، لأفكاره، وكيف رأى إليها كبار باحثي العصر الراهن، من أمثال طه حسين، والعلايلي، ومارون عبود.
نبدأ بمعتقده الفكري، غير المُنفصل كما سنرى عن معتقده الديني، وإن كان في الغالب إلماحاً لا صُراحاً، ويحتاج إلى ربط ومقايسة واستخلاص نتائج.
في معتقده الفكري (وربطاً بالديني أيضاً)، لا أظنّ أنّ مفكراً سبق أبي العلاء إلى بناء معيار في اليقين يقوم على اللايقين:
غدوتُ مريضَ العقلِ والدينِ فالقني
لتعلمَ أنباءَ الأمورِ الصحائحِ
أمّا من سبقه، أو عاصره على نحو دقيق، في بيان عجز العقل عن بيان الحقيقة، أو «الأمور الصحائح»، فهم جماعة «العِرفان»، في كل معتقد ودين ومسلك. هل قصد المعري «غدوتَ» بالفتح؟ إذا كان الأمر كذلك، لا جديد رئيسي أو حاسم. إلّا أن الأمر ليس كذلك، بل هو جزء من تورية المعري، و«باطنيّته» ومَجازاته التي استخدمها غير مرة ليدفع سامعه أو قارئه إلى حيث يكتشف معتقده الفكري والديني. ومنها مثلاً:
وليس على الحقيقة كلُّ قولي
ولكنْ فيه أصنافُ المجاز
والمجاز metaphor في قواميس اللغة هو «صرف النظر عن معناه الظاهر»، و «تجاوز ما وُضع له»، و»المعنى المجازي، هو المعنى المستعمَل في غير ما وضع له أصلاً».
هوَ ذا المجاز الذي احتاجه المعري في عصره – القرن الخامس للهجرة حيث أحكم المتشددون القبضة على الدين والسياسة. المجاز هنا هو الأداة البليغة في إيصال المعنى المقصود، غير ظاهر الكلام. وقد لجأ المعري إلى الأداة تلك المرّة تلو المرّة لإيصال أفكاره.
نعود إلى «مريض العقل والدين»، فإذا هي تعني وفق التحليل السابق (صحيح العقل والدين). ما من أحد، في ما أعرف، قبل أبي العلاء رسم هذه المعادلة غير العادية أو المألوفة، ومُختَصرُها: يجب أن تكون مريض العقل والدين «لتعلمَ أنباء الأمورِ الصحائحِ». هي تشبه منهج سقراط في ادّعاء الجهل والضعف (أي مريض العقل) كي يستخرج من خصمه في النقاش أفضل ما عنده، فيخرج من متاهات الضلال إلى نور اليقين (الصحائح). حرصتُ على استخدام تعبير أبي العلاء دقيقاً كما ورد في النص، لأنّه من الجدةِ والخطورةِ إلى أقصى الحدود، وكما لم يحدث من قبل – إلّا ربما بعض إشارات الشُّكاك الإغريق – أو من بعد، خلا ما نجده، أيضاً، عند «نيتشه»، الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، في ملاحظات تبدو متشابهة.
لا يختلف اثنان، كما أَعتقد، أن تفرّد أبي العلاء قد بلغ في بيت الشعر الأخير كل حد، ولفظ «العبقرية» لا يقدّم أو يؤخّر كثيراً، بل لعلَّه لا يفي «ثقافة» أبي العلاء حقّها.
