الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

الحلقة الرابعة والأخيرة

في هذه الحلقة الرابعة من حكايات مُلّا نَصْر الدِّين تختارُ “الضحى” باقةً من حكايا وقصص هذه الشخصية الشهيرة في الإرث الأخلاقي والشعبي الشرقي وتُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً.

ظرافة تلين قلب تيمورلنك
ظرافة تلين قلب تيمورلنك

ظرافة تُلين قلبَ تيمورلنك
كانت جيوشُ تيمورلنك تجتاحُ أواسطَ آسيا، وسَرَت شائعاتٌ أنّ تيمورلنك كان يتّجه نحو قرية المُلّا نَصْر الدِّين.
وما أن تناهى ذلك إلى سَمعِ المُلّا حتى دعا الناسَ خلال خطبة الجمعة إلى الدعاء والصلاة.
وقال: “دعونا نُصلِّي لموت تيمور الأعرج قبل قدومه”، فصاح جميعُ القرويين “آمين”.
ووقف رجلٌ من بين المُصلّين وسأل المُلّا نَصْر الدِّين: “هل رأيتَ تيمورَ قط؟.
أجابه المُلّا: “لا ولم أركَ من قبل أنتَ أيضاً”.
فقال الرجلُ: “إنّك على حق، فأنا تيمورلنك”.
فصعق المُلّا نَصْر الدِّين لهذا النبأ، وكذلك ذُهِلَ القرويون.
ومن ثم تابعَ المُلّا خطبتَه بهدوءٍ، وقال: “دعونا نُصلِّي جميعاً مرّةً ثانية، وهذه المرّة صلاة جنازتنا”.
سأله تيمور: “كيف تُصلِّي صلاةَ جنازتك أيُّها الأحمق، فصلاةُ الجنازة تُتلَى على الميت”.
فأجابَ المُلّا: “نعم يا مولاي، لكن كما ترى فإنّنا جميعاً على وشك الموت دون أن يكون ثمة مَنْ يُصلِّي صلاةَ الجنازة علينا. لذا ينبغي علينا أن نقوم بذلك بأنفسنا”.
فضحك تيمورلنك من أعماقه وعفا عن المُلّا وأهل القرية.

تيمورلنك ووجه الشيطان
يُحكَى أنّ تيمورلنك لمّا دخلَ قريةَ المُلّا نَصْر الدِّين الشهير، قام باستدعائه.
وقال له: “يُحكى أنّك رجلٌ واسع المعارف، رجلٌ متحالِف مع قِوى الظلام وأنّك تملك قِوى غريبة وتعلم أرهبَ التعويذات، بل يقولون عنكَ إنّك في تحالفٍ مباشر مع الشيطان بحدّ ذاته!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين باستخفاف: “هذا ما يقولونه!”.
فصاح تيمورلنك بصوتٍ هادر، وقد استفزّته برودة المُلّا نَصْر الدِّين: “إن كنتَ حريصاً على حياتك، فقلْ لي إذاً كيف تبدو هيئة هذا الشيطان؟”.
فتبسَّم نَصْرُ الدِّين وناولَ تيمورلنك مرآةً، وقال له: “انظرْ في المرآة فتراه!”.

الثالث مُحِقٌّ أيضاً!
ذهبَ قاضي البلدة في إجازةٍ قصيرة. وطُلِبَ من المُلّا نَصْر الدِّين تولِّي القضاء مكانه مؤقتاً ليومٍ واحد.
فجلس المُلّا نَصْر الدِّين على كرسي القضاء، وبدا الحزمُ على مُحيّاه مُحدِّقاً في الجموع، واستعدَّ للنظر في القضية الأولى.
وبعدما سمِعَ مرافعة الطرفَ الأول، قال له نَصْرُ الدِّين: إنّك على حق”.
وقال للطرفِ الثاني بعد سماع وجهة نظره: “إنّك أيضاً على حق”.
فصاحَ أحدُ الحاضرين وسط الجموع قائلاً: “لكن لا يمكن أن يكون الطرفان على حق”.

السمكة الصغيرة للمتفلسف
السمكة الصغيرة للمتفلسف

السمكةُ الصغيرة للمُتَفَلسِف
مرَّ أحدُ العلماءِ المُتَفَلسِفين بقرية المُلّا نَصْر الدِّين، وما أنْ التقاه حتى سأله عن مكانٍ يُقدِّم طعاماً شهيّاً. فاقترح المُلّا مكاناً، فدعاه العالِمُ المُتَعطِّشُ للمحادثة للانضمام إليه.
فرافق المُلّا نَصْر الدِّين العالِمَ مُكرهاً إلى مطعمٍ قريب.
وعند وصولهما إلى المطعم سألا عن طبق اليوم، فأجاب صاحبُ المطعم: “سمكٌ! سمكٌ طازج!”
فقالا له: “أحضِرْ لنا سمكتَين”.
وما هي إلا بضعُ دقائق حتى أحضرَ الرجلُ طبقاً كبيراً تُزيِّنه سمكتان مشويّتان، واحدةٌ منهما أصغر قليلاً من الأخرى.
فانبرى المُلّا نَصْر الدِّين من دون تردُّدٍ والتقطَ السمكةَ الكبيرة ووضعها في صحنه.
العالِمَ، الذي بدَت على مُحيّاه الدهشةُ والاستغراب، لفتَ انتباه نَصْر الدِّين إلى أنّ ما قام به لم يكن عملاً أنانيّاً بشعاً فحسب، بل ينتهك الأدب ومبادئ الدين!
أصغى المُلّا نَصْر الدِّين لمحاضرة مرتجلة ألقاها العالِمُ المُتَفلسِف بكلِّ صبرٍ، لكن ما أن نفدَ صبرُهُ حتى قال له:
“حسناً يا سيّدي، ماذا كنتَ لتفعَل أنت؟”.
فأجابه العالِمُ: “إنّني كصاحبِ مبادئ وضميرٍ، كنتُ سأختار السمكة الأصغر حجماً”.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين: “هاكَ إيّاها”، ووضعَ السمكةَ الصغيرة في صحنِ المُتَفلسف.

أُمنيةٌ أخيرة!
أخذ المُلّا نَصْر الدِّين ورفيقاه يحتسون القهوة، ويتساءلون حول الموت: “إذا كنتَ مسجَّى والأهلُ والأصدقاء يبكون من حولك، فما الذي تتمنَّى أن تسمعه منهم؟”.
قال رفيقه الأول: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ طبيباً عظيماً في زماني، ومُحبِّاً لأُسرتي وعائلتي”.
ومن ثمّ قال رفيقه الثاني: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ زوجاً صالحاً ومعلِّماً تركَ أثراً كبيراً في أجيال الغد”.
أمّا نَصْرُ الدِّين فقال: “أودُّ أن أسمع منهم: انظروا!! إنّه يفتح عينيه!!!”.

سمكةُ القاضي في الشبكة!
ذات يوم، تناهَى إلى مسمعِ المُلّا نَصْر الدِّين أنّ السلطانَ قد أرسل لجنةً متخفّية سعياً إلى اختيار مُرشَّحِين أكفّاء لتولِّي منصب القاضي.
فعمدَ المُلّا إلى التنقُّل في الأنحاء واضعاً شبكةً قديمة لصيد السمك على كتفه.
ولمّا وصلَ أعضاءُ اللجنة إلى قريته، استرعت الشبكةُ انتباهَهم وسألوا المُلّا نَصْر الدِّين ما السرّ وراء ذلك.
فأوضح نَصْرُ الدِّين: “نعم، أحملُ هذه الشبكة معي لتُذكّرني بماضيَّ الوضيع كصيّادٍ فقير”.
فتأثَّر أعضاءُ اللجنة أيما تأثر، وعندما حانَ الوقت، عُيِّنَ المُلّا نَصْر الدِّين قاضياً.
وبعد فترةٍ وجيزة، التقى ممثِّلو السلطان المُلّا نَصْر الدِّين مجدداً لكنّهم لاحظوا اختفاء الشبكة.
فسألوه: “أيُّها المُلّا أين الشبكة”.
فأجاب المُلّا نَصْر الدِّين: “حسناً، لا حاجة للشبكة بعد اصطياد السمكة، أليسَ كذلك؟”.

