الجمعة, تشرين الثاني 22, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, تشرين الثاني 22, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بطاقة هوية

– الضحى تنطلق من بيئة الموحدين الدروز لكن انتماءها والتزامها يقع في الدوحة الأوسع للعروبة والإسلام .

–  الضحى مجلة قضايا وحوار ومبادرات تهم الناس في وعيهم وثقافتهم وعيشهم وليست مجلة للخوض السياسي. فالشأن السياسي له مرجعيته ووسائله المولجة بها.

– نهتم بقضايا مجتمع الموحدين الدروز والجبل لأننا قريبون منها واقدر بالتالي على مواجهتها ولا ننطلق في ذلك من مشاعر الانغلاق الثقافي أو الديني أو الاجتماعي.

– لأن العديد من هذه القضايا ليس خاصا بمنطقة أو بفئة فإن المعالجات قد تحمل ما يمكن البناء عليه من قبل إخواننا في الوطن في مناطق وبيئات مشابهة. أي أن عملنا ينطلق من الخاص ليطال بالفائدة صعيدا أعم وأرحب.

الحكيم سقراط في حياته وتعليمه

حتلُّ المعلم الأكبر سقراط موقعاً محورياً في وجدان أهل التوحيد ومعتقدهم. وهذا الموقع الأساسي الذي يحظى به بين مشايخهم وزُهَّادهم والسالكين الجَّادين منهم، له بالطبع أساسه المتين في ما نُقِلَ عبر التاريخ، وخصوصاً عبر مؤلَّفات معاصريه أو تلامذته (أفلاطون وزينوفون وغيرهما) من أخباره وحِكمته وزُهده وإِبائه وتعليمه وأثره الهائل الذي طبع كافة التيَّارات الفكرية والفلسفية بعده؛ كما أنَّ تعظيم الموحِّدين الدروز لـ سقراط الحكيم، هو في الوقت نفسه دليل بين دلائل كثيرة على الجذور الكونية لمسلك التوحيد، كما أنه برهان على الصلة بين التعليم السقراطي وبين ما انطبع عليه الموحِّدون الدروز من نسق خاص في العبادة والتأمُّل والمجاهدة والمراقبة، وما تاق إليه شيوخهم التقاة على الدوام من فقر واحتقار للدُّنيا واستقامة وصدق وتسليم وخضوع تام للخالق العلام. ولهذا السبب وجدنا أنَّه من الفوائد الكبرى للموحِّدين أن يطلعوا بصورة أفضل على حقيقة سقراط وأن يحيطوا جيداً بشخصيته وسلوكه وشمائله وتعليمه، ليروا فيها إعزازاً للمسلك وتوضيحاً للطريق ورفعاً للأوهام وحثّاً على الجِدِّ والاستقامة في العبادة، اقتداءً بهذا المُعلِّم وبإرشاده السامي للطالبين والمجاهدين في كلِّ زمان ومكان.

نشأته وظهوره

بعد مضي أكثر من 2480 عاماً على ولادته لا تزال حياة الحكيم سقراط لغزاً كبيراً، لكن المعروف عنه أنَّه وُلِدَ وترعرع وعاش وعَلَّم الأثينيين الحِكمة في ما اعتبر العصر الذهبي لأثينا، وهي الفترة التي امتدَّت بين العامين 469 و399 قبل الميلاد والتي تمكّن اليونانيون خلالها، ليس فقط من صد توسُّع الفرس في معركة ماراثون في العام 490، بل إلحاق هزيمة كبيرة تالية بهم في العام 480 ق.م. في معركة سالاميس، ثم في بلاتاي في العام 479 ق.م. وقد نجم عن هاتين المعركتين ردُّ الفرس على أعقابهم وتمتَّع اليونان بمرحلة طويلة من الأمن والازدهار.
وكما يحصل دائماً فإنَّ البحبوحة والسلام يجلبان معهما المتناقضات. فهناك من جهة مظاهر البذخ والإسراف والتعلّق بزينة الحياة مثل المال والجاه والتسابق على الفوز بمغانمها، لكنه وبالنظر لتحرّر الناس من جهد العمل (وقد كان الاقتصاد اليوناني قائماً على جهود العبيد)، فإنَّ العديد منهم ستتاح له فرصة الإطلاع والبحث في الفلسفة والفنون والترقِّي بنفسه في معارج العلوم. وليس صدفة أن تكون المدرسة الأثينية ازدهرت في تلك الحقبة بالذات لتُخلِّف للبشرية إرثاً هائلاً ما زلنا إلى اليوم ننهل من نفائسه.
في هذه الحقبة الخاصة بالتاريخ اليوناني عاش سقراط، ويمكن القول مع بعض أهل الحقّ أنَّ وجوده في أثينا كان في حدِّ ذاته رحمة جلبت لها ولليونانيين المِنعة والقوَّة والازدهار، رفعت عنهم السيف المُسلَّط للتوسّع الفارسي. وقد عاش سقراط في أثينا 70 عاماً تقريباً، وعَلَّم فيها بلا انقطاع طوال أربعين عاماً ممَّا يعني أنه كان بلغ أعلى مراتب الحِكمة وهو بعد في سن الثلاثين.

شغفه بالحقيقة وتعلُّقه بالحُكماء

ينقل أفلاطون عن معلمه سقراط أنه «كرّس حياته كلها لمعرفة الحِكمة وأنه لم يصرف أيّ وقت للهو أو المِتع أو لشؤون البيت، وإنه لهذا السبب كان في فقر دائم بسبب تكرّسه لخدمة ربَّه. وفي كتاب فيدو لـ أفلاطون يشرح سقراط تطوّر تعلّقه بالعِلم ومسيرته كالتالي:
«عندما كنتُ شاباً كان لديّ شغف كبير باكتساب الحِكمة، إذ بدا لي أنَّ من أروع الأمور أن تعرف أصل كل شيء. لماذا يخلق الشيء ولماذا يختفي من الوجود، أو لماذا ظهر إلى الوجود». يضيف سقراط أنه قلَّب الأمور على كل الوجوه، وحاول إيجاد تفسير للوجود عن طريق علائق الأشياء وقوانين الأسباب، لكنه لم يصل إلى نتيجة. لكن حدث أن كان في جمع واستمع لأحدهم يقرأ نصاً لـ «أناكزاغوراس» يقول فيه أنَّ الفكر هو الذي يرتِّب

ويتسبَّب بظهور كل شيء. و«عندها شعرت بالرضى لهذا القول، وبدا لي مقنعاً بالفعل القول بأنَّ الفكر هو في أساس وجود كل شيء لأنني كنتُ في قرارة نفسي أعتقد ذلك». هذه الشهادة لـ سقراط ساهمت مع غيرها في اعتقاد العديد من أهل عصره، بأنه أخذ الحِكمة على يد أناكزاغوراس بينما ذكرت أنباء أخرى وبعض المقاطع في كتابات أفلاطون أنَّ سقراط تعرّف على بارمنيدس، أحد أشهر فلاسفة التوحيد في عصره، عندما كان في يفاعه. وقد ذكر سقراط في ما بعد أنه لاحظ استخدام بارمنيدس لأسلوب السؤال والجواب (الديالكتيك)، بينما قال ديوجين لـرتيوس أنَّ سقراط تعلَّم على يد أناكزاغوراس ودايمون وأرشيلاوس.
في جورجياس يشرح سقراط للحضور أنه كان مُتعلِّقاً بالحقيقة طوال عمره، «وأنّ من الأفضل لي أن يكون العَالم كلّه ضدِّي ويعارضني، على أن أكون أنا متعارضاً مع نفسي أو أن أناقضها» وفي دفاعه عن رفضه الهرب من السجن يقول سقراط أنَّ الحياة في حدِّ ذاتها ليست ثمينة إلى هذا الحدّ، بل الحياة السعيدة أو الفاضلة. لذا فإنه لن يقوم بما هو مذموم أو شرير ردّاً على ما قد يوقعه الآخرون به من شرٍّ. ولهذا قرَّر عدم الفرار من السجن وبالتالي قبول الموت.

توحيده وكتمه لعقيدته

على الرغم من إيمانه الراسخ، فإنَّ سقراط اتّبع سياسة كتم عقيدته بسبب طغيان العقائد الفاسدة لدى حُكَّام أثينا وعامتها. ومن مظاهر كتم الإيمان ما ذكره في دفاعه أمام هيئة المُحلِّفين من أنه يحترم عقيدة الدولة ويدعو الآخرين لاحترامها، وأنه كان يقدِّم الأضاحي في المناسبات الدينية اقتداءً بالكُهَّان وخادمات معبد دلفي. ومن مظاهر تكييف إيمانه حديثه عن الإله بصيغة الجمع (الآلهة)، لكن مع التأكيد لأهل أثينا أنهم «يعلمون الغيب وكل ما تخفي النفوس من أعمال أو خواطر وأنَّ وجودهم محيط بكلِّ شيء، وأنهم يوحون للإنسان بما يعينه على طاعتهم أو يهدونه بالوحي». ولو رفعنا صيغة الجمع التي كان سقراط مضطراً لاستخدامها ووضعنا محلها صيغة التوحيد التي كان يؤمن بها وأسرَّ بها دوماً إلى المُقرَّبين منه لكان كل وصفه لآلهة اليونان هو في الحقيقة وصف للحقِّ تعالى.
على العكس من تصريحه العلني، فإنَّ حديث سقراط في مجلسه الخاص أو مع مريديه الخلص كان يشير إلى الله دوماً بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع. وعلى سبيل المثال نرى سقراط يُعرب في كتاب أفلاطون «دفاعاً

تكرّس بكامله للمعرفة، ولم يصرف أيّ وقت للهو أو مشاغل البيت أو كسب ما يفوق حاجته، وعاش حياته لذلك في فقرٍ دائم

عن سقراط «عن شكِّه في المحاكمة وفي نتائجها المحتملة، لكنه يضيف القول كل ما أرجوه هو أن يكون في هذه المحاكمة مرضاة لربي لأنَّ مشيئته (شريعته) لا بُدّ من أن تُطاع. وأضاف سقراط القول إنه حتى ولو قرَّرت المحكمة تبرئته فإنه لا يمكن أن يتوقَّف عن حثِّ الناس على اتِّخاذ طريق الحِكمة والفضيلة والاعتناء بالروح، وأنه يُفضِّل الموت على أن يعصى الله لأنه مؤمن بأنَّ الله بعث به إكراماً لأثينا وأنَّ الأثينيين لم يحصلوا في حياتهم على قدر الخير الذي حمله إليهم بسبب طاعته وخدمته لربِّه. بل إنَّ سقراط أضاف القول أنه لن يغيِّر طريقه حتى ولو تعين عليه الموت مرات عدة. وحتى عندما كان يواجه الموت لم يكن في قلب سقراط أيّ ذرَّة خوف لاعتقاده بأنَّ الإنسان الصالح لا يمكن أن يمسّه سوء لا في الحياة ولا في الموت، لأنَّ الله لا يمكن أن يهمل عباده». وكان سقراط مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال.
من أبلغ الأدلَّة على توحيد سقراط هو أنه دفع حياته في النهاية ثمناً له. فالتهمة التي وُجِّهت إليه من قِبَل ثلاثة أشخاص هم: مليتوس، وكان يمثِّل الشعراء، وأنيتوس، وكان يُمثِّل الحِرفيين والسياسيين، وليكون، وكان يُمثِّل فئة الخطباء هي حرفياً التالية:
«سقراط لا يؤمن بالآلهة الرسمية التي تؤمن بها الدولة وهو أحلَّ محلَّها ربّاً جديداً، كما أنه وبسبب ذلك مُتَّهم بإفساد عقول الشباب في أثينا عبر زعزعة معتقداتهم».
وقد ذكر زينوفون في ما بعد أنَّ اهتمام هيئة المُحلَّفين التي حاكمته، كان منصباً على معتقد سقراط الديني وما كان يُردِّده من أنه يحمل رسالة ذات مصدر إلهي».

كان مؤمناً بأنَّ جميع الأشياء لها سبب إلهي وأنَّ هناك «وعياً كُلِّياً» أو «عقلاً كُلِّياً» يُحرِّك جميع مظاهر الخلق نحو الخير والكمال

بين الدُّنيا والدين

يخبر زينوفون عن سقراط قوله أنَّه من الحماقة الاعتقاد بأنَّ العقل البشري يمكنه الإحاطة بكافة الأمور من دون معونة أو هدي من الله. لكن سقراط كان يعتبر أنَّ من الحمق أيضاً اللجوء إلى المشيئة الإلهية في كل شاردة وواردة، مثل أن يسأل إنسان ربًّه مثلاً هل يستأجر لرحلته قائد مركبة مجرب أم آخر لا خبرة له. أو كأن يسأل هل يركب سفينة يقودها قبطان ذو خبرة أم سفينة أخرى يقودها قبطان مبتدئ، أو أن يسأل في أمور الحساب أو القياس أو غيرهما ممَّا هو في متناول المعرفة العقلية. وفي رأيه أنَّ ما وهبه الله لنا ممّا يمكن تعلّمه يجب تعلّمه، لكن ما هو محجوب عن البشر العاديين فلا بُدَّ من السعي لكشفه عن طريق الوحي أو عن طريق رجل عارف يحظى بفضل الله بالبصيرة والإلهام لمعرفة تلك الأمور.

زهده وفقره

كثير من الفلاسفة وطلاُّب الحقيقة ربما أهملوا الكثير من مظاهر الحياة المادية، لكن لا يوجد في تاريخ الحِكمة اليونانية من عاش ببساطة وفقر مطلق كما عاش سقراط. وقد كان الحكيم عظيماً في نفوذه ومشهوراً وكان الناس يتهافتون لعرض المساعدة والمال عليه، لكنه كان يرفض بإصرار. في المقابل كان العديد من السفسطائيين يعيشون في أبهة وبحبوحة من جرّاء الأموال التي كانوا يتقاضونها لقاء إعطاء الدروس في كسب الحجج الباطلة، وكان سقراط لا يخفي احتقاره لهم.
وصف أريستوفان سقراط بأنه كان «سائحاً في الأرض» عاري القدمين، بينما أشار تلميذه زينوفون بأنَّ معلمه كان دائم التجوّل وأنه كان يبدأ يومه بالخروج صباحاً إلى الحدائق والطرق العامة وأماكن التدريب، وأنه كان يقضي منتصف النهار في الأسواق وبقية النهار في أيِّ مكان تواجد فيه الناس. وكان عادة يقدّم حِكمته إلى من شاء الاستماع من دون أيِّ قيد.
شرح سقراط أثناء محاكمته كيف أنه أهمل تحصيل المال أو امتلاك الأرض، وهي أمور يحرص معظم الرجال عليها، لأنه أشرف من أن يضيِّع الوقت على هذه الأمور الجوفاء في وقت يمكنه أن يُنفِق الوقت على تقديم أعظم خدمة للناس وهي تشجيعهم على سلوك درب الحِكمة والخير. وأخبر زينوفون أنَّ كلّ ممتلكات سقراط كان يمكن بيعها بخمس دوانق ذهبية، مع ذلك فقد كان سقراط يؤكِّد بأنه يشعر دوماً بأنه غني فعلاً لأنه ليس في حاجة للمزيد من المال. وفي كتبه عن ذكريات عن سقراط وروى ديوجينوس لـرتيوس أن سقراط رفض عرضاً من شارميدس منحه بعض العبيد الذين يمكن أن يحقِّقوا له عائداً يُعينه في عيشه. كما سعى صديقه ألسيبيادس لمنحه قطعة أرض كبيرة ليبني عليها بيتاً، لكن سقراط رفض العرض وأجاب صديقه بالقول: لنفرض أنَّ بعضهم قدَّموا لي جلد بقرة ذبيحة لأصنع منه زوجاً من الأحذية، ألن يكون من المثير للسخرية أن أقبل بتلك الهدية. وهو كان يعني أنَّ قطعة الأرض ستفرض عليه إيجاد المال اللازم لبناء بيت وهو ما سيفرض عليه التخلِّي عن فقره.. . وذكر ديوجينوس في كتابه عن حياة أريستيبيس أنَّ هذا الأخير كان الأول من تلامذة سقراط الذي جلس للتعليم وتقاضى المال عليه. وفي إحدى المرات أرسل إلى سقراط 20 ديناراً لكن المُعلِّم رفض استلامها وأعادها إليه قائلاً إنَّ الهاتف الإلهي يمنعه من أخذها؛ ويضيف ديوجينوس أنَّ مجرد عرض المال من أريستيبيس كدّر خاطر سقراط على تلميذه.
ويروى أنه كان يمرُّ في الأسواق ويرى جملة البضائع والأشياء المعروضة فيها، فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لك كم من الأغراض أعنتني على تركها»؛ وكتب ديوجينوس لـ رتيوس أنَّ حياة سقراط تميَّزت بدرجة عالية من الانضباط، حتى أنه حصل في أكثر من مرّة أن انتشرت أوبئة في أثينا لكن سقراط كان الرجل الوحيد الذي لم يصل إليه المرض. وعلى الرغم من أنه لم يقبل أخذ المال أبداً فإنه عندما كان البعض يرسل إليه قمحاً أو زاداً

كان يأخذ منهما القليل ويردّ الباقي.

السيطرة على النفس

كان لـ سقراط مقدرة غير عادية على احتمال التعب والجوع، ثمَّ وبصورة خاصة احتمال البرد. وكل هذه الخصائص اختبرها زملاؤه خلال الحملة العسكرية التي شارك فيها سقراط على منطقة «بوتيده» وكانت في الشتاء وفي منط

قة تتميَّز بالثلوج والصقيع. وقد ذكر صديقه ألسي

بيادس كيف كان سقراط غير مُبالٍ بالجوع فيما كان الآخرون يتضوّرون من قِلَّة الطعام. أما عن احتماله للبرد فقد ذكر أنه بينما كان الجميع يختبئون في الداخل من الصقيع وإن خرجوا يرتدون الثياب الصوفية السميكة ويلفون أرجلهم باللبَّاد والصوف، فإنَّ سقراط كان يتنقل على الجليد حافي القدمين وبثوبه العادي بخِفَّة وسهولة تفوق أولئك الذين تدثَّروا الصوف وانتعلوا الأحذية الجلدية، وكان هؤلاء يرمقون سقراط بنظرات غريبة قد ظنوا بأنه بسلوكه هذا إنما كان يستهين بهم.
كان حليماً إلى أقصى الحدود، ولم يُرَ إطلاقاً غاضباً أو حانقاً. هذا على الرغم من أنَّ طريقته المُحرجة في طرح الأسئلة والحوار كانت تثير بعض صغار العقول، فكانت تأخذهم الحمية فيتعرَّضون له بالكلام النابي أو حتى بالعنف. لكن سقراط كان يستقبل هذا العنف الجسدي أو الكلامي بطيبة خاطر، وغالباً ما تمكَّن من تغيير الجوِّ بفضل أسلوبه المرح وروح الدعابة التي كان يظهرها. وقد سأله بعض أصدقائه يوماً: أَلاَ تجد بعض الناس من الغلظة بحيث لا يمكن احتمالهم. فأجاب: كلاَّ لأنَّ أيَّ شجار يحتاج إلى اثنين. فهم إن أظهروا عيوبنا فقد أفضلوا علينا، وإن لم يظهروها فإنهم لن يمسّونا بسوء.