في معتقد أبي العلاء، وفي خط البيت الأخير، ربما نجد بيتاً ثانياً يبدو قريباً إلى الأول في معناه، دون أن يكون في قوته، وهو:
إذا قلت المحال رفعتُ صوتي
وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي
ما يجمع بين البيتين، في المقام الأول، أن لا تغترّ بظاهر ما تقرأ، حتى للمعري. هذا المعري الظاهر؛ أما المعري الحقيقي ففي مكان آخر، لا سبيل لإدراكه إلّا إذا كنت «مريض العقل والدين». والمعنى الحقيقي لـ «مريض» في بيت المعري هو على عكس ما يوحي به ظاهر القول: أي «صحيح العقل والدينِ». هذا هو المعنى الضمني لمريض العقل والدين. إنه تفرّد المعري وإعجازه فلا يقدّم لنا معتقده بسهولة وعلى طبق من فضّة، وإنما عليك أن تتعرّى من الظاهر، خطوة أولى، لتلتقط الحقيقة. وإن لم تسعفكَ قدراتك في أولّ الطريق، فكيف الحال في مراحل الطريق المتقدمة، الأعلى، والأكثر تطلّباً. المبتدئون لا حظَّ لهم في الدخول إلى عالم المعرّي الغامض المليء بالإشارات والتلميحات، لا التصريحات والإيضاحات السهلة. وسبق للمعري أن نبّهَنا – منهجيّاً – في أكثر من موضع، كي لا نخطئ أو نتسرّع في أحكامنا.
لقد مدّ المعري لنا يد المساعدة حين قال بوضوح: لا تظنّوا أن كل ما أقوله ظاهراً هو الحقيقة (وليس على الحقيقة كل قولي)، وإنّما فيه ما يجب أن يؤخذ مجازاً- على اتساع ما يتضمنّه مفهوم المجاز في اللغة، كما شرحنا أعلاه.
ذهب المؤرخون والمدققون المعنيون بمعتقد المعري الفكري والديني وكلّها نظريات، في حقيقة الأمر، وتختصر في أربعة:
أوَّلُها، رأي المتشددين الذين أخذوا المعري بظاهر قوله، لإعلان فساد معتقداته.
ثانيها، نظرية التحفُّظ، بل العجز، عن إثبات معتقد نهائي ثابت للمعري.
وثالثها، أخذ المعري بقعر أفكاره القائم تحت ظاهر القول، لإعلان حقيقة معتقده. وهي أقرب إلى فلسفة اللّغة،
والنظرية الرابعة، تجزم استناداً إلى الكثير من شعره، وما رُوي عنه، أنه من «أهل التوحيد»، بل احد شيوخ مسلك التوحيد، أو فرقة التوحيد الإسلامية.
وسنفصّل يعض الشيء في الاتجاهات أو النظريات الأربعة أعلاه.
الاتجاه الأول، ولا يرقى إلى مستوى النظرية، يمثّله بعض المتشددين الذي اكتفوا بظاهر قول المعري، فتسرّعوا بالحكم عليه يمنة ويسرة. ساء هؤلاء نقد المعري لمظاهر وسلوكيات كانت قد طغت في القرن الخامس الهجري، فباتت هي الدين في حرفيته وظاهره وشكلانيته، وهو ما انتقده المعري بقسوة. ساء المعري أن تجد شارب خمرة في أثناء إداء فريضة الحج، أو منافقاً يبيع ويشتري ويقرض بالربا وهو يزعم التديّن، أو «واعظ نساء» يوغل في الحثِّ على الفضائل وهو أوّل من يهملها بل ويمارس الرذائل؛ وساءَه أن يجد مسلماً لا يطيق نصرانياً، أو العكس، بينما الدين عند الله واحد. في نقد المعري ذاك نقرأ له، (في اللزوميات) على سبيل المثال:
وما حجّي إلى أحجار بيتٍ
كؤوسُ الخمر تشرب في ذراها
بل قال أكثر محذِّراً من مكر الماكرين المخادعين:
أقيمي لا أعدّ الحجّ فرضـــاً
على عجزِ النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكّة بعض قوم
وليســـوا بالحُمــاة ولا الغيـــارى
قيامٌ يدفعون الوفـــد شفعــاً
إلى البيت الحـرامِ وهو سكارى
أو آخر «صاحب حيلة»، سِكّيرٌ، مُخادعٌ، يعظ النساء:
رويدكَ قد غُرِرْتَ وأنت حرٌّ
بصاحب حيلة يعظُ النساءَ
يحرّم فيهمُ الصهباء صبحـاً
ويشربها على عمدٍ مساءَ
أو نقده مجرّد أخذ الدين بالتقليد والوراثة، دونما تبصّر أو إيمان شخصي حقيقي:
وينشأ ناشىءُ الفتيان منّــــا
على ما كان عوّده أبوه
وما دينُ الفتى بحجىً ولكن
يعلّمه التـديّن أقربــــوه
أو قوله في المنافقين، يرجون عمل الخير، بينما يردّون الفقير؛ ويدعون للزهد في الدنيا، فيما لو قدروا على إيوان كسرى لما ترددوا:
رَجَوْا أن لا يخيب لهم دعـــاءُ
وكم سأل الفقيرُ وخيّبوهُ
ولو قدروا على إيوان كسرى
لساموه الــردى وتعقّبــوهُ
هذا بعض من نقد المعري الصريح، القاسي، للمنافقين، المخادعين، المستغلين موقعهم الديني لنشر الفساد، فيما هم من الدين الحقيقي براء.
