السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الأمير شكيب أرسلان اللّغوي

موقف الأمير شكيب من مسألة “العامية”

في تعريف «العامية» خصب الحديث عن «العامية» وعلاقتها بالعربية الفصحى، في النصف الأول من القرن العشرين. وانقسم مَن عنوا بهذه المسألة فرقاً واتجاهات؛ جاء مجملها في ثلاثة اتجاهات رئيسية : فريق أول، يرى فارقاً بين «اللغتين» اللغة المكتوبة (أي الفصحى) واللغة المحكية (أي العامية)؛ وبالتالي «ليس في اللغة المعربة ما في اللغة العامية من الصلاحية للتكلم والمخاطبة (…)، ولهذا قضى عليها (أي المكتوبة) قانون تنازع البقاء أن تجفوها الألسنة والشفاه، وتنبذها الأفواه …، وينحصر استعمالها في تسويد بياض القرطاس بمداد الدواة»٨. فريق ثان، يجعل «العامية» تتظلّل كنف الفصحى بلا انفصال، وإنّما انفصام.

ﻓـ «العامية» «لغة فصيحة موضوعة في عصور مختلفة للتعبير عن الأفكار بقوالب كثيرة، اصطلح عليها أبناؤها في كلّ قطر، وبكل وقت»(…)، وكان أن لاكتها الألسن، وتلاعبت بها التصرفات، فتغيرت أساليبها، وتلوّنت ألفاظها بين فصيحة محرّفة، أومصحّفة، وأجنبية دخيلة ومرتجلة غريبة، ولحن شائع، وتصرّف شائن، حتى بعدت في بعض الوجوه والأساليب عن أصلها الفصيح ومؤدّاها البليغ، فكادت «اللهجة» من هذه الوجوه تكون لغة قائمة بذاتها»٩. وفريق ثالث، وهو في اتجاه معاكس تماماً، للفريقين السابقين، وهو أكثر تطرفاً في إعلاء شأن «العامية»، التي هي – في بحوثهم – «لغة الحياة والشعب والآباء والأمهات»١٠، حيث الحيوية نابضة في عروقها، و»هي بعد لغة الحداثة والمعاصرة، لأن التجديد والانتخاب فيها لا ينقطعان»١١. ويرى أحد دعاة هذا الاتجاه (مارون غصن) «أن اللغة العربية العامية تترقى شيئاً فشيئاً، وتتحول مع الأيام، حتى تحلّ محل اللغة العربية الفصحى»١٢.

أمّا الأمير شكيب، فهو أكثر اقتراباً من طبيعة الفارق بين اللغة الفصحى واللهجة، حين أشار إلى نقاط أربع تباعد اللهجة عن اللغة الفصحى؛ وهي : الإعراب، أو اللفظ، أو المعنى، أو الصوغ. واللهجة، تبعاً لذلك «تخالف اللغة الفصيحة»١٣، بدون أن يؤدي هذا الخلاف إلى القطيعة، تلك التي جعلها فريق الاتجاه الأول بين «اللغتين»، بل العكس من ذلك، فالعامية «توأمة» الفصحى، و»أنهما وجدتا، أو ولدتا في وقت واحد، وعاشتا تحت سماء واحدة، ونمتا معاً»١٤. لكن ما يُراد بالعامية عند الأمير شكيب، لا يعدو «اللغة الركيكة والضعيفة والقبيحة والمولَّدة …»، إلى ما هنالك من ترادف في هذه المادة، حيث العامية في النهاية «لغة فاسدة»١٥.

وقد شكّل ارتباط مبحث أسباب ظهور العامية بمبحث تاريخ اللهجات العامية العربية نقطة بداية عند الأمير شكيب وبعض المحافظين؛ فهو يرى أن بداية اللحن، أو العامية، تعود إلى مرحلة الجاهلية :»إن اللغة العامية قديمة بقدم لغات القبائل، وقبل أن تكون لغة قريش لغة جميع الشعراء»١٦.

وذهب فريق من المحافظين، ومعهم فريق من دعاة العامية، إلى القول إن بداية ظهور اللحن نشأ «بمخالطة الأعاجم» إثر الفتوحات الدينية، وإن الفصحى متمثلة بلغة قريش قد أصابها الفساد إثر ذلك، وهو ناموس اللغات عامة. وكان قد ذهب إلى مثل هذا القول سليمان البستاني١٧، وعارف النكدي١٨، (من المحافظين).

