الأمير شكيب أرسلان
حول إسلام الدروز وعروبتهم الصريحة
في مصارعة المسلمين للإفرنج لا بد للدروز أن يكونوا في صفوف المسلمين وهذا شأنهم من أيام الصليبيين.
الدروز في النسب عرب أقحاح لا يوجد في العرب الجالين عن جزيرة العرب أصحّ عروبة منهم
في سياق التعريف بسيرة وجهاد الأمير شكيب أرسلان، تبدأ مجلة الضحى مع هذا العدد نشر نصوص مختارة من مؤلفاته ومراسلاته ومقالاته التي خطّها على مدى يزيد على النصف قرن. وهذه النصوص تعكس في الوقت نفسه المراحل المختلفة لجهاد الأمير شكيب وهو الذي كان يقرن الموقف بالعمل والدعوة إلى مجاهدة المستعمر والقوى الطامعة بالمبادرة إلى تحريك الهمم واستنهاض المجاهدين إلى جبهات القتال. وفي ما يلي نصان مهمان يتعلق كلامهما بالدفاع عن إسلام وعروبة الموحدين الدروز كتبهما الأمير للردّ على بعض الافتراءات أو على الادعاءات الباطلة لبعض المؤرخين حول نسب الدروز، مؤكداً بما لا يدع مجالاً للشك نسبهم العربي الصحيح وانتماءهم العرقي والحضاري الذي لا يداخله شائبة أو خلط إلى أشرف القبائل التي سكنت شبه الجزيرة العربية وحملت لواء الفتح الإسلامي وبناء الدولة الإسلامية. وفي ما يلي ما كتبه الأمير شكيب ببلاغته وحجته البالغة حول الموضوع:
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً
الدروز فرقة من الفرق الإسلامية أصلهم من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية، والشيعة الإسماعيلية الفاطمية أصلها من الشيعة السبعية القائلين بالأئمة السبعة وهؤلاء هم من جملة المسلمين كما لا يخفى. وإذا قيل أن الدروز هم من الفرق الباطنية التي لا يحكم لها بالإسلام فالجواب هو أن الدروز يقولون أنهم مسلمون ويقيمون جميع شعائر المسلمين ويتواصون بمرافقة الإسلام والمسلمين في السراء والضراء، ويقولون أن كلَّ مَن خرج عن ذلك منهم فليس بمسلم. ولهذا فأصبح من الصعب على المسلم الذي فهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح والذي سمع حديث (فهلّا شققت عن قلبه؟) أن يخرج الدروز من الإسلام. وفي الشرع المحمدي قاعدة: نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال الله تعالى }ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا{ وهؤلاء لا يلقون السلام فقط بل يلقون السلام ويقولون أنهم مسلمون ويحفظون القرآن ويلقن الميت منهم “إذا جاءك منكر ونكير وسألاك ما دينك ومن نبيّك وما كتابك ومن إخوانك وما قبلتك فقل لهما الإسلام ديني ومحمّد نبيّي والقرآن كتابي والكعبة قبلتي والمسلمون إخوتي” وليس من شعائر الإسلام شيء لا يقيمه أو لا يوجب الدروز إقامته.
وإذا قيل أنهم مع كل هذه المظاهر تحتوي عقيدتهم الباطنية التي تعرفها طبقة العقّال على ما يصادِم أو كان عقيدة السنّة والجماعة ولا يتفق معها في شيء فالجواب قد وجد في الإسلام أئمة كبار يُترضّى عنهم عند ذكرهم ولهم قباب تزار وتعلق فيها القناديل وكانوا يقولون بوحدة الوجود! فهل وحدة الوجود مما يطابق السنة؟ كلا. فهل أخرج المسلمون هؤلاء الأئمة من الإسلام؟ كلا. أما تجسد الإله فليس من عقيدة الدروز كما يتهمهم بعضهم والتجسد شيء والترائي شيء آخر. وأما تأويل آي القرآن الكريم بحسب زعمهم فكم من فرقة في الإسلام انفردت بتأويل للآيات الكريمة، وقد رأينا مؤخراً عالماً من علماء الإسلام يؤلف كتاباً في الإسلام وأصول الحكم وينفرد بتأويل آيات من القرآن العظيم على حسب مذهبه وقد طبق ذكر كتابه الشرق والغرب ومع أن تأويله للآيات مخالف لتأويل الجمهور من أهل السنة فلم يخرجه أحد من الإسلام بل دافع عنه أناس كثيرون.
عندما كان الإسلام قوياً عزيزاً لا يخشى خصماً ولا يتهيب طارئاً ولا يُغزى في عقر داره كانت القوة التي من شأنها الاندفاع تدفع بعض فرقه لمحاربة فرق أخرى ومناضلتهم ومناقشتهم وكان هذا يكفِّر هذا كما هو معلوم وكانت دولة آل عثمان السنيّة لا تفتأ تقاتل دولة إيران الشيعية مما أضعف الفريقين وكان من حظ الأوروبيين.