جلبت مواقف المعري المبدئية تلك عليه حملة إمّا هي ممن قصدهم المعري في نقده، أو ممّن أخذوا المعري في ظاهر قوله لا أكثر ولم يسبروا أغوار نقده وما قصده بحق.
بين أهم أولئك الذين انتقدوا، بل كفّروا المعري، بسبب من نقده القاسي ذاك، دونما كبير بحث أو تنقيب في عمق الألفاظ وعدم الاكتفاء بظاهرها، فشككوا بصحة إيمانه من المعاصرين له أو بعده بقليل، القاضي أبو يوسف القزويني، وأبو الوفاء بن عقيل، وابن الصافي،والقاضي أبو جعفر الزوزني، وأحمد بن محمّد الأخشيتكيي (لعلَّه الأخشيدي) وآخرون…
في الاتجاه الثاني، المتحفظ ، نجد طه حسين، وآخرين، ممّن أمسكوا عن جعل المعري في معتقد محدد. وحجتهم في ذلك التباين، بل «التناقض» أحياناً، بين أقوال المعري المتضمنة آراءه في غير موضوع ومكان: في الموقف من الأنبياء، والمَعاد، والجنة والنار الماديتين، والعقل، والقياس في الدين، والإمامة، وعناوين أخرى أساسية.
ويتسلّح هؤلاء بشكوك أبداها المعري في أكثر من مكان، أمسك فيها عن إثبات أي شيء حقيقي أو نهائي. بل هو اعتبر غير مرّة أن بلوغ الحقيقة من باب المحال. فلنتأمل قولَه:
أمَّا اليقينُ فلا يقينَ وإنّما
أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا
وفي هذا الباب أيضاً، تردُّد المعري وحذرُه، وهو منتهى الأمانة، في إثبات رأي أخير في أيّة مسألة حاسمة، بل تحتمل جميعها النفي والإيجاب، يقول (في اللزوميات أيضاً):
ويعتري النفسَ إنكارٌ ومعرفةٌ
وكلّ معنى له نفيٌ وإيجابُ
وقولهُ في إطارٍ أوسع بكثير:
دينٌ وكُفرٌ وأنباءٌ تُقَصّ وفــر
قانٌ يُنَصّ وتـــوراةٌ وإنجيل
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها
فهل تفــرّد يوماً بالهدى جيلُ
سؤال المعري برسمِ تاريخ الأفكار والديانات بأسره: «هلّ تفرّد بالهدى جيلُ؟»
لا يعنينا الجواب الآن، وإنما فقط الإشارة إلى تردد المعري في إثبات أو نفي «حقائق» الدين والفكر. ويلفت هنا أنّ نقد المعري لم يقتصر على هذا الجانب دون ذاك؛ وإذا كان البعض لم يرَ إلّا نقده للتجارب الدينية، فاللزوميات تتضمن عشرات حالات النقد للقياس العقلي أيضاً، كما للفلسفة، وللتصوف، وللتفسيرات الباطنية، وللإمامة، وسواها. فلا تكاد تجد له موقفاً محدداً من مسألة معينة، حتى تجد له في المسألة نفسهاً رأياً مخالفاً. وعليه، يصعب جعل المعري في موقف أو رأي محدد، بل هو ناقد لكل شيء تقريباً، لا يجد الحقيقة الأخيرة في شيء – خلا الموت، الذي رأى فيه المعري حقيقة تعلو كل شكّ:
سألت عن الحقائقِ كلّ يومٍ
فمــا ألفيتُ إلّا حــرفَ جَحدِ
سوى أنّي أموتُ بغير شَكٍ
ففي أيِّ البلادِ يكون لحدي؟
