الموحّدون (الدروز) طائفة إسلامية يقيم أبناؤها في الدول التالية من المشرق العربي: لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ويتواجد مغتربوهم في الكثير من دول العالم. لهم عبر تاريخهم قادة زمنيون هم شيوخ العشائر والمناطق، والمقدّمون، والأمراء، وغيرهم من ذوي الشأن والنفوذ. ولهم قادة أو رؤساء روحيون في كلٍّ من الدول التي ورد ذكرها باستثناء شرق الأردن، لُقّبوا بالشيوخ سابقاً، وبشيوخ العقل مؤخّراً. وإذا كان يصحُّ إعطاء صفة الزعامة للقادة الزمنيين فإنه لا يصحُّ إعطاؤها للقادة الروحيين نظراً لما تنطوي عليه من سلطة وجاه بعيدين عن مفاهيم ومبادئ مسلك التوحيد العِرفاني، التي يتمشّى عليها أتباعه وخصوصاً الكبار والأعلام، ونظراً لأن الرئاسة الروحية هي اشتقاق معنوي تقليدي لفكرة الإمامة. وقد شُبّه كبار رجال الدين عند الموحّدين (الدروز) بحِرز الطائفة، لأنهم يصونونها بالحكمة والرأي السديد ويشكّلون عناصر خير وبركة فيها، فيما شُبّه الزعماء الزمنيون بسياج الطائفة، لأنهم يصونونها بالسيف ويدافعون عن حقوقها وكرامتها ووجودها.
من شيوخ البلدان إلى شيوخ العقل
كانت المناطق أو المقاطعات، وخصوصاً تلك المفصولة عن بعضها بحدود طبيعية، تُسمّى «البلدان»، ومنها على سبيل المثال المناطق التالية من لبنان، المسكونة بالموحّدين (الدروز): المتن والجُرد والغرب والشوف، ووادي التيم، وقد سُمّي رؤساؤهم الروحيون فيها شيوخ البلدان، وعُرف أبرزهم بشيخ البلدان أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر. وأهم وأكبر شيوخ العصر هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي الملَّقب بالسيّد (000-1479هـ)، كما أنه في الوقت نفسه أشهر أولياء الموحِّدين (الدروز) وأشهر أعلامهم الدينيين، لأنه نهل الكثير من المعارف الزمنية والدينية، وفسّر تعاليم ومفاهيم مسلك التوحيد، وأصلح شؤون قومه، ووضع النهج والقواعد التي تمشّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده، فكان مُعلّماً ومدرسة لأبناء عصره والعصور التالية. ومع أنه أقدم شيوخ العصر إلاّ أنه من الخطأ اعتباره أقدم شيوخ البلدان إذ هناك سبعة شيوخ قبله من أسرته، كما جاء بعده عشرة شيوخ عصر وبلدان.
ومنذ سنة 1763 بدأ يظهر لقب «شيخ العقّال» أو شيخ رجال الدين. وأول من أُطلق عليه هذا اللقب هو الشيخ اسماعيل أبو حمزة، والعقّال جمع لفظة «عاقل» التي تعني من عقل الأمور الدينية أي فهمها وفسّرها وعمل بموجبها، وهم رجال الدين المعروفون بالأجاويد جمع جيّد وتصغيرها جويّد. لكن لفظة «العُقّال» صُحِّفت فغدت: العقل. وقد بدأ ذلك مع العمّال والموظفين الأتراك الذين استسهلوا لفظة العقل على لفظة العقّال، وعمّ استعمالها.
تولّي الرئاسة الروحية قبل عهد المتصرفية
لم يكن تولّي الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) وراثة أو توريثاً، ولا تعييناً من الحاكم، ولا انتخاباً من رجال الدين، ذلك أن من تسلّموها، سواء بلقب الشيخ أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر، تحقّق لهم هذا بفضل بروزهم كفعاليات دينية اجتماعية، وتميّزهم عن اخوانهم بالتقوى والتديّن وحفظ الكتاب العزيز وتفسيره والعمل بموجب التعاليم، وبفضل تخلّقهم بالفضائل والقيم السامية. وعندما كان يتوفّر هذا في أحد الشيوخ كان أخوانه يقرّون بتقدّمه عليهم، وتبعاً لذلك لم يكن هناك تاريخ معين لتولّي أحد الشيوخ هذه المكانة المتقدّمة، بدليل أنّ الكثيرين منهم لم يخلفوا مباشرة من سبقوهم في الرئاسة الروحية، إذ كان هناك أحياناً فترات زمنية تبلغ بضعة عقود بين تاريخ وفاة الشيخ وبروز شيخ آخر مكانه، وبدليل آخر هو أنه ليس عند الموحّدين كما عند المسيحيين نظام إكليريكي يحدّد المناصب وكيفية تسلّمها.
لم يحصل في القرون الماضية أي تدخّل من السلطة أو من الأمير الحاكم في تعيين رئيس روحي أو عزله، ولم يحصل أي تدخّل في شؤون مشيخة العقل إلّا في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عيّن الشيخ حسين عبد الصمد شيخ عقل إلى جانب الشيخ حسن تقي الدين الذي لا يوجد عند آل تقي الدين وسواهم أي مستند خطي يشير إلى تدخل الأمير بشير في توليّه. أما شيخ العقل الثالث الذي عاصر هذين الشيخين وهو الشيخ شبلي أبي المنى، فقد تسلّم المشيخة نزولاً عند رغبة أخوانه، ولم يحصل ذلك في اجتماع عام أو نتيجة انتخاب، وإنما حصل بالتشاور بين رجال الدين، وبأخذ آراء العديدين منهم، وأخذ رأي الوليّة السّت فاخرة البعيني.
تحوّل مقام مشيخة العقل إلى منصب في عهد المتصرفية
أُنشئت متصرفية جبل لبنان بموجب بروتوكول سنة 1861 المعدَّل في سنة 1864، وقُسِّم الجبل إلى سبعة أقضية، وقُسِّمت الأقضية إلى نواحي، وبات هناك إدارة محليّة أكبر موظفيها القائمقامون الذين يعيّنهم المتصرّف، ومنهم القائمقام الدرزي على قضاء الشوف، الذي هو أكبر أقضية المتصرفية، ويشمل قضاءي الشوف وعاليه الحاليين، وتحوّل مقام مشيخة العقل في عهد المتصرفية إلى منصب ديني رسمي أُعتبر «وظيفة» كبيرة كوظيفة القائمقام. وقد وردت كلمة «وظيفة» في كتاب تهنئة المتصرّف رستم باشا لشيخ العقل محمّد طليع، بتاريخ 9 آذار 1874، وفي مضبطة انتخاب الشيخ حسين حماده الموقّعة من منتخبيه، والمرسلة إلى المتصرّف أوهانس باشا بتاريخ 15 كانون الثاني 1915. وبناءً على ذلك لم يعد شيخ العقل أحد كبار رجالات الهيئة الروحية أو أكبرهم، لكنه الممثّل لهم ولسائر الموحّدين (الدروز) إزاء السلطة وإزاء الآخرين، وهذا أضاف إلى الصبغة الروحية الصرف للمشيخة صبغة زمنية سياسية، وأدى إلى اعتماد صيغة نظامية لانتخاب الشيخ وتولّيه رسمياً منصبه، هي بداية أنظمة انتخاب شيخ العقل.
انتخاب شيخ العقل بموجب الأعراف
حين صارت مشيخة العقل منصباً بات تولّيه يتمُّ عن طريق الانتخاب من قبل أعيان الدروز، يليه الاعتراف من السلطة بالشيخ المنتخب. وهذا يحصل على الشكل التالي:
– دعوة قائمقام الشوف أعيان ووجهاء الموحّدين (الدروز) إلى اجتماع لانتخاب شيخ العقل.
– اجتماع الأعيان والوجهاء – وأكثريتهم من الزمنيين – وانتخابهم شيخ العقل، وتوقيعهم على مضبطة بذلك تُرسل إلى المتصرّف.
– تهنئة المتصرّف للشيخ المنتخب، وهي بمثابة اعتراف رسمي به.
وبموجب هذه الطريقة العرفية جرى انتخاب الشيخ محمّد طليع في سنة 1879 خلفاً لوالده شيخ العقل حسن طليع، وانتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 خلفاً لأخيه الشيخ محمّد، وانتخاب الشيخ محمّد حماده في سنة 1869 خلفاً لشيخ العقل حسين عبدالصمد، وانتخاب الشيخ حسين حماده في سنة 1915 خلفاً لوالده الشيخ محمّد. وقد جرى انتخاب الشيوخ المذكورين من قبل عدد محدود من الأعيان والوجهاء، بلغ في انتخاب الشيخ حسين طليع 165، وفي انتخاب الشيخ حسين حماده 340، هو أكبر عدد. كما أنه جرى بدون مرشّحين منافسين، وفي إطار المعرفة المسبقة لاسم الشيخ الجديد الذي سيُنتخب خلفاً للشيخ القديم، بحيث كان الانتخاب أشبه بالمبايعة، ومجرد تطبيق شكلي للعرف.
انحصر انتخاب شيوخ العقل المذكورين في أسرتين هما آل طليع وآل حماده، وبخلافة الابن لأبيه، والأخ لأخيه. وجرى بموجب الأعراف بدون أية إشكالية أو أزمة، واستمر على أساسها لكن مع حصول ثلاث أزمات وذلك عند انتخاب الشيخ محمّد عبد الصمد في سنة 1946 خلفاً للشيخ حسين حماده، وانتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا في سنة 1949 خلفاً للشيخ حسين طليع، وانتخاب الشيخين علي عبد اللطيف ورشيد حماده في سنة 1954 خلفاً للشيخ محمّد عبد الصمد. وما كان سبب هذه الأزمات التجاذبات السياسية والصراع حول مشيخة العقل فقط، وإنما كان أيضاً عدم وجود نظام أو قانون ينظّم انتخابها. وهذا، مع رغبة الغيورين بتنظيم جميع شؤون طائفة الموحّدين (الدروز) أدّى إلى وضع مجموعة من التنظيمات، بدأت بوضع نظام لانتخاب شيخ العقل في سنة 1953، وانتهت بإصدار قانون شامل صدر في سنة 2006 ينظّم شؤون طائفة الموحّدين، باستثناء قانوني الأحوال الشخصية وتنظيم القضاء المذهبي الصادرين سابقاً.
نظام انتخاب شيخ العقل
يحدّد نظام انتخاب شيخ العقل الفئات التي تتكوّن منها الهيئتان الناخبتان وهما الهيئة الروحية والهيئة الزمنية، كما يحدّد كيفية الدعوة والترشّح والشروط التي يجب توفّرها في المرشّح، وإعداد الهيئة المشرفة على الانتخاب محضراً بالواقع وتبليغ رئيس الجمهورية نتيجة الانتخاب، والاستغناء عن إرساله كتاب تهنئة للشيخ هو بمثابة اعتراف به، لأن الشيخ المُنتخَب يكتسب عند ظهور النتيجة حكماً صفة شيخ العقل، وذلك من أجل تلافي ما كان يُشكى منه، وهو تأخر رئيس الجمهورية في إرسال كتاب التهنئة لانحيازه إلى فريق درزي ضد آخر كما حصل عند انتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا، إذ تأخر الرئيس بشاره الخوري في إرسال كتاب التهنئة له أربعة أشهر.
لم يُعمل بنظام انتخاب شيخ العقل عند انتخاب خلف لشيخ العقل محمّد عبد الصمد المتوفّى في 5 نيسان 1954، لأنه جرى الاتفاق بين قادة الدروز على وضع قانون بديل عنه وأفضل منه، لكنهم لم يتفقوا على مبادئه الأساسية التي من بينها توحيد مشيخة العقل فتأخّر إعداده وتأخر الانتخاب حتى أيلول 1954 حيث أدى التجاذب السياسي الحاد إلى حصول أزمة أشد من أزمتي انتخاب سنتي 1946 و 1949، وإلى انتخاب شيخي عقل إلى جانب الشيخ محمّد أبو شقرا، هما الشيخ علي عبد اللطيف والشيخ رشيد حماده، فبات هناك ثلاثية استثنائية للمشيخة بدلاً من توحيدها المنشود.
قانون انتخاب شيخ العقل
بعد ثورة سنة 1958، تجدّدت بقوة مساعي الموحِّدين (الدروز) لاستكمال تنظيم شؤونهم الذي بدأ بصدور قانون الأحوال الشخصية، فصدر في 5 آذار 1960 قانون تنظيم القضاء المذهبي، وصدر في 13 تموز 1962 قانون إنشاء المجلس المذهبي وقانون انتخاب شيخ العقل. والقانونان الأخيران مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، وعلاقة المجلس المذهبي بمشيخة العقل تظهر في الأمور التالية:
1- هيئة مشيخة العقل هي من الأعضاء الدائمين في المجلس المذهبي.
2- شيخ العقل هو رئيس المجلس المذهبي.
3- شيخ العقل هو الذي يدعو إلى انتخاب أول مجلس مذهبي.
4- المجلس المذهبي بعد تشكيله هو الذي يدعو إلى انتخاب شيخ العقل.
وقد نصَّ قانون انتخاب شيخ العقل على الشروط التي يجب توافرها في المرشّح، وعلى كيفية الانتخاب، وصحته أو بطلانه. كما نصَّ في المادة العشرين على ما يلي: «فور صدور نتيجة الانتخاب النهائية تنظّم لجنة الانتخاب محضراً بالواقع وتبلّغ على سبيل العلم اسم شيخ العقل الجديد إلى كل من مقامي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة». إلّا أنه كان من عيوبه النصُّ على ثلاثية مشيخة العقل وإنما بصورة استثنائية، والإبقاء على ثنائية مشيخة العقل، وتكريسها رسميّاً. كما من عيوبه صعوبة تطبيقه، لأنه جعل انتخاب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين لهم حق الانتخاب وفقاً لقانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي. وهذه الديمقراطية التي لم تشمل النساء تصحُّ في انتخاب النواب لكنها لا تصحُّ في انتخاب شيخ العقل، لأنها تخفض من منزلته السامية، وخصوصاً عند حصول التنافس على المشيخة. فكان هذا أحد أهم الأسباب في عدم العمل بقانون انتخاب شيخ العقل فيما عُمل بقانون إنشاء المجلس المذهبي فجرى انتخاب مجلسين على أساسه في سنة 1962 وفي سنة 1966.
توفّي شيخ العقل رشيد حماده في 14 نيسان 1970، فبات على المجلس المذهبي أن يدعو إلى انتخاب خلفٍ له بموجب قانون انتخاب شيخ العقل. لكن أعضاءه، وعلى رأسهم الزعيمان الكبيران: الأمير مجيد أرسلان وكمال بك جنبلاط، قرّرا إرجاء الانتخاب ريثما يُعاد النظر في قانوني إنشاء المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل، كما قرّرا التمديد للمجلس المذهبي نصف سنة وبعدها يُصار إلى انتخاب بديل عنه، على أساس تعديل القانونين المذكورين، أو على أساس قانونين بديلين عنهما. لكن هذين الأمرين لم يحصلا بسبب صعوبتهما وانشغال الدروز عنهما بالأوضاع العامة وتلاحق التطوّرات الخطيرة وتفاقم الأوضاع الأمنية جرّاء الحرب اللبنانية التي نشبت في سنة 1975 واستمرت حتى سنة 1990.
بعد أقل من شهرين على وفاة الشيخ رشيد حماده توفّي الشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970 فانحصرت مشيخة العقل بشخص الشيخ محمّد أبو شقرا حتى وفاته في 23 تشرين الأول 1991، وبهذا توحّدت واقعياً فيما كان هناك قانون لا يزال ساري المفعول، هو قانون انتخاب شيخ العقل الذي ينصُّ على ثنائيتها. وحين لم يُنتخب مجلس مذهبي جديد مكان المجلس المذهبي الممدَّد له نصف سنة انحصرت إدارته وإدارة الأوقاف بشخص المدير العام خالد بك جنبلاط حتى وفاته في 15 آذار 1992.
قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)
كان لا بد من التوافق بين قادة الموحِّدين، وخصوصاً نوابهم، حول اقتراحات ومشاريع القوانين والأنظمة التي تنظّم شؤونهم، لكي تصدر عن المجلس النيابي في قوانين، دون إصدار أي قانون حتى سنة 1999 حيث صدر بناءً على توافقهم القانون رقم 127 بتاريخ 25/10/1999، وهو يقضي بتشكيل مجلس أمناء أوقاف الطائفة. ثم صدر قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)، حاملاً الرقم 208 وتاريخ 26/5/2000.
قدّم الشيخ بهجت غيث إلى المجلس الدستوري طلب إبطال للقانون رقم 127، لكنه لم ينجح في إبطاله فاستمر مجلس أمناء الأوقاف الذي أنشئ بموجبه في العمل. كما قدّم الشيخ بهجت غيث مراجعة إلى المجلس الدستوري يطلب فيها إبطال القانون رقم 208، فاجتمع المجلس بتاريخ 8/6/ 2000 وأبطل تعيين الشيخ أبي علي سليمان أبو ذياب شيخ عقل على أساسه «لعلّة توقيع قرار تعيينه دون تاريخ قبل تصويت المجلس النيابي على القانون المذكور، وقبل نشره في الجريدة الرسمية». وهكذا أُبطل مفعول هذا القانون بالنسبة إلى تعيين الشيخ سليمان أبو ذياب بعد 13 يوماً من صدوره، واستمر الشيخ بهجت في منصبه. لكن معظم مواد القانون المذكور سيتضمنها القانون الذي صدر بعد 6 سنوات.
قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز)
كان من المتعذّر إذن إصدار قانون ينظّم مشيخة العقل والأوقاف دون إجماع النواب الدروز عليه. لكن الإجماع النيابي مرة ثانية تكوّن من فريق واحد هو فريق الزعيم وليد جنبلاط الذي يمثّل الأكثرية، والذي فاز في الانتخابات النيابية سنة 2005. لقد جرى بعدها تقديم اقتراح قانون لتنظيم شؤون مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف، وافق عليه المجلس النيابي في أول كانون الأول 2005، وأُحيل إلى رئيس الجمهورية إميل لحود لتوقيعه ونشره، لكنه ردّه إلى المجلس النيابي الذي درسه مجدّداً في يومي 3 و 4 أيار 2006، ووافق عليه، فصدر بتاريخ 12 حزيران 2006، وكان إنجازاً مهماً للموحِّدين على صعيد تنظيم شؤونهم الداخلية، بعد محاولاتهم المتكرّرة لمدة 36 عاماً لإيجاد بديل عن قانوني المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل الموضوعين في سنة 1962، واللذين لم يُعمل بهما في استحقاق سنة 1970.
إن قانون سنة 2006 هو القانون المنشود والضروري لتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، التي تعطّلت مسيرتها أحياناً وتعثرت أحياناً أخرى. وهو حصيلة ما تضمنّته القوانين والأنظمة الموضوعة ومشاريع القوانين المقترحة، مع سدِّ النقص وتصحيح مواطن الخلل فيها. لقد سبق لنا أن عالجنا بتوسّع مواضيع مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف في كتب ثلاثة، أولها كتاب «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015. وثانيها كتاب «الشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين (الدروز) الصادر سنة 2017. وثالثها كتاب «المجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان، الصادر سنة 2018. لذا سنتكلم هنا بإيجاز عن أبرز الإيجابيات والنقاط الجديدة الواردة في قانون سنة 2006 فيما يتعلق بمشيخة العقل.
-توحيد مشيخة العقل. ظهر الموحِّدون الدروز على صعيد التمثيل الديني بخلاف سائر الطوائف، إذ كانت مشيخة العقل عندهم ثنائية فيما هي عندها برأس واحد، وهذه الثنائية قائمة على أساس سياسي لا على أساس ديني عقائدي. وقد عمل الموحِّدون منذ أواسط القرن العشرين على توحيد المشيخة وتصحيح خطأ بدأ في سنة 1825، وكان من أهم أسبابه تدخّل الأمير بشير الشهابي الثاني في الشأن المذهبي الدرزي من قبيل الإمعان في إضعاف الموحِّدين وتفرقتهم بعد أن قضى على زعيمهم الأكبر الشيخ بشير جنبلاط، وتحقّق لهم ذلك واقعياً ودون نص قانوني منذ سنة 1970، ثم تحقّق لهم في قانون سنة 2000، لكن هذا القانون أُبطل بعد 9 أيام من صدوره بمرسوم، وبعده تحقّق لهم في قانون سنة 2006 الذي نصَّ في مادته الثانية على ما يلي:
«إنّ لطائفة الموحِّدين الدروز شيخ عقل واحد يتمتع بذات الحرمة والامتيازات والحقوق التي يتمتع بها رؤساء الطوائف اللبنانية الأخرى بلا تخصيص ولا استثناء».