وكم من فتن في الإسلام من أجل المذاهب حتى كانت تقع الوقائع بين أهل الحديث وأهل الرأي أي بين الشافعية والحنفية وتقع بين الأشعرية والمجسمة أي الشافعية والحنابلة، أو المالكية والحنابلة وهلمَّ جرا مما لا يحصيه تاريخ. فلما ضعف الإسلام وانهارت جوانبه و”مشت سكَّة الأجنبي في حقله” على رأي زويمر انفثأت مراجل العداوات المذهبية بين دول الإسلام وطوائفه وندموا على ما أسلفوه منها لا بل عرف بعضهم بعضاً وأخذوا يتناسون الخلافات الماضية، والدولة العثمانية أيام كانت هي الخلافة الإسلامية عرّفت الدروز مسلمين، ولما كان جماعة من مشايخ دروز حوران في الآستانة صدرت إرادة السلطان عبد الحميد الخليفة يومئذٍ بأن يصلّوا الجمعة وراءه في جامع يلدز ولهذا أنا لا أفهم ما وجه الضرورة لفتح مسألة ديانة الدروز وإظهار ما فيها يخالف من مخالفة الإسلام في وقت يسفك فيه الدروز دماءهم بإسراف في الدفاع عن حوزة تسعة أعشارها لا بل أكثر من تسعة أعشارها المسلمين بل معلوم أن الحكم إنما هو للأكثرية فكون الدروز يقاتلون جنباً لجنب مع إخوانهم المسلمين ويرفضون الصلح الذي كان عرضه عليهم الفرنسيون بأحسن الشروط بل كونهم يحملون من كبر هذه الثورة ما لا نسبة بينه وبين عددهم إنما هو منهم محض مروءة وإنسانية ونزعة عربية، المقصد منها تأييد استقلال عربي أكثر ما يستفيد منه المسلمون فالنصارى وهذا من جملة الأدلّة على موالاتهم للمسلمين وأنهم في مصارعة المسلمين للإفرنج لا بد أن يكونوا في صفوف المسلمين وهذا شأنهم من أيام الصليبيين.
بنو معروف بأجمعهم عرب صراح
ورد في مقالة مترجمة عن الألماني كلام عن الدروز يزعم الكاتب فيه أن الدروز كسائر أهل سورية من أجناس مختلفة. وهذا الكلام خبص في خبص كسائر تخاليط الإفرنج إذا شرعوا في الكلام عن الشرقيين.
والدروز في النسب عرب أقحاح لا يوجد في العرب الجالين عن جزيرة العرب أصحّ عروبة منهم.
نستدل على ذلك أولاً من سحنتهم العربية الصرفة وتشابه بعضهم لبعض إذ لا يوجد قبيل يشبه بعضه بعضاً مثل الدروز، وكان أستاذنا الشيخ محمد عبده رحمه الله، كثيراً ما يفضي إليّ بعجبه من شدة هذا التشابه فيقول لي: إذا رأيت الرجل المعروفي فكأنك رأيتهم جميعاً.
ثانياً: في نقاوة لغتهم العربية وإخراجهم الحروف من مخارجها الصحيحة فلا تجد في الخارج عن جزيرة العرب من يتكلّم بالعربية مثل الدروز ولا من يتلفّظ بالعربية مثل الدروز زأن المرأة منهم لتسوق الحديث بعبارة إن لم تكن معربة فهي فصيحة صريحة متينة مستعملة فيها الكلمات بالمعاني التي وضعت لها فتجدها أصحّ لغةً من الرجل العالم النحوي من غيرهم. والفصاحة التي اشتهر بها الدروز آتية من كونهم عرباً.
ثالثاً: التواريخ التي عند الدروز والتي عند الطوائف الأخرى المساكنة لهم في جبل لبنان متفقة على كونهم أبناء اثنتي عشرة قبيلة عربية هاجروا من ديار إلى لبنان في أوائل عهد العباسيين –ولا تزال منهم بقية في الجبل الأعلى بجهات حلب- وهذه القبائل كانت أوطنت بلاد معرّة النعمان منذ أوائل الفتح العربي. ثم أن التواتر فيما بينهم مأثور من الخلف عن السلف يؤيد هذه التواريخ المكتوبة.
رابعاً: إنهم كانوا من الشيعة السبعية أي القائلون بالأئمة السبعة وهم فرقة من الشيعة. فلما كانت الدعوة الفاطمية وتلقّاها بعض الشيعة فكان منهم الإسماعيلية وكان منهم الدروز انقسمت بعض العائلات إلى قسمين منهم من بقي على التشيّع الأصلي ومنهم من غلا غلوّ الفاطميين. ولكن هذه العائلات، التي أصلها واحد، معروف كثير منها اليوم يعرفون أنهم أقارب. وهؤلاء دروز وأولئك متاولة أي شيعة وذلك مثل بني أبي علوان وبني عبد الصمد وبني المصري وبني القنطار وغيرهم. وكذلك موجود قرابات عصبية بين كثير من الدروز والمسلمين السنيين وإن كانت هذه القرابات أكثر منها بين الشيعيين والدروز، وذلك مثل بني أبي شقرا وبني الأعور وغيرