كثيراً ما نطرح التساؤل التالي: لماذا نتذكَّر الرموز الوطنية ونتعلَّق بهم مهما باعد الزمن بيننا وبينهم؟ هل لأنَّ القادة البارزين باتوا اليوم قلائل، أم لأنَّ عند الإنسان حنيناً إلى الماضي، أم للأمرين معاً؟ من هذه الرموز سلطان باشا الأطرش، الذي صار في ذمّة الله منذ آذار 1982، ولكننا ما زلنا ، في جهادنا ضدَّ العدو الإسرائيلي والمطامع الأجنبية، وفي ليلنا العربي الطويل، نستضيء بلمعان سيوف جهاده، وفي مسلكنا الإجتماعي وسلوكنا السياسي نسترشد بمواقفه ونقتدي به في أعماله وصفاته.
محطات جهاد سلطان الأساسية هي باختصار كُلِّي: اشتراكه في الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين ضد الأتراك في سنة 1916، بحيث كان أحد قادتها، وأول من دخل منهم دمشق ورفع العلم العربي فيها، وموقفه المعارض للانتداب الفرنسي ولإنشاء الدويلة الدرزية في جبل العرب (جبل حوران وجبل الدروز سابقاً) في إطار سياسة التجزئة الاستعمارية، وثورته الأولى ضد الفرنسيين في 21 تموز 1922، وإعلانه الثورة السورية الكبرى في 21 تموز 1925 وقيادته لها، وتمرّده على رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، الذي كان السبب الرئيس في إسقاطه سنة 1954. لذا لُقِّبَ بـ “قائد الثورات السورية” باعتراف الجميع. وقد اضطر إلى ترك البلاد 3 مرات، وحُكِمَ بالإعدام غيابياً مرَّات عدة.
أن يصبح سلطان قائداً للثورات السورية، ورمزاً وطنياً وقومياً، فهذان أمران لا يأتيان عفواً، بل هما نتيجةٌ طبيعية لانجازات صنعها، ولمؤهلات وصفات تحلّى بها، جعلته يتميّز ويسمو، ويحظَى بالمكانة المرموقة في حياته، وبالخلود بعد مماته. لم يكن رجل فكر وعلم وثقافة، ولم يحصل من التعلُّم إلاَّ على الجزء اليسير، إذا إنَّ قِلَّة المدارس في جبل العرب، وتَتَابُع الحوادث والأعمال العسكرية فيه، حالا دون دخوله المدرسة في طفولته وفتوَّته. ومن حسنات السيئات أنه اكتسب المعلومات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب بعد سن التاسعة عشرة إبَّان تلقِّيه الدروس في أثناء الخدمة الإجبارية في الجيش العثماني في منطقة الروملّي في البلقان. وقد عوّض عن العلوم المدرسية بثقافةٍ حياتية توفَّرت له في مضافات جبل العرب، التي تشبه المدارس، لأنَّها تفسح المجال واسعاً أمام تفجّر مواهب الفصاحة والموسيقى والشعر، وأمام معرفة القصص الشهيرة والأمثال والحِكَم والأدب الشعبي وسِيَر العُظماء. كما عوّض عنها بما اكتسبه من التجارب في الحقل الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك ظلَّ مستواه الثقافي دون مستواه كقائد.
اشتهر سلطان كقائد عسكري أكثر منه قائداً سياسياً، إلاَّ أنَّ خبرته العسكرية هي أيضاً، كثقافته وعلومه، لم تأتِ من تعلّمه في معهد حربي، وإنَّما اكتسبها من ميادين الفروسية في جبل العرب، ومن القِتَال الفعلي إلى جانب والده ضدَّ الأتراك، ومن الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني. ثمَّ توسّعت خبرته بفضل المعارك التي خاضها في ثوراته. فهو في الحرب خريج التجارب الميدانية لا النظريات، كما هو في الثقافة خريج مدرسة الحياة لا المدرسة التقليدية. وفي كلا الأمرين جاءت خبرته نتيجة الممارسة لا نتيجة الاعداد. وهما لم يكونا كافيين لصنع رمزيته، بل إنَّ تأثيرهما في ذلك كان أقلّ من تأثير مميِّزاتٍ وصفاتٍ أهّلته للقيادة، ولاتِّخاذ المواقف التاريخية، ومواجهة التحدِّيات الصعبة.