تواضع الحُكماء

أهمّ صفة رافقت عِلم سقراط وحِكمته العظيمة كانت صفة التواضع والورع الشديد، مثل تأكيده الدائم لتلامذته وأصحابه أنه «ليس معلِّماً وإنَّما مجرد هاو للعلم» وهذا في الوقت الذي كان حريصاً فيه على مدح الآخرين وتعظيم شأنهم وشأن معرفتهم. بعض الناس في زمانه اعتبروا ذلك تصنُّعاً أو تظاهراً، لكن سقراط كان كمُعلم يقدّم المِثَال للآخرين بأنه لا يمكن لأحد أن يتعلَّم الحِكمة ما لم يعتبر نفسه جاهلاً في الأصل ولا يعتدُّ بعِلمه أو بما حصَّله قبل ملاقاته للحكيم. عُرِف عنه أنه لم يقل أبداً في حوار «لا أوافق»، بل كان ردُّه المؤدَّب أحياناً: لم استوعب النقطة أو الردّ بسؤال هدفه مساعدة المُحدِّث؛ وهو لم يوقف أي محادثة من تعب أو نفاد صبر وكان يرفق حجته بالكثير من الاحتياط والتحفُّظ بحيث يمكن

قبولها لمن يفهم أو تجاوزها أو اعتبارها مجرد محاولة لإيجاد حلٍّ أو تفسير. وفي كتاب أثيديموس لـ سقراط يعتذر سقراط لأصحابه عن «قصور فهمه» لهذه الأفكار المُعقَّدة ،حتى عندما تكون صائبة؛ مضيفاً القول: «إنني مُفكِّر خامل بل ربما قد أجنح أحياناً للإدلاء بآراء غريبة، لذا أرجو منكم أن تسامحوني».

نبوءَتُه وعِلمهُ بالغيب

كان سقراط يؤمن بقوَّة بأنَّ الله يهديه في كل خطوة يقوم بها، وأنه كان في بعض الحالات يستوحي مباشرة من الحضور الربَّاني معه. وفي آخر كتاب كريتو لـ أفلاطون يقترح سقراط على الحاضرين أن يقبلوا بنتائج الحِجَّة التي قدَّمها على اعتبار أنَّ الله إنَّما يهديهم عن هذا الطريق (أي عن طريق وضع الآيات الهادية على لسان سقراط). وقد أكَّد سقراط مِراراً بأنَّ مواهبه كلها وقدراته إنَّما هي إنعام عليه من الله.
وأبرز ملامح الاختبار الروحي لـ سقراط كان حديثه الدائم عن الروح المُرشد الذي كان يسميه daimon باللغة الإغريقية، وهو يؤكِّد في كتاب الجمهورية لـ أفلاطون أن ندرة من الناس أو ربما لا أحد أنعم عليه بالروح المُرشد الذي يقوده في كلِّ شيء. ويشرح زينوفون في مواضع عدَّة كيف أنَّ الحِسَّ النبوئي لـ سقراط كان من الوضوح والدِقَّة بحيث أنَّ العديد من أصدقائه وجلسائه كانوا يلجأون إليه، حيث كان ينصحهم

بفعل شيء ما أو الإحجام عنه وفقاً لوحي الروح العلوي، وقد حدث دوماً أنَّ الذين اتبعوا نصيحته نجحوا بينما الذين تجاهلوا نصيحته ندموا بعد ذلك. ويقول زينوفون أنه من الحماقة على أيِّ إنسان يرى عِلم سقراط للغيب ولا يؤمن من دون أيِّ شك أنه يتلقَّى ذلك مباشرة من الله. ويذكر سقراط أنَّ الروح المُرشد صدّه مرتين عندما بدأ يفكِّر في إعداد دفاعه أمام محكمة أثينا، وهو ما جعله يقرِّر أن لا يتقدَّم بأيِّ دفاع مُعدٍّ سلفاً.
ويذكر شيشرون في كتابه “عن التنبؤ” عدداً من القصص التي تؤكِّد حدس سقراط النبوئي وانكشافه على غيب الأمور. ففي إحدى المرَّات كان كريتو يهم بأخذ طريق تقع على جانبه شجرة كبيرة، وقد هرع سقراط لتحذيره من أخذ ذلك الطريق، لكن كريتو تجاهل تحذير سقراط ولم يكد يسير مسافة حتى سقط عليه غصن شجرة يابس وأصابه في وجهه. ورجع في اليوم التالي مُضمَّداً إلى سقراط الذي ذكره بتحذيره له. في حادثة أخرى كان سقراط ولاشيس قائده العسكري عائدين من معركة ديليوم عندما بلغا مفترقاً يتفرَّع منه ثلاث طرق، وقد رفض سقراط أخذ إحدى الطرق التي اقترحها لاشيس والآخرون فلما سألوه لماذا أجاب: إنَّ الله يحول دوني وذلك»، والحال الذين أخذوا الطريق الذي رفضه سقراط واجهوا فجأة فرقة من خيَّالة العدو.
في مؤلَّف للكاتب بلوتارك يورد الكاتب حواراً مُفصَّلاً لـ سيمياس عن «الهاتف الإلهي لـ سقراط»، ويذكر بصورة خاصة حادثة مثيرة وهي أنَّ سقراط حذّر مجموعة من الرجال عن أخذ طريق ما. لكن هؤلاء رغبة منهم في إثبات أنَّ تحذيره لا أساس له، قرَّروا أخذ ذلك الطريق لكنهم ما إن قطعوا مسافة صغيرة حتى واجههم قطيع هائج من الخنازير البريَّة، ونظراً لضيق ذلك الطريق فقد نشرت حوافر الخنازير الوحل على ثياب الرجال، كما أُلقي بعضهم أرضاً.

محاكمتهُ واستشهادهُ

تُعتبر محاكمة سقراط وما سبقها أحد أعظم الفصول التي يمكن لحكيم عظيم أن يختم بها حياته. وما زالت محاكمة سقراط من قِبَل هيئة محلَّفي أثينا محطةً بارزة في تاريخ البشرية وتاريخ الحِكمة والمواجهة بين الحقِّ والباطل. وما زالت وقفة سقراط وأسلوب مواجهته للموت والمواقف التي أعلنها خلال المحاكمة وبعدها مصدر إلهام لا ينقطع لأهلِّ السمو والمجاهدة والتسليم الحقيقي.
أول ما ميّز محاكمة سقراط أنه رفض الأخذ بخطاب دفاع قويٍّ أعدَّه أحد مريديه لاستخدامه خلال المحاكمة، وقد ردَّ سقراط على مريديه بالقول إنَّ الخطاب لا يلائمه. ويذكر زينوفون أن تلميذ سقراط هرموجينس حاول بدوره إقناعه، وهو أبرع من تحدَّث المنطق وقوَّة الحِجَّة بإعداد دفاعه الذي ينبغي أن يلقيه أمام لجنة المُحلَّفين؛ لكن المُعلم ردَّ عليه بالقول، أنه كلَّما بدأ التفكير في إعداد دفاعه فإنَّ الإشارات

الإلهية التي تَرِده كانت تصدّه عن ذلك.
بدلاً من خطاب مُعدٍّ سلفاً ألقى سقراط خلال المُحاكمة دفاعاً عفوياً وغير مُحضَّر بُنِيَ على العقل، وشرح للمُحلَّفين الأسباب التي دفعته لعدم الطلب من زوجته وأولاده الحضور وإلتماس البراءة له –كما كانت العادة في أثينا- وقد أدين سقراط بأكثرية ستين صوتاً من هيئة مُحلَّفين بلغ عدد أعضاؤها 501 عضو.
وطلب المدعي العام في القضية الإعدام لـ سقراط، وهي عقوبة يؤكِّد زينوفون أنها كانت مخالفة لقانون أثينا الذي يحصر إيقاع عقوبة الموت فقط بحالات الجُرم المشهود بالسرقة الموصوفة والخطف وسرقة المعابد.
وحسب القانون اليوناني فقد كان لـ سقراط الحقّ بالرد واقتراح عقوبة بديلة. وقد استخدم سقراط هذا الحقّ ليقترح –وهو المتأكِّد من أنه لم يرتكب ذنباً- أن تحكم هيئة المُحلَّفين بتقديم وجبة غذاء مجَّانية على حساب الدولة. وبالطبع فقد رفضت هيئة المُحلفين التي كانت أدانته هذا الطلب الذي يكاد يتَّسم بالسخرية منها؛ كما رفض سقراط النفي أو السجن باعتبارهما لا يليقان به، وانتهى إلى اقتراح تغريمه ديناراً ذهبياً واحداً. وكانت اقتراحات سقراط تعكس شخصيته القوية وفي الوقت نفسه عِزَّة نفسه الكبيرة، لكن هذه الاقتراحات قوبلت بالمزيد من الحنق من لجنة مُحلَّفين يسيطر عليها صلف النخبة وشعور السلطة، كما لا يوجّهها حقيقة مبدأ العدل وهي التي حكمت على العديد من الأبرياء في السابق. وقد ردَّ المُحلِّفون على سقراط بتصويت جاء نتيجته أسوأ من التصويت الأول، إذ بدل 80 من المُحلِّفين موقفهم ليصوِّتوا ضدَّ سقراط ويؤيِّدوا العقوبة.
وضع سقراط في السجن لكن تنفيذ عقوبة الموت به تأخُّر بسبب أعياد دينية مهمة، إذ كانت حكومة أثينا تُرسل سفينة إلى ميناء ديلوس كل عام لإحياء ذكرى مقدَّسة، وكان مُحرّماً تنفيذ أيَّة عقوبة بالموت طيلة المدة التي تستغرقها الرحلة وإلى حين عودة السفينة من مهمتها. ويبدو أنَّ إعصاراً وعواصف أخّرت رحلة عودة السفينة، وأعطت سقراط وتلامذته ومحبيه الفرصة لزيارة المُعلِّم يومياً والاستماع إليه في آخر أيَّامه. في هذه الأيام القليلة انصرف سقراط إلى كتابة شِعر بناه على حكايات أيزوب، كما ذكر لأصدقائه رؤية أوحي إليه فيها العمل على الموسيقى.

لا مُبالاته وهدوؤه التام في مواجهة الموت

في اليوم المُحدَّد لتنفيذ عقوبة الموت لـ سقراط أُزيلت الأغلال من قديه وأدخلت عليه زوجته زانتيبه وولده الصغير، كما أُدخل عليه من شاء من أصدقائه وتلامذته، وقد عرض أفلاطون الحكيم لتلك اللحظات الأخيرة بالتفصيل في حواريته الشهيرة فيدو. وكان سقراط يمضي في الحوار مع زائريه قبل تجرُّع السّم من كأس مُذهَّب؛ ويبدو أنَّ الحرس الأثيني اعترض على ذلك، مشيراً بأنَّ الحديث وما يرافقه من مشاعر

زينوفون:المُريد المُحبّ الذي سجَّل العديد

من جوانب شخصية وحياة سقراط

كان يمرُّ في الأسواق ويرى جُملة البضائع والأشياء المعروضة فيحمد ربَّه بالقول: «حمداً لكَ كَم من الأغراضِ أعنتني على تركها»

 

 

وانفعال قد يؤخِّر مفعول السمّ، لكن سقراط رفض التوقّف عن الحديث وعرض على الحَرس استعداده لتجرُّع السمّ ثانية وثالثة إذا اقتضى الأمر. ومع اقتراب الغروب توجَّه سقراط للاستحمام حتى يوفّر على النساء مهمة غسل جثته، وعندما سأله كريتو كيف يريد منهم أن يدفنوه قال سقراط: «عليك لكي تدفنني أن تُمسِك بي أولاً»، (وكان يعني بهذا القول الرُّوح، وأنَّ سقراط الروح لا يمكن دفنه)، لكنه أردف قائلاً: «أمَّا الجسد فيمكنكم دفنه بالطريقة التي ترونها مناسبة». وبعد أن استحمّ وَدَّعَ سقراط زوجته وولده الصغير، ورفض تأخير الإجراءات واتبع تعليمات الحَرس في تجرُّع السمّ وبالمشي في الغرفة إلى أن يشعر بثقل في رجليه، بعدها استلقى على ظهره وغطَّى نفسه ورأسه بالكفن القطني الأبيض، ثمَّ رفع الغطاء للحظة سائلاً صديقه كريتو أن يدفع نذراً بذِمَّته إلى إسكولابيوس، قديس الشفاء، ثمَّ غطَّى رأسه مجددا وأسلم الروح.
يُسجِّل زينوفون أنه لم يحصل في التاريخ أن واجه إنسان الموت بمشاعر النُبل والرضى التام التي أظهرها سقراط. ويضيف أنَّ سقراط شعر بأنَّ النِعمَة الإلهية شاءت أن توفِّر عليه مشقَّة الكهولة، مثل أن يفقد البصر أو السمع، أو أن يتبلَّد ذهنه أو يصاب بالخَرف. كما أنَّه بموته بهذه الطريقة، فإنه سيبقى أكثر وإلى الأبد في ذاكرة البشرية وأجيالها القادمة. ويتَّفق زينوفون مع أفلاطون في أنَّ سقراط رفض اقتراح عقوبات مُخفَّفة على هيئة المُحلَّفين، لأنَّ ذلك كان يعني إقراره بالتهم التي وُجِّهت إليه.

حوار سقراط الشهير مع السفسطائي أنتيفون

روي زينوفون هذا الحوار الخالد بين المُعلِّم سقراط وبين أحد السفسطائيين المدعو أنتيفون، والذي خاطب سقراط بالقول أنَّ الثمار التي يجنيها من الفلسفة هي مزيج من المرارة والتعاسة. فهو يحصل على أفقر الطعام والشراب ولا يمتلك سوى ثوباً واحداً يلبسه صيفا وشتاءً، ولا يمتلك معطفاً يقيه البرد أو حذاء. كل ذلك نظراً لأنه يرفض تقاضي المال على تعليمه، مع كلِّ ما يوفِّره المال من وسائل للسعادة والاستقلال، وما يشبع به حاجاته. وأضاف أنتيفون القول بأنَّ المُعلِّم يدفع تلامذته عادة للاقتداء به، ولهذا فإنَّ سقراط يمكن اعتباره مُعلِّماً للشقاء.
بماذا ردَّ سقراط على أنتيفون؟
قال: «يبدو يا أنتيفون أنك تعتقد حقاً بأنَّ حياتي بائسة للغاية، وأنا على يقين بأنَّك لو كنت في مكاني لكنت فضَّلت الموت على هذا النوع من الحياة. فلننظر إذاً ما هي مظاهر البؤس التي رأيتها في حياتي. ألا ترى أنَّ الذين يأخذون المال ملزمون بتنفيذ العمل الذي تقاضوا المال من أجل القيام به؟ وبما أنني أرفض تقاضي المال فإنه ليس في إمكان أي إنسان أن يلزمني بشيء لا أرغب به؛ أو أنك تظنُّ بأنَّ طعامي بائس لأنه ليس كاملاً مثل طعامك، أو ليس مغذِّياً؟ أو أنه من الصعب عليَّ الحصول على اللحم الذي تحصل عليه نظراً لنُدرته ولارتفاع ثمنه؟ أو أنَّك تظنُّ بأنَّ طعامك بصورة عامة ألذّ وأطيب من طعامي؟ لكن أَلاَ تظنُّ أنَّ المرء الذي يتمتّع بطعامه في كلِّ حال لا يحتاج إلى المرق مثل غيره؟ وأنَّ من يتمتّع بالشراب مهما كان قليلاً تقلُّ حاجته للبحث عنه عندما لا يكون متوفِّراً؟ أمَّا بالنسبة للأثواب، فإنَّ الناس تُبدِّل ثيابها كما تعلم وفقاً لحالات البرد أو الحرّ، كما أنَّ المرء ينتعل الحذاء حماية لقدمه من التشقّق أو صعوبة المشي. فهل بلغك أنني بسبب هذه النواقص أمضي وقتي في المنزل لا أخرج إلى الناس خوفاً من البرد؟ أو أنني أُنازع أي إنسان على الظلِّ في وقت الحرّ، أو أنني عجزت عن المشي والذهاب إلى أيِّ مكان أريده بسبب تقرّح قدميّ؟
ألاَ تعلم أنه في إمكان أيِّ شخص نحيل أو ضعيف الحال أن يمتلك وبفضل التدريب المناسب، قوَّة تفوق بكثير أيِّ شخص مفتول العضلات لكن لا يتبع التدريب المناسب؟ وبما أنَّك ترى كيف أني أُدرِّب جسدي على احتمال كافة الظروف، أَلاَ تعتقد بأنني في إمكاني احتمال أيّ ظروف شاقَّة قد تطرأ أفضل منك بسبب نقص التدريب لديك؟
أَلاَ تعلم أنَّ اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دوماً إذا أمكن للمرء اكتساب متع أكبر وأرفع، وهذه المِتع ليست فقط مصدراً للفرح الحقيقي، بل لأنَّ في الإمكان إدامتها والحفاظ عليها؟

اجتناب العبودية للبطن أو رغد النوم أو الشهوات ممكن دومـــــاً إذا أمكن للمرء اكتساب المِتَع الأرفع والفرح الحقيقي الذي يدوم

وأنت تعلم أيضاً أنَّ من يعتقد أن لا شيء في حياته يسير على ما يرام، هو إنسان شقي حتى ولو كان يعيش في يُسرٍ مادي وبحبوحة، وأن من يعتقد بأنه موفَّق في مهنة الزراعة أو الملاحة أو أيِّ عمل آخر سيكون سعيداً بمجرد اعتقاده بأنه موفَّق في هذه الأمور؟ وهل تعتقد أنَّ هناك في الحياة أجمل من فكرة «أنني أرتقي كلَّ يوم في طريق الخير وأنني أكسب أصدقاء أفاضل»، وهذا في الواقع هو اعتقادي الدائم؟ أضف إلى ما سبق أنه لو احتاج أصدقائي أو احتاجت مدينتي إلى المعونة فمن هو الأقدر على التلبية؟ الشخص الفقير مثلي الذي يملك كلَّ الوقت والحرية، أو ذلك التي تصف حياته بأنها مليئة بالسعادة؟ من الذي سيجد الانخراط في الجندية دفاعاً عن المدينة أسهل عليه؟ هل هو الذي لا يمكنه العيش دون الطعام غالي الثمن، أو الذي يرضيه الحصول على أيِّ شيء يسدّ جوعه؟ ومن ذا الذي بحال تعرُّضه للحصار سيستسلم أولاً؟ ذاك الذي تتعلّق نفسه بالحصول على أشياء من الصعب الحصول عليها في ذلك الظرف، أم الذي يكتفي بأيِّ شيء يجده آنذاك؟. يبدو لي يا أنتيفون أنك تعتبر أنَّ السعادة هي في الحصول على أفخر الأشياء والإسراف في العيش، لكن اعتقادي بالمقابل هو أنه من ليست له حاجات هو في مقام ربَّاني، وأنَّ من يملك أقل شيء ممكن يأتي في المرتبة التالية من الرِفعة المعنوية لأنَّ المقام الربَّاني هو أعلى المقامات وأنَّ أيَّ سلوك يقترب منه يكون بالتالي أقرب إلى ذلك المقام.

شؤون وشجون الاغتراب في منطقة راشيا

عين على المعيشة وعين على مستقبل الأولاد

“الضحى” تحاور مغتربين ومقيمين حول الهجرة وآثارها

في منطقة راشيا التي صدرت ألوف الشباب نحو العالم وخصوصا المغتربات البعيدة في الأميركيتين الشمالية والجنوبية مشاعر مشتركة في ما يخص الغربة وآثارها. الهاجس الأول هو الأسرة والأولاد وخطر الذوبان في المجتمعات الجديدة وبالتالي انقطاع رابط “الحسب والنسب” مع الوطن الأم. السؤال الذي يردده الكثيرون ممن التقينا بهم: هل تستحق الهجرة وهدف جمع المال هذا الثمن الباهظ؟ الجواب مع ذلك ليس موحداً. بينما يعطي البعض الأولوية لإنجاز الثبات في الأرض وصون الهوية ويشكو ترك الأرض فإن البعض الآخر يعتبر الهجرة رافدا مهما لاقتصاديات القرى التي هاجر منها الشباب أو قل “شر لا بد منه” في غياب التنمية المستدامة وفرص العمل الكريم في الوطن.
هنا حصيلة جولة من الحوارات المفيدة التي أجراها مراسل الضحى عماد خير:

المغترب قاسم سلامة : لا ينفع جمع المال إذا خسرنا أولادنا

اغترب ما يقارب الـ 35 عاماً لكن الحنين إلى الوطن ومنادمة الأهل والأصدقاء وتربية الأولاد على عادات وتقاليد البلدة أثمن من جمع المال.

ما هي الظروف التي دفعتكم إلى السفر ؟ ولماذا كانت العودة والاستقرار في البلدة؟

أسباب الغربة تكاد تكون واحدة:

صعوبة الأوضاع الاقتصادية في لبنان، انعدام فرص العمل ثم الحرب الأهلية التي كانت كارثة على الوطن وعلى شبابه.
على الرغم من ذلك، فإن جمع المال في المغترب لا يكفي بل أقول ما الذي ينفع المرء إذا جمع الأموال الطائلة في الغربة وخسر أولاده؟ وأي ربح يمكن أن يعوض هذه الخسارة الفادحة. لهذا قررت أن تنشئة الأولاد في الوطن وعلى العادات والتقاليد المحلية وزواج الأولاد من أبناء ملتهم أثمن بكثير.

كيف تنظرون إلى العلاقات الاجتماعية بين لبنان وكندا؟
العلاقات الاجتماعية في كندا محدودة جداً وهي تقتصر على الأهل والمغتربين من ابناء البلدة أما العلاقة مع الآخرين فهي علاقة عمل. حاولنا الحؤول قدر الإمكان من دون اختلاط الأولاد بالأجانب ولا سيما خارج نطاق المدرسة

وذلك للتخفيف من احتمالات الاندماج بعادات وتقاليد الغرب. وكم كنت أتمنى أن يتوفّر لأولادي ظروف أفضل في هذا البلد لتجنيبهم خوض تلك التجربة مرة أخرى. ومما يثير القلق أن الكثير من أبناء الطائفة تزوجوا من نساء في كندا وهذا ما يؤدي الى قطع صلة الوصل بالوطن والأهل لأن أولادهم يشبون على عادات وتقاليد الغرب.

بماذا تنصحون أو هل لديكم اقتراح لتفعيل ارتباط الشباب بالبلدة؟
على القيمين على الشأن الدرزي شد أواصر الشباب من خلال ارسال كتيبات تشرح أهمية ارتباط الشباب بالوطن الأم.
المغترب أحمد الحلبي عدت وأعمل لعودة أبنائي أيضا

بعد 29 عاماً من الاغتراب كيف تنظرون إلى الغربة؟
الغربة عن الوطن هي مثل ليلة ظلماء من دون صباح، لأنها ليل يطول انتظار آخره وبزوغ الشمس والعودة الى الوطن وطن الآباء والأجداد. لكن ها أنا وبعد أعوام الغربة الطويلة عدت إلى الوطن داعيا أولادي أيضاً إلى العودة من خلال شراء الأراضي وتشييد الأبنية ومحاولة إقامة عمل في الوطن.

كيف بدأتم حياتكم في الغربة؟

بدأتها كتاجر متجول على العربة ثم اقتنيت سيارة وانتهيت بامتلاك محل للمفروشات كل ذلك كان بالمعاناة وعرق الجبين والسعي دوماً لإيجاد الأفضل.

هل أولادكم يحبّذون الغربة؟
أولادي متزوجون وعائلاتهم تسكن في البلدة. فهم مهاجرون من أجل العمل وهدفهم مثلي هو المحافظة على الأولاد ومنعهم من الانجراف خلف الثقافات الأخرى، وأنا عدت خصيصا لتزويج أولادي من البلد خوفاً عليهم من الارتباط بنساء أجانب.

السيد صدام ابو رافع: الهجرة نعمة ونقمة

صدام أبو رافع شاب عمد إلى تكوين ذاته في رحاب الوطن متسلحاً بالإرادة العليا، شعاره أن الوطن للجميع وأن الغنى ليس المال بل هو الاستقرار النفسي والهوية والحياة الأسرية السعيدة. سألناه:

كيف تنظرون إلى السفر؟
السفر هو مخرج أو متنفس للشباب عندما تأفل أمامهم السبل. والغربة على الرغم من المشقات والآلام التي تسببها باتت مكوناً أساسياً في اقتصاد الوطن. لكن لا يجب النظر إلى الهجرة على أنها نعمة فقط لأنها في الوقت

رئيس بلدية ينطا عن أثر الهجرة

الهجرة الواسعة أخرت سن الزواج والإنفاق أكثره على المنازل الفخمة

التقت مجلة “الضحى” رئيس بلدية ينطا نبيل الحلبي في حوار تناول تاريخ الهجرة في ينطا والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي يرتها على البلدة وهنا نص الحوار:

ما هي دوافع الاغتراب في البلدة؟ضيق السبل المادية وصعوبة ايجاد فرص عمل والظروف الصعبة التي كان يعيشها أبناء هذه البلدة دفعتهم إلى الهجرة منذ القدم.

ما هو تأثير الحروب على الهجرة؟
الاوضاع المأسوية التي أرخت بظلالها على الوطن ككل خلال الحرب الأولى دفعت بالعديد من الشباب آنذاك إلى الهجرة، لكن صعوبة السفر في تلك الأيام أبقت على معدلات الهجرة منخفضة. لكن في مطلع 1950 أخذت معدلات الهجرة ترتفع نحو كندا وبلغت الذروة خلال الحرب الأهلية، حتى أصبح لدينا اليوم ما يقارب الـ 2000 مهاجر 90 في المئة منهم استقروا في كندا وتوزع الباقي على بلدان مختلفة.

كيف أثر الاغتراب على الروابط الأسرية؟
لا شك أن الغربة تؤثر على هذا الواقع حيث تأخر سن الزواج إلى ما بعد 30 عاما وارتفعت نسبة العزوبية لدى النساء وتزايدت حالات تزويج النساء إلى خارج البلدة.

ما هي طبيعة عمل المغتربين والمهن التي يأخذون بها؟
يعمل معظم مغتربي البلدة في التجارة وهناك آخرون استطاعوا اقتناء المطاعم لا سيما في ضواحي المدن والريف الكندي، كما برز العديد من أبناء البلدة على صعدٍ أخرى فهناك ثلاثة من ابناء البلدة كتّاب عدل على مستوى الجالية العربية والأستاذ صقر حسن العنيسي محامٍ لامع في الاستئناف.

هل هناك مساهمات من قبل المغتربين في الحياة الاقتصادية للبلدة؟
تلعب أموال المغتربين دوراً أساسياً وفعالاً في إنماء البلدة، وقد ساهمت تلك الأموال في تنفيذ مشاريع المياه والصرف الصحي وإقامة موقف في البلدة بالإضافة إلى إنشاء دار للمسنين.
كما تلعب أموال المغتربين دورا مهما في تحريك اقتصاد البلدة من خلال الأموال المرسلة إلى ذويهم. وخلال فصل الصيف يزداد عدد المغتربين في البلدة مما يخلق حركة اقتصادية جيدة . لكن مع الاسف لا توجد مشاريع تحد من البطالة في البلدة وإن كان هناك استثمار فهو غالبا ذو طابع فردي بينما ينفق الكثير من الأموال على تشييد المنازل الفخمة.

كيف ترون علاقة المغتربين بالبلدة؟
باختصار البلدة أصبحت مثل “الفندق” يأتي إليها المغتربون خلال فصل الصيف ويغادرونها في نهاية موسم العطلات، لكن يمكن القول أن المغتربين أصبحت لهم ثقافتهم وأجواءهم وإن كانوا يسعون جهدهم للحفاظ على علاقة عضوية بالوطن.

نفسه نقمة باعتبارها تفرغ الوطن من شبابه المتعلم والعامل بحيث أصبحت بعض القطاعات ولا سيما الزراعة تفتقر إلى العمال وتتأخر باستمرار

هل تعتبرون أن إنتاجكم اليوم جيد مقارنة مع ما يمكن أن تحققوه في الخارج؟
عرض علي العمل في الخارج وغادرت لبنان أشهراً عدة فوجدت أن الانسان عندما يطور عمله في وطنه ويكون مؤمناً به يستطيع أن يحقق نتائج افضل من النتائج التي يحققها في الخارج. أولاً المال ليس كل شيء وما النفع في أن تحصل على المال وتخسر عائلتك في ثقافةٍ مختلفة. وهل يستأهل ذلك المخاطرة بالنفس والعائلة وإن قست الظروف؟

هل يساهم المغتربون في اقتصاد البلدة؟
نعم، هناك مساهمات في الشأن العام وفي مد يد العون لمساعدة المحتاجين لكن لا يوجد مشروع يستطيع تخفيف البطالة أو ايجاد فرص عمل جديدة فكل الأعمال محض فردية.

رئيس بلدية ضهر الأحمر الاستاذ شوقي بحمد:

تعتبر ضهر الأحمر إحدى قرى راشيا المهمة والنابضة بالحياة. “الضحى” التقت رئيس البلدية الأستاذ شوقي بحمد في هذا الحوار:

كيف ساهم الاغتراب في هذه الحركة؟
يلعب المال الاغترابي دوراً مهماً في غياب الانتاج المحلي على الصعد الزراعي والصناعي، وغالباً ما تتجه تحويلات المغتربين نحو تشييد الأبنية وإنشاء المؤسسات التجارية أو الإنتاجية الفردية.

هل لهذه النشاطات دور في استيعاب البطالة؟
للأسف لا يوجد مؤسسات ضخمة قام بها المغتربون وتستوعب أعداداً من الموظفين بل بقي جل نشاطهم محصورا في مؤسسات فردية وبعض المصانع البسيطة.
وقد يكون الاستثناء المحلي هنا هو الاستثمار في قطاع التعليم الخاص، إذ نشأ عدد من المدارس الخاصة التي تساهم بشكل فعّال في توفير فرص العمل للشباب لكن معظم هذه المؤسسات استثمار محلي ولا تعود إلى مغتربين.

كيف أثّرت حركة الاغتراب في تنشيط سوق العقارات؟
المال الاغترابي لعب دورا مهما في تنشيط حركة العقار والبناء إذ تم استثمار جزء مهم من أموال المغتربين في شراء الأراضي وتشييد الأبنية التجارية والسكنية. لكن هذا الإقبال أدى من جهة ثانية إلى رفع أسعار العقارات بشكلٍ ملحوظ.

د. شوقي أبو لطيف عن الهجرة في عيحا

أصبحت قطاعاً اقتصادياً ولا حل من دون تنمية مستدامة

بلدة عيحا هي إحدى القرى الواقعة في سفوح جبل الشيخ، يقارب عدد سكانها الـ 3000 نسمة لكن ما يقارب الـ 30 في المئة منهم منتشرون في الاغتراب
يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن هجرة أهل ينطا بدأت نحو الأميركيتين الشمالية والجنوبية في مطلع القرن الماضي لكنها بلغت حدا في ما بعد قبل أن تشهد البلدة موجة جديدة من الهجرة بعد العام 1950، ثم خلال الحرب الأهلية التي اندلعت العام 1975. في تلك الفترة الصعبة سافر ما يقارب الـ 200 شاب إلى المملكة العربية السعودية لينتقلوا في ما بعد نحو كولومبيا والبرازيل وفنزويلا.وما زالت الهجرة في ينطا هجرة شبابية بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من أن العديد منهم يعتقد أنه يهاجر للعمل ولكنه سرعان ما يركز أعماله في البلد ويكتشف أنه من الصعب عليه ترك أعماله والعودة، كما أن البعض الآخر يرى أولاده يتزوجون في تلك البلاد ويقيمون فيها وهؤلاء يرغبون عادة البقاء إلى جانب أولادهم

شرح الدكتور أبو لطيف مخاطر الاغتراب على العلاقة طويلة الأمد بالوطن بالقول أن هناك بعض المغتربين الذين يحرصون على العودة بأولادهم إلى رحاب الوطن من خلال إرسالهم للتعلم في الجامعات اللبنانية، وهم يعملون بصورة مستمرة على توثيق عرى التواصل مع الوطن وذلك عبر إرسال الأولاد بشكل مستمر إلى البلدة ليقضوا عطلة الصيف مثلا. لكن الاستمرار في الاغتراب وترك الأولاد ينهلون من ثقافة الغربة يعقدان مهمة الأهل الذين غالباً ما يخسرون الرهان ويعجزون عن تحقيق حلم العودة والاندماج مجدداً بالوطن
ويضيف أن الآثار السلبية للهجرة لم تقتصر على خسارة الرابط بالأهل والوطن بل تعدتها مع الأسف إلى الاقتصاد الزراعي الذي شكل أساس نمط عيش أهلنا والسبب الأهم لتمسكهم بالأرض. وقد ساهمت الهجرة إضافة إلى سعي الشباب للعمل الوظيفي إلى تدهور حالة الأراضي الزراعية وإهمال الكثير منها كما أدت إلى تراجع حجم الإنتاج الزراعي في القرية ومحيطها
على الرغم من ذلك يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن الهجرة باتت واقعاً أساسياً وجزءاً من مجتمعنا، بل هي أصبحت قطاعاً اقتصادياً أساسياً لا يقل في أهميته عن القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة أو الصناعة أو الخدمات، لأن هذا القطاع يدعم الاقتصاد المحلي من خلال التحويلات المالية الكبيرة التي ترد من عالم الاغتراب، وهو يرى أن التخفيف من الهجرة وآثارها يكون عبر التنظير عن بعد بل يجب البحث في أسس التنمية المستدامة والبحث عن البديل وتأمين فرص حقيقية وأمل بالمستقبل للشباب في لبنان

الشيخ هائل القاضي: مناجل الغربة تحصد أولادنا

أحد قدامى مغتربي عين عطا حدثنا وقال أن الهجرة في البلدة شأنها شأن معظم الهجرات المماثلة. سفر وحلم بالعودة ثم غلبة المهجر ومتطلباته على آمال العودة. ويشير إلى أن معظم هجرة عين عطا بدأت في مطلع القرن الماضي إلى الأرجنتين والولايات المتحدة. وبالنظر لأن تلك البلاد بعيدة فإن تواصل المهاجرين الثقافي والعائلي يصبح صعباً، وهم لذلك يسلّمون بالأمر الواقع والقليل منهم عاد أدراجه نحو الوطن. ويضيف القول أن الهجرة عادت مجدداً في مطلع خمسينات القرن الماضي ولا سيما نحو البرازيل حيث كان من أوائل هؤلاء المغتربين محمد حسن خضر ومحمد سعيد القاضي.
ألفت هنا إلى أنه وفي مطلع العام 1960 هاجر من البلدة 60 شاباً في وقت كان عدد المنازل فيها ستين منزلاً أي أننا شهدنا هجرة شاب واحد على الأقل من كل منزل.

كيف كان واقع الهجرة خلال الحرب الأهلية؟
أثرت الحرب الأهلية كثيراً فتضاعف عدد المهاجرين بشكل ملحوظ ولاسيما نحو أوستراليا، حيث برز عدد من المهاجرين وفي طليعتهم أبناء الشيخ علي ريدان.
أحد مغتربي عين عطا قال الهجرة أصبحت مصيدة الشباب الناجح عندما يغترب الشباب ويؤسس عمل يقع فريسة اللاعودة فهو لا يستطيع التخلي عنه بل يصبح جزءاً منه فينقله إلى أولاده ليصبحوا ملزمين به.
وآخرون يفشلون فلا يحبذون العودة فتحصد مناجل الغربة أولادهم.

من هم أبرز مغتربي البلدة الذين ساهموا بشكل فعّال في إنمائها؟
لا نستطيع أن نحصر المساعدات باشخاصٍ محدودين لكن نستطيع القول بأن السيدين محمد حسن خضر وسليمان علي ريدان من اصحاب الأيادي البيضاء الذين ساهموا مساهمة فعّالة في انماء الشأن العام للبلدة من خلال ما أسدوه من خدمات إلى أبناء بلدتهم.

المغترب أياد أبو لطيف : الاغتراب سلاح ذو حدين

هل أثّر الاغتراب على العلاقة الأسرية؟
تزوجت ولم أرغب أن تغادر زوجتي فكونت أسرة في لبنان وكنت أزور البلد بشكل سنوي كي لا يشرب أولادي أجواء الغربة، والرغبة في المحافظة عليهم. واليوم قررت أن أبقى بشكل نهائي إلى جانب أسرتي كي لا أكسب المال وأخسر أسرتي.

كيف يساهم المغتربون في البلدة؟
يلعب المغتربون دوراً مهماً في تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال الأموال التي يتم صرفها

لا سيما خلال فصل الصيف أو الأموال المرسلة إلى ذويهم.

المغترب فوزي كمال الحاج: إقبال على العقار

أولادي لا يحبذون العودة لغياب الإستقرارين الأمني والسياسي في البلد وعدم قدرتهم على التكيف مع هذا الواقع المرير لا سيما المحسوبية.
المشكلة مع ذلك ليست في الهجرة وحدها بل في تحول الشباب نحو الوظائف الحكومية والخاصة أو العمل التجاري وتراجع المساحات المستثمرة زراعياً وكذلك تربية المواشي التي ضعفت بشكل كبير ولاسيما في السنوات العشر الأخيرة.
في المقابل نرى أن المال الاغترابي اتجه نحو سوق العقارات في منطقة راشيا بشكل ملحوظ سواء على سبيل الاستثمار أو بهدف بناء المنازل الخاصة أو إنشاء الأبنية المعدة للتأجير والاستثمار التجاري.

صوت مواطن رفض الاغتراب
سامر سيف الدين: الثبات إنجاز أهم من الهجرة

الأستاذ سامر سيف الدين مدرس شق طريقه منفرداً بعيداً عن الغربة على الرغم من العروض التي قدمت له للعمل في الخارج فكان أن ارتضى العمل براتب في البلد وعدم الإغتراب براتبٍ يعادل 3 أضعاف راتبه. سألناه:

ما الدافع وراء بقائكم في ينطا على الرغم من هذا العدد الهائل من الذين هاجروا؟
دفعني أولا حب الوطن والإيمان بأن من الممكن لأي شخص يجتهد أن يجد فرصة عمل في بلده. كنت كلما راودتني فكرة السفر أسترجع أيام صباي وصور البيوت ورائحة الصعتر والزيتون وجمال جبل حرمون فأعدل وأقرر الثبات في الأرض.

ما هو واقعكم اليوم وماذا حققتم؟
أستطيع القول إنني حققت في بلدي ما عجز الكثيرون عن تحقيقه في الخارج وبثمن الغرفة وشقاء الانسلاخ عن الجذور. لقد حقق البقاء ومقومة فكرة الهجرة جزءاً من طموحي بالإضافة إلى اكتسابي مهنة التعليم الممتعة وهي مهنة تمكنك فعلا من تخريج الرجال التي تعتبر مصنع الأجيال وخزان الوطن، كما أنني أصبحت مدرباً في المركز الثقافي البريطاني.

ما الذي تعتبرونه أبرز انجازاتكم ؟
الانجاز الأكبر في نظري كان البقاء في الوطن وتدبر شؤوني في وطني، فضلاً عن ذلك فإنني حزت على عدد من الجوائز في العالم العربي بما في ذلك الحصول على المركز الثالث في سلطنة عمان أمام ما يزيد على 200 أستاذ من 18 دولة عربية.

بماذا تنصحون الشباب؟
أنصح الشباب بأن يتحلوا بالصبر والنفس الطويل وأؤكد لهم أن الوطن قادر على حضن الجميع ولكن لا بدّ من بعض التضحيات وعدم استعجال النتيجة.

أدب الحرب في وصيتين

الخليفة عمر بن الخطاب

اشتهر عمر بن الخطاب الخليفة الثالث لرسول الله (ص) بصفات القوة في الحق والعدل في الناس، لكن بين إحدى أهم صفات هذا القائد العربي كانت شهامته وتمسكه بأعلى مناقب السلوك في الحرب، وهو الذي كان يؤمن بأن سبيل النصر هو تقوى الله وليس المكائد والخيانة أو الظلم والعدوان كما يحصل اليوم في أكثر حروب البشر وصراعاتهم. في ما يلي وصيتان لـ الخليفة عمر كان يكررهما على اسماع القادة والجند قبل انطلاقهم للجهاد وهما وصيتان زاخرتان بالمعاني التي تكشف سماحة الإسلام وعظمته

وصية عمر لقادة الجند

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على إلقاء هذه الوصية على مسامع قادة الجند عند تسليمهم الأعلام وتأهبهم للفتوحات والجهاد. وتلخّص هذه الوصية البليغة مفهوم الجهاد في الإسلام باعتباره يقوم على تقوى الله وطلب النصر منه عبر اجتناب المعاصي وهنا نص الوصية:
«أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة على الحرب. وآمرك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخْوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعُدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم تجاهدون في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلَّط علينا، فرُب قوم سُلِـط عليهم شرٌّ منهم كما سُلِط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، اسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم.‏

وصية عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح

أوصى عمر بن الخطاب قائده أبا عبيدة بن الجراح لما وجّهه إلى فتح بلاد الشام بما يلي:‏
“بسم الله وعلى عون الله، وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تُمثـِّـلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرِماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حُمّة النهضات، وفي شن الغارات، ولا تَغُلّوا عند الغنائم، ونزِّهوا الجِهاد عن غرض الدنيا، وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم”.‏
أهم ما في هذه الوصية هي تشديد الخليفة عمر على أن يكون الجهاد والسير بالفتح «بسم الله وعلى عون الله»، لأن هذه النية بالذات هي التي تميّز «الجهاد» الحقيقي عن حروب العدوان والتوسّع أو الانتقام أو كسب المجد الدنيوي العابر. كما يؤسس الخليفة عمر لقانون إنساني في الحرب ينسجم مع سماحة الإسلام عندما يوصي قادة جنده بعدم الاعتداء، لأن الله تعالى لا يحب المعتدين كما يوصي بعد ذلك بإظهار الشجاعة عند لقاء العدو ويحذر من المُثلة –أي التمثيل بالجرحى والقتلى- وهو ما نهى عنه الرسول (ص) أيضاً في الحديث الصحيح: «إياكم والمُثلة ولو بكلب عقور».
كما يوصي عمر المسلمين «بألا يسرفوا عند الظهور»، ومعنى هذا ألا يتعدوا حدود التواضع بعد تحقيق النصر، لأن هذا النصر من عند الله من جهة، ولأنه ليس من المصلحة إيغال صدور جند العدو بالتكبر والتعالي والزهو عليهم عند النصر، من جهة ثانية فإن قتل الشيوخ والنساء والأطفال محرم كما يتوجب على المقاتلين أن يبذلوا جهدهم لتجنب إيذاء المدنيين عند اشتداد حدة القتال (إذا التقى الزحفان) أو في حال القيام بالإغارة على معسكرات العدو وتجمعاته.
يوصي عمر جنده بعد ذلك «بألا يغلوا عند الغنائم» أي الاستئثار بجانب من الغنائم وعدم تقديمه إلى القسمة الشرعية ويضيف «وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به». ‏وهو الجهاد المكرس لخدمة الله تعالى ودعوته، والمنزه عن أي هدف من الأهداف الدنيوية وقد اجتمعت الآيات القرآنية والسنة النبوية على فضل وثواب الجهاد في سبيل الله

الزيّ الديني عند الموحِّدين والموحِّدات الدروز

إنَّ استعمالنا لكلمة “الزيِّ الديني” يجب أن يفهم بمعناه الثقافي والتراثي، لأنَّ الموحّدين الدروز السالكين في معارج الحق هم جماعة من العابدين والزُهَّاد الأحرار الذين لا يتبعون إلى رهبانية أو ما يشابهها من المؤسسات والسلطات التي قامت في العديد من الأديان، وبات لها هرميتها وتراتبيتها وامتيازاتها. وقد نشأ الموحَّدون الدروز كسالكين يهتدون بهدي العارفين من كبارهم وزُهادهم، الذين لا يبتغون من هذه الدنيا سوى مرضاة الله والالتزام بوصاياه والتقرُّب منه بالعبادة والذكر الدائمين.

 

أما “الزيّ الديني” فقد تطوَّر من الأساس ليس ليمنح عُقَّال الدروز والطالبين منهم موقَّعاً خاصاً على غيرهم، ولا ليشير إلى مكانة دنيوية أو سلطة على العباد، بل ليقدِّم أوضح دليل على مجافاتهم لمباهج الدنيا وبهارجها وتحمُّلهم لمشقَّة ارتداء الخشن من الثياب وأسود اللون منها ورفضهم التزيُّن، أو استخدام الذهب أو الفضة أو غيرها. كما إنَّ قيافة السلوك بين العُقَّال واحدة ولا يستحبّ لأيِّ منهم أن يبالغ في نوع القماش أو الهندام بغية أن يرفع نفسه على الآخرين، وهذا ما يقوي فيهم روح الزُهد والخضوع لله والتساوي والأخوة والتواضع في السلوك.

برغم ذلك فإنَّ اتساع جماعة العُقَّال وتنوّع مداركهم ومراتبهم في السلوك، وَلَّد مع الوقت توجُّهاً لترجمة هذا التمايز في السلوك والمقام الروحي ببعض العلامات البسيطة التي تمثِّل إعترافاً بفضل أهل العلم والصلاح، وإصراراً من عامة الموحِّدين على تقدير مشايخهم من أصحاب المقامات الروحية أكثر ممَّا تمثِّل اتجاهاً أو قبولاً بخلق تراتبية كهنوتية من أي نوع.

وتعرف طائفة الموحّدين الدروز أكثر ما تُعرف بأزياء مشايخها ونسائها المتديّنات، وهي أزياء كما يتضح لها جذورها في المجتمع المشرقي الإسلامي، وإن كانت قد اتخذت خصوصيتها الثقافية ربما بتأثير تطوُّر المجتمع الدرزي كمجتمع جبلي وزراعي، بل يمكن القول إنَّ قسماً مهماً من لباس الموحِّدين الأجاويد يعود في جذوره إلى القرون السابقة ربما كان يشترك في بعضه (الشروال والصدرية المزررة وحتى العمائم) جمهور الموحِّدين، لكن التطوّر الذي شهده المجتمع في ما بعد _ وبتأثير دخول التقاليد الغربية والثقافات العصرية _ زايد الفارق في لباس العُقَّال وبقية المجتمع الدرزي إذ تمسَّك الأجاويد السالكين منهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساء بتراث الأجداد وأدب المظهر حشمة وتقشُّفاً، فنشأ بذلك هذا التمايز الذي نراه اليوم.

تمييز المشايخ التُقاة في زيِّهم جاء اعترافاً بفضلهم وتكريماً لهم، ولم يستهدف في أي حال خلق تراتبية كهنوتية من أيِّ نوع

يُعرَف “الأجاويد” الموحّدون، أي الملتزمون، بارتدائهم الزيّ الديني وحلاقة شعر الرأس. أمّا اللباس فيتألَّف، في الغالب، من السروال والقميص أو “القمباز” أي القِباء، وفوقه الجبّة أو العباءة التي تُرتدى في المناسبات، وغالباً ما يكون الأسود هو اللون المعتَمد، في إشارةً إلى الزهد الذي طبع حياةَ المتديّنين، وربما على سبيل الابتعاد عمَّا ساد المجتمعات المشرقية في مراحل الازدهار والبحبوحة من تباه بالألبسة المزركشة ومظاهر الجاه. علماً أنَّ بعض الأجاويد يُفضّلون اللون الكحلي الداكن، بينما يختار الآخرون ألواناً خاصة للعمل مثل: اللون الزيتي، أو الأسمر الفاتح (العسكري). وأمّا الأكيد، وفي جميع الحالات فهو البساطة المعتمدة في الزيِّ وعدم التزيُّن واعتماد الألوان، قاصدين أنَّ يكون الهدف من الزيّ السترة وتأكيد الزهد والتواضع والتساوي.

كما أنَّ زيّ المرأة الموحِّدة “الجويّدة”، يتألّف من التنورة السوداء، وأحياناً الكحلية الفضفاضة الطويلة حتى محاذاة الكعبين، والقميص اللائق غير الشفاف وطويل الكمّين، والمنديل الأبيض الكبير الذي هو حجابٌ يغطي الرأس والصدر والظهر والفم بل والأنف أيضاً لدى بعض المتورّعات التقيّات، وهذا ما يُسمّى “اللَّثمة” أو “الستحة” بحيث لا تظهر المرأة الموحِّدة إلاَّ عينيها. كما لا يُستحَبُّ  اعتماد ألوانٍ أخرى أو التفنّن بترتيب الزيّ وهندمته، ولكن يجوز عند بعض النسوة أو الفتيات تخفيف المنديل طولاً وعرضاً وسماكة، مع الالتزام باللون الأبيض وتغطية الشعر. بعض النسوة، اليوم، يضعن المنديل الأبيض الصغير كشعارٍ، ومنهنّ من يضعنه في مناسبات الأتراح فقط، ولكن، ما يُشدّد عليه المشايخ، في كلّ حال، هو “أنّ زيَّ الموحّدين والموحّدات يجب أن يراعي شروطاً ثلاثة هي: الحشمة والسترة، البساطة والزهد، النظافة والترتيب

مؤسسة العرفان التوحيدية، تعرّف إلى مذهبك، ص 48.

الأمير السيد شدَّد دوماً على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّدين

لقد كانت السلطات الدينية والزمنية الإسلامية تتدخّل، غالباً، للحفاظ على الأزياء، وشدّد الأمير السيّد التنوخي على احتشام المرأة في لباسها، وعلى ضرورة تقيّدها بالقواعد الدينية… حتى أنّ

مشيخة العقل تصدّت مرّاتٍ عدّة لأمر اختلاط النساء بالرجال وتزيّنهنّ بالأزياء الأوروبية الحديثة ” المُخلّة بالآداب”، والسفور عن الوجوه، موجّهةً ومحذّرةً من تفشّي الخلاعة.. إذ في ذلك غضب الله تعالى والحرمان الديني. وهذا ما يُشدّد عليه “الأجاويد” دائماً”، مع التأكيد على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّد، دون أن يغلب أحدهما الآخر، فيتحوّل الدينُ تحجّراً ورياءً، أو يغدو تساهلاً ويُسراً خاضعاً للأهواء والمغريات.

فصول من العادات والتقاليد في جبل لبنان، حسن البعيني، ص 211، (بتصرّف).

أمّا المشايخ الموحِّدون فيرتدون العباءات السوداء في المناسبات، وبعضهم يرتديها حتى في محيطه القريب محافظاً على الطابع الرسمي لكونه شيخاً، وهي على 3 أنواع:

  1. العباءة السوداء: يلبسها معظم رجال الدين في مناسباتهم الاجتماعية. وهي قصيرة الأكمام مفتوحة الصدر، تنتهي تحت الركبتين بقليل.
  2. العباءة الحمراء المقلَّمة بخطوط بيضاء عمودية: وهي قصيرة تصل الى تحت الخصر، ويلبسها غالباً كبار السن من رجال الدين.
  3. العباءة البيضاء المقلّمة بخطوط سوداء عمودية: وهي قصيرة أيضاً، ولا يلبسها إلاَّ من يجتمع رأي المشايخ على أن يرتديها في حال رأوه أهلاً لذلك، وفقاً لدقّة مسلكه وإخلاصه في

عبادته، فيكون واحداً من المشايخ القدوة في منطقته أو على مستوى الطائفة”ز

كذلك، يعتمُّ الرجالُ بالعمامة البيضاء، وتُعرف أيضاً باسمٍ آخر هو “اللفّة”، باعتبارها قبّعة ملفوفة بنسيج، وهي مؤلفة من طربوش أحمر يلفه كليّاً وبطبقات رقيقة القماش الأبيض، سوى سطحه، وقد “كانت العمامة معروفة وذات أهميّة عند العرب، اقترن مصيرهم بها، وقد جاء في الحديث الشريف “العمائم تيجان العرب” وقيل أيضاً يبقى العرب ما بقيت عمائمهم،… وكان الخليفة العباسي المتوكّل أول من أحدث تمييزاً في العمائم، فجعل البيضاء والخضراء للمسلمين، والصفراء لليهود، والكحليّة (الزرقاء) للنصارى”[2]وتغيّرت الألوان بتغيّر العهود. وتقترب عمامة الموحّدين من عمامة شيوخ الأزهر مع بعض الاختلاف في عدم بروز سطح الطربوش الأحمر عن مستوى “اللفّة البيضاء”.

يعتمر العمامةَ معظمُ المشايخ الملتزمين، بحيث لا تفارق رؤوسهم سوى أثناء العمل لتحلّ مكانها “العرقية” أو “القلنسوة” البيضاء أو “الحَطّة” التي هي شبه المنديل الصغير الأبيض (معتمَدَة في مناطق راشيا وحاصبيا، كما في سورية)، والتي يُمكن أن تُوضع، كذلك، فوق العمامة، والغاية من ذلك أن لا يبقى الرأس دون غطاء، وهذا تقليدٌ إسلاميّ قديم.

أمّا العمامة “المدوّرة” أو “المكولسة”، أو “اللفّة المدوّريّة”، فتخصّ البارزين في التقوى من أركان المرجعية الروحية أو الهيئة الروحية العليا، كما بات يُعرَف اليوم، أو من المشايخ المشهود لهم بورَعهم وتقواهم، “وقد تراوح عدد المعمَّمين بها بين قلّةٍ وكثرة، فوصل إلى حوالي الأربعين في أواخر القرن التاسع عشر”، بينما مرّت فتراتٌ لم يكن فيها من المعمّمين سوى شيخٍ واحد أو اثنين أو ثلاثة، امّا اليوم فهم أربعة فقط، “ولابسو هذه العمامة يتحوّلون محجّة ومرجعاً لأخوانهم من رجال الدين، كما يعود إليهم رجال السياسة في المواضيع المهمّة والأزمات الصعبة والقضايا المصيرية. ومن المعروف أنَّ معظم من لبس هذه العمامة  لم يرضَ أن يُعمّم بها إلاّ بعد إلحاحٍ شديد من المشايخ، وذلك من قبيل الزهد والتواضع، ولم يُخالف هذه القاعدة إلاّ قلائل جدّاً ممّن رغبوا باعتمارها، أو ممّن لبسوها عن يد مَن ليس مُعمَّماً بها، وهذا الأمر يُعتبَر استثنائياً وغير مُستَحبّ.

من جهةٍ أُخرى، يقتدي الأولاد بأهلهم، عادةً، في ارتداء الزيّ، فيلبس الولد السروال، ويُسمّى “الشروال”، “والعرقية” البيضاء على الرأس، وتلبس البنت الرداء الطويل والمنديل الصغير الأبيض، منذ سنِّ مبكّرة، ويُفضَّل عدم تعويدهم على الألوان المزركشة والملابس الفاخرة، حتى إذا بلغ الولد فيختار إمّا الاستمرار في الالتزام بالزيّ الديني ومسلك أهله، أو التخلّي عن الزيّ، ومنهم من يبقى ملتزِماً سلكه الديني، وإن لم يظلّ مرتدياً الزيّ بشكلٍ دائم.

 (نصّ مقتطف من رسالة جامعية للشيخ سامي أبي المنى، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وأمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية – 2009)

 

تحقيق عن بلدة عرمون

كبرت.. وكبرت مشاغلها
عرمون عاصـمــة التنوخـييــن زاخــــرة بآثــــار الماضـــي،
لكـــن الحاضـــــر اكتـــــظاظ ومشاكــــل بيئـــــة وعَطَـــــش

 

يعتبر بعض المؤرخين بلدة عرمون أول عاصمة للتنوخيين، كما أنَّها تُسمَّى عرمون الغرب لتمييزها عن عرمون أخرى تقع شمال بيروت في قضاء كسروان. يعود الاسم إلى اللغة الآرامية السامية، وهو يعني مصغر العرم أي الأكمة أو التلال. وتنطبق التسمية على جغرافية البلدة المُطلَّة على البحر والعاصمة عبر 3 تلال هي: “القبة”، “البيادر” و”المونسة”، لاسم البلدة أصل سرياني في الكلمة “أرما ” وتصغيرها “أرمونا “، وهي تعني أيضاً الأرض ذات التضاريس العالية والمنخفضة، أي التلال.

 

عائلاتها

عائلاتها المنتمية إلى طائفة الموحِّدين الدروز هي: أبو غنَّام، أبو خزام، الجوهري، حلبي، الحلواني، دقدوق، قبلان، المهتار، يحيى ومحاسن.
أما العائلات المنتمية إلى طائفة الروم الأرثوذوكس، فهي: شيبان، طبنجي، عرموني، عبد الله، عبد الكريم، خير الله وناصيف.
ومن العائلات التي لم يعد لها وجود في القرية: آل تنوُّخ، وآل إرسلان، وآل أبي الجيش، الصائغ وسري الدين. يشار هنا إلى أنَّه تمَّ مؤخراً وضع حجر الأساس للكنيسة في عرمون ترسيخاً للعلاقة الأخوية وللمُصالحة التي وَضَعت حدّاً لآثار الحرب الأليمة والتهجير.

 

سُكَّانها

يبلغ عدد سُكَّان عرمون المُسجلين ما يقارب الـ 7 آلاف نسمة بحسب إحصاءات العام 2006، ويتوقَّع لهذا الرقم أن يرتفع في نهاية هذا العام إلى ما يقارب الـ 12 ألف نسمة. وتضمُّ البلدة نحو 3043 مسكناً ممَّا يعطيها مرتبة ثالث أكبر بلدة في قضاء عاليه. ونظراً للتوسّع العُمراني خصوصاً في منطقة الدوحة، فَقَد اتَّسعت القاعدة السُكَّانية للبلدة. ويقطن في عرمون العديد من الجنسيات المختلفة، كما انتقل للعيش في ساحلها الكثير من

أهالي: بيروت، حاصبيا وبعلبك الهرمل، وذلك لقُربها من بيروت وبُعدها عن الضجيج ومشاكل المدينة.

 

الموقع والمساحة

تقع عرمون الغرب في قضاء عاليه، محافظة جبل لبنان، وهي تبعد عن بيروت 15 كلم، ويبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر 450 متراً، ويمكن الدخول إليها عبر طريق بيروت – المطار، أو عبر طريق الأوزاعي مدخل طريق الحدث الشويفات، أو عبر محور بيصور وعيناب عبر قبرشمون.
تبلغ المساحة الإجمالية لبلدة عرمون 10288 هكتاراً، وهي خامس بلدة من حيث المساحة في قضاء عاليه.
لكن، وعلى الرغم من مساحتها وتلالها الحرجية، الخضراء، فإنَّ عرمون لا تشتهر بزراعات مُعيَّنة، لكن الزيتون هي الشجرة الأبرز فيها، وتمتاز بينابيع عديدة أشهرها عين البلدة في وسط وادي البلدة، والتي يقع مجراها بين جبلين. هناك ينابع أخرى إمَّا ارتوازية أو طبيعية تتوزَّع بين أحيائها، وتستمدُّ مياه الشرب من مصلحة مياه الباروك.

%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%8a%d8%ad%d9%83%d9%8a

 

المناطق التابعة لها جغرافياً وإدارياً
  •  دوحة عرمون التي كانت مُلك آل سلام، وأصبحت الآن تجمُّعات سُكَّانية ضخمة تحوي آلاف المباني والمحال التجارية، ويقدر حجمها بنحو 3 أضعاف حجم قرية عرمون الأصلية.
  • دوحة الحُصّ: سُمِّيت كذلك لأنَّ رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص كان يقطنها مع كبار رجال الأعمال؛ وهي منطقة حديثة تزخر بالفيلات الضخمة والفخمة، ويقع فيها مقرُّ السفير المصري ومدير اذاعة نيو تي في NTV، وغيرهم من الشخصيات السياسية والديبلوماسية.
  • خلوات المونسة: هي منطقة بعيدة عن الضجيج السُكَّاني تحيطها أشجار وحدائق، وهي في أعالي البلدة كانت شبه قرية صغيرة يقصدها رجال الدِّين ليختلوا في العبادة وطاعة الله.
  • مناطق الدوير والخلة والبستان: وهي مناطق زراعية مهمة ومواقع طبيعية خلاَّبة.
  • منطقة البيادر: هي المنطقة المُستحدثة التي تقام عليها الآن مشاريع سكنية ضخمة، مثل: “أبراج الكمال” ( 5 أبراج كلِّ منها بعلو 25 طابقاً)، و”مشروع القرية الكندية” (37 مبنىً بارتفاع 3 طوابق)، ومشاريع “الرابية 1″ و”الرابية 2” و”مشروع السعيد”، وكلها مشاريع ضخمة توحي بوجود بلدة حديثة صاعدة إلى جانب القرية التاريخية.
تاريخها

تحتلُّ عرمون موقعاً خاصاً في تاريخ لبنان والجبل، لاعتمادها ولقرون طويلة كعاصمة للتنوخيين، وذلك قبل سرحمول وعبيه. وقد استوطنها آل تنوخ فأحبُّوا طبيعتها، وبنوا فيها القصور والقلاع وجعلوا منها مركزاً لحُكمهم من القرن الثامن للميلاد وحتى السادس عشر. وما زالت هناك آثار المباني والقلعة في تلَّة القبة عرمون.
ويمكن العودة بتاريخ عرمون إلى الحقبة الرومانية، وقد قطنها الرومان وخلَّفوا فيها أثاراً، مثل: بقايا سور القلعة، النواويس الحجرية المزخرفة، وقناة المياه الفخَّارية في خريبة الدوير؛ كما تحتوي البلدة على آثار بيزنطية، منها: لوحة فسيفساء مملكة الملك مرتغون في الدوحة، وقيل أنَّ هيرودوس، ملك فلسطين استخدمها سنة 27 قبل الميلاد (تحت اسم بلاتانو) مُعتقلا

 

” أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان “

 

لسجناء وُجِّهت إليهم تهمة الخيانة.
ومع بروز دعوة التوحيد في مصر، وفي العهد الفاطمي اعتنق أمراءُ عرمون التنوخيون الدعوة، وانضمَّ أمير عرمون المنذر بن النعمان إلى جيوش الخليفة الفاطمي سنة 968م. وبرز من أمراء عرمون الأمير شجاع الدولة عمر بن عيسى التنوخي، وهو الذي أتمَّ بناء حارة العين والحمَّامات في عرمون، كما أنه بنى المسجد المعروف باسمه قُرب عين البلدة، وما زالت آثاره قائمة حتى يومنا هذا.
وبرز من الأمراء البحتريين التنوخيين الأمير علي بن بحتر الذي وَلاَّه الملك الصالح بن نور الدين الاتابكي على إمارة الغرب سنة 1172 م، وكان سكنه في الحارة التي بناها على طريق العين، والتي تبقى آثارها قائمة.

 

مقامات وآثار عرمونية

مقام الشيخ سعد الدين أبوغنَّام، مقام الشيخ سيف الدين الجوهري، مقام

الشيخ صالح الحلبي، دار النائب (في عهد القائمقاميتين) حسيب أبوغنَّام، عين البلدة الأثرية، بقايا جامع الأمير مسعود الإرسلاني – دار زين الدين يحي، بقايا قصر الأمير جمال الدين صبحي التنوخي، السرايا الأرسلانية، قصر الأمير جمال الدين، دار الشيخ حسين فخور المهتار، مغارة السرج ومغاور الفحم، دار أسعد دقدوق، دار الشيخ سعيد سلوم ، والعديد من البيوت الأثرية المُرمَّمة والمسكونة، والتي ضاعت المعالم الأثرية لبعضها بين هدم وترميم.

 

حِرجُ الضيعة

على الرغم من المشاكل البيئية التي نجمت عن الاكتظاظ السكاني في عرمون، فإنَّ حِرج الضيعة الذي يمتاز بأشجار الصنوبر الشاهقة ويربض على تلَّةٍ تُطِلُّ على عرمون البلدة وبيروت، لا يزال شامخاً رغم تعرُّضِه مراراً للحرائق؛ لكن صغر مساحته جعلت منه موقعاً مميَّزاً ومقصداً للمُتنزِّهين. فقامت البلدية مؤخراً بالتعاون مع الجمعيات بترميم حائط الطريق المؤدِّي إليه، وتمَّت إضافة كمِّيات كبيرة من الأتربة بهدف تخصيب أرضه وإنعاشها. ويجري الحفاظ على الحِرج الآن كمحطة طبيعية خلاَّبة للقاء العائلات العرمونية والبيروتية في جوٍّ من الخضرة والظلال والهدوء.
كما استحدثت البلدية مؤخراً سلسلة من الحدائق العامة وهي صغيرة المساحة، ولكنها مهمة جداً بحيث تحوَّلت مناطق عدَّة من مَكبَّات متفرِّقة للنفايات أو الأنقاض إلى ساحات خضراء تملؤها الورود وأشجار الزينة.

 

مشروع المُجمَّع الرياضي

وضع المجلس البلدي الجديد لعرمون خطَّة لبناء مركز صحِّي ومجمَّعٍ رياضي وثقافي كبير، يؤمل أن يُنشِّطوا الحركة الرياضية والثقافية في البلدة والجوار. ويعتبر ترميم الملعب الرياضي وافتتاح المكتبة العامة خطوتين مهمتين في المسيرة الإعمارية للبلدة وتطوُّرِها؛ كما أنَّ انجاز مبنى الثانوية العامة الرسمية الجديد أعطى دفعةً قوية لقطاع التعليم؛ وبعد أن كان عدد طلاَّب الثانوية لا يتجاوز الـ 100، فقد ارتفع هذا العام إلى أكثر من 300 طالب وطالبة.

 

المؤسسات التربوية

أصبحت عرمون، وبسبب قُربها من بيروت العاصمة، مقراً مهماً لعدد متزايد من المؤسسات التعليمية التي تخدم ألوف الطُلاَّب والطالبات ومن أبرز هذه المؤسسات المتواجدة حالياً:

  • معهد الحكمة التوحيدي
  •  مدرسة الادفنتست السبتية الانجيلية (تأسَّست العام 1852)
  • مدرسة عرمون المتوسطة الرسمية (تأسَّست العام 1990)
  • ثانوية عرمون الرسمية (حديثة)
  • ثانوية العلوم والآداب (تأسَّست العام 2002)
  • مجمَّع نازك الحريري التربوي
  • المدرسة اللبنانية الأوروبية – يونيفرسال تكنيكال سكول (دوحة عرمون)
  • مبرة الإمام الخوئي الدوحة
  • مدرسة النشىء السليم عرمون
  • مدرسة البيادر، عرمون
  •  دار الأيتام الإسلامية
  • معهد التعليم المهني لجمعية المبرَّات الخيرية
  • معهد علي الأكبر المهني
  • مركز مؤسسة مخزومي للتدريب والتأهيل المهني
  • مدرسة الجواهر
  • مدرسة النجمة.

 

بعض رجالات وشخصيات عرمون السابقين

أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

  • الشيخ شمس الدين الصائغ التنوخي (فيلسوف وشاعر، ومن تلامذة السيد الأمير جمال الدين التنوخي)
  • الأميرة أم علي، ابنة جمال الدين أحمد الإرسلاني (زوجة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير)
  • الشيخ معضاد بن نجم أبوغنَّام (أشتهر بالصلاح، وكان شيخ صُلحِ إمارة عرمون، وهي تشمل بلدات كثيرة)
  • الشيخ جمال الدين بن ابراهيم المهتار (مرجعية دينية، ومؤسِّس خلوات المونسة)
  • الشيخ سليمان بن إبراهيم الجوهري (رجل دين توحيدي بارز، وله مواقف ذائعة).
  • النائب حسيب أبو غنَّام (نائب مجلس الإدارة الأوَّل الذي تأسَّس بموجب بروتوكول 1861 م)
  • الشيخ سليمان بن حسن الحلبي (شيخ دين بارز امتاز بمسلكه الورع ونفوذه الكبير)
  • السيد أسعد ناصيف (أحد قادة الجيش في الولايات المتحدة الأميركية)
  • الشاعر عجاج سليمان المهتار (شاعر وكاتب وأديب، وله مؤلَّفات عديدة)

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

مشكلة مياه الشفة – مصلحة مياه الباروك

كبرت بلدة عرمون وتوسَّعت، ونشأت فيها مناطق حديثة مثل……. لم تكن مشمولة بأيِّ مصادر مياه. ومع تزايد السُكَّان وتنامي عدد البيوت، تضاعف الطلب بصورة هائلة على موارد المياه وباتت الحصَّة التي تأتي إلى البلدة من مصلحة مياه الباروك غير كافية لسدِّ عطش الناس المتزايد إلى المياه، وبات سُكَّان البلدة لا يحصلون على المياه أكثر من 4 ساعات يومياً، وهذا بالنسبة إلى الذين تصلهم الشبكة؛ علماً أنَّ 40 في المئة من سُكَّان عرمون داخل البلدة طبعاً يستفيدون من مياه الشرب، وأمَّا بقيَّة سُكَّان البلدة، وخصوصاً منطقة المونسة والجوار وشارع آل جوهري، فإنَّهم محرومون منها، ممَّا يعني أنَّ مئات المنازل في هذه الأحياء الجديدة مضطرة لإنفاق المبالغ الكبيرة على شراء المياه الصالحة للشرب في معظم أشهر العام.
وبهدف معالجة مشكلة المناطق الجديدة، فقد تمَّ قبل فترة 5 سنوات، إنشاء خزَّان كبير في أعالي عرمون بهدف استقبال مياه الباروك الإضافية، وتتمّ تمديد شبكة مياه تمرُّ بالمناطق المذكورة. ولكن، لسبب مجهول لم يُستكمل الخزَّان (الذي امتلأت بعض جوانبه بالأتربة الآن)، ولم تصل المياه الإضافية إليه، وبقيت صنابير البيوت في تلك المنازل جافَّة، بل ربَّما علاها الصدأ.

 

ولادة ثانوية عرمون الرسمية

بين أهم الإنجازات التي تحققت لبلدة عرمون، إنشاء مبنى الثانوية الحديث على أرض تقارب مساحتها الـ 10 آلاف متر مربع، وعلى إحدى التلال الجميلة عند مدخل القرية. وقد تسلّمت إدارة الثانوية المبنى الجديد هذا العام، وانطلقت رغم ذلك بمجموعة طلاب ثانويين تجاوز عددهم الـ 170 طالباً، بعد أن كان عددهم لا يتجاوز الـخمسين، علماً أن المدرسة بنيت لاستيعاب ما يقارب الـ 400 طالب. لكن على الرغم من إنجاز المبنى الكبير، فإن المدرسة ما زالت في حاجة إلى تجهيز المكتبة والقاعة العامة وإلى ملعب كرة سلة مسقوف، فضلاً عن تجهيز المكتبة الإلكترونية التي تسمح للطلاب باستكشاف الإنترنت واستخدامها كوسيلة مباشرة للبحث وتوسيع المعارف والمهارات.

الأستاذ نظام الحلبي، مدير الثانوية، والذي عمل لمدة طويلة من أجل تأمين إنجاز المبنى يبدي سروره بهذا الإنجاز الذي خلق صرحاً تربوياً مهماً لبلدة عرمون ولمختلف البلدات المحيطة. وحرص الحلبي على توجيه الشكر “للزعيم وليد جنبلاط الذي لولا دعمه لما أمكن تأمين اتخاذ القرارات وتوفير الإعتمادات لتنفيذ أعمال الثانوية.”

القواعد الإحدى عشرة للسالكين في طريق الحق

طرق التحقُّق الروحي مبنية على العمل بعدد من القواعد والتمارين الروحية التي بُنيت على اختبار المُرشدين العِظام وتعليمهم وتربيتهم لمريديهم. وقد اشتهر من هذه القواعد التي تأخذ بها بعض الطرق الصوفية ما يعرف بـ «الكلمات الإحدى عشرة»، والتي تلخص بإيجاز بليغ أهم القواعد التي يقتضي على السالك التزامها على طريق المجاهدة واستكشاف الحقائق المستبطنة في ظاهر الوجود وسريانه في الزمان والمكان. وكما سيلاحظ فإنَّ الهدف الأساسي لتلك القواعد هو صرف اهتمام وحواس السالك عن أغراض الدنيا وعن نوازع الهوى، وتوجيه كامل وجوده للعبادة والتقرّب من الله تعالى بالصلاة ومجاهدة النَفس ومداومة الذكر، إلى أن يثمر كل ذلك تطهير القلب من الرذائل ودوام الحضور مع الله تعالى إلى حين تجلِّي نور الحق في القلب وتحقّق الحضور والقرب من المولى وهو قرب يدرك بعين القلب لا بعين الرأس، أي بالبصيرة لا بالبصر.

الكلمات الإحدى عشرة التي تمثِّل قانون سلوك المريد الجاد على صراط الحقِّ، فهي حسب المصطلح الصوفي كالتالي:
اليقظة عند النَفَس – النظر إلى القدم – السفر في الوطن – الخلوة في الجَلوة – الذكر الدائم – العودة من الذكر إلى الذات – حراسة القلب من الغفلات والخواطر، أو الحضور الدائم – حفظ آثار الذكر في القلب – الوقوف الزماني – الوقوف العددي – الوقوف القلبي , وفي ما يلي تفصيلها:

-1 اليقظة عند النفس، أو حفظ الأنفاس

معنى حفظ النَفَس عن الغفلة، أي أن يكون قلب السالك حاضراً مع الله في جميع الأنفاس، فلا تتوزَّع خيالاته على أمور دنيوية. وقال أحد أقطاب التصوّف بهاء الدين نقشبند إنَّ عمل السالك متعلِّق بنفسه، فعليه أن يعلم هل أمر نفسه مع الحضور أو مع الغفلة لكي يبقى في الذكر ولا يتوزّع باله على الماضي أو المستقبل في حال الغفلة. وباختصار تعني هذه الكلمة عند أهل الحقيقة اليقظة والدِقَّة والفكر عند التنفّس، وهو درجة من درجات الترقّي في الطريق، حتى قيل أنَّ السالك إذا أضاع نَفَساً له فكأنه ارتكب ذنباً.

-2 النظر إلى القدم

على الصوفي في حال مشيه في الطريق أن يكون نظره مركَّزاً على موضع قدمه حتى لا يتوزَّع باله وعقله على أنحاء كثيرة، وحتى يكون عقله وفكره مع الله تعالى فلا يغترّ بجمال ومتاع الدنيا، وهذا عمل محمود ولكن الإمام الربَّاني يقول إنَّ معنى النظر على القدم هو كالاستطلاع للسير على القدم لعروج المقامات، وقبل أن يخطو بقدمِه إلى المقام الجديد فعليه أن يتحقَّق فيه ويعرف مكانه، فيخطو إلى المقام الجديد.

-3 السفر في الوطن

وله معنيان: المعنى الأول، هو السفر بالجسد على اعتبار أنَّ السير في الأرض يورث العِبرة في النظر إلى المخلوقات، ويوجِّه أبصار السالك إلى عظمة خالقه. أما المعنى الثاني، فهو البحث عن المُرشد الصالح. إذ أوصى كبار المشايخ بسفر المُريدين للبحث عن مُرشد كامل، وقالوا أيضاً أنَّ السفر في الوطن يُقصد به أخذ السالك لطريق الانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة، وهو سفر من عالم الخلق إلى الحقّ؛ وهو سفر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام أرفع.

-4 الخلوة في الجلوة

ومعناه أنَّ جسده مع الخلق وقلبه مع الخالق. والخلوة نوعان: خلوة مادية، وهي عبارة عن انتقال السالك إلى زاوية معزولة للتعبُّد والتأمُّل، وهذه نافعة للسالك لضبط حواسه وإمكان التركيز على قلبه والانهماك في حال قلبه. ومن المعلوم أنَّه كلَّما استطاع تعطيل الصفات الخارجية من العمل، كلما تزداد الصفات الباطنية نشاطاً وعملاً. وبهذا يقرب من عالم الملكوت. والنوع الثاني، هو خلوة القلب، بحيث لا يغفل عن ذكر ربِّه حتى إذا كان مع الناس ومشغولاً بالكسب والذهاب والإياب، فيبقى قلبه ذاكراً ولا يغفل عن ربِّه، قال تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (النور 37)؛ ويستحسن معظم كبار علماء التصوُّف أن يعود السالك إلى الناس عاملاً بالكسب الحلال بعد أن يستقرَّ ويتقدَّم في سلوكه. وقال الشيخ أبو سعيد الخراز، المتوفى 279 هـ: ليس الكامل من صدر عنه أنواع الكرامات، وإنما الكامل الذي يقعد بين الخلق يبيع ويشتري معهم ويتزوج ويختلط بالناس، ولا يغفل عن الله لحظة واحدة. ويقولون (الصوفي كائن بائن) أي بالظاهر، والجسم كائن مع الخلق والباطن والقلب بائن عنهم.

-5 الذكر الدائم

والذكر بالمعنى العام الذي يشمل ذكر اسم الجلالة والتأمُّل، والصلاة وقراءة القرآن الكريم والدُّعاء هو أساس السلوك الصوفي. والغالب الشائع من معانية هو ذكر اسم الجلالة (الله) والتأمُّل. والذِكرُ قد يكون جهراً وقد يكون سراً جوهره النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله)، وفي الحديث الشريف: «أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلاَّ الله». والمقصود بالذِكر هنا هو مداومة الذكر والتذكُّر، والفائدة في الذِكر القلبي أنه لا يحتاج إلى صوت أو حرف، أي القول باللسان فيستطيع السالك أن يذكر حتى في خِضمِّ العمل. وهذا الذِكر القلبي يتطلَّب المداومة حتى يتحقَّق للذاكر سالك الحضور الدائم مع المذكور، وهو الله سبحانه؟.

-6 العودة من الذكر إلى الذات

 ومعناها رجوع الذاكر من النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله) بعد إطلاق نَفَسه إلى المناجاة بهذه الكلمة الشريفة باللسان أو بالقلب «إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي»، وذلك لطرد كلِّ الخيالات من قلبه حتى يفنى من نظره وجود جميع الخلق.

-7 حراسة القلب من الغفلات أو الحضور الدائم

ومعناه أن يحفظ المُريد قلبه من دخول الخواطر ولو للحظة، فإنَّ خطراً على قلبه شيء حقاً كان أم باطلاً، فعليه أن يوقف ذكره حتى ينتهي من طرد الخواطر، ليبدأ بالذكر من جديد. وهذا التوقّف معناه أنَّ على السالك أن يحافظ على الثمار من البركات التي حصل عليها بمداومة الذِكر، أو على درجة الحضور والمشاهدة التي حصل عليها باستقامته على الذكر، فلا يسمح بتسلُّل الخطرات إلى قلبه. وبهذا فإنَّ على السالك أن يتمرَّن ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً حسب طاقته على حبس ذهنه وفكره القلبي، بحيث لا يخطر في قلبه شيء ولا يبقى في قلبه غير الله سبحانه. لكن ليس المقصود أن لا تمرَّ أيَّةُ خاطر مهما كان في القلب، بل المعنى هو أن لا يستقرَّ ذلك الخاطر فيكون كالأوراق التي تمرّ سريعاً على الماء الجاري ولا تتوقَّف.

-8 المشاهدة

وهي التوجُّه الخاص لمشاهدة أنوار الذات، وتُسمَّى أيضاً عين اليقين والشهود. وقال أحد المشايخ العارفين إنَّ المشاهدة هي حضور القلب مع الله تعالى على الدوام، وفي كل حال من غير تكلف ولا مجاهدة؛ وهذا الحضور في الحقيقة لا يتيسَّر إلاَّ بعد طي مقامات الجذبة وقطع منازل السلوك. وقيل أيضاً أنَّ المشاهدة هي ثمرة عمل السالك، وقد تكون ثمرة الذكر أو المراقبة أو مساعدة المُرشد، ويصلها السالك بعد قطع كل الحواجز.

-9 الوقوف الزماني

وهو المحاسبة القلبية، ومعناه أنه ينبغي على السالك بعد مضي كل ساعتين أو ثلاث أن يلتفت إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث. فإنَّ كانت حالة الحضور مع الله تعالى شكر الله تعالى على هذا التوفيق وإن كانت حالة الغفلة استغفر منها وأناب. وجاء في كتاب “الرشحات” أنَّ بهاء الدين نقشبند قال: «الوقوف الزماني هو أن يكون السالك واعياً لحاله، عارفاً بما هو فيه هل يستحق الشكر عليه، أو يجب عليه الاعتذار فإن كان حسناً شكر الله عليه وإن كان غير ذلك اعتذر. أي أنَّ الوقوف الزماني هو مراقبة الحالين القبض والبسط؛ ويفهم أيضاً أنَّ حالة البسط أساسها اليقظة وحالة القبض أساسها الغفلة.

-10 الوقوف العددي

وهو المحافظة على عدد الِوِتر في النفي والإثبات ثلاثاً أو خمساً (لا إله إلاَّ الله)، ومنهم من يستطيع الذكر 21 مرة بنَفس واحد. فهذه المراقبة العددية تُسمَّى الوقوف العددي. فالسالك واقف متيقِّظ بضبط نفسه على الذكر بالوتر، وهذا الذكر بالقلب وبالباطن وكذلك عدّه بالقلب وبالباطن وليس باللسان. ولهذا الوقوف ثمرة معنوية كبيرة، والحِكمة منه هي معرفة السالك متى وفي أي مرحلة من الذكر تحصل له ثمرته، فإن بلغ في الذكر 21 مرة ولم يشعر بالثمرة المعنوية، فإنَّ علامة واضحة لنقصان شروطه وأنه يراقب العدد ليعرف في ما إذا حصلت له البركة أم لا. فإن لم تحصل البركة من 21 مرّة فعليه أن يبحث عن سرِّ النقص في المجاهدة والعمل.

-11 الوقوف القلبي:

قال الشيخ عبد الله الدهلوي إنَّه عبارة عن تنبُّه السالك لحال قلبه بمراقبته ومحاولة الإطلاع على أنه ذاكر أم لا، أي أنَّ الوقوف القلبي هو حراسة القلب لكي يذكر الله دائماً ولا يغفل عنه، ويكون القصد من الذِكر هو «المذكور» لا الكلمة في حدِّ ذاتها. والوقوف القلبي أفضل من الوقوف الزماني والوقوف العددي، ذلك أنه مع أهمية الوقوفين الزمني والعددي لاستحصال البركات، فإنَّ فقدانهما لا يؤثِّر في السلوك الصوفي، ولكن الوقوف القلبي ضروري لأنَّ السالك الذاكر إن فَقَدَ الوقوف القلبي وأصبح ذكره مجرد حركة اللسان دون الوعي، فإنه لا يحصل على شيء.

كيف نفلت من دوَّامة المرض والأغذية الضارة

الضحى تضع الأسس لثقافة غذائية سسليمة و لقواعد الصحة المستدامة و العلاج الوقائي

يذكُر بعض الكبار في قُرانا أنَّ القطاع الطبِّي قبل سبعين عاماً كان عبارة عن طبيب أو طبيبين يجولان قُرى القضاء على حصان ليتفقَّدا حال الناس في القُرى، وكان كُلَّما دخل الطبيب قرية سأل الناس إذا كان فيها مريض بحاجة إلى عناية. وكان الجواب إمَّا بالنفي، بحيث يتابع الطبيب مسيرته إلى القرية التالية، وإمَّا أن يقال له نعم إنَّ فلاناً أو فلانة في حال المرض، فيتوَّجه إلى بيت المريض ويستخرج من صندوقين مثبتين على جانبي الحصان في ما كان يُسمَّى الخرج، العقاقير الطبيِّة فيُقدِّمها للمريض مباشرة، ثمَّ يُرفق ذلك بمجموعة وصايا ينبغي على المصاب الالتزام بها، وينبئه بأنه سيعود ليرى ما حلَّ به بعد أسبوع مثلاً أو بضعة أيام إذا توسَّم الحال للعودة في وقت أقرب.

لاحظوا أولاً أنَّ أول من يصادفه الطبيب في القرية كان يعرف من الشخص الذي هو في حاجة إلى العناية، وهذا يعني أنَّ السقم كان استثناءً وأنَّ حصول حالة مرض كان خبراً يذيع، لأنَّ أهل القرية كانوا على تواصل وتوادد أفضل، ما يجعلهم يسألون عن المريض.

كما لاحظوا أيضاً أنَّ “صيدلية” المنطقة كان يمكن تحميلها في صندوقين، فلم تكن هناك في قضاء مثل الشوف صيدليات، وكان هناك في القُرى بعض أطباء الأعشاب، كما كانت القُرى تُزار أحياناً من “طبيب مغربي”، وهو طبيب تقليدي تدرَّب ربَّما على كتاب الطبِّ لـ إبن سيناء أو الطبّ النبوي، أو بعض المصادر القديمة المتداولة.

أهمُّ ما يمكن استخلاصه من الكلام السابق هو أنَّ المرض كان في قُرى الجبل استثناءً فعلاً، وأنَّ الصِحَّة والعافية كانتا هي القاعدة في زمن لا يمكن اعتباره بعيداً، لأنَّ العديد ممَّن عايشوا تلك الفترة لا يزالون أحياءً، وقد يكون من الطريف لشباب اليوم أن يتوجَّهوا إلى أيٍّ منهم بالسؤال ليعلموا بأنفسهم عن أحوال تلك الأيام السعيدة. بناءً على ذلك أيضاً نُدرك في صورة خاطفة قدر التدهور المُخيف الذي حصل في صحَّة الناس، وخصوصاً صِحَّة أهل الجبل في غضون سبعين أو ثمانين عاماً، وهي فترة لا تزيد على جيلين. فالصِحَّة اليوم باتت هي الاستثناء والسقم والأمراض من كلِّ نوعٍ، باتت هي القاعدة. وبات العجيب ليس أن تكون مريضاً بل أن تكون في صِحَّة جيدة وأن لا تكون في حقيبتك صيدلية مُتنقِّلة، أو في منزلك “مستودع صغير” للأدوية والعقاقير التي يتناولها أهل البيت. وبدل “طبيب الفَرَس” وصيدليته المُحمَّلة في “الخرج”، أصبح لدينا مئات الأطباء وعشرات الصيدليات المنتشرة على الطُرق والقُرى، وأضف إلى ذلك المستشفيات والمراكز الصحيَّة، كذلك المعدَّات والأجهزة التي يسميها الناس “تقدّم الطب”. لكن إذا كان الطبُّ تقدّم، فما الذي يُفسِّر أنَّ الناس باتوا جميعاً مرضى؟

حقيقةُ الأمر أنَّ الطب تقدّم فعلاً من الناحية التقنية، لكن عِلم الصِحَّة وعِلم الحياة تراجعا بصورة كبيرة، كما تراجعت معهما نوعية البيئة والغذاء وأسلوب العيش التي كانت أساس السلامة الجسدية والنفسية للناس، وأهمّ تلك الظروف هو الاكتفاء الغذائي، إذ كان الناس يأكلون ممَّا يزرعون ويعملون في الحقول وينهضون قبل بزوغ الشمس ليتوجَّهوا إلى الحقول والأرزاق، فيمضون يومهم في العمل والعناية بالأرض، وكان كلُّ الناس تقريباً يُربُّون الطيور، بينما كان البعض يعتني بالماشية ويبيع إنتاجها للقرية.

لأنَّ عِلم الصِحَّة وعِلم الحياة تأخَّرَا، فإنَّ الطبَّ الحديث ليس كافياً. وغالباً ما يقتصر عمل الطِبّ على التعامل مع الأعراض المرضية، لكن لا يمكنه معالجة الأسباب الحقيقيَّة للمرض وقليلاً ما يهتمُّ بها أصلاً، فضلاً عن ذلك، فإنَّ تناول الأدوية غالباً ما يحمل أخطاراً غير منظورة، خصوصاً في حالات الخطأ الطِبِّي التي تكاثرت وتكاثر ضحاياها، أو الآثار الجانبية للكثير من الأدوية.

لهذه الأسباب، ولأنَّ صِحَّة المجتمع هي عاملٌ من عوامل قوَّتِه وحيويَّته، ولأنَّ الجبل يحتوي على العديد من العناصر والمُقوِّمات التي أُهمِلَت ويمكن استغلالها للترويج لحياة صِحيَّة وسعيدة، فإنَّ مجلة “الضُحَى” ستولي اهتماماً خاصاً بشؤون التغذية السليمة والصِحَّة، ولاسيَّما العلاج الوقائي، كما ستهتمُّ بالبيئة وبحمايتها وحماية مكوِّناتها من طيور ونباتات وتكوينات طبيعية. وستتولَّى المجلة إعداد هذه المواضيع بالاستناد إلى أحدث الدراسات العلمية وآراء الخبراء، كما أنَّها تُرحِّب أيضاً بالمساهمات المفيدة في هذا المجال.

مؤامرة الحشيشة في الجبل من يقف وراءها؟

ترويج الحشيشة بين شبيبة الجبل يستهدف استرهان
مدمنين يمكن تجنيدهم لأغراض أشد إيذاء عند الحاجة

هناك مؤامرة كبيرة على الجبل سلاحها هذه المرة هو الإفساد وتقويض احترام الذات ونشر الفتنة والفساد عبر سلاح خطير هو المخدرات. الدليل الواضح على المؤامرة هو التكثيف المفاجئ والواسع النطاق لنشاط ترويج المخدرات في الجبل، والأسلوب المنهجي الذي يتم به ويدل على احتراف وعلى وجود برنامج وضعت له أهدافه وحددت وسائله وأساليبه بصورة دقيقة.

أما الأهداف فهي ضرب مجتمع الموحدين الدروز من الداخل عبر ضرب أهم قوة في هذا المجتمع وهي الشباب وخلق مشكلات داخلية تسبب الإرباك وتضعف المعنويات وتوفّر المناخ المثالي لأمور أخرى مثل تقديم المعلومات أو حتى تنفيذ المآرب الأخرى. لأن مدمني المخدرات وجلّهم من العاطلين عن العمل أو ذوي المداخيل الصغيرة سيحتاجون بعد قليل من دخولهم دوامة الإدمان إلى المال لتمويل الإدمان وسيصبحون بذلك بيئة مناسبة لتجنيد البعض منهم ولإدخاله في العالم السفلي للعسس وأدوات التنفيذ لشؤون أخطر عندما تدعو الحاجة.

أما البرنامج فهو الدخول من باب الحشيشة لأن عرض المخدرات الأقوى يتم دائماً في مرحلة تالية . أما البداية فيجب أن تبدو بريئة مثل “جرب هالسيجارة.. هيك أطيب” أو “خذلك نفس أركيلة غير شكل” ويلاحظ أن الحشيشة تدخل هنا من باب آفة التدخين وتدخل خصوصاً من باب تلك العادة التي تفشت وهي عادة تدخين النارجيلة (الأركيلة) واستخدام أنواع التبغ المنكَّهة (المعسَل) مما يجعل من هاتين العادتين معبراً سهلاً إلى الحشيشة. وقد يكون ذلك أولاً بعيارات صغيرة لا تثير أي شبهة لكن تناول هذا المخدر الخطير لا بد وأن يتنامى ليصبح إدماناً. وتشير مصادر مطلعة إلى أنه وفي سبيل نشر العادة يتم منذ مدة توفير الحشيشة بأسعار زهيدة (بدليل انتشارها السريع) من قبل أشخاص يمكن أن يتحولوا لاحقاً إلى حلقة أساسية في الاتجار بها بين الشباب. أما الهدف فهو الترويج ونشر العادة بين أوسع قاعدة من الشباب وخلق “السوق”، أو قل خلق “المشكلة” أولاً قبل الانتقال لاستغلالها في المراحل التالية. والسؤال بالطبع هو من يقف وراء حملة الترويج ومن يمولها؟
كافة المعلومات والمؤشرات التي نملكها تشير فعلاً إلى أن تعاطي الحشيشة بات شائعاً في قرى الجبل، سراً وأحياناً علناً، يحكى مثلاً أن أحد المحال في منطقة الشوف يوصل الأركيلة إلى البيوت “ملغومة” بالحشيشة عند الطلب!! ويتسع استخدام الحشيشة وبوجوه مختلفة في أوساط الشباب ولا سيما الذين تتراوح أعمارهم ما بين15 و25 سنة، علماً أن العادة تطاول فئات عمرية أكبر وإن بنسب اقل. ويلعب المروجون دوراً كبيراً في رسم صورة مخادعة عن الحشيشة، بأنها تساعد على الابداع وتوسع الخيال.. ومن المفاهيم الخاطئة الشائعة أن تدخين الحشيشة كتدخين التبغ ولا يدمن عليها، وأنها أقل ضرراً من تدخين التبغ. وبعض الاشخاص يعتقدون ان الحشيشة غير ضارة لأنها “نبات” ولا يعرفون كم وكم من النباتات لها خصائص مخدرة وأحيانا سموم عالية بل ومميتة، وهذه أساليب للترويج كاذبة ومخادعة. فالحشيشة مادة مخدرة تؤثر على الدماغ بشكل كبير، وتعاطي الحشيشة بكثافة وباستمرار قد يؤدي إلى ضمور في الدماغ والإضرار بالوظائف العقلية للمدمن عليها، فضلاً عن آثارها المدمرة على الرئتين (راجع : مخاطر الحشيشة على الصحة البدنية والعقلية).

يذكر أن انتشار المخدرات أصبح آفة عامة تضرب نسبة متزايدة من شباب لبنان، وعلى الرغم من غياب إحصاءات رسمية عن استهلاك المحرضات والمخدرات العقلية فإن بعض الأوساط العاملة في هيئات ومنظمات المكافحة وإعادة تأهيل المدمنين تقدر بأن عدد المصابين بالإدمان المزمن أو المرضي على المخدرات يتراوح بين 10 آلاف و15 ألف شخص ونحن نتحدث هنا عن المدمنين الذين يحتاجون إلى عناية طبية أو علاجية ولا نتحدث عن الاستخدام غير المنتظم أو المتقطع للحشيشة أو غيرهما من المخدرات. كما أن الرقم يتزايد باستمرار بحسب تقارير نشرتها منظمة “سكون” اللبنانية والتي توفّر الوقاية والعلاج النفسي لمتعاطي المخدرات.
وتشير “سكون” إلى أن المخدرات تطاول كل فئات المجتمع اللبناني، ولكن تتركز بشكل أساسي بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15-25. وتبين دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة العام 2001، على أساس ثلاث عينات من السكان اللبنانيين (بينهم طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات) أن سن متعاطي المخدرات للمرة الأولى انخفض بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، إذ أصبح يطاول الشريحة التي تتراوح أعمارها بين 15-20 سنة، مقابل 25-30 في بداية الـ التسعينات

من القرن الماضي. وتظهر الدراسة ارتفاع وتيرة الاستهلاك متعدد الوجوه للمواد المخدرة، وافتقار الغالبية العظمى من المواطنين ولا سيما الشباب للمعلومات عن مخاطر المخدرات. ويتبين أن هذه المعلومات تعود للعام 2001 ، مما يعني أن الواقع اليوم لا بدّ أنه أصبح أكثر سوءاً بكثير لأن كل الإحصاءات تشير إلى أن مشكلة المخدرات في اتجاه مستمر للنمو والتحول إلى وباء حقيقي.
ويعتبر رئيس جمعية جاد (شبيبة ضد المخدرات) جوزف حواط، أن هناك خطة لضرب شبيبة لبنان من خلال المخدرات. والمعروف أن من بي

مطلوب إنشاء مكتب أهلي لمكافحة الإدمان في كل قضاء وجمعية أهلية من المتطوعين لمتابعة الوضع على الأرض

الاستراتيجيات الفعّالة التي تستخدم لتدمير المجتمعات جرها إلى الإدمان على المخدرات ، وذلك بهدف إضعافها من الداخل وشل إرادة الشباب وتخريب طاقاتهم والسيطرة على عقولهم وإلقائهم في هوة كئيبة من تعطل الإنتاجية أو القدرة على العمل، فضلاً عن افتقاد احترام الذات واحترام الأقران والمجتمع الأوسع. وبالطبع أول خطر يتعرض إليه المدمن هو صعوبة الحصول على عمل شريف أو خسارة العمل الذي يكون قد حصل عليه، وهذا يعني أن المدمن ينتقل من حضيض إلى حضيض أعمق اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً.

وتستخدم استراتيجية نشر المخدرات خصوصاً من قبل أجهزة المخابرات والقوى المعادية، أو التي تضمر شراً بمجتمعنا، وهذه من أهم الوسائل التي تعتمدها إسرائيل لضرب الشباب الفلسطيني وشلّه بحسب شهادات فلسطينيين مقيمين. ومن الشواهد على ذلك ما خرج به فيلم وثائقي أعده مخرج فلسطيني من أرقام مخيفة جداً، تشير الى أن أكثر من 50 في المئة من الشباب الفلسطيني في القدس مدمن، وإسرائيل تدفعهم دفعاً للإدمان عبر توفير المخدرات الرخيصة واستخدام شبكات الترويج المحترفة والتي ينتمي معظمها إلى صفوف الشباب وغالباً الفئة الأكثر إدماناً والتي باتت في حاجة للاتجار وتحصيل المال لتمويل العادة وربما الدخول إلى نشاطات أخرى غير قانونية متصلة بعالم المخدرات.

ما العمل ؟ وكيف نحمي شبابنا؟

إن الجواب المطلوب على ما نعتبره عملاً مخططاً ومنظماً لإضعاف مجتمعنا وحرمانه من أهم قوة للبناء والدفاع عن وجوده يجب أن يُجابه بعمل مخطط ومنظم أيضاً ولا يقتصر ذلك على الشكوى أو التحذير الكلامي أو التوعية فقط. ومن أبرز الخطوات العاجلة التي تقترحها “الضحى” في هذا المجال:

  • يجب أولاً على المجتمع المدني وبالتعاون مع الجمعيات المتخصصة في
    مكافحة الإدمان أن يؤسس في كل قضاء من أقضية الجبل هيئة يمكن تسميتها المكتب الأهلي لمكافحة الإدمان، على أن تكون مهمته جمع المعلومات عن ظاهرة الإدمان وترويج الحشيشة أو غيرها من المخدرات.
  • يستند المكتب إلى جمعية أهلية ذات قاعدة أوسع تضم متطوعين من الشبان والشابات في كل قرية، على أن يكون هدف هؤلاء متابعة الوضع وتقييمه على الأرض ومساعدة المكتب الأهلي على تكوين صورة مستمرة عن واقع الإدمان في قرى القضاء وطبيعة المشكلة وأساليب الترويج وغيرها.
  •  التعاون مع الأجهزة الأمنية لملاحقة المروجين والإبلاغ عنهم والتشهير بهم.

حلل باحثون من 4 جامعات بريطانية نتائج 35 دراسة على استخدام الحشيشة حول العالم، وأظهروا أن تعاطي الحشيشة لمرة واحدة كاف لأن يرفع خطر الإصابة بإنفصام الشخصية schizophrenia (الفصام) بنسبة 41 في المئة. وتبين بعض الدراسات أن تدخين الحشيشة في عمر المراهقة يرفع خطر ازدياد حالة الفصام في عمر العشرينات أو الثلاثينات، وأن تعاطي الحشيشة خلال سن المراهقة قد يؤدي الى تلف دائم في الدماغ. وربطت الدراسة بين تعاطي الحشيشة وبين تبلد الحواس كما نشبت على أعراض الفصام التي تسببت بها الحشيشة نشوء حالات متطورة من جنون الاضطهاد (بارانويا) أدت في بعض الحالات إلى ارتكاب بعض المدمنين جرائم قتل بدم بارد تحت تأثير الحالة النفسية التي تعتريهم.

ويحمل تعاطي الحشيشة المخاطر الإضافية التالية:

  • ارتفاع نسبة التعرض للسرطان وتلف وانسداد الخلايا الرئوية Emphysema، بالإضافة إلى مشاكل رئوية أخرى مرتبطة بالتدخين مثل التهاب الشعب الهوائية والربو.
  • إضعاف قدرة المرء على التركيز والتعلم، ومعظم الأشخاص المدمنين يشعرون بالتعب والانحطاط الجسدي والكسل الذهني كل الوقت ويفقدون الحافز أو الهمة للقيام بأعمالهم اليومية وكسب الرزق.
  • الحشيشة تضاعف احتمال الإصابة بأمراض القلب، إذ تزيد معدل ضرباته وقد تؤثر على ضغط الدم.
  • على عكس ما يشاع فإن تعاطي الحشيشة قد يحدث بعض الاسترخاء المؤقت لكنه على العموم وبسبب أعراض الإدمان يجعل المدمن أكثر عصبية وأكثر ميلاً للقلق والاكتئاب.
  • تعاطي الحشيشة المستمر قد يساهم في خفض عدد الحيوانات المنوية عند الرجل وقمع الإباضة لدى النساء.
  • بعض متعاطي الحشيشة يشعرون بالرغبة في استهلاك مخدر أقوى للحصول على ردود فعل أعلى، إلا أن ردود الفعل السلبية قد تكون أعنف من خلال التأثير الأقوى على الصحة العقلية.
  • دعوة الهيئات والمنظمات المتخصصة في معالجة ظواهر الإدمان لتنظيم ندوات وورش عمل في قرى الجبل تستهدف التوعية بمخاطر الإدمان وسبل معالجته والاعتناء بضحاياه من الشباب.
  • التشجيع على قيام المبادرات الرياضية والشبابية التي توجه طاقات الشباب إلى النشاطات الرياضية وتحارب العزلة وتشجّع على احترام النفس والمساهمة في الحياة الاجتماعية.

مخطوط نسب الأمراء الشهابيين وأخبارهم

ما برحت “الدار التقدميّة”، ترفعُ رسالة الثقافة والمعرفة والتراث، وتوسّعُ الاختيار ليشمل جميع أبوابِ المعارف.
وما زالت تُخرّجُ كتُبَ الفِكر، والسياسة، والأدب، والفلسفة، والتاريخ، والسيرةِ والاجتماع، وسواها من ثمرات العقول، خدمةً للأجيال الناشئة، وما يعرض لها في مجتمعها الحاضر ومستقبلها الطالع.
فالكتاب الذي تُعنى “الدار التقدميّة” بنشره، هو الروحيّةُ في هيكل الوطن، والانسانية في معنى الأُمّة، وإن شئتَ قُل هو الرأيُ المثقّف، والانفتاح الواعي، والفكر المستقلّ.
ومن الكتب التي صدرت حديثاً عن “الدار التقدميّة” مخطوط تاريخيٌّ نفيس من محفوظات الصديق الأستاذ محمود صافي، (مدير “الدار التقدميّة”)، عنوان هذا المخطوط: “نَسَب الأُمراء الشهابيين وأخبارهم في بلادِ حوران ووادي التَيم ولبنان”. وقد نَسَخه بيده الأمير نجيب محمد سليم الشهابي.
أصدرت الدار هذا الكتاب المخطوط، لمعرفتها أنَّ “التاريخ في ظاهره إخبار، وفي باطنه نظَرٌ وتحقيقٌ وتعليل، وعِلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها”، كما قالَ “ابن خلدون”، فضلاً عن أنَّ التراث ركنٌ من أركان العملية الإبداعية، التي “تقفُ فيها على أحوال ما قبلك، مِنَ الأيام والأجيال، وما بَعدك”.
يبدأ المخطوط بجدّ الشهابيين الأوّل، وهو مالك الملقّب بـ شهاب، ويعود نسبه إلى نزار بن معدّ بن عدنان، جَدّ العرب المستعربة في بلاد الحجاز، ويذكر بالأسماء أولاد عدنان، ليصل إلى عبد مناف، وهاشم، أجداد الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، تثبيتاً لجذور الشهابية في الإسلام، ثمَّ يرتفع من عدنان بالتفصيل إلى سام بن نوح، أوّل الرُّسُل وثاني الأنبياء بَعدَ آدم.
ويستعرض الكاتب في الصفحات الأولى مِنَ المخطوط أسماءَ الأُمراء الشهابيين جميعاً، بما يشبه شجرة الأُسرة، كاملةً مِن فجر الإسلام، إلى قيام نظام القائمقاميتين في لبنان، ثم يعرض للهجرة النبويّة سنة 622م، على اعتبارها التاريخ الفاصل الذي انتقل بعده الشهابيون من شبه الجزيرة العربية؛ وأمّا قيامهم في بلاد حوران فكان في القرن الثالث عشر للميلاد. ويروي الكاتب وقائع الشهابيين مع الإفرنج وانتصارهم عليهم، مستعرضاً علاقة الأمراء الشهابيين بالسلطان صلاح الدين الأيوبي (1138 – 1193)، الذي كانَ حصن الشرق في وجه غزوات الإفرنج لبلادنا، مستفيضاً في وصف الروابط الوثيقة بين الشهابيين والأيوبيين، كقوله، كان الملك صلاح الدين يعتمد عليهم في الحروب (ويجعلهم أمامَ عساكره)، مما دفع بـ صلاح الدين الأيوبي إلى أن (يخلع على الأمير منقذ الشهابي خلع الولاية على البلاد..)
وروى الكاتب، أنَّ فتوح القسطنطينيّة سنة 1453، جرّت في أيام الأمير أحمد الشهابي (نسيب الأمير ملحم المعني، أمير جبل الشوف) مُلمِّحاً إلى المصاهرة المتبادلة بين آل معن وآل شهاب، زواج الأمير محمد الشهابي من ابنة الأمير يوسف المعني، وزواج الأمير يوسف بن يونس المعني من ابنة الأمير مُنقذ  الشهابي). وقد خلف الشهابيون المعنيين في حكم لبنان (1697 – 1841)، بعد مؤتمر السمقانية الشهير.
يخبر الكاتب في مخطوطه عن وصول المغول إلى الشام سنة 1260 م ويسرد بتفصيلٍ دقيق وغنيّ، مراعياً فيه التسلسل التاريخي، وصول السلطان سليم الأوّل (العثماني) إلى أبواب حلب، ثمَّ انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق سنة 1516، وقيامه بمكافأة الأمراء الشهابيين وإقطاع أميرهم منصور شهاب بلاد وادي التيم.
وهذا ويأتي المخطوط على ذِكر الأمراء من آل تنوخ وآل علم الدين وآل جمال الدين، ويعزوهم إلى أبٍ واحدٍ هو “بُحْتُر”.
تناول الجزء الثاني من الكتاب “قيام الأمراء آل شهاب بوادي التيم إلى تملُّكهم في ديار جبل لبنان، وذِكر أخبارهم التي تولوا فيها”، ومنها صفاتهم وعدالتهم في رعيّتهم، ومعاملتهم لسائر أمراء لبنان، ومعاملة العثمانيين الخاصة لهم، وحدب ولاة بني عثمان عليهم، وفي هذا الجزء، ذِكر المراكز الإدارية والعسكرية التي تولاّها الأُمراء الشهابيون، وغيرهم من أمراء البلاد. مع تفصيل دقيق للتقسيمات الإدارية في لبنان يومذاك، وللعادات والتقاليد والإعراب المُتّبَعة في المعاملات والتحريرات والمراتب الاجتماعية، مع ذِكر أسماء الأماكن وعدد الجيوش في كلِّ وقعةٍ، ممَّا يدلّ على تمكّن الكاتب من موضوعه، ومعرفته بأدقِّ تفاصيله.
ولم ينسَ الكاتبُ الجغرافيا. ففي المخطوط تعريفٌ بأنهار لبنان، ووصف بعض أوديته وقُراه وبقاعه، وسردٌ مُفصَّل لتاريخه وأحداثه السياسية والأمنية، وإلتفات إلى المعارك المفصلية، مثل معركة عين داره بين القيسيّة واليمنيّة سنة (1711) وكثير غيرها، وسرد ما جرى في زمن العثمانيين من تحالفات، وما وقع بين ذوي الشأن مِن دسائس ونزاعات، وتحالفاتٍ وعهود، حتى كاد، مؤلِّف هذا المخطوط، لا يترك شاردة إلاّ قَيّدها، ولا حادثة إلاّ سرَدها، كقوله: }ثم أُحْضِرَ محمود باشا أبو هرموش، فقُطع رأسُ لسانه، وباهميه (إبهاميه)، ولم يقتله (الأمير حيدر) لأنه لم تكن العادة جارية بقتل مشايخ بلاد الشوف{. وقوله : }وفَرَّ الأمير يوسف ابن الأمير ملحم بأخوته وأهله إلى قرية المختارة… فنزل عند الشيخ علي جنبلاط{، وسواها مما لا يَفي هذا التعليق به.
ولعلّ هذا الكتاب – المخطوط ، تضمّن من “الأسماء، والرسائل والخطابات والفرامانات” والأقوال نثراً وشعراً، ما لم يتضمَّنه كتاب، في ما أعرف، من كتبُ تاريخ لبنان.
وجاء في آخر المخطوط }نبذة من تاريخ جودت باشا بحروفها، وذِكر كيفيّة إدارة جبل لبنان، الماضية والحاضرة ، وأصول حكامه ورسومهم القديمة، وعدد أهاليه وأقسامهم{.
يقع المخطوط في 438 صفحة، قياس 24 × 17 سنتم، مجلّد بغلافٍ فاخر، خالٍ من الفصول والأبواب والفهارس، واضح الخط شَيِّقُ السَرد، سليم اللُغة، يُعتبر – بحق – مصدراً من بين أهم مصادر التاريخ اللبنانية، الحافل بالحركات والأحداث.

الأرضُ تعطـي وَجهَهـا شَهــــــــادَة وتَذكِـــــــرة

في هذه الشهادة الرقيقة والقويَّة يتحدَّث الكاتب عن صديق له اختار محبَّة الأرض وبنى حياته وعقيدته وسلوكه وغبطته الداخلية على العيش في كنفها والتعرّف على أسرارها وأسرار الرزق والرزَّاق وغيب الطبيعة وأحوالها. إنَّها قصة حياة غابت أو غيَّبناها وتذكرة في زمن الغفلة لأُولي الألباب، أو قُلّ لذوي الحظوظ الذين «قالوا ربنا الله ثمَّ استقاموا» فانفتحت لهم أبواب النِعمة وباتوا من الذين «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
يقول الحق جلَّ وعلا: «أنا جليس من ذكرني» وجليسُ الأرض ذاكر للحقِّ في حلّه وترحاله لأنَّه خادم لأعظم مظاهر إبداع الحياة وعبد للنعمة وشاكر لها وراض بالعطاء، صابر على المنع.

1 –
هذه المقالة الشهادة هي عن صديق لي لن أذكر اسمه الحقيقي بل سأكتفي بتسميته “صديق الأرض”، وأعلم أنه هو ربَّما الاسم الذي يحبّ أن يُكنَّى به والذي ينطبق على الطريقة التي صاغ فيها حياته والتي بها يعيشها منذ زمن غير قصير.
كان يتحدَّث عن صفقة العمر التي اتَّخذ القرار بشأنها خلال عشر دقائق. لم يكن على استعداد، لكنَّ الأمر كان أشبه بثمرة ناضجة

تغريه بقطافِها. علَّمتْه الأرضُ نفسها أن لا يؤخر القطاف. كان يتحدَّث بفرح وانطلاق عن قطعة الأرض التي أضافها مؤخراً إلى ممتلكاته الزراعية المتواضعة؛ فهو ليس ملاَّكاً كبيراً، لكن الأرض مهما صغرت كبيرة في عقله وأحاسيسه ووجدانه. عندما قرَّر شراء الأرض لم يكن القرار تجارياً، ولم ينخرط عقلَهُ بالتالي في حساباتِ عقاريَّةٍ، لكنه علم من ظاهر الأمر أنَّ ثمنها يناهز الـ150 ألف دولار، وكان عليه بالتالي أن يجد وسيلة لتوفير هذا المهر الغالي. كان قلبُهُ جاهزاً كأنَّه تواطأ مع البستان عينه قبل الدخول في أيّ حديث. وهو لشدَّةِ رسوخ قناعته وشوقه كانت كلُّ كلمةٍ يقولُها للمالك الذي يوشكُ أن يصير مالكاً سابقاً في دقائق معدودة، بمثابة صكّ لا يحتاج إلى ورق. ربّما رتَّب مسألةَ سياق الدّفع في طريقه إلى المكان، ولمّا كان الرَّجُل يستشعر نظيرَهُ في ثوانٍ، طُوي الجدَل، وانتهَى الأمرُ من غير بنود وشرائط قانونية كثيرة، إنّما بالتراضي ثمَّ بالتوقيع “لأنَّ الدُّنيا فيها موت وحياة”.
أُضِيفَت الأرضُ المغرُوسة بالأشجار المُثمِرة إلى أراضٍ كان صديق الأرض قد تملّكها بكدِّه وعرقِ جبِينه خلال مراحل الكفاح الأولى من حياته، والتي بدأها ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين. إنَّها نتيجة باهرة وفتح حقيقي لإنسانٍ أدار وجهَه نحو الأرض في وقت يتفرَّق الناس عنها ويتركونها نهباً للشوك والغبار وحر الشمس، أو يلقون بها إلى وحش الإسمنت.
طلبتُ من صديقي، صديق الأرض، أن نمضي في بعض أرضِه تِمشاءً نتبادلُ الأسئلة الموجَزة من قِبلي، والإجابات الحرّة والعفوية من قِبلِه، ليكونَ سرُّه والأرض في نور الشَّمس. والحقيقة، كلّ أسرار الرَّجُل منضوية في عبارة ردَّدها تكراراً كاللازِمَةِ أو كالعروة الوثقى بينَ عقله وقلبه: “كلُّه مِن فضل ربِّي”.

2 –
الفقرُ الماديّ أقعَدني عن متابعة الدراسة. إنَّ أوّل ما يقفز إلى ذهني عن أيّام المدرسة هو صورة الثياب المرقّعة، وعدم القُدرة على شراء كتب التّعليم، وخصوصاً الخجل الشديد عندما أُدعى للوقوف أمام اللوح من أجل الإجابةِ على سؤال وفي قدميّ مَداس (شحّاطة) البلاستيك. هكذا، واجهتُ الحياةُ في الثالثةِ والعِشرين منعمري بلا عِلم، وكان البلدٍ ينوء تحت وطأة اجتياحٍ إسرائيليّ غاشِم. كانَ السّائدُ لدى أبناء جيلي هاجسُ السّفَر. داعبتني الفِكرةِ، وأنجزتُ الخطوةَ الأولى في هذا الدّرب، وهي الحصول على جواز سفر. كنتُ واضحاً مع نفسي: أريد أن أجمعَ مالاً، أن أخرج من دائرة العوز الذي كنت فيه. استطلعتُ أخبارَ مَن سبقَنا في خوض هذا الغِمار. وجاءت المعلومات مثيرة للقلق. الفردُ في بلادٍ غريبة ضعيف، لا يمكنه أن يختار وفق هواه بل عليه التقاط أيّ فرصة عمل سواء أكانت الخِدمة في مطعم، أو في محطّة وقود، أو البيع بالمفرّق كما فعل أصحاب “الكشّة” قديماً. سرعان ما التقطتُ الإشارة، فالأمرُ بحاجةٍ إلى بذل الذات وإفراغ الجهد، وإلى تعَبٍ وكدْحٍ لا هوادة فيهما كي يحقِّقَ المرءُ ما يوازي ما سيصرفه مِن عُمر وسنوات عزيزة. وجدتُني في نهاية المطاف اقتنع تماماً بأنَّ المكانَ الَّذي وُلِدتُ فيه أقدر على أن يمنحني الفرصة، لكن يجب أولاً أن ينعقدَ عزمي على الكِفاحِ والعمَل الدؤوب بالطاقة ذاتها التي ستتطلّبها منّي ظروفُ الغُربة. غيَّرتُ رأيي من دون تردّد. وباتَ حلمُ يقظةِ السفر بسرعة ذكرى من الماضي.

3 –
اقترضتُ من أحد أفراد عائلتي أربع أونصات ذهب، واشتريتُ بها قطعةَ أرضٍ على الفور. نويتُ البيع وتحقيق الرِّبح. كانَ هدفي العيشَ مستوراً. بِعتُ واشتريتُ ثاني وثالث. تابعتُ في هذا السّياق بوتيرةٍ متسارِعة. خلال ستين يوماً حقَّقتُ ثلاثة آلاف دولار ريعاً من هذه التِّجارة. ثمّ صرت أُخرِجُ الأرضَ التي تناسبني منَ العروض. بِعتُ منها الكثير، واحتفظت بالأكثر. لم أتعاطَ الفائدة. لم أتعامل مع المصارف. أخاف منها. هي عندي خط أحمر. طلبتُ منَ الدّنيا فأُعطِيت منها، لكن كانت تتردّد في بالي حِكمةٌ سمعتُها مراراً عنِ الأسلاف: ماذا يفيد المرء أن يربح الكَونَ ويخسَر نفسَه؟

 

الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا
في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”

تأهّلتُ، وكانَ يوم العُرس وَفق خاطر المشايخ. شاهدتُ بعد أيّام صورةً للجَمع العائد بابنةِ العمّ يتقدّمُهُم الشيوخُ بمهابةِ كَنفٍ عائليّ وقور. تحرَّك أمرٌ ما في قلبي وفي أعماق نفسي من أثر تصوّري للمشهد. قلتُ هذا ما أريدُه، هذا مَداري. قمتُ بعد مدَّةٍ بزيارةِ شكرٍ للأفاضِل، وكانَ ثمّة ضيوف أجواد من نظائرهم في الحِلم وغايةِ الأدب. أبصرتُ آنذاك خِياري في الحياة، وعدتُ معاهِداً روحي سرعة المبادرة إلى تقواها. وفي خِلال أيّام معدودة، بتُّ ملتزماً مسلكَ القوم.
تأصّلتْ فكرةُ العملِ مع الأرض أيضاً عبر سماعي الكثير من أخبار أعيانٍ في الفضيلةِ، جاهدوا في كسب الحلال ووسّعوا الرّزق، استصلحوا الوعرَ ولم يقطفوا الثّمار إلاّ بعد سنواتٍ طوال من الكدّ والتّعب والمُثابرة. تركوا إرثاً امتزج بالتراب والهواء، وكانوا في الأعرافِ الدّينيَّةِ قُدوة في الشّرف والطّاعة.

4 –
مَضت ثلاث سنوات في التّجارة قبل أن أبدأ العمَلَ بالغَرس. غرستُ كلَّ قطعةِ أرضٍ أبقيتُها وَفق بيئتها الملائمَة، فالدافئة تريد الزّيتون، والعالية التي يأتيها الجليدُ تريدُ التّفاح. كانت الجذورُ بدورِها تمتدّ في طبيعةِ علاقتي بالأرض. تراكمَتْ الخِبرةُ لديّ بعد تكبّدي خسارات في التّجارب. أنصب ثمّ أقتلِع. هذه الأرض لا يؤاتيها شجرُ الجَوز، فالصّقيعُ أدّى إلى يباسِها. وتلك لا يوافقُها الكرز، فأُبدِّل النَّوع بما يروق لها. ليس لديّ مهندِسٌ زراعيّ. اكتشفتُ أصول الزراعة ومعظم قواعدها من تجربتي الشخصيَّة. لم أتعلَّم مِن أحد بطريقة منهجيَّة، ولكن لا يخلو الأمرُ من سماعِ فائدة كبرى كتلك التي سمعتُها مِن أحدِهم في قرية عُرنة الشام، قال إنَّ الملِك في شجرةِ التّفاح (يعني الطَّربون الأعلى) يجذبُ النَّسغَ إليه، فيأخذ الجنى كلّه، فإذا تمّت إزالته، تدخُل الشّمسُ إلى قلبِ الشّجرة ويتوزَّعُ الخير في أرجائها. كانت ملاحظته مُحِقّة. وهذه ما اكتشفتُها من ذاتي، بل تعلّمتها.
ليس الحبُّ ما يقودني بل الشّغَف. أغنَتني الأرضُ عنِ السّوق. المازوت لا يدخل بيتي لأنّ الأرض أعطتني. الفاكهة لا أشتريها. “الصحرا” (أي الخضار البعل التي لا تحتاج إلى نظام رِيّ) تعطي العديد من أنواع الخضروات. وثمّة خيرات كثيرة تصلِح أعلافاً للمواشي وللطيور الدّاجنة التي تعلّقتُ بتربيتها أيضاً من دون اعتبارها مشروعاً بذاته. وجودها حافزٌ لي إلى زيارةِ الأرضِ يوميّاً، فضلاً عن الاستفادة من لحومها وألبانها، فإن أُطعِمتُ منها وأَطعَمت أكُن عارفاً بطِيبِ الغِذاء ونقائه بعيداً عن أيّ سموم أو مواد مضرّة أو مصنَّعة.
لا أفضِّلُ زراعةً على أُخرى. كلُّ ثمرةٍ هي الأحبّ في وقتها. أغالي في كلِّ صنف، لأنَّ الثِّمارَ لا تُقبِل سويّة. إن أتى الكرز لا يأتي الجوز. وإن أتى الزّيتون لا يأتي اللوز. إن لم يُعطِ التّفاح في هذا الموسم، يعطي غيرُه. وعند القطاف أغالي في الحبَّة الواحدة. أتكدّر إذا ما بقيت الغلَّة على الرّزق وأكلها الطَّير. بطيبة خاطري لا أقبل ذلك. هذا حلال “بَهدلتُ فيه”. قبل الشّتوة أحرثُ الأرض، أفلحها. بحيث تنام استعداداً للشتاء مشقوقة. لا أدعها بُوراً. فإذا قدم الشتاء، دخلها ماؤه. الآلة سهّلت هذا العمل. لولاها لما اقتنيت أرضاً. ستون يوماً من الفلاحة اليدويَّة اختصرتهُم الآلةُ بأيّام. أمّا المياه، فالطبيعةُ تخبِّئ لنا آباراً جوفيّة. ولديّ خزّان في كلِّ قطعة أرض. وجود المياه استمرار للحياة. الأرضُ مدرستي. وظيفتي. قيل لي دع عنك العناية ببعض الأنواع، “خلّيك متل جدودك”. أجبتُ: لديكُم وظائفكم. أنتم تجهّزون أوراقاً مطلوبة لعملِكم. أنا ما استعملتُ يوماً ورقة ليُقبَل طلبي في العمل مع الأرض. هذه الأنواع تدرّ مالاً. كسولٌ من يسعى إلى ورقة، ولا يغامر في الأرض ويضحِّي من أجلها.

5 –
الأرض تعطي، وأخالف كلّ قائل بغير ذلك. ثمّة سلف صالِح استصلحوا الوعر، وثابروا وقاسوا الشِّدَّة سنوات كي يأكلوا خيراً. باتَ رزقُهم مضرب مثَل. ردَّدوا كثيراً هذا القول: “معكن مصاري حطّوها بالأرض، تستغنوا”. كلّما ابتعتُ أرضاًَ أتخيّلهُم قُبالة عيني. أشعر أنّني أتابع المسيرة. الأرض يعني كرامة. أتشبّثُ بالبقاء هنا، “مش دغري بفلّ”. وُلِدتُ هنا، وهنا أموت كما يبدو لي. عطتني الأرضُ وجهَها من فضلِ ربِّي. أسمعُ من بعض النّاس: “الأرض دايرة وجهها”، يقصدون ضعف المواسم. لكنّني تيقّنتُ أنَّ الأرضَ لا تفعل ذلك، بل الإنسان هو الّذي يُدير وجهَه عنها. الأرضُ موجودة، فإذا ضحكتَ عليها ضحكت منك. بقدر ما تعطيها تعطيك. بقدر النزول فيها تنزل معك. الأرضُ تتكلَّمُ كثيراً، ومَن له أذنان سامعتان فليسمع. النَّصبَة تعرف أنّك أتيت، لأنها تعطش وتجوع، تريد المياه والسّماد الطبيعيّ. تريد أن يُقلَّمَ منها مَا يعوِّقُ غايتها. أعرف من لون ورقة الشّجرة مبلغ اكتفائها من كلِّ شيء. هذه تُبشِّرني بالعطاء، وتقول لي من ذاتها: “لستُ بحاجةٍ لشيء، تستطيع الغياب عنِّي شهراً، فليهدأ بالك. إذهب لغيري”. و”خِلف” الزيتون هذا يقول لي: “الأرض استقبلتني”. انظر نضارة لون الورق فيه، هذه النضارة للورد، وليست للزيتون، ليست للشجر. الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”.
ثمّة أسباب لِمن يُعامِل الأرضَ ولا يكون مُنتجاً. المُشكلةُ ليست في الأرض بل في إدارتِه، وضعف تدبيره، وعدم قبول النّصيحة الصادقة، والتكاسُل من حينٍ لآخَر. لديّ أشجار زيتون عمرها ثماني سنوات، ولدى غيري منها ما يناهز عمره ربع قرن، والغلَّة عندي أكثر. ليس الفارق في أيّ شيءٍ آخَر سوى في حُسن معاملتها. إذا غطَّى الثلجُ سطح الأرض، لا أقضِّي الوقت كلّه قرب الوُجاق، بل أذهب إلى “أرضاتي” لأخفِّف الحِمل الأبيض عن الأغصان الأقلّ متانة. ولا أمضي يوم الانتخابات في قيل وقال، بل إلى “الأرضات” أذهب وأسايِر حاجاتها. أصابني همٌّ وضِيق، فألوذ بالأرض التي تنسيني كلّ كربة. ورعيُ “الطّرش” عندي أحيانًا هو حُجّة لكي أتجنَّب حضور بعض المناسبات الحاشِدة.
مرَّت ظروف صعبة ومخيفة في أزمان الحروب، لا أذكر أنّني بوَّرتُ قطعة أرضٍ واحدة في كلّ تلك الفترات العاصفة. لديّ إصرار على المحافظة على الرّزق على الرغم من أنّ مواسم نُهِبَت آنذاك. بقي لديّ التصميم والمثابرة على الدّوام. احتجتُ في بعض الأزمات أن أنام في البريَّة أسابيع. هذا الأمر زوّدني بعلاقةٍ حميميَّة مع الأرض، بل مع الأفاضل من السَّلف الصّالح، إذ أشعر، كلّما حقَّقتُ نجاحاً في هذه الحقول، بأنّني أضيف لَبِنة فوق الأساس الصلب الَّذي وضعوه. أغتبطُ في جوّانيَّة روحي مثل فردٍ في مسيرتهم الشريفة.

أغنَتني الأرضُ عنِ السّوق، وإن أُطعِمتُ منها وأَطعَمت أكُن عارفًا بطِيبِ الغِذاء ونقائه بعيداً عن أيّ سموم أو مواد مضرَّة أو مصنَّعة

التدخين ذلك الانتحار البطيء

لماذا يلهثُ المُدخِّن؟
ولماذا يُقلع البعض ثمَّ يعودون؟كثيراً ما يطرح السؤال: كيف يمكن لأيِّ إنسان عاقل أن يُدخل إلى رئتيه كلَّ يوم من أيام حياته هذا الكوكتيل الغريب والمُخيف من الأدخنة والغازَّات السَّامة والمواد الكيميائية والمُضافات الصناعية، وهو يبتسم ويمرح. لاحظوا أنَّ السيجارة لا يُدخِّنها الناس المكتئبون فقط، بل في الغالب إنَّها المُكمِّل الضروري –عند المُدمنين –  للأوقات المرحة، ولاسيَّما أنَّها رفيقة القهوة أو الكحول، أو هي خاتمة المائدة الشهية.قبل سنوات طويلة لم يكن العالم يعرف ما الذي تخبئه السيجارة، وقد جعل الإعلان التجاري منها صنواً للسعادة والمرح، بل إنَّ أحد الإعلانات يقدِّمها على أنَّها رفيقة رُعاة البقر في حِلِّهم وترحالهم وسط الطبيعة الخلاَّبة.
السؤال الأهم لماذا يستمرُّ المُدخِّنون في أخذ هذا السمّ بجرعات يومية على الرغم من علمهم بمحاذيره، وعلى الرغم من أنَّ العالم كلّه تحوَّل ضدَّ التدخين وبدأ يعامله كوباء اجتماعي وخطر على الصحة العامة، فيمنعه بصورة تدريجية في كلِّ الأماكن المغلقة؟ ولماذا يواجه السَّاعون لترك السيجارة الصعوبة المتكرِّرة التي تجعلهم يعودون إليها بأقوى من السابق؟ 

النيكوتين

الجواب البسيط هو النيكوتين الذي يشكِّل المادة الرئيسية في السجائر.
كيف يعمل النيكوتين على المُدخِّن، وما هو السبب في تأثيره الإدماني؟
يعمل النيكوتين على عدد من الدوائر الكهربائية في الدماغ فيحرِّضها على زيادة إفراز مادة الدوبامين التي تمنح المُدخِّن الشعور بالنشوة. وهذه المادة يفرزها الدماغ عادة بعد ممارسة أنشطة مُعيَّنة مثل: الرياضة، أو الجنس، أو أكل الأطعمة الغنيّة بالماغنيسيوم. لكن تأثير مادة الدوبامين يبقى لبضعة ثوان فقط، فما يلبث الجسم أن يفرز مادة المونوامين أوكسيدايس monoamineoxidase-MAO التي تقوم بتكسير مادة الدوبامين، وبالتالي المحافظة على معدلها الطبيعي في الدماغ. لكن أحد خصائص النيكوتين هو أنه يعمل على كبح مفعول الـ MAO، ما يعني بقاء مادة الدوبامين في الدماغ لفترة أطول، وبالتالي استمرار شعورنا بـ “لذة” السيجارة.

ولكن للأسف، فمع مرور الوقت يصبح جسم المُدخِّن أقل قابلية للاستجابة لمادة النيكوتين، ما يتطلَّب زيادة عدد السجائر للوصول إلى الإحساس نفسه الذي كان من الممكن الوصول إليه بتدخين سيجارة واحدة.  والخبر الجيّد في هذا المجال أنَّ مادة النيكوتين تختفي من الجسم في غضون 24 ساعة، ولهذا نجد أنَّ غالبية المُدخِّنين يستمتعون بتدخين أول سيجارة لهم وينخفض الإحساس بتأثير النيكوتين مع مرور ساعات النهار لأنَّ الجسم يكون قد أصبح مشبّعاً به، تماماً كما يحدث مع مدمني المُخدَّرات الذين يحتاجون إلى جُرعات متزايدة ليصلوا إلى الشعور بمفعول المُخدِّر. إنّ تأثير مادة النيكوتين شبيه بتأثير مادة الكوكايين، التي تعمل أيضاً على

لماذا “يلهث” المُدخِّن عند الركض؟

قد يكون السبب في إصابة القلب وتضيق الرئتين من جرَّاء التدخين لمدة طويلة، أو غير ذلك من أمراض الجهاز التنفُّسي التي تنجم عن التدخين. لكن السبب المباشر هو أنَّ دخان السيجارة يحتوي على أول أوكسيد الكربون CO الذي يُقلِّل من مقدرة كريات الدم الحمراء على نقل الأوكسجين لأنَّ هذا الغاز السَّام يتَّحد بالأوكسجين ليعطي ثاني أوكسيد الكربون CO2 ويحرم الدم بالتالي من توزيعه على خلايا الجسم التي هي في أمسِّ الحاجة إليه.

 

لماذا “يلهث” المُدخِّن عند الركض؟

قد يكون السبب في إصابة القلب وتضيق الرئتين من جرَّاء التدخين لمدة طويلة، أو غير ذلك من أمراض الجهاز التنفُّسي التي تنجم عن التدخين. لكن السبب المباشر هو أنَّ دخان السيجارة يحتوي على أول أوكسيد الكربون CO الذي يُقلِّل من مقدرة كريات الدم الحمراء على نقل الأوكسجين لأنَّ هذا الغاز السَّام يتَّحد بالأوكسجين ليعطي ثاني أوكسيد الكربون CO2 ويحرم الدم بالتالي من توزيعه على خلايا الجسم التي هي في أمسِّ الحاجة إليه.

 

أهمُّ الآثار الصحيَّة للتدخين

تشمل الآثار الصحية التي يتعرَّض لها المُدخِّنون ما يلي:

  • ازدياد احتمال الإصابة بأمراض القلب وتصلُّب الشرايين
  • ازدياد احتمال الإصابة بعدد من أنواع السرطان
  • نقص في كميَّة الدم التي تغذِّي الأطراف
  • دوار، غثيان، ضيق التنفُّس، سُعال مزمن
  • رائحة فم كريهة، اصفرار الأظافر والأسنان
  • انخفاض مناعة الجسم
  • العجز الجنسي
  • مخاطر تراجع الخصوبة والعُقم
  • مخاطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفُّسي والانسداد الرئوي
  • ازدياد الإصابة بالقرحة
  • وظهور التجاعيد في عمر مبكر.

 

تسويق شيطاني

أحد أهمّ الأسباب في ترسّخ الإدمان على التدخين، ليس فقط مادة النيكوتين (وهي المادة المُخدِّرة في التبغ)، بل يمكن ردَّه أيضاً إلى استراتيجيات الترويج الفعّالة التي تنفِّذها شركات تصنيع السجائر على مستوى الكرة الأرضية. إنَّ صناعة التبغ تعتمد على مبدأ مُخيف هو أنَّ “كل مدمن هو زبون لمدى الحياة، بغضِّ النظر عن قصر هذه الحياة أو طولها”. ولهذا السبب تعتمد صناعة التبغ على إقامة علاقة وثيقة بين التدخين والنجاح والقبول الإجتماعي، وهي تستخدم في ذلك أناساً مشهورين كنجوم السينما والمسرح، والأخطر من ذلك رياضيين مشهورين ما يعطي انطباعاً بأنَّ التدخين لا يتعارض ويؤثِّر على الصحَّة. إنَّ حملات الإعلان هذه تستهدف بشكل مباشر المراهقين، وذلك لما يمثِّلون من مادة مطواعة يسهل التأثير عليها، هذا من الناحية النفسية، أما مبدأ الربح والخسارة فيعمل على جعل الناس مدمني سجائر لأطول مُدَّة ممكنة ما يتطلَّب أن يبدأوا التدخين في عُمر مُبكر؛ كما أنَّ حملات الإعلان تستخدم منع بعض الدول لبيع الدخان لمن هم دون سن الثامنة عشرة بشكل فعّال لحثِّ المراهقين على التدخين لما يمثِّله من عنوان للرجولة عند الذكور، وعنوان للإثارة والبلوغ عند الإناث.

 

4000 عنصر كيميائي في دخان السيجارة

بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي تلعبه مادة النيكوتين في الإدمان على السجائر، فهي مادة مسرطنة وسامة، بل ثبت أنها تستخدم كمكوِّن أساسي في عدد من المُبيدات. وهناك مئات الأطفال أُصيبوا بالتسمُّم جرَّاء أكل السجائر التي غالباً ما تُترك في متناول الأطفال. والنيكوتين ليست المادة الوحيدة السَّامة في السيجارة، فقد أثبتت الدراسات أنَّ هنالك ما لا يقل عن 4000 مُركب كيميائي يمتزج بدخان السيجارة الذي نُدخله إلى الرئتين، كما أنَّ شركات التبغ تستخدم نحو 600 مادة مُضافة في “تنكيه” وتحسين خصائص احتراق التبغ والكثير منها تُصنَّف كسموم كيميائية (راجع: “حقائق عن السيجارة”).
ثمَّ هناك القطران الموجود في ورق السجائر، والذي يتسبَّب بتكوين طبقة من الصمغ على الرئة، وهناك الزرنيخ والفورمالديهايد وهي مادة سَّامة جدَاً، وتؤدِّي إلى تقرُّحات في الجهاز التنفُّسي وفي العيون، وهذا بالإضافة إلى كونها مادة مُسرطنة.

  • يحتوي دخان السيجارة على 4000 عنصر كيميائي، 43 منها مُصنَّفة كعناصر مُسبِّبة للسرطان، و400 منها مُصنَّفة كسموم أو ذات سمية ملحوظة، وهذه الأخيرة
  • تشمل النيكوتين وأول أوكسيد الكربون والفورمالديهايد والأمونيا وسيانيد الهيدروجين والزرنيخ والـ د.د.ت.
  • عندما يُحبّ المُدخِّن “نَفس” من سيجارته، فإنَّ النيكوتين الذي يحتويه دُخَّانها يصل إلى الدماغ في ست ثوان فقط.
  • آخر “نفس” من السيجارة يحتوي على ضُعف كميَّة القطران التي يحتويها أول “نفس”، علماً أنَّ القطران يتجمَّع على جدار الرئتين ويتراكم مع الزمن.
  • معظم العناصر الكيميائية التي يستنشقها المُدخِّن تبقى في الرئتين، وكلَّما زاد الاستنشاق زادت اللذَّة التي تشعر بها وزاد بالتالي التخريب البطيء للرئتين والضرر الشامل اللاحق بمختلف أعضاء الجسم.
  • تُقدِّم شركات تصنيع التبغ إلى الحكومة الأميركية معلومات مُفصَّلة عن المحتويات الكيميائية الموجودة في التبغ، لكن ضمن اتفاق يحظِّر على تلك الحكومة الكشف عنها بحجَّة الحفاظ على “الأسرار التقنية والتجارية” للشركات المُنتِجة.
  • يؤكِّد كافة خبراء الصحَّة أنَّ فلتر السيجارة لا يفيد حقيقة لأنه لا يحجز مادة النيكوتين السَّامة، ولأنَّ شركات التبغ تُضيف إلى الفلتر ما يجعله في حدِّ ذاته مؤذياً للصحة، وذلك من خلال استخدام مُضافات مُحسِّنة للطعم Additives معظمها يشتبه في كونه يُسبِّب السرطان.
  • أحد العناصر المُستخدمة في السيجارة هو مادة كيميائية مشابه جداً لوقود الصواريخ، وأمَّا وظيفة هذه المادة فهي أن تجعل تبغ السيجارة يحترق بحرارة عالية جداً، الأمر الذي يسمح للنيكوتين في التحوّل إلى بخار بحيث يمكن للرئتين امتصاصه بسرعة وسهولة. (من أجل تكوين
    فكرة علمية عن العناصر السَّامة والخطرة المُضافة إلى سيجارتك
  • الدخان الذي يتصاعد من السيجارة يحتوي فقط على 8-5 في المئة من مجموعة الغازات التي تنجم عن حرق التبغ، إذ إنَّ النسبة الباقية لا تُرى بالعين المُجرّدة وهي تحتوي على غازات سامَّة مثل: أول أوكسيد الكربون، الفورمالديهايد، الأكرولين، سيانيد الهيدروجين، وأكسيد النيتروجين.
    يؤدِّي احتراق التبغ إلى توليد 150 مليار جُزَيء من القطران بكلِّ بوصة مُكعَّبة من التبغ. وقد نقل باحثون عن أبحاث أجرتها شركة “آر.جي. رينولدز توباكو” أنَّ دخَّان السيجارة أكثر تركيزاً بـ 10 آلاف مرة من دخَّان السيارات في ساحة الزحام.
  • أظهرت دراسة علمية جرت في الولايات المتحدة الأميركية أنَّ نسبة 42 في المئة فقط من الرجال المُدخِّنين يصلون إلى سن الـ 73 عاماً مقارنة بنسبة 78 في المئة من الرجال غير المُدخِّنين.
    تُقدَّر ميزانية الإعلان والترويج للسجائر التي أنفقتها الشركات المُصنِّعة نحو 6 إلى 7 مليارات دولار.
  • يُقدَّر الدخل الإجمالي لشركات تصنيع السجائر ما بين 30 و35 مليار دولار، وقد تراجع هذا الدخل في الدول الغربية بسبب حملات مكافحة التدخين، إلاَّ أنه يتزايد باستمرار في العالم الثالث وبسبب اجتذاب المزيد من النساء والأحداث.
  • تكبَّدت الميزانية الأميركية في العام 1993 نحو 50 مليار دولار، وذلك كتكلفة مباشرة لمعالجة الآثار الصحيَّة الناجمة عن التدخين في الولايات المتحدة الأميركية.
  • احتمالات وفاة المُدخِّنين بسرطان الرئة هو 22 ضعفاً (والنساء 12 ضعفاً)، احتمال وفاة أولئك الذين لم يُدخِّنوا في حياتهم..
  • يموت 400,000 شخص سنوياً في الولايات المتحدة جرَّاء الأمراض الناجمة عن التدخين.

العدد 1