ولكن، كي لا يُساء تفسير شكوك المعري، فهو قد أثبت في كل الأمكنة وجود إلهٍ خالقٍ حكيم؛ وتسقط بذلك دعاوى من اتهمه بالإلحاد – وفي اللزوميات عشرات أبيات الشعر المُثبِتة لإيمان المعرّي ذاك، ومنها:
أثبتُ لي خالقاً حكيماً
ولستُ من معشر النُّفاةِ
أو قوله:
يثبتنَ ربّاً قديراً لا كفاء له
وما عمدتُ لغير الله إثباتا
بل هو يدعو لتركع وتسجد وتتهجّد لإله كهذا:
إركع لربّك في نهارك واسجُدِ
ومتى أطلت تهجّداً فتهجّدِ
وقولٌ أخير له في الموضوع يُظهر إيمانه بالله حقيقة تامة تشمل الأرض والسماء، يقول:
قضى الله فينا بالــــذي هو كائنٌ
فتمّ وضاعت حكمة الحكمـاء
وهل يأبقُ الإنسانُ من ملكِ ربّهِ
ويخرجُ من أرضٍ له وسماءِ
بل يذهب طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» أبعد من ذلك في نفي أي معتقد، أو رأي نهائي، للمعري؛ فيعتبر أنّ شيخ المعرة إنّما كان يستعرض مهاراته التي لا حد لها، كنوع من «اللعب» اللغوي.
لا يذهب الكثيرون مذهب طه حسين، لا في شكّه، ولا في نظرية «اللعب اللغوي». وقد ردّ كثيرون على عميد الأدب العربي طه حسين في نظرية اللعب تلك. أكتفي بردّ الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي أصدر بعد وقت قصير من صدور كتاب طه حسين عن المعري (1946) كتاباً ردّ فيه على طه حسين مفنِّداً نظريته في أن المعري ملأ فراغ وقته بالألاعيب اللغوية. يسمي الرصّافي المعري (الإمام الأوحد فيها (علوم اللغة) بين أهل زمانه) ص 38، ويردّ بعد ذلك مباشرة على رأي طه حسين السابق مفنّداً إياه، يقول:»…إنّ أبا العلاء الذي عرفنا أخلاقه في اللزوميات أجلّ وأعلى من أن يريد من الناس إكباره والإعجاب به» (الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ص45). ويردّ عليه في نقطة أُخرى، فيقول: «كل من كتب عن أبي العلاء في هذا العصر عَزاه إلى التشاؤم، وعزا تشاؤمه إلى فقد بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة لا يرى فيها خيراً ولا يوجس منها إلّا شرّاً. ونحن لا نوافقهم على ذلك، بل نقول: إنْ كان المُراد بالتشاؤم الذي يتهمون به أبا العلاء السخط على الحياة….فإن سخطه هذا لا يُعدُّ تشاؤماً…فسخطه يؤيده العقل الصريح، والفكر النافذ والاختبار الطويل والتجربة الصادقة، ومتى كان السخط كذلك كان سخطاً علميّاً فلسفياً لا ظنّياً ولا وهمياً؛ فليس هو إذن من التشاؤم في شيء…. وأقواله في اللزوميات (تدلّ) على أنه لا يُماشي إلّا الحق ولا ينفر إلّا من الباطل ولا يتحرّى إلّا الحقيقة ولا يستنكر إلا القبيح»(51-52)
إلى ذلك، نقول أن شكّ أبي العلاء لم يكن لغواً، ولا شكاً في سبيل الشك، بل شك في سبيل الوصول إلى اليقين على قاعدة صلبة ثابتة. كذلك كان شك سقراط، والغزالي، ثم ديكارت حديثاً: الشك هو الطريق الموثوق إلى اليقين.