عودةُ الجَمَل
صاحَ المُلّا نَصْر الدِّين بأعلى صوته: “لصٌّ، لصٌّ! لقد سرقَ لصٌّ جَمَلي!”.

وما أن هدأ رَوْعُه وسكَنَ صخبُه حتى بادره أحدُهم بالقول متعجِّباً: “لكن يا نَصْر الدِّين، لا جملَ لديك”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “صُهْ .. أخْفِت صوتَك، أتمنّى ألَّا يسمعك اللصُّ، لعلّه يُعيد إليَّ جَمَلاً”.

قوةٌ لا تشيخ!
كان المُلّا نَصْر الدِّين يوماً يتباهى بقوتِه التي لم تؤثّر فيها السنون. وقال: “إنّني على القدر ذاته من القوة التي كنتُ أتمتّع بها شاباً”.
فسأله القوم متعجِّبين: “وكيف أمكنَ ذلك؟”.
فأجاب المُلّا: “هناك صخرةٌ كبيرة خارج منزلي. لم يكن بوسعي أن أُحرِّكها من مكانها وأنا شابٌّ، ولا يسعني أن أُحرِّكها كذلك اليوم!”.

الحمد لله ليست يقطينة!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يستلقي تحت ظلال شجرة جوزٍ عتيقة. استراحَ جسدُه لكنّ فكرَه الوقّادَ لم يجد له راحة. كان يتطلّع إلى أغصان تلك الشجرة الهائلة ويتفكّر في خلقها.
وتساءلَ الخُجا في سِرّه: “ما الحكمةُ في أنْ تُثمِرَ مثلُ هذه الشجرةِ الكبيرة السامقة حبّاتَ الجوز الصغيرة هذه؟ فها هو جذعُها ضخمٌ، وأغصانُها ثخينةٌ بإمكانها أن تحمل بسهولة أكبرً يقطينةٍ تنمو من نبتةٍ ضعيفة مُعرِّشَة في الحقول، نبتةٌ لا يمكنها أن تحمل حتى وزنَ ثمرتها. ألا ينبغي للجوز أن ينمو من تلك النباتات الضعيفة، واليقطين من هذه الشجرة الراسخة؟”.
وفيما هو غارقٌ في تفكُّرهِ وتغشاه الحَيرةُ، سقطت حبّةُ جوزٍ من أعلى الشجرة لترتَطِمَ برأسه.
فانتفضَ نَصْرُ الدِّين مرتاعاً، وقال: “الحمد لله! لو كان ما سقطَ على رأسي يقطينةٌ لقُضِيَ عليَّ حتماً! إنّ الله رحيمٌ! وهو أبدعَ الطبيعةَ وفي نيته أن يُنقِذ حياتي”.

اخترع كذبة وصدّقها
اخترع كذبة وصدّقها

اخترعَ كذبةً وصدّقها!
ذات يوم قرّر المُلّا نَصْر الدِّين أن يُمازِح سكّان قريته. فما أن صادفَ حشدٌ منهم حتى أوهمه بوجود منجمِ ذهبٍ اكتشفه في مكانٍ حدّده لهم.
وما أن سمعَ الجميعُ ذلك حتى أخذوا يهرعون إلى ذلك المكان للاستئثار بالذهب.
وما هي إلَّا هُنيهةٌ حتى وجدَ نَصْرُ الدِّين نفسَه سائراً معهم.
وعندما سأله مَنْ يعرف سرَّ حيلتِه عما هو فاعلٌ، قال: “عندما يصدَّقَ ذلك الجمُّ الغفيرُ من الناس، فإن هناك احتمال بأنّ يكون صحيحاً!”.

لا يفقهونَ الخبزَ ويَحكِمون
اتّهمَ ثلاثةُ علماءٍ المُلّا نَصْر الدِّين بالخروج عن الدِّين، لذا استُدعَى إلى بلاط السلطان للمحاكمة.
وفيما هو يُدافع عن نفسِه، سألَ نصر الدين العلماء الذين جلسوا لمحاكنه: “أيُّها الحكماء، ما هو الخبز؟”.
فقال العالِمُ الأول: “الخبزُ هو قوتٌ، طعامٌ”.
وقال العالِمُ الثاني: “الخبزُ هو مزيجٌ من الطحين والماء عُرِّضَ لحرارة النار”.
أمّا العالِمُ الثالث فقال: “الخبزُ هو نِعمةٌ من الله”.
فتوجَّه المُلّا نَصْر الدِّين إلى السلطان قائلاً: “مولاي، كيف لكَ أنْ تثق بهؤلاء الرجال؟ أليسَ من الغريب أنّهم عاجزون عن الاتّفاق على طبيعة شيءٍ يأكلونه كلّ يوم، ومع ذلك يُجمِعُون على أنّني خارجٌ عن الدِّين؟”.

حصانُ السلطانِ يُغنِّي
ذات يوم، ألقى المُلّا نَصْر الدِّين نُكتَةً في حضور السلطان أثارت سخطَه. فأمرَ على الفور باعتقال نَصْر الدِّين وإلقائه في السجن، واتّهمه بالمروق والعصيان.
اعتذر المُلّا نَصْر الدِّين من السلطان على هذه الدعابة السَّمِجَة، وتوسَّل إليه أن يعفو عنه ويُبقِي على حياته.
لكنّ السلطان بقِيَ متشبِّثاً بموقفه، وبفعل الغضب الشديد أمرَ بقطع رأس المُلّا نَصْر الدِّين في اليوم التالي.
وعندما أُحضِرَ نَصْر الدِّين في الصباح لتنفيذ حُكم الإعدام به، خاطبَ السلطانَ قائلاً: “أطالَ اللهُ عمرَ مولاي السلطان! أنتَ تعلم أنّني مُعلِّمٌ حاذق، والأكثر براعة في مملكتك، فإذا ما أَخَّرتَ إعدامي عاماً واحداً، فسأُعلِّم حصانَكَ الحبيب الغناء”.
لم يكن السلطانُ يعتقد أنّ ذلك ممكناً، لكنّ هذا ما هدّأ من رَوعه، فأجابه: “حسناً، سأمنحُكَ عاماً. لكن الويلَ لكَ إذا حلَّت نهايةُ العام ولم تُعلِّم حصانَي الحبيب الغناء”.
وقام أصدقاءُ نَصْر الدِّين بزيارته مساءً في السجن، فوجوده فرِحاً مسروراً. فسألوه مندهشين: “كيف لكَ أن تكون مسروراً؟ هل تعتقد حقّاً أنّ بوسعك تعليم حصان السلطان الغناء؟”.
فأجابَ نَصْر الدِّين: “بالطبع لا. لكن أمامي مهلة عام، وقد يحدث الكثير في هذه المهلة. فلربّما هدأ غضبُ السلطان وعفا عنّي. ولربّما قتلته الشدائدُ أو المكائدُ أو المرض، ولعلّه يُصدِرُ عفواً عن السجناء جميعاً. أو قد يموت الحصانُ، ولا يعود للسلطان حُجّةً عليّ”.
واستدرك نَصْرُ الدِّين أخيراً وقال: “إذا لم يحدث أيٌّ من ذلك، فما أدراكم، لعلّ الحصانَ يتعلّم الغناء!”.

السجنُ ولا شِعْر السلطان!
خُيِّلَ للسلطانِ يوماً أنّه شاعرٌ. وبعدما سهِرَ ليالٍ عديدة، أكملَ قصيدةً عصماء، واستدعَى المُلّا نَصْر الدِّين ليُلقيها أمامه.
وبعدما انتهى من إلقاء قصيدته، أحبَّ السلطانُ أنْ يعرف رأيَ المُلّا نَصْر الدِّين. فقال نَصْرُ الدِّين مندهشاً: “أحقّاً يا مولاي؟”.
فأجابه السلطانُ: “بالطبع، لِمَ أحضرتُكَ إلى هنا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “حسنٌ، إنّها يا مولاي.. فظيعة”.
فاستشاطَ السلطانُ غضباً ونادَى الحرس: “ضعوه في السجن، ثلاثين يوماً”.
وبعدما أكمل نَصْرُ الدِّين فترة عقوبته، استدعاه السلطانُ مجدداً لسماع قصيدة أخرى، وعندما انتهى السلطانُ من إلقائها، نهضَ نَصْرُ الدِّين على الفور واتّجه نحو الباب.
فسأله السلطانُ باستغراب: “ما خطبكم، أين أنتَ ذاهبٌ يا نَصْر الدِّين؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “إلى السجن يا مولاي”.

لا شنقَ لمَنْ جاء يُشْنَق!
استاءَ السلطانُ كثيراً من كثرة الغشَّاشين والكذَبَة المخادعين الذين يدخلون أبواب عاصمته الزاهرة ويعيثون فيها فساداً. لذا، أمرَ بوضع حامياتٍ من الجند عند جميع بوابات المدينة المحاطة بأسوارٍ منيعة. وصدرت الأوامر للجنود بشَنْق كلّ مَنْ يكذب حول الغرض الحقيقي وراء رغبته في دخول العاصمة.
أسرجَ المُلّا نَصْر الدِّين حمارَه وانطلقَ قاصداً العاصمة.
وعند إحدى البوابات، استوقفه حارسٌ وسأله عن الغرض وراء رغبته في الدخول إلى المدينة، وحذّره من أنّ الكذب قد يؤدّي به إلى الشنق.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين بكلِّ هدوء: “هذا أمرٌ جيد، إذ إنّني أتيتُ إلى هنا لكي أُشنَق!”.
فقال الحارس مندهشاً: “إنّك كاذبٌ وسوف تُشنَق حتماً!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين: “إذاً، أنتَ تَعلم أنّني نطقتُ بالصدق، ووجبَ بذلك ألَّا أُشنَق”.

أحمق في الظلام
أحمق في الظلام

أحمقٌ في الظلام!
في إحدى الأمسيات من ليالٍ حالكات، كان المُلّا نَصْر الدِّين يعود أدراجه إلى المنزل. الطريقُ كانت قصيرة جداً، لكن عند وصوله بدا عليه استياءٌ شديد، وأخذ يقول: “يا حسرتاه، يا ويلتاه”.
وصُودِفَ مرور أحد الشبّان بالقرب من منزله وسمعه يتحسَّر.
فسأله: “بالله عليك، قُلْ لي ما خطبُكَ يا مُلّا”.
فأجابه نَصْر الدِّين: “آه يا صديقي، يبدو أنّني أضعتُ مفاتيحَ منزلي. هلَّ ساعدتني في البحث عنها؟ أنا متأكّدٌ أنّها كانت في حوزتي عندما غادرتُ المقهى”.
فهبَّ الشابُ إلى مساعدة المُلّا نَصْر الدِّين في البحث عن مفاتيحه.
وجَهِدَ الشابُ في البحث هنا وهناك عن المفاتيح لكن لم يجد لها أثراً. ومن ثم نظر فوجدَ نَصْرَ الدِّين يبحث في بقعةٍ صغيرة يُضيئها مصباحٌ معلّق في الشارع.
فسأله الشابُ: أيُّها المُلّا، لماذا لا تبحث سوى في هذا المكان؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “هل أنا أحمقٌ لأبحث في الظلام..!”.

العدل .. حسب نصر الدين
جادلَ أحدُ الأشخاص المُلّا نَصْر الدِّين، وقال له بعد نقاشٍ مستفيض: “دعنا نقذفُ قطعةَ نقودٍ ونرى مَنْ هو على حق؟”.
فسارع المُلّا نَصْر الدِّين وقَذَف قطعةَ نقودٍ في الهواء وقال مُستبقاً حُكمَ الشخص الآخر: “إن جاءت الطُرَّة لي فأنا الفائز، وإن كانت النَقْشَة لكَ فأنتَ الخاسر”!

لله في خلقِهِ شؤون!
وجدَ ولدان كيساً يحتوي على اثنتَي عشرة من الكرات الزجاجية الملوّنة التي يلعب بها الأولاد، واختلفا حول كيفية تقسيمها في ما بينهما، وأخيراً اتّفقا أن يحتكما إلى المُلّا نَصْر الدِّين.
وعندما طلبا منه أن يُقسِّم الكرات الزجاجية بالعدل بينهما، سألهما ما إذا كانا يرغبان بأن يقوم بتقسيمها بعدلٍ إنساني (أي مناصفة) أو استلهاماً لحكمةٍ ربّانية دون تساؤل منهما أو اعتراض وقد آثر الولدان بالطبع الخيارَ الثاني.
عندها قام المُلّا نَصْر الدِّين بعَدّ الكرات، وأعطى ثلاثاً منها للأول وتسعاً للثاني ..!!

الانفجار الكبير

الانفجارُ الكبيرُ

أثبتَ خلقَ الكونِ ودحضَ المادّيّين

«لو كان معدّل التّمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أقلّ بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل إلى حجمه الحاليّ”.
(عالم الفيزياء الشّهير ستيفن هوكنز)

إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
(العالم فريد هويل)

نظرية الانفجار الكبير أظهرت أن الكون اللانهائي خلق من لاشيء من قبل خالق عظيم رتب كل أمر بحسابات دقيقة لا يمكن أن تتم بفعل الصدفة

أكثرُ العلماء المادّيّين قاوموا نظرية الانفجار الكبير
لأنّها أثبتت وجود بداية للكون وبالتالي وجود الخالق

نظـــــــــــرية التّمـــــــــــدّد الكونـــــــــــيّ

لأنّ الأجرام الفضائيّة تبتعد عنّا وعن بعضها باستمرار
فذلك يعني أنّ الكون يتمّدد وأنّه نشأ من نقطة واحدة

المقصود من عرض هذا الموضوع هو إظهار مدى التقدم العلمي في تأكيد واقعة خلق الكون من العدم، وهو ما يدحض نظريات الإلحاد التي ترفض نظرية الخلق وتزعم أن الكون موجود منذ الأزل بذاته، وهو أمر بات العلماء مقتنعون إنه لا يمكن أن يتم بالصدفة بل هو إعجاز من الله تعالى، وقد أثارت النظرية اهتمام الأوساط الدينية في العالم ورأى فيها البعض دعما علميا حاسما لنظرية الخلق، ونحن نعرضها هنا انطلاقا من احترام البحث العلمي دون اتخاذ موقف منها وهو أمر يتطلب إمعانا وتمحيصا بسبب طبيعته المعقدة ، مع التأكيد على أن العقيدة التوحيدية عقيدة تقوم على العقل وعلى اليقين الإيماني الذي لا يفترض بناؤه على براهين علمية لأن الإيمان يقوم على التصديق بالرسالات السماوية وما جاء فيها وعلى اجتناب الجدل وصون الإيمان عن الأخذ والرد، فالمؤمن دليله قلبه كما يقال وهو مصدق لأنبيائه مطمئن لعقيدته راسخ في سلوكه وطاعته لخالقه وكفى بالله شهيدا.

السّؤال البديهيّ الذي يرد على خاطر أيّ إنسان متفكّر هو ولا شكّ: كيف وُجِد هذا الكون العظيم؟ وما هو مغزى هذا الانتظام المذهل في عمله وهو انتظام مضت عليه ملايين السّنين، والذي لو اختلّ ولو بشكل بسيط جدّاً فإنّ الحياة كما نعرفها قد تنتهي في طَرْفة عين. وعندما نتكلّم عن الوجود فإنّنا لا نعني فقط الفضاء ومليارات المجرّات والكواكب والظّواهر الكونيّة التي لا تحصى بل نعني أيضا أرضنا العجيبة ببحارها وأسماكها وبراريها وأنهارها وكائناتها الحيّة حتى أصغر كائن مجهري.
لقد اجتهد العلماء والفلاسفة والمفكرون عبر القرون في محاولة إيجاد جواب على ذلك السّؤال المحيِّر. فنشأ مع الزّمن عدد كبير من النّظريات، لكنّ الاختلاف تركّز مع الوقت بين القول بأنّ العالم أزليّ وقديم ممّا يعني أنّه لم يُخلق وبين القول بأنّ العالم ليس قديماً بل هو مخلوق بقدرة خلّاق عظيم هو نفسه غيرُ مخلوق وقديم أي أنه سابق لكلّ وجود متصوَّر.
لقد ساد الاعتقاد خلال القرن التّاسع عشر بأنّ الكون عبارة عن مجموعة من المواد لا نهائيّة الحجم تواجدت منذ الأزل وسيستمرّ تواجدها للأبد، وقد مهدت تلك النّظرية للفلسفة الماديّة، التي تنكر وجود الخالق والتي تشدّد على أنّه لا توجد بداية أو نهاية للكون.
وهذ النّظرية رغم عدم استنادها إلى أيّة أدلّة علميّة بل رغم كونها تناقض العلم الحديث فإنّها حازت على قبول متزايد في القرن التّاسع عشر، واشتُهر هذا النّظام الفكري بشكل خاصٍّ في الفلسفة الماديّة الجدلية لكارل ماركس.

ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير
ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير

خرافة الكون الموجود بذاته
يعتبر الماديّون فكرة أّنّ الكون لا نهاية له وأنّه موجود منذ الأزل بمثابة الأساس الأهمّ لرفض فكرة الخلق ولتبنّيهم الإلحاد أي رفض وجود الخالق. وعلى سبيل المثال، كتب الفيلسوف الماديّ جورج بوليتزر يقول “الكون ليس شيئًا مخلوقًا” لكنّه أضاف قائلاً: لو كان قد تمّ خلق العالم من لاشيء، فلا بدّ أنّه خُلق بواسطة الإله على الفور ومن العدم.
لقد استند المادّيّون دوماً على الفكرة الساذَجة التي تعتبر أنّ من غير الممكن خلق شيء من لاشيء، وسبب وقوف النّظرية الماديّة عند هذه النّقطة هي أنّ الفكر الماديّ التصق بصورة عمياء بقانون السّببيّة الذي هو قانون يسري على الإنسان المحدود بالحواسّ الخمس وبالفكر، لكنّ المادّيّين نَسَوْا أنّ قانون السّببيّة هو نفسه مثل بعد الزمان أو المكان مخلوق ولا وجود مستقل له إلّا في الاختبار الإنسانيّ. كما أنّهم لم يستطيعوا الإجابة عن السّؤال: إذا كان لا يمكن خلق شيء من لاشيء فكيف وُجِد العالم الذي يعتبرونه قديماً من لاشيء؟
لقد أثبتت الاكتشافات العلميّة في القرن العشرين تهافت الفكرة البدائية عن قدم الكون، إذ تبين أن الكون غير ثابت كما يفترض المادّيّين، بل إنّه هو على النّقيض من ذلك، آخذٌ في التّوسّع. وإلى جانب ذلك، فقد ثبت من خلال العديد من الملاحظات والحسابات أنّ الكون كان له نقطة بداية محدّدة نشأ منها من لا شيء بواسطة ما اصطُلح على تسميته في ما بعد بـ “الانفجار الكبير”

معاندة العلماء المادّيّين
رغم ذلك ورغم كل الشّواهد العلميّة، فقد استمرّت الأوساط المادّيّة في رفض قبول حقيقة أنّ الكون قد تمّ خلقه من لا شيء. وعندما سُئل الفيزيائيّ الألماني فالتر نيرنست عن رأيه في نظريّة الانفجار الكبير، أعطى أجوبة غير منطقية عن تأثير قبول هذه الاكتشافات، حيث قال “سيكون ذلك خيانة لأُسس العلم”. وقال أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتّكنولوجيا MIT فيليب موريسون في فيلم وثائقيّ بريطانيّ: “أجد صعوبة في قبول نظريّة الانفجار الكبير، وأرغب في رفضها”، لكنّ الكثير من العلماء من أصحاب النّزاهة وأخلاقيّات العلم، باتوا يؤكّدون أنّ نظريّة الانفجار الكبير صائبة وينتقدون العلماء المادّيّين الذين لم يعترفوا بصحّتها بعد إرضاء لأهوائهم السّياسيّة أو الأيديولوجيّة.
ففي مقال بعنوان “الانفجار الدّينيّ الكبير” كتب جيم هولت في مجلّة نيويوركر يقول: “الانفجار الكبير هو على الأرجح الفكرة الوحيدة في تاريخ العلم التي تمّت مقاومتها فقط لدعمها لنظريّة خلق الكون من قِبل الإله”، كما انتقد عالم الفيزياء الفلكيّة البارز روبرت جاسترو في كتابه “الله وعلماء الفلك” العلماء المادّيّين لتردّدهم في قبول نظريّة الانفجار الكبير بسبب الهواجس العقائديّة، يقول:
“خَلْف ردود الأفعال هذه هناك قدْر غريب من العواطف والمشاعر، فقد تمّ انتهاك “العقيدة الدّينيّة” للعلماء بسبب اكتشاف أنّ العالم كانت له بداية. وعندما حدث ذلك، فَقَدَ العالِم توازنه وهو لو فحص النّتائج حقًا، فإنه سيصاب بصدمة، لكنْ كالعادة فإنّه عندما يصاب إنسان بصدمة فإن عقله يتّجه بصورة عفوية إلى تجاهل الأسباب التي أدت إليها. فانظر إلى فداحة المشكلة التي يعاني منها هؤلاء العلماء. لقد أثبت العلم أنّ الكون انفجر إلى الوجود في لحظة محدّدة، فمن الذي وضع المادّة أو الطّاقة المُوجِدَة للكون؟ هل أُنشئ الكون من العدم؟ هذا تطوّر غريب وغير متوقّع للجميع عدا علماء الدّين”
(روبرت جاسترو : “الله وعلماء الفلك”.)
لكن كيف حدثت هذه العمليّة التي يصفها المادّيّون بأنّها “غريبة” و”غير متوقّعة”؟ فلنلق نِظرة على تاريخ الاكتشافات العلميّة في موضوع ظهور الكَون.

العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون
العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون

“ما الّذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير؟ وما هي القوّة التي وضعت الكَون كلّه في نقطة واحدة قبل أنْ تقول له “كُن”: إنّها اللهُ سُبْحانَه”

كيف تمّ اكتشاف الانفجار الكبير
اعترف المجتمع العلميّ بأنّ الكون كلّه جاء إلى الوجود في لحظة واحدة نتيجة لحدوث انفجار، أو بتعبير آخر: تم خلق الكون، وقد تم اكتشاف هذه الحقيقة المهمّة نتيجة للعديد من الملاحظات والاستنتاجات الثّورية.
ففي المرصد الفلكيّ في جبل ويلسون في كاليفورنيا، حقّق فلكيٌّ أمريكيّ يُدعى إدوين هابل عام 1929 أحد أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك، فبينما كان يراقب النّجوم من خلال تلسكوب عملاق، اكتشف أنّ شدّة الضّوء الأحمر المنبعث منها تعتمد على مدى بُعدها، وكان ذلك يعني أنّ النّجوم “تبتعد” عنّا. ووفقًا للقواعد الفيزيائية المتعارف عليها، فإنّ طيف أشعّة الضّوء للجسم المتحرّك باتّجاه نقطة المراقبة يميل إلى اللّون البنفسجيّ، في حين أنّ طيف أشعة الضوء للجسم الذي يتحرّك مُبتعدًا عن نقطة الرّصد يميل إلى اللّون الأحمر. والضّوء المنبعث من النّجوم الذي لاحظه هابل أثناء مراقبته كان يميل إلى اللّون الأحمر، أيْ: إنّ النّجوم كانت تتحرّك باستمرار مُبتعدة عنّا.
قبل مرور فترة طويلة، قدم هابل اكتشافًا آخر مهمًا جدًا: إذ أثبت أن النجوم والمجرات ليس فقط تبتعد عنا، بل هي تبتعد عن بعضها البعض أيضًا، والاستنتاج الوحيد الممكن في كون يبتعد فيه كل شيء عن بعضه البعض، هو أن هذا الكون يتسع أو”يتمدد” باستمرار.

محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني
محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني

ما الذي يعنيه تمدّد الكون؟
تمدّد الكون يعني ضمنيًّا أنّه إذا استطعنا السّفر إلى الوراء في الزّمن، فإنّنا سنصل إلى النّقطة التي نشأ منها الكون قبل أنْ يبدأ بالتّمدّد وسنرى أنّ الكون نشأ بالفعل من نقطة واحدة، وأظهرت الحسابات أنّ هذه “النّقطة الواحدة” التي تحوي كلّ مادّة الكون يجب أن تكون “صفريّة الحجم” و”لا نهائيّة الكثافة”، وقد نتج الكون من جرّاء انفجار هذه النّقطة الوحيدة صفريّة الحجم.
سُمّي هذا الانفجار الضّخم الذي حدد بداية الكون بـ “الانفجار الكبير” Big Bang وسُمّيت النّظريّة بهذا الاسم تِبعًا لذلك.
تجدر الإشارة إلى أنّ “الحجم الصّفْرِيّ” هو مجرّد تعبير نظري يُستخدم لأغراض رياضيّة وصفيّة فقط. ولا يُمكن للعلم وصف مفهوم “العدم”، الذي هو أبعد من حدود الفَهم البشريّ، إلّا من خلال التّعبير عنه بأنّه “نقطة صِفريّة الحجم”. في الحقيقة، “نقطة بلا حجم” تعني “العدم”.
وهكذا جاء الكون إلى الوجود من العدم. وبعبارة أخرى، قد خُلق. وهذه الحقيقة والتي تمّ اكتشافها بواسطة الفيزياء الحديثة في القرن العشرين، ذُكرت في القرآن الكريم إذ وصف الله تعالى نفسه بأنه }بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون{ سورة البقرة: الآية 117. وكلمة “بديع” التي وردت في كتاب الله العزيز تعني الخلق والإبداع من لاشيء.
أظهرت نظريّة الانفجار الكبير أنّ كلّ الموجودات كانت في البدء كتلة بسيطة واحدة ثم تعدّدت وافترقت بعد ذلك يقول تعالى: }أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا{ سورة الأنبياء:الآية 30. وهذا يعني أن كلّ المادة الموجودة في الكون تم إنشاؤها بواسطة انفجار كبير لنقطة واحدة وتشكل الكون الحالي بواسطة افتراق أجزائه عن بعضها البعض.
وتُعْتَبر ظاهرة تمدّد الكون التي أثبتها العلم أحد أهم الدّلائل على أنّ الكون تمّ خلقه من العدم، وعلى الرّغم من عدم اكتشاف هذه الحقيقة من قِبل العلم حتّى القرن العشرين فقد ألمح الله تعالى إليها في القرآن الكريم بقوله }وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ{ (سورة الذّاريات: الآية 47).وعبارة “وإنّا لَمُوسعون” فيها إيحاء واضح إلى اتّساع الكّون لأنّ الله تعالى يستخدمها بعد عبارة “والسّماء بنيناها” فهو يعني هنا السّماء أو الفضاء الكوني وليس شيئاً آخر.
رغم الاتّفاق الشامل حول نظرية الانفجار الكبير كتفسير علميّ لسبب وجود الكون فإنّ علماء الفلك من أتباع الدّوغما المادّيّة واصلوا مقاومة نظريّة الانفجار الكبير، ليس بسبب امتلاكهم أدلّة تنقض الأبحاث العلميّة التي أكّدتها، بل بسبب تمسّكهم برفض نظريّة الخلق لأنّها تزعزع معتقدهم الإلحاديّ الذي ينفي وجود الخالق ولا يقيم اعتباراً للدّين. وقد عبّر آرثر إدنجتون، أحد أهم علماء الفيزياء المادّيّين عن هذا الموقف اللّاعقلانيّ والمكابر عندما قال “فلسفيًّا: فكرة البداية المفاجئة للنّظام الحالي للطّبيعة بغيضة بالنّسبة لي”. فهو لا يقوى على نفي الحقيقة العلميّة لكنّه يقول بكلّ صراحة إنّه “يكرهُها” لأنّها ببساطة تُثبت وجود خالق للكون.

انهيار نظريّة “الحالة المستقرّة”
عالم الفلك الإنجليزيّ السّير فريد هويل وهو ماديّ أيضًا، وكان بين الذين انزعجوا من نظريّة الانفجار الكبير في منتصف القرن الماضي سعى إلى مقاومتها عبر دعم فرضيّة تُدعى “الحالة المستقرّة” والتي كانت مشابهة لنظريّة “الكون الثّابت” في القرن التّاسع عشر. وتزعم نظريّة الحالة المستقرّة أنّ الكون لا نِهائيّ وأبديّ العمر وهي بالتّالي تعارض كليًّا نظريّة “الانفجار الكبير” التي تُثْبت وجود بداية للكون.

أبعاد اكتشاف “إشعاع الخلفيّة الكونية”
في عام 1948، قدّم جورج جامو فكرة إضافيّة بشأن الانفجار الكبير. وهي إنّه وبسبب تشكل الكون بسبب الانفجار الكبير فإنّه يجب أن يكون هناك فيض من الإشعاع الذي خلَّفَه هذا الانفجار، وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا الإشعاع منتشراً بشكل متجانس في جميع أنحاء الكون.
وقد تم بالفعل اكتشاف تلك الموجات الإشعاعية عام 1965 بواسطة باحثيْن يدعيان أرنو بنزياث وروبرت ويلسون عن طريق الصّدفة. وتُدعى هذه الموجات اليوم “إشعاع الخلفيّة الكونيّة”، ولا يبدو أنّها تشعّ من مصدر مُحدّد بل تتخلّل كلّ شيء، وبناءً على ذلك فقد عرفنا أنّ هذا الإشعاع تخلّف نتيجة المراحل الأولى من الانفجار الكبير، وتمّ منح بنزايث وويلسون جائزة نوبل تقديرًا لهذا الاكتشاف.

قمر من”ناسا” يدعم نظريّة الانفجار الكبير
ثم أرسلت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عام 1989 القمر الصّناعي مستكشف الخلفيّة الكونية (كوبي) إلى الفضاء، لإجراء البحوث على إشعاع الخلفية الكونية استغرق الأمر ثمان دقائق فقط لكي يؤكّد كوبي حسابات بنزياث وويلسون حيث، عثر كوبي على بقايا من الانفجار الكبير الذي حدث في بداية الكون، وبرهن هذا الاكتشاف بشكل واضح على صحة نظريّة الانفجار الكبير، ولذا فهو يُعد أحد أعظم الاكتشافات الفلكية على مر العصور.
وأحد أهم الدّلائل العلميّة الإضافيّة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير كميّة الهيدروجين والهليوم في الفضاء. فمن المعروف علميّاً أنّ تركيز الهيدروجين والهليوم في الكون لا يزال مطابقًا للنّسب المحسوبة للتّركيز المتبقّي من الانفجار الكبير، ولو أنّ الكون ليس له بداية وموجود منذ الأزل، لكان يجب أن يكون كلّ الهيدروجين الموجود قد استُهلِك بالفعل وتحول إلى غاز الهليوم.

العلماء يعترفون بخطئهم
كلّ هذه الأدلّة المُقنعة تسبّبت في تبنّي المجتمع العلميّ لنظريّة الانفجار الكبير، فقد كان نموذج الانفجار الكبير هو أحدث ما توصّل إليه العلم بخصوص نشأة الكون.
برغم دفاع دينيس سكيما لسنوات طوال عن نظريّة الحالة المستقرة بجانب فريد هويل، إلّا أنه في النهاية وصف الحالة التي وصل إليها مع زميله بعد اكتمال الأدلّة التي تؤيد نظريّة الانفجار الكبير، بالقول أنّه بقي يدافع عن نظرية الحالة الثابتة ليس لاعتقاده بصحتها، ولكن لأنه تمنّى أن تكون صحيحة، واستمرّ سكيما قائلًا إنه بعد أن بدأت الأدلة في التّراكم، كان عليه أن يعترف أنّ اللعبة قد انتهت، وأنّ نظريّة الحالة المستقرّة سقطت ولا بدّ من رفضها.
وأضطُرّ جورج أبيل البروفيسور في جامعة كاليفورنيا أن يعترف بالنّصر النّهائي لنظريّة الانفجار الكبير، وذكر أنّ الأدلّة المتوافرة حاليّاً تدلّ على أنّ الكون قد نشأ منذ مليارات السّنين بواسطة انفجار كبير معترفاً بأنّه لم يعد لديه أيّ خيار سوى القبول بتلك النظريّة بعد أن أثبتها العلم.
ومع انتصار نظريّة الانفجار الكبير، تمّ إلقاء أسطورة “المادّة الأبديّة” التي تُشكّل أساس الفلسفة الماديّة في سلّة مهملات التّاريخ. لكنّ السّؤال يبقى: ما الذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير، وما هي القوة التي جلبت الكون إلى “الوجود” بواسطة ذلك الانفجار الكبير؟