الأمير شكيب هو أكثر اقتراباً من طبيعة الفارق بين اللغة الفصحى واللهجة، من خلال أربع نقاط تباعد هي الإعراب، اللفظ، المعنى، و الصوغ.

ويحاجج الأمير شكيب القائلين بجعل اللحن في عهد الدعوة الإسلامية، فيورد مجموعة أدلّة، نقلها عن أئمة النحو، تؤيد موقفه، القائل إن بداية ظهور اللحن عائد إلى مرحلة الجاهلية، جاعلاً ذلك في ثلاث نقاط، هي:

  1. إن العرب قد خالطوا الأعاجم قبل الإسلام بقرون عديدة، لسبب من الغزوات والفتوحات والتجارة، ومجاورتهم بلاد الأعاجم١٩.
  2. وإن العرب لم يكونوا، كلّهم، على لغة قريش، ردّاً على من يقول إن أول ما فسد من اللسان العربي المضري ملكته، أي تغير إعرابه.
  3. وإن من العرب والأعراب من كان يجهل الإعراب جملةً،وذلك منذ أقدم الأزمان بدون أن يمكن الوقوف على أول عهده. ودليل الأمير شكيب على ذلك «الكتابات التي عثر عليها الباحثون من علماء المشرقيات، وقد رأوا في الكتابة الواحدة كلاماً معرباً، وغير معرب معاً (…)، كما وجد المستشرقون في الرُّقُم التي وجدوها في أنحاء سيناء وديار النبط مثل هذه العبارة : «عبد الله»، وجاءت دال «عبد» خالية من الرفع. أمّا هاء اسم الجلالة فمجرورة»٢٠.

ويخلص الأمير شكيب إلى رفض الأقوال التي تربط بداية اللحن بظهور الإسلام، «ولهذا لا نستصوب كلام الرافعي في كتابه «تاريخ آداب العرب» (مج۱، ص٢۳٩)٢١، إذ يقول : «نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات، لا أكثر». قلنا نحن : وكفى بذلك دليلاً على وجوده. والعلماء لا يقولون غير هذا القول. فإذا وُجِد في لغات، أو كان لغات ثبت وجوده عندهم قبل الإسلام فكيف ينكر بعد ذلك وقوعه في كلامهم. فلينصف العقلاء».

إلى مثل هذا الرأي الذي سجّله الأمير شكيب، يذهب الأب لويس شيخو، فيقول : «وليس العامي حديث الوضع في العربية، وإنما جرى عليه العرب في بدوهم وحضرهم منذ القديم حتى في أوان الجاهلية وبعد الإسلام في كل أطواره إلى يومنا»٢٢.

صورة للأمير شكيب أرسلان.

والرأي ذاته، نجده عند عيسى اسكندر المعلوف، حيث يقول : «لا خفاء أن تاريخ اللهجات العامية العربية يرجع إلى عصر الجاهلية»٢٣. ما ذهب إليه كلٌّ من الأمير شكيب والمعلوف وشيخو، كان مادة لدراسة «العامية» في ضوء علاقتها بالفصحى، ابتغاء تفسير تاريخي ﻠ «العاميات» في الوطن العربي، ومنها العامية اللبنانية، وما لها من روابط أصلية تعيدها إلى اللهجات العربية القديمة، عبر المقارنة بين لهجتين أوأكثر. وهو ما سنتحدث عنه، في الصفحات التالية، من خلال دراسة كتاب الأمير شكيب : «القول الفصل في ردّ العاميّ إلى الأصل».

في ما قدّمه كتاب «القول الفصل في ردّ العاميّ إلى الأصل»: قدّم الأمير شكيب ، في هذا الكتاب، محاولة في ردّ عدد كبير من الكلمات العامية إلى الفصيح،
ليكون ذلك معيناً للعامة، وتنبيهاً للخاصة كي لا يعرضوا عن هذه المواد العامية. وبالتالي يكون في إبانة مثل هذه المواد غناء للغة في التعبير عن المتجددات من أفكار وأحوال وفنون.

وهذا الاتجاه في درس العامية، هو ردّ علمي على ما كان «يتراءى» لعدد من اللغويين، الذين ينسبون الألفاظ العربية المولّدة، والعامية، إلى غير العربية، ويعدّون تلك الكلمات دخيلة؛ فقد أسرف بعضهم في إلحاق كثير من الكلمات العربية بالسريانية، أو غيرها من اللغات، على أن إرجاعها إلى أصل عربي واضح، أو ممكن على الأقل. وقد أبان المؤلّف في ما رصده من كلمات عامية، عمّا لحق هذه العامية من ظواهر صوتية، وصرفية ونحوية وأسلوبية. وقد غطّت هذه الكلمات أقطاراً عربية عدة (لبنان، مصر، الشام، العراق، ليبيا، السعودية)، والتقط كلمات من مدن وقرى محددة، ذكر منها : حلب، برقة، طرابلس، نجد، حمص، حوران، كسروان.

يشار هنا إلى المنهج المقارن في دراسة الكلمة العامية، التي تتطابق دلالتها في أقطار عربية عدّة، مع تباين في بعض الظواهر اللغوية، من غير أن يصعب إرجاع هذه الكلمة إلى وجه من وجوه الفصحى. ولا شك أن ما كشفه المؤلّف عمّا تحمله مئات الكلمات العامية من تشابه في مناطق جغرافية عدّة، في طريقة نطقها، وتداولها، لم يأتِ عفواً، ولكنه يشير إلى ماضٍ مشترك، وإلى مراحل تاريخية واحدة مرّت على هذه المناطق الجغرافية، المتشابهة لغةً وتعبيراً في كثير من عاميّاتها. وإن هذا النوع من الدراسات اللغوية، يدفعنا إلى القول، إنه نواة أطلس لهجي، لم تتوفر له المنهجية العلمية السائدة في زماننا، لكنه – بالمقابل – عمل يحثنا على القيام بعمل أطلس لغوي، قوامه تسجيل الواقع اللغوي على خرائط يجمعها، آخر الأمر، أطلس لغوي عام، وتختص كلّ خريطة بكلمة، فتسجّل عليها الاختلافات الممكنة للكلمة الواحدة، سواء أكانت هذه الاختلافات صوتية، أم كانت صرفية تتناول صيغة اللفظ وبنيته. وسيكون لهذا الأطلس اللهجي الفضل في إطلاعنا على تاريخ علم الأصوات والتغيرات التي أصابت اللغة العربية في الأماكن المختلفة التي غزتها، ومدى انتشارها وتأثرها بالمراكز الثقافية، وتنوّع مفرداتها، إلى غير ذلك من المكتشفات التي لا يمكن أن تتم إلا إذا جمعت هذه المواد24.

وقد أفادت هذه المقارنات اللهجية في ما كشفه المؤلّف عن ظواهر متشابهة بين مناطق عربية عدّة، ليست متقاربة جغرافياً، لكنها ترتبط في ما بينها بروابط أصيلة، تعيدها إلى اللهجات العربية القديمة، عبر المقارنة بين لهجتين أو أكثر. وقد استدلّ المؤلّف من هذا التقارب، أو المقارنة، على طبيعة نزوح القبائل العربية، وتوزّعها في البلاد العربية، الإسلامية، تم توطّنها في أماكن متفرقة؛ كأن يقيم مقارنة بين لهجة أهالي حلب والشام وسورية الداخلية من جهة، وبرقة في ليبيا من جهة أخرى؛ فيرى وجه تشابه في طريقة الكلام، ويردّ أصول التشابه إلى جذر واحد، هو «قبائل نجد»، وكذلك يربط بين لهجة الدروز في جبل لبنان وشيعة جبل عاملة في جنوب لبنان، حيث أعادهما إلى «الجذور اليمانية»، وغيرها من صور الربط والتشابه بين اللهجات، قديماً وحديثاً، تلك التي تعني عند المؤلّف حالتين اثنتين: إمّا الجوار، وإمّا وحدة الأصل. فإذا كان الكلام متشابهاً بين سكان بلدان «مصاقبة بعضها لبعض لم يكن ثمة إلا الشيء الطبيعي، وكان الناس علّلوا هذه المشابهة بالجوار الذي يحدث أصناف العلاقات بين المتجاورين. وأمّا إذا كانت المشابهة، أو حذو النعل بالنعل بين بلدان متباعدة، هذا في الشرق، وهذا في الغرب، كما بين الشام والأندلس مثلاً، أو نجد وشنقيط، فلا يكون لذلك سبب إلا وحدة الأصل»٢٥.

وكان الأمير شكيب قد تعقّب عدداً من الظواهر اللهجية المشتركة بين قطر وآخر، أو بين مدينة وأخرى، مسجلاً ملاحظات جديرة بالدرس مجدّداً؛ فقد ذكر، من ذلك ظاهرة الإمالة في المقصور، والممدود، ولكن بدون اطّراد، تلك التي ينطق بها الكثير من أهل سورية ولبنان والحجاز ومصر : «فتجد بلداً مثل بيروت يقول أهلها للهواء «هوا» بإمالة الألف، و«نجا» و«جوى» و«سوا» و«ظما» و«ندى» وما أشبه ذلك، كأنما هي بين الألف والياء. وبجانبها لبنان، يقول أهله جميع هذه الألفاظ المنتهية بالألف المقصورة، أو الممدودة، كما يقولها أهل الحجاز أو مصر.

ويسجّل الأمير شكيب ملاحظة لهجية طريفة، كان قد شهدها في أثناء إقامته بالأندلس، فقد لحظ من «ألفاظ الإسبانيول العربية النازعة إلى عرق قديم في لغة الناطقين بالضاد، لفظة «رَبَال» Rabal ومعناها : ضاحية البلد، أو الربض. وفي كتب اللغة عندهم أنها لفظة عربية محرّفة، أي أن ضادها انقلبت لاماً». ويضيف الأمير شكيب شارحاً : «وقد كنت أظن أن قلب الضاد لاماً في هذه اللفظة إنما جاء من الإسبانيول، كما هي عادة كلّ أمة في تحريف ما تنقله عن أمة أخرى. لكني لمّا كنت في الحجاز من سنتين، وصعدت الى جبال الطائف للنزهة، سمعت قبيلة هذيل، وطائفة من ثقيف في جبال الشفا ينطقون بالضاد لاماً مفخّمة، فيقولون للضيف «ليف»، وﻠ «الضيق» «ليق»، وﻠ «الأخضر» «اخلر»، وكذلك الظاء، يلفظون منها كثيراً كاللّام، فيقولون»صلاة اللُّهر» أي صلاة الظهر. فتذكرت هذا الأمر، وعلمت أن الإسبانيول لم يحرّفوا «الربض» من عند أنفسهم، بل سمعوا ضاده لاماً، منذ جاء العرب إلى ديارهم»٢٦. وينسحب هذا المنهج المقارن، في عقد الصلات اللهجية بين منطقة وأخرى، وتأصيل هذا التشابه في العودة إلى جذوره اللهجية القديمة، في جزيرة العرب، على الكثير من الأمثلة التي ساقها المؤلّف؛ ﻓ «شين الكشكشة، كانت لغة ربيعة في نجد، ولهذا نجدها في أكثر بادية الشام، لأن أكثر قبائل الشام هم من عنزة. ولا يخفى أن عنزة هي من ربيعة (…) فقد نقلوا شين الكشكشة معهم، من نجد إلى الشام»٢٧.ومن المناسبات الواقعة بين التاريخ و اللهجات، أيضاً، ما ساقه المؤلّف عن كيفية لفظ القاف، «فإن القاف المقلقلة، كانت في القديم لفظ قريش، وأهل مكة أم القرى، كما أن القاف المعقودة، أي التي بين القاف والكاف كانت لفظ البادية. وإنك لتجد الحالة بعينها إلى يوم الناس هذا؛ فأهل الحواضر والعلماء والأدباء والمترفون يلفظون القاف النحوية، وأهل القرى و الصحارى، سواء في الشام، أو مصر، أوجزيرة العرب، أو العراق، أوشمالي إفريقية، يلفظون القاف المعقودة»٢٨.

وإن ما عزّز هذه المشاهدات، والمناسبات، والملاحظات و التعقيبات الخاصة بالمنهج اللهجي المقارن، التي كان قد بدأها الأمير شكيب بمحاضرة أكاديمية (ألقاها في مؤتمر المستشرقين في ليدن، في أوائل أيلول/سبتمبر۱٩۳۱)، هو ما قام به موسّعاً في كتابه «القول الفصل في رد العاميّ إلى الأصل»، الذي نراه، في المحصّلة، نواة بحث لغوي، أو بذرة عطاء، في اتجاه المزيد من دراسة العاميات، في الوطن العربي، في إطار «الأطلس اللغوي»، الذي يعتبر- بحق – نوعاً من العرض الجغرافي للغة، ممثّلة في لهجاتها المختلفة، والذي يكون قوام بنائه العلمي مجموعات من الباحثين المتخصصين في شؤون هذا العمل الكبير، ويصدر – من ثم – عن مؤسسات قادرة علمياً وتقنياً ومالياً، على شاكلة الأطالس اللغوية التي صدرت، في أوروبا، حتى تاريخه.

ملاحظة
الوثائق الثلاث المنشورة في ملفّ الأمير شكيب أرسلان هي من مكتبة الأستاذ والباحث شوقي حمادة وقد خصّ
بها، فشكراً.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي