الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, تشرين الثاني 15, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مَشيخةُ عقل المُوحّدين (الدروز) في لبنان

الموحّدون (الدروز) طائفة إسلامية يقيم أبناؤها في الدول التالية من المشرق العربي: لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ويتواجد مغتربوهم في الكثير من دول العالم. لهم عبر تاريخهم قادة زمنيون هم شيوخ العشائر والمناطق، والمقدّمون، والأمراء، وغيرهم من ذوي الشأن والنفوذ. ولهم قادة أو رؤساء روحيون في كلٍّ من الدول التي ورد ذكرها باستثناء شرق الأردن، لُقّبوا بالشيوخ سابقاً، وبشيوخ العقل مؤخّراً. وإذا كان يصحُّ إعطاء صفة الزعامة للقادة الزمنيين فإنه لا يصحُّ إعطاؤها للقادة الروحيين نظراً لما تنطوي عليه من سلطة وجاه بعيدين عن مفاهيم ومبادئ مسلك التوحيد العِرفاني، التي يتمشّى عليها أتباعه وخصوصاً الكبار والأعلام، ونظراً لأن الرئاسة الروحية هي اشتقاق معنوي تقليدي لفكرة الإمامة. وقد شُبّه كبار رجال الدين عند الموحّدين (الدروز) بحِرز الطائفة، لأنهم يصونونها بالحكمة والرأي السديد ويشكّلون عناصر خير وبركة فيها، فيما شُبّه الزعماء الزمنيون بسياج الطائفة، لأنهم يصونونها بالسيف ويدافعون عن حقوقها وكرامتها ووجودها.

من شيوخ البلدان إلى شيوخ العقل

كانت المناطق أو المقاطعات، وخصوصاً تلك المفصولة عن بعضها بحدود طبيعية، تُسمّى «البلدان»، ومنها على سبيل المثال المناطق التالية من لبنان، المسكونة بالموحّدين (الدروز): المتن والجُرد والغرب والشوف، ووادي التيم، وقد سُمّي رؤساؤهم الروحيون فيها شيوخ البلدان، وعُرف أبرزهم بشيخ البلدان أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر. وأهم وأكبر شيوخ العصر هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي الملَّقب بالسيّد (000-1479هـ)، كما أنه في الوقت نفسه أشهر أولياء الموحِّدين (الدروز) وأشهر أعلامهم الدينيين، لأنه نهل الكثير من المعارف الزمنية والدينية، وفسّر تعاليم ومفاهيم مسلك التوحيد، وأصلح شؤون قومه، ووضع النهج والقواعد التي تمشّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده، فكان مُعلّماً ومدرسة لأبناء عصره والعصور التالية. ومع أنه أقدم شيوخ العصر إلاّ أنه من الخطأ اعتباره أقدم شيوخ البلدان إذ هناك سبعة شيوخ قبله من أسرته، كما جاء بعده عشرة شيوخ عصر وبلدان.

ومنذ سنة 1763 بدأ يظهر لقب «شيخ العقّال» أو شيخ رجال الدين. وأول من أُطلق عليه هذا اللقب هو الشيخ اسماعيل أبو حمزة، والعقّال جمع لفظة «عاقل» التي تعني من عقل الأمور الدينية أي فهمها وفسّرها وعمل بموجبها، وهم رجال الدين المعروفون بالأجاويد جمع جيّد وتصغيرها جويّد. لكن لفظة «العُقّال» صُحِّفت فغدت: العقل. وقد بدأ ذلك مع العمّال والموظفين الأتراك الذين استسهلوا لفظة العقل على لفظة العقّال، وعمّ استعمالها.

تولّي الرئاسة الروحية قبل عهد المتصرفية

لم يكن تولّي الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) وراثة أو توريثاً، ولا تعييناً من الحاكم، ولا انتخاباً من رجال الدين، ذلك أن من تسلّموها، سواء بلقب الشيخ أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر، تحقّق لهم هذا بفضل بروزهم كفعاليات دينية اجتماعية، وتميّزهم عن اخوانهم بالتقوى والتديّن وحفظ الكتاب العزيز وتفسيره والعمل بموجب التعاليم، وبفضل تخلّقهم بالفضائل والقيم السامية. وعندما كان يتوفّر هذا في أحد الشيوخ كان أخوانه يقرّون بتقدّمه عليهم، وتبعاً لذلك لم يكن هناك تاريخ معين لتولّي أحد الشيوخ هذه المكانة المتقدّمة، بدليل أنّ الكثيرين منهم لم يخلفوا مباشرة من سبقوهم في الرئاسة الروحية، إذ كان هناك أحياناً فترات زمنية تبلغ بضعة عقود بين تاريخ وفاة الشيخ وبروز شيخ آخر مكانه، وبدليل آخر هو أنه ليس عند الموحّدين كما عند المسيحيين نظام إكليريكي يحدّد المناصب وكيفية تسلّمها.

لم يحصل في القرون الماضية أي تدخّل من السلطة أو من الأمير الحاكم في تعيين رئيس روحي أو عزله، ولم يحصل أي تدخّل في شؤون مشيخة العقل إلّا في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عيّن الشيخ حسين عبد الصمد شيخ عقل إلى جانب الشيخ حسن تقي الدين الذي لا يوجد عند آل تقي الدين وسواهم أي مستند خطي يشير إلى تدخل الأمير بشير في توليّه. أما شيخ العقل الثالث الذي عاصر هذين الشيخين وهو الشيخ شبلي أبي المنى، فقد تسلّم المشيخة نزولاً عند رغبة أخوانه، ولم يحصل ذلك في اجتماع عام أو نتيجة انتخاب، وإنما حصل بالتشاور بين رجال الدين، وبأخذ آراء العديدين منهم، وأخذ رأي الوليّة السّت فاخرة البعيني.

تحوّل مقام مشيخة العقل إلى منصب في عهد المتصرفية

أُنشئت متصرفية جبل لبنان بموجب بروتوكول سنة 1861 المعدَّل في سنة 1864، وقُسِّم الجبل إلى سبعة أقضية، وقُسِّمت الأقضية إلى نواحي، وبات هناك إدارة محليّة أكبر موظفيها القائمقامون الذين يعيّنهم المتصرّف، ومنهم القائمقام الدرزي على قضاء الشوف، الذي هو أكبر أقضية المتصرفية، ويشمل قضاءي الشوف وعاليه الحاليين، وتحوّل مقام مشيخة العقل في عهد المتصرفية إلى منصب ديني رسمي أُعتبر «وظيفة» كبيرة كوظيفة القائمقام. وقد وردت كلمة «وظيفة» في كتاب تهنئة المتصرّف رستم باشا لشيخ العقل محمّد طليع، بتاريخ 9 آذار 1874، وفي مضبطة انتخاب الشيخ حسين حماده الموقّعة من منتخبيه، والمرسلة إلى المتصرّف أوهانس باشا بتاريخ 15 كانون الثاني 1915. وبناءً على ذلك لم يعد شيخ العقل أحد كبار رجالات الهيئة الروحية أو أكبرهم، لكنه الممثّل لهم ولسائر الموحّدين (الدروز) إزاء السلطة وإزاء الآخرين، وهذا أضاف إلى الصبغة الروحية الصرف للمشيخة صبغة زمنية سياسية، وأدى إلى اعتماد صيغة نظامية لانتخاب الشيخ وتولّيه رسمياً منصبه، هي بداية أنظمة انتخاب شيخ العقل.

انتخاب شيخ العقل بموجب الأعراف

حين صارت مشيخة العقل منصباً بات تولّيه يتمُّ عن طريق الانتخاب من قبل أعيان الدروز، يليه الاعتراف من السلطة بالشيخ المنتخب. وهذا يحصل على الشكل التالي:
– دعوة قائمقام الشوف أعيان ووجهاء الموحّدين (الدروز) إلى اجتماع لانتخاب شيخ العقل.
– اجتماع الأعيان والوجهاء – وأكثريتهم من الزمنيين – وانتخابهم شيخ العقل، وتوقيعهم على مضبطة بذلك تُرسل إلى المتصرّف.
– تهنئة المتصرّف للشيخ المنتخب، وهي بمثابة اعتراف رسمي به.

وبموجب هذه الطريقة العرفية جرى انتخاب الشيخ محمّد طليع في سنة 1879 خلفاً لوالده شيخ العقل حسن طليع، وانتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 خلفاً لأخيه الشيخ محمّد، وانتخاب الشيخ محمّد حماده في سنة 1869 خلفاً لشيخ العقل حسين عبدالصمد، وانتخاب الشيخ حسين حماده في سنة 1915 خلفاً لوالده الشيخ محمّد. وقد جرى انتخاب الشيوخ المذكورين من قبل عدد محدود من الأعيان والوجهاء، بلغ في انتخاب الشيخ حسين طليع 165، وفي انتخاب الشيخ حسين حماده 340، هو أكبر عدد. كما أنه جرى بدون مرشّحين منافسين، وفي إطار المعرفة المسبقة لاسم الشيخ الجديد الذي سيُنتخب خلفاً للشيخ القديم، بحيث كان الانتخاب أشبه بالمبايعة، ومجرد تطبيق شكلي للعرف.

انحصر انتخاب شيوخ العقل المذكورين في أسرتين هما آل طليع وآل حماده، وبخلافة الابن لأبيه، والأخ لأخيه. وجرى بموجب الأعراف بدون أية إشكالية أو أزمة، واستمر على أساسها لكن مع حصول ثلاث أزمات وذلك عند انتخاب الشيخ محمّد عبد الصمد في سنة 1946 خلفاً للشيخ حسين حماده، وانتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا في سنة 1949 خلفاً للشيخ حسين طليع، وانتخاب الشيخين علي عبد اللطيف ورشيد حماده في سنة 1954 خلفاً للشيخ محمّد عبد الصمد. وما كان سبب هذه الأزمات التجاذبات السياسية والصراع حول مشيخة العقل فقط، وإنما كان أيضاً عدم وجود نظام أو قانون ينظّم انتخابها. وهذا، مع رغبة الغيورين بتنظيم جميع شؤون طائفة الموحّدين (الدروز) أدّى إلى وضع مجموعة من التنظيمات، بدأت بوضع نظام لانتخاب شيخ العقل في سنة 1953، وانتهت بإصدار قانون شامل صدر في سنة 2006 ينظّم شؤون طائفة الموحّدين، باستثناء قانوني الأحوال الشخصية وتنظيم القضاء المذهبي الصادرين سابقاً.

نظام انتخاب شيخ العقل

يحدّد نظام انتخاب شيخ العقل الفئات التي تتكوّن منها الهيئتان الناخبتان وهما الهيئة الروحية والهيئة الزمنية، كما يحدّد كيفية الدعوة والترشّح والشروط التي يجب توفّرها في المرشّح، وإعداد الهيئة المشرفة على الانتخاب محضراً بالواقع وتبليغ رئيس الجمهورية نتيجة الانتخاب، والاستغناء عن إرساله كتاب تهنئة للشيخ هو بمثابة اعتراف به، لأن الشيخ المُنتخَب يكتسب عند ظهور النتيجة حكماً صفة شيخ العقل، وذلك من أجل تلافي ما كان يُشكى منه، وهو تأخر رئيس الجمهورية في إرسال كتاب التهنئة لانحيازه إلى فريق درزي ضد آخر كما حصل عند انتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا، إذ تأخر الرئيس بشاره الخوري في إرسال كتاب التهنئة له أربعة أشهر.

لم يُعمل بنظام انتخاب شيخ العقل عند انتخاب خلف لشيخ العقل محمّد عبد الصمد المتوفّى في 5 نيسان 1954، لأنه جرى الاتفاق بين قادة الدروز على وضع قانون بديل عنه وأفضل منه، لكنهم لم يتفقوا على مبادئه الأساسية التي من بينها توحيد مشيخة العقل فتأخّر إعداده وتأخر الانتخاب حتى أيلول 1954 حيث أدى التجاذب السياسي الحاد إلى حصول أزمة أشد من أزمتي انتخاب سنتي 1946 و 1949، وإلى انتخاب شيخي عقل إلى جانب الشيخ محمّد أبو شقرا، هما الشيخ علي عبد اللطيف والشيخ رشيد حماده، فبات هناك ثلاثية استثنائية للمشيخة بدلاً من توحيدها المنشود.

قانون انتخاب شيخ العقل

بعد ثورة سنة 1958، تجدّدت بقوة مساعي الموحِّدين (الدروز) لاستكمال تنظيم شؤونهم الذي بدأ بصدور قانون الأحوال الشخصية، فصدر في 5 آذار 1960 قانون تنظيم القضاء المذهبي، وصدر في 13 تموز 1962 قانون إنشاء المجلس المذهبي وقانون انتخاب شيخ العقل. والقانونان الأخيران مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، وعلاقة المجلس المذهبي بمشيخة العقل تظهر في الأمور التالية:
1- هيئة مشيخة العقل هي من الأعضاء الدائمين في المجلس المذهبي.
2- شيخ العقل هو رئيس المجلس المذهبي.
3- شيخ العقل هو الذي يدعو إلى انتخاب أول مجلس مذهبي.
4- المجلس المذهبي بعد تشكيله هو الذي يدعو إلى انتخاب شيخ العقل.
وقد نصَّ قانون انتخاب شيخ العقل على الشروط التي يجب توافرها في المرشّح، وعلى كيفية الانتخاب، وصحته أو بطلانه. كما نصَّ في المادة العشرين على ما يلي: «فور صدور نتيجة الانتخاب النهائية تنظّم لجنة الانتخاب محضراً بالواقع وتبلّغ على سبيل العلم اسم شيخ العقل الجديد إلى كل من مقامي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة». إلّا أنه كان من عيوبه النصُّ على ثلاثية مشيخة العقل وإنما بصورة استثنائية، والإبقاء على ثنائية مشيخة العقل، وتكريسها رسميّاً. كما من عيوبه صعوبة تطبيقه، لأنه جعل انتخاب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين لهم حق الانتخاب وفقاً لقانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي. وهذه الديمقراطية التي لم تشمل النساء تصحُّ في انتخاب النواب لكنها لا تصحُّ في انتخاب شيخ العقل، لأنها تخفض من منزلته السامية، وخصوصاً عند حصول التنافس على المشيخة. فكان هذا أحد أهم الأسباب في عدم العمل بقانون انتخاب شيخ العقل فيما عُمل بقانون إنشاء المجلس المذهبي فجرى انتخاب مجلسين على أساسه في سنة 1962 وفي سنة 1966.

توفّي شيخ العقل رشيد حماده في 14 نيسان 1970، فبات على المجلس المذهبي أن يدعو إلى انتخاب خلفٍ له بموجب قانون انتخاب شيخ العقل. لكن أعضاءه، وعلى رأسهم الزعيمان الكبيران: الأمير مجيد أرسلان وكمال بك جنبلاط، قرّرا إرجاء الانتخاب ريثما يُعاد النظر في قانوني إنشاء المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل، كما قرّرا التمديد للمجلس المذهبي نصف سنة وبعدها يُصار إلى انتخاب بديل عنه، على أساس تعديل القانونين المذكورين، أو على أساس قانونين بديلين عنهما. لكن هذين الأمرين لم يحصلا بسبب صعوبتهما وانشغال الدروز عنهما بالأوضاع العامة وتلاحق التطوّرات الخطيرة وتفاقم الأوضاع الأمنية جرّاء الحرب اللبنانية التي نشبت في سنة 1975 واستمرت حتى سنة 1990.

بعد أقل من شهرين على وفاة الشيخ رشيد حماده توفّي الشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970 فانحصرت مشيخة العقل بشخص الشيخ محمّد أبو شقرا حتى وفاته في 23 تشرين الأول 1991، وبهذا توحّدت واقعياً فيما كان هناك قانون لا يزال ساري المفعول، هو قانون انتخاب شيخ العقل الذي ينصُّ على ثنائيتها. وحين لم يُنتخب مجلس مذهبي جديد مكان المجلس المذهبي الممدَّد له نصف سنة انحصرت إدارته وإدارة الأوقاف بشخص المدير العام خالد بك جنبلاط حتى وفاته في 15 آذار 1992.

قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)

كان لا بد من التوافق بين قادة الموحِّدين، وخصوصاً نوابهم، حول اقتراحات ومشاريع القوانين والأنظمة التي تنظّم شؤونهم، لكي تصدر عن المجلس النيابي في قوانين، دون إصدار أي قانون حتى سنة 1999 حيث صدر بناءً على توافقهم القانون رقم 127 بتاريخ 25/10/1999، وهو يقضي بتشكيل مجلس أمناء أوقاف الطائفة. ثم صدر قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)، حاملاً الرقم 208 وتاريخ 26/5/2000.

قدّم الشيخ بهجت غيث إلى المجلس الدستوري طلب إبطال للقانون رقم 127، لكنه لم ينجح في إبطاله فاستمر مجلس أمناء الأوقاف الذي أنشئ بموجبه في العمل. كما قدّم الشيخ بهجت غيث مراجعة إلى المجلس الدستوري يطلب فيها إبطال القانون رقم 208، فاجتمع المجلس بتاريخ 8/6/ 2000 وأبطل تعيين الشيخ أبي علي سليمان أبو ذياب شيخ عقل على أساسه «لعلّة توقيع قرار تعيينه دون تاريخ قبل تصويت المجلس النيابي على القانون المذكور، وقبل نشره في الجريدة الرسمية». وهكذا أُبطل مفعول هذا القانون بالنسبة إلى تعيين الشيخ سليمان أبو ذياب بعد 13 يوماً من صدوره، واستمر الشيخ بهجت في منصبه. لكن معظم مواد القانون المذكور سيتضمنها القانون الذي صدر بعد 6 سنوات.

قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز)

كان من المتعذّر إذن إصدار قانون ينظّم مشيخة العقل والأوقاف دون إجماع النواب الدروز عليه. لكن الإجماع النيابي مرة ثانية تكوّن من فريق واحد هو فريق الزعيم وليد جنبلاط الذي يمثّل الأكثرية، والذي فاز في الانتخابات النيابية سنة 2005. لقد جرى بعدها تقديم اقتراح قانون لتنظيم شؤون مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف، وافق عليه المجلس النيابي في أول كانون الأول 2005، وأُحيل إلى رئيس الجمهورية إميل لحود لتوقيعه ونشره، لكنه ردّه إلى المجلس النيابي الذي درسه مجدّداً في يومي 3 و 4 أيار 2006، ووافق عليه، فصدر بتاريخ 12 حزيران 2006، وكان إنجازاً مهماً للموحِّدين على صعيد تنظيم شؤونهم الداخلية، بعد محاولاتهم المتكرّرة لمدة 36 عاماً لإيجاد بديل عن قانوني المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل الموضوعين في سنة 1962، واللذين لم يُعمل بهما في استحقاق سنة 1970.

إن قانون سنة 2006 هو القانون المنشود والضروري لتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، التي تعطّلت مسيرتها أحياناً وتعثرت أحياناً أخرى. وهو حصيلة ما تضمنّته القوانين والأنظمة الموضوعة ومشاريع القوانين المقترحة، مع سدِّ النقص وتصحيح مواطن الخلل فيها. لقد سبق لنا أن عالجنا بتوسّع مواضيع مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف في كتب ثلاثة، أولها كتاب «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015. وثانيها كتاب «الشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين (الدروز) الصادر سنة 2017. وثالثها كتاب «المجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان، الصادر سنة 2018. لذا سنتكلم هنا بإيجاز عن أبرز الإيجابيات والنقاط الجديدة الواردة في قانون سنة 2006 فيما يتعلق بمشيخة العقل.

-توحيد مشيخة العقل. ظهر الموحِّدون الدروز على صعيد التمثيل الديني بخلاف سائر الطوائف، إذ كانت مشيخة العقل عندهم ثنائية فيما هي عندها برأس واحد، وهذه الثنائية قائمة على أساس سياسي لا على أساس ديني عقائدي. وقد عمل الموحِّدون منذ أواسط القرن العشرين على توحيد المشيخة وتصحيح خطأ بدأ في سنة 1825، وكان من أهم أسبابه تدخّل الأمير بشير الشهابي الثاني في الشأن المذهبي الدرزي من قبيل الإمعان في إضعاف الموحِّدين وتفرقتهم بعد أن قضى على زعيمهم الأكبر الشيخ بشير جنبلاط، وتحقّق لهم ذلك واقعياً ودون نص قانوني منذ سنة 1970، ثم تحقّق لهم في قانون سنة 2000، لكن هذا القانون أُبطل بعد 9 أيام من صدوره بمرسوم، وبعده تحقّق لهم في قانون سنة 2006 الذي نصَّ في مادته الثانية على ما يلي:
«إنّ لطائفة الموحِّدين الدروز شيخ عقل واحد يتمتع بذات الحرمة والامتيازات والحقوق التي يتمتع بها رؤساء الطوائف اللبنانية الأخرى بلا تخصيص ولا استثناء».

إن قانون سنة 2006 ليس مثالياً وخالياً من الثغرات، مما يتطلّب إجراء تعديلات فيه، لكن مادته الثانية التي تنصّ على توحيد مشيخة العقل غير قابلة للنقاش، وغير قابلة لأي تعديل، لأن فيها مماشاة للموحِّدين لسائر الطوائف في موضوع وحدة الرئاسة الدينية، وإظهارهم كاسمهم واسم مذهبهم: مسلك التوحيد، إضافة إلى أن هذا أجدى وأكرم لهم.
-تصحيح اسم «الدروز» على صعيد رسمي. أُطلق اسم «الدروز» خطأً على أتباع مسلك التوحيد العرفاني فتداولوه اقتداءً بمُطلقيه، واستمرّوا في اعتماده وتداوله قروناً عدة، لأنهم اشتُهروا واقترن تاريخهم وأمجادهم به. لكنهم أخذوا مؤخّراً يذكرون في أدبياتهم الاسم الحقيقي: «الموحِّدين» واللقب: «بني معروف». وجاء قانون سنة 2006 يجاري هذا الاتجاه، ويكرّس الاسم الحقيقي في عنوانه ونصوص مواده، لكنه ذكر إضافة إليه اسم «الدروز» من قبيل التوضيح»، ومنعاً للالتباس. وقد نصّ على وجوب اعتماده في أي نص قانوني لاحق، إذ جاء في المادة (51) ما يلي:

«تُستَبدل عبارة «الطائفة الدرزية» بعبارة «طائفة الموحِّدين الدروز» وذلك أينما ورد النص عليها في كافة القوانين والأنظمة النافذة والمرعية الإجراء، وتعتمد هذه العبارة لاحقاً في أي نص قانوني يتم اقراره واعتماده».
وبناءً على هذه المادة أصبح شيخ عقل الدروز يُدعى شيخ عقل طائفة الموحِّدين، أو شيخ عقل الموحِّدين.

-زيادة شروط الترشح لمشيخة العقل: لم يكن هناك قبل قانون سنة 1962 شروط للترشح. لذا نصَّ هذا القانون على أن يكون المرشّح من أهل التقوى والدين، ومن ذوي العلم والمعرفة بتقاليد الطائفة، وحسن السمعة ومحمود الشيم، منزّهاً عما يمسُّ الكرامة والدين، وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة. ثم نصَّ قانون سنة 2006 على مضمون هذه الأمور، واشترط بالإضافة إليها أن يكون المرشّح من أهل الدين والتقوى لمدة لا تقلُّ عن الخمس سنوات وفق العرف السائد، كما اشترط الموافقة على ترشيحه من قبل عشرة أعضاء من المجلس المذهبي على أن يكون ثلثهم من أعضاء الهيئة الدينية. وليس وضع هذه الشروط من قبيل تعقيد الأمور وتصعيبها، وإنما هو من قبيل ألا يصل إلى منصب المشيخة السامي إلا المؤهّل له والمقبول من رجال الدين والمعروف جيداً في أوساطهم.

-جعل انتخاب شيخ العقل على درجتين: كان شيخ العقل يُنتخب بحسب الأعراف بالمبايعة في اجتماع عام من قبل الذين يلبّون الدعوة العامة لحضوره. وقد نصّ قانون سنة 1962 على أن يُنتخب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين يحق لهم انتخاب النوّاب. ونظراً لصعوبة هذه الطريقة، وعدم ملاءمتها كما وردت الإشارة إلى ذلك، جعل قانون سنة 2006 الانتخاب على درجتين وذلك بانتخاب شيخ العقل من قبل أشخاص منتخبين من الموحِّدين أو يمثّلونهم، وهم رئيس المجلس المذهبي وأعضاؤه الدائمون: نواب الطائفة الحاليون والسابقون، ووزراؤها الحاليون، وقضاة المذهب، والعضوان الدرزيان في المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى. كما هم أعضاء المجلس المذهبي المنتخبون وعددهم 68 يمثّلون أصحاب الشهادات الجامعية والمهن الحرّة والمناطق. ويكتسب شيخ العقل المنتخب حكماً وفوراً الصفة الشرعية بعد الانتهاء من فرز الأصوات، وإعلان النتيجة.

-تلافي شغور منصب شيخ العقل: لم يحدث أي شغور لمنصب شيخ العقل زمن ثنائيتها، وما حصل هو تأخّر انتخاب شيخ العقل أحياناً لبضعة شهور، وتأخّر رئيس الجمهورية في الاعتراف بالشيخ المُنتخب لفترة قصيرة، بسبب الانقسام حول مشيخة العقل، والتجاذب السياسي. وقد تلافى الشيخ محمّد أبو شقرا حصول الشغور بعد وفاته فاعتمد صيغة منصب القائم مقام شيخ العقل كما حاول الموحِّدون تلافي هذا بتضمين مشاريع قوانين تنظيم مشيخة العقل وتوحيدها منصب نائب شيخ العقل الذي يحلُّ مكان شيخ العقل في حال وفاته أو عزله. أما بالنسبة إلى قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز الصادر في سنة 2006، فقد نصَّ في المادة (31) على ما يلي:

«قبل موعد انتهاء ولاية شيخ العقل بمدة شهر على الأقل وشهرين على الأكثر يلتئم المجلس المذهبي بدعوة من رئيسه لانتخاب شيخ عقل جديد، وفي حال تخلّفه عن القيام بالدعوة المذكورة ينعقد المجلس المذهبي حكماً في أول يوم عمل يلي بدء مهلة الشهرين المبيّنة أعلاه لإعلان تاريخ الانتخاب، وفي هذه الحالة يرأس المجلس المذهبي أكبرُ الأعضاء سناً ويقوم بتحديد موعد الانتخاب والإعلان عنه خلال مدة عشرة أيام».
وتطبّق هذه المادة في حال استقالة شيخ العقل أو إعفائه من منصبه لأسباب حدّدتها المادة (30).

-تحديد مدة ولاية شيخ العقل: لم يكن تولّي مشيخة العقل مشروطاً بسن محدّدة، ولم تكن أيضاً مدّة ولاية الشيخ محدّدة بسن معينة إذ هي تستمر حتى وفاة الشيخ. فقد كانت مدتها، مثلاً، مع الشيخ محمّد حماده 46 سنة، وهي لم تنتهِ إلّا بعد اشتداد وطأة المرض عليه، حيث توفي بعد بضعة أشهر من تنازله لابنه الشيخ حسين. وكانت مدة ولاية الشيخ حسين عبد الصمد 43 سنة، ومدة ولاية الشيخ محمّد أبو شقرا 42 سنة، وكلاهما استمرّا حتى وفاتهما. إلا أن قانون سنة 1962 اشترط بلوغ المرشح للمشيخة سن الأربعين، لكنه أبقى مدة ولايتها طوال حياة الشيخ. أما قانون سنة 2006، فقد اشترط بلوغ المرشح سن الأربعين، وحدّد ولاية الشيخ بخمس عشرة سنة فقط، أو ببلوغه الخامسة والسبعين، مع جواز التجديد له بموافقة الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس المذهبي، دون أن يتخطى سن الخامسة والسبعين. كما نص في المادة (30) على ما يلي:

«لا يُعفى شيخ العقل من منصبه إلّا بناء لطلبه أو لأسباب خطيرة تهدّد كرامة الطائفة ووحدتها وكيانها أو تمسّ بسمعتها أو لأسباب صحية تمنعه من القيام بمهامه تقررها اللجنة الطبية الدائمة في بيروت، وذلك بناءً على طلب ربع أعضاء المجلس المذهبي. وفي حال عدم اعتزاله طوعاً يتم الإعفاء بقرار من الهيئة العامة للمجلس المذهبي بأكثرية ثلثي أعضائه القانونيين بناء على اقتراح ربع أعضائه على الأقل».

– إيجاد الهيئة الدينية الاستشارية: إضافةً إلى موظفي ملاك مشيخة العقل، نصّ قانون سنة 2006 على وجود هيئة استشارية لشيخ العقل يستعين بها لمساعدته في أداء مهامه الكثيرة، المحدّدة في صلاحيات واسعة. وهي تتكوّن من ستة من مشايخ الدين المعروفين بعلمهم الديني، أحدهم من خلوات البيّاضة، يعيّنهم شيخ العقل خلال مهلة شهر من تاريخ تسلّمه مهامه، وتكون مدتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وبما أن أحدهم هو من خلوات البيّاضة الموجودة في قضاء حاصبيا، فإن توزيع الخمسة المتبقين منهم يجري على أساس تمثيل المناطق الأخرى، وذلك بتعيين عضو عن كل من الأقضية أو المناطق التالية: الشوف – عاليه – المتن الجنوبي – راشيا – بيروت.

انتخاب أول شيخ عقل بموجب القانون.
نصّ قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز على مِهَل محدّدة لانتخاب المجلس المذهبي، وانتخاب شيخ العقل، وتشكيل لجان المجلس الثماني التي يتكّون منها مجلس الإدارة، وتأليف الجهاز الإداري. وكانت الخطوة الأولى في تطبيق القانون هي انتخاب أعضاء المجلس المذهبي في 24 أيلول 2006، تلاه انتخاب هؤلاء الأعضاء للقاضي نعيم حسن (قاضي المذهب في قضاء عاليه) شيخ عقل في 5 تشرين الثاني 2006. وقد انتُخب بإجماع أعضاء المجلس المذهبي، الحاضرين، ولم يكن هناك منافس له لأن طلب المرشح الثاني البروفسور سليم مراد غير مستوفي الشروط.

بدأ شيخ العقل الشيخ نعيم حسن عمله فوراً، وذلك بتسلّمه رئاسة الجلسة التي جري فيها انتخابه، من رئيس السن العضو فؤاد الريّس. ثم تولّى بالتعاون مع أعضاء المجلس مهمة التأسيس الصعبة، أو مأسسة المجلس، وذلك بوضع نظام المجلس الداخلي وسائر الأنظمة وتسلّم الأوقاف. وتعيين الجهاز الإداري والموظفين. وتابع بالتعاون مع قادة الموحّدين السياسيين المواضيع المهمة، ومثّل الطائفة خير تمثيل في شتى المناسبات وخصوصاً تلك التي تقتضي حضوره مع رؤساء الطوائف على اعتبار أنه الممثل الشرعي والرسمي للطائفة. وقد ترأس جلسات الهيئات العامة للمجالس المذهبية الثلاثة التي انتخب منها اثنان زمن ولايته، وجلسات مجلس الإدارة. كما ترأس الأكثرية الساحقة من جلسات اللجان رغبة منه في متابعة النشاطات وتسيير الأمور بما في ذلك التفصيلية بغية ضبط عمل المجلس وتفعيله.

تنتهي مدة ولاية الشيخ نعيم حكماً في 5 تشرين الثاني 2021، وبصفته رئيس المجلس المذهبي يدعو بناءً للمادة (31) من قانون سنة 2006 أعضاء المجلس إلى الاجتماع لانتخاب خلفٍ له. والآمال معقودة على اتخاذ قادة الطائفة وعقلائها من هذا الاستحقاق فرصة للاتفاق حول جميع الشؤون الداخلية، والتوحيد الكامل لمشيخة العقل غير المنقوص بأي شكل من الأشكال، وتلاقي وتضافر الجهود لمواجهة التحدّيات على كافة الصّعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، في مرحلة ملأى بالمفاجآت والتحوّلات الدراماتيكية المصيرية، حيث تتكتل فيها الجماعات حول مصالحها، وتسعى لحفظ كيانها وتثبيت وجودها.

المسارُ الإنسانيّ في شخصية المقدّم شريف فيّاض

المُقدّمة

في ذكرى وفاة المقدّم شريف فياض الخامسة، تتسابق لديّ عاطفة الفراق مع عقلانية الباحث، لاستذكار مآثر شخصية «الرجل الرجل في الأوقات التي عزّ فيها الرجال». عند قراءتي لما كتبه المقدّم فياض، ولما كُتب وقيلَ عنه، مستعينة بما اعتلمته من ذاكرة أفراد عائلته، أجد نفسي مختارةً كتابة المسار الإنساني في شخصيته، وربما أبدو بذلك غير حيادية، مستذكرة قوله في مقدمة كتابه (نار فوق روابي الجبل، 2015)، «أنا لست حيادياً فيما كتبت»، راسمةً أفكاري بين عناوين تتداخل كوريقات زهرة عطرة فوّاحة، يحملها جذع متين حُفر عليه إيمان المقدّم بقناعاته الثابتة وممارسته لها على نفسه قبل الغير، مقدّمة هذه اللوحة عربون وفاء في ذكراه.

بلدة بشتفين (تصوير ايهاب فيّاض)
إبن قرية بشتفين

وُلد شريف سليمان فياض سنة 1937، في قرية بشتفين الشوفية، المتميّزة بالحفاظ على عادات وتقاليد راسخة في ذاكرة أهل الشوف، وتربّى في منزل اعتاد على ممارسة الشأن العام حين كان والده مختار بلدته لسنوات طوال، وفي زمن كان الاعتناء بالأرض الزراعية واجباً ملزماً على جميع أفراد العائلة. بقيت معالم هذه التربية راسخة في شخصية المقدّم، حين لم تتغلب قسوة الحياة العسكرية في الجيش اللبناني أو في قيادة الجيش الشعبي، على ملامح الحس الإنساني لديه، فتراه نصير الضعيف، ومساعد المحتاج، وكفيل المظلوم، فقد «تميّز بعمله الصامت وأخلاقه الدمثة وابتسامته الودودة»، ومارس خدمة الناس وتأمين احتياجاتهم حتى وهو على فراش المرض، في مستشفى الجامعة الأميركية، حيث يشهد من رافقه من الجهاز الطبي ومن أفراد عائلته على الاتصالات الهاتفية والزيارات المتعلقة بتسيير شؤون الناس. حافظ المقدّم على العادات والتقاليد في بلدته، فتراه أول الواصلين إلى لقاء عيد الأضحى، منتظراً أفراد عائلته لينتقلوا سوياً إلى ساحة البلدة، حيث ملتقى جميع العائلات. كنت تراه مواسياً للمحزونين في مآتمهم، ومشاركاً للعرسان في أفراحهم. احترم العائلة التي انتسب إليها، وافتخر بالبلدة التي ولد فيها، فتراه يتمم أفراح أولاده في بيته في بشتفين، حين احتضن منزله قادة الوطن وسفراء الدول، واقفاً كالمارد بين أنسبائه وأهالي بلدته، على يمينه وليد جنبلاط ورفاقه في الحزب، برمزية ربما كان يرتقبها، حين احتضنت البلدة جثمانه في مأتم ضخم ضمّ قادة الوطن وسفراء الدول، ووليد جنبلاط، فيما كان المقدّم كالمارد الهامد على طريق مثواه الأخير.
طبّق المقدّم قناعاته على نفسه وعلى عائلته، فتراه يدرّب أولاده على احترام الناس وحاجاتهم، يعلّمهم فنون الاعتناء بالأرض وإدارة الوقت بالممارسة وبالاقتداء به، حين كان يرافقهم صباحاً، إلى الحقول الزراعية، ويوزّع المهام عليهم قبل الانتقال إلى عمله، فكم من رفيق رآه «يفرط» الزيتون، أو يروي الزرع… أمّن لهم المستلزمات لتحصيلهم العلمي، ولكنه لم يستغل لا منصبه ولا علاقاته لفرض خياراته عليهم، وهم بالمقابل لم يخذلوه ووصلوا إلى أعلى المراتب في هذا المجال.

احترم المرأة وآمن بقدراتها، دعم تحصيلها العلمي، شجّع نشاطات السيدات في مؤسسات الحزب ودعم اقتراحات الاتحاد النسائي التقدمي، حين اعتبرهنّ الأقرب إلى شرائح المجتمع والأدرى بحاجاته، وعلى سبيل المثال كان الراعي لـ «حملة دعم المريض» في بلدته بشتفين.

آمن بالمصلحة العامة، وانطلاقاً من بلدته شجّع وساهم ودعم بناء دارٍ جامعةً لجميع عائلاتها «دار البلدة للخدمات الاجتماعية»، في زمن كانت الدورُ في باقي القرى تُبنى على أسماء العائلات فيها، حينها عمل جاهداً مع وليد جنبلاط، وكان الوسيط لتأمين هبة الأرض وجزء من كلفة البناء لإتمامه.
كان المقدّم محباً للحياة، وكما قال وهيب فياض واجه المرض «بأسلحته الذاتية ودفاعاته الشخصية…. حتى ليتبادر إلى ذهنه أن الموت لم يغلبه… وهو يخال الموت يؤدي له التحية العسكرية قبل أن يصطحبه في رحلته الأخيرة».

اختصر المقدّم نهج حياته بنفسه قائلاً « رافقت الكبار وحاولت أن أتخلق بأخلاقهم وأن أسلك نهجهم في التواضع والتفاني والأثَرة. جنيت فيها ثروة عظيمة، هي محبة الناس وثقتهم واحترامهم»، فرثاه وليد جنبلاط قائلاً «حملت راية الحزب ولم تطلب لنفسك شيئاً عشت هانئاً متواضعاً ورحلت راضياً مرضياً».