إن قانون سنة 2006 ليس مثالياً وخالياً من الثغرات، مما يتطلّب إجراء تعديلات فيه، لكن مادته الثانية التي تنصّ على توحيد مشيخة العقل غير قابلة للنقاش، وغير قابلة لأي تعديل، لأن فيها مماشاة للموحِّدين لسائر الطوائف في موضوع وحدة الرئاسة الدينية، وإظهارهم كاسمهم واسم مذهبهم: مسلك التوحيد، إضافة إلى أن هذا أجدى وأكرم لهم.
-تصحيح اسم «الدروز» على صعيد رسمي. أُطلق اسم «الدروز» خطأً على أتباع مسلك التوحيد العرفاني فتداولوه اقتداءً بمُطلقيه، واستمرّوا في اعتماده وتداوله قروناً عدة، لأنهم اشتُهروا واقترن تاريخهم وأمجادهم به. لكنهم أخذوا مؤخّراً يذكرون في أدبياتهم الاسم الحقيقي: «الموحِّدين» واللقب: «بني معروف». وجاء قانون سنة 2006 يجاري هذا الاتجاه، ويكرّس الاسم الحقيقي في عنوانه ونصوص مواده، لكنه ذكر إضافة إليه اسم «الدروز» من قبيل التوضيح»، ومنعاً للالتباس. وقد نصّ على وجوب اعتماده في أي نص قانوني لاحق، إذ جاء في المادة (51) ما يلي:
«تُستَبدل عبارة «الطائفة الدرزية» بعبارة «طائفة الموحِّدين الدروز» وذلك أينما ورد النص عليها في كافة القوانين والأنظمة النافذة والمرعية الإجراء، وتعتمد هذه العبارة لاحقاً في أي نص قانوني يتم اقراره واعتماده».
وبناءً على هذه المادة أصبح شيخ عقل الدروز يُدعى شيخ عقل طائفة الموحِّدين، أو شيخ عقل الموحِّدين.
-زيادة شروط الترشح لمشيخة العقل: لم يكن هناك قبل قانون سنة 1962 شروط للترشح. لذا نصَّ هذا القانون على أن يكون المرشّح من أهل التقوى والدين، ومن ذوي العلم والمعرفة بتقاليد الطائفة، وحسن السمعة ومحمود الشيم، منزّهاً عما يمسُّ الكرامة والدين، وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة. ثم نصَّ قانون سنة 2006 على مضمون هذه الأمور، واشترط بالإضافة إليها أن يكون المرشّح من أهل الدين والتقوى لمدة لا تقلُّ عن الخمس سنوات وفق العرف السائد، كما اشترط الموافقة على ترشيحه من قبل عشرة أعضاء من المجلس المذهبي على أن يكون ثلثهم من أعضاء الهيئة الدينية. وليس وضع هذه الشروط من قبيل تعقيد الأمور وتصعيبها، وإنما هو من قبيل ألا يصل إلى منصب المشيخة السامي إلا المؤهّل له والمقبول من رجال الدين والمعروف جيداً في أوساطهم.
-جعل انتخاب شيخ العقل على درجتين: كان شيخ العقل يُنتخب بحسب الأعراف بالمبايعة في اجتماع عام من قبل الذين يلبّون الدعوة العامة لحضوره. وقد نصّ قانون سنة 1962 على أن يُنتخب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين يحق لهم انتخاب النوّاب. ونظراً لصعوبة هذه الطريقة، وعدم ملاءمتها كما وردت الإشارة إلى ذلك، جعل قانون سنة 2006 الانتخاب على درجتين وذلك بانتخاب شيخ العقل من قبل أشخاص منتخبين من الموحِّدين أو يمثّلونهم، وهم رئيس المجلس المذهبي وأعضاؤه الدائمون: نواب الطائفة الحاليون والسابقون، ووزراؤها الحاليون، وقضاة المذهب، والعضوان الدرزيان في المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى. كما هم أعضاء المجلس المذهبي المنتخبون وعددهم 68 يمثّلون أصحاب الشهادات الجامعية والمهن الحرّة والمناطق. ويكتسب شيخ العقل المنتخب حكماً وفوراً الصفة الشرعية بعد الانتهاء من فرز الأصوات، وإعلان النتيجة.
-تلافي شغور منصب شيخ العقل: لم يحدث أي شغور لمنصب شيخ العقل زمن ثنائيتها، وما حصل هو تأخّر انتخاب شيخ العقل أحياناً لبضعة شهور، وتأخّر رئيس الجمهورية في الاعتراف بالشيخ المُنتخب لفترة قصيرة، بسبب الانقسام حول مشيخة العقل، والتجاذب السياسي. وقد تلافى الشيخ محمّد أبو شقرا حصول الشغور بعد وفاته فاعتمد صيغة منصب القائم مقام شيخ العقل كما حاول الموحِّدون تلافي هذا بتضمين مشاريع قوانين تنظيم مشيخة العقل وتوحيدها منصب نائب شيخ العقل الذي يحلُّ مكان شيخ العقل في حال وفاته أو عزله. أما بالنسبة إلى قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز الصادر في سنة 2006، فقد نصَّ في المادة (31) على ما يلي:
«قبل موعد انتهاء ولاية شيخ العقل بمدة شهر على الأقل وشهرين على الأكثر يلتئم المجلس المذهبي بدعوة من رئيسه لانتخاب شيخ عقل جديد، وفي حال تخلّفه عن القيام بالدعوة المذكورة ينعقد المجلس المذهبي حكماً في أول يوم عمل يلي بدء مهلة الشهرين المبيّنة أعلاه لإعلان تاريخ الانتخاب، وفي هذه الحالة يرأس المجلس المذهبي أكبرُ الأعضاء سناً ويقوم بتحديد موعد الانتخاب والإعلان عنه خلال مدة عشرة أيام».
وتطبّق هذه المادة في حال استقالة شيخ العقل أو إعفائه من منصبه لأسباب حدّدتها المادة (30).
-تحديد مدة ولاية شيخ العقل: لم يكن تولّي مشيخة العقل مشروطاً بسن محدّدة، ولم تكن أيضاً مدّة ولاية الشيخ محدّدة بسن معينة إذ هي تستمر حتى وفاة الشيخ. فقد كانت مدتها، مثلاً، مع الشيخ محمّد حماده 46 سنة، وهي لم تنتهِ إلّا بعد اشتداد وطأة المرض عليه، حيث توفي بعد بضعة أشهر من تنازله لابنه الشيخ حسين. وكانت مدة ولاية الشيخ حسين عبد الصمد 43 سنة، ومدة ولاية الشيخ محمّد أبو شقرا 42 سنة، وكلاهما استمرّا حتى وفاتهما. إلا أن قانون سنة 1962 اشترط بلوغ المرشح للمشيخة سن الأربعين، لكنه أبقى مدة ولايتها طوال حياة الشيخ. أما قانون سنة 2006، فقد اشترط بلوغ المرشح سن الأربعين، وحدّد ولاية الشيخ بخمس عشرة سنة فقط، أو ببلوغه الخامسة والسبعين، مع جواز التجديد له بموافقة الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس المذهبي، دون أن يتخطى سن الخامسة والسبعين. كما نص في المادة (30) على ما يلي:
«لا يُعفى شيخ العقل من منصبه إلّا بناء لطلبه أو لأسباب خطيرة تهدّد كرامة الطائفة ووحدتها وكيانها أو تمسّ بسمعتها أو لأسباب صحية تمنعه من القيام بمهامه تقررها اللجنة الطبية الدائمة في بيروت، وذلك بناءً على طلب ربع أعضاء المجلس المذهبي. وفي حال عدم اعتزاله طوعاً يتم الإعفاء بقرار من الهيئة العامة للمجلس المذهبي بأكثرية ثلثي أعضائه القانونيين بناء على اقتراح ربع أعضائه على الأقل».
