الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سلطان باشا الأطرش فــــــي شخصيـــتـــــه وصفــاتــــــه

كثيراً ما نطرح التساؤل التالي: لماذا نتذكَّر الرموز الوطنية ونتعلَّق بهم مهما باعد الزمن بيننا وبينهم؟ هل لأنَّ القادة البارزين باتوا اليوم قلائل، أم لأنَّ عند الإنسان حنيناً إلى الماضي، أم للأمرين معاً؟ من هذه الرموز سلطان باشا الأطرش، الذي صار في ذمّة الله منذ آذار 1982، ولكننا ما زلنا ، في جهادنا ضدَّ العدو الإسرائيلي والمطامع الأجنبية، وفي ليلنا العربي الطويل، نستضيء بلمعان سيوف جهاده، وفي مسلكنا الإجتماعي وسلوكنا السياسي نسترشد بمواقفه ونقتدي به في أعماله وصفاته.

محطات جهاد سلطان الأساسية هي باختصار كُلِّي: اشتراكه في الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين ضد الأتراك في سنة 1916، بحيث كان أحد قادتها، وأول من دخل منهم دمشق ورفع العلم العربي فيها، وموقفه المعارض للانتداب الفرنسي ولإنشاء الدويلة الدرزية في جبل العرب (جبل حوران وجبل الدروز سابقاً) في إطار سياسة التجزئة الاستعمارية، وثورته الأولى ضد الفرنسيين في 21 تموز 1922، وإعلانه الثورة السورية الكبرى في 21 تموز 1925 وقيادته لها، وتمرّده على رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، الذي كان السبب الرئيس في إسقاطه سنة 1954. لذا لُقِّبَ بـ “قائد الثورات السورية” باعتراف الجميع. وقد اضطر إلى ترك البلاد 3 مرات، وحُكِمَ بالإعدام غيابياً مرَّات عدة.
أن يصبح سلطان قائداً للثورات السورية، ورمزاً وطنياً وقومياً، فهذان أمران لا يأتيان عفواً، بل هما نتيجةٌ طبيعية لانجازات صنعها، ولمؤهلات وصفات تحلّى بها، جعلته يتميّز ويسمو، ويحظَى بالمكانة المرموقة في حياته، وبالخلود بعد مماته. لم يكن رجل فكر وعلم وثقافة، ولم يحصل من التعلُّم إلاَّ على الجزء اليسير، إذا إنَّ قِلَّة المدارس في جبل العرب، وتَتَابُع الحوادث والأعمال العسكرية فيه، حالا دون دخوله المدرسة في طفولته وفتوَّته. ومن حسنات السيئات أنه اكتسب المعلومات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب بعد سن التاسعة عشرة إبَّان تلقِّيه الدروس في أثناء الخدمة الإجبارية في الجيش العثماني في منطقة الروملّي في البلقان. وقد عوّض عن العلوم المدرسية بثقافةٍ حياتية توفَّرت له في مضافات جبل العرب، التي تشبه المدارس، لأنَّها تفسح المجال واسعاً أمام تفجّر مواهب الفصاحة والموسيقى والشعر، وأمام معرفة القصص الشهيرة والأمثال والحِكَم والأدب الشعبي وسِيَر العُظماء. كما عوّض عنها بما اكتسبه من التجارب في الحقل الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك ظلَّ مستواه الثقافي دون مستواه كقائد.
اشتهر سلطان كقائد عسكري أكثر منه قائداً سياسياً، إلاَّ أنَّ خبرته العسكرية هي أيضاً، كثقافته وعلومه، لم تأتِ من تعلّمه في معهد حربي، وإنَّما اكتسبها من ميادين الفروسية في جبل العرب، ومن القِتَال الفعلي إلى جانب والده ضدَّ الأتراك، ومن الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني. ثمَّ توسّعت خبرته بفضل المعارك التي خاضها في ثوراته. فهو في الحرب خريج التجارب الميدانية لا النظريات، كما هو في الثقافة خريج مدرسة الحياة لا المدرسة التقليدية. وفي كلا الأمرين جاءت خبرته نتيجة الممارسة لا نتيجة الاعداد. وهما لم يكونا كافيين لصنع رمزيته، بل إنَّ تأثيرهما في ذلك كان أقلّ من تأثير مميِّزاتٍ وصفاتٍ أهّلته للقيادة، ولاتِّخاذ المواقف التاريخية، ومواجهة التحدِّيات الصعبة.
أول ما يتبادر إلى الذهن هو شخصية سلطان، أي تكوين جسمه، وهيئته التي شكَّلت ما يُسمّى اليوم “الكاريزما”. إنه ربع القامة مع ميل إلى الطول، عريض المنكبين، ذو وجه واسع، وعنق قصير، وأنف ضخم، وعينين صغيرتين زرقاوين تغوران في الوجه ذي البشرة الحنطية، وذقن نافرة مستديرة، وشاربين عريضين منسدلين فوق الشفة والذقن، كان يسوّيهما في شبابه وعند التصوير، فيصبحان كسيفين مسلولين في استقامة. هذه الأوصاف مجتمعةً، مضافاً إليها القوة التي تشعُّ من عينيه، وملامح الرجولة البادية عليه، وصوته الجهوري الأجش الذي يبعث الخوف، خصوصاً عند الغضب، هي التي أعطته الهيبة والوقار، وفرضت على الآخرين تهيّبه. لقد أخذ تكوينه الجسدي الصلب من البيئة الطبيعية، ومن صخور الجبل البركانية ورسوخه شامخاً في حوران. وظلَّ يحتفظ بهذه الصلابة وبقدر وافر من الحيوية حتى أواخر حياته، مع انحناءة بسيطة في الظهر لكثرة ما أثقلت كاهله السنون وأعباء الجهاد.
هذا التكوين الجسدي الصلب كان وعاءً لنَفْسٍ كبيرة. وهذا المظهر المادي كان يشتمل على قوَّة روحية فاعلة، وصفات سامية مستمدَّة من البيئة الثقافية لسُكَّان الجبل الموحِّدين الدروز، المتمسِّكين بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وبصنع المعروف الذي لُقِّبوا به “بني معروف”. وأبناء الحسب والنسب يجهدون أن يسيروا على خُطى السلف، وأن يكونوا مثالاً للآخرين.
سلك سلطان منذ الصغر المسلك الصالح الذي بلغ حدَّ الصرامة في اعتماد الحشمة، إذ إنه لم يتعلَّم السباحة كأترابه في البُرك المكشوفة، لأنها تستوجب خلع ثيابه وظهوره عارياً أمام الأعين. ولم يسفّ في كلامه أو يبتذل، ولم يدخّن ويشرب المُسكرات، ولم يتعاطَ الميسر. وكان الزوج العفيف. وهذه أمور مطلوبة من كلِّ إمرئ في المجتمع الدرزي المحافظ، المتميِّز بمكارم الأخلاق، إلاَّ أنَّها مطلوبة على الأخص من المتديّنين. لذا عمل سلطان بموجب التعاليم الدينية قبل أن يعتّم في الثمانينات من عمره ويصبح من رجال الدين. كان محافظاً يتشبّث بالتراث والجذور والأصول، ويؤمن بالتطوّر التدريجي المعتمد على القديم، ويرفض أن تأتي الحداثة على الأصيل والجميل من العادات والتقاليد. ومع انفتاحه على الآخر، وتجاوزه للفئوية والمناطقية في الأمور الوطنية والقومية، كان غيوراً على مصلحة أبناء عشيرته وطائفته ومنطقته.
تميَّز سلطان بصدق اللسان، والصدق في القول والعمل والإيمان أول المبادئ التي يدعو إليها مذهب التوحيد الدزري. وكان مستقيماً في العمل الإجتماعي والعمل السياسي، يؤمن بالفعل لا بالقول، وبجدوى العمل العسكري مع المستعمر والمحتلّ أكثر من جدوى العمل السياسي. فبادرة وطنية عملية أفضل عنده من ألف خُطبةٍ رنَّانة؛ ودويُّ رصاصة تطلق على العدو أفضل من هدير وصيحات آلاف المتظاهرين والمحتجِّين. فالمستعمرُ والمحتلُّ والقويُّ الغاشم لا يفهمون إلاَّ لغة القوَّة. وكان متواضعاً، إلاَّ في الحالات التي تتطلَّب اتِّخاذ موقف رسمي ومعنوي، وتلك التي تتطلَّب أن يظهر بشممه وترفّعه. وَرث التواضع عن والده الذي رفض أن يكنّى به، أي “أبو سلطان” كونه  الابن البكر، فكنّي بابنه الثاني علي تيمُّناً بهذا الإسم الكريم.
سلطان أكثر قادة الثُوَّار تواضعاً، وأقلُّهم كلاماً. فهو كثير التفكير، قليل الكلام. حديثه لا يأتي باستعمال الضمير “أنا”، بل الضمير “نحن”، واستعمال صيغة الجمع. فالثورات التي اشترك فيها وقادها، هي ثورات العرب والسوريين. والمجاهدون هم الذين قاتلوا وضحّوا وأبادوا وشتَّتوا الأعداء. والانتصارات هي من صُنعهم جميعاً، وهو واحد منهم. وقد عبّر عن ذلك بجوابه على باحث ألحَّ عليه بتبيان دوره، فقال: “كنتُ واحداً من الدروز. كنتُ واحداً من المجاهدين”. فإذا كان له فضل قيادة الثورات، فلمن استجابوا لها أفضال القتال والتضحيات وتحمُّل الخسائر. وهو ما كان يستطيع أن يفعل شيئاً لولا الجموع المؤمنة والمجاهدة من كلِّ أنحاء سورية ولبنان عامة، ومن الموحِّدين الدروز خاصة، الذين كان يعتبرهم العِمَاد والأساس للثورات التي قام بها. وقد ظلَّ، بما وهبه الله من صفاء ذهن وذاكرة قوية، يتذكَّر أسماء معظم المجاهدين، وتفاصيل ما جرى معه ومعهم، وهذا دليل على أنَّ ما عايشه وصنعه وعاناه بقي منغرزاً في ذاته وروحه، وكأنه جزء منه.
الثورية من المزايا الأساسية، بل المزية الأولى التي صنعت رمزية سلطان. إنَّها شعور بوجوب إحقاق الحقّ، وإقرار العدل، ورفع الظلم، وتصحيح الخطأ، ووقف التعدِّي من أيِّ جهة أتى. وهي مزية طُبع

عليها سلطان بالنظرة، إذ كان يغضب ويثور جراء رؤية الأخطاء والشواذات، والأفعال والأقوال التي يرى فيها اهانة له أو لعشيرته وقومه. وعندها تجحظ عيناه، ويزداد العبوس والتقطيب بين حاجبيه، ويرتقص شارباه، وتعلو نبرة صوته الأجشّ، فيخيف بهيئته وصوته، ويمتنع على الرجال الجسورين التطلُّع إليه، ومتابعة الحديث معه. وثوريته غذّتها عوامل عديدة تمثَّلت في ما سمعه من مظالم الدولة العثمانية التي كانت تحمل أبناء الجبل على الثورة، وفي ما شاهده، وهو في الخامسة من عمره، من إجراءات حملة القائد العثماني، ممدوح باشا، حين اصطحبه والده معه أثناء حضوره لمقابلة هذا القائد، كما غذَّتها مشاركته إلى جانب والده في قتال حملة سامي باشا الفاروقي في سنة 1910، وأخذه بالقوَّة مُجنَّداً في الجيش العثماني إلى الروملي، حيث تعرّف على أقوام ثائرين كقومه ضدَّ الظلم، وشنقُ الأتراك والده ظلماً في ساحة المرجة بدمشق. وكما ارتسمت في ذهنه صورة التركي الظالم الذي وجّه الحملات العديدة إلى الجبل، وصورة المصري الظالم الذي

 

 وجه إليه 4 حملات، وسمّم المياه ليسرّع في تسليم أبنائه الثائرين، هكذا تغذّت عنده روحية الثائر تخلُّصاً من الظلم، وطلباً للحرية والعيش الكريم، فاشترك في  الثورة التي أعلنها الشريف حسين، وقام بثورتين على الفرنسيين، وبانتفاضة ضد أديب الشيشكلي.
والشجاعة هي التي حوّلت ثورية سلطان من مجال الإحساس إلى مجال العمل. فالغضب من الظلم إذا ظلَّ كامناً في النَفْس، يعتمل ويغلي داخل الإنسان، قد يؤذيه، لكنه إذا انفجر، وتجسّد في ردَّة فعل، يردُّ أذى الظالم، ويأخذ الحقّ منه. والآراء والأفكار تبقى رؤى وهواجس إذا لم تتجسّد في كلام أو عمل، والقرارات الصائبة تبقى كلاماً في الهواء، أو حِبراً على الورق، إن لم تقترن بشجاعة التنفيذ. كان سلطان يتميَّز بشجاعة الرأي والفكر والقلب، أي بالقدرة على قول ما يفكِّر به، والمبادرة إلى تنفيذ ما يعزم عليه، مؤمناً بأنَّ من خَشِيَ بشراً مثله سلط عليه. كما كان يتميَّز بشجاعة الجسد، وهي عنده ميزة وراثية برزت في طفولته في تجارب عدَّة، منها تغلّبه على مجموعة من أترابه وضعه عمه فايز في مواجهة معهم. أخذ الشجاعة من أسرته وعشيرته آل الأطرش، ومن قومه الدروز الجبليين الأشدَّاء، الذين نجحوا في مواجهة صعوبات الطبيعة وأخطار الأعداء وشتّى التحدِّيات، الذين يكرّمون الشُجاع ويحتقرون الجبان، ويؤمنون بالقدر وبالأجَل المحتوم، وبأن ابن تسعة لا يموت ابن عشرة، إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. لذا لا يأتي الموت، بحسب اعتقادهم، من عنف القتال وكثرة الأعداء، وهو لا يمثِّل في رمية سهم، أو ط

 

عنة سيف، أو رصاص بندقية، أو شظية مدفع، بل يمثل في سهم القدر ونهاية العمر المكتوب. هذا الإيمان يخلق منهم مقاتلين أشدَّاء شجعاناً، يقتحمون س

 

اح الوغى غير هيّابين، وهو الذي زاد من شجاعة سلطان الموروثة فكان المُقاتل الذي لا يهاب الأعداء مهما كثروا، ولا يخشى الموت. وقد روى شهود عيان قصصاً كثيرة عنه، منها أنه كان يتابع القراءة في كتاب أو كتابة رسالة إبَّان قصفٍ يلجأ من حوله إلى الإحتماء، وكان يتابع السير في أرض مكشوفة إبَّان ملاحقة الطيران الفرنسي له بالقصف، فيما مرافقوه يفتِّشون عن مكان آمن. فإذا كانت الشجاعة عند الموحِّدين صفة شبه عامة، فإنَّها عند سلطان موجودة بنسبة كبيرة تحمل على القول إنه أشجع هؤلاء الشُجعان، بحسب ما وُصف به جدُّه إسماعيل من قِبَل الرَّحالة بورتر، الذي زاره أواسط القرن التاسع عشر.

والإقدام هو أحد وجوه الشجاعة وتجلِّياتها. وقد كان سلطان، على الرغم من اتِّصافه بالحذر، لا يتردَّد عن اتِّخاذ المواقف الخطيرة والقرارات المصيرية، ويقدم عندما يُحجم الآخرون أو يتردَّدون. وبفضل إقدامه تحوّل من زعيم أقلّ شأناً، في الأساس، من زعماء الجبل الأربعة الكبار، سليم ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش، إلى زعيم أكبر منهم شأناً، وإلى قائد فعلي لجبل العرب، وأحد كبار رجالات سورية. فهو لم يتردَّد عن استعمال القوَّة لاستعادة أراضٍ لقريته (القريّا) وضع أهل بصرى الشام أيديهم عليها، يوم كان الجبل ضعيفاً يتجنَّب الحوادث بعد حملة سامي باشا

وإذا كان أفضل تعريف للوطنية، بين أواخر العهد العثماني ونهاية عهد الإنتداب الفرنسي، بأنها رفض للاحتلال، ومقاومته تحت راية التحرُّر والاستقلال، فإنَّ سلطان رمز لها. ووطنيته الصادقة لا تبرز في قيامه بالثورات، بقدر ما تبرز في الغاية منها. فهو لم يثر من أجل مصلحة شخصي

ة تتمثَّل بجمع المال، أو بتسلًّم المناصب، بل ثار من أجل الاستقلال، والثأر للشرف المهان، ولاستعادة الكرامة المهدورة والسيادة المفقودة. ولو كان هدفه المال لجنى منه الكثير، ولو كانت المراكز لحصل منها على المهم والكبير. إنه بعكس قادة الثورات في العالم، الذين توصَّل معظمهم إلى السلطة، أو إلى تسلُّم المناصب العالية، لم يطمح إلى تسلُّم الحُكم، بل كان يعزف عن تسلُّم المناصب التي تُعرض عليه، ويترك أمر تسيير شؤون البلاد أمانة في أعناق السياسيين. إن أحسنوا التصرُّف فهو معهم، وإن

 

أساؤوا فهو ضدّهم. وقد صرّح أنَّ قيامه بالجهاد “ليس لطلبِ أمر، أم لكسب شهرة، أم لمطامع دنيوية”.
ومن مزايا سلطان الزُّهد وبساطة العيش. وكبار القوم يزدادون كِبَراً بزُهدهم وتواضعهم، وأغنياؤهم يزدادون غنى باعتمادهم بساطة العيش. وهو في زُهده وبساطة عيشه يشبه كمال جنبلاط وغاندي والخليفة عُمر بن الخطَّاب. كان بيته مسكناً عادياً كمعظم بيوت قريته، مؤلَّفاً من طبقة واحدة، هو عبارة عن مضافة، هي قاعة استقبال جانبية، وبضع غرف للسكن والمنامة. وقد فضّل سكناه على سكن دار في دمشق قدَّمتها له الحكومة السورية تقديراً لجهاده. ولم يركب السيارة الفخمة التي أُهديت له، بل كان ينتقل مع أبناء قريته في حافلة لإداء واجبات التعزية والتهنئة، ولحضور المناسبات التي يُدعى

 

 إليها، وكان يتفقَّدهم واحداً واحد، ولا يأخذ محله إلاَّ بعد اكتمال حضورهم. وقد اعتمَّ في أواخر حياته، فكان يتعبَّد في خلوة صغيرة كتب على بابها “يقيني بالله يقيني”، وينام فيها على بساط رثٍّ عتيق. وكان يقنع من القوت بما يقيت، ومن الملبس بما يليق. وكما كان كريم النَفْسِ كان كريم اليد مضيافاً بحسب التقاليد العربية السائدة

 

في الجبل، وإنما دون إسراف وبعيداً عن حُبِّ الجاه. لم يكن في بيته خدم، فزوجته وبناته هنَّ اللواتي يتولينَّ الشؤون المنزلية. عبّر عن زُهده وقِلَّة ما يملك بالقول في وصيته: “أمَّا ما خلّفته من رزق ومال، فهو زُهد فلاح متواضع”.
كان سلطان محباً للأرض، ومحباً للعمل فيها. حُبُّه لأرضه الخاصة ولأرض قريته قاده إلى امتشاق السلاح لاستعادة ما أخذه أهل بصرى. وحُبُّه لأرض بلاده قاده مع حُبِّ الحريَّة والاستقلال للقيام بالثورات من أجل تحريرها، وتطهيرها من رجس الأجنبي. فالأرض عنده مقدّسة ومباركة، والعمل فيها شرف كبير، والجهاد من أجلها شرف أكبر؛ وكثيراً ما شوهد في أرضه في حزحز، مستلقياً على الأرض، أو جالساً على صخرة يتأمَّل. وحين أتاه رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، احتار أين يجلس، فقال له: “اقعد يا أديب على الأرض. نحن افترشناها طوال خمس عشرة سنة من الجهاد”. وكثيراً ما كان يُقلِّم الأشجار، ويساعد الفلاَّحين في حراثة الأرض، فيشاهده زوَّاره، وفيهم الصحفيون الأجانب والعرب، مُمسكاً بالمحراث، فيعجبون لقائد كبير يتحوَّل في حقله إلى فلاَّحٍ يُسهم بيده الخشنة في تفجير خيرات الأرض. ولقد قال الفيلسوف ميخائيل نعيمه: “إنَّ اليد العاملة الخشنة تُصافح يد الله، فيما اليدُ الناعمة تُصافح يد إبليس”. ويد سلطان الخشنة من العمل في الأرض، والخشنة من الجهاد من أجل الحفاظ على الأرض، وتحقيق حرِّية ساكنيها، صافحت يد الله.

أسلوب الأمير شكيب أرسلان في تطويع اللغة العربية

عرف الناس الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946) رائداً من روَّاد النهضة، ورسولاً من رُسُلِ الإصلاح، وعَلَماً من أعلام الوطنية، وابتلوه واحداًَ من حُماةِ الإسلام وأولياءِ الحُريّة، وأنصار التمدّن.
وكانَ بشهادة عارفيه رجُلاً قويَّ الشخصيّة، سديدَ السياسة واسع الثقافة، على قدمٍ واحدةٍ مِنَ الصدق والصَلاح في علَنه ونجواه.
فكان لهذه التعدديّةِ، أثرٌ ظاهرٌ في أدبه، لأنَّ الأدب بمعناه الأصَحّ، لا يكمل إلاّ بهذه الصفات، ولأنَّ أدب الأمير شكيب على الأخصّ، مِثال الأدب الكامل الذي يقوم على ألزم الخصائص للإنسان، وهي: سراوة الخُلُق وذكاء القريحة، وسداد الذهن، وسعة الثقافة.
وإذاً لا نستطيع أن نُحلّل تركيبَه الأدبي، إلى مؤرّخ وسياسي وأديبٍ ولُغويٍّ وفقيه، ما دام أسلوبه مزيجاً من أولئك جميعاً.
وعلى الجُملةِ، فإنّ أسلوب الأمير شكيب أرسلان، إمتاز بالمتانة والجزالةِ معاً، مُراعياً اللُغة والبديع والأمالي والمقامات، ولكُلٍّ من هذه الفنون، أصولٌ ليس في إمكان الأديب أن يتعدّاها أو يغفل عنها.

لُغتُه

أدرك الأمير اللغةَ العربيةَ في هيكلها المعجميّ الأوّل، وأصولها النحوية الغابرة، فحفظ من دقائقها وشواردها، ما لم يحظَ بمثله غير علمائها الأعلام، فكان معجماً ناطقاً كأُستاذه الشيخ عبد الله البستاني. وكيف لأمير البيان أن يذهل عن لغةٍ إمتزجت نفائسها بنفسه؟، حتى راح يتصرّف بألفاظها كيف يشاء ويوجّه أساليبها حيث يريد، ويخلص لها إخلاصه لقومَّيته، على أنَّهُ – رغم ذلك – كان يعلم تماماً أنّ اللغة كائن حي وأنّ الإفراط في إغلاقها وعدم المُلاينة فيها، يساعد على خنقها، ويساهم في موتها، فأضاف إلى ثروته الأثرية، كثيراً من الألفاظ التي أوجبها القياس، ولو لم تكن موجودةً في كلام العرب، لأنَّه عُرِفَ بعبقرية خاطرته أنّ المعنى الوضعي لمفردات العربية، وإن كان واحداً من الوجهة اللغوية، غير أنه يدلُّ على معانٍ حضاريّة أُخرى جاءت بها الحداثة وجاء بها التنوّع. (فالقطار) اليوم، ليس قافلةً من الجِمَال يسير الواحد منها وراء الآخر في ظاهر الصحراء، مثلما جاء في القواميس الأولى، وإنَّما هو السكة الحديد في وقتنا الحاضر، كما عرف أنَّ المفردة تكتسب تأثيراً مختلفاً في كلِّ عصرٍ من العصور، فالمفردات لا تبقى واحدة في نكهتها وإحساس النفس بها، لأنّ خيال الألفاظ في الفكر، يختلف بإختلاف الفِكر نفسه، فأخذ الأمير شكيب في كتاباته الأخيرة يطوّع اللغة لطبيعة العمل، ويطوّرها على سُنّة العِلم، ويوجّهها إلى خدمة الحياة، من دون الإساءة إلى بنيتها أو المساس بجوهرها.
وبعد،
فإنّ أحداً لا يكابر في أنَّ أسلوب الأمير شكيب أرسلان، غاية في البساطة والسموّ والبلاغة، مع فصاحةٍ تامة، وتركيبٍ متّسق، يدلُّ على علمٍ غزيرٍ باللُغةِ، وإحاطةٍ تامة بالأساليب البديعية، ومعرفة واسعة بأمثال العرب، التي قلّما غادرت أُسلوبه.
وأنا، لا أعرف في معاصريه كاتباً أصفى عربية منه، كأن أدبه شعاعاً من أفكار السلف، الذي يرى في يومه، غده، وتجارب الماضي، التي تتوق إلى تجارب الحاضر والمستقبل.

شِعرُه

عاصر الأمير شكيب أرسلان، شاعران هما: محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري، وهذان الشاعران رفعا مستوى الشِعر العربي، ونَهَجا بهِ نهجاً جديداً، فحذا الأمير حذوهما ونهج نهجهما في تجديد الشعر لفظاً ومعنى وصياغة، بيد أنه إختلف عنهما غرضاً، فللأمير شخصية أدبية مستقلَّة، وتوجّه حياتي خاص.
لم يتخلّف الأمير عن المتقدِّمين، في مطالب الشِعر، وقاله مثلهم، وزاد عليهم شيئاًَ من مظاهر الحضارة الجديدة. فهو لا يجهل المدرسة الرومنسية التي ظهرت في فرنسا بشكلٍ خاص، وقد عرض ذلك في كتابه “أناتول فرانس”، ولكن إنصرافه إلى سياسة الأُمَّة وقضاياها الكبرى، وضع حدوداً لتجديده، فما تجاوزها، في زمنٍ استطاع فيه التجدّد، ولم تطلق هموم الشرق أسر الأمير إلاَّ بعد أن إلتحق بربّه.
يقول مارون عبّود: “لو انصرف الأمير شكيب أرسلان إلى الشِعر وحده، لكان هو أمير الشعراء، وليس أحمد شوقي”.
غير أنّ الأمانة العلمية تقتضي القول إنَّ شعر الأمير كان يحمل دائماً أثراً من نثره، وأنّ نثره كان دائماً أعلا من شِعره، وعندي أنَّ أمير البيان شبّ شاعراً واكتهل ناثراً.
هذه سطورٌ خاطفة، توخيت منها رسم إطار عام لأسلوب الأمير شكيب أرسلان، الذي يظنُّ القارىء إذا قرأ له، أنَّه أمام صناعة لفظية فيها الكثير من التعمّل، وأنّ هذا الأسلوب ينتمي إلى مدرسة الفنّ للفن، والصحيح أنّه خلاف ذلك فإنَّ للأمير مدرسة خاصةً في الأسلوب اسمها “مدرسة شكيب أرسلان”، وهي التي يسميّها المحدثون “الشخصية الأدبية”.

والله تعالى أعلم.

الأرض في مناهج التعليم ما الذي ننتظره من مدارس الجبل؟

هل يعقل أن يعرف الطالب طول نهر الميسيسيبي، ولا يعرف شيئاً عن الساقية أو الينبوع في وادي قريته؟
ما هي مسؤوليات المدارس والمعاهد القائمة في الجبل في رعاية الرابطة بالأرض لدى الأجيال الجديدة؟ السؤال قد يبدو مفاجئاً للكثيرين لكنه في صلب عملية التقييم التي يجب أن نجريها لأسباب الجفاء المتزايد بين أهل الجبل وبين البيئة التي يعيشون فيها.

 

الواضح أن مدارس الجبل على اختلافها تعتبر واجبها الأول تطبيق المناهج التربوية، ومن ثم تحقيق أكبر نسب من النجاح في الامتحانات الرسمية، لأن هذه النسب تأتي إليها بالمزيد من الطلاب وتحقق للمستثمر المزيد من الأرباح.
لا اعتراض بالطبع على أن تحقق المدارس الخاصة أرباحاً، ولسنا هنا في معرض فتح هذا الملف الحساس، فهذا سيكون له شأن آخر في المستقبل، لكن لا بدّ للمدرسة أن تدرك وجود حاجات إضافية في بيئة الجبل لتربية الثقافة البيئية والزراعية لدى الطلاب منذ نعومة أظفارهم عبر إدخال نشاطات خارج المنهج تتعلق بتعريف الطلاب بمكونات البيئة التي يعيشون فيها وبما تحمله من فرص وإمكانات يمكن أن تجعل الأرض على الأقل جزءاً من حياتهم في المستقبل .
ومن البديهي القول إن تعليم الطالب في الجبل لا يمكن أن يكون نسخة عن تعليم طالب المدينة وإن تعليم الطالب في لبنان الذي يتمتع بميزات بيئية خاصة لا يمكن أن يتم وفق النسق نفسه الذي يتم في الكويت أو الأردن. لكن صناعة المناهج التربوية الجديدة أصبحت معولمة، وهي مصممة وفق نظريات توضع في الغرب وتبنى على حاجة النظام الرأسمالي لتخريج العمالة التي يحتاجها، ومستهلك المستقبل الذي سيأتي منه الطلب على سلع شركات الصناعات الغذائية، وكل شيء معلّب وجاهز تطرحه الشركات في السوق.

 

بمعنى آخر، أن آخر هم المناهج التي يرعاها نظام العولمة الاقتصادية هو تأهيل المواطنين في المناطق الريفية أو في البلدان النامية لتعلّم سُبل الاعتماد على النفس وخلق القيمة الاقتصادية من الأصول الزراعية التي يمتلكونها. على العكس، فإن الهدف النهائي هو بدء عملية السلخ -وتهيئة مستهلك المستقبل- من على مقاعد الدراسة من خلال إدخال الأطفال في دهاليز التعليم النظري والحشو الفكري، وإغفال العلوم النافعة المتعلقة ببيئتهم الطبيعية، وعلى الكوكبة المجلية منهم أن تتقن فن حفظ هذه المواد وتجتاز امتحان البراعة فيها على أفضل وجه لكي يتم التصفيق لها وتمنح الجوائز وتصبح في عداد “جيل المستقبل”!

 

هل يدرك أرباب المدارس –الخاصة والعامة- في الجبل هذه الحقيقة؟ وهل من المنطق أن يتعلم الطالب ما هو طول نهر الميسيسيبي، ولا يعرف شكل ساقية المياه أو ينبوع المياه الذي ينبع في وادي الضيعة؟ هل من المنطق أن يعرف كل شيء في العلوم ولا يعرف شيئاً عن تركيبة البيئة التي تحيط به ويتفاعل معها: نباتاتها، أشجارها، حيواناتها البرية وحشراتها المفيدة والضارة؟ وهل هناك إقرار بأننا كأهل جبل نحتاج إلى التعامل ومنذ الطفولة، وبصورة أساسية أو جزئية مع الطبيعة ومع الأرض ومكوناتها، وفي هذه الحال أليست النتيجة الطبيعية هي أن للمدرسة دوراً مهماً في تهيئتنا منذ الصغر لهذا الجانب المهم في حياتنا.
ألا يوجد الكثيرون من أهل الجبل بمن فيهم الشباب الذين يتمنون العمل في حديقتهم ورعاية أشجارهم وتقليم داليتهم والعناية بزيتونهم أو زرع خضارهم أو غير ذلك؟ وهؤلاء غالباً ما يكتشفون أن خبرتهم في هذه الأمور تكاد تكون معدومة فيخبطون خبطاً عشوائياً أو يتعلمون القواعد الخطأ، علماً أنها شؤون بسيطة كان يتعلمها الأولاد على يد آبائهم في الماضي عبر مرافقتهم إلى الحقل أو المشاركة في القطاف أو التقليم أو الحراثة وغيرها من الأعمال؟ أما الآن فإن الآباء الذين تخرجوا وفق مناهج التعليم المنمطة وغربية الأهداف هم أنفسهم فقدوا علم الأرض، بل فقدوا معه احترامهم للبيئة –كما نشهد في القتل العشوائي للطيور المهاجرة وغير المهاجرة- وفي إهمال الحقول وتركها نهباً للشوك والبوار.
حاصل الأمر أن على المعاهد الرسمية والخاصة في الجبل واجباً خاصاً يجب عليها أن تفكر في سبل الوفاء لمجتمعها ولطلابها على حدّ سواء، فلا تكون عن غير قصد طرفاً في استراتيجية السلخ والتنميط البشري الذي يتم طبخها من الشركات متعددة الجنسيات ومن يلف لفها. والمطلوب في هذا المجال ليس كثيراً ولا يجب أن يؤثر في أداء تلك المدارس التي تعلم حق العلم. فالمناهج المقررة تحتوي على الكثير من الحشو الذي لا فائدة منه لا الآن ولا في المستقبل، المطلوب هو القليل، تصميم نشاطات أسبوعية تتضمن إخراج الطلبة إلى الطبيعة والحقول وتعريفهم بالمحيط والبيئة وتطوير ثقافتهم النباتية والطبيعية، وفي الوقت نفسه تدريبهم تحت إشراف مرشدين وممارسين بعض المبادئ الأساسية في الزراعة والاقتصاد الزراعي، بل ودفعهم لاستغلال مباشر لبعض قطع الأرض فيكون لكل مدرسة بستان ويحصل التنافس والمقارنة بين المعاهد على هذا الصعيد أيضاً، ولا يقتصر على مقارنة النتائج الأكاديمية.

معركة عين جالوت

انتصار المماليك الساحق
مهد لطرد التتار ثم الصليبيين

تحتل معركة عين جالوت التي دحر فيها العالم الإسلامي لأول مرة جحافل التتار وأوقع بالجيوش التي أرعبت العالم هزيمة ماحقة أبيدت فيها كل فيالقهم وقتل فيها بعض أعظم قادتهم، محطة خالدة فعلاً في تاريخ المسلمين إذ ترتب على تلك المعركة الظافرة التي قادها أحد أعظم سلاطين المماليك وقادتهم العسكريين، مظفر الدين قطز، نتائج تاريخية كان منها طرد التتار من كل المنطقة ثم تحرير بلاد الشام وفلسطين من كافة الحاميات والمستعمرات الصليبية التي كانت صمدت لهجمات الأيوبيين بما في ذلك تحرير عكا الحصينة بعد أكثر من 190 عاماً من الحكم الصليبي، كما كان من نتائجه قيام دولة المماليك التي دام حكمها أكثر من 270 عاماً.

لكن الأهمية الحقيقية لهذه المعركة العظيمة في تاريخ العرب والمسلمين تنبع من كونها جاءت في عز تقهقر الممالك الإسلامية وسقوطها واحدة تلو الأخرى أمام جحافل التتار، كما أنها جاءت في ظروف صعبة في المشرق تميّزت بالصراع بين دولة المماليك الناشئة وبقايا الأمراء الأيوبيين في دمشق كما تميزت بحالة الاضطراب التي عمت مصر نفسها بعد مقتل الملك عز الدين أيبك ثم زوجته شجرة الدر التي اتهمت بقتله، وهذا فضلاً عن العداء والتنافر بين فرق المماليك أنفسهم.

التتار يتهيأون لغزو مصر

باختصار كان الوضع مهيئاً فعلاً لكي يكمل التتار غزواتهم للمنطقة باجتياح مصر لولا أن قيض للمصريين وللمسلمين صعود قائد عظيم إلى سدة الحكم في مصر هو مظفر الدين قطز، وقد كان قائداً عسكرياً فذاً وملكاً شجاعاً محنكاً وورعاً في الوقت نفسه.  وقد تمكن قطز بحنكته وقوة شخصيته من توحيد مصر تحت رايته ثم مهادنة الأمراء الأيوبيين بل ذهب حتى مهادنة الحامية الصليبية في عكا بهدف تحييدها عن المعركة المقبلة مع التتار.  والملفت أن هذا القائد تمكّن من استكمال استعداداته لمواجهة التتار في مدة قصيرة لم تتجاوز سنتين بحيث كان فعلاً قد حقق جهوزية لا بأس بها عندما بدأ التتار بدق أبواب مصر.

قبل ذلك كان التتار بقيادة هولاكو قد اجتاحوا معظم الممالك الأسيوية بما فيها روسيا ووسط أسيا وخوارزم وفارس ودمروا الخلافة العباسية واجتاحوا البلاد الشامية.

وجاءت اللحظة العصيبة للسلطان مظفر الدين قطز عندما أرسل هولاكو بعثة ضمت أربعين من رسله وبعض أعيان التتار مع رسالة إنذار شديدة إلى قطز ينذره فيها بتسليم البلاد والاستسلام للجيوش القادمة.

في هذه الأثناء كان قطز قد وصل على قناعة راسخة بفضيلة التصدي للتتار مهما كلف الأمر بدلاً من الاستسلام لهم لا سيما وأن استسلام الممالك التي وقعت في يدهم لم يوفر عليهم أعمال القتل والمذابح والنهب والسبي، وقد كان أفعال التتار أينما حلوا تميزت دوماً بالتوحش والشراسة وعدم الرأفة لا بصغير ولا بكبير.

رسالة إنذار من هولاكو

وقد جاءت رسالة الإنذار التي بعث بها ملك التتار هولاكو إلى السلطان مظفر الدين قطز مؤيدة لهذه الصورة وللمخاوف التي كانت تعتري هذا القائد العظيم. وقد حاول هولاكو في الرسالة استخدام المهابة والصورة المرعبة التي كانت قد تكونت عن التتار في كل أنحاء القديم بهدف دفع المسلمين للاستسلام كما فعل العديد غيرهم. وجاء في تلك الرسالة المليئة بالاحتقار والعجرفة :


قرار خطير من مظفر الدين قطز
“من ملك الملوك شرقاً وغرباً القائد الأعظم..اتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع”، وأضاف هولاكو منذراً:” من طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، كبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى”. كان ذلك في سنة 658هجرية الموافق مطلع سنة 1260ميلادية.

على هذه الرسالة رد مظفر الدين قطز بتحركين أساسيين:

التحرك الأول كان بإعلان النفير العام وبدء التعبئة الشاملة للحرب مع التتار بمساعدة أركانه وعلماء المسلمين وخطباء الجوامع، وهو كان مهد لذلك بترتيب البيت قبل سنوات وتدعيم موارد وعتاد الدولة وتهيئة الجيوش.  وقد توّج تلك الحملة بخطبة شهيرة قال فيها مخاطباً أعيان البلاد وقادتها بالقول: “يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال)”..وتابع قطز خطابه التعبوي حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول:

“يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن”..

ووقعت كلمات قطز القوية في قلوب الأمراء.. فضجوا جميعاً بالبكاء وساهمت الروح القيادية للقائد المملوكي في جمع كلمة القادة والأمراء على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن، ونجح قطز بذلك في خطوة هي من أصعب خطوات حياته وهي دفع مصر لإعلان الحرب على التتار.

التحرك الثاني الذي قام به قطز كان مكملاً للتحرك الأول وإن كان من طبيعة مختلفة.  وقد كان هذا السلطان المحنك مدركاً أن قلوب الأمراء وافقت على الجهاد تحت تأثير القدوة وقوة الحجة واستثار الحمية خصوصاً لجهة حماية الأعراض والأرواح والتذكير بأن الله مطلع على المتخلفين والمتخاذلين. لكن من الممكن لتلك القلوب أن تنكص على أعقابها وأن تخاف عندما يقترب الخطر. لذلك أراد قطز أن يحدث أمراً جللاً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، فلا يبقى أمامهم غير خيار القتال مهما كلف ذلك من ثمن.  وهو قرر بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعين الذين أرسلهم إليه هولاكو برسالة التهديد على أبواب المدينة وأن يعلّق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الناس. وكان قطز يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلاناً للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلباً على التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد كما أنه يقطع التفكير في أي حل سلمي للقضية ويفرض الاستعداد الكامل للجهاد لأن التتار بعد قتل رسلهم لن يقبلوا باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون..

كان هذا هو اجتهاد قطز وإن كان العديد من فقهاء المسلمين تحفظوا بقوة على هذا العمل باعتبار أن الرسل في الإسلام لا تقتل بينما تغاضى البعض الآخر عن عمل قطز مبرراً إياه بأفعال التتار وبمبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات.

قطز يقرر ملاقاة التتار خارج مصر

في الوقت نفسه، قرر مظفر الدين قطز عدم انتظار التتار في مصر بل استباق الحملة التتارية وملاقاتها قبل وصولها إلى مصر. وتمكن الجيش المملوكي من مفاجأة الحامية التتارية في غزة وقضى عليها ثم تابع مسيره حتى وصل إلى سهل عين جالوت والتلال المحيطة به وقدر بحنكته العسكرية أن هذا الموقع هو الأفضل لملاقاة التتار ووضع خطته المحكمة لمنازلة الجيوش الغازية التي أرعبت الدنيا.

وجاء جيش كتبغا التتاري وهو في حالة من التعبئة والغضب للإهانة التي وجهها قطز لملك المغول عبر قتل رسله وتعليق رؤوسهم على الأعواد ومرت الجيوش التتارية غرب بيسان ثم انحدرت جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتاري..

قبل الموقعة الكبرى بيوم حصل قطز على عون اعتبره من السماء واستبشر به إذ جاءه ألوف المتطوعين من أهل فلسطين، والذين تم تكليفهم على الفور بمهمات خدمة الجيش من خدمات نقل العتاد والطعام ونقل الجرحى وغير ذلك وهو ما مكنه من تحرير عدد إضافي من الجنود للمهمات القتالية. كما جاءه أيضاً رجل قال إنه رسول من قبل “صارم الدين أيبك”. وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو عند غزوه بلاد الشام، ثم قبل الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت حيث قرر أن يخدم جيش المسلمين. وقد أرسل صارم الدين أيبك ذلك الرسول إلى قطز ليخبره ببعض المعلومات المهمة جداً عن جيش التتار..

رسول ما قبل المعركة

وقد نقل هذا الرسول إلى قطز أن جيش التتار ليس بقوته المعهودة بعد أن أخذ هولاكو معه عدداً من القادة والجند (وذلك عند ذهابه إلى تبريز في فارس) وأن الجيش التتاري لم يعد على الهيئة نفسها التي دخل بها إلى الشام، فلا تخافوهم. كما لفت الرسول إلى أن ميمنة التتار أقوى من ميسرتهم، مما يعني أن على جيش المسلمين أن يقوي جداً من ميسرته، والتي ستقابل ميمنة التتار.. كما أسر الرسول بأن الأشرف الأيوبي أمير حمص سيكون في جيش التتار بفرقته، ومعه صارم الدين أيبك، ولكنهم سوف ينهزمون بين يدي المسلمين وينقلبون على الجيش الغازي.  وقضى المسلمون ومعهم قائدهم قطز ذلك الليل الطويل الذي سبق الملحمة الكبرى في القيام والابتهال والدعاء والرجاء..

بعد ذلك وفي صبيحة يوم 2 سبتمبر 1260 كان وقت المواجهة حان فعلاً فصلى المسلمون ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات حتى أشرقت الشمس ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار الذي كان قد اقترب من سهل عين جالوت في عدده الرهيب وعدته الهائلة…

على العكس من ذلك، فقد تمّ إخفاء القسم الأعظم من جيوش المسلمين خلف التلال باستثناء مقدمة الجيش بقيادة ركن الدين بيبرس، والتي التي أشار لها قطز رحمه الله بأن تنزل من فوق التلال للوقوف على باب السهل لقتال الجيش التتاري.  ولم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل وكان لكل فرقة ألوانها المميزة وتنظيمها البديع وتوالى نزول فرق المقدمة إلى السهل بصورة أذهلت التتار وقائدهم كتبغا الذي اعتاد على رؤية جيوش الخصم متفرقة ومنهزمة أمام الزحف التتاري.

وكل هذه الفرق كانت مقدمة جيش المسلمين فقط، لكنها كانت أقل بكثير من جيش التتار لأن قطز احتفظ بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك هذه في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات التتار..

غرور القوة يوقع التتار في فخ المسلمين

وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تقرع طبولها وتنفخ في أبواقها وتضرب صنوجها النحاسية.. لقد كانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر وتتواصل عن طريق تلك النغمات. وكانت هناك نغمات خاصة لكل تحرك، وبذلك يستطيع القائد قطز أن يقود المعركة عن بعد، وعلى مساحة شاسعة من الأرض من خلال الاستخدام المدروس لتلك الآلات الموسيقية الضخمة..

ولما كان كتبغا اعتقد أن مقدمة القوات الإسلامية كانت كل الجيش المملوكي فقد قرر أن يحسم المعركة في وقت قصير مستخدماً كامل قوة وعنف الجيش التتاري.

في المقابل، كانت الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة التتارية الأولى، وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابقة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك قبل عشر سنوات، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب.

وقد ثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى الإلقاء بكامل قواته من دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتاري. وكان الجزء الثاني من خطة قطز يقضي بإظهار التراجع واستدراج قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت بحيث تقع هذه ضمن الكمين وتتم محاصرتها من قوات الجيش التي كانت تنتظر إشارة النزول إلى الساحة.

مصرع كاتبغا وانهيار التتار

وبالفعل وقع كتبغا، القائد المملوكي المحنك، في الفخ المملوكي وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق للقوات الاحتياطية بدخول المعركة. ونزلت الكتائب الإسلامية الهائلة من خلف التلال إلى من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك وفي دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار وسدت عليهم طريق الفرار. وبعد صراع طاحن بدأت الكفة تميل لصالح المسلمين.وتعاظم الضغط على جيش التتار الذين بدأوا يسقطون بأعداد كبيرة تحت ضربات الجيش المملوكي. ووسط هذه المعمعة تقدم أحد أمراء المماليك واخترق الصفوف التتارية حتى وصل في اختراقه إلى كتبغا وضربه بسيفه ضربة أطاحت برأسه. وبمقتل كتبغا انهارت معنويات جيش التتار،وانطلق المسلمون خلف فلولهم يطاردوهم يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً . وأعاد التتار تجميع قواتهم في سهل بيسان الذي يقع على مسافة عشرين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من عين جالوت، ووقعت هناك معركة طاحنة ثانية تمكن فيها المسلمون من القضاء على فلول جيوش التتار حتى أبادوها عن بكرة أبيها.

آثار عين جالوت

مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد إلا أن آثارها فاقت بقوتها كل تصور من حيث حجمها واتساع تداعياتها. وهذه الآثار يمكن إيجازها بالتالي:

أولا: وضع المسلمون في عين جالوت خاتمة مجيدة للهزيمة النفسية البشعة التي كانوا يعانون منها بعد أن اجتاحت جحافل التتار العالم الإسلامي لمدة 40 عاماً تقريباً حتى بات السلوك الطبيعي للممالك والملوك هو تسليم رقابهم للغزاة وفتح المدن أمامهم من دون قتال ليعملوا فيها ذبحاً وقتلاً ونهباً.

ثانياعادت الهيبة للأمة الإسلامية بعد أفول دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات العزة والسيادة، وذلك بعد انتصارَيْ حطين في المشرق في فلسطين والأرك في المغرب  وقد ألقت عين جالوت الجلال والمهابة مجدداً على عالم الإسلام حتى إن هولاكو الذي كان استقر في تبريز في فارس لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام ثانية متجنباً دفع جيشه إلى مهلكة جديدة.

رابعاً: عادت الوحدة العظيمة بين مصر والشام، وكونا معاً التحالف الاستراتيجي الصَّلب الذي يمثل حاجزاً لصد الهجمات الأجنبية، وبينت تجربة دولة المماليك أن اتحاد مصر مع الشام يمثل عامل أمان كبيراً لكل المنطقة، كما أنه يقلل كثيراً من أطماع الطامعين.ثالثاً: تعتبر موقعة عين جالوت شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، التي حملت راية الإسلام لمدة تقترب من ثلاثة قرون (مائتان وسبعون سنة). ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية أكبر على وجودها حيث استضافت أبناء خلفاء بنى العباس في القاهرة بعد عين جالوت مباشرة وفي عهد الظاهر بيبرس، إلا أن هذه الدولة لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي ضمت مصر والشام وبعض الحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا.  أما بقية العالم الإسلامي فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين تقريباً إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة.

خامساً: اختفى من على الساحة الإسلامية كل الأمراء الأيوبيين الذين فرّط معظمهم في الأمانة الثقيلة التي خلَّفها لهم جدُّهم العظيم صلاح الدين الأيوبي وانشغلوا بالصراع على السلطة والمال ومقاومة الحكم المملوكي في مصر إلى حد التعاون مع الصليبيين لإسقاطه، وهذا إلى أن حدثت موقعة عين جالوت، فكان من آثارها المباشرة سقوط تلك الزعامات الوهمية.

سادساً: انصرف سلاطين الدولة المملوكية الفتية من دون تأخير إلى تطهير بلاد الشام وفلسطين من بقايا الإمارات والحصون الصليبية والتي لم يتمكن الأيوبيون من فتحها أو أعادها بعض أمرائهم إلى الصليبيين في سياق تحالفات وصفقات سياسية مشينة، وتم تحرير المدينة الحصينة عكا الحصينة في سنة 690 هجرية بعد قرابة قرنين من الاحتلال الصليبي، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية وانتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام وذلك بعد اثنتين وثلاثين سنة فقط من عين جالوت، مما يجعل هذا التحرير من النتائج المباشرة لتلك الموقعة المجيدة.

سابعاً: ارتفعت مكانة مدينة القاهرة المصرية ارتفاعاً بالغاً، بعد انتصار عين جالوت وقيام دولة المماليك، وخاصة بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة 656 هجرية على أيدي التتار، وسقوط قرطبة قبلها في سنة 636 هجرية في أيدي الصليبيين الأسبان..وأصبحت القاهرة قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً، وعظم دور الأزهر الشريف.

ثامناً: من أعجب آثار معركة عين جالوت غير المتوقعة وأعظمها كانت أن العديد من التتار بدأوا بالدخول أفواجاً في دين الإسلام  فهم بعد أن تعرفوا إليه وقرأوا في أصوله وقواعده وقوانينه، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه. أعجبوا به إعجاباً شديداً، وخاصة أنهم  كانوا يعانون من فراغ ديني، ثم حصل تطور خطير عندما قرر أحد زعماء القبيلة الذهبية – أحد الفروع الكبرى في قبائل التتار وابن عم هولاكو مباشرة اعتناق الإسلام وتسمى باسم “بركة” قبل توليه زعامة القبيلة الذهبية بعدها بسنتين وأصبح اسمه “بركة خان”، وكانت هذه القبيلة شبه مستقلة عن دولة التتار، وتحكم المنطقة التي تقع شمال بحر قزوين وهي تقع الآن في روسيا، وبإسلام هذا الزعيم دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، علماً أن دخول كل هؤلاء في الإسلام كان قبل عين جالوت.

ومن آثار موقعة عين جالوت العظيمة أن تزايد عدد المسلمين جداً في القبيلة الذهبية حتى أصبح كل أهلها تقريباً من المسلمين، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو. ومازالت بقايا القبيلة الذهبية موجودة، ومكونة لبعض الإمارات الإسلامية مثل إمارة قازان وإمارة القرم وإمارة استراخان وإمارة النوغاي وإمارة خوارزم وغيرها.

المصدر: د. راغب سرجاني. تاريخ التتار

تاريخ الاغتراب الدرزي وواقعه وقضاياه

الموحدون الدروز هاجروا وانتشروا ونجحوا

تروي الأجيال المتعاقبة من أبناء طائفة الموحدين الدروز في الارجنتين، أن أوائل المهاجرين الى ذاك البلد بلغوا حدود العشرة آلاف حطوا رحالهم في العام 1860. وفي أوستراليا، يتشكل نسيج مجتمع الموحدين الدروز من أربعة أجيال ولاسيما في مدينة ادلايد، حيث أوائل المهاجرين كانوا قد استوطنوا هناك قبل مئة وخمسة وعشرين عام

ولأنه ليس من بحث رسمي يؤرخ بشكل دقيق، فإن تلك الواقعتين تلخصان تقريباً مسيرة اغتراب الموحدين الدروز، التي تعود إلى أكثر من مئة وخمسين سنة خلت. وهي فترة شهدت موجات هجرة متعاقبة أدت إلى خلق انتشار عالمي للموحدين الدروز يتوزع على أكثر من 35 بلداً في مختلف القارات وإن كان معظمه يتركز في الأميركيتين لأسباب تاريخية واجتماعية. (راجع خريطة الانتشار)
وكما أن التاريخ الموثوق غائب أو جزئي لهذه الظاهرة المهمة، فإن الإحصاء الرسمي لعدد المغتربين الدروز ما زال غائباً ما عدا بعض المحاولات التي

تبذلها لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي الدرزي منذ انتخابها في العام 2007. وقد تمكّنت اللجنة عبر تواصلها مع دول الاغتراب من إعداد إحصاء تقريبي رأينا استخدامه لوضع خريطة تقريبية لانتشار الموحدين الدروز في العالم.
إلى جانب هذا الإحصاء التقريبي جداً تمّ أيضاً التعرف على عدد لا يستهان به من الجمعيات والبيوت الدرزية الموزعة في بلدان الاغتراب. ولعل الأقوى تأثيراً على المغتربين يتمركز في الولايات المتحدة الاميركية، تليها كندا، ثم البرازيل والأرجنتين وفنزويلا، فأوستراليا. إلا أنه وإلى جانب الجمعيات والمنظمات التي تمّ حصرها، هناك عدد لا بأس به من الجمعيات والمنظمات التي هي في طور التأسيس وتغطي بصورة خاصة بلداناً عدة في أفريقيا وأوروبا وآسيا.

أسباب الهجرة

هاجرت العائلات الدرزية في نهاية القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20 من لبنان إلى دول العالم، إما بحثاً عن تحسين أوضاعها الاقتصادية أو هرباً

لجنة شؤون الاغتراب تنظّم في 19 تموز 2010
أوسع مؤتمر للموحدين الدروز في بلاد المهجر

من الظلم والتمييز الذي خلّفه النظام الاستعماري وتوالت الهجرات ونشأت عنها الوقائع والمؤسسات التي نعرض لبعضها في ما يلي:
أوستراليا : في أوستراليا أقام الدروز هناك الجمعية الدرزية المعروفة باسم البيت الدرزي، وهم يصدرون مجلة درزية علمية شهرية تسمى دروز بوليتن، ويعمل معظمهم في التجارة والمهن الحرة.
كندا: في كندا أنشأ نحو 800 درزي جمعية الدروز الكندية في تورنتو، ومؤخراً تمّ تعيين وزير درزي في الحكومة الكندية لمعالجة شؤون الدروز هناك، وهو د. فؤاد الشامي.
المكسيك: أنشأ دروز المكسيك الجمعية الدرزية والجمعية العربية في العام 1952.
البرازيل: أول من قام بنشاطات وتوعية درزية هناك هو المرحوم الشيخ نجيب العسراوي، الذي أصدر جريدة الإصلاح، وأنشأ خلوة للصلاة، ومدفناً للجالية الدرزية، كما أنشأ الرابطة الخيرية الدرزية التي قدمت المساعدات المالية لأبناء جبل الدروز أثناء ثورتهم ضد فرنسا في العام 1925، وكذلك أنشأ بيت اليتيم الدرزي، وعيّن معتمداً لمشيخة العقل في البرازيل، ووزيراً روحياً في البرازيل، وتوفي في العام1987.
كما انشأ دروز البرازيل جمعية دروز البرازيل في العام 1969، والبيت الدرزي البرازيلي، وفرقة فخر الدين للرقص والفلكلور الشعبي.
الأرجنتين: أنشأ دروز الأرجنتين، الجمعية الخيرية الدرزية الارجنتينية في مدينة بوينس آيريس.
الولايات المتحدة الأميركية: تمّ هناك إنشاء جمعية «الباكورة الدرزية» في العام 1911، وفي العام 1964 الجمعية الدرزية الاميركية A.D.S. وهناك أيضا نوادٍ درزية في كل ولاية وتصدر عنها: مجلة صوت الدروز، مجلة البيان، مجلة نهضة العرب، مجلة تراثنا، والعديد من المؤلفات التي تبحث في شؤون وحياة الدروز وتاريخهم.

لجنة شؤون الاغتراب

أناط قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006 بلجنة شؤون الاغتراب، الاهتمام بكافة الأمور المتعلقة بأبناء الطائفة في الخارج، حيث نص على وجوب «الاشراف على جميع الشؤون الاغترابية» بصورة عامة، أورد القانون على سبيل المثال والتعداد أهم السُبل الآيلة الى تحقيق هذه المهام وأبرزها وجوب وضع خطة عمل مبدئية تتضمن الأهداف والغايات وآليات تطبيقها بالتنسيق مع كافة اللجان المعنية، وصولاً إلى تأمين التواصل وتحقيق الإفادة المتبادلة عبر التوفيق بين التقديمات والعطاءات وبين الحاجات والمستلزمات لدى أبناء الطائفة في لبنان والخارج.
ومن أهم بنود الخطة التي وضعت، الآتي:
– الاتصال مع أبناء الجاليات الدرزية في الخارج، إضافة الى فعاليات المجتمع المدني والجمعيات والمؤسسات الدولية والحكومية وغير الحكومية.
– إنشاء موقع الكتروني على شبكة الانترنت تحت اسم «أهلنا»، من ضمن موقع المجلس المذهبي الدرزي.
– العمل على حضور الندوات والمحاضرات والمؤتمرات المقامة من قبل

الجاليات الدرزية في بلاد الاغتراب، إضافة الى العمل على عقد ندوات ومحاضرات تدعى اليها فعاليات ورؤساء وأبناء الجاليات الدرزية من الخارج الى لبنان
– العمل على تشكيل مجموعة محركة فاعلة، تحقق الاتصال والتنسيق والتعاون مع أبناء الجاليات الدرزية الفاعلين في القطاعات العامة والخاصة في دول الاغتراب
– المتابعة الحثيثة بغية التأكيد على أبناء الطائفة وجوب وإلزامية تدوين كافة التعديلات الطارئة على قيودهم في دوائر الاحوال الشخصية، ولهذه الغاية يقتضي تخصيص دائرة ضمن ملاك المجلس المذهبي لملاحقة هذا الامر بالتنسيق مع المخاتير والدوائر المختصة
– إنشاء ما يعرف بخريطة اغترابية لأبناء طائفة الموحدين الدروز في العالم، بهدف التواصل لتحديد الاولويات الواجب اتباعها
– اقتراح إنشاء جمعيات ومؤسسات في لبنان تستوفي الشروط والمواصفات المطلوبة، للاستفادة من تقديمات وعطاءات المنظمات الدولية والحكومية والخاصة التي تعنى بهذه الشؤون، إضافة الى العمل على دعم وتأمين المساعدات والمستلزمات لتلك المؤسسات القائمة حالياً، كمراكز الرعاية الاجتماعية أو مراكز إعادة التأهيل وخلافها بالتنسيق مع اللجان ذات الصلة
– استحداث هيئات في دول الاغتراب تكون مهامها العمل، بالتنسيق مع اللجنة، على القيام بالاعمال التحضيرية والتنظيمية والاحصائية وما شابه، والآيلة جميعها الى تحقيق أهداف لجنة شؤون الاغتراب
– تحقيق التواصل الإعلامي مع المغتربات

المؤتمـــر العالمـــي لمندوبـــي الجاليـــة الدرزية
المنعقـــد فـــي بيـــروت في العام 1980

من أبرز توصياته:
1. عقد هذا المؤتمر سنوياً.
2. يستطيع كل درزي المشاركة في هذا المؤتمر وأن تكون الدعوة
مفتوحة.
3. تبني ورقة عمل المجلس الدرزي للبحوث والانماء الذي يقوم
بجمع وطبع ونشر وترجمة كتب درزية وإعداد أشرطة وأفلام
وثائقية عن الدروز توجّه بصورة خاصة لدروز المهجر.
4. إقامة معهد عالمي للدراسات التوحيدية.
5. إقامة معرض للتراث الدرزي يضم كل ما يتعلق بالأعمال
اليدوية الفنية الدرزية.
6. إقامة مكتبة درزية تحوي كل المؤلفات الدرزية التي أُصدرت
عن الدروز.
7. إقامة أندية للشباب والشابات الدروز في بلاد الاغتراب
للتعارف.

تحقيق التواصل الإعلامي مع المغتربات

– عقد اللقاءات والحلقات الدينية الآيلة الى نشر التعاليم والاعراف والتقاليد التوحيدية، والاعتناء بتبادل الكتب والمؤلفات والمنشورات الدينية والاجتماعية والثقافية، بغية ترسيخ التراث الديني والثقافي لدى ابناء طائفة الموحدين الدروز في الخارج، وكل ذلك بالتنسيق مع اللجان ذات الصلة.
– العمل على تنظيم مؤتمر اغترابي درزي في لبنان.

المؤتمر الاغترابي

بحسب رئيس لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي الدرزي السيد كميل سري الدين، فإن الكثير من بنود خطة العمل هذه أنجز أو بدأ العمل به، لتتوّج الخطة، بتحديد التاسع عشر من شهر تموز في العام 2010 موعداً لعقد مؤتمر اغترابي درزي في لبنان، على أن يشكّل الإطلالة التنظيمية الرسمية الأولى على الاغتراب الدرزي، ويكرّس الحصرية الرسمية لمرجعية المجلس المذهبي لهذا الاغتراب، فضلاً عن أهداف مكملة يبتغيها المؤتمر، أبرزها تأمين آليات التواصل بين المغترب تعزيزاً للروابط، التي توفر مجالات عدة لتبادل الخبرات من جهة والمساعدات من جهة أخرى.

المشاكل والتحديات

 حددت لجنة شؤون الاغتراب، من خلال عملها في السنوات الثلاث الماضية الأسباب الموجبة لعقد هذا المؤتمر كما يرى أمين السر العام للجنة الأستاذ سامر أبو مجاهد. ويرد في رأس قائمة المشاكل، فقدان التواصل مع المغتربين. وقد أمكن للجنة في هذا المجال البدء بمعالجة هذه الثغرة في الولايات المتحدة الأميركية من خلال الاتصال بنحو عشرة آلاف مهاجر درزي. وكذلك في كندا، حيث تأمن الاتصال بعشرة آلاف أيضاً. أما الرقم المعبّر ففي البرازيل، حيث أكثر من مئة ألف مغترب درزي، تم التواصل مع ألفين منهم. والحال ذاتها في الأرجنتين، حيث يوجد أكثر من ستين ألف مغترب درزي وتمكّنت اللجنة من الاتصال بأربعمائة منهم حتى الآن
الى ذلك، تكمن أبرز التحديات في النجاح في توحيد الرؤى والتوجهات على مختلف مشاربها بين الجمعيات داخل المغتربات، ومع المرجعية الرسمية الوحيدة للدروز في العالم أي المجلس المذهبي الدرزي
ارتكازا على ما تقدم، لا يقف طموح اللجنة عند حدود المؤتمر الاغترابي الذي سيكون البداية في مسيرة تنظيم التواصل مع الاغتراب الدرزي، بل سيتعداه الى ترجمة هذه المسيرة التنظيمية واقعاً، عبر إنشاء بيت المغترب الدرزي في لبنان، يؤمّن دورات لتعليم اللغة العربية، وحلقات للتوعية الدينية، بالاضافة الى تنظيم زيارات دورية الى الوطن الام. وعلى خطٍ مواز، يجري التحضير لتأسيس جمعية موحدة على نطاق اوروبا، كما بدأ البحث في ورشة تنظيمية للجمعيات الاغترابية في كندا

رعاية وحضور رئاسي

المؤتمر الاغترابي يفتتح في 19 تموز 2010 في مركز المعارض في البيال وسط

   بعــــض أبــــرز المنظمــــات الــــدرزيــــة فــــي المهجــــــــر
 الدولة  الجمعية  الإسم الأجنبي
 أوستراليا  منظمة دروز أوستراليا  AUSTRALIAN DRUZE ORGANIZATION
 الأرجنتين  جمعية دروز الأرجنتين  ARGENTINEAN DRUZE SOCIETY
 البرازيل  منظمة دروز البرازيل  LAR DRUZE BRASILEIRO
 كندا  الجمعية الاتحادية لدروز كندا  CANADIAN FEDERAL DRUZE SOCIETY (CFDS)
 فرنسا  جمعية الدروز اللبنانيين في فرنسا  ASSOCIATION DES DRUZES LIBANAIS EN FRANCE
 السويد  منظمة دروز السويد  SWEDEN DRUZE ORGANIZATION
 الولايات المتحدةالأميركية الجمعية الدرزية الأميركية  1- AMERICAN DRUZE SOCIETY (ADS)
المؤسسة الدرزية الأميركية  2-AMERICAN DRUZE FOUNDATION (ADF)
Sheikh El-Akl Representatives organization
 بريطانيا  الجمعية الدرزية البريطانية  BRITISH DRUZE SOCIETY (BDS)
فنزويلا منظمة دروز فنزويلا VENEZUELAN DRUZE ORGANIZATION

تقديم سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

بسم الله الرحمن الرحيـــــم

تؤسس الضحى في إصدارها الحالي لمرحلة جديدة في تاريخها. فهي تبتعد عن كونها مساحة إعلانية للمؤسسة وتنأى بصفحاتها عن المفاهيم الشمولية أو الدعائية لدور الإعلام، وتتحرر من الأطر الضيقة لأساليب التحكم الفكري، كل ذلك من أجل أن تلج منافذ واسعة من التفكير الخلاق والعمل النهضوي الرائد والبناء.

تريد الضحى في وثبتها الحديثة أن لا تراوح في الميدان الكلامي، بل أن تجعل من الكلام واسطة لعمل العقل ووسيلة اتصال تسهل تكوين فهم مشترك وصحيح للأزمات التنموية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفكرية التي تعصف بمجتمعنا المعاصر، ليكون الكلام محرضا للوعي بتلك التحديات وواسطة اتصال بالناس بقصد إيضاح أسبابها وفهم إشكالاتها وصولا إلى المحاولة الصادقة والجادة للتداول العقلاني بشأنها وفي أفضل الحلول لاستيعابها.

يبقى ما هو ثابت في روح الضحى، أعني الالتزام الروحي والأخلاقي بالنظرة إلى الوجود عامة، وإلى الرؤية الحكمية خاصة، والعهد الذي أخذته على نفسها بالحفاظ على ما هو في صميم نشأة مجتمعنا وعناصر هويتنا التوحيدية من فضائل الإيمان وفرائضه وقيم الصدق والشهامة والعدل والحرية الحق، هذه القيم التي بها يتحقق الإنسان في معنى علة وجوده، ليس فقط من حيث هو كائن فرد، بل من حيث هو أيضا كائن اجتماعي له من الحقوق ما له وعليه من الواجبات ما عليه.

نأمل ان ترقى الضحى بإشراف إدارتها المتجددة عن النزوع إلى الفئوية أو الرؤى المحدودة المغلقة، وذلك باتجاه الفسحة الواسعة للعقل الجامع، وتطلعها لأن تجمع الشمل حول العمل المنتج الخير، وأن توحد الجهود المخلصة لخدمة الناس في منافعها ومصالحها بما يرضي الله والضمير، وأن تسعى مخلصة من أجل بلورة عوامل النهوض والحيوية والازدهار والتكافل الاجتماعي والتعاضد العائلي وفقا لما تتيحه لها قوة الأفكار من إمكان وما تيسره لها أنوار جذوة الوعي من فعالية.

والله من وراء القصد أنه هو السميع البصير

بدعوة من سماحة شيخ العقل والمجلس المذهبي

حفل‭ ‬وتوزيع‭ ‬دروع‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الطائفـــة تكريمــــــاً‭ ‬لمجلــــس‭ ‬أمنـــاء‭ ‬” الضحى “
الشيخ‭ ‬نعيم‭ ‬حسن

نتطلع‭ ‬إلى‭ ‬استقطاب‭ ‬المجلة‭ ‬لمفكّرين‭ ‬وعلماء‭ ‬بارزين ليــس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬طائفتنا‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬والعالم‭ ‬الاسلامي

رئيس‭ ‬التحرير

نجاح‭ ‬‮«‬الضحى‮»‬‭ ‬ترك‭ ‬آثاره‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬فحسب بل‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وفلسطين‭ ‬ولدى‭ ‬جمهور‭ ‬المثقفين

د‭. ‬منير‭ ‬يحيى

‮«‬الضحى‮»‬‭ ‬حالة‭ ‬فكرية‭ ‬حوارية‭ ‬وسط‭ ‬التأزم‭ ‬الطائفي‭ ‬والمذهبي وأدعو‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬شبكي‭ ‬للتواصل‭ ‬بين‭ ‬الجميع

الشيخ‭ ‬سامي‭ ‬أبي‭ ‬المنى

«‬الضحى‮»‬‭ ‬واحةٌ‭ ‬للتفاعل‭ ‬والعطاء‭ ‬وجسرٌ‭ ‬للتواصل مع‭ ‬المجتمع‭ ‬والبيئة‭ ‬اللبنانية‭ ‬والعربية‭ ‬والمشرقية

بمناسبة مرور ثلاث سنوات على إعادة إصدار مجلة الضحى بصيغتها الجديدة، نظّم  المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في حضور رئيسه شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سماحة الشيخ نعيم حسن واعضاء مجلس الادارة وجمهور واسع من أعضاء المجلس المذهبي للطائفة وعدد من الشخصيات حفلاً عاماً خصص لتكريم مجلس أمناء مجلة الضحى وجرى الحفل في الصالونات الرسمية لدارالطائفة الدرزية في شارع فردان. وبعد إلقاء الكلمات من المحتفين والمحتفى بهم قدّم سماحة شيخ العقل الدروع التكريمية لأعضاء مجلس أمناء المجلة ودُعي الجميع بعد ذلك إلى حفل قدمت فيه المرطبات والمأكولات والحلوى.

وعلى أثر حفل التكريم دعا سماحة شيخ العقل مجلس إدارة المجلس المذهبي ومجلس أمناء الضحىبإلى عقد لقاء تشاوري، وتمّ الاجتماع في صالون المشيخة في الدار في جو أخوي، وجرى خلاله التداول في تعزيز التنسيق والتعاون، كما جرى الإستماع لملاحظات قيّمة بشأن تطوير المجلة وتعزيز دورها الثقافي والحواري والوطني.

الإفتتاح

رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الشيخ سامي أبي المنى افتتح المناسبة مبدياً سعادة المجلس بتكريم مجلسِ أمناء الضحى الذين  ساندوا وواكبوا بعطائهم الماديّ والمعنويّ إنطلاقةَ المجلّة مضيفاً القول بأن المجلة  سلّطت الضوءَ على محطاتٍ تاريخية وقيمٍ توحيدية واجتماعية ووطنية وتحدثت عن أعلامٍ وشخصياتٍ لم يكن يظنُّ كثيرون أنها ستطالُهم، وعن مواقعَ ومناطقَ ومشاهدَ وتقاليدَ وحكاياتٍ مع الأرض والناس، امتدّت على مساحة الجبل ووصلت إلى راشيا وحاصبيا والوطن كلِّه وجبل العرب. واعتبر أن المجلة هي جسرٌ للتواصل مع المجتمع والبيئة اللبنانية والعربية والمشرقية، وواحةٌ للتفاعل والعطاء، هي صورةٌ عنّا، ولهذا علينا أن نمنحَها من ذاتِنا لتكونَ هكذا، وأن ندفعَ دائماً باتّجاه بلورةِ فلسفتِها التوحيدية الإسلامية العربية الإنسانية، وأن نشدَّ على أيدي محرّريها، ونعملَ ورئاسةَ التحرير الواثقة، ومجلسَ الأمناء الأفاضل، على إنتاجِ مجلةٍ فكريةٍ، غنيةٍ، متنوّعة،ٍ ورصينة، وهو ما عوّدتْنا عليه المجلةُ في أعدادِها الثمانية الصادرة، وهذا ما نرجوه في أعدادها القادمة، وما نأملُه من تعاونٍ وتفاهمٍ وسعةِ انتشارٍ في الداخل والخارج، مقدّرين النجاحَ والانطلاقةَ المبارَكةَ.

وقال إن في هذا التكريم تكريمٌ لأنفسِنا، كأسرةٍ متكاملة، وكفريقٍ واحدٍ، لا كفريقَين وختم  بأبيات شعرية جاء فيها:

ولائي للضحــــى قولٌ وفعـــــلُ على أملٍ مع الأحبـــاب  يَحلــو

أُؤمّلُ أن أرى صفحـاتِ مجدٍ يخُطُّ فصولَــها بالحقِّ نَصــلُ

وخيرُ معالمِ الصفحاتِ قولٌ يُفيـدُ وحكمــةٌ بالخيـر تجلـــــو

ونورُ مكارمِ الأخــــلاقِ بــــــادٍ وليــــلٌ ينقضي أبداً وجهْـــــــــلُ

لنهضةِ أمّةٍ، للأرضِ كانــــت لمعرفةٍ، ويحدو الركبَ فضـــلُ

ألا يا ربُّ باركْهـا لترقـــــــــــى ودربُ رُقيِّـها صعـبٌ  وسهـــــــلُ

بمجلسها الأمينِ تفوحُ طيبــاً يُحرِّرُ شهــدَهُ  المـأمولَ نحـــــــل

نُكرّمُهم وفي التكــريم حــــبُّ ونحـــنُ لديه بالتوحـيدِ أهــــلُ

 

سماحة‭ ‬شيخ‭ ‬العقل

بعد كلمة الإفتتاح ألقى سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن خطاباً تكريمياً جاء فيها: نرحِّبُ بكم في داركُم التي نسأل الله تعالى أن تبقى عزيزة، أبيَّة، شامخة بالحقّ، وحاملة على الدّوام لواء الكلمة الجامعة، والكلمة الطيّبة التي تستمدُّ معناها من توحيدنا الأثيل، وتراثنا الأصيل، لتكونَ دعوةً لجمع الشَّمل، ووحدة الصّفّ، بهَدْي العقل، وإشراق نيَّة الخير في الأفئدة، والتّطلّع إلى ما فيه المصالح الحيويَّة لعشيرتنا المعروفيَّة العريقة.

وأضاف الزَّكاةُ عند الموحِّدين أمرٌ واجب، ويُخطئُ البعضُ كثيراً حين يتناسون أنَّ معناها الأرحب والأشمل ترسَّخ في الأصول تحت خصلة: حفظ الاخوان. ولا يكونُ حفظٌ إلا ببذل المال والعِلم والقُدرة وما ملكت اليد، وما استفاض به القلبُ والعقل، إلى أخيه بكلّ معاني الأخوَّة واشتمالها العام. ومَن يعي هذا الأمر مبادِراً إليه، فهو مكرَّم ومُثاب، وليس لنا نحنُ أن نكرِّمه إلا بالشّكر والتقدير، ولكنَّ التكريم الحقيقي هو في خزائن الله المصانة في المحلّ الّذي لا يُبلى. ومَن يفتح الله تعالى قلبه على البذل والعطاء في مسالك الخَير، يكونُ هو السائر بتوفيق الله وبركتِه ورعايته ونِعم أجر العاملين.

وقال: أحيِّي أعضاء مجلس أمناء الضحى من هذا الباب وأشكر لهمُ مبادرتَهم وتضحياتِهم وسعةَ أفُق رؤياهم. حفلتالضحى بالكثير من المواضيع الدينيَّة والتاريخيَّة والأدبيّة والاجتماعيَّة بما يمكّنها أن تكون في بعض المواضيع توثيقيّة، خصوصاً في غياب نشرة تضاهيها في مجتمعنا. ولكن لا بدّ من قول ما لا بدَّ من قوله، إنّنا نتطلَّع إلى أن تخصِّصَ المجلة من صفحاتها ما يقارب عصرنا الحالي فكرياً وثقافياً عبر مفكّرين وعلماء وأساتذة جامعيّين لهم شأنهم، ليس فقط في طائفتنا، بل في لبنان والعالم الاسلامي.

 

كلمة‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير

الأستاذ رشيد حسن ألقى بعد ذلك كلمة نوّه فيها بالتعاون المستمر منذ إنطلاقة الضحى بين رئاسة التحرير وبين سماحة شيخ العقل الذي محضنا الثقة وكان على الدوام ناصحاً عن قرب وقارئاً حصيفاً مؤكداً أن تعاون سماحته وقبوله بالصيغة الجديدة التي اتفقنا أن تكون صيغة المجلة الثقافية وليس مجلة للعلاقات العامة كان أحد أهم شروط نجاح المجلة، وهو يدل على سعة أفق وعلى إدراك من قبله لدقة الظرف ولأهمية دعم المجلة وفقاً لخطة العمل التي قدمناها في نيسان 2010“.

وأضاف رئيس التحرير القول: لقد كان لنجاح الضحى آثاره ليس في لبنان فحسب بل في سوريا وفلسطين ولدى العديد من المثقفين من خارج الطائفة الذين قدروا المجلة وانفتاحها فحرصوا على قراءتها أو حتى الاشتراك بها.  وأودّ التذكير بأنالضحى تباع في جميع مكتبات لبنان من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ المجلة التي تكون متوافرة للقارئ العام ولا يقتصر توزيعها على أبناء الطائفة.

وتابع: لقد إخترنا الطريق الصعب وهو طريق التطوير التدريجي والسير بخطى متأنية في تنفيذ رؤيتنا الأصلية وهي رؤية الرقي في المادة وفي رسالة المجلة التنويرية وانفتاحها على الإرث الروحي والحضاري الغني والواسع لعالم التوحيد والإسلام والرقي السلوكي والقيمي.

 

كلمة‭ ‬مجلس‭ ‬الأمناء‭ ‬

الدكتور منير يحيى القى كلمة باسم مجلس أمناء المجلة أبدى فيها أمله في أن تشكل مجلة الضحى في خضم الواقع العربي المحكوم بالعصبية المذهبية والطائفية حالة فكرية حوارية في الداخل الدرزي دينياً ودنيوياً وفي علاقة الدروز مع المحيط الإسلامي والمسيحي.  ونوّه الدكتور يحيى بجهود المجلس المذهبي وعمل اللجان المتواصل الاجتماعية والفكرية والدينية وغيرها وكذلك بإنطلاقة مجلة الضحى ثم طرح السؤال: ما هو المطلوب من أجل تكامل كل تلك الجهود وإحداث صدمة إيجابية في واقع طائفة الموحدين الدروز خاصة وأننا أمام التجربة الثانية لمجلس مذهبي منتخب؟

ودعا إلى أهمية التطور بـ الضحى لتصبح موقعاً شبكياً متكاملاً يمكن للجميع الدخول إليه والتفاعل معه في كل الأقطار، مشيراً إلى التراجع المستمر لدور الصحف والمجلات أمام التطور غير المسبوق لمواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت في نقل الخبر والفكرة والمعلومة. وختم بالقول: كيف نستطيع أن نحول الضحى من مجلة إلى موقع تواصل ما بين أبناء الطائفة في ما بينهم مع اختلاف أجيالهم ومناطقهم ومواقعهم الاجتماعية وإمكاناتهم الاقتصادية وكذلك إلى موقع تواصل ثقافي يطال بآثاره التنويرية جميع المهتمين بالثقافة وبالقيم الروحية.

 

مجلس‭ ‬إدارة‭ ‬المجلس‭ ‬المذهبي‭ ‬للطائفة

رئيس المجلس سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن

أمين السر الاستاذ نزار البراضعي

أمين الصندوق الاستاذ فاروق الجردي

رئيس اللجنة الإدارية الاستاذ رامي الريس

رئيس اللجنة المالية الدكتور عماد الغصيني

رئيس اللجنة الثقافية الشيخ سامي ابي المنى

رئيس لجنة الأوقاف الاستاذ عباس الحلبي

رئيس اللجنة الاجتماعية الاستاذة غادة جنبلاط

رئيس اللجنة القانونية الاستاذ نشأت هلال

رئيس اللجنة الدينية الشيخ هادي العريضي

رئيس لجنة الاغتراب الاستاذ كميل سري الدين

مجلس‭ ‬أمناء‭ ‬مجلة‭ ‬الضحى

(مع حفظ الألقاب ووفق التسلسل الأبجدي)

ماجد أبو مطـــر – جمــال الجوهــري – رشيد حسن – محمود دلال – كميل سري الدين – سميح ضو – سليم عابد – دانيل عبد الخالق – علي عبد اللطيف – فريد فخر الدين – نديم مكارم – منير يحيى

نحن والأرض نكون أو لا نكون

“الأرض إرث للجماعة، بل نكاد نقول إنها وقف يحرم الإساءة إليه أو التفريط به، وأنَّ الموحِّد الأمين على إرثه وإخوانه مالك للأرض بالمعنى القانوني فقط، لكنّه في الوقت نفسه وكيل عليها لحساب الجماعة. ولأنَّ مبدأ حفظ الإخوان لم يعد ليستقيم في سلوك الموحِّدين من دون حفظ الأرض، فالواجبان هما واجب واحد لا يتجزَّأ في النهاية”.

في هذا العدد، تفتح “مجلة الضُّحَى” أحد الملفات الأساسية التي يتعلَّق بها وجود الموحِّدين الدروز ومستقبلهم في الجبل اللبناني بصورة خاصة. هذا الملف يتعلَّق بالنظرة المتغيّرة للموحِّدين عموماً ولأهل الجبل بصورة عامة للأرض، كما أنه يتعلَّق بالعلاقة اليومية الاقتصادية والعاطفية، بل والروحية التي تربط الموحِّدين بالكيان المادي والتاريخي الذي ترعرعوا في جباله ووديانه وتغذُّوا من خيراته وتباهوا بجماله، واحتموا بأعماقه وتوارثوا مداه الواسع جيلاً بعد جيل. هذه العلاقة الروحية بين الموحِّدين الدروز وبين ما حباهم الله به من نِعَم تبدَّلت بصورة أساسية نتيجة مجموعة من التطوُّرات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك نتيجة لتبدُّل نظام القيم وأسلوب العيش وطموحات الناس، وتحوَّلت الأرض نتيجة لذلك من رأس مالٍ اقتصادي ومصدر للرزق إلى “عقار” أو ملك عقاري يقاس بالأمتار ويعتبر في حدِّ ذاته وليس في وظيفته الطبيعية ثروة لأصحابها. ثروة نائمة أو مختزنة إلى حين تتاح فرصة بيعها واستخدام حصيلة البيع لتمويل حاجات أخرى لا علاقة لها غالباً باقتصاد الأرض.
يخطئ من يعتقد أنَّ هذا التحوّل في العلاقة بين الموحِّدين الدروز والأرض، وبغضِّ النظر عن الأسباب الكثيرة التي قادت إليه، هو مجرد تطوّر اقتصادي، لأنّه في هذا التبدُّل بالذات يمكن أن نجد الجذر الحقيقي لأكثر المشكلات والتحدِّيات التي تواجه الموحِّدين الدروز اليوم، ولاسيما الأجيال الشابة منهم، لأنَّ الأرض لم تكن فقط مصدر العيش اليومي للموحِّدين وأهل الجبل، بل كانت المرتكز الحقيقي لوجودهم والمصدر الأول لعناصر القوة التي توفَّرت لهم وحمتهم عبر السنين. ومن أهمِّ عناصر القوَّة التي ارتبطت بالأرض:

الاكتفاء النسبي: إذ إن كل ما يحتاجه سكان الجبل كان ينتج في الجبل باستثناء بعض المحاصيل التي كان يتم استيرادها من بعض المناطق المجاورة مثل: القمح، وبعض الحبوب، والتي يتم إنتاجها بصورة أفضل في السهول. لكن بصورة عامة كان تركُّز الاقتصاد الزراعي حتى في صورته البدائية أحياناً يجعل الجبل وحدة اقتصادية على قدرٍ عالٍ من الاكتفاء. أما الآن فقد بات سكان الجبل مرتهنين حتى في عيشهم اليومي بوسائل النقل التي تنقل السلع الغذائية حتى تلك التي يمكن أن تنمو في مناطقهم من هنا أو هناك، وبات أي طارئ أو أزمة يفرغ المحلاَّت من كلِّ شيء في تراكض الناس الهلع على خزن ما يمكنهم خزنه.

الاستقلالية: كان الاكتفاء الاقتصادي النسبي مرتكزاً مهماً لاستقلالية الجبل وقدرته على مواجهة المخاطر والتحدِّيات التي تهبُّ على البلد بين الحين والآخر. وقد تمكّن أهل الجبل من مواجهة شتَّى أنواع الحصار والحملات بفضل العمق الاقتصادي الذي تمتَّعوا به، نتيجة اشتغالهم بالزراعة وببعض أنماط التربية الحيوانية. وقد شهد الجبل بالفعل حروباً وأزمات طويلة وحصاراً وتقطّعاً في السُبل، فلم يشعر أهله في الماضي بأيِّ ضنك يذكر، ومرّت تلك المِحَن عليهم وبالكاد أثَّرت على استمرار عيشهم.

التعلُّق بالأرض: كان اشتغال الموحِّدين الدروز بالزراعة الأساس المادي الأهمّ لتعلَّقهم بأرضهم واستماتتهم في الدفاع عنها، لأنها ليست فقط موطنهم وموئلهم العاطفي، بل لأنَّها أيضاً مصدر رزقهم وثرواتهم ومصدر اعتزازهم. لكن هل سيبقى الحال نفسه إذا باتت مصادر رزق ثلاثة أرباع الناس تأتي من الوظيفة العامة، أو من تحويلات الأبناء المغتربين في الخارج، أو من عائد الأموال أو ما شابه؟ أَلَم يصبح الخيار الأول الآن للكثيرين عند أول نازلة التوجُّه إلى المطار أو تقديم طلب هجرة في إحدى السفارات الأجنبية؟

العمقُ الجغرافي: وفّرت الأرض للموحِّدين الدروز عمقاً جغرافياً أثبت في جميع الظروف وعلى مرّ الأزمان أنه ميزة استراتيجية مهمة في حالات القلاقل أو الحملات الخارجية التي هبَّت على الجبل، وغالباً ما سامت أهله الكثير من الضنك والمتاعب والأثمان البشرية. وهذه النظرة للأرض راسخة في لاوعي الموحِّدين، وهي التي تُفسِّر ردَّ الفعل السريع والحاد الذي يظهرونه في الحالات التي يشعرون فيها بتهديد للمدى الجغرافي الذي يحوّطهم ويوفِّر لهم الأمان النفسي وأمن أُسرهم وأطفالهم. ولا ننسى أنَّ المجتمع اللبناني مجتمع حديث النشأة وغير مكتمل بعد كدولة؛ كما أنه – وكما أثبت تاريخه الطويل- عُرضة للعواصف والتقلُّبات التي تهبُّ عليه وتحول دون اكتسابه لحالة نهائية من التطوّر المجتمعي الحقوقي تتمثَّل بدورها في دولة قوية وقادرة على رعاية شؤون مواطنيها كافة. وبالطبع، فإنَّ استمرار الطابع الانتقالي في الحالة اللبنانية يجعل الموحِّدين الدروز على حذر دائم، كما تظهر بوضوح الأهمية التي يعيرونها للأرض ولكيانهم الجغرافي باعتباره الشيء الوحيد الذي ثبت وصمد للزمن في وقت لم يعرف الموحِّدون أي ثبات حولهم، لا في الماضي ولا في الحاضر.

الحياةُ البسيطة والصحيَّة: من أكبر نِعَم الحياة الزراعية وبيئة القرية كانت ولا شك الحياة البسيطة التي عاشها أسلافنا، وكانت في أساس الصحة والعافية التي كانت تُكلِّل وجوههم وتُعينهم على القيام بأكثر الأعمال مشقَّة. وقد كانت هذه الحياة البسيطة المعافاة بوليصة تأمين صِحيَّة مجَّانية ومشفى وصيدلية ومنبعاً للراحة النفسية. فأين هي هذه النِعَم الآن في حياتنا البعيدة عن الأرض؟ لقد حرمنا وبتنا نسعى عبثاً لشرائها ونتكبَّد الأموال من أجل نيلها لكن غالباً من دون نجاح حقيقي.

الإرثُ الرُّوحي والقِيميّ: رافقت حياة البساطة المرتبطة بالأرض وحياة القرية سكينة ووداعة كنا نختبرهما في السَّابِقِين الذين عاشوا تلك الفترة من عمر الجبل، ونظام قيم واضح يقوم على القناعة والعفاف والصدق في التعامل وحُسن الخُلق والتوكُّل الحقيقي على الله في الرزق، فلا طمع ولا غِشٍّ ولا لُهاث وراء المال بكلِّ السُبل. وكان الناس ينالون نصيبهم في طمأنينة الرضى من دون مشقَّة، وكانت البركة شاملة للجميع. ومن هذا الإرث الرُّوحي العنفوان وحسّ الكرامة وكذلك قيم التعاضد بين الموحِّدين، لأنَّ الزراعة في طبيعتها وحياة القرية عمل تعاوني، وهي نشاط يشترك فيه أعداد من الناس ويلتقون بعضهم يومياً ويتفاعلون، فكانت الأرض بالتالي الجامع الحقيقي للموحِّدين ومحرابهم، وكان العمل بشعور الرضى والتسليم صلاتهم والبوتقة التي تجمعهم وتوحِّد بينهم.

خلاصةٌ

الأرض نعمة الله أسبغها على الموحِّدين لتكون لهم معيلاً وملجأً وملهماً، وقد حفظ الله الموحِّدين الدروز عبر التاريخ طالما كانوا محافظين على تلك النِعمة وشاكرين الله عليها، ولا يكون الشكر إلاَّ برعاية النعمة واحترامها وإدراك حِكمة المولى في تيسيرها.
الأرض إرث للجماعة، بل نكاد نقول إنَّها وقف يحرم الإساءة إليه أو التفريط به، وأنَّ الموحِّد الأمين على إرثه وإخوانه مالك للأرض بالمعنى القانوني فقط، لكنَّه في الوقت نفسه وكيل عليها لحساب الجماعة. ولأنَّ مبدأ حفظ الإخوان لم يعد ليستقيم في سلوك الموحِّدين من دون حفظ الأرض، فالواجبان هما واحد في النهاية.
بهذه الروح، وانطلاقاً من هذا التعريف للأرض وهذا الإدراك الأوسع لمكانها في وجودنا وفي إرثنا الاجتماعي والروحي، تبدأ “الضُحَى” في تسليط الضوء على هذا الموضوع من جوانبه المختلفة، كما تبدأ سلسلة من الحوارات والمبادرات الهادفة لجلاء الخيارات العملية المتاحة لمجتمعنا في سعيه للحفاظ على هذا التراب المُعطَّر ببركة الآلاف من المجاهدين والصالحين والأسلاف الكادحين. ونحن نعلم أننا في هذا الجُهد المتواضع إنَّما نُعبِّر عن شعور العديدين من أصحاب الغيرة والبصيرة والإرادات الطيِّبة. نسأل الله أن يُسدِّد خُطى هذه الأُمة الشريفة لما فيه الخير والصالح المشترك، ونرجو من الإخوة القرّاء وكافة الفعاليات أن يتابعوا المواضيع التي سيتمّ طرحها وأن يساهموا فيه اقتراحاً أو تعليقاً أو بعرض تجاربهم الشخصية.

بذور الموســــم الواحــــد وخطــر انقـــراض الأجنــــاس البلــــدية

إحدى الظواهر الملفتة في الزراعة الجبلية هي النمو المستمر عاماً بعد عام لقطاع البذور المهجنة، التي يتم استخدامها غالباً باعتبارها بذوراً محسنة ويجري بيعها بأسعار مرتفعة. معظم هذه البذور من إنتاج الشركات الأجنبية مثل «مونسانتو» و»دوبون» اللتين اتجهتا في العقد الأخير لزيادة الأبحاث في تطوير بذور زراعية معدلة وراثياً وبيعها باعتبارها نوعيات محسنة وأفضل من البذور التقليدية التي كان المزارعون يحتفظون بها من عام إلى عام عبر تجفيف الخضار التي تنتج عنها. وقد كان تجفيف الخضار بغية استخراج البذور المفيدة لزرعها في الموسم التالي كان عادة متوارثة بل كان المصدر الأهم تقريباً للبذور المستخدمة من المزارعين.

يذكر أن هذه البذور كانت تستخرج من المنتجات المحلية الموروثة من مئات السنين مما يمكن أن يوصف اليوم بالمنتجات البلدية، وعلى الرغم من أن بعض هذه البذور أو الأنواع استقدم أحياناً من الدول المجاورة أو غيرها إلا أن المهم هو أنها كانت في مجموعها منتجات طبيعية وبنت بيئتها ولم يدخل عليها أي تعديل عبر السنين.
لكن منذ مطلع التسعينات، ومع تقدم علم التعديل الوراثي للنباتات وتطور وسائل السيطرة على الجينات الوراثية، بدأت الشركات الأجنبية في أميركا وكندا وأوروبا تجرب أبحاثاً مكثفة على بذور جديدة قيل يومها أنها تساعد على مقاومة العوامل المناخية والجفاف أو مقاومة الأمراض والآفات التي تصيب المواسم، وتمّ في غضون سنوات قليلة تطوير بذور زعم أنها تمتلك تلك الصفات وأنها إضافة إلى ذلك تعطي محصولاً أفضل من البذور التقليدية. لكن من أجل حماية حقوقها التجارية قامت تلك الشركات بتعديل البذور الجديدة بحيث لا يمكن استخدامها إلا لموسم واحد، وبحيث يترتب على المزارع شراؤها كل سنة من تلك الشركات. كيف قامت الشركات بذلك؟ استخدمت علم التعديل الوراثي والتلاعب بالجينات لتحقن تلك البذور وغالباً عن طريق تعريضها مادة التتراسيكلين (وهي مضاد حيوي قوي)، بحيث تنتج ثمرة لا يمكن الاستفادة من بذورها أو تنتج بذوراً (في حالة القمح مثلاً) يمكن طحنها واستهلاكها لكن لا يمكن استخدامها كبذور لأنها عملياً عقيمة ولا يمكن أن تنبت محصولاً جديداً. هذه البذور أطلق عليها أسماء مثل البذور المحكومة بالموت أو البذور الذاتية التدمير.

ماذا وراء هذه التقنيات الجديدة؟

يعتقد الكثيرون أن شركات عملاقة، مثل مونسانتو ودوبون وغيرهما، تسعى عن طريق هذه البذور للسيطرة على القطاع الزراعي وارتهان المزارعين في العالم، لأن شيوع استخدام تلك البور يعني أن المزارعين (خصوصاً في الدول الفقيرة) سيحتاجون في كل عام لشراء البذور المهجنة من تلك الشركات لأن المحصول الذي يجمعونه كل عام لا يمكن استخدامه مجدداً كبذور، لكن مخاطر هذه التقنية على العالم الثالث لا تتوقف عند هذا الحد بل تمتد إلى النواحي المصيرية التالية:
إن البذور المهجنة معدلة وراثياً. وقد نشأت مخاوف حقيقية من أن تؤدي عملية التلاقح بين البذور المعدلة وراثياً وبين النباتات التقليدية التي قد تكون مزروعة في جوارها إلى انتقال خاصية العقم إلى النباتات المحلية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انحسار النباتات الوطنية الأصلية، وبالتالي التسبب بكوارث بيئية لا أحد يعرف مداها. وقد شبه الكثيرون من معارضي البذور المعدلة وراثياً بأسلحة الدمار الشامل واتهموا الشركات الغربية والحكومات التي تدعم تلك الشركات في الولايات المتحدة وكندا بأنها تستخدم وسائل أقرب إلى الأسلحة البيولوجية للسيطرة على العالم من خلال السيطرة على مصدر عيش الناس وخصوصاً المزارعين والفلاحين.

أوروبا وعدد كبير من البلدان تحرّم استخدام البذور المعدلة وراثياً بسبب أثرها في تلويث البيئة الزراعية وتهديد الأجناس المحلية

إن نشر البذور المهجنة والمعدلة وراثياً يمكن أن يؤدي إلى إدخال محاصيل منمطة تقضي على التنوع الزراعي والبيئي. وعلى سبيل المثال، فقد سعت شركة مونسانتو الأميركية لإدخال ثمرة الباذنجان الهندي المعدلة وراثياً، ووجهت بانتفاضة شاملة من قبل المزارعين والحكومات المحلية، الأمر الذي اضطر الحكومة الهندية في العام الماضي إلى تجميد المشروع. وقد لفت أحد الخبراء الهنود يومها إلى أن الهند تحتوي على أكثر من 300 نوع من الباذنجان الجيدة النوعية، الأمر الذي يجعل من المستغرب محاولة إدخال نوع جديد لا يعلم أبداً الأثر الذي يمكن أن يحثه على الزراعة الهندية. 

يذكر أن الأمم المتحدة كانت قد صوتت بمنع استخدام البذور المعدلة وراثياً وراثياً وذاتية التدمير Seeds with terminator genes ، وقد وعدت الشركات الأميركية يومها بتأجيل طرح هذا النوع من الحبوب في السوق. لكن الوقائع أثبتت في ما بعد أن الشركات مستمرة وبالتعاون مع الحكومة الأميركية في محاولة إدخال هذا النوع من البذور على شكل “مساعدات إنسانية” للمزارعين خصوصاً على أثر تعرض بلد معين لكوارث طبيعية. وهذا ما حدث في هايتي مؤخراً التي تعرضت إلى زلزال مدمر سارعت على أثره الحكومة الأميركية للدفع بمساعدات كبيرة كان من بينها مئات الأطنان من القمح المعدل وراثياً ولا يمكن استخدامه إلا لإنتاج محصول واحد. والملفت أن المزارعين المنكوبين في هاتي رفضوا استلام هذا القمح وهددوا بحرق الشاحنات في حال شحنها إلى بلادهم، هذا الأمر نفسه حدث مع باكستان ومع دول أفريقية فقيرة وقد رفضت كل هذه الدول إدخال هذا النوع من الحبوب الذي صوتت الأمم المتحدة على منعه، كما أن كافة الدول الأوروبية تحرم استخدامه أو استيراده إلى أراضيها.

ما الذي يعنينا في الجبل من هذا الموضوع؟

إن الضجة القائمة في العالم حول التلاعب بالجينات الوراثية للنباتات مهمة جداً لنا، لأن الشركات المهيمنة على هذا المجال تسعى لدخول كافة الأسواق لبيع منتجاتها وجعل المزارعين مضطرين لشراء بذورها سنة بعد سنة وبأسعار باهظة تبررها هذه الشركات بكون المحصول الذي توفره تلك البذور أعلى من حيث النوعية والإنتاجية من البذور التقليدية. وما ينطبق على الهند أو بلدان أفريقيا أو غيرها ينطبق أيضاً على لبنان وبلدان العرب التي تعتبر سوقاً كبيرة للبذور.
إن المحاذير التي كانت في أساس تحريم البذور المعدلة وراثياً في أوروبا وعدد كبير من البلدان ما زالت قائمة، وهي تطاول ليس فقط بذوراً إستراتيجية مثل القمح والأرز والذرة وغيرها، بل تمتد لتشمل كل ما هو معدل وراثياً من البذور بما في ذلك بذور الخضار التي باتت دائرتها تتسع عندنا سنة بعد سنة، لأن تلك النباتات تزرع أحياناً إلى جانب نباتات محلية متوارثة ولا أحد يعلم ما هو نوع التأثير التبادل عن طريق التلقيح وتطاير الخصائص الجينية لتلك المنتجات عبر الهواء إلى حقول أخرى قريبة أو بعيدة.
إن لبنان والجبل كان يحتوي على أنواع عديدة ومجربة من الخضار المحلية أو “البلدية” التي وصلت إلينا من أسلافنا وقد نعمنا بإنتاج تلك البذور من الخضار والفاكهة جيلاً بعد جيل، وكان الفلاحون يستخرجون كل عام بذوراً طبيعية ومن إبداع الله الرزاق ويخزنونها للعام التالي. أما الآن فإن البذور المهجنة أو المعدلة وراثياً بدأت تتسلل إلى الجبل سنة بعد سنة، بحيث بات من الصعب في بعض الحالات إيجاد بذور الأجناس التاريخية والبلدية التي تشكل ثروتنا الزراعية والطبيعية. وهنا يظهر الخطر الأساسي للبذور المهجنة وهي أننا وعبر تعميم استعمالها على الجميع سنة بعد سنة وقبولها كأمر واقع قد تنتهي بنا إلى اختفاء سلالات بكاملها من الخضار البلدية والمنتجات التي تعتبر في أصل الثروة الطبيعية لبلادنا، فضلاً عن ذلك فإن هذا الواقع سيعني في المستقبل بأنه ما لم نتمكن من استيراد البذور المهجنة من الشركات الأجنبية في عام معين فإننا لن نجد في الجبل بكامله بذوراً من السلالات البلدية يمكن استخدامها عند الحاجة.
إن المحاذير التي ذكرناها تتعلق بالأمن الغذائي لمنطقة الجبل، كما تتعلق بالأمن الغذائي لكافة المناطق في لبنان أو سورية أو غيرها من البلدان النامية، ولا بد بالتالي من طرحها كموضوع ملح على المختصين والتداول في محاذيرها والإجراءات الاحتياطية الضرورية لاحتواء تلك المخاطر. ولا يعتقدن أحد أن خطر انقراض سلالات وأجناس نباتية محلية بكاملها أمر افتراضي، لأن هذا الأمر سيحصل إلى حد كبير في حال استمر نمو استخدام البذور المهجنة على المنوال الحالي.
الأمر المهم هنا هو أن غذاءنا يصبح يوماً بعد يوم مرتهناً ليس بإرادتنا نحن وبعطاء الطبيعة التي أكرمتنا وتعهدت حاجاتنا عبر السنين بل بشركات أجنبية لا يعرف الإنسان ما الذي يمكن أن يحصل لها أو لسياساتها في المستقبل. وقد تختفي تلك الشركات أو يفرض عليها قيود أو سياسات جديدة تمنعها من توريد منتجاتها، أو قد يحصل من الظروف ما قد يحول دون وصل تلك البذور المهجنة إلينا فكيف سيكون حالنا في مثل تلك الظروف القاهرة؟

وما العمل في تلك الحال؟

إن الخطوة الأولى والأهم هي قيام مبادرة لإنشاء بنك لبذور المنتجات البلدية غير المهجنة، وهي التي يمكن استخراجها من المحصول وخزنها لاستخدامها ثانية في الموسم التالي. كما أنها الوسيلة الأنسب للحفاظ على ثروتنا النباتية الأجناس البلدية المتوارثة، والتي لم تعبث بها أيدي المختبرات السوداء في الشركات التي تخطط ليل نهار لجعل المزارعين رهائن لإنتاجها ومصدراً لزيادة أرباحها.
إن الخطوة التالية هي إقناع المزارعين بالتخلي عن استخدام البذور المهجنة لأن مخاطرها على مستقبلنا الزراعي حقيقية في وقت ليس واضحاً ما هي الفوائد التي تقدمها أو ما هي مصداقية الميزات العديدة التي تنسبها الشركات لها. وكلنا يذكر أن إنتاجنا البلدي كان يتميز بالقوة والخضرة والطعم اللذيذ ولم يكن هناك من الأساس أي حاجة لاستبداله بهذه البذور الممسوخة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
إننا نهيب أيضاً بالتجار والمتعاملين بالبذور أن ينضموا إلى هذا الجهد، وأن يدركوا أنهم معنيون به فلا يسعون بالتالي إلى الترويج القوي لهذا النوع من البذور بل أن يكون لديهم على الأقل البذور التقليدية إلى جانب المهجنة بحيث يكون الخيار متاحاً أمام المزارع لاستخدام أي منها.

أهمية وجود مطمر تخمير الأعشاب في بساتين الجبل وحدائق المنازل

في هذا العدد تفتتح مجلة “الضُحى” باباً خاصاً يتعلَّق بالثقافة الزراعية وثقافة البيئة، وتبدأه هذه الحلقة الخاصة عن كيفية صُنع مطمر تخمير الحشائش وتحويلها إلى تورب Compost والإفادة منه في الزراعة الجبلية.

كثير من الناس سيفوته مغزى هذا النداء، إذ بات الجميع ينظرون إلى الحشائش على اعتبارها عبئاً وإزعاجات ينبغي التفكير بكيفية التخلّص منه، وبالنظر الى تراجع ثقافة الزراعة والحدائق وانشغال أكثر المالكين في أمور كثيرة وبالنظر الى ارتفاع تكلفة العمالة الزراعية، فقد اتجه الناس في اتجاه خاطئ لتخلّص من تلك الثروة الخضراء وفاتهم أنَّ هناك العديد من الوسائل لتحويل الحشائش إلى ثروة حقيقية عن طريق تخميرها وتحويلها إلى تورب زراعي بدل رشِّها بالمبيدات أو حرقها، كما يتمّ في حالات كثيرة.
في سابق الأيام كانت للأعشاب وظيفة اقتصادية مهمة، بحيث كان يتمّ للتخلّص منها يدوياً بهدف تقديمها كعلفٍ للماشية التي كانت أغلب البيوت تحتوي على واحد أو أكثر منها على الأقل، مثل: البقر، والماعز، والحمير؛ وفي حالات أخرى كان يتمّ ترك الماشية لترعى تلك الحشائش تحت رقابة المالك. كان ذلك ما يمكن اعتباره عهد السلسلة الزراعية المتكاملة، بحيث لم يكن هناك شيء تعطيه الأرض يذهب أو يتلف من دون الإفادة منه.

لكن مع انحسار الاهتمام بالماشية المنزلية فقدت الحاجة إلى استغلال الحشائش، وتسلَّلت من ذلك الباب المبيدات العشبية، ثمَّ ظهرت الآلات المحمولة لقطع الحشيش والتي تتميَّز بفعالية كبيرة لكنها مرتفعة الثمن وتستخدم العمالة والوقود المكلف أيضاً.
يجب الإقرار أولاً بأنَّ استخدام الحشائش كعلف للماشية لم يعدّ كافياً للتخلّص من الكميات الكبيرة التي تنتجه الطبيعة منه في كلِّ ربيع وأحياناً مرتين في العام. وذلك عائد لواقع أنّ الناس انقطعوا عن اقتناء الماشية والإفادة من خيرها، غالباً بسبب هيمنة نظرة الاستعلاء على أسلوب الحياة التقليدي للمزارع وحلول السوبر ماركت كبديل سهل لتأمين احتياجات الغذاء اليوميَّة.
لكن إذا كان استخدام أطنان الحشائش كعلفٍ لم يعدّ عملياً، فإنَّ رشِّها بالمبيدات ليس حلاً لأنَّ الاستخدام الواسع لها له محاذيره الكثيرة لأنَّه مبيدات جهازية، ولأنَّها تلوِّث البيئة ومجاري المياه الجوفية، ولأنَّها قد تؤدِّي إلى خلق حشائش مقاومة للمبيدات ولا يمكن التخلّص منها بتلك الطريقة في المستقبل.
من هنا يطرح الحلّ الأمثل لإعادة استخدام الحشائش في الجبل، وهو تخميرها وتحويلها إلى تورب زراعي مفيد جداً لتخصيب الأرض وتحسين نوعية التربية وزيادة البكتيريا المفيدة فيها، وهو ما يؤدِّي إلى خصوبة عالية وإلى محاصيل ممتازة للفاكهة أو الخضار.

نذكر هنا أنَّ تخمير أوراق الأشجار اليابسة والحشائش البريَّة يعتبر أمراً طبيعياً في حياة المزارعين في شتَّى أنحاء العالم، وهو منتشر في الخارج أولاً لأنَّ له فوائده الكبيرة، وثانياً لأنَّه غير مكلف البتة، كما أنه سهل التطبيق ولا يحتاج إلى خُبرات أو تقنيات خاصة.

أولاً: ما هو تخمير الأعشاب والمواد العضوية؟
تتحوّل بقايا النباتات إلى تورب Compost، عندما تتحلَّل تلك هي وغيرها من المواد العضوية، وتتحوّل بعد مُدَّة من الزمن إلى ما نعرفه بـ “التورب” الزراعي، وهي مادة بنية داكنة أشبه بالتراب، لكنَّها أخفّ بكثير منه وتتميّز أيضاً بأنها غنية بالبكتيريا المفيدة للتخصيب وبموادٍ آزوتية وتساعد على تهوئة التربة والاحتفاظ بالرطوبة لفترة أطول نسبياً. إنَّ استثمار بقايا النبات في صُنع التورب فضلاً عن فوائده العظيمة للتربة وللموسم الزراعي، ينسجم مع اتجاه الناس في كلِّ مكان لإعادة استخدام المواد النباتية العضوية في وجه يُسبِّب الفوائد الجَمَّة للأرض وللمزارعين. ولن نتحدَّث هنا عن تدوير النفايات المنزلية، فهذا موضوع آخر قد نتطرق اليه في المستقبل ويختلف عن تخمير البقايا النباتية للطبيعة.

متى نبدأ عملية التخمير؟
أهمُّ فترة لعملية تخمير النباتات الطبيعية هو فصل تكاثر الحشائش في الربيع لكن قبل أن تبلغ النبات البريَّة مرحلة البلوغ، وبالتالي تكوين البذور لأنَّها في تلك الحال ستحمل الكثير من بذور الحشائش البريَّة إلى مطمر التورب، وهذا يعني أنَّه من الأفضل البدء بتكوين كومة التورب باكراً وأنَّ على المزارع أن يراقب مراحل نموّ الحشائش.
يدخل في كومة التورب أيضاً ما يكون قد جمع في فصل الخريف من أوراق الأشجار المتساقطة، خصوصاً الكرمة والفاكهة وغيرهما من الأشجار، وكذلك ما قد يتجمَّع تحت أحراش السنديان والملول من طبقات من الأوراق اليابسة والتي تكون عملياً في طور التحلُّل بصورة طبيعية. لكن الكمِّية الأكبر التي سيتمّ الحصول عليها هي، ولا شكَّ في الربيع، حيث يمكن حصد الأطنان من تلك الحشائش من الحقل وجمعها بهدف تخميرها. ولا ننسى بقايا شتول الخضار في آخر الصيف وما ينتج عن قلع موسم البطاطا، أو ما قد يتمّ جمعه من الدكان من خضار تالفة.
المهم ألا يضاف إلى كومة التورب الأغصان اليابسة والقاسية لأن تحلّلها يطول سنوات، كما أنَّ وجودها يفقد التورب نعومته ويعرقل “حصاده”، عندما يحين الوقت لذلك، وهو غالباً ربيع العام التالي. ويحذر من إضافة المواد الحيوانية والشحوم والنباتات المصابة أو المريضة أو الضارة، مثل: النجيل، وغيره .

عناصر نجاح كومة التورب

يعتمد نجاح عملية تخمير النباتات وتحويلها على إيجاد البيئة المناسبة داخل كومة التورب، وخصوصاً الرطوبة و”الخميرة” المناسبة والهواء أو الأوكسجين، لأنَّ تحويل التورب يتم بواسطة ملايين وربما مليارات البكتيريا النافعة والكائنات المجهرية التي تبدأ على الفور بالتغذي على النبات وتحويله إلى المادة التوربية الخفيفة وداكنة اللون. وغالباً ما يؤدِّي العمل الهائل لهذه البكتيريات إلى ارتفاع حرارة كومة التورب إلى 70 درجة مئوية، وهذه الحرارة كافية لقتل ما يكون قد تسرَّب من بذور أعشاب ونباتات إلى الكومة، لكن الحرارة العالية موجودة في وسط الكومة وليس على أطرافها، وهذا هو أحد الأسباب التي تدعو المزارع إلى تقليب الكومة من حين إلى آخر، بحيث يدفع بالمواد الموجودة في الغلاف الخارجي للكومة إلى الداخل.
ويتمُّ الحصول على بيئة مناسبة داخل كومة التورب أو المطمر، عن طريق الحفاظ على توازن جيِّد بين العناصر الأربعة الرئيسية المكوِّنة لعملية التخمير؛ وهي:
– المواد الكربونية: وتأتي من الحشائش اليابسة.
– المواد الآزوتية: وتأتي بالدرجة الأولى من الأعشاب الخضراء والسماد العضوي.
– الرطوبة: ويتم توفيرها عبر رش المياه قليلاً على الكومة، إذا كانت مائلة إلى الجفاف، أو إضافة نسبة كافية من النباتات الخضراء.
– أخيراً هناك الهواء أو الأوكسجين الضروري لمدِّ البكتيريا العاملة على تحليل النباتات بالطاقة الحيوية لعملية التحليل.
التوازن يعني أنَّه من الأفضل أن لا تكون الرطوبة عالية (عبر الريّ الكثيف بالمياه)، لأنَّ ذلك قد يفسد التورب فيجعله لزجاً، كما أنه يقلِّل الهواء والأوكسجين اللازم للبكتيريا، كما أنَّ النيتروجين مصدر مهم للبروتين الذي تستخدمه البكتيريا وهو يأتي من النباتات الخضراء ومن السماد العضوي، لكن كثرة النيتروجين على حساب الكربون، قد تُفسد عملية التخمير.

يعتمد نجاح عملية تخمير النباتات وتحويلها على إيجاد البيئة المناسبة داخل كومة التورب، وخصوصاً الرطوبة و«الخميرة» المناسبة والهواء أو الأوكسجين

مواقع بناء كومة التورب

أفضل أنواع التخمير تلك التي تتمّ ضمن “خندق” طبيعي، أو يتمّ حفره وعند وجود حقول مترامية الأطراف، يجب على المزارع أولاً تعيين الأماكن المناسبة لإنشاء أكوام التورب ومن الأفضل اختيارها، بحيث يمكن تغطية الأرض وتخفيف عبء نقل الأعشاب من مكان إلى آخر.. وقد تقدم طبيعة الأرض نفسها تجاويف طبيعية يمكن استخدامها لجمع النباتات المراد تخميرها، لكن يمكن للمزارع ببساطة جمع التورب في أكوام أو “تلال” لكن فعالية عملية التخمير لن تكون نفسها.

بناء كومة التورب

يجب على المزارع بناء كومة التورب على شكل طبقات بسماكة 30 أو 40 سم لكل طبقة، وأن يفلش فوق كل طبقة خميرة التورب التي يمكن أن تكون مزيجاً من السماد العضوي، مثل: سماد الدجاج المنزلي (لا تستخدم سماد الدجاج الآتي من المزارع)، أو سماد الماعز أو البقر، الذي يضاف إليه التراب (مقدار تنكة أو أكثر حسب حجم الكومة)، ويفضل سماد الدجاج لأنه السماد العضوي الوحيد الذي يحتوي على نسبة عالية من الفوسفور (نحو 7 في المئة)، وكلَّما تمَّ جمع طبقة من الحشائش والنباتات بهذه والنباتات بهذه الصورة يجب ريّها بالمياه لإعطاء المزيج الرطوبة اللازمة لتحلُّل الخميرة وازدهار البيئة البكتيرية داخل الكومة وتكاثرها. ثم يبدأ بجمع الطبقة التالية من الحشائش والعناصر العضوية إلى أن يتمّ استهلاك الحشائش كلها، عندها يمكن أن تغطى الكومة بستار (شادر) بهدف زيادة الحرارة في الداخل وإطلاق عملية التحلُّل وتخفيف عملية تبخُّر الرطوبة، الأمر الذي قد يخل بالتوازن داخل الكومة لأنّ جفاف كومة الحشائش يؤخِّر عمل البكتيريا ويضعف تكاثرها. 

من المهم هنا أن تكون كومة التورب محتوية على مزيج من الحشائش والنباتات اليابسة والخضراء، وذلك بهدف الإبقاء على توازن الكومة لأنَّ النباتات الخضراء تحتوي على نسب عالية من النيتروجين، كما أنَّها تُسهم بتوفير الرطوبة للكومة ولعمل البكتيريا.
من المهم أيضاً اختيار موقع كومة التورب في مكان ظليل واجتناب المواقع التي تتعرّض للشمس معظم النهار.
العمل الأهم في تحليل كومة الأعشاب والنباتات تقوم به ملايين البكتيريا في المرحلة الأولى، وهذه يمكنها تحمُّل الحرارة العالية التي قد تصل في وسط الكومة إلى 70 درجة. لكن مع تقدُّم عملية التحلُّل تبدأ كومة التورب بخسارة حرارتها العالية، فتدخل في عملية التخمير عندها أنواع عديدة من الطحالب والفطريات والكائنات المجهرية. وفي المرحلة الأخيرة من التحلُّل والتخمُّر سنجدّ في كومة التورب حشرات مختلفة ودود الأرض وخنافس وغيرها، وهذه تأتي في المرحلة الأخيرة لتُسهم في عملية التفكيك والتحليل العضوي للكومة.

طريقتان للتخمير

هناك طريقتان معروفتان لتخمير التورب:
-1 التخمير البارد: حيث لا يحتاج المزارع إلى قلب الكومة في مرحلة التخمر أو تهويتها، وفي هذه الحال فإنَّ نضج التورب وحصاده يحتاجان إلى ما بين 6 أشهر أو سنتين.
-2 التخمير الحار: الذي يستخدم فيه قلب الكومة وتهوِئتها، وأحياناً إضافة بعض الرطوبة إليها يسرع في عملية تحليل المواد العضوية بحيث أن كومة التورب قد تصبح جاهزة في 6 أو 8 أسابيع.
إنَّ اختيار الطريقة المُثلى يتوقَّف على المزارع. إذا كانت الأرض تنتح  كمِّيات كبيرة من الحشائش، فإنَّ المزارع قد يختار تجميعها في أكوام أو خنادق عديدة ويصبر عاماً واحداً لحصاد الموسم الأول من التورب . وفي هذه الحال فإنَّ الحصاد قد يحصل في الربيع، بحيث يتمّ جمع التورب في أماكن مُخصَّصة له (من الأفضل جمعه في “كاراج” أو تخشيبة كبيرة في الحديقة)، وبحيث يتمُّ إخلاء الخنادق أو أماكن التخمير لتستقبل الأكوام الجديدة من الأعشاب والحشائش. وهنا فإنَّه من الأفضل الإبقاء على كمِّية من التورب وخلطها مع الأعشاب الجديدة لأنَّ ذلك يسرِّع في انطلاقة عملية التخمير.

متى يمكن “حصاد” التورب؟
يصبح التورب جاهزاً لاستخدامه في تحسين التربة عندما تتحلَّل الأعشاب والمواد العضوية تحلُّلاً تاماً، ويصبح التورب مثل التراب الخفيف وبلون البني الداكن أو المسوّد. ويُستدلُّ على نُضج التورب أيضاً من تراجع الحرارة في داخله، ممَّا يعني أنَّ عملية التخمير والإنضاج قد بلغت منتهاها.
ومن المهم عدم استخدام التورب غير الناضج في التربة لأنَّ البكتيريا التي لا تزال حيَّة في التورب غير المكتمل، ستدخل في تنافس مع البكتيريا المتواجدة في التربة، الأمر الذي قد يؤدِّي إلى مظاهر نقص في تغذية النبات.

كيف يستخدم التورب؟
إذا كانت الأرض تنتج كمِّيات كبيرة من التورب، فبإمكان المزارع فلشه على التربة بسماكة 4-8 سم ثم حرثه بحيث يختلط بالتربة مشكِّلاً طبقة من التراب الخفيف الذي يحفظ الرطوبة ويمرِّر الهواء، هذا فضلاً عن كونه مقوّى بعناصر التغذية والخصوبة التي يحتاجها النبات. مثل هذا التراب ينتج محاصيل متفوِّقة وممتازة من حيث النشاط والنموّ وقوَّة الثِمار. وأكثر ما يفيد هذا الأسلوب في الأرض الفقيرة أو الدلغانية التي تحتاج إلى تحسين تركيبتها العضوية وخصائصها البيولوجية. وفي هذه الحالات فإنَّه من المفيد إضافة السماد العضوي إلى التورب قبل حرث التربة، والحصول تالياً على مزيج متوازن وغني للزرع. تجدر الإشارة إلى أنَّ الاستخدام المُتكرِّر للتورب في تخصيب وتعديل تركيبة التربة يؤدِّي مع الزمن إلى تربة سوداء ناعمة وغنية وسهلة المعاملة، وهو ما سيشكِّل أفضل مكافأة للمزارع الصبور والمثابر.
في الحالات التي يكون فيها إنتاج التورب محدوداً يمكن للمزارع تركيز

عن الاغتراب والعلاقة بالوطن

يستعدّ لبنان لحدث مهم يتمثل بانعقاد أول مؤتمر عالمي للمغتربين من طائفة الموحدين الدروز، وذلك بهدف التداول في الشؤون التي تهمّ مجتمع الاغتراب والعلاقة التي يجب أن تقوم بينه وبين الوطن الأم. في هذا المجال لا بدّ لنا من إبداء ملاحظات يرجى أن تساهم في تطوير الحوار والتفهم الإيجابي بين المغتربين وبين أهلهم ومرجعيتهم في الوطن.

أولاً:

أي حوار بين عالم الاغتراب وبين الوطن يجب أن ينطلق من تفهم الطرفين لواقع أن عالم الاغتراب يختلف عن وطن الأجداد. وأنه وعلى الرغم من التقارب المستمر بين المجتمعات فإن الفروقات تبقى كبيرة بين البيئة الجماعية والثقافية والدينية التي يعيش فيها الموحدون الدروز في الأوطان المشرقية وبين مجتمعات المهجر التي يقع معظمها في البلدان الغربية. فإن أصل الفروقات قائم في اختلاف المجتمعات وتباعد المسافات والتأقلم، بل في الاندماج بثقافة البلد المضيف في غياب الصلة اليومية والمنتظمة ببيئة التوحيد وممارساته اليومية على الأرض.

ثانياً:

إن هيمنة النظرة الليبرالية للأديان وتفشي عادات الترخيص والاستسهال في الدول الغربية خصوصاً، تجعل بعض الإخوان في المغترب يرون في تمسك موحدي الوطن بالأسس وحذرهم من فوضى الأفكار نوعاً من الجمود أو التقصير في مجاراة الزمن. والعديد من المغتربين يعتقدون مثلاً أن مصلحتهم من أجل تحصيل القبول في مجتمعهم الغربي أن يجاروا تلك المجتمعات أو ما يسمونه التطور وغير ذلك. وقد رأينا بعض الكنائس الأميركية تعاني الأمرين من ضغوط أهل الترخيص والبدع إلى حد فرض سيامة الكهنة النساء أو الشاذين، بل الذين يباهون بشذوذهم. والمشهد الديني في معظم بلاد الغرب محزن لأنه يتسم بالفوضى وبإحلال اجتهادات بعض الأدعياء محل الأوامر السماوية وأسس المعتقد، وعلى إخواننا المغتربين أن يدركوا أنهم يعيشون في مجتمع متأزم لم يعد فيه ثوابت تذكر ولم يعد صالحاً للاقتداء به خصوصاً في أمور العبادة. وفي هذه الحال، فإن قبلتهم ومحط ثقتهم وطمأنينة قلوبهم لا بد وأن تكون مرجعية أهل الحق الذين حفظوا قيم التوحيد وصانوها من كل تشويه على مرّ القرون.

ثالثاً:

إن أساس المرجعية الروحية في الوطن قائم في كون هذا الوطن موطن التوحيد وموئل أهله عبر القرون والدهور، ولا يمكن في الحقيقة الفصل بين عقيدة التوحيد وبين مجتمع التوحيد لأنه لا توحيد من دون أهل التوحيد الذين يحفظون أمانته وينقلونها من جيل إلى جيل. ومن أراد النظر إلى عقيدة التوحيد فليدع الكتب ولينظر إلى مجتمع التوحيد ومن أراد الاستزادة في مسلك التوحيد ومعرفة أصوله فليعد في ذلك إلى الأصل وليهمل ما عداه.(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ( سورة الأنبياء:43). على العكس من ذلك، فإن بعض الأديان العريقة تراجع تأثيرها في الغرب واندثر الكثير من حقيقتها الأصلية لسبب أساسي هو اندثار الجماعات المؤمنة التي تتمسك بالدين وتتناقل وصاياه ومقتضياته من جيل إلى جيل. وهذا مثال آخر على أن الدين يبقى ما بقي أهل الدين والمتبعون لوصاياه وتعليمه، حتى إذا تفرق شمل جماعة المؤمنين وضعف شأنها واجتاحتها الأهواء والتأثيرات الدخيلة انحل الدين من تلقاء نفسه وجرى عليه التحريف والتغيير حتى لا يبقى منه في النهاية إلا الاسم من دون المسمى.

رابعاً:

مغزى هذا القول إن على إخواننا المغتربين توخي الحيطة في اتّباع ما قد يظهر من أفكار واجتهادات. ويعتقد البعض أن فيها تسهيلاً ومراعاة لظروف الاغتراب وبعده عن الوطن، مما قد يبرر للبعض الميل نحو إنشاء كيانات أو مرجعيات تعنى بشؤون المغتربين وتساعد على توثيق عرى الأخوة ورابطة العصبية بينهم. هذا الدور مرغوب ولا شك في أمور الدنيا وفي بعض الأمور الحيوية مثل الأحوال الشخصية، لكنه في أمور العقيدة ليس مطلوباً ولا مرغوباً ولا ممكناً أصلاً لأن المعتقد لدى أهل التوحيد ينبع من اتفاق العقال وأهل الحل والربط ولم يكن في أي وقت مناطاً باجتهادات أفراد مهما علا شأنهم. وهل سمع أحدكم بأن أهل التوحيد ظهر بينهم مجتهد أو صاحب تقليد أو مذهب؟ وهل كانت العقيدة في أي وقت رهناً بمرجعية شخص أو علمه أو اجتهاده. بالطبع لا، ولهذا السبب فإن الموحدين الدروز يفصلون في أمورهم الدقيقة في اجتماعات شاملة تمثّل عموم العقال وأهل الرأي الراجح بينهم، كما يتناقلون أسس المسلك ويرتقون في منازله في إطار جماعة الإخوان وبمساعدتها وليس بالاجتهاد الشخصي فقط. ولهذا لم يشجع الموحدون الدروز قيام «العلماء» وأهل الكلام والبيان على نسق ما حصل لدى بعض المذاهب كما أنهم لم يجيزوا قيام كهنوت من أي نوع، كل ذلك بسبب تركيزهم على السلوك أكثر من اهتمامهم بالجانب النظري، لهذا يردد المشايخ دوماً «أدب الدين قبل الدين».

 

نـداء الــروح فــي عالــم صاخــب

في ظلِّ الفراغ الروحي المتعاظم أو الآخذ بظاهر الدِّين من دون لبِّه وجوهره الحقيقي، لا بُدَّ لـ “مجلة الضُحى” من لعب دور أساسي في ثقافة التوحيد ومناقبه وآدابه. وكم من الناس أصبح الدِّين عندهم تعلّقاً بالأماني وجموداً في الفِكر وتقصيراً في السعي؛ وما الفراغُ الذي نعيشه اليوم إلاَّ نتيجة لابتعادنا عن ينابيع التوحيد وتقصيرنا في العمل بالآية الكريمة: “وقُل ربِّي زدني عِلماً”. ولا بُدَّ لذلك من العمل على تعريف الموحِّدين بكنوزِ الإيمان والاختبار الرُّوحي الكوني والتحقّق. هذه الكنوز الذي وصلتنا من كلِّ صوبٍ، وتؤكِّد لنا كلَّ يوم أنَّ اختبار التوحيد شامل لجميع البشر، وأنَّ الله تعالى لم ينسَ من فضل هديه ونِعَمه الرُّوحية حضارة أو شعباً، ولا بُدَّ لنا بالتالي من التطلُّع بقلوبٍ مفتوحة إلى منابع التوحيد وقيمه ومسالكه، خصوصاً في محيطنا والتراث الهائل لشركائنا في الإيمان والإسلام.
إنَّها الرسالة المستمرِّة منذ أن وُجِدَ البشر. إنَّها رسالة الموحِّدين السابقين في كلِّ زمان، رسالة فيثاغوروس وسقراط وأفلاطون ورسالة هرمس الهرامسة وشعيب التوراة ويسوع الحقّ وحوارييه والإسلام الحنيف وكتاب الله المعجز والرسول الكريم وسيرته والصحابة الكرام وشمائلهم والأركان وشمس سلمان الفارسي التي لا تغيب، إلى عصر النور والحياة. وهو الدور الفاطمي والقاهرة المعزية، ونجومها الزاهرة، ودار الحِكمة، والمليون مُجلَّد في ذاك الزمان، واكتمال بدر التوحيد ورسالته الخالدة.
هؤلاء هم الموحِّدون الدروز، المسلمون المؤمنون، وهذا هو تراثهم، فأين نحن اليوم من هذا التراث؟ وهل يمكن لمن هم من أشرف الخلق أن يسيروا في هذه الحياة على غير هُدى، غير مُدركين لحقيقتهم وللرسالة التي كُلِّفوا بها، بل شرفوا بها وبحملها؟ وما الذي يعرفه موحِّدو هذه الفترة الصعبة من أسرار وحقيقة مسلك التوحيد الذي كان في أصل وجودنا وتقاليدنا، كما كان دوماً ميزان أعمالنا والقوَّة الدَّافعة عند المُلمَّات في صراعنا. وكم ناضل السابقون مِنَّا وكم من الأثمان الغالية دفعوا حفظاً لهذه الكنوز ولهذا المسلك الشريف والسامي في الحياة؟
إنَّه التوحيد، الذي استعصى سرَّه على أعظم العقول وفق قول أحد الحُكماء:

“إذا تناهــَــــــــــــــت عقــــــــــولُ العُقـــــــــــــــــلاء فـــــــــــــي التوحيــــــــــدِ، تناهَــــــــــت إلــــــــــى الحيــــــــــرةِ”

أو كقول أحد حُكماء المسلك، بأنَّ التوحيد إسقاطُ ألياءات، أيّ لا تقول لي، وبي ومني وإليَّ، بل جاهد لمحو الثُنائيَّة حتَّى لا يبقى إلاَّ الواحد. والغائصُ في بحار التوحيد لا يزداد على مرِّ الأوقاتِ إلاَّ عطشاً. وهل أجمل من وصف البسطامي حالةَ القلق والعطش والفناء عن الذَّات، والاحتراق في لهب المحبَّة والوَجدِ حيث يقول :
عجبـــــــتُ لِمـــــــن يقـــــــولُ ذكـــــــرتُ إلفـــــــي وهــَـــــل أَنسَـــــــى فأذكُـــــــر مـــــــا نسيـــــــتُ
أمـــــــوتُ إذا ذكـــــــرتــُكَ ثُـــــــــــــمَّ أحيَــــــــــــا فكـــــــم أحيـــَــــا عليـــــــكَ وكـــــــم أمــــــــوتُ
شربـــــــتُ الحُـــــــبَّ كأســــــــاً بعــــد كــــــــأسِ فمـــــــا نَفَـــــــدَ الشـــــــرابُ ومـــــــا رويـــــــتُ

“إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأنَّ لهم الجنَّة”؛ والجنَّةُ في حقيقتها تتجاوز أنهار اللبن والعسل الرمزيَّة إلى تجلِّي الحقيقة في نفوس المُستعلين والمُتطهِّرين، في رحابِ الدعوة الإلهية الهادية المهدية. وقد قال فيهم جعفر بن محمد:
“إنَّمــــــــــا المؤمنــــــــــون أُخــــــــــوةٌ أبوهـُـــــــــمُ النُّـــــــــورُ أيّ العقـــــــــل وأُمُّهـــــم الرَّحمـــــة أيّ النَـــفس”

هذه لمحاتٌ في معنى التوحيد نرجو أن نُقدِّمها في هذا الباب إلى السَّالكين والشباب، وهذا الجيل الجديد الذي انجذب معظمه، ويا للأسف، إلى كلِّ ماديٍّ محسوس، والسعيد من جعل الحِكمَة إلى قلبهِ مسكناً، وجعل طلبها عنده أزكى مغنماً، فيغمر ذاته الشريفة عندها شعور الغبطة الناجم عن معرفة النَفْسِ، ومن عَرَفَ نَفْسَه فقد عَرَفَ ربَّه.
عليـــــــكَ بالنَّـــــــفْسِ تستكمِــــــل فضـــــــائِلها فأنـــــــت بالنفـــــــس لا بالجســـــــم إنســـان

أو كقول جلال الدِّين الرُّومي :
وتزعـَــــــم أنَّـــــــــــــكَ جُـــــــــرمٌ صغيــــــــــــــــــرٌ وفيــــــــــــكَ انطَـــــــوَى العالـــــــــمُ الأكبـــــــــرُ

أو كصرخة الحلاَّج في معراج شهادته وأمام مرآة كينونته الإلهية:
وأيُّ الأرضِ تَخْــــــــــــلُو مِنْــــــــــــكَ حتَّــــــــــــــى تعالـــــــوا يطلبونــــَــــــكَ فــــــي السَّـمـــــــــــــاءِ
تراهُـــــــــــــم ينظــــــرُونَ إليـــــــكَ جَهْـــــــــــــراً وهــُــــم لا يُبصِــــــرُونَـكَ مِــــــــن عمـــــــــــــاءِ
وختــاماً،
إنَّه نداءٌ من القلب لتعودوا إلى الينابيع، إلى مصادر الحِكمة، إلى رسائل العقل وتقبُّل النَفْسِ وانبثاق الكلمة، إلى حيث اليقظة والصحائف البيض وتجدُّد الحياة، بنعمةِ العقيدة الشريفة لمُستحقيها. فعلى من اصطفاه المَولَى بشيراً ونذيراً وهادياً ورسولاً، وعلى إخوانه الأطهار الأخيار ألف صلاةٍ وسلام، وإلى كلِّ العارفين والمُريدين والعاملين تحيَّة التوحيد.

العدد 1