أول ما يتبادر إلى الذهن هو شخصية سلطان، أي تكوين جسمه، وهيئته التي شكَّلت ما يُسمّى اليوم “الكاريزما”. إنه ربع القامة مع ميل إلى الطول، عريض المنكبين، ذو وجه واسع، وعنق قصير، وأنف ضخم، وعينين صغيرتين زرقاوين تغوران في الوجه ذي البشرة الحنطية، وذقن نافرة مستديرة، وشاربين عريضين منسدلين فوق الشفة والذقن، كان يسوّيهما في شبابه وعند التصوير، فيصبحان كسيفين مسلولين في استقامة. هذه الأوصاف مجتمعةً، مضافاً إليها القوة التي تشعُّ من عينيه، وملامح الرجولة البادية عليه، وصوته الجهوري الأجش الذي يبعث الخوف، خصوصاً عند الغضب، هي التي أعطته الهيبة والوقار، وفرضت على الآخرين تهيّبه. لقد أخذ تكوينه الجسدي الصلب من البيئة الطبيعية، ومن صخور الجبل البركانية ورسوخه شامخاً في حوران. وظلَّ يحتفظ بهذه الصلابة وبقدر وافر من الحيوية حتى أواخر حياته، مع انحناءة بسيطة في الظهر لكثرة ما أثقلت كاهله السنون وأعباء الجهاد.
هذا التكوين الجسدي الصلب كان وعاءً لنَفْسٍ كبيرة. وهذا المظهر المادي كان يشتمل على قوَّة روحية فاعلة، وصفات سامية مستمدَّة من البيئة الثقافية لسُكَّان الجبل الموحِّدين الدروز، المتمسِّكين بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وبصنع المعروف الذي لُقِّبوا به “بني معروف”. وأبناء الحسب والنسب يجهدون أن يسيروا على خُطى السلف، وأن يكونوا مثالاً للآخرين.
سلك سلطان منذ الصغر المسلك الصالح الذي بلغ حدَّ الصرامة في اعتماد الحشمة، إذ إنه لم يتعلَّم السباحة كأترابه في البُرك المكشوفة، لأنها تستوجب خلع ثيابه وظهوره عارياً أمام الأعين. ولم يسفّ في كلامه أو يبتذل، ولم يدخّن ويشرب المُسكرات، ولم يتعاطَ الميسر. وكان الزوج العفيف. وهذه أمور مطلوبة من كلِّ إمرئ في المجتمع الدرزي المحافظ، المتميِّز بمكارم الأخلاق، إلاَّ أنَّها مطلوبة على الأخص من المتديّنين. لذا عمل سلطان بموجب التعاليم الدينية قبل أن يعتّم في الثمانينات من عمره ويصبح من رجال الدين. كان محافظاً يتشبّث بالتراث والجذور والأصول، ويؤمن بالتطوّر التدريجي المعتمد على القديم، ويرفض أن تأتي الحداثة على الأصيل والجميل من العادات والتقاليد. ومع انفتاحه على الآخر، وتجاوزه للفئوية والمناطقية في الأمور الوطنية والقومية، كان غيوراً على مصلحة أبناء عشيرته وطائفته ومنطقته.
تميَّز سلطان بصدق اللسان، والصدق في القول والعمل والإيمان أول المبادئ التي يدعو إليها مذهب التوحيد الدزري. وكان مستقيماً في العمل الإجتماعي والعمل السياسي، يؤمن بالفعل لا بالقول، وبجدوى العمل العسكري مع المستعمر والمحتلّ أكثر من جدوى العمل السياسي. فبادرة وطنية عملية أفضل عنده من ألف خُطبةٍ رنَّانة؛ ودويُّ رصاصة تطلق على العدو أفضل من هدير وصيحات آلاف المتظاهرين والمحتجِّين. فالمستعمرُ والمحتلُّ والقويُّ الغاشم لا يفهمون إلاَّ لغة القوَّة. وكان متواضعاً، إلاَّ في الحالات التي تتطلَّب اتِّخاذ موقف رسمي ومعنوي، وتلك التي تتطلَّب أن يظهر بشممه وترفّعه. وَرث التواضع عن والده الذي رفض أن يكنّى به، أي “أبو سلطان” كونه الابن البكر، فكنّي بابنه الثاني علي تيمُّناً بهذا الإسم الكريم.
سلطان أكثر قادة الثُوَّار تواضعاً، وأقلُّهم كلاماً. فهو كثير التفكير، قليل الكلام. حديثه لا يأتي باستعمال الضمير “أنا”، بل الضمير “نحن”، واستعمال صيغة الجمع. فالثورات التي اشترك فيها وقادها، هي ثورات العرب والسوريين. والمجاهدون هم الذين قاتلوا وضحّوا وأبادوا وشتَّتوا الأعداء. والانتصارات هي من صُنعهم جميعاً، وهو واحد منهم. وقد عبّر عن ذلك بجوابه على باحث ألحَّ عليه بتبيان دوره، فقال: “كنتُ واحداً من الدروز. كنتُ واحداً من المجاهدين”. فإذا كان له فضل قيادة الثورات، فلمن استجابوا لها أفضال القتال والتضحيات وتحمُّل الخسائر. وهو ما كان يستطيع أن يفعل شيئاً لولا الجموع المؤمنة والمجاهدة من كلِّ أنحاء سورية ولبنان عامة، ومن الموحِّدين الدروز خاصة، الذين كان يعتبرهم العِمَاد والأساس للثورات التي قام بها. وقد ظلَّ، بما وهبه الله من صفاء ذهن وذاكرة قوية، يتذكَّر أسماء معظم المجاهدين، وتفاصيل ما جرى معه ومعهم، وهذا دليل على أنَّ ما عايشه وصنعه وعاناه بقي منغرزاً في ذاته وروحه، وكأنه جزء منه.
الثورية من المزايا الأساسية، بل المزية الأولى التي صنعت رمزية سلطان. إنَّها شعور بوجوب إحقاق الحقّ، وإقرار العدل، ورفع الظلم، وتصحيح الخطأ، ووقف التعدِّي من أيِّ جهة أتى. وهي مزية طُبع
عليها سلطان بالنظرة، إذ كان يغضب ويثور جراء رؤية الأخطاء والشواذات، والأفعال والأقوال التي يرى فيها اهانة له أو لعشيرته وقومه. وعندها تجحظ عيناه، ويزداد العبوس والتقطيب بين حاجبيه، ويرتقص شارباه، وتعلو نبرة صوته الأجشّ، فيخيف بهيئته وصوته، ويمتنع على الرجال الجسورين التطلُّع إليه، ومتابعة الحديث معه. وثوريته غذّتها عوامل عديدة تمثَّلت في ما سمعه من مظالم الدولة العثمانية التي كانت تحمل أبناء الجبل على الثورة، وفي ما شاهده، وهو في الخامسة من عمره، من إجراءات حملة القائد العثماني، ممدوح باشا، حين اصطحبه والده معه أثناء حضوره لمقابلة هذا القائد، كما غذَّتها مشاركته إلى جانب والده في قتال حملة سامي باشا الفاروقي في سنة 1910، وأخذه بالقوَّة مُجنَّداً في الجيش العثماني إلى الروملي، حيث تعرّف على أقوام ثائرين كقومه ضدَّ الظلم، وشنقُ الأتراك والده ظلماً في ساحة المرجة بدمشق. وكما ارتسمت في ذهنه صورة التركي الظالم الذي وجّه الحملات العديدة إلى الجبل، وصورة المصري الظالم الذي
وجه إليه 4 حملات، وسمّم المياه ليسرّع في تسليم أبنائه الثائرين، هكذا تغذّت عنده روحية الثائر تخلُّصاً من الظلم، وطلباً للحرية والعيش الكريم، فاشترك في الثورة التي أعلنها الشريف حسين، وقام بثورتين على الفرنسيين، وبانتفاضة ضد أديب الشيشكلي.
والشجاعة هي التي حوّلت ثورية سلطان من مجال الإحساس إلى مجال العمل. فالغضب من الظلم إذا ظلَّ كامناً في النَفْس، يعتمل ويغلي داخل الإنسان، قد يؤذيه، لكنه إذا انفجر، وتجسّد في ردَّة فعل، يردُّ أذى الظالم، ويأخذ الحقّ منه. والآراء والأفكار تبقى رؤى وهواجس إذا لم تتجسّد في كلام أو عمل، والقرارات الصائبة تبقى كلاماً في الهواء، أو حِبراً على الورق، إن لم تقترن بشجاعة التنفيذ. كان سلطان يتميَّز بشجاعة الرأي والفكر والقلب، أي بالقدرة على قول ما يفكِّر به، والمبادرة إلى تنفيذ ما يعزم عليه، مؤمناً بأنَّ من خَشِيَ بشراً مثله سلط عليه. كما كان يتميَّز بشجاعة الجسد، وهي عنده ميزة وراثية برزت في طفولته في تجارب عدَّة، منها تغلّبه على مجموعة من أترابه وضعه عمه فايز في مواجهة معهم. أخذ الشجاعة من أسرته وعشيرته آل الأطرش، ومن قومه الدروز الجبليين الأشدَّاء، الذين نجحوا في مواجهة صعوبات الطبيعة وأخطار الأعداء وشتّى التحدِّيات، الذين يكرّمون الشُجاع ويحتقرون الجبان، ويؤمنون بالقدر وبالأجَل المحتوم، وبأن ابن تسعة لا يموت ابن عشرة، إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. لذا لا يأتي الموت، بحسب اعتقادهم، من عنف القتال وكثرة الأعداء، وهو لا يمثِّل في رمية سهم، أو ط
عنة سيف، أو رصاص بندقية، أو شظية مدفع، بل يمثل في سهم القدر ونهاية العمر المكتوب. هذا الإيمان يخلق منهم مقاتلين أشدَّاء شجعاناً، يقتحمون س
اح الوغى غير هيّابين، وهو الذي زاد من شجاعة سلطان الموروثة فكان المُقاتل الذي لا يهاب الأعداء مهما كثروا، ولا يخشى الموت. وقد روى شهود عيان قصصاً كثيرة عنه، منها أنه كان يتابع القراءة في كتاب أو كتابة رسالة إبَّان قصفٍ يلجأ من حوله إلى الإحتماء، وكان يتابع السير في أرض مكشوفة إبَّان ملاحقة الطيران الفرنسي له بالقصف، فيما مرافقوه يفتِّشون عن مكان آمن. فإذا كانت الشجاعة عند الموحِّدين صفة شبه عامة، فإنَّها عند سلطان موجودة بنسبة كبيرة تحمل على القول إنه أشجع هؤلاء الشُجعان، بحسب ما وُصف به جدُّه إسماعيل من قِبَل الرَّحالة بورتر، الذي زاره أواسط القرن التاسع عشر.
والإقدام هو أحد وجوه الشجاعة وتجلِّياتها. وقد كان سلطان، على الرغم من اتِّصافه بالحذر، لا يتردَّد عن اتِّخاذ المواقف الخطيرة والقرارات المصيرية، ويقدم عندما يُحجم الآخرون أو يتردَّدون. وبفضل إقدامه تحوّل من زعيم أقلّ شأناً، في الأساس، من زعماء الجبل الأربعة الكبار، سليم ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش، إلى زعيم أكبر منهم شأناً، وإلى قائد فعلي لجبل العرب، وأحد كبار رجالات سورية. فهو لم يتردَّد عن استعمال القوَّة لاستعادة أراضٍ لقريته (القريّا) وضع أهل بصرى الشام أيديهم عليها، يوم كان الجبل ضعيفاً يتجنَّب الحوادث بعد حملة سامي باشا
وإذا كان أفضل تعريف للوطنية، بين أواخر العهد العثماني ونهاية عهد الإنتداب الفرنسي، بأنها رفض للاحتلال، ومقاومته تحت راية التحرُّر والاستقلال، فإنَّ سلطان رمز لها. ووطنيته الصادقة لا تبرز في قيامه بالثورات، بقدر ما تبرز في الغاية منها. فهو لم يثر من أجل مصلحة شخصي
ة تتمثَّل بجمع المال، أو بتسلًّم المناصب، بل ثار من أجل الاستقلال، والثأر للشرف المهان، ولاستعادة الكرامة المهدورة والسيادة المفقودة. ولو كان هدفه المال لجنى منه الكثير، ولو كانت المراكز لحصل منها على المهم والكبير. إنه بعكس قادة الثورات في العالم، الذين توصَّل معظمهم إلى السلطة، أو إلى تسلُّم المناصب العالية، لم يطمح إلى تسلُّم الحُكم، بل كان يعزف عن تسلُّم المناصب التي تُعرض عليه، ويترك أمر تسيير شؤون البلاد أمانة في أعناق السياسيين. إن أحسنوا التصرُّف فهو معهم، وإن
أساؤوا فهو ضدّهم. وقد صرّح أنَّ قيامه بالجهاد “ليس لطلبِ أمر، أم لكسب شهرة، أم لمطامع دنيوية”.
ومن مزايا سلطان الزُّهد وبساطة العيش. وكبار القوم يزدادون كِبَراً بزُهدهم وتواضعهم، وأغنياؤهم يزدادون غنى باعتمادهم بساطة العيش. وهو في زُهده وبساطة عيشه يشبه كمال جنبلاط وغاندي والخليفة عُمر بن الخطَّاب. كان بيته مسكناً عادياً كمعظم بيوت قريته، مؤلَّفاً من طبقة واحدة، هو عبارة عن مضافة، هي قاعة استقبال جانبية، وبضع غرف للسكن والمنامة. وقد فضّل سكناه على سكن دار في دمشق قدَّمتها له الحكومة السورية تقديراً لجهاده. ولم يركب السيارة الفخمة التي أُهديت له، بل كان ينتقل مع أبناء قريته في حافلة لإداء واجبات التعزية والتهنئة، ولحضور المناسبات التي يُدعى
إليها، وكان يتفقَّدهم واحداً واحد، ولا يأخذ محله إلاَّ بعد اكتمال حضورهم. وقد اعتمَّ في أواخر حياته، فكان يتعبَّد في خلوة صغيرة كتب على بابها “يقيني بالله يقيني”، وينام فيها على بساط رثٍّ عتيق. وكان يقنع من القوت بما يقيت، ومن الملبس بما يليق. وكما كان كريم النَفْسِ كان كريم اليد مضيافاً بحسب التقاليد العربية السائدة
في الجبل، وإنما دون إسراف وبعيداً عن حُبِّ الجاه. لم يكن في بيته خدم، فزوجته وبناته هنَّ اللواتي يتولينَّ الشؤون المنزلية. عبّر عن زُهده وقِلَّة ما يملك بالقول في وصيته: “أمَّا ما خلّفته من رزق ومال، فهو زُهد فلاح متواضع”.
كان سلطان محباً للأرض، ومحباً للعمل فيها. حُبُّه لأرضه الخاصة ولأرض قريته قاده إلى امتشاق السلاح لاستعادة ما أخذه أهل بصرى. وحُبُّه لأرض بلاده قاده مع حُبِّ الحريَّة والاستقلال للقيام بالثورات من أجل تحريرها، وتطهيرها من رجس الأجنبي. فالأرض عنده مقدّسة ومباركة، والعمل فيها شرف كبير، والجهاد من أجلها شرف أكبر؛ وكثيراً ما شوهد في أرضه في حزحز، مستلقياً على الأرض، أو جالساً على صخرة يتأمَّل. وحين أتاه رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، احتار أين يجلس، فقال له: “اقعد يا أديب على الأرض. نحن افترشناها طوال خمس عشرة سنة من الجهاد”. وكثيراً ما كان يُقلِّم الأشجار، ويساعد الفلاَّحين في حراثة الأرض، فيشاهده زوَّاره، وفيهم الصحفيون الأجانب والعرب، مُمسكاً بالمحراث، فيعجبون لقائد كبير يتحوَّل في حقله إلى فلاَّحٍ يُسهم بيده الخشنة في تفجير خيرات الأرض. ولقد قال الفيلسوف ميخائيل نعيمه: “إنَّ اليد العاملة الخشنة تُصافح يد الله، فيما اليدُ الناعمة تُصافح يد إبليس”. ويد سلطان الخشنة من العمل في الأرض، والخشنة من الجهاد من أجل الحفاظ على الأرض، وتحقيق حرِّية ساكنيها، صافحت يد الله.