ضابط في الجيش اللبناني
المقدم شريف فياض

سمح تحصيل شريف العلمي الراقي في حينه، انطلاقاً من المدرسة الداوودية في عبيه، مروراً بالمعهد العربي في بحمدون، وصولاً إلى نيل شهادة البكالوريا اللبنانية من مدارس المقاصد في بيروت سنة 1959، بالتقدم إلى امتحانات الدخول إلى الكلية الحربية في الجيش اللبناني، انسجاماً في حينه مع تطلعات العهد الشهابي في ضم الطاقات الشبابية الكفوءة إلى صفوف الجيش اللبناني، وجعله خير مدرسة للتربية على المواطنية.

أحبّ الضابط فياض الجيش اللبناني وآمن به لا طائفيّاً، وعلى سبيل المثال فقد حال دون استقالة أحد رفاقه من الضباط «الموارنة» قائلاً له: «إذا كان المخلصون سيستقيلون لمن سنترك البلد؟». تخرّج من المدرسة الحربية سنة 1961، وتدرّج في الرتب حتى رتبة رائد، عمل من أجل وحدته حين اندلعت حرب السنتين سنة 1975، وكُلّف بمتابعة ثكنات الجيش التي انفصلت عن القيادة المركزية. غادر مركز خدمته سنة 1976 في الفياضية وانتقل إلى منطقة الشوف حيث بدأ نشاطاً سياسياً وعسكرياً حين التقت قناعاته «مع فكر المعلم بالتمسّك بهوية لبنان العربية وباعتبار مرتكزات النظام السياسي هي الحرية والديمقراطية والمساواة كما التقت مع قناعاته بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه». قدّم استقالته سنة 1978 وتقاعد برتبة مقدّم، «حتى يكون أميناً لرسالته العسكرية… ويكون صادقاً بالتزامه تجاه الحزب التقدمي الاشتراكي». لم يُخفِ فرحته حين وجّه، في ختام حياته السياسية، تحية للجيش اللبناني وضباطه الذين تمكنوا من «إعادة بناء المؤسسة العسكرية على عقيدة وطنية عربية تؤهلها للذود عن الوطن».

القائد العسكري الاشتراكي

ساهم المقدّم في تأسيس «قوات التحرير الشعبية»، للمشاركة في حرب السنتين إلى جانب الحركة الوطنية والحزب التقدمي الاشتراكي. بعد دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط سنة 1977، كانت أولى المهمات التي تولّاها فياض تحت قيادة وليد جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي، إقامة معسكر تدريب سرّي في منطقة الشوف، لتتحول بعدها معسكرات التدريب إلى علنية، ويكلّف رئيس الحزب سنة 1978، المقدّم فياض قيادة «جيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد كمال جنبلاط»، والذي استمر بتأدية مهامه حتى انتقاله للعمل السياسي. كان القائد فياض المخطّط الحذق، والمنفذ المتابع على الأرض لأدق التفاصيل، غير المتهور، وملتزم بالتنسيق مع رئيس الحزب في كل القرارات العسكرية.

المناضل الحزبي السياسي

 

نشأ شريف فياض على إيمانه بالعروبة، تأثر بفكر ومبادئ جمال عبد الناصر، وحين التقت قناعاته مع فكر كمال جنبلاط، اعتبر نفسه «حامل قضية انخرط فيها وقاتل من أجلها حوالي نصف قرن». ناضل من أجل قضيته عسكرياً، وانتقل إلى العمل السياسي من خلال انتسابه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وتبوأ منصب أمين السر العام منذ سنة 1987 حتى سنة 2011. سخّر المقدّم منصبه برفقة نخبة من المناضلين «لإعادة بناء الحزب ومؤسساته وتلبية متطلبات الناس والوقوف على حاجاتهم»، مهتماً بالجيل الناشئ حين عمل على «تدريبه ليحسن استعمال البوصلة»، وخاصة من خلال منظمة الشباب التقدمي التي انتسب إليها نخبة من الشباب الذين اعتبروا المقدّم مثالاً وقدوة، وتبوأ عدد كبير منهم لاحقاً مناصب قيادية في الحزب أو في الحياة السياسية اللبنانية. كان المقدّم فخوراً سنة 2011 أن جهوده وجهود رفاقه بتوجيهات وليد جنبلاط «أثمرت في الجمعية العمومية مجلساً قيادياً شاباً حيوياً منتخباً»، معللاً ذلك قائلاً «أترك موقعي بقرار حزبي ديمقراطي أخذته الجمعية العامة وأبقى في المختارة بقرار شخصي حرّ واعٍ »، موجهاً التحية لهؤلاء الشباب «جيل المستقبل وهم يعبرون الجسر في الصبح خفافاً»، حين جعل أضلعه تمتد لهم «جسراً وطيد». قَرَن المقدّم القول بالفعل حين اصطحب في الأسبوع الأول بعد تركه منصب أمانة السر «حفيده ابراهيم إلى دار المختارة وكأنه يقول دون أن ينطق أنا معكم إلى ولد الولد».

عمل المقدّم على «كسر أطواق المذهبية والطائفية والمناطقية»، وتنبّه إلى «المستغلين والنفعيين الذين يسيرون في الصفوف الخلفية للمناضلين ويتربصون بالصيد الثمين كلما لاحت لهم الفرصة». استمرّ المقدّم بممارسة قناعاته، وحاول اثباتها وتعميمها حين حاضر عن لبنان ومقومات الدولة فيه، عرض المشكلة في نظام لبنان السياسي الذي لم يؤمّن «العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين»، ولكنه عرض أيضاً الحلول وبوّبها ووضعها تحت عنوان عريض هو «إعادة بناء العقد الاجتماعي بين اللبنانيين» من خلال الحوار والوصول إلى «الاتفاق على مجموعة مُثل وقيم إنسانية وأخلاقية تكون ناظماً لسلوك الأفراد والمجتمع، تنبثق من شرعة حقوق الانسان، وتؤمّن العدالة والمساواة وتضمن الحريات العامة، وتعتبر الدين شأناً شخصياً لا مكان له في الممارسة السياسية».

ساهم اعتداله وحسن إدارته الشأن العام تكليفه من رئيس الحزب الإشراف على إدارة الانتخابات اللبنانية العامة النيابية والبلدية والاختيارية، وتولي رئاسة اللجنة الانتخابية في الحزب، منذ سنة 1993 حتى سنة 2005.

حدّد المقدّم عدوّه وعدوّ لبنان أنه «إسرائيل»، ونبّه من «تسويق مخططاتها تارة بالإغراء وطوراً بالتهديد وباستخدام القوّة لفرض إرادتها كما حاولت أن تفعل من خلال احتلالها عاصمة لبنان وجزءاً من أراضيه». آمن المقدّم «بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه»، لم يبخل بعمله السياسي أو بعلاقاته الشخصية من نصرة هذه القضية، ما حدا بالسفير الفلسطيني أشرف دبور أن يصفه «برمز التضحية والعطاء وافتداء الوطن ورفض ظلم فلسطين واحتلالها مناصراً قضيتها وشعبها» معتبراً إياه «رمزاً للارتباط الأخوي اللبناني الفلسطيني». مع العلم أن هذا الالتزام لم يحجب أولويات المقدّم الوطنية.

المربي التربوي المثابر

ظهرت بوادر تعميم الثقافة منذ الصغر، حين ترأس شريف تحرير مجلة ثقافية في المدرسة الداوودية في عبيه تحت اسم «life». ساهم المقدّم فياض في إصدار برنامج التنشئة الوطنية في مدارس الجبل وأشرف على إصدار سلسلة كتب لتدريسها بالتعاون مع المكتب التربوي في الإدارة المدنية حينذاك. كُلّف عضواً في مجلس أمناء «مؤسسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية» سنة 1988، ليصبح أمين سر المؤسسة منذ سنة 1994 حتى تاريخ وفاته، حيث عمل على مأسستها وتنظيمها مع رفاق مخلصين، وتحويلها إلى مؤسسة أكاديمية. من منطلق قناعاته الراسخة، وممارستها على نفسه، كما استنهض المقدّم معارفه، لبناء شبكة علاقات مع المؤسسات الجامعية الخاصة والرسمية، لصالح آلاف الطلاب الجامعيين داخل لبنان. كلّ ذلك جعل وليد جنبلاط يختار هذا المضمار ليخلّد فيه اسم المقدّم بعد وفاته، بإطلاق «منحة شريف فياض» السنوية الموجّهة إلى الطلاب المتميزين في الدراسات العليا خارج لبنان.

رجل الحوار والمصالحة

«أكرمني الله أن أكون إلى جانب وليد جنبلاط في معركة التحوّل من العسكرة إلى السياسة، وفي الانتقال من خنادق الحرب إلى طاولات الحوار، ومن متاريس الخصام إلى لقاءات المصالحة»، بهذه الكلمات كرّم شريف فياض نفسه في حفل تكريمه سنة 2011، حين أفصح عن قناعاته الراسخة بضرورة الحوار وإتقان موجباته وصولاً للمصالحات الكبرى التي عرفها جبل لبنان. في المقابل كان وليد جنبلاط معبّراً حين رثاه بوصفه «كنت رمز الصلابة في مرحلة الحرب ورمز التسامح في مرحلة السلم، واكبت عودة المهجرين وعملت بجهد لطي صفحة الحرب المشؤومة». رأى د. قُصي الحسين في المقدّم «جسر القاضي بين رفاق تنابذوا وبين رفاق تحابوا»، فهو «جسر أهلي ووطني وحزبي وتقدمي وجنبلاطي وتاريخي متحرك». أما شهادة فؤاد أبو ناضر الآتية من موقع الخصومة السابقة، فقد شددت على الدور الذي لعبه الراحل أثناء الحرب وبعدها من أجل وضع كتاب جديد فيه طيّ لصفحات الماضي وفتح صفحات بيضاء للتعايش في الجبل ولبنان، ولا سيما الجبل بعد عودته إلى لُحمته السابقة، وقد التقت قناعاته مع المقدّم حين أكّد أن «لبنان لن يستقيم إلّا إذا اجتمعنا على البحث عن حقيقة تاريخنا الحديث لأن الحقيقة هي التي تلغي الحدود وتحوّل ساحة الوغى إلى ساحة لقاء».

اختبرت مفهوم البحث عن الحقيقة عند المقدّم بنفسي، حين زوّدني بما احتجت إليه من وثائق للكتابة عن دور الإدارة المدنية في الجبل، واقترح عليّ أن أكتب عن دور الإدارات المحلية عند الأطراف التي كانت في الجهة الأخرى من الحرب، ذُهلت حينها ولكنني تعلمتُ درساً أن الحقيقة لا تتجزأ ولا يكتمل نسج خيوطها إلّا من جميع الجهات.

كل هذه المبادئ تجدها منتشرة في صفحات كتاب المقدّم، وهي خير دليل على ممارسته قناعاته على نفسه قبل غيره، حين استضاف عائلة، في خضم الحرب، مصنّفة من «الخصوم»، مؤلفة من ستة أطفال في أسرّة أولاده وتحت رعاية زوجته، مؤكداً أن «المحبة حلّت محل الحقد في قلوبهم… يعيشون متصالحين مع أنفسهم ومع مجتمعهم» مستخلصاً أنه «من رحم المأساة تولد المحبة ومن صخب التطرّف وغباره تنقشع خيوط المصالحة ومن القناعة بالشراكة الوطنية يُبنى الوطن وتُبنى مؤسساته» مستذكراً الحوار الجدّي والمسؤول «الذي جرى في القاعات العامة في الجبل أو في الأديرة والمكتبات وكان له أثر بالغ في ترميم جسور الثقة بين الناس من مختلف المذاهب والأحزاب وسهّل التلاقي والتعاون والعودة وغسل القلوب»، مختتماً بخلاصات تشق طريق بناء الوطن حين يذكر أنه «لا يفيدنا في لبنان أن نطمس حقائق الخلاف وجذور التباين القائم ونهمل واقع التوازن الوطني المضطرب»، وحين يعتبر أن «أهم الدروس المستقاة من الحرب الأهلية اللبنانية هو درس العودة إلى الحوار الداخلي والقناعة بالتنوّع والعيش المشترك وقبول الآخر كما هو ذلك الآخر. وبغياب ذلك الحوار الجدّي المخلص وبغياب القناعة بالوطن وبالشراكة فيه ستتكرر المآسي وإن بحلل مختلفة وألوان متعددة»، وكأنه يقول امتثلوا إذا أردتم بناء لبنان.

الكاتب المؤرخ

اهتم المقدّم بالكتابة التاريخية، ولكنه لم يتناولها من نِظرة القائد العسكري، أو استغلها لعرض سيرة شخصية احتلّت أعلى المراكز، بل اتبع خطوات منهج البحث التاريخي، من حيث أهمية اختيار الموضوع؛ فقد كتب عن مرحلة دقيقة من تاريخ الجبل ومن خلاله تاريخ لبنان المعاصر، وقد حدّد إشكاليته في مقدّمة كتابه حين افترض أنّ «كلفة التسوية مهما كانت باهظة تبقى أرخص من كلفة الحرب حتى لمن ينتصر فيها». سعى إلى تأمين المصادر والمراجع، ولم تأخذه نشوة القائد كي يتفرّد بالخبر، بل تواصل مع من عايش الحدث، ونهل من محفوظات الحزب التقدمي الاشتراكي، واستعاد من الصحف اليومية ما احتاجه… فتراه في كل مفاصل كتابته، يوثّق معلومته بالاسماء، بالتواريخ، بالوقائع الحقيقية غير الافتراضية، ليتحول كتابه (نار فوق روابي الجبل) مصدراً يعتدّ به للفترة الزمنية التي غطّاها.

أراد المقدّم أن يستفيد من الكتابة التاريخية إلى أبعد حدود، فتراه يشقّ طريق المنهج الاجتماعي، حين جال في «الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة والأعراف والتقاليد والمفاهيم الضابطة لإيقاع نبض الناس في حقبة تاريخية محدّدة»، وكان جسوراً أن صاغ العبر بين طيات صفحاتها، رافضاً العنف حين خاطب أولاده «فلينشئوا أولادهم (أحفادي) على رفض العنف الذي لا يؤدي إلا إلى التراجع والانهيار»، مظهراً كلفة الحرب على المجتمع التي «نسفت أسس المجتمع ومرتكزاته»، مشيراً في أكثر من محطة إلى «العلاقات الإنسانية بين أهالي القرى قبل الحرب وبعدها علّ في ما كتبتُ درسًا من الماضي وعبرًة للمستقبل». جعل الأمثلة المحسوسة أحاجيج لتبيان قناعاته ومحاولة تعميمها، فحين أظهر قلقه وقلق وليد جنبلاط على وضع بلدة دير القمر كان يؤكد أنّ «انتشار الغرباء فوق تلالها أمر مؤقت وزائل، أما الثابت والدائم فهو التواصل الاجتماعي مع الجوار»، وحين ذكر نسيبه المهاجر من بشتفين وجد فيه «نموذج المغترب اللبناني الذي يحمل الحنين في قلبه وجواز السفر في يده والدمعة على وجنتيه»، وحين قارن وضعه واقفاً مُهدَداً بين حاجزين أحدهما سوري والآخر إسرائيلي مع «وضع لبنان على ساحة الصراع الإقليمي بين سوريا وإسرائيل وبين مصالح القوى الإقليمية وهو عاجز لا حول له ولا طول»، مختتماً للأسف كتابه باستنتاج محبط «هل أرض لبنان هبة من الله لا يستحقها شعبه؟!.»

خمس سنوات مرّت على غلبة موت المقدّم شريف فياض، «وهي خسارة مشروعة، في معركة الإنسان الأخيرة مع الموت منذ بدء الخليقة، ولمّا تزل في أذهاننا جميعاً صورة المقدّم منتصب القامة، مرفوع الهامة…».

.

أَتَيْتَ على نهجِ الأُلى سائراً

أَتَيْتَ على نهجِ الأُلى سائراً
عَلَوْتَ مقاماً أنتَ أهلٌ له
جَمَعْتَ إلى التَوْحِيدِ إِحْسَانَهُ
وَعَقْلُكَ مطبوعٌ على حِكْمَةٍ
بَرَزْتَ أديباً، شاعراً مُبدعاً
رَفَعْتَ لواءَ العدلِ صوناً له
رَصَفْتَ طريقاً لم يزل قائماً:
زَرَعْتَ سلاماً حيثما ينبغي
وإنك شيخٌ عالمٌ صالحٌ

وليس بخافٍ… للهدى حاملُ
وما لك مِثْلٌ بالتُقى نائلُ
وداعةَ نَفْسٍ ضوؤُها كاملُ
ومَعْرِفَةٍ مفهومُها شاملُ
وقدرُكَ في عين الورى شائل
ودورُك فيه ناصعٌ، ماثلُ
معاهدَ عِلْمٍ نورُها طائلُ
وخُلْقُكَ مفتاحُ الصفا فاعلُ
أُعِدَّ لِفَضْلٍ عَوْدُهُ هائلُ

 

هي عبــرَ القرونِ كُشوفُ نورٍ

هي عبــرَ القرونِ كُشوفُ نورٍ
ولــولا أنتَ شيخُ العقلِ قـِــدْماً
فُطِـرْتَ نـزاهةً ووُهِبْـتَ عقلاً
وبـالعلـم ارتقيــت إلى مَــراقٍ
بـك اتّســمت فعـالٌ ســامياتٌ
ثقافـتُــك الأصـيــلةُ مُبْتَنـــاها
ويشهد بابُــك المفـتوحُ دومــاً
إذا الشُّبُهات طالت بعضَ قومٍ
سَــمَوْتَ عـن المطامعِ باقتدارٍ
وزكَّيْــتَ الحِوار لنَـهج عقــٍل
فَسِـفْـرُك شــاهدٌ ودليــلُ فِعْــل
لئـــنْ حكامُ هــذا الكون دانوا
يقـولُ العقـل أن هبُّــــو إليــه

ألا يـــا شيخَ ســــامي أنـتَ سـامٍ
فحقَّــــاً أنـت شـــيـخُ العقـلِ زاكٍ
يضيـقُ مَدى العبارةِ عن مــزايا

وإرشــادٌ إلـى مــن يستـطيــعُ
لَمــا جاءتك عــن شَوْق تُطيعُ
وعِــرفــانـاً لـه دانَ الجـميـــعُ
لهــا فــي عالم العقل السطوعُ
عــلى التـــوحــيد مبنـاها رفيعُ
طبـــاعُ العقلِ عاطرةٌ تضوعُ
بــأنّـك نُصـــرةُ العاني، يُذيـــعُ
فــأنت مُبَـــرَّأٌ مـنـــها مـَنــــــيعُ
فلـم يُـغْرِرْكَ مــن بـاعوا وبيعوا
بـــه الأديـــانُ للحُسْــنى تطــــوعُ
ونـــورٌ تستضيئً بـــه الجـموعُ
بما تــــدعـو إليــه فلـــن يَضيعوا
وإلّا قـــد يســــوؤكــم الـــصّنيــعُ

بـك التَّــوحيدُ تَحضُنهُ الـــرّبـوعُ
بــك احْتَفَتِ المنــــابرُ والشّـمـوع
حَـبـــاكَ اللهُ خــــــلّاقٌ بـــديـــــــعُ

 

ياهذا الوجْدُ البدويُّ ألا أوْقِدْ

ياهذا الوجْدُ البدويُّ ألا أوْقِدْ
ناركَ في برْدِ الليلِ
في غفوة هذا الرّملِ
في هذي العشيّهْ
وابحثْ عن جملٍ يأويك إلى حُلُمٍ
أنبئني كيف ينوء الرّمل بقطرةِ ماءٍ عربيّهْ
الرّمل مضتْ
وأحبّكَ…كلّ سياط البحر
وأحبّكَ… يغدو البحرُ قرنفلةَ الرّيحِ
برّ الرّوحِ
مرساةَ الأشواق المذعورهْ
وأحبّكَ… يغدو الرّمل قوافل عشقٍ تصحو في كفٍّ مقهورهْ
ناصرْ
جرّةُ حزنٍ عربيّهْ
تحملها خولَهْ
تسقي عشق الأزهار البرّيّهْ
تسقي عطَش الماءْ
تفصح للجرح الأبكم قَوْلَهْ
تزرعُ في عُنُقِ الصحراءْ
شامةَ فرَحٍ أبديّهْ
ناصرْ
جرّةُ حُزنٍ عربيّهْ
تحملها خَوْلَهْ
مثْلَ صوفيٍّ يُتعب نولَهْ
وتعانق في وضَحِ العتمِ سبايا
قيل مرايا
قيل امرأة تدعى رابعة العدويّهْ
تحرثنا الأرضُ
ما أخصبنا
تمتم صوفيٌّ خبّأ مِنْجَلَهُ
قال: قرونُ الأرض قد امتدّتْ بين اللهِ وبيني
فلماذا أحملُ عَيْني؟
تحملها كي تبصر كيف قرون الأرض هوتْ
كيف المحراثُ يصلّي
«سبحاني ما أعظم شاني»
كيف الماءُ ينادي: أين الجبّةُ؟ أين أنا؟
كيف الجبّة تَخلع لابِسَها
وسرابُ العشقِ يُخادعنا
آهٍ ما أصْعَبَنا
نحن البدويّينْ
من صِفّين إلى حطّينْ
ذاكرةٌ
لم يتعبها هجرٌ ورحيلْ
غيمةُ قهرٍ
تمطر في نهْرٍ
سمَّوْهُ النّيلْ!