الانفجار الكبير والخلق
الجواب على هذا السؤال يعني بكل تأكيد وجود الخالق. وقد علّق الفيلسوف أنطوني فلو المُلْحد لوقت طويل جدّاً والذي أعلن في وقت لاحق أنّه يعتقد بوجود الله – على الموضوع قائلًا:
“من المعروف أنّ الاعتراف مفيد للرّوح، لذا سأبدأ بالاعتراف أنّ على الملحد الستراتوني1 أن يشعر بالخجل بسبب إجماع علماء الكونيّات المعاصرين الذين يقدّمون لنا براهين علميّة على وجود بداية للكون”

وقد اعترف العديد من العلماء الذين لا يعتنقون الإلحاد بشكل أعمى بدور الخالق سبحانه وتعالى في خلق الكون. إذ يجب أن يكون هذا الخلّاق العظيم هو الذي خلق كلًّا من المادّة والوقت، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مستقلّاً عن الاثنين. قال عالم الفيزياء الفلكيّة المعروف هيو روس:
“إذا كان الزّمن بدأ مع نشوء الكون، كما تقول نظريّة الفضاء، فذلك يعني أنّ سبب وجود الكون يجب أن يكون كياناً يعمل بشكل مستقل تمامًا عن بعد الزّمن، بل وموجود بشكل يسبق البعد الزّمني للكون. وهذا الاستنتاج يخبرنا أنّ الإله ليس هو الكون نفسه، وأنّ الكون لا يحتوي الإله أيضًا”.

تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2
تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2

“معجزة الانفجار الكبير أُضيفَ إليها معجزة خلق كون صالح للعيش وهو ما يتطلّب تضافر ألوف العوامل المؤاتية التي لا يمكن أن توجد بفعل الصُّدفة”

سرّ النّظام البديع الذي يحكم الكون
في الحقيقة، تسبّب الانفجار الكبير في متاعب أكبر بكثير للمادّيّين من مجرد اعترافات أنتوني فلو، إذ إن العلم بات يثبت أنّ الكون ليس فقط تمّ إيجاده من العدم بواسطة الانفجار الكبير بل أثبت أيضا أنّ إيجاده تمّ بطريقة مُحكمة ومُمَنْهَجة جدّاً.
لقد حدث الانفجار الكبير مع انفجار النّقطة التي تحتوي كلّ المادّة والطّاقة في الكون، وتشتّت كلّ هذا في كلّ الاتّجاهات في الفضاء بسرعة رهيبة، ومن هذه المادّة والطّاقة جاء عدد ضخم ومتوازن من المجرّات والنّجوم والشّمس والأرض وجميع الأجرام السّماوية الأخرى. وعلاوة على ذلك، تشكّلت القواعد التي تحكم هذا الكون والتي سُمّيت بـ “قوانين الفيزياء”، وهي قواعد موحَّدة في جميع أنحاء الكون كلّه لا تتبدّل ولا تتحوّل. وقوانين الفيزياء التي تحكم الكون والتي ظهرت مع حدوث الانفجار الكبير لم تتبدّل على الإطلاق على مدى 15 مليار عام. وعلاوة على ذلك، فإنّ هذه القوانين تُنْتِج حسابات دقيقة للغاية، حتى أنّ الاختلاف في مجرّد مللّيمتر واحد من قِيَمِها الحاليّة يمكن أنْ يؤدّي إلى تدمير بنية وحركة الكون كلّه.
إنّ أيِّ “انفجار” لا ينجم عنه في العادة أجزاء أو نتائج مُنظّمة، وكلّ الانفجارات التي نعرفها تميل إلى إحداث أضرار، وتحطيم، وتدمير ما حولها. لذلك فإنّنا إذا علمنا أنّه وعلى عكس ذلك فإنّ الانفجار الكبير أنتج نظاماً دقيقاً جدّاً يسير وفق قوانين محكمة وحركة أزليّة منتظمة فإنّه لا بدّ من أن نستنتج عندها أنّ هناك “أمراً خارقاً للعادة” تدخّل في هذا الانفجار، وأنّ جميع القطع المتناثرة جَرّاء هذا الانفجار قد تمّت السّيطرة عليها وتمّ إدماجها وتركيبها وتشغيلها بطريقة مُحكمة للغاية.
السّير فريد هويل، الذي اضطُر إلى قبول نظريّة الانفجار الكبير بعد سنوات طويلة من معارضتها، عبّر عن هذا الموقف بشكل جيّد للغاية عندما قال:
“إنّ نظريّة الانفجار الكبير تذهب إلى أنّ الكون قد بدأ بانفجار واحد، ولكن كما يمكننا أن نرى، فإنّ أي انفجار سيجعل الموادّ تتناثر في كلّ مكان، في حين أنّ الانفجار الكبير قد أوجد بصورة غامضة ظروفاً معاكسة لذلك، حيث تكتّلت المادّة معاً في شكل المجرّات، ومما لا شكّ فيه، أنه إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
أمرٌ آخرُ حصل في هذا النّظام الرّائع الموجود في الكون بعد الانفجار الكبير، هو خلق “كون صالح للعيش”. إنّ خلق كوكب صالح للحياة يحتاج إلى اجتماع مئات بل ألوف العوامل المعقّدة والمتداخلة لدرجة تجعل من المستحيل الاعتقاد أنّ هذا التّشكيل يمكن أن يتمّ بفعل الصّدفة.
وذكر بول ديفيز – وهو أستاذ مشهورٌ للفيزياء النّظرية – في نهاية الحسابات التي قام بها لحساب معدّل توسّع الكون، أن هذا المعدّل دقيق بشكل لا يُصدّق. فقال:
“معدّل تمدّد الكون يخضع لقياسات دقيقة للغاية، فهي ذات قيمة حرجة والتي بسبّبها حافظ الكون على جاذبيته الخاصّة ممّا جعله يتمدّد إلى الأبد، ولو كان الكون أبطأ قليلًا في تمدده فإنّه كان سينهار على ذاته كما أنّه لو كان أسرع قليلاً في تمدّده فإنّ المادّة الكونيّة كانت ستتبدّد تماماً منذ زمن طويل، فلم يكن الانفجار الكبير مُجرّد انفجار قديم عاديٍّ، لكنّه كان انفجاراً مُرتبًا ذا قيمة مُحدّدة بدقّة”.
عالم الفيزياء الشّهير البروفيسور ستيفن هوكينج يقول في كتابه تاريخ موجز للزّمن، إنّ الكون مُحكم بحسابات وموازينَ مضبوطة بدقّة أكثر ممّا يمكننا أن نتصوّر، ويُشير هوكينج إلى معدّل تمدّد الكون فيقول:
“لو كان معدّل التمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أصغر بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء، لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل لحجمه الحاليّ”.
كما يوضح بول ديفيز التّبعات الحتميّة النّاتجة من هذه الموازين والحسابات الدّقيقة فيقول:
“إنّ من الصّعب مقاومة الانطباع بأنّ الهيكل الحاليّ للكَون، بما فيه من حساسيّة لأيّة تغيرات طفيفة في الأرقام، كان وراءه من يقوم على العناية به. بالإضافة للتّوافق الذي يبدو خارقاً في القِيَم العدديّة الموجودة في الطّبيعة كثوابت أساسيّة، والذي يجب أن يُمثّل أقوى أدلّة دامغة على تواجد عامل التّصميم الكونيّ” (وهو يقصد بذلك:الخلق).
وعن الحقيقة نفسها ، كتب عالم الفلك الأمريكيّ جورج جرينشتاين في كتابه “الكون التّكافلي” يقول: “بينما نقوم بحصر جميع الأدلّة، فإنّ الفكرة الّتي تطرح نفسها بإلحاح هي أنّ قوى خارقة قد شاركت في إنتاج ما نحن فيه”.
حظيت نظريّة الانفجار الكبير لاحقاً بدعم مستمرٍّ جَرّاء دراساتٍ عدة أجريت في أواخر التّسْعينيّات من القرن الماضي، وجاءت أوّل البيانات المؤيّدة لنظريّة الانفجار الكبير من بالون مراقبة يُدعى “بومرانج” عام 2000 على شكل معلومات دقيقة حول إشعاع الخلفيّة الكونيّة، وهو أحد أهم الأسس لنظريّة الانفجار الكبير. وكان تمّ إطلاق هذا البالون عام 1998 ليرتفع 120,000 قدم فوق القارّة القطبيّة الجنوبيّة Antarctica ويقول مايكل تيرنر وهو أحد علماء جامعة شيكاغو الذين حلّلوا تلك البيانات:
“لقد عبرت كلّ من نظريّة الانفجار الكبير والنظريّة النّسبيّة العامّة لأينشتاين اختباراً رئيسياً جديدًا”.
كما أرسل مسبار مُصمّم للتّحقّق من تباين خواص الإشعاع ويلكنسون، والذي أُطلق إلى الفضاء في عام 2001، البيانات للأرض عام 2003، وكشف عن تفاصيل هامّة مطابقة للبيانات التي تمّ الحصول عليها من البالون بومرانج. بعض المعلومات التي أكّدها المسبار تُعتبر أحد أهم الإنجازات في العقد الأوّل من الألفية الثّانية، وهي كما يلي:
• عمر الكون يبلغ 13.73 مليار سنة، هامش الخطأ هنا حوالي 1%، وكان يُقدّر عمر الكون قبل ذلك بفترة تتراوح بين 15 و20 مليار سنة.
• بدأت أولى النّجوم بالسّطوع بعد ما يقارب 400 مليون سنة من الانفجار الكبير، وقد أدهش هذا التّاريخ المبكر العلماء.
• يتكوّن الكون من 4.6% ذرّات عاديّة، و23.3% من المادّة المُظْلِمة و72.1% من الطّاقة المظلمة. وهذه القياسات الجديدة ستمكّننا من الحصول على بيانات هامّة عن طبيعة الطّاقة المظلمة، والتي تُمزّق المجرّات.
أنتجت مجموعتان دراسيّتان منفصلتان تتكونان من علماء بريطانيّين وأستراليّين وأمريكيّين خريطة ثلاثية الأبعاد لما يقارب 266,000 مجرة بعد عدّة سنوات من البحث. قام العلماء بمقارنة البيانات التي تمّ جمعها حول توزيع المجرّات مع البيانات حول إشعاع الخلفية الكونية المنبثّ في جميع أنحاء الكون، وحصلوا على العديد من النّتائج الهامّة عن أصل المجرّات. وخلص الباحثون بتحليل الدّراسات إلى أنّ المجرّات تكوّنت نتيجة تجمّع الموادّ مع بعضها البعض بعد حوالي 350,000 سنة من الانفجار الكبير، واتّخذت هذه الأشكال نتيجة لقوّة الجاذبية، وقدّمت نتائج هذه الدّراسات أدلّة جديدة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير.

“العلم أثبت أنّ عمر الكون 13.73 مليار سنة وأنّ أُولى النّجوم بدأت بالسّطوع بعد 400 مليون سنة من حصــول الانفجــار الكبير”

في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون
في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون

راهين جديدة
عزّزت النّتائج التي تمّ الحصول عليها من هذه الدّراسات نظريّة الانفجار الكبير. وأكّد الدّكتور رسل كانون هذا التّأييد في عبارته التّالية:
“لقد عرفنا منذ وقت طويل أنّ أفضل نظريّة عن نشأة الكون هي الانفجار الكبير، حيث بدأ كلّ شيء بانفجار هائل في مساحة صغيرة، وتمدّد الكون منذ ذلك الحين. وفي إمكاننا القول الآن وبدرجة من اليقين تفوق ما كنّا عليه في أي وقت مضى أنّ تلك الفكرة هي الفكرة الأساسيّة الصّحيحة وقد تجمّعت كلّ أجزائها معاً بشكل مقنع للغاية”.
باختصار، فإنّنا عندما ندرس النّظام البديع للكون، نرى أنّ وجود الكون وعمله يقوم على توازن دقيق للغاية، ونظام معقّد جدًّا بحيث لا يمكن تبرير حدوثه بالصّدفة. وكما هو واضح، فليس من الممكن بأيّة طريقة أن يتكوّن هذا التّوازن والنّظام الدّقيقين من تلقاء نفسيهما بالصّدفة بعد انفجار ضخم كهذا. فتشكيل مثل هذا النّظام في أعقاب الانفجار الكبير هو دليل واضح على خلق خارق للطّبيعة.
هذه الخطة التي لا تُضاهى والنّظام الموجود في الكَون بالتأكيد يُثبت وجود خالق ذي معرفة لا نهائيّة، وقوّة، وحكمة، والذي خلق كلّ شيء من العدم، والذي يتحكّم ويُدير ذلك باستمرار، هذا الخالق هو الله ربّ العالمين.

الشيخ أسعد سويد إمام بلدة كفر حمام

الشيخ أسعد سويد

جادة في كفرحمام باسم الإمام أسعد سويد

صورة جامعة لبلدة كفرحمام

الشّيخ أسعد سُوَيد

أنقذَ كثيرين من عَسف المستعمر
وعزز المودّة بين طوائفِ المنطقة

اشتعلت شرارة الحرب العالميّة الثانية في منطقتيّ مرجعيون – حاصبيّا أوائل صيف عام 1941، وهاجم الجيش الإنكليزيّ جيش حكومة فيشي الفرنسيّة المتواجد في ثُكنتيّ مرجعيون والخيام فوق تلال قرى إبل السّقي والفرديس وراشيّا الفخّار ممّا حمل أهالي تلك البلدات إلى النزوح والابتعاد عن ساحات القتال درءاً للأخطار والدّمار .
نصيب منزل الشّيخ أسعد سويد في كفر حمام كان التجاء ثلاث عائلات: آل ظاهر من الخيام وآل الغريب وآل السيّار من بلدة راشيّا الفخار يرافقهم خوري من سوريا كان ضيفاً عند أقاربه في راشيّا …
اشتدّت ضراوة القتال وتطايرت القذائف يميناً وشمالاً حول بلدة كفر حمام. آنذاك بادر الشّيخ أسعد مع ضيوفه إلى الاحتماء بين الكهوف والمغاور خارج البلدة، وكان التجاؤهم إلى مغارة صغيرة لا تتسع لأكثر من ثلاثة رجال، عمل عندها الشّيخ إلى إدخال الخوري وأحد ضيوفه إلى داخلها والبقاء بذاته عند مدخلها..
استعظم الخوري ذلك وقال: لا يجوز يا شيخنا أن تعرّض نفسك للخطر لتقينا منه. أجاب الشّيخ: كُنْ مرتاح البال يا محترم فواجبنا أن نضحّي بأنفسنا ولا نُضحّي بضيوفنا.
ترك جيش حكومة فيشي الفرنسيّة بلدة راشيّا الفخار متقهقراً مخلّفاً العديد من الجرحى والقتلى وجُلّهم من الجنود الشّراكسة، ولكون الحرب كرّ وفرّ، فقد عاود الهجوم الفيشيّ من جديد بعد مدّة إلى راشيّا فتمكّن المهاجمون من استرجاعها ودحر الإنكليز خارجها.
هنا تسرّبت إشاعات لقيادة الجيش المذكور بأن أحد المواطنين في راشيّا خبّأ عدداً من الجنود الشّراكسة في أتون للفخّار كي يبعدهم عن أنظار الجيش الإنكليزي، لكنّه عمدَ بعد ذلك إلى إشعال النّار حيث لاقَوْا حتفهم جميعاً..
قائد الكتيبة الفرنسيّة، والتي خيّمت عند بيادر كفر حمام، وهو شركسيّ يُدعى (باكير) استدعى أهالي البلدة كي يسلّموا أربعين شابّاً من أبناء راشيّا الفخّار المختبئين عندهم، وقصده إلحاق الأذى بهم، انتقاماً لما سمع عن إحراق أبناء جلدته من جنوده، غير أنّ إجابة أبناء البلدة كانت: “إنّ جميع الشّباب والرّجال من بلدة راشيّا قد هربوا خارج كفر حمام ولا نعلم أماكن تواجدهم”. ورغم ذلك أصرّ باكير من قبيل الضّغط النّفسي على جلب نسائهم كي يحقّق في الأمر.
علم الشّيخ أسعد سويد بالموقف فذهب بنفسه إلى القائد المذكور وخاطبه بوقار ورجولة قائلاً : “أيها القائد الكريم، هل يسمحُ دينكم الإسلاميّ وشرفكم العسكريّ أن يؤخذ البريء بجُرم المذنب؟؟ أجابه الضّابط: لا، لكن نريد أن نعرف من قتل جنودنا وكيف كان قتلهم؟؟
قال الشّيخ: صدّقني وثِقْ بكلامي إنّ ما نُقل عن ذلك الرّجل من أهالي بلدته ليس إلا زُور وبهتان وربّما كره وانتقامٌ، وأبناء البلدة المذكورة قد أنكروا جميعهم هذه التّهمة وأقسموا اليمين المعظّم أنّهم أبرياء من دم أيّ جندي فرنسيّ سواء كان شركسيّاً أو مَغرِبيّاً أم سواء ذلك، والآية الكريمة تقول: “ ولا تزر وازرة وزر أخرى” (سورة الزّمر- الآية 7)،
بعد هذا الدّفاع الجريء أجاب القائد العسكريّ الشّركسيّ: لك ما تريد يا شيخنا وعليهم الأمان. نقلتُ هذه المأثرة من مذكّرات الشّيخ أسعد سُويد إلى إمام بلدتنا الفرديس الشّيخ أبو طاهر علي سليقا، وهو شيخ طاعن في السّن جاوز التّسعين من العمر في حينه، فقال: “هذا ليس بمستغرب عن ذاك الرجل الشّريف النّبيل، وقد لمست هذا بنفسي عندما حضر الشّيخ سويد في تموز 1967مأتم أحد شيوخ البيّاضة الكبار المرحوم الشّيخ أبو حسن علم الدّين ذياب وألقى كلمة تأبين أمام المشايخ والمشيّعين كان فيها الكثير من التقدير والاحترام للموحّدين الدّروز” إذ قال: “حضرات المشايخ الأفاضل، يا أهل العقل ويا أهل المعرفة، يا أهل الرّجولة، يا أهل الكرامة، يا أهل الحكمة، اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي المتواضعة هذه بشعرٍ لأمير الشعراء شوقي عن الحكمة:
الكُتْبُ، والرسلُ، والأديانُ قاطبــــةٌ خزائنُ الحكمةِ الكبرى لداعيــها
محبــــــــــّةُ الله أصــلٌ في مراشـــدهـــا وخشـــيــــــــــــــــــة الله أُسٌّ في مبانيــــــــهـــا
وكـلّ خــيرٍ يُــــــــــلَقّــى في أوامــــــرها وكــلّ شــرٍّ يُوَقّــى في نواهيـها
والحقيقة والواقع يا ساداتنا المشايخ والمشيّعين الأكارم نقولها بكلّ خشوع واحترام أمام جثمان هذا الطّاهر والذي سمعنا عنه وعن أمثاله سكّان هذه المعابد المقدّسة والتي تزخر بالعلم والإيمان والمعرفة، وإنّنا وإيّاكم لمسلمين مؤمنين، نفاخر بديننا الإسلاميّ الحنيف، ومهما حاول البعض بثّ عوامل التّفرقة والتّباعد ونشر البغضاء بين المذاهب الإسلاميّة.

