معاهدة الطائف عام ١٩٣٤م


حين اندلعت الحرب بعد مجموعة من المنازعات بين الجيشين اليمني والسعودي في أوائل عام 1934م، لم تكن هناك دولة عربية مستقلة أخرى تبادر إلى إصلاح ذات البين بين العاهلين الجارين سوى العراق. وكان الأمير أحمد ولي العهد اليمني قد تقدم نحو الشمال في المناطق القبلية التي تقطنها قبائل تدين معظمها بالمذهب الإسماعيلي المتخاصم مع الزيدية اليمنية وكانت هذه المناطق تابعة أصلاً للأدارسة قبل أن يضمها آخر عاهل إدريسي تحت حماية آل سعود عام 1926. كما تقدم الأمير فيصل نجل العاهل السعودي في الساحل اليمني ووصل إلى مدينة الحديدة ميناء اليمن الأساسي.
وكان القائدان الشابان متحمسين لحسم الأمر عسكرياً فتداعى « حكماء العرب» آنذاك المنضوون في المؤتمر الإسلامي بالقدس: الحاج أمين الحسيني ومحمد علي علوبة وهاشم الأتاسي إلى التعجيل بالتوسط لدى الملكين، وتشكل وفد من الحاج أمين الحسيني ومحمد علي علوبة باشا وهاشم الأتاسي، وتمّ الاتصال بالأمير شكيب إرسلان أن يلتحق بالوفد من سويسرا.
وقد نجح الوفد في إقناع الملكين الأبوين في الضغط على القائدين بالتراجع عن الحسم العسكري وبالعودة إلى المواقع السابقة. وانتهت الوساطة في مدينة الطائف ووقع على الاتفاق مندوبان عن المتحاربين. هذا الاتفاق سيظل يرعى علاقة الحدود بين البلدين حتى عام 2000م فاستبدل باتفاق جدة. ونتيجة لذلك يمكن أن نقول القلوب لن تتصافى سريعاً بين العاهلين القادمين حين يستلما الحكم. وقبل هذا الاتفاق بوقت قصير حصل اتفاق مماثل يعبر عن الأمر الواقع بين الإمام يحيى وبين سلطات الإنكليز استقرت بموجبه الحدود الجنوبية. وباتت اليمن في وضع معترف به دولياً. من جيرانها على الأقل. وبات متوجباً على الإمام أن يلتفت إلى أوضاعه الداخلية.
بعد اتفاقية الطائف أصبح للأمير شكيب حضور وتأثير إضافي في اليمن
فبعد اتفاقية الطائف أصبح للأمير شكيب حضور وتأثير إضافي في اليمن، إذ زار صنعاء في الربيع واجتمع بالإمام واطلع مباشرة على أوضاع البلاد التي كانت ما زالت تعيش في الماضي ولا وجود لمظاهر دولة حديثة أو معاصرة كما يحدث في العقد الرابع من القرن العشرين: فالجيش وقوات الأمن مجموعة قبائل تحط رحالها للعقاب وتنفيذ توجيهات الإمام والقضاء مجموعة من الفقهاء يعينهم الإمام لتطبيق الشريعة والتعليم عبارة عن كتاتيب دينية والكرة الأرضية ما زالت أديماً مسطحاً وأرجاء البلاد غير متواصلة إلا بواسطة الدواب، وكان الإمام أو نوابه يملكون سيارات فقط تسير على طرق ترابية ! وماذا يقال عن الخزينة! وقد أشار الأمير على الإمام أن يبدأ بوضع أسس للدولة الفتية وأقنعه بمعالجة النقص وجلب خبرات بالاعتماد على عرب من بلاد الشام ومصر وعلى أجانب ليس لدولهم مصالح معينة.. وكان جاره الملك عبد العزيز سباقاً في هذا المجال.
لم يتجاوب الإمام كثيراً، ولكنه لم يرفض، كان الشك والحذر والريبة من كل غريب سواء كان عربياً أو أجنبياً – يطبع سياسة الإمام مند توليه الحكم. وبات هذا معروفاً لدى القاصي والداني وكل من عرج على اليمن. وعندما عرض عليه الأمير شكيب أن يقوم شخصياً بإرسال بعثات أو أشخاص يؤسسون لهذه الأعمال ويملؤون ما أمكن من وظائف تقنية إدارية أو طبية، دون الدخول في التعليم والعقائد، عندما عرض الأمير هذا ترك الإمام أمر الموافقة لكل حالة على انفراد.
ومن جديد وقع الاختيار على شاب من عائلة صديقة للأمير شكيب في جبل لبنان. وهذا ما يقصّه نجيب سعيد أبو عزّ الدين في تجربته في اليمن والتي صدرت في كتاب سماه «عشرون عاماً في خدمة اليمن». فبعد أن كان الشاب يعمل في مشروع مياه الحمة في فلسطين شجعه أهله بطلب من الأمير شكيب أن يذهب إلى اليمن ولو لسنة واحدة. ويبين الجواب الذي كتبه الإمام للأمير شكيب بهذا الصدد سياسة الغموض والتسويف التي يعتمدها إزاء الأجانب. ويضع أبو عز الدين صورة عن كتاب الإمام ويقول: «حاوي خير إلى الأمير شكيب إرسلان حفظه الله. تأملنا حاويكم وما وصفتم به أسرة نجيب أبو عز الدين وما يرغب فيه وكنا نودّ أن يكون الجواب حاوياً للإسعاف لو توفرت الدواعي إلى مثله ولكننا الآن نسعى لترتيب مقدمات نافعة إن شاء الله وعند الإكمال واللزوم سنفيد إلى حضرتكم. ومن المغني عن البيان أن رواتب اليمن وجيزة للمشي مع الأحوال اللازمة. ولا تتركونا من إفاداتكم المحبوبة والسلام عليكم» (ص 19).
ويقوم أبو عز الدين بمغامراته بعد موافقه متأخّرة ويذهب إلى العمل على اعتبار أنه سيكون في مكتب الشؤون الخارجية والاتصالات الذي كان يشرف عليه الموظف العثماني السابق محمد راغب بك، وذلك اعتباراً من أوائل عام 1936م. ولا مجال للتوسع بعرض عذابات ومفاجآت الموظف الشاب وما أسند له من أعمال إضافة لأعمال الترجمة ولا في الوضع الصحي الذي كان سائداً في صنعاء آنذاك وكان ضحيّته. ولكنه كان من اللّباقة والتأدب والدبلوماسية أنه تحمّل كل شيء ولم يصف كل ما عاناه، ونجح بعد مدة أن يرحل إلى عدن للعمل مع السلطات البريطانية هناك. ولم يذكر أخيراً إن كان قد ندم على هذه التجربة التي غيّرت مسار حياته ولم يذكر كذلك عن الأمير «مرسله» إلى اليمن كما قال يوسف حسن قبل ذلك بربع قرن، وقد تزود أبو عزّ الدين كذلك برسالة توصية من هذا الأخير إلى أصدقاء له في اليمن!


ولا بدّ من ذكر شخصية أخرى غير معروفة كثيراً كان للأمير شكيب دور في توجيهه لليمن وتذكره بعض الوثائق وخاصة الألمانيّة ألا وهو زكي كرام. لقد كان ضابطاً في الجيش العثماني انسحب بعد الحرب الأولى والتجأ إلى ألمانيا حيث سيعود في الثلاثينات ليبيع أسلحة وذخائر «ألمانيّة» لجيش الإمام، تلك البنادق التي ظلت موجودة في اليمن لوقت طويل…
ولنتأكد من مدى تشدّد الانتدابين الفرنسي والبريطاني على الأمير شكيب بمنعه القدوم أو المرور في أراضي البلدان التي كانت تابعة لهما لنترك الأمير يتحدث عن خروجه من اليمن بعد التوصل إلى اتفاقية الطائف. فيقول في كتابه عن رشيد رضا (الجزء الثاني ص. ٣١٧) إن الإمام يحيى توسّط مع ملك الإنكليز مباشرة للسماح للأمير بالمرور في فلسطين، فجاءت برقية من المندوب السامي البريطاني يسمح فيها للأمير بالبقاء مدة أسبوع في فلسطين مددت بعدها إلى أسبوعين شرط “عدم تعاطي السياسة” وجاءت والدته حينذاك من جبل لبنان لمقابلته وألحّ عليه بعد ذلك المندوب بلزوم السفر معتذراً بإلحاح الفرنسيين! وبعد رجوعه إلى سويسرا واندلاع الحرب الأهلية الإسبانية في صيف عام ١٩٣٦م يحرّر الأمير رسالة مطوّلة إلى عبد الله الوزير أمير الحديدة وتهامة من قبل الإمام يحيى، ندرك مدى عمق تعاطي الأمير في القضايا الأوروبية وانعكاسها على بلدان الانتداب. ففي الرسالة الموجودة في مركز الوثائق اليمنية في صنعاء بشرح الأمير للسيد الوزير ضراوة الحرب الأهلية الطاحنة وما خلفته من خسائر بشرية ومادية في المجتمع الإسباني الذي انقسم بين الجمهوريين والعسكر الملكيين بقيادة الجنرال فرنكو، وكيف حاولت الحكومة الجمهورية سراً استمالة مسلمي إسبانيا في الريف المغربي التابع لها لتسليحهم والقيام ضد الملكيين، ثم ينتقل الى انقسام دول أوروبا نتيجة تلك الحرب الشرسة. والأهم من ذلك كيف انعكست سياسة دولتي الانتداب فرنسا وإنكلترا على التساهل في الوصول إلى عقد معاهدتين في سوريا ولبنان من جهة وفي مصر من جهة أخرى في عام ١٩٣٦م. وهذا تحليل شامل بعيد النظر لرجل كان يتعاطى السياسة على نطاق عربي واسع. ثم يقدم الأمير الثناء وعظيم الشكر للسيّد الوزير و”لأمير المؤمنين” الإمام يحيى على تعاطفه مع انتفاضة الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني إزاء سياسة الاستيطان اليهودي وكيف فتح الإمام مكاتب في أنحاء اليمن وقام بحملة التبرع للمجاهدين في فلسطين.