أما التناقضات التي نجدها في آراء فيلسوف المعرّة، وقد أخذها عليه طه حسين، فتنجلي بسهولة إذا تجاوزنا ظاهرها وبلغنا عمقها وأدركنا جوهرها. إنَّ فَهم ما قاله المعري في ستين سنة لا يمكن فصله عن سياق ما قيل، أي تاريخه وموقعه، واللزوميات لا تسعفنا إلى ذلك. وقد أشرت إلى الصعوبة تلك في بحثي الذي أسميته «المعري شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء» ضمن كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ثلاثين سنة؛ وقد أوضحت في سياق البحث أن ترتيب القصائد أو النُّتف الشعرية في اللزوميات وفق ترتيب أبجدي يأخذ بآخر حرفين في القافية (وهذه صعوبة لغوية لم يسبق المعري إليها إلا القليل)، تشهد على مدى إبداع المعري اللغوي والشعري، لكنها لا تفيد في ترتيب أفكاره: فالمطلوب، كما قلت في بحثي عن المعري، «تحقيب» شعره، أي مُراعاة الترتيب الزمني للقصائد، لنكتشف إذ ذاك الأفكار التي انتهى إليها شيخ المعرّة.
والاتجاه الثالث، للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، وفيه رأي بل نظرية متكاملة، جديدة تماماً على الباحثين في المعري جميعاً،
يذهب العلايلي إلى أن للمعري فلسفة متكاملة، فلسفة الكون – اللغوي، إذا صحّ التعبير، وهي نظرية جديدة متفرّدة للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي في فهم معتقد المعري بسَطها في كتابه: «المعرِّي ذلك المجهول» الصادر سنة 1981.
يقدّم العلاّمة العلايلي في كتابه أعلاه تصوره الخاص لملامح نظرية فلسفية متكاملة تسكن نتاج المعري الشعري. فالمعري، حسب العلايلي، هو أوَّلاً وآخراً اللُّغوي الذي لا يُبارى، وعليه فقد استخدم المنهج اللغوي «لا قصد التعبير فقط، بل قصد التعليل والإدراك الكلي أيضاً… وطريقته إلى التصور الفلسفي تُحْسَبُ أشدّ طرافة وأكثر غرابة واستهواء.» (ص 36)
وانطلاقاً من قاعدة أن اللغة العربية «التي هي اللغة التامة»، رأى العلايلي أن المعري ذهب بهذه اللغة لتعبّر عن ظاهرات الطبيعة والوجود نفسه، وعن كل مظاهر التغيير في عالم الكون والفساد، وأنّ في اللغة أشياء الحياة كلها، وفي اللغة إعلال وتصحيح وفعل وانفعال وتفاعل، وفي اللغة تضعيف وإدغام واشتراك، ويضيف: «أليس في اللغة جسم وروح كاللفظ والمعنى؟ أليس في اللغة عالم غيب وعالم شهادة في المُضمَر والمضمِر، قال:
ما زال مُلكُ الله يظهرُ دائباً
إذ آدمٌ وبنوهُ، في الإضمار
….إذاً، ففي اللغة طبيعة وحياة ومجهول، أو هي عالم كامل عن عالمنا وهي أكثر تعبيراً عن كل هذا، من عالمنا المُحجب. فلماذا لا تكون اللغة هي الجانب الناطق عن ذلك الجانب الصامت، لا سيّما وهناك من لا يشكّ في أنها توقيف أي وحي، ومن لا يشك في دلالة العدد بينما اللغة تبطنه» (37-38).
ويخلص العلايلي إلى ما يلي: «هذا شيء لم يصرّح به أبو العلاء ونحن لا ننتظر منه تصريحاً، وهو الذي يبعثر بالقصد إشارات الطرق آخذاً على الآخرين سبيل الوصول إليه، وإنما ذلك شيء نحن نستنتجه استنتاجاً من إيماءاته، وبمعاناة غير يسيرة…. كما لا يستقيمُ تفسيره بالعبث تحلية وتوشية وبالتصنّع براعة وتفوقاً، قال:
من يبغِ، عنديَ، نحواً أو يُرِد لغةً
فما يساعفُ من هذا ولا هـــذي
يكفيكَ شرّاً، من الدنيا، ومنقصـةً
أم لا يبين لك الهادي من الهاذي
كان العلايلي يَرُدّ، من دون تسمية، على طه حسين الذي اعتبر أن إبداعات المعري في اللغة كانت نحواً من العبث وإظهار البراعة والتفوق.
العلاّمة العلايلي، ومن دون أدنى شك، هو من اقترب إلى حد المضاهاة والتطابق من منهج المعري اللغوي، ولعله في التميّز والتفرّد والتبحّر الأكثر قرباً من الجميع إلى المعري. إلّا أن مجال البحث الضيّق لا يسمح الآن بأكثر من مجرد الإلماح إلى نظرية العلايلي، على أن نعود إليها في عمل أوسع قريباً.
يبقى الاتجاه الرابع، والأخير، وخيرُ من عبّر عنه هو الأديب مارون عبّود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». نظرية الأديب الكبير مارون عبود في تفسير مُعتقَد المعري تذهب في اتجاه مختلف تماماً عمّا رأيناه حتى الآن. باختصار، هي تجعل المعري أحد أتباع، بل أسياد، «مذهب التوحيد»، على طريقة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وسنشرح النظرية الأخيرة هذه، نظرية مارون عبّود، مع بعض التوسّع نظراً لفرادتها، وريادتها، وأهميتها.
بذل الأديب المبدع مارون عبّود في كتابه («أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، 1946)، جهداً استثنائياً للدفاع عن نظريته في معتقد أبي العلاء المعرّي، ومؤدّاها باختصار، وبمفردات مارون عبّود: «فاطمية أبي العلاء» (ص 72). ويوغل مارون عبّود في المزيد من التعيين والتحديد لعقيدة أبي العلاء فيقول على نحو لم يسبقه إليه كاتب آخر: «وليس كتاب لزوم ما لا يلزم غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالاً وليطمئنوا في خلواتهم، فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشكَّ لحظة «بالمذهب» وما ارتدّ قط.» (ص 68) ويضيف:
«لستُ أقول أن أبا العلاء درزيٌ اسماً، فقد سمّوهم هكذا بعد. ولكني أقول أن مذهبهم مذهبه، وأنّ ما نراه اليوم عند الطبقة «المُتَنَزِّهة» من تقشفٍ وزهدٍ في الدنيا مأخوذٌ من اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريِّه، أبو العلاء المعري» (ص 68)
ويمضي مارون عبّود قُدُماً في تفسير حياة المعري، وبخاصة بعد عودته من بغداد (400 للهجرة)، وفي تفسير اللزوميات على وجه الخصوص وفق منهج مقارن دقيق يقود بجلاء إلى مطابقة أفكار المعري، ومعتقده، مع الأفكار الفاطمية، وبخاصة مع الأفكار المتفردة التي دعا إليها الخليفة الفاطمي السادس (أفكار التوحيد) باعتبارها أعلى درجات العرفان، بل الإحسان، التي أوردها القرآن الكريم في غير صورة وموضع.
