الخلافة الإسلامية والوحدة العربية
إلى جانب مقاومة سلطات الانتداب في بلاد الشام والعراق وفي أروقة عصبة الأمم وكذلك محاربة الاستيطان اليهودي، برزت قضيتان جديدتان تشغلان العالم العربي والإسلامي بعد زوال الخلافة العثمانية: (الخلافة الإسلامية، وقضية الوحدة العربية). وكانت تلك القضيتان تؤرقان الأمير شكيب وتأخذان كامل وقته أو ما تبقى نتيجة الانشغالات السابقة، وإذا ما عدنا إلى مراسلات الأمير مع الشيخ رشيد رضا أو إلى ما توفر من رسائل متفرقة في مواضيع أخرى لوجدنا أن حيزاً كبيراً من هذه الرسائل كان يعالج هاتين القضيتين.
أما قضية الخلافة الإسلامية فلم يتوصل المهتمون بالأمر آنذاك في العالمين العربي والإسلامي إلى نتيجة بشأنها لأن تلك الشعوب كانت واقعة تحت الاحتلال والانتداب من إندونيسيا إلى موريتانيا، باستثناء اليمن وقلب الجزيرة. لذا كان للإمام يحيى حصة في هذا الموضوع رغم طموحات الخديوي المصري ثم الملك فيما بعد بالحصول على هذا اللقب تحت الانتداب البريطاني ومن الواضح أن انتماء الإمام إلى المذهب الزيدي كان يبعده عن التفكير بهذا اللقب أو بترشحه له من قبل المتابعين كون العالم الإسلامي والعربي تنتسب أكثريّة سكانه بالمذهب السني والشيعي الإثني عشري.
أما قضية الوحدة العربية فعادت تدغدغ أحلام النخبة العربية السياسية والفكرية بعد نكسة الانتداب. واعتبر بعض هؤلاء المفكرين والنشطاء ومن بينهم الأمير شكيب أن بعض الكيانات الجديدة الناشئة يمكن أن تكون قاعدة لوحدة عربية لم تتضح تفاصيلها بعد ولم توضع على محك التجربة. وكانت بلاد اليمن إحدى هذه القواعد الممكنة بعد عام 1925م ثم مملكة عبد العزيز ابن سعود وأخيرا الملك فيصل الأول في العراق حين حصل على مظاهر استقلالية واستقطب مجموعة من المتنورين العروبيين.
وبدأ بعض الرحالة والمتنورين والصحافيين يقصدون بلاد اليمن لاستطلاع الأحوال ولعرض تطلعاتهم وأفكارهم في موضوع مستقبل العالم العربي ومن بين الرحالة الذين تركوا آثاراً مكتوبة عن مغامرتهم اليمنية:
- أمين الريحاني: الذي زار اليمن بكامل أجزائه في ربيع عام 1922م وسجل تفاصيل رحلته في الجزء الأوّل من مؤلفه: «ملوك العرب».
- عبد العزيز الثعالبي: الرحالة والمتنور التونسي الذي زار اليمن في صيف 1924م وتم نشر رحلته إلى اليمن مؤخراً في كتاب: «الرحلة اليمنية».
- نزيه مؤيد العظم: الذي زار اليمن في عام 1926م وطبع مشاهداته وانطباعاته مؤخراً في كتاب رحلة في البلاد العربية السعيدة».
وإذا كانت أفكار وكتابات أمين الريحاني هي الأكثر صراحة وجدية وجرأة سواء في النقاش مع المشايخ والأمراء والسلاطين وفي وصف التخلف القائم، فإن البضاعة التي عرضت أو الأفكار التي عرضت والأفكار التي روج لها لم تلاق أي صدى إيجابي على الصعيد الفكري والوحدوي نظراً للتباعد الذي يصل إلى حدّ التناقض بين الآمال وبين واقع الحال وبين الحكام أنفسهم.


ورسام كاريكاتير لبناني.
وكان الأمير شكيب على تواصل مع الثعالبي منذ إخراجه من تونس على يد سلطات الحماية الفرنسية وصار حاله مشابهاً لحال الأمير. وكان ينصحه بالتجول في بعض أرجاء العالم العربي والإسلامي لنشر الأفكار التنويرية التي كانت سبب نفيه من تونس، وفي رسالة أولى من الأمير شكيب إليه تعود إلى شهر آذار من عام 1924م يستدل كم كان الأمير مطلعاً على أحوال اليمن وعلى سياسة الإمام يحيى، ويقول في قسم من الرسالة المنشورة في الكتاب الآنف الذكر:
قضية اليمن: عدنا فسمعنا أنه لم يتم الاتفاق بين الإمام والإنكليز وواحد عربي أقام مدة في اليمن وكان من أكثر الناس اطلاعاً على دخائلها، يؤكد لي أن الإمام لا يمكن أن يتفق مع الإنكليز ولا مع غيرهم من الأجانب، لأن هذا مخالف لشروط الإمامة في مذهب الزيدية… وأن من بين
هؤلاء المعتمدين من هم معروفون بعدم الصدق والاستقامة ومن يقبض الرشوة، والإمام يعلم ذلك ويفوضهم ظاهراً ولا يسمع كلمتهم باطناً، بل يجعلهم واسطة لتعلق الآمال وعدم قطع العلاقات… ويقول لي هذا الرجل أنه لا يمكن أن يقبل الإمام بمدّ خط حديد من عدن إلى صنعاء… (ص ٢٠٦-٢٠٧).
إنه وصف دقيق لمن خبر سياسة الإمام وطريقة إدارته لشؤون اليمن. ويبدي الأمير رأيه للثعالبي في رسالة ثانية بشأن «الإنكليز». وبطريقة تطوير اليمن وإيقاظها كما يقول: بلغنا أن الإمام يحيى اختلف مع الإنكليز… وهل هناك اعتراف من الإنكليز باستقلال اليمن الخارجي أيضاً؟ وهل للإنكليز شيء من الامتيازات أم ليس سوى إقامة ممثل لهم في صنعاء ومدّ الخط الحديدي من عدن إلى هذه المدينة؟… أفلا يمكن ذهاب وفد أنتم فيه للاطلاع على حقيقة الحال؟
أنا لا أقدر أن أذهب إلى اليمن الآن ولا بدّ لي من سنة بالأقل حتى أشاهد العائلة وفيما بعد أفارقهم…. يجب إيقاظ اليمن وتشكيل إدارة خلفية متحدة مع إعطاء كل قوم حقوقهم في اليمن حتى لا يغتاظ فريق من فريق. ويجب الاهتمام قبل كل شيء بإقامة العدل ومراقبة القضاة وإيجاد درجات للمحاكمات… ويقتضي أن مثل هذه التشكيلات لا يدخل فيها إنكليزي وإن احتيج للتعامل إلى أوروبيين فليكونوا من الألمان أو من السوريين أو من أمم لا مصالح لها في اليمن (الآستانة ٧ يناير ١٩٢٥م) (ص ٢٠٢).
هذه الأحكام تدل على متابعة دقيقة للأمور في اليمن وعلى عقلية رجل دولة ورجل سياسة.
أما في قضية الوحدة العربية فكانت للأمير إسهامات عديدة على شكل كتب ورسائل ومقالات خاصة بعد أن يئس الأحرار العرب والمسلمون من «الملاحدة الأتراك» الجدد كما ينقل هو عن رشيد رضا. وإذا كان لا مجال للتوسع في هذا الموضوع فيمكن القول إن مقاربة الأمير لموضوع الوحدة كان يختلف عن مقاربات بعض المفكرين والمصلحين العرب في بلاد الشام أو الذين رحلوا إلى مصر. وكان يعتبر أن الوحدة لا بدّ أن تتأسّس وتنطلق من نظام عربي مستقل وغير واقع تحت الانتداب أو الاحتلال كما أسلفنا. وكانت علاقاته مع القيادات العربية والحكام العرب تسمح له أن يخاطبهم ويراسلهم مباشرة بهذه الأمور.
وها هو يذكر في كتاب السيد رشيد رضا المحرر في عام 1937م ما يلي: أظن أني كتبت إلى الإمام يحيى في قضية المحالفة بينه وبني ابن سعود وكتبت إلى الملك عبد العزيز في قضية المحالفة بينه وبين الإمام يحيى أكثر من خمسين مرة. الاثنان شاهدان على ذلك. كما أن كتبت إلى المرحوم الملك فيصل بقدر ذلك في أمر اتفاقه معهما. وعندي منه مكتوب يقول فيه: أشهد أنك أول من تكلم معي في قضية الوحدة العربية”.
وكلمة حق تقال بأن المشتغلين بهذا الأمر والمتعاطين مع الملوك والأمراء كانت تتجه أمالهم تدريجيّا إلى الملك عبد العزيز بدل الإمام يحيى وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية عائدة لكلا الشخصيتين ولا مجال للتوسع بها. وهذا ما يظهر لاحقاً في موضوع الخلاف بين العاهلين المذكورين في عام 1934م.