– إيجاد الهيئة الدينية الاستشارية: إضافةً إلى موظفي ملاك مشيخة العقل، نصّ قانون سنة 2006 على وجود هيئة استشارية لشيخ العقل يستعين بها لمساعدته في أداء مهامه الكثيرة، المحدّدة في صلاحيات واسعة. وهي تتكوّن من ستة من مشايخ الدين المعروفين بعلمهم الديني، أحدهم من خلوات البيّاضة، يعيّنهم شيخ العقل خلال مهلة شهر من تاريخ تسلّمه مهامه، وتكون مدتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وبما أن أحدهم هو من خلوات البيّاضة الموجودة في قضاء حاصبيا، فإن توزيع الخمسة المتبقين منهم يجري على أساس تمثيل المناطق الأخرى، وذلك بتعيين عضو عن كل من الأقضية أو المناطق التالية: الشوف – عاليه – المتن الجنوبي – راشيا – بيروت.
انتخاب أول شيخ عقل بموجب القانون.
نصّ قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز على مِهَل محدّدة لانتخاب المجلس المذهبي، وانتخاب شيخ العقل، وتشكيل لجان المجلس الثماني التي يتكّون منها مجلس الإدارة، وتأليف الجهاز الإداري. وكانت الخطوة الأولى في تطبيق القانون هي انتخاب أعضاء المجلس المذهبي في 24 أيلول 2006، تلاه انتخاب هؤلاء الأعضاء للقاضي نعيم حسن (قاضي المذهب في قضاء عاليه) شيخ عقل في 5 تشرين الثاني 2006. وقد انتُخب بإجماع أعضاء المجلس المذهبي، الحاضرين، ولم يكن هناك منافس له لأن طلب المرشح الثاني البروفسور سليم مراد غير مستوفي الشروط.
بدأ شيخ العقل الشيخ نعيم حسن عمله فوراً، وذلك بتسلّمه رئاسة الجلسة التي جري فيها انتخابه، من رئيس السن العضو فؤاد الريّس. ثم تولّى بالتعاون مع أعضاء المجلس مهمة التأسيس الصعبة، أو مأسسة المجلس، وذلك بوضع نظام المجلس الداخلي وسائر الأنظمة وتسلّم الأوقاف. وتعيين الجهاز الإداري والموظفين. وتابع بالتعاون مع قادة الموحّدين السياسيين المواضيع المهمة، ومثّل الطائفة خير تمثيل في شتى المناسبات وخصوصاً تلك التي تقتضي حضوره مع رؤساء الطوائف على اعتبار أنه الممثل الشرعي والرسمي للطائفة. وقد ترأس جلسات الهيئات العامة للمجالس المذهبية الثلاثة التي انتخب منها اثنان زمن ولايته، وجلسات مجلس الإدارة. كما ترأس الأكثرية الساحقة من جلسات اللجان رغبة منه في متابعة النشاطات وتسيير الأمور بما في ذلك التفصيلية بغية ضبط عمل المجلس وتفعيله.
تنتهي مدة ولاية الشيخ نعيم حكماً في 5 تشرين الثاني 2021، وبصفته رئيس المجلس المذهبي يدعو بناءً للمادة (31) من قانون سنة 2006 أعضاء المجلس إلى الاجتماع لانتخاب خلفٍ له. والآمال معقودة على اتخاذ قادة الطائفة وعقلائها من هذا الاستحقاق فرصة للاتفاق حول جميع الشؤون الداخلية، والتوحيد الكامل لمشيخة العقل غير المنقوص بأي شكل من الأشكال، وتلاقي وتضافر الجهود لمواجهة التحدّيات على كافة الصّعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، في مرحلة ملأى بالمفاجآت والتحوّلات الدراماتيكية المصيرية، حيث تتكتل فيها الجماعات حول مصالحها، وتسعى لحفظ كيانها وتثبيت وجودها.