ينطلق مارون عبّود من مُقَدَّمات منطقية وتاريخية في آنٍ معاً، لإثبات فكرته في أن معتقد المعري هو في خط يقين أهل التوحيد. أُولى مقدَّماته، إيمان المعري المُطلق بالعقل، يقول:
«أمّا العقل العلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بعينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضاً؛ فهو يرى كما يرى الفيثاغورويون أن الطهارة في خلاص النفس من البدن، لأن الجسد قبرٌ للنفس وهو عدوها اللدود، وفي هذا قال المعري:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عـن الخبــر النـبيثِ
لفَقدي ناظري، ولـزومِ بيــتي
وكونِ النفس في الجسد الخبيثِ
…والفيثاعورية كالمُنظَّمات الدينيّة اليوم، عاش أعضاؤها في عفَّةٍ وبساطةِ لبسٍ ومأكل، وقد حَرّمت أكل لحم الحيوان وبعض النبات – كما حرّم الحاكم أكل الملوخية مثلاً» (106-107).
بانتساب المعري إلى المنهج العقلي الصارم، بات مفهوماً تبرّمه مما يخالف العقل من أفكار جارية لم يجرِ التدقيق فيها. ومنها مثلاً نقده فكرة الإمامة واعتباره العقل وحده إماماً، حين قال:
يــرتجي النـاسُ أن يقــوم»إمامٌ
ناطقٌ» في الكتيبة الخرساء
كذبَ الظنّ لا إمام سوى العقلِ
مشيـراً في صبحه والمساءِ
وإذا قال قائلٌ أنّ المعري بنفيه الإمامة إلّا عن العقل إنما يخرج عن المذهب الفاطمي، يردّ مارون عبّود: «وهذا الظنّ منتهى الشطط لأن «الإمام» يتوارى في قمّة الدعوة الفاطمية – الدعوة التاسعة – ويحلّ محله العقل. يصير الإمام رمزاً لمعنى ليس أكثر» (106).
ويخلصُ مارون عبّود في نهاية الفصل المتعلّق بمعتقد أبي العلاء المعري إلى ما يلي:
«وإن تتبعني أيها القارئ الكريم بعد أن تتجردَ من ذاتك التقليدية فستعود من رحلتنا هذه وأنت واثقٌ مثلي أن شيخ المعرّة هو إمام المذهب الفاطمي، وكتاب «لزومياته» هو كتاب المذهب، وإنما عليك أن تقرأ ما كتبتهُ بإمعان، وتتبحَّر في عبارات «الدعوات التسع» فتدرك مثلي وتبصر» (ص 74).
هو ذا مضمون رأي مارون عبّود في معتقد أبي العلاء. ومارون عبّود ليس بالكاتب المبتدئ ليبغي شهرة من نظريته، ولا بالحدث المتهوِّر الذي يلقي برأيه جزافاً من دون تقصٍّ وبحث وأسانيد. وهو ما فعله مارون عبود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». فقد وقف الكتاب بأكمله ليثبت بالقرينة والدليل والسند والمقارنة أنَّ ما اقترحه من نظرية أو رأي مطابق كليّاً للوقائع التي أحاطت بحياة أبي العلاء، وللأفكار التي بثّها في شعره، تصريحاً في القليل القليل منه، وإلماحاً وتضميناً في عشرات القصائد أو أبيات الشعر المتناثرة – عمداً – والتي عرض لها مارون عبّود في كتابه.
حاشية أخيرة
حدود المقالة الضيّقة، كما كل مقالة، لم تسمح بالمزيد من التفاصيل والاقتباسات، في ما خصّ مُعتقد المعري تحديداً – ناهيك عن حياته، وثقافته، وأعماله، وكلٌ منها تتطلَّب مبحثاً مستقلاً. لذلك أنصح قارئي أن يعود إلى أعمال المعري نفسه وبخاصة ديواناه: سقط الزند واللزوميات؛ وأن يعود إلى كتاب الشيخ العلايلي «المعرّي ذلك المجهول»، وكتاب شيخ الأدباء مارون عبّود «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، ففيهما من التفاصيل والقرائن ما يدفع بالبحث في معتقد شيخ المعرّة، كما أعماله، أشواطاً عدة إلى أمام.