“قضاء حاصبيا هو المنطقة الأولى في لبنان من حيث تعدد طوائفه ومن حيث تعايشهم في المــــودّة على مدى الدهور”

الشيخ أسعد سويد
الشيخ أسعد سويد

وفي النّهاية، حقّاً وصدقاً إنّنا نفاخر بكم، وبمصداقيّتكم وتفانيكم ورجولتكم التي ليس من بعدها رجولة وإقدامٌ وشجاعة. والواقع إنّكم أسياف العروبة الحقّة وتُرسها ودرعها وقائدكم سلطان باشا الأطرش عاقد لواءها”
كان للشّيخ أسعد سويد مواقف شهامة وإغاثة للملهوفين شملت جميع الفئات مثل دروز راشيّا الفخار وآل الغريب الشّيعة من أبناء بلدة الخيام، بالإضافة إلى مواقفه الاجتماعيّة مع الجميع خصوصاً جيرانه أبناء الطائفة الدّرزية إذ كان مقرّراً ومُنصفاً وعاملاً نشيطاً للتّواصل والتوادّ معهم، وهذا ما نذكره له بالخير نحن أبناء منطقة حاصبيّا في وادي التّيم ذات العائلات الرّوحيّة المتعدّدة والمتماسكة، وفي بقعة جغرافيّة لا تتجاوز مساحتها مساحة مدينة كبرى كبيروت.
وهنا لا بدّ من استعراض تنوّع تلك القرى من حيث المذاهب والطّوائف، فمثلاً لنبدأ من بلدة الدلّافة، فسكّانها من الطّائفة الشّيعية تقابلها وتجاورها بلدة كوكبا من الطائفة المارونيّة. وتقابل كوكبا بلدة أبو قمحة من الطّائفة الأرثوذكسيّة، وتجاور بلدة أبو قمحة بلدة الفرديس من الطّائفة الدّرزية التّوحيديّة وتتلاصق الفرديس بيوتاً ومنازل مع بلدة الهبّاريّة السّنيّة شرقاً ومع بلدة راشيّا الفخّار جنوباً ذات الطّوائف المسيحيّة المتعدّدة. أمّا قاعدة القضاء حاصبيّا فإنّها البلدة الوحيدة في لبنان التي تتواجد فيها شتّى دور العبادة لشتى المذاهب والطّوائف، ففي داخلها سبعة كنائس للطّوائف المسيحيّة بأكملها، كذلك بقايا كنيس للطائفة الموسويّة، وجامع أثري بديع للطّائفة السّنّيّة، وأربع خلوات للطّائفة التّوحيديّة وهذا ما يزيد من اللُّحمة والمحبّة والتّواصل بين شتى أهل هذه المعابد والأديان. وهنا نعود بالذّاكرة إلى الحرب الأهليّة المشؤومة التي عصفت بلبنان منذ العام 1975 ولغاية 1989، والتي لم تجد من ينغمس في نيرانها وأحقادها من أهل حاصبيّا وقضائها، فالجميع بَقوا في قراهم وبلداتهم ولم يحصل أيّ تهجير طائفيّ أو مذهبيّ بل حصلت هجرات طوعيّة لأسباب معيشيّة لا غير، بل على العكس فإن البعض من أبناء راشيّا الفخّار وكوكبا وأبو قمحة من أخوتنا المسيحيّين بعدما عصفت واشتدّت رياح الحرب الطائفيّة في بيروت وضواحيها، وسواء ذلك كان نزوحهم إلى حاصبيّا وضواحيها ليركنوا ويرتاح بالهم مع أخوتهم وجيرانهم الدّروز، ومثال على ذلك التّرابط فقد توفي في حاصبيّا طبيب قضائها الدّكتور الأرثوذكسي رشيد حدّاد، وحيث إنّه لا يوجد موقف للطّائفة الأرثوذكسيّة آنذاك في البلدة عمد المشايخ من أبناء حاصبيّا لإقامة مأتم حاشد وحافل للفقيد في موقف مذهبهم الخاصّ.
لقد أكرم الله المرحوم الشيخ أحمد سويد بمجموعة من الأبناء كانت فريدة في نبوغها وثقافتها والإسهامات الكبيرة التي قدمتها للوطن فنجله الكبير محمّد كان قاضياً شرعياً، ونجله الثّاني طه أستاذاً تربويّاً في إحدى الجامعات، ونجله الثّالث أحمد النّائب المحامي والأديب الكبير، ونجله الرابع اللواء ياسين المؤرّخ وصاحب الخمسين مؤلّفاً في التّاريخ المدنيّ والعسكريّ، ونجله الخامس محمود رئيس مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة في الشّرق الأوسط.
كما أكرمه الله بالتّقدير الواسع لسيرته العَطِرة من قبل أبناء بلدته ومن أهل المنطقة، وفي كفر حمام بالذّات بحث أهل البلدة عن سبيل لتكريم إمام بلدتهم وداعية الوئام والتّسامح الدّيني والاحترام المتبادل بين الدّيانات والمذاهب فقرّروا إطلاق اسمه على الشّارع الرّئيسي للبلدة وليس هذا بالكثير.

حاصبيّا- الفرديس

العدد 17