أُعيذُ ذُرى حورانَ من وقع صدمةٍ

أُعيذُ ذُرى حورانَ من وقع صدمةٍ
رويداً أبا منصور هذي منازلٌ
أتتركُها في كَرْبةٍ من زمانها
وأنت الذي مازلتَ غَوثاً لأهلِها
حملتَ همومَ الناس طبعاً وخَصلةًهنا صلخدُ العَليا ويَبكيك أهلُها
هنا جبلُ الريان حزنٌ مُخيِّمٌ
وهذي السُّويدا في عظيم مُصابها

زمانٌ تهاوى القومُ فيه كأنّهم
جسومٌ بلا رأسٍ يسوسُ ضَياعَها

أناجيكَ من دنيا يزول نعيمُها
وقد كنتَ فيها الكفَّ يسخو مُواسياً
فكَم في طِلابِ العلم وفّرتَ فرصةً
وغالبتَ ذا السّرطانَ مشفًى وعُدّةً
زرعتَ المكرُماتِ كلّ أرضٍ حَللتَها

ومن تَعَسِ الدنيا افتقاد ُ أماثلٍ
ستذكرُك الأزمانُ يا أنورَ النَّدى
تَغمّدَك الباري بما قد زرعتَهُ

ويجمعُها مع طَودِ لبنان جامعُ
على ساحة التاريخ منها وقائعُ
يحيطُ بها غازٍ وغاوٍ وطامعُ
على سَكَراتِ الموت والموتُ والِعُ
اذا عسَرَت حالٌ فأنت المُدافعُقلوبٌ هنا تَدمى وتهمي مدامعُ
يفيض على ما حولِه وهو خاشعُ
تهون لديها الصادماتُ الفواجع

بقيّةُ جيشٍ بعثرتهُ المعامعُ
وقد سادَ فيه المُفسدون الصنائعُ

كظلّ سحابٍ مزّعته الزوابعُ
لكلّ مريضٍ ضيَّمتهُ المواجعُ
لطلّابِ علمٍ اعجزتهم موانعُ
فِعالٌ لوجه الله والله شافعُ
لك البصَماتُ البيِّناتُ السواطعُ

غيابُهُمُ خُسرٌ مُبينٌ وفاجعُ
كريماً نبيلاً وأهباً لا يُضارَعُ
لانكَ راعي الخيرِ نِعْمَ المُزارعُ

 

لا للوجود

لو أوجدوا سكاكينَ

من وردٍ وعطرٍ مميز
لو صنعوا أسلحة ترش الكون

عطرَ ورد
ورائحة ريحان
لو صنعوا مسدسات

ترش الفكر في كل مكان
لو صنعوا قذائف من مسك وعنبر
يشتمها كل كائن فيصبح إنسان
لكان عالمنا أفضل . . .
فهنا مُتَّسع للجميع إذا أسميناه إنسان

*  *  *

لو صنعوا مسدّساً واحداً

لا يحمله سوى السلطان
وقيدوا يداه بمشاعر البسطاء
ورفعوا من حوله حدائق معلقة
وحجبوه عن الناس
وجعلوا في العالم شبعاً واحداً
يُلْغِي الحَاجَة للمال، للناس، للسلطان
لَبَقِيَ الكون سالماً
لا يعتري الفكر سوى النضج والخير

والعفوية ومحبة الرحمن…

*  *  *

قلْ لي ماذا أفعل يا ولدي ويولد في العالم
إنسان لا يشبه الإنسان
طماع جشع مريب
لا يفهم سوى لغة الموت

والآخرة والشهداء…
يقدس المكان والحجر

يقدس الموت

ولا يفهم سوى لغة قطع الأعناق
والاغتصاب…
هل من أجل هذا وُلدنا
أم من أجل رغد الحياة
ومتسع الفكر

وأفق التسامي لمحبة الإنسان

بِتُّ يا ولدي لا أفهم
فلا تقف في سبيل الجهلاء
وقف حتى لو كنت وحيداً
مع فكرك وقلبك النابض

بمحبة الإنسان محبة الإخوان

والرحيم الرحمن…

*  *  *

سيّدات معروفيّات مُبْدِعات

سيتابع قارئ الضحى بدءاً من هذا العدد (36) قصة النجاح الشخصي والعلمي لسيّدات معروفيّات تمكنّ، بالجهد الشخصي والمثابرة والتشجيع من أسرهنّ ومجتمهنّ، أن يصلنَ بعلومهنَّ إلى الدرجة القصوى المتعارف عليها أكاديمياً (أي الدكتوراه في الاختصاص).

نقدّم في العدد هذا أربعة من الأخوات اللواتي أنجزن شهادة الدكتوراه اللبنانية في الاختصاص (فئة أولى)، ونلن أعلى العلامات والتقدير على ما أنجزنه، على أن تلي في أعداد لاحقة تجارب أخرى من التفوق والإبداع.
وإذا كان من كلمة أخيرة في الموضوع، نقول إحقاقاً للحق وطلباً للموضوعية، أن النجاحات «النسوية» تلك ما كان لها أن تتحقق باليسر والتشجيع اللذين لاقتهما لولا المُناخ الإيجابي حيال العلم والتعليم بكل صوره الذي ما انفك المجتمع التوحيدي يظهره عملاً بالتقليد الإسلامي المعروفي الذي لطالما حثّ على طلب العلم «ولو في الصين»، والذي شجع من دون تردد، وبتوصية مباشرة من الأمير السيّد(ق) على الأخذ بيد من يريد (أو تريد) اختبار طريق العلم الصحيح، واعتباره حلية أخرى تنضاف إلى حليتَيّ الإيمان والأخلاق- ميّزتا كلّ موحّد وموّحدة.

الدكتورة أمل بو غنّام حمزة : تعريف بالإطروحة تحت عنوان: اليابان بين الحربين العالميتين دراسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي (1918-1945)

إطلالة على تاريخ اليابان بين الحربيين العالميتين

تُعَدُّ دراسة تجارب الأمم والشعوب إحدى أهم ميادين الدراسات التاريخية، للاستفادة من تجاربهم، «فالتاريخ علم التغيير»، كيف إذا كان يبحث في الديناميكية التي تميزت بها اليابان، والقدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات، في محاولة لكشف أسرار نجاح اليابان في دخول نادي الدول الامبريالية الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام عام (1919)، والدولة الآسيوية الوحيدة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنع تمدد الشيوعية، لتصبح دولة استعمارية في الحرب العالمية الثانية.

بحثت هذه الدراسة في تاريخ اليابان ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوصلت لنتائج عديدة للتغييرات التي شهدتها؛ وتفاعُل الأفكار الليبرالية والاشتراكية داخل مجتمعاتها التي ساهمت في نمو الأحزاب وظهور الحركات الاجتماعية فعرفت تلك الفترة بديمقراطية تايشو. كما بحثت الدراسة في العلاقات بين الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية في اليابان، ودور الدين والعادات وغيرها في حماية البلاد من الوقوع في التشرذم والفوضى المتأتية من تفاعل الأفكار الرأسمالية والشيوعية وثورة العمال وغيرها من القضايا.

ونجاح اليابان في تبنِّي التقدم والتطورالصناعي والاقتصادي، واعتبرت أنّ ظهور التكنولوجيا والعلوم شكّل انتصاراً لطريق الامبراطور، ودعت إلى ربط الإقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، وأصبحت شريكة للدول الأوروبية في تقاسم النفوذ في الصين؛ فتقاطعت المصالح بين اليابان وأميركا في كوريا والفيليبين، وتوترت العلاقات بينهما على أثر إعلان قانون الهجرة (1924)، القاضي بالحدّ من الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة وأثارت قضية التمييز العرقي.

ساهمت الأزمة الاقتصادية بداية ثلاثينيات القرن العشرين في البحث عن سبل لمعالجة تداعياتها. فشجعت على الهجرة إلى الصين بعد أن شهدت زيادة سكانية كبيرة من أجل الحصول على مصادر للطاقة لصناعاتها. وتدهورت علاقاتها مع الدول الغربية على خلفية حادثة منشوريا في عام (1931)، ما حمل اليابان على الانسحاب من عصبة الأمم عام (1933). وسعت إلى تأسيس كتلة الينّ اليابان- منشوكو- الصين وتوسعت لتشمل مجال ازدهار مشترك لشرق آسيا العظيم، حيث أخفقت في حساباتها حين أرادت أن تفرض إرادتها على الشعوب شرقي وجنوبي آسيا بحجة تحضيرها، فانحرفت إلى الشوفينية الفاشية طمعاً في إيجاد نظام عالمي جديد في شرق آسيا، وتطبيق مبدأ آسيا للأسيويين، بعد أن أخفق النظام الحالي في بناء السلام العالمي. فتبنت نظام العسكريتارية، وسخّرت الروح العلمية اليابانية في تنفيذ سياستها التوسعية القارية، وفرضت التجنيد الإجباري والتعبئة الإقتصادية في اليابان والأراضي التي سيطرت عليها، بهدف تحقيق ازدهار مجال شرق آسيا العظيم، وتبنت نزعة قومية متشددة، نقلتها من مرحلة المهادنة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة، متخذة من العائلة الامبراطورية مصدر إلهام للشعب الياباني .
وسارعت إلى تحقيق مذهب عموم آسيا وفرض شروط جديدة عالمية، إذ اعتبرت أنّ العالم أمام منعطف تاريخي جديد، وقدَّر الامبراطور الياباني أخلاقياً أن يصبح زعيم العالم؛ فانضمت اليابان إلى دول المحور، وأُطلقت يد اليابان في آسيا التي انحرفت عن هدفها في توحيد دول شرق آسيا لخلق اليابان العظمى. وقد استخدمت اليابان العنف تجاه الدول الآسيوية لإرهاب الشعوب الآسيوية وتحقيق مشروعها التوسعي؛ فيما أُطلقت يد ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والمستعمرات…

شكل هذا الأمر تحدّياً للولايات المتحدة التي بدورها حاولت كبح جماح اليابان، في حين استمرت المحادثات بين البلدين من أجل تفادي الحرب. وتزامناً، أعلنت اليابان التعبئة العسكرية العامة وتحالفت القوى الاقتصادية مع القوى العسكرية وتحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية، بعد إحياء الدين الحقيقي الجامع لأبناء اليابان، في مواجهة الثقافة السياسية والمصالح الاقتصادية الأنجلو-أميركية.

أمام هذا الانقسام، فرضت الولايات المتحدة حظراً على تصدير النفط إلى اليابان التي تعتمد عليه بنسبة (80%)، للضغط عليها وفصلها عن دول المحور، فقطعت اليابان محادثاتها مع الولايات المتحدة بهجوم مفاجئ وعنيف على بيرل هاربور في (7 كانون الأول 1941). بينما كانت أميركا تجري التجارب على السلاح النووي الحديث، دخلت الحرب الحتمية واستمرت حتى استسلام ألمانيا، وبات حسم الحرب وردع اليابان أمراً ضرورياً؛ فاستخدمت الولايات المتحدة السلاح الجديد على هيروشيما وناكازاكي، لانتزاع الاستسلام من اليابان، وإجبار اليابان على التخلّي عن مقارعة الغرب، ويكون الرادع لعدم تكرار الحروب العالمية.

وقَعت اليابان تحت احتلال قوات الحلفاء، وفُرضت عليها تغييرات جذرية لتحويلها إلى دولة مسالمة، مقابل احتفاظها بوحدة أراضيها وهويتها الوطنية، وتخلّي الامبراطور عن صفة الإلوهية، وإلغاء جميع أشكال عسكرة النظام ودمقرطته. وأُجبرت على تفكيك شركات زايباتسو الاقتصادية التي موّلت الحرب. واستجابت اليابان للضغوط التي فرضتها قوات التحالف، وأدركت أن عليها استعادة ثقة المجتمع الدولي وانتهاج سياسة المسالمة تجاه دول القرار في النظام العالمي، لاستعادة موقعها العالمي في المجال الاقتصادي.

استطاعت اليابان أن تبتدع «ثنائية: الإنجاز – الاستمرارية الحركية»، التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ وهي سرّ من أسرار التفوق الاقتصادي المُذهل الّذي ربطها بفلسفة «الاعتماد على الذات»؛ والعمل الدائم على أن تكون شريكة في القرارات الدولية وفهم السياسة العالمية دون الانغلاق على الذات؛ ترافق ذلك مع النشاط الإنساني المنفتح والحذر على العالم الخارجي، أو التكيّف الإيجابي.


كيف اخترت موضوعي لأطروحة الدكتوراه؟

مِنْ: ندى أمين حسن (فياض) حائزة على شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ سنة 2015.

إنّ فكرة اختياري لموضوع إعداد أُطروحة الدكتوراه، يرتبط بالمكان والزمان اللّذين ترعرعت فيهما. فقد وُلِدت في بيت متواضع، رسم ربُّه على عتبته شعارَيِّ «العلم والأخلاق»، اللّذين بقيا زاداً أحمله من عائلتي الأم أينما ساقت بيَ الحياة، لتنمو هذه المبادئ مع زوج شغوف باقتناء الكتب وقراءتها.

مارستُ مهنة التعليم، وعملت في الإدارة العامة، وأنا أتساءل عن ماهية الوظيفة، عن حقوق الموظف، وعن واجباته، وعن كيفية تقديره ومحاسبته، عن كيفية بناء روح المواطنية لدى تلاميذي، وأخيراً عن دوري في إعدادهم كبُناة للوطن؟

تساءلت كثيراً عن مدى تأثير موقع السكن لأي مواطن على مسار حياته، في بلد يتوجب أن تتساوى فيه كل الفرص بين مواطنيه؟ حين حُرِمت من إكمال دراستي الجامعية كعقاب لي على إقامتي في منطقة لا تبعد عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات، ولم أحظَ بهذه الفرصة سوى بعد خمسة عشر عاماً على نَيلي شهادة الثانوية العامة. كان لهذه السنين الفضل في نُضج أفكاري وتحديد تساؤلاتي واختيار موضوع رسالة الماجستير للإجابة عنها من خلال عملي كباحثة، فكانت تحت عنوان «تجربة فؤاد شهاب في بناء الدولة المدنية في لبنان بين عامي 1958 و 1964».

صمّمت أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراة مُتَمّماً لموضوع رسالة الماجستير، حين يبحث عن مصير هذه الدولة بعد نهاية حرب لبنان (1975-1990)، ولكن للأسف ولأسباب لا مجال لذكرها، لم أحظَ بهذه الفرصة، فقرّرت السير بقراري، واختيار موضوع يتطرّق إلى هذه الدولة من خلال رؤيتها لِلّامركزية الإدارية عبر أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي جسّدت البيئة الحاضنة لمفهوم التنمية، محددة قضاء الشوف كأنموذج لذلك، فأتت الأطروحة تحت عنوان «البلديات ودورها التنموي في قضاء الشوف بين 1943 و2010»، والتي نِلت على أساسها شهادة الدكتوراة في التاريخ، سنة 2015.

ارتبطت البلديات بعلاقة راسخة بمفهوم الديمقراطية؛ فقد كانت مهمة الدولة الأساسية المحافظة على الأمن، لتتطور مهامها وتشمل تأمين الخدمات، خدمة لعملية التنمية في مجتمعاتها، حتى أنّ الشرعية الديمقراطية لهذه الدولة بدأت تأخذ مفهوماً جديداً يشمل فعالية السلطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الديموقراطية المقنّعة، بمعادلة طائفية راسخة، تظَهرُ في لبنان من خلال اللامركزية الإدارية، وبالتحديد في أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي نشأت في لبنان قبل الجمهورية، وتنامت معها حتى يومنا هذا.

لم يكن نشوء البلدية ابتكاراً خاصّاً بالّلبنانيين، لكنّهم احتضنوا هذا الإنجاز، وعملوا على التشريع له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاَ. وحين تناحروا، لم يجدوا بديلاً عنه، فعادوا إليه بعد تجربة إدارات الأمر الواقع، في مختلف المناطق اللبنانية خلال حرب لبنان.

وعى اللبنانيون فكرة التنمية، ونقلوا مبادئها النظرية من منظِّريها، وأيقنوا مدى الحاجة إليها في بلدهم، فعقدوا العزم على أن تكون البلدية، البيئة الحاضنة لها.

اخترت قضاء الشوف مجالاً جغرافيّاً لبحثي، لأنّه يتميز بتنوعه الجغرافي والديمغرافي، وشعرت بذلك أنه نموذج مصغّر عن لبنان، واخترت أن تكون دراستي عن موضوع البلديات فيه، مثالاً عن كل مناطق الجمهورية اللبنانية.

اعتبرت إشكاليّة البحث، «البلدية نواة الديمقراطية الأولى»، كما تطرقت إلى علاقتها بالمواطنين وقدرتها على معرفة قضاياهم ومشاكلهم، إذ تُنتخَب مباشرة منهم، وتعمل على تحقيق كلّ عمل ذي طابع ومنفعة عامين لهم.

تضمّنت الفرضيات؛ ملاءمة بيئة قضاء الشوف لتكون مجالاً لدراسة تجربة البلديات ودورها التنموي، كما تطور العمل البلدي في هذا القضاء وبخاصة بعد انتخابات سنة 1998 البلدية والاختيارية، مع لحظ مراعاة المواطنين للمعايير العائلية والطائفية عند اختيار أعضاء مجالسهم البلدية، وإظهار دور الاتحادات البلدية في تنشيط العمل البلدي وتحقيق أهدافه الإنمائية، وأخيراً عرض الصعوبات المُعيقة للعمل البلدي وكيفية معالجتها.

عالجت دراستي هذه المجموعة من الفرضيات، بكلّ تفاصيلها، ممّا سمح لي في ختامها أن أتوصل إلى معطيات إيجابية منها وسلبية، مبنية على براهين تستند إلى معايير البحث العلمي، ليكتمل بحثي بعرض رؤى مستقبلية تتعلق بالعمل البلدي وتحقيق دوره التنموي.

تناوَلت اقتراحاتي المستقبلية عدة مجالات، توزّعت بين أدوار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأخير دور المجالس والاتّحادات البلدية نفسها.

جعلتُ دراستي الجامعية نواة كتاب أصدرتُه سنة 2017، تحت عنوان «قضاء الشوف بلدات وبلديات 1860-2016»، بعد أن أكّدت خلال دراستي الجامعية أنّ سنة 1860 هي تاريخ تأسيس أول بلدية في لبنان أي بلدية دير القمر في قضاء الشوف، وأنه من الواجب دراسة هذه الفترة الزمنية لإعطاء مفهوم العمل البلدي حقّه الوافي في لبنان، وصولاً إلى سنة 2016 تاريخ إجراء آخر انتخابات بلدية واختيارية.


علّمتني الفلسفة

دكتورة عفّة محمّد محمود.

علّمتني الفلسفةُ أنّ العمرَ مهما بلغ، لا يقفُ حائلاً بين الإنسان وطموحه، ومرشدنا في ذلك أفلاطون الحكيم الذي أحبَّ الموسيقى وتعلّمها وهو في الثمانين من العمر. لذا عدت إلى مقاعد الجامعة بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد ،وكانت فرحتي بإكمال علمي توازي فرحتي بإنجاب الأولاد. فإذا كانت ثمرة الحياة الدنيا البنات والبنون، فإنّ ثمرة الفكر العلم والتأليف والكتابة ،وبالتالي نيل الشهادات العليا.

بدأت رحلتي مع الفلسفة وحب الحكمة والحكماء، منذ الصغر وتبلورَت بشكل جليّ مع المعلم كمال جنبلاط والمطالعة الدؤوبة والمستمرة في كتبه الجمّة، حتى شعرت وكأنّ ميلادي الثاني، ميلادي الروحي قد تفتح على فلسفته وروحانيته، فكانت رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عنه وعن فكره النيّر الخصب ،حيث حملت الرسالة عنوان: «الروحانيات والتصوُّف في فكر كمال جنبلاط».
دفعني الشغف العلمي، وحبي للمعرفة لإكمال مسيرتي ونيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية، الجامعة الأم التي نعتز ونفخر بمستواها الأكاديمي، لكنْ هذه المرحلة لم تكن سهلةً إذ واجهتني صعوبات جمّة ،منها البحث عن المشرف الذي يأخذ بيد الطالب ليصل به إلى برّ الأمان، والبحث عن موضوع جديد غير مسبوق.

عملت على أطروحتي طوال خمس سنوات ،تحت عنوان «فلسفة القِيم في النص الصوفي، نموذج محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي»، ونلت عليها تقدير «جيّد جداً»، طبعاً وبكل تأكيد ما من عملٍ ناجحٍ إلّا ويحتاج إلى جهدٍ كبير ومعاناة ،وملاحقة أصغر التفاصيل، ليظهر العمل أقرب ما يكون للكمال. وهنا تكمن أهمية المثابرة والمتابعة عند الطالب، وأيضاً التشجيع والتحفيز من المحيطين والمهتمين لنجاح هذا العمل، ومن الصعوبات التي رافقت عملي أيضاً، تجميع المعلومات والتقميش وضبط كل هذا بشكل متسلسل ومنظم، لتتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي ،وجلال الدين الرومي.

تتألف الأطروحة من ثلاثة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول. عرضت في الباب الأول موضوع القيمة والقيم. فالقيم من أهم موضوعات الفلسفة وأصعبها، إذ إنّه حتى اليوم لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد موحَّد لها.فالبعض كالفلاسفة الماديين يعتبرون موضوع القيم موضوع متحوّل، ويتغير بتغير الزمان والمكان، بينما يعتبر الفلاسفة المثاليين مثل سقراط أنّ القيم العليا من الحقائق الثابتة ولا تخضع للتغيير: «وبأن السعادة تقوم في سيطرة العقل على دوافع الشهوة، ورد الإنسان الى حياة الاعتدال، ومتى عرف الإنسان ماهيته وأدرك خيره أتاه لا محالة، لأن الفضيلة وليدة المعرفة ،فمتى عرفتَ الخير حرصتَ على فعله، ومتى أدركت الشر توخيت أن تتجنبه…».(توفيق الطويل ،فلسفة الأخلاق، ص 33).

تتعدد مصادر القيم، والدين أحد هذه المصادر المهمة، فمنها قيم اعتقادية، وقيم خُلقية، وقيم عملية، حيث حرص كل من ابن عربي وجلال الدين الرومي على تثبيتها وترسيخها في الذات، والالتزام بكل الفرائض والواجبات كما وردت في النصوص القرآنية. يقول ابن عربي: «إنّ التقيد الصارم بالشريعة، وهو بالطبع الشرط للنجاح، واكتساب مكارم الأخلاق مثل الدماثة أو الحلم والتواضع والكرم والفتوة، وهي أمور ضرورية للترقي الروحي»، (كلود عداس ،ابن عربي ،ص265).

وهذا ما أكده الرومي بإيمانه بالله وعشقه للصورة الأزلية حيث يقول: «أيّها الملك! أطفئ حرصنا بماء رحمتك ،واسقِ أرواح المشتاقين شراب وحدتك ونورك، وأضئ ضمائر قلوبنا بأنوار معرفتك، وشرّف وكرّم أشراك أملنا التي نصبناها في صحراء سِعَة رحمتك بأطيار السعادة وصيود الكرامة» (الرومي، المجالس السبعة، ص 16).

في الفصل الثالث من الأبواب الثاني والثالث، حرصت على أن تتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وذلك يتم بمراقبة الجسد وضبط الحواس، ثم ضبط النفس الأمّارة بالسوء التي تدفع بالإنسان إلى الغرائز والشهوات بالقوة العاقلة والتمييز السليم، والتحلّي بالفضائل الإلهية، والابتعاد عن الرذائل لتصبح النفس حرَّة مُعْتَقة من رقِّ الجهالة.
أمّا أعلى مرتبة يشدد عليها الصوفية فهي مرتبة القلب، والذي اعتبروه أعلى من القوة العقلية في الإنسان، يقول ابن عربي: «فاعلموا أنّ القلب مرآة مصقولة كلّها وجه، لا تصدأ أبداً، وإن صَدأت لقوله عليه السلام: «إن القلوب لتصدأ كالحديد وجلاؤها يكون بذكر الله تعالى والقرآن..، فكأن تعلّقه بغير الله صدأ على قلبه لأنه مانع من تجلّي الحق إلى هذا القلب» (الفتوحات المكية ج3،ص103).
وهذا ما يقوله الرومي عن القلب أيضا: «إلّا الأصوات في صدور الأولياء والأعزاء، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصورة أنفاسهم! فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن، وفناؤهم هو الذي استُمِدَّ وجودُنا منه، إنَّ الوليّ نور الفكر، وكلُّ صوت فيه هو لذة الإلهام والوحي والأسرار». (الرومي ،المثنوي ج1، ص268)

وأخيراً نصل إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ العودة إلى تراث الأقدمين العارفين، والتحلّي بأخلاقهم الحميدة، الفاضلة تخرجنا من الفساد والمفسدين، وتنير ضمائرنا وعقولنا بالعمل الصالح السليم الذي فيه خيرنا وخير مجتمعاتنا كافة. لو عاد الإنسان إلى حقيقته، وسأل نفسه عمّا يريده من هذه الحياة بوعي وحكمة، لأجاب: مطلبي السلام، السلام الداخلي، والأمان والسلام في العالم ككل، وإذا كان مطلبه الارتقاء العقلي والصفاء في جنانه، لتطول سعادته، فما عليه إلّا بالتوحيد الحقيقي مسلكاً، أي بعرفان الحكمة، عرفان الصوفية الأتقياء، الأنقياء، والاقتداء بأخلاقهم الفاضلة الحميدة.

أخيراً الشكر كل الشكر لكل القيّمين على مجلّة الضحى، ونخصّ بالشكر رئيس تحريرها، العميد الدكتور محمّد شيا على التفاتته الكريمة.


الهَيدونيّة في الفِكر الغربيّ: مآلاتُها، الأفلاطونيّة عند ميشال أونفراي

نَغم كمال شاهين

«ماذا يجب عليّ أن أفعل؟» هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم، ينطق بلسان حال كلّ إنسان، معبّراً عن هواجسه الأخلاقيّة – المَعرِفيّة المَعيشة. هذه الهواجس حملت البشر على استقراء ما يحيط بهم من ثقافات وحضارات تلوّنت بمختلف ألوان الإجابات: دينيّة أوّلاً، ثمّ فلسفيّة؛ وصولاً إلى العلميّة والوضعيّة. هذه الإجابات على تنوّعها واختلافها تشبّعت بالهيدونيّة، ذلك أن الإنسان سعى ولا يزال إلى تحقيق سعادته من خلال اختراع واكتشاف لَذّات ومُتعٍ تبدأ عند حدود الجسد ولا تنتهي عند الفكر والروح.

وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال كانط السالف الذكر، قاربت هذه الأطروحة التي تحمل العنوان أعلاه والمُخصّصة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، فكرَ كلّ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الموسوم خطأً وزورًا بمعاداة الهيدونيّة واحتقار الجسد، والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي « أبو الهيدونيّة في القرن الواحد والعشرين» ومؤسس «الجامعة الشعبيّة».
انطلق البحث من الإشكاليّات الآتية:
1- كيف يقارب أفلاطون مفهوم الهيدونيّة؟ هل هي هيدونيّة مثاليّة – متعالية، أم واقعيّة – جسديّة؟.
2- كيف يقارب ميشال أونفراي مفهوم الهيدونيّة؟.
3- بماذا تختلف مقاربة أفلاطون الهيدونيّة عن مقاربة ميشال أونفراي؟.
4- على أيّة مقاييس تُبنى الأخلاق؟ هل تُبنى على الغنى والتّرف والجَشع أم هناك أخلاق لا بُدّ من إعادة صياغتها لتَرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيّة الحقيقيّة؟.

رامَ البحث إلى تحقيق الهدفين الآتيين:
أوّلاً: إثبات أنّ الهيدونيّة متغلغلة في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولها عنده معنى إيجابي، فهي مرتبطة بالفضيلة بشكلٍ عامّ والعدالة بشكلٍ خاصّ، لما يتفرّع عنها من لذّات وسعادة جسديّة وروحيّة على حدٍّ سواء. فاللذّة من حيث هي وعي، تستلزم بُعدًا فيزيولوجيًّا تظهر من خلاله.

ثانيًا: توضيح العلائق التي تُسهم في نسج بناء النَّسق الهيدوني عند ميشال أونفراي، من مكوّنات الفكر الهيدوني المادّي، والرؤية التي ينظر بها الهيدونيّ المعاصر المتمثّل بأونفراي إلى العالم، والهدف الذي يطمح إليه في إعادة الاعتبار للإنسان واحترام الجسد، ما يستلزم إعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي الديني والمعرفي والسياسي، ليُصار إلى تحديد هذا المنحى الفكري للنزعة الهيدونيّة، في كُلّ أبعادها عند كُلّ من أفلاطون وأونفراي.
ولتحقيق هذين الهدفين كان لزامًا أن تُقسم الأطروحة إلى قسمين:
– قسم أوّل عَرضت فيه الباحثة مكامن وجود الهيدونيّة في مقاربة أفلاطون في تكوين الأفراد، فلحظت العلاقة بين الهيدونيّة وبين الفضائل، مُنطلقةً من مقاربته الفضيلةَ نفسَها، مُستخدمةً مصطلح هيدونيّة وما يُرادفها أي لذّة بمعناها الجسديّ والروحيّ، فالصحّة والجمال والمواهب هي خيرات؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى العدل والاعتدال والشّجاعة، علمًا أنّ هذا المُصطلح لا يعني عند أفلاطون الشّعور الناتج من الانغماس في الشّهوات، بل الناتج من فضيلة الاعتدال، من ثمّ تتبّعت الأبعاد الفيزيولوجيّة والنفسيّة والابستيمولوجيّة والاجتماعيّة – السياسيّة والتربويّة والفنيّة للهيدونيّة، كما قاربها أفلاطون. كذلك قامت بمحاولة تفكيك العلاقات المتشابكة بين الهيدونيّة ومفاهيم السعادة واللذّة والحُبّ والخير، من ثمّ تتبّعت مآلات الهيدونيّة الأفلاطونيّة عند كُلّ من أرسطو وأبيقور، لكونهما ساهما في تكوين الفكر الغربي منذ اليونان حتى يومنا هذا.

– قسمٌ ثانٍ توقّفت فيه الباحثة عند خصوصيّة الهيدونيّة الماديّة عند أونفراي، من حيث معناها ومن حيثُ هي نظام أخلاقي يُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجسد ويجعله مصدرًا ومرجعًا للقيم الأخلاقيّة. كذلك عرضت في هذا القسم للإلحاد الذي جعله أونفراي أحد شروط الحياة الهيدونيّة لكونه يحرّر الإنسان من كلّ الضغوطات التي تُمارَس عليه باسم كائن ميتافيزيقي (الله). وقاربت أيضًا موقف أونفراي من الأديان التوحيديّة وثورته المعرفيّة، مضيئةً على بعض أبرز المفكّرين الذين تركوا أثرًا بالغًا على فكر ميشال أونفراي. كذلك عرضت موقف أونفراي السياسي الرافض للفلسفات الدوغمائيّة – الفوضويّة الغربيّة وأسباب تبنّيه الاشتراكيّة التحرّريّة كنظام سياسي من شأنه تحقيق هيدونيّة الجماعة، ومن ثمَّ قدّمت موقف أونفراي من الفنّ المُعاصِر. وفي نهاية هذا القسم، توقّفت الباحثة عند أبرز الانتقادات التي تناولت طروحات أونفراي.

وقد خلصت الباحثة بعد مُقاربة الهيدونيّة من منظورَي أفلاطون وأونفراي، أنّه يُمكن الخروج بفلسفة الأخلاق من المجال النظريّ البحت إلى الواقع المعيش، آخذين بالحسبان صعوبة تطبيق هذه الفلسفات الأخلاقيّة، فالفيلسوف هو ابن بيئته، وإذا ما اكتشف في هذه البيئة انحرافًا على مستوى القيم الأخلاقيّة، سعى بالوسائل المُتاحة أمامه لتقويم هذا الانحراف. أوَليس هذا ما حاول فعله كُلّ من أفلاطون وأونفراي؟ أما هذا هو حال فلاسفة الأخلاق جميعًا، في كُلّ زمانٍ ومكان؟

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى
شيخُ عَقْلٍ حَسْبُهُ أَعْمَالُهُ
ناصراً للحقِّ دَوْماً، دِرْعَهُ
ثَابتَ القلبِ على نَهْجِ الأُلَى
في تَعَاطِيهِ، خَلُوقٌ، صادقٌ
إذ نوى أمراً، فَعَدْلاً مُنْجزاً
شيخُ قَوْمٍ عَزَّ لبنانُ بِهِمْ
هُمْ سُيُوفُ العُرْبِ، سَلْ تاريخَهُمْ
هم بنو معروفَ، هذا دأبُهُمْ
عَاشَرُوا دَوْماً بِإحْسانٍ، ولم
قد صَفَوا عِرْقاً، وسَامَوا مَحتِداً
شخصُهُم حُرٌّ، شجاعٌ، صادقٌ
حَرَّموا في الشِرْكِ فعلاً مُنكراً
في وَصَايَاهُمْ تَجِدْ حِفْظَ الوَفَا

رَمْزُنا في الدين والدُنيا مَعَا
ما أَتى منها لخيرٍ أو سَعَى
راسخاً فِكْراً وفِقْهاً، مَرْجِعَا
كرَّسُوا التوحيدَ دِيناً رائِعا
لَم يَكُنْ يَوْماً لِغَيْرٍ تابِعا
واجداً فيهِ صلاحاً جامِعَا
فيه كانوا شارياً لا بائعا
مَا رَضَوا ذلاً، وَرَدُّوا طامِعا
يُؤثِرونَ العَقْلَ نَهْجاً وادِعا
يَعْتدوا يوماً، وكانوا الجامِعا(1)
وارتَقَوا بالخُلْقِ حدّاً ناصِعا
مثلما يَقْضي نُهَاهُم(2) طائعا
والزِنا والقَتْلَ نَهْياً قاطِعا
شيمةً فيهم وَفْضلاً ذائعا

شروحات:

(1): العاملون للوحدة الوطنية.
(2):العقل عندهم سيد الأحكام.

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات
أولًا: أسباب أخذ الأنظمة الديمقراطية بنظام المجلس في النظم البرلمانية بالعالم:

توجد قاعدتان بالنسبة إلى تكوين السلطة التشريعية.

القاعدة الأولى: أن يأخذ النظام البرلماني، بفكرة المجلس الواحد كما هو الحال في لبنان وفق منطوق المادة 16 من الدستور.

القاعدة الثانية: أن يأخذ النظام البرلماني بفكرة المجلسين. وهذان المجلسان يسميان بأسماء مختلفة. مثلًا في بريطانيا مجلس العموم (وهو يمثل نواب الأمة) ومجلس اللوردات (كان يوصف في السابق بأنه مجلس الأعيان).

أما في الولايات المتحدة فيوجد مجلس نواب يقابله مجلس شيوخ. وعلى رغم تعدد التسميات إلا أن السلطة التشريعية بمجلسيها(النواب والشيوخ) إذا اجتمعا مع بعضيهما البعض يطلق عليهما اسم (البرلمان).

بعد هذا السرد الموجز نطرح السؤال التالي: لماذا تأخذ بعض الأنظمة البرلمانية بنظام المجلسين؟
ليس الهدف هنا اتباع نمط محدد في تكوين السلطة التشريعية ولكن هنالك أسباب واقعية متصلة مباشرة بالتشريع وأخرى هي المغايرة في التكوين وهي:

أـ أسباب متصلة بالتشريع:

1. كبح جماح مجلس النواب في التشريع:
لا نقصد البتة أن كبح جماح مجلس النواب بالتشريع يعني عرقلة عمله، لكن يجب أن نعرف أن مجلس النواب بكونه يمثل الشعب بعمومه. وهو أشد اتصالًا بموجب ذلك بالشعب، لذلك يحاول الأخير تلبية المطالب الشعبية، التي تصل إليه إما من محتجين على تصرف حكومي أو متظاهرين ضد سلوك اعتبروه خروجاً عن الأصول المتعارَف عليها أو أحيانًا ترتقي الاحتجاجات إلى مستوى ثورة شعبية.
وتحت وطأة كل هذا يُصدر مجلس النواب قانون يلبي مطالب الجماهير. ولكن يتوجب وجود جهة أخرى تتصدى لمجلس النواب، وذلك بالاعتراض، وهذا ما يفعله مجلس الشيوخ.

2. عقلنة التشريع:
نلاحظ في بعض التشريعات في لبنان، وجود ثغرات قانونية، وصيغ غير واضحة، وأحيانًا يقر المجلس قانون يناقض في بعض جزئياته قوانين أخرى مما يؤدي إلى فوضى تشريعية. لكن في ظل وجود مجلس شيوخ مثل هذا التناقض والتضارب بين القوانين لا يمكن أن يحدث. حيث إنّ مجلس الشيوخ سوف يناقش القوانين ويسعى إلى عقلنتها، وجعلها منسجمة مع بعضها البعض ضمن المنظومة القانونية للدولة.

3. التروّي في التشريع:
قد يكون مجلس النواب صائباً في ما أقرّه لقانون ما. كَوْن ذلك القانون يعتبر كبارقة علاج وخلاص حتمية في المجتمع لكن المصلحة العليا للبلاد ومصلحة المجتمع تقضيان بعدم إقراره في تلك الفترة بالذات (حرب ـ ثورة ـ عدوان خارجي) فيكون من واجب مجلس الشيوخ، التصدي لما يقره مجلس النواب. فيتريث إلى حين تسمح الظروف إقرار ذلك القانون. لهذا كله تأخذ بعض الأنظمة الديموقراطية بنظام المجلسين.

ب ـ أسباب متصلة في المغايرة بالتكوين:

1. بالنسبة للسن: ترغب بعض الدول أن يكون سن العضو في مجلس الشيوخ أكبر من سن العضو في مجلس النواب وذلك كون الكبار يملكون الحكمة والتروي والعمل والدراية في الشأن العام لذلك ترفع الدول سن عضو مجلس الشيوخ.

2. المغايرة في التكوين: فقد يكون مجلس الشيوخ هو مجلس يمثل أقاليم الدولة حيث يكون لكل إقليم عدد مساوٍ لغيره من أقاليم الدولة.

3. المغايرة في العدد: دائمًا عدد مجلس الشيوخ أقل من عدد مجلس النواب.

4. المغايرة في بعض الصلاحيات: بعض القوانين لا تدخل في صلاحية مجلس الشيوخ فهي متروكة لمجلس النواب. أما بعض القوانين الهامة فيُعقد الاختصاص بها لمجلس الشيوخ.

5. المغايرة في الانتخاب: حيث يكون لمجلس الشيوخ أسبابه في انتخاب أعضائه تتماشى مع هدف من يمثّل (المقاطعات ـ الاقليات ـ الطوائف).
بعد كل هذا نسأل هل لبنان بإمكانه أن يأخذ بنظام المجلسين وهل هنالك نصوص حالية تشير إلى الأخذ بنظام المجلسين؟

ثانيًا: مجلس الشيوخ في لبنان بين النشأة والإلغاء الأول:

أـ نشأة مجلس الشيوخ اللبناني:
1.إنشاء ثم إلغاء لمجلس الشيوخ

الأمير فؤاد أرسلان

بعد الاحتلال الفرنسي المباشر الذي استمر من عام 1920 حتى عام 1926 وابتداءً من أول أيلول سنة 1926، تغير اسم البلاد من دولة لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية دون أي تبديل أو تعديل آخر.

وبذلك أبصر النظام الجمهوري في لبنان نور الوجود وسبق إعلان الجمهورية إعلان وضع الدستور في 23/أيار 1926 وهذا الدستور نص في مادته 16 على أن «يتولّى السلطة التشريعية هيئتان، مجلس الشيوخ ومجلس النواب».

حتى أن الدستور نص على أكثر من ذلك تحديدًا في المادة 22 « يؤلَّف مجلس الشيوخ من ستة عشر عضوًا يعيّن رئيس الحكومة سبعة منهم بعد استطلاع رأي الوزراء ويُنتخب الباقون وتكون مدة ولاية عضو مجلس الشيوخ ست سنوات ويمكن أن يعاد انتخاب الشيوخ الذين انتهت مدة ولايتهم وأن يُحدَّد تعيينهم على التوالي».

من هنا نستنتج أن المشرِّع حزم أمره، بالإعلان وبموجب المادة 16 من الدستور أن «يتولى السلطة التشريعية هيئتان مجلس الشيوخ ومجلس النواب». بل إنَّ المادة 22 من الدستور بينت عدد مجلس الشيوخ وكيفية انتخابهم وتعيينهم ومدة ولايتهم ومدى التجديد لهم.

وبالفعل أجريت انتخابات نيابية، ومثّل الطائفة الدرزية في مجلس الشيوخ الأمير فؤاد أرسلان ولكن وفي قرار مفاجئ، ألغى المفوض السامي النصوص الناظمة لوجود مجلس الشيوخ.

ب ـ أسباب إلغاء مجلس الشيوخ
1ـ الأسباب التمثيلية: خَلْق نظام مَجلِسي يمثل الطوائف وتمثيل المقاطعات والاختصاصات.

2ـ الأسباب التشريعية: وُضعت صلاحيات دستورية عدة لمجلس الشيوخ منها حق إحالة أي قانون إليه من مجلس النواب والبت في الموازنة وإبداء الرأي في شكل وعدد أعضاء الحكومة وغيرها من الصلاحيات.
أسباب دفع المشرّع إلى إلغاء مجلس الشيوخ:
ـ البطء في إقرار التشريعات
ـ عرقلة عمل الحكومة ورئيس الجمهورية.
ـ عرقلة تأليف الحكومة: حيث حصل أن أعلن مجلس الشيوخ صراحة أنه غير مستعد للتعامل مع حكومة يزيد عددها عن ثلاثة وزراء لأن البلاد ليست بحاجة لأكثر من هذا العدد.

3ـ الأسباب السياسية والاستعمارية:
أـ الأسباب السياسية:
ـ رأت بعض الأوساط السياسية، أن مجلس الشيوخ يشل عمل السلطة التشريعية. وفي الحقيقة هدفها الخفي، حرمان من هو من نفس طائفتها من التمثيل في مجلس الشيوخ، خصوصًا أنها أي تلك الأوساط ممثلة في مجلس النواب، ويمنع عليها الدستور أن تمثل في مجلس الشيوخ.
ـ عرقلة عمل الحكومة من خلال الاعتراض على مشاريع القوانين.

ب ـ الأسباب الاستعمارية:
ـ رغبة المستعمر الفرنسي في العمل السياسي السريع، فالتروِّي يزعزع وجوده ويحد من قدرته على التغيير السريع. فهو يريد إصدار القوانين بأقصى سرعة. لذلك وجدنا معظم قوانين لبنان قرارات صادرة عن المفوض السامي. وهذه السرعة مقصودة لأغراض استعمارية مثل تمرير المعاهدات والقوانين التي تخدم الوجود الفرنسي في لبنان.
ـ الثورة السورية الكبرى: تلك الثورة التي أشعلت سوريا ولبنان في بعض مناطق (جبل عامل ـ حاصبيا ـ راشيا) وقادها سلطان باشا الاطرش. وفهمت فرنسا الرسالة، وأرادت إقصاء دروز لبنان عن لعب أي دور محوري، وخصوصًا بدا أن رئاسة مجلس الشيوخ، قد تؤول إلى الطائفة الدرزية. رغم عدم البدء في تلك الفترة، في ترسيخ الأعراف الدستورية. فالدستور عمره حينها عام، وكان من المحتمل أن تؤول تلك الرئاسة للدروز، لذلك وعقابًا لهم ولثورتهم عليها، أعلنت فرنسا ممثلة بالمفوض السامي إلغاء مجلس الشيوخ.

ثالثًا: مجلس الشيوخ في لبنان وفق نصوص الطائف:

لحظت وثيقة الوفاق الوطني الموقعة بالطائف، ضرورة تعديل النظام السياسي في لبنان وبموجب القانون 18 لعام 1991، أقرت تعديلات الطائف في مدينة القليعات البقاعية ولكن السؤال هنا، لماذا لم ينشأ مجلس الشيوخ في لبنان بعد إقراره مند ثلاثين عاماً؟

هل السبب نصوص دستورية؟ أم السبب سياسي؟
في النصوص الدستورية وتحليلها:
أول نص في الدستور اللبناني بعد الطائف، يشير إلى إنشاء مجلس الشيوخ، هو نص المادة 22 «الذي ينص: مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
ولما كان هذا النص يشير إلى المرحلة التي يجب استحداث مجلس للشيوخ وإلى صلاحياته ومكوناته. جاء نص المادة 95 من الدستور ليشير، إلى أبعد من ذلك فهو يوجب «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».

مهمة الهيئة الوطنية هي دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

وبذلك يكون نص المادة 22 من الدستور، أعلن إعادة اعتناق النظام البرلماني اللبناني فكرة نظام المجلسين في السلطة التشريعية. ولكن وقع إنشاء مجلس الشيوخ بشرك التعجيز والاستحالة بموجب نصوص إنشائه. فما هي أخطار التعجيز والاستحالة في إنشاء مجلس الشيوخ؟ وما هي الحلول المقترحة لإنهائهما؟

1ـ بالنسبة لنص المادة 95 من الدستور:
لقد أرست هذه المادة قاعدة التمثيل النيابي مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وبالفعل انتُخبت عدة مجالس نيابية على أساس المناصفة فمنذ عام 1992 حتى يومنا هذا. وبذلك حُلّت أول العقد أمام إنشاء مجلس للشيوخ. خصوصًا أنّ المادة 95 أضافت ضرورة «اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية» وأضافت» مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».

لكن هذه المادة حددت المسار القانوني لإلغاء الطائفية وهي:
ـ اتخاذ الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية:
لم تحدد تلك المادة ما هي الإجراءات الملائمة. هل هي قوانين؟ أم هل هي تهيئة سياسية واجتماعية وفكرية مترافقة مع حملة إعلامية وطنية واسعة تبين أهمية إلغاء الطائفية في لبنان؟
فكان حَريِاً بالمشرع توضيح هذه النقطة بما لا يقبل الشك.
ـ الخطة المرحلية / إن الإجراءات التي تشير إليها المادة 95 هي « خطة مرحلية « وهنا وقع المشرع في صياغة غير واضحة ولا يسعفه نص المادة 22 من الدستور في تحديد نهايتها ولا حتى في بداية العمل بالخطة المرحلية.

على أن كل ما سبق، أي الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية والخطة المرحلية رغم صعوبة تحديدهما، إلّا أنهما مرتبطان تمامًا وفق نص المادة 95 بـ « تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».
وكما سبق الذكر فإنّ مهمة الهيئة هي دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية.

نستنتج من ذلك أن الهيئة شرط أساسي لإلغاء الطائفية السياسية وما التوسع في تشكيلها إلا أمر ضروري بموافقة الجميع، بل إن ما من دراسة إلّا ستكون عبر الهيئة الوطنية ولها وحدها، حق تقديم الدراسة إلى مجلسي النواب والوزراء، إذاً فمظاهر الاستحالة هنا واضحة في الدراسة لإلغاء الطائفية. وفي المرحلة الانتقالية وفي تكوين الهيئة الوطنية المشروطة بدراسة مستحيلة التحقق، وإنّ عدم وجود تلك الهيئة يعني عدم القدرة على متابعة الخطة المرحلية كون تلك الهيئة دون سواها، لها متابعة الخطة المرحلية وبذلك أفرغت الصيغ القانونية المادة 95 من معناها لجهة إلغاء الطائفية السياسية.

2ـ بالنسبة لنص المادة 22 من الدستور:
على أن الصيغ المستحيلة التي فرضتها المادة 95 بلغت ذروتها في نص المادة 22 من الدستور. سواء لجهة استحداث مجلس للشيوخ، أم لجهة الصلاحيات المنوي إعطاؤها لهذا المجلس. فنصّت « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستَحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

فبعد آليات إلغاء الطائفية المستحيلة وفق نص المادة 95 من الدستور أتت المادة 22 منه لتقرن تلك الاستحالة باستحالة جديدة، مرتبطة كل الارتباط بإلغاء الطائفية السياسية وهي « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ».
وهذا النص أغلق الباب نهائيًا على البحث في إنشاء مجلس للشيوخ. والأخير لا يمكن الوصول إليه دون تطبيق نص المادة 95 الذي دونه عقبات سبق شرحها.
إضافة إلى حصر مهام المجلس في قضايا مصيرية وهو معنى واسع يحتمل الكثير من التفسيرات.

3ـ الحلول المقترحة:
لجهة النصوص الهادفة لإنشاء مجلس الشيوخ، سواء كان نص المادة 22 أو 95 من الدستور نجد ضرورة الاستغناء عنهما، ووضع نص واضح مثل:
« يُنشأ مجلس للشيوخ، ويُحدَّد عدد أعضائه وفق قانون الانتخاب المَرعي الإجراء وتنحصر صلاحياته بما يلي:
تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، إقرار الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو الغاؤها، الموازنة العامة، تعيين موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، قانون الانتخاب، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، اطلاعه من خلال رئيسه على نتائج الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة، المصادقة على البيان الوزاري بعد إقراره في مجلس النواب فإذا استغنى المشرع عن نص المادة 22 و 95 من الدستور، فقط في الصيغ المتعلقة بإنشاء مجلس للشيوخ، يكون قد سعى حقيقة لإنشاء غرفة ثانية في البرلمان اسمها مجلس الشيوخ.
رابعًا: الأسباب الموجبة لإسناد رئاسة مجلس الشيوخ للطائفة الدرزية.
هنالك عدة أسباب توجب تولي الطائفة الدرزية رئاسة مجلس الشيوخ منها:
أـ الأسباب التاريخية والسياسية:
لقد حكم الدروز لبنان منذ عام 758 ميلادية حتى عام 1861 أي قرابة ألف عام لم يستطع غازٍ إنهاء سيطرتهم وحمايتهم للبنان، وبهم وبأمرائهم تكوّن لبنان السياسي. فهم أول من تمتع في الخلافة العباسية بالاستقلال الذاتي عن بغداد، وهم أول الفرق الإسلامية التي صدت الغزو الصليبي عن الشرق وانتصرت في معارك ضدهم في عهد الأمراء التنوخيين.

وبعد انقراض السلالة التنوخية، تابع الأمراء المعنيين بناء لبنان السياسي، ولكن بسمات استقلالية أوسع وأوضح وأثبت من ذي قبل، كلّفتهم الكثير من إبعاد واعتقال وإعدام بالجملة لأسرة الامير فخر الدين المعني الثاني الذي وصفه المؤرخون بـ أبو الاستقلال الوطني الأول. حيث تمكّن من بناء دولة مستقلة.

تابع الأمراء الشهابيون – انسباء الأمراء المعنيين – صناعة لبنان المستقل لكن انتهى حكمهم ومعه حكم الدروز للبنان. لهذه الأسباب كلها توجب إعادة الاعتبار السياسي للدروز في مجلس الشيوخ، لدورهم التاريخي والسياسي في قيادة هذه البلاد وحمايتها.

الأمير فخر الدين

ب- الأسباب الواقعية والقانونية
لقد وُزِّعت الرئاسات الثلاث فنال المسيحيون رأس الهرم (رئاسة الجمهورية) ونال المسلمون الشيعة الرئاسة الثانية، والمسلمون السنة الرئاسة الثالثة، ونالت الطوائف المسيحية منصبَي (نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء) وهذا التوزيع الطائفي ليس فيه خلل فالكل حصل على موقعه لكن واقعيًا تعداد سكان لبنان كشف عن أن نسبة المسيحيين من مجمل عدد سكان لبنان تساوي الثلث أو أكثر بقليل مما دفعنا إلى القول إنّ رئاسة مجلس الشيوخ يجب أن تكون من حصة المسلمين الدروز. خصوصًا إن كل طائفة إسلامية حازت على رئاسة إلا المسلمون الموحدون الدروز.

ج ـ المساواة التي يطالب بها الدستور:
نصت المادة رقم 7 من الدستور على «كل اللبنانيين سَواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم».

وهذه الصيغة تتبعها صيغة نص المادة 95 التي تطالب «وفي المرحلة الانتقالية:
أـ تُمثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة من هنا الدستور يلتزم بعدم التمييز بين المواطنين وبأنهم سواء أمام القانون وفق المادة 7 منه وتؤكد المادة 95 وفي المرحلة الانتقالية تُشَكل الوزارة بصورة عادلة وهذا ما حصل في تشكيل الحكومات. ولكن السؤال هنا؟ هل إنْ طَلبَ اللبنانيون العدالة في التمثيل بالسلطة التنفيذية، سيقابله أيضاً المطالبة بالعدالة في السلطة التشريعية، والحال كذلك، أفلا يعني ذلك أن على الدروز طلب العدالة لأنفسهم من خلال حصولهم على رئاسة مجلس الشيوخ؟
نعم يحق للدروز بالرئاسة الرابعة في البلاد للأسباب السابقة التي عرضناها، مع أنّ الأمر سيبقى رهناً بالتجاذبات السياسية في هذ البلد.

مَجلِس الشّيوخ اللبناني: مقاربة دستورية – سياسية لإدارة التنوع والتعددية

ذهب العديد من الباحثين في الفكر السياسي والاجتماعي حول نمط الاجتماع في لبنان بعيداً في تقدير أهمية وخطورة تعدد فئات المجتمع اللبناني وانتماءاتها وولاءاتها، ومن دون أن يبذلوا بعض العناء للتدقيق في مدى صحة المعايير المستخدمة لتحديد «الطوائف الدينية» ومدى تناقض الفئات المكوّنة لهذا المجتمع بعضها مع بعض، فوقَعوا في شرك فهم الماضي على مقاييس الحاضر ومعطياته، آخذين مجرد الصراعات الدموية التي كانت تظهر إلى سطح العلاقات لتبرير أقوالهم وكمؤشر وحيد لدراساتهم من دون التدقيق أحيانا فيما إذا كانت هذه الصراعات تتخطى هذا السطح إلى الجوهر أم أنها كانت تمكث فيه. فلذلك تتكرر في العديد من الأبحاث مفاهيم تصف المجتمع اللبناني بأنه «مجتمع الفسيفساء» و«الفسيفساء الطائفية» و «وعاء الأقليات الدينية والقومية» والكلام عن «المشاريع والآمال المتناقضة للطوائف والمذاهب المختلفة» وصولاً إلى ما بات يشاع حول «التعددية الحضارية» و«الأصول الحضارية المتعددة» و«الخصوصيات المذهبية» وغيرها من المفاهيم التي لنا أن نشك في أسباب رواجها وفي غايات مروّجيها.

فما من «طائفة» أو «مذهب» نزعت جماعته، وتحديداً بعد اتفاق الطائف، باتجاه الانفصال عن المجتمع كليّة، وعملت على بلورة مشروعها الانفصالي بالانعزال والتقوقع، وحدّدت لنفسها المجال الجغرافي الخاص الذي يصبح الدفاع عنه وحمايته دفاعاً عن قيمها ومبادئها وخصوصياتها. أي أنّ ما من فئة تخطّت التمايز «الإيديولوجي» عن باقي الفئات باتجاه التحوّل إلى «أمّة» أو «وطن». فقد كانت كل العناوين التي تحملها الطوائف اللبنانية منتشرة في كل المناطق، وشبكة الولاءات والانتماءات قابلة للتبدل بشكل دائم وأحياناً على نطاق واسع. مما جعل كل فئة من فئات المجتمع اللبناني تلتقي مع الفئات الأخرى في قواسم مشتركة، بالقدر ذاته الذي تختلف جماعات كل فئة بداخلها. وبذلك تصبح الطوائف الدينية برمّتها مجموعة من الوحدات المتداخلة التي يصعب فصم عراها على أي أساس من أسس التمايز، تتفاعل فيما بينها، مع الاعتراف لكل منها بخصوصية معينة والتي تميّزها عن غيرها، دون أن تؤهلها بالطبع لممارسة الانغلاق على نفسها أو حتى الانعزال عن بقية الطوائف.

وبناء على ذلك، يمكن القول بأنّ المسألة الطائفية في لبنان ليست مشكلة أديان ومذاهب إذ لا يضر لبنان شيء إن كثر عدد طوائفه ومذاهبه أو قلّ. ذلك أن الديانتين المسيحية والإسلامية تقومان على الخير والمحبة والأخوّة والتسامح بين البشر، فهما بهذه القيم السامية إغناء للمجتمع، مهما تعددت طوائفهما ومذاهبهما. لكن الخطر في الأمر انخراط أربابهما في العمل السياسي وإعطاء الطائفية، عبر الدساتير والقوانين المتلاحقة، شخصية معنوية تُعنى بالشأن العام، باسم الدين الذي انبثقت أصلاً منه، في أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وهذا ما أدى إلى ضياعها بين دورها الروحي الإنساني السامي والممارسات الزمنية التي تقوم بها في شتى المجالات وعلى مختلف المستويات. فضلاً عن استغلال المشاركة الطوائفية في السلطة لتقوية مواقع النفوذ وتحقيق المكاسب على حساب الصالح العام من خلال استنفار العصبيات الطائفية، وتحويل الطائفة إلى جماعة تقيم حواجز نفسية واجتماعية بينها وبين الطوائف الأُخرى المتحصنة أيضا بخصوصياتها وذلك بهدف تجذير الانقسامات الطائفية وتعزيز الزبائنية السياسية التي هي تبعية تتميز عن الطائفية وإن كانت تتلبّس بها كتمويه (1)، من خلال أسياد وزبائن وشبكة الأسياد والزبائن المتداخلة من كل الطوائف والمذاهب، متحالفين ومتنافسين في آن معاً على المنافع وحماية المستفيدين من المنافع والهدر(2).

وربما يكون المؤسس الدستوري عام 1998 قد انطلق من هذه النقطة عند الأخذ بنظام المجلسين، في محاولة منه معالجة المسألة الطائفية، حيث كانت عبقرية في فهمها للتوازن المنشود بين الحد المقبول من الطائفية والحد المطلوب من المواطنة، هي صيغة مجلسي النواب والشيوخ، وهي الصيغة التي يُفترض أن تولد فوراً من بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، في إطار سلّة الإجراءات والخطوات والخطط التي تقرّها الهيئة ويتلقاها مجلس النواب والوزراء لتحويلها إلى قوانين ومراسيم.

فدستور الطائف 1990 وإن كان قد كرّس الاعتراف بالطوائف الدينية كركيزة أساسية للمنتظم السياسي اللبناني، فالعرف القاضي بتوزيع الرئاسات الثلاث أبقى عليه، كما أن المواد 9 و10 من الدستور المتعلقة بالطوائف وحقوقها لم يطرا أي تعديل عليها. إضافة إلى ذلك منح التعديل الدستوري في المادة 19 رؤساء الطوائف المعترف بها قانونا حق مراجعة المجلس الدستوري فيما يختص بدستورية القوانين في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، إلاّ أنه وعد بالمقابل بإقامة نظام المجلسين وتخطي الطائفية السياسية، وبالتالي إلغاء الفيتويات الفئوية المعطّلة، والزبائنية السياسية، والمحاصصة الطائفية، والاستئثار المذهبي، فيكون مجلس الشيوخ الهيئة التي تؤمن الضمانات الأساسية للطوائف وإطار مشاركتها في الدولة كمجموعات طائفية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.

وإذا كان بالإمكان القول أن مجالس الشيوخ قد حلّت بعض القضايا الحساسة في بعض الأنظمة البرلمانية التعددية حيث تلعب هذه المجالس دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على وحدة تلك البلدان، وتأمين استقرار النظام، والاستمرارية في الحكم، وبناء الديموقراطية، وعصرنة النظام السياسي، واستيعاب التبدلات التي تحصل على مستوى الجماعات والولايات، وتأمين حضورها السياسي، وبوصفها كابحة لطغيان الأغلبية العددية، فربما ينطبق الأمر نفسه في لبنان، إلا أن ذلك يستلزم بعض الشروط لما يتمتع به لبنان من وضع خاص لجهة التركيبة الاجتماعية – السياسية وحتى تداخل أزمات أزماته الداخلية مع بعض الأزمات الخارجية.

ولكن بصرف النظر عمّا يمكن أن يحققه نظام المجلسين في بلد كلبنان الذي يساوي نظامه السياسي بين الطوائف الدينية وبين المواطنين الأفراد في آن معاً، فضلاً عن محاكاته للطبيعة الثنائية عند المواطن الذي ولّد عنده شخصية مزدوجة، بين إنسان يعيش مواطنة في التشريع لممارسة الحياة بأشكالها المختلفة من جهة، وبين إنسان طائفي ينتمي إلى جماعة لها خاصيتها والتي تختلف بالضرورة عن خاصيات المواطنة من جهة أخرى. فإن نجاحه مرتبط بقدرته على التوفيق بين مشكلتين: مشكلة التمثيل النيابي الشعبي من جهة، ومن جهة أخرى مشكلة المشاركة الطائفية في القضايا المصيرية من جهة أخرى، الأمر الذي تؤكد عليه المادة 22 من الدستور من خلال إطلاقها مشروع تخطي الطائفية السياسية مقابل تثبيت المحاصصة الطائفية في مجلس الشيوخ وليس إلغاءها.

إن الجدل القائم بشأن مجلس الشيوخ، أو بعبارة أخرى حول الجدوى من وجود غرفة ثانية في البرلمان اللبناني ليس جديداً، ولا خاصاً فقط بلبنان، بل يندرج ضمن فلسفة وتاريخ الحركة البرلمانية، التي انقسمت بين مؤيّد لنظام الغرفتين من جهة، وبين متمسك بنظام الغرفة الواحدة، غير أن المطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ في لبنان لم تشهد عبر التاريخ ضوابط معينة تجعله مطلباً ملحاً وثابتاً في برامج الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.

وبينما يرى البعض، أن مجلس الشيوخ يمكن أن يشكل المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة المذهبية التي تقيده وتدفع الناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لاطائفية عند صندوق الاقتراع. وهذا من شأنه أن يحقق المساواة الكاملة بين اللبنانيين من خلال القضاء على المحاصصة السياسية، وتالياً الدفع في اتجاه دولة المواطنة. أمّا المكان الصحيح للطائفية السياسية، فهو مجلس الشيوخ حيث تنتخب الطوائف والمذاهب ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده ويتولون النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديته، الأمر الذي يتيح لها القدرة على تثبيت الضمانات والاطمئنان إلى أن وجه لبنان لن يتغير، من خلال إعطاء هذا المجلس صلاحية المناقشة والبت في الأمور والقضايا المصيرية المطروحة على مستوى الوطن.

بالمقابل، يخشى البعض الآخر، أن يتم تنظيم مجلس الشيوخ مع ضرب روحية الميثاق اللبناني، إذ ينتخب المقترعون من الطوائف المتعددة ممثلين لهم من أبناء طائفتهم ومذاهبهم مما سيؤدي إلى فرز اللبنانيين، وهذا يُعَدّ مخالفاً تماماً لمبدأ الهيئة الانتخابية الموحدة، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال الاندماج في العلاقات اليومية والتواصلية.

ولكن، كيف يمكن لوثيقة الطائف استحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني في ظل وجود شرطين أساسين يرتبطان بإنشاء مجلس الشيوخ: الأول يتعلق بآلية انتخاب الأعضاء وعددهم، والتحديد الدقيق لمفهوم «القضايا المصيرية» الذي لايزال يكتنفه غموض كبير. أما الشرط الثاني فهو مرتبط بضرورة التثبيت النهائي لطائفة رئيس مجلس الشيوخ، حيث أنّ هذه النقطة ما تزال مادة خلافية بين فريق يرى أنّها يجب أن تُعطى للمسيحيين وتحديداً للروم الأرثوذكس حفاظاً على المناصفة والعدالة في التمثيل الحقيقي لكل الطوائف، إذ لا يجوز وجود ثلاث رئاسات إسلامية مقابل واحدة مسيحية فيما يصر فريق آخر على «درزية» هذا الرئيس بالاستناد إلى المداولات في اجتماعات الطائف وما بعدها، وعلى اعتبار أن الطائفة الدرزية لا تشغل منصباً سياسياً رسمياً كبيراً على غرار الطوائف المسيحية والإسلامية الأخرى.

وفي حين أن الرئاسات ثلاث في لبنان، واحدة للموارنة واثنتان للمسلمين، لكن المؤسسات الدستورية تشمل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي الاجتماعي اللذين تعود رئاستهما للمسيحيين، وهذا يعني أن من بين 5 رئاسات هناك ثلاث للمسيحيين واثنتان للمسلمين، هذا إذا استثنينا حاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى وقيادة الجيش.

لكن في مطلق الأحوال فإن هذه المطالب الفئوية تتنافى وحقيقة مجلس الشيوخ المقترح الذي لا ينشأ حسب وثيقة الطائف قبل انتخاب مجلس نواب «على أساس وطني غير طائفي»، وهذا يعني بأن رئاسة مجلس الشيوخ لن تكون محفوظة لأيّة طائفة معينة من الطوائف اللبنانية، إلّا في حال تحويل الرئاسات الثلاث وبنص دستوري غير موجود، إلى تحديد طائفي، بدلاً من الحالة العرفية القائمة، وهذا لا يستقيم بالطبع مع مشروع تخطي الطائفية السياسية.

إنّ هذين الشرطين لا يمكن العثور عليهما في النص وهما أساسيان لوجود هذا المجلس. ولكن من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن نسخة 1926 من الدستور قد فصلت هذه الشروط من خلال النص الموجود (نصف أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية)، وهذا يدل على غياب صارخ للدقة والوضوح في نص المادة 22 الجديدة من الدستور التي لا تقدّم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، دون التطرق لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد القضايا التي تنطبق عليها صفة «المصيرية» وقضايا أخرى، الأمر الذي يدفع برأي البعض – وفي حال أردنا تفعيل هذا المجلس – إلى طرح تعديل للدستور، خاصة وأن المادة 22 التي تقول بإنشاء مجلس الشيوخ هي من باب النص الانشائي وليست نصّاً ناظماً، أي إنها أنشأت مجلس الشيوخ كفكرة أو أسست لإنشائه لكنها لم تضع التفاصيل وتأثيراته على مجلس النواب، وبالتالي يجب إعادة النظر في كل ذلك ما يقتضي إجراء تعديل دستوري لتفعيل مجلس الشيوخ.

يضاف إلى ذلك، أنّ وثيقة الطائف لم تحدد مهلة زمنية لكيفية العبور من المجتمع الطوائفي إلى المجتمع الوطني من خلال تخطي الطائفية في تركيبة مجلس النواب، وإنما اكتفت بتحديد آلية غير مرتبطة بأجل معيّن حيث نصت الفقرة (ز) من بند الإصلاحات السياسية على تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية لاقتراح الطرق الكفيلة بتخطي الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية مما جعل هذا المجلس لا يبصر النور حتى يومنا هذا.

وإذا كان هناك من يعتقد أن مفهوم الطائفية السياسية المطلوب معالجته منفصل عن الحق الذي تعطيه المادة 19 من الدستور لرؤساء الطوائف بمراجعة المجلس الدستوري، إلاّ أنّ أي مراقب محايد لوثيقة الطائف لا يمكنه إلاّ أن يتساءل عن مدى الانسجام بين النصّين: من جهة هنالك مادة تثّبت حق رؤساء الطوائف، ومن جهة ثانية مادة أخرى تنص عل مبدأ تخطي الطائفية السياسية. لذلك فإن أي اقتراح يؤدي إلى تخطي الطائفية السياسية كما جاء في المادة 95 من الدستور، قد يعترض طريقه رؤساء الطوائف أمام المجلس الدستوري، مشكلين معاً حاجزاً منيعاً للتقدم والتغيير وصولاً إلى مبدأ المواطنة والمساواة، بدلاً من الحالة المذهبية والطائفية.

بالطبع إنّ مثل هذه المسائل تحتاج الدخول في تفاصيلها لكي نعرف ما إذا كانت طبيعة تكوين الاجتماع اللبناني الذي يتألف من مجموعات من الطوائف والمذاهب الدينيّة، لا يستقيم نظامه السياسي إلّا بوجود نوعين من المؤسسات التمثيلية، يعبّر الأول منها عن وحدة أبنائه في مجلس وطني، والثاني عن تنوعهم في مجلس توافقي متوازن، فضلاً عن الانقسام الحاصل بين اللبنانيين حول مسألة تخطّي الطائفية السياسية والتي ارتبط إنشاء مجلس الشيوخ بتخطيها.
وفي حين يمثل مطلب تخطي الطائفية السياسية في مقدمة الدستور بوصفه هدفاً وطنياً أساسيّاً يقتضي العمل على تحقيقه، إلاّ أن مسألة الطائفية السياسية نراها تراوح بين مُؤيِّد مطالب بالإسراع في تخطيها، ومُستنكر مُذكّر، أو بالأحرى ملوّح، بالخطر المتربص بلبنان في حال الإبقاء عليها من جهة، ومن جهة أخرى بين من يعتبر أنه وفي ظل المجتمع اللبناني التعددي يصعب تخطي الطائفية السياسية نظراً لعدم وجود تمثيل سياسي على أساس وطني غير طائفي.

انطلاقاً من ذلك، كيف لنا أن نستولد من هذه المسائل الشاقة سياقًا لتخطي الطائفية السياسية عملياً؟
مرّة أخرى نعود إلى صيغة نظام المجلسين المقترحة في وثيقة الطائف بغية استيلاد مواطنية تزاوج بين ولاءين متناقضين مثلما تنأى عن مواطنة تمضي إلى الذوبان الكامل في بحور طوائفها ومذاهبها.

إنّ من صفات صيغة نظام المجلسين في لبنان، أنها تأخذ بسبيل الوصول إلى المواطنية الفاعلة، أي التي تدفع بالمواطنة إلى واقع ممكن التحقيق. إذ بينما تعترف هذه الصيغة بالمواطنة المركّبة كحالة موضوعية للبنان ترسخّت على امتداد زمن طويل من الحروب والتسويات والعقود السياسية، تروح تحفر مجراها المغاير للمألوف الطائفي، فإذا كانت القوانين والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام الطائفي، فإنّ تبديلها بقوانين وأعراف مدنية لاطائفية سيولِّد سيرورة جديدة من الآمال بوطن موحّد ومواطنية جامعة.

إن مستهل الطريق إلى مواطنية بهذا التوصيف تستلزم تثمير التسويات التي عادة ما تعقب النزاعات والحروب الأهلية. كأن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانين والمواثيق الجديدة، تطلق سيرورة من الخطوط والعمليات السلمية على قاعدة فك الاشتباك المزمن بين الطائفي والوطني، كعاملين منتجين لازدواجية الانتماء والولاء في البيئة التاريخية اللبنانية.

وإذا كانت المطالبة بإجراءات إصلاحية في قانون الانتخاب، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس وطني لا طائفي تدخل في هذا السياق، فإن تربية المواطن على حضوره كفاعل في فضاء الوطن هي أساس العملية التغييرية المنشودة.

ذلك أنّ المواطنية الفاعلة هي التي تنتج المواطن المتواصل مع نظيره في الوطن، لا على أساس التقابل الطائفي، وإنّما على أرض الولاء لعقيدة أساسها المصلحة الوطنية العليا.

هذا ما أضاء عليه كثيرون من المفكرين، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين اللبنانيين، حين وجدوا أنّ العنف الأهلي مصدره الاستبداد بالرأي، وأنّ من استبد برأيه كان مآله الهلاك، وأن الطغيان يبتدئ – حسب جون لوك – حيث تنتهي سلطة القانون، وتُنتهَكُ حُرمة الآخرين.
مستهل الرحلة باتجاه مواطنية الولاء، هو تظهير مكامن الفطرة الخيّرة في نفوس اللبنانيين، وترجيح العام الوطني على الخاص الطائفي، وكل ذلك بعقلانية مسدّدة بالأخلاق حتى يرجع اللبنانيون إلى بيت الحكمة. ولبيت الحكمة منازل كثيرة كما في مأثور القديس يوحنا في إنجيله. فإذا ما تم تنظيف السقوف اللبنانية بالمعاسف إذ يجب أن يتم تنظيفها مما عُلّق فيها على مرّ الزمان من نسيج العنكبوت فستكون هنالك طرق لا متناهية يمكن من خلالها إعادة النظر في تاريخ لبنان، وصياغته على نشأة الإدراك لحقيقة الوطن والمواطنة.

ونحن وإن كنا لا ننكر ما لصيغة المجلسين من حسنات وفضائل، فإننا نعترف أنها كغيرها من الصيغ الأخرى تبقى بالنسبة إلى نجاحها أو فشلها، رهن الظروف الموضوعية والأساليب التطبيقية، فقيمة أي صيغة لا تكمن في المواد الدستورية التي تتكون منها، وإنما في الإرادة المصممة على تطبيقها والرغبة الصادقة في رعايتها واحترامها والتوافق الشامل على وجوب إقرارها ووضعها موضع التنفيذ.

وعليه، يُطرح السؤال: هل يمكن إنشاء مجلس شيوخ وفق ما هو مطروح في صيغة الطائف؟ أم أن الطائفية هي قدَر اللبنانيين، وأن مسألة التصدي لها لا تزال تحتاج إلى القول الشجاع والموقف الحاسم؟

لقد دلّت التجارب العالمية على أن نظام المجلسين يشكل في بلد متعدد الطوائف كلبنان توفيقاً بين مسألة التمثيل النيابي الشعبي ومسألة مشاركة الطوائف في القضايا المصيرية، مع ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية كما هو الحال في التجربة الفرنسية، خاصة وأن اللامركزية الإدارية واللامركزية الإنمائية تشكلان في الدولة الحديثة قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية والمشاركة الشعبية في تسيير الأمور الحياتية وتسهيلها. كما أن الإنماء المتوازن يعتبر أحد أوجه العدالة الاجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الطبقية داخل المجتمع.

ولكن أي بحث حول إلغاء « الطائفية « أو تخطيها أو معالجتها أو في قاعدة الكوتا، تطبيقاً أو تغييراً أو تعديلاً، لا فاعلية علمية له قبل البت بموضوع الهيئة الوطنية المنوي إنشاؤها بموجب المادة 95 الجديدة من الدستور التي توكِل إلى هيئة وطنية عليا وضع خطة لتخطي الممارسات الطائفية تجنُّباً لطرح هذا الموضوع في السوق السياسية للتحريض والتفجير وتغذية النزاعات (3).

وبالتالي فإن قضية مجلس الشيوخ مرتبطة إلى حد كبير بالهيئة الوطنية التي تتمتع بدور هام في مقاربة مسألة تخطي الطائفية من ناحية تحديد العلاقة بين الدولة والطوائف (4)، وضرورة تحديد مهل لهذا الموضوع تترافق مع لحظ ديناميكية اجتماعية وسياسية في التغيير، إذ إنّ قضايا التغيير السياسي في لبنان لا تُطرح في أجواء تحريضية وبهدف الفتنة السياسية (5). كما أن المهل القانونية المحض هي بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء(6).

من هنا تبدو أهمية قانون الانتخابات على أساس النسبية والذي يشكل نقلة إصلاحية نوعية قادرة على تحسين التمثيل السياسي، وعلى استيعاب جانب من تعقيدات الواقع الطائفي، وتوسيع خيارات الناخبين، والتخفيف من هيمنة الطوائف على مجرى العملية الانتخابية، مما يقرّبنا بالتالي من تطبيق اتفاق الطائف الذي يتحدث عن تخطي الطائفية السياسية كهدف وطني، وأنْ «لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك»، وأن الانصهار الوطني يتحقق في سياق إعادة النظر بالدوائر الانتخابية.لكن هل يعني هذا الكلام أن لبنان سيظل دون مجلس للشيوخ إلى حين تخطي الطائفية السياسية؟ ألا يمكن الاستئناس في هذا الخصوص، بالطرح الذي قدّمه رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي دعا فيه إلى إنشاء مجلس شيوخ لا يترافق مع تخطي الطائفية السياسية، وإشارته إلى أن تعبير «مجلس نواب وطني لا طائفي» الوارد في المادة 22 من الدستور يعني المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وبالتالي يجوز تفسير كلمة «وطني» على قاعدة المناصفة تلك؟

إنَّ اللبنانيين على مر العهود، ولاسيما في مراحل عهد الاستقلال لم يعتمدوا الوسائل الكفيلة بمعالجة مسألة الطائفية ومن خلال رؤية واضحة وتحليل علمي دقيق، وخلق وعي عام ثقافي وفكري وسياسي وخلق إرادة حقيقية في التغيير. فكل التسويات التي تحققت بعد الحروب التي اندلعت في البلد خلال عمره القصير، إنما حصلت على أسس طائفية، ولم يكن ممكنا أن تكون غير ذلك، طالما أن الحروب ذاتها تم خوضها تحت شعارات وبأزياء طائفية أدت إلى ترسيخ الكيان الطائفي والمفهوم الطائفي في النظام اللبناني، على كافة الصعد السياسية والإدارية والانتخابية، ما يجعل مطلب تخطي الطائفية السياسية أمراً متعذّراً في المدى القريب، خاصة وأن لهذه الطائفية جذوراً عميقة، تعود في بنيتها الفكرية والاجتماعية إلى عصور مديدة في الزمن. فبعد أن كانت سداسية الرؤوس في نظامي القائمقاميتين والمتصرفية (ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، درزي)، أينعت في عهد الانتداب الفرنسي فبلغت سبع عشرة طائفة معترفاً بها رسمياً في قرار المفوض السامي رقم 60 تاريخ 13 آذار/ مارس 1936، ليرتفع هذا العدد إلى ثماني عشرة طائفة بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وقد أصبحت جزءاً من الممارسة اليومية في لبنان.

بناء على ذلك، يمكن القول إنّ الممارسة الطائفية منذ تطبيق اتفاق الطائف زادت حدّة واتسع نطاقها، وقد ساعدت على ذلك المتغيرات الديمغرافية، وتأثيرها على القيم العامة الثقافية والسياسية، وانعكاسها على القوى الموجودة في مواقع القرار، مثل المجلس النيابي والحكومة والإدارات العامة. كما أنه لا يمكن أن ننكر أن التنافس والصراع على السلطة بين الطوائف هو جزء لا يتجزّأ من التاريخ السياسي للبنان منذ زمن بعيد. وإذا كنا نشهد ما نشهده من صراع طائفي ومذهبي حول التعيينات الإدارية والوظائف العامة وتحديداً تلك التي نصّ اتفاق الطائف صراحة على إلغاء ارتباطها بالتمثيل الطائفي، فكيف سيكون الحال عندما يصل المعنيون إلى إلغاء الطائفية كليّاً من التمثيل النيابي؟

ومادام هناك من لا يرضى بمعالجة مسألة الطائفية أو حتى بمجرد طرحها في الوقت الحاضر، فهذا يعني أن موضوع مجلس الشيوخ حسب صيغة اتفاق الطائف أمر مؤجّل، إلاّ في حالة واحدة وهي تعديل الدستور والنص على إنشاء مجلس شيوخ مع الإبقاء على مجلس نواب طائفي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وعندها يُطرح السؤال عن مبرر إنشاء مجلسين طائفيين في البرلمان اللبناني؟
ولئن يكن قيام مجلس الشيوخ وارتباطه بتخطي الطائفية السياسية عملية بالغة التعقيد، كمن يقول بأن الثلج لا يصلح وقوداً للنار ولا النار وعاء للثلج، إلّا أن ذلك لا يعفينا من الالتزام بنظام المجلسين. فالمطلوب هو إصلاح نظام المجلسين، وليس إلغاء نظام المجلسين. وبالتالي يجب البحث منذ الآن عن مقاربة استثنائية وقراءة واقعية لطبيعة ما نرمي إليه، حيث إنّ مسألة استحداث مجلس للشيوخ، على مركزيتها وأهميتها، يجب أن تكون مقاربتها مبنية على قاعدة وطنية تؤمّن تمثيل اللبنانيين على مستوى الأفراد والجماعات، وفي إطار المجتمع اللبناني الضامن للوحدة والتعددية. وذلك بهدف تحرير مجلس النواب في وقت لاحق من القيود الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيدا عن الحساسيات الضّيقة والمناكفات الفئوية. حيث يمكن للبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتورات) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، بشكل يؤمن حماية حقوق المواطن والطوائف والمذهب في آن معا.

وإذا كان التمثيل المتساوي لجميع الطوائف حلّاً مرضياً للطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة، الشيعة، السُنّة)، إلّا أن تمثيلاً لكل طائفة ومذهب يبقى أمراً أساسياً لتمكين مجلس الشيوخ من القيام بدوره كضامن لتمثيل الطوائف والمذاهب، ويمكن في هذا المضمار العودة إلى الحل العادل الذي اعتمده «الاتفاق الثلاثي» الآنف الذكر، للطوائف في المرحلة الانتقالية، أي المُثالثة ضمن المناصفة (أي التمثيل المتساوي للطوائف الرئيسية الثلاث مع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين). أما فيما يختصّ بأصول انتخاب هذا المجلس فتبدو الضمانة الطائفية أكثر إلحاحاً، ولئن تكن الهيئة الانتخابية المختلطة طائفياً، كما يلاحظ «بيار روندو» بحق، تدفع نحو الاعتدال الطائفي في ظل المجلس الواحد، فهي أسهمت في إضعاف فعالية هذا المجلس ولا سيما في الفترات العصيبة وحملت الطوائف على البحث عن وسائل ومؤسسات أخرى للتعبير عن حقيقة آرائها ومصالحها، كان أهمها المؤسسات الدينية.
وعلى أيّة حال ليس هناك من ضابط للشهوات الفالتة إلّا التمثيل الصحيح والأمين «للعائلات الروحية» في مجلس الشيوخ، باعتباره المانع الأساسي، في الظروف الراهنة، لتحوّل السباق بين الطوائف والمذاهب إلى اقتتال. وليس عيباً، برأينا، إذا كان لبنان كما وصفه سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر بلد التعايش الإسلامي المسيحي وهو ما يجعله ثروة يجب التمسك بها أو كما نظر إليه الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وأوصى بالحفاظ عليه تجربة حضارية وإنسانية لا مثيل لها في هذا الشرق، بل العيب أن نظلّ نكذب على أنفسنا وعلى اللبنانيين جميعا بأنّ كل الحق على ممارسة الحكم بالتراضي، أو كما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية» التي قليلا ما تشبه، التجارب التوافقية التي اعتمدتها بلدان أخرى أو أن نضع كلّ اللوم على الطائفية السياسية مما يستدعي إلغاءها، كما لو أن بهذا الإلغاء تزول المخاوف والشهوات وتستوي موازين العدالة والمساواة، ويزول بزوالها التعايش الهشّ بين اللبنانيين والمشوب بالشك والحذر. إنّه كلام يقال منذ فترة الاستقلال، بل منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير عام 1920، حتى غدا أشبه بترهيب لكل من يرى العكس.

كما أنّ مقاربة مسألة « الطائفية» ذات المضامين الواردة في ست مواد أساسية من الدستور اللبناني ( 9-10-19-49-65-95)، يعتبره قانونيون ودستوريون وكأنه قانون مشوّه، droit perverti، ويعتبره أخصائيون في العلوم الانسانية عامة وكأنه علم اجتماع فاسد، في حين أن مجرد ورود نصوص في الدستور يعني بداهة أن «الطائفية» حتى في أسوأ مظاهرها هي خاضعة لمعايير وقواعد حقوقية وليست خارج القانون(7). فالنظام الذي نسميه طائفياً هو عملياً غير مطبّق في لبنان – قانونياً – في كل مُندرجاته حيث إنّ قاعدة الكوتا تخضع لشروط إدارية وقانونية وليس إلى علاقات نفوذ زبائنية، وحيث إنّ المادة 9 من الدستور تنص على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة»، مما يوجب عدم إجبار أي شخص في الانتماء إلى طائفة واعتماد نظام منفتح في الأحوال الشخصية(8).

وعليه، فإن الثنائية البرلمانية التي تقوم كمرحلة انتقالية على إنشاء مجلس للشيوخ دون إلغاء الطائفية السياسية من جهة، إلى جانب مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، هي ثنائية نموذجية برأينا، ينبغي التركيز على إصلاحها، وعلى تنفيذها، لتحقّق غاياتها المرجوّة منها، كما هي ليست ثنائية الضرورة، هي ثنائية الاختيار، وهي ثنائية مناسبة لطبيعة لبنان، لأنها توافق وتحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدّم والازدهار، وتعزيز الثقة والاندماج بين جميع مكونات الشعب. وهي ثنائية لا تلغي التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي اللبناني، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على الاعتراف بحقوق الطوائف والمذاهب، وعلى احترام التنوع وليس على نفيه، حتى يشعر جميع اللبنانيين أفراداً وجماعات بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة. وهي ثنائية تمكّن الطوائف الدينية من التخلي تدريجيا عن الرعاية والحماية الخارجية، مقابل ضمانات من شركائها في الوطن.

لذلك، فإن مفهوم هذه الثنائية البرلمانية لا يكتمل على الصعيد الواقعي في لبنان، إلّا بتعزيز دولة الإنسان اللبناني تلك الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأفكار مواطنيها، بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله الطائفية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثّل في النهاية مجموع إرادات الأفراد والجماعات المكوّنة لها، وتؤمن الأمن والطمأنينة لكل المواطنين.

لسنا هنا بصدد محاكاة أحلام خيالية، فكما أنّ العداوات والحروب صار تركيبها على أيدي اللبنانيين فيما تولّت العوامل الاجتماعية والثقافية تقديسها، كذلك يمكن استئصالها من ذاكرتنا. ليس مستحيلاً، بل وليس صعباً، أن يعاد تكوين الولاءات المجتمعية في لبنان. فالمجتمع، متى تسنّت له قيادات حكيمة وأنتلجنسيا تتمتع بخطاب لا يثير القرف من كثرة ما استُهلك حول «الطائفية» و «الطائفية السياسية» و «العلمنة» وما إلى ذلك من الكلمات القذائف(9)، فعندها يمكن للبنان أن يشكل في إدارته العقلانية للتنوع أمثولة لدول عربية تتحكم فيها طائفية من لون واحد ويتقوقع فيها المواطن في الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.
إنّه التحدي والمصير الأكبر الذي ينتظر بلداً جَعَلْنا منه دولة ولكن لم نعرف كيف نرفعه إلى مرتبة وطن.


المراجع:

1- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 208.
2- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص: 207.
3- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص:155.
4- المرجع السابق، ص: 336.
5- المرجع نفسه، ص:155.
6- المرجع نفسه، ص:94.
7- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 404.
8- المرجع السابق، ص: 429-430.
9- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سابق، ص: 356.

خلاصات مرحلة مثمرة

استخدمَ الأميرُ السيِّدُ مصطلح «سياسة» في معرِض توضيح واجبات الَّذي يُولَّى – لثباتِه في الفضل – مسؤوليَّة الحفاظ على السَّالكِين في مدارج الطَّاعة وفق شروط سلوكٍ من شأنه أن يُثمِرَ في الرُّوح اتّزاناً لطبائع الخيْر. وهذا الاتّزانُ هو «بيتُ الدِّين» ولا بيت للدِّين سواه.

ينطبقُ القصدُ الرّوحاني للمفهُوم على التّفسير اللغويّ ل»السّياسة» وهو: القيامُ على الشَّيءِ بما يُصلحُه. وإصلاحُ «الأخْيار» يوجبُ معرفةً تُحقِّقُ في ذاتِ القائم بالأمر الاتِّزان اللطيف، وإلَّا كيف لمن لم يفلِح في إضاءةِ سراج قلبه أن يضيءَ قلبَ ساعٍ في الخيْر إلى نبْع النُّور!

يُـنـبِّهُ الأميرُ السيِّدُ على وجود «تفرُّعات» في أنواع السّياسة، وهذا مردّهُ إلى تنوُّعِ «أهل الإجابة بمقدار القوى والاستطاعات». وهذا أمرٌ بالغ الدقَّة، وخطير، بحيثُ لا يُمكنُ مقاربة الكُلّ في المستوى الواحد من «السّياسة»، لذلك بيَّن الأميرُ الجليل أنَّ للسياسةِ «أشراط» وامتداداً للفروع من أصُولها.

ينعكسُ المعنى الجوهريّ لفِعلِ «القيام على الشَّيءِ بما يُصلحُه» على المعنى العام لـ «السّياسة» التي يتوجَّب على «مشيخةِ العقل» أن تنتهجها. لقد وجدنا أنفسَنا، منذ خمس عشرة سنة، في دارٍ تذوَّقت مرارة التّعطيل طوال نحو ثلاثين عاما من أثر الحرب وتعذُّر الاتّفاق على كيفيَّة إعادة النهوض بمؤسَّسات «البيت الدّاخلي». وكان قانون عام 2006 القائم على مبدأ انتخاب النُّخَب والفعاليَّات الاجتماعيَّة في كلّ الحقول، والمرتبط بالقوانين الماليَّة الرسميَّة لجهة التنظيم مع استقلال تام بالشؤون الداخليَّة.

كانت المهمَّة الأساس، بدعمٍ من القيادة السياسيَّة الرّشيدة، وعدد من الأفاضل وذوي المروءة، متعلّقة بمسألة النّهوض عبر الإشراف على تثبيت أركان التنظيم العام للجسم الوظيفي، ولجان المجلس وأنظمتها الداخليَّة، وتوحيد الأوقاف عبر إعادة تنظيم الملفَّات، واستحداث القاعدة المعلوماتيَّة، والخوض في دعاوى قانونيَّة لمسائل شائكة عالقة منذ عقود، والتمهيد لإنجاز ما يجدر إنجازه على قاعدة التخطيط والدرس وتحقيق المصلحة والنّفع العام.

وفي أقلّ من سنة، باتت الدّار مقصدَ قادة روحيّين وسياسيّين وفعاليَّات إجتماعيَّة من كافّة الأرجاء ومن بلاد الاغتراب، وسفراء دول ورؤساء مؤسَّسات إسلاميَّة ودوليَّة. وكانت مدار الأحاديث في الوضع الداخلي اللبناني والاقليمي بشكلٍ عام، وبالطبع أسئلة عن المعروفيّين في إطار ثقافي لائق، وعن موقف المشيخة والدروز عموماً في هذا الأمر الرّاهن او ذاك.

لذلك، كان للمشيخة أن تقف على أسُس ثابتة في «السّياسة» بمعناها السّليم من دون خوضٍ على الاطلاق في يوميَّاتها السّجاليَّة، بل ثباتٌ مترسّخ على المبادئ والقيَم الوطنيَّة المستمدَّة من عمق التّاريخ ومن ثوابت بني معروف وأصالتهم وأخلاقهم وأعرافهم، ومن الخطوط الأساسيَّة المتَّفق عليها بين القادة الروحيّين حفاظاً على العيش الواحد في الوطن الواحد. وهذا يتطلَّب ثقافة الحوار والتفاهُم وحسن الاستماع والحرص البالغ على تجنُّب الانزلاق في الأمور العرَضيَّة والمسائل التي لا يجب أن تدخُل في «مشاغل» المشيخة.

يبقى شأنُ «البيت الداخلي» الَّذي يتطلَّب «سياسةً» قائمة على ما ذكره الأمير السيِّد استمداداً من الأصول، وهي باختصار قائمة على قواعد «المسالمة والتآلف…» والانكباب في السّعي إلى نيْل الفضائل، والحرص الزائد على اجتناب كلّ ما من شأنه أن يُفسدَ الودّ. والحِلمُ، الَّذي هو قاعدة جوهريَّة في نظام النّـفس العاقلة، يسع الكلّ في كنف العائلة الواحدة التي يجب أن تضعَ المسائل الكبرى للمصلحة العامَّة خارج إطار الاختلافات العرَضيَّة في واقع «السياسة» بمعناها المتداول يوميّا امتثالًا للتحذير الحيوي القائل بأنَّ «الاختلاف يورث الفشل».

يا حبَّذا لو أنَّ كلَّ المسائل المذكورة تخضع لحوار عقلانيّ هادئ، في إطار نُخبة عاقلة مثـقّـفة تضع أمامها التراكُم الموثَّق الذي تمّ إنجازه خلال السنوات الماضية، فضلا عمّا هو موثَّق في المراحل السابقة في الماضي القريب والبعيد، لأنَّها مسائل لا يمكن معالجتها بالمواقف الآنـيَّة، بل بقدرة العقل الحكيم على إيفاء الأمور حقّها بحسن التّدبير و»حسن السّياسة»، وهو بالمناسبة تعبير ذكره الأمير السيّد في أشرف قصد.

﴿ وَقُـلِ اعْـمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤمِنُون﴾، صدق الله العليّ العظيم.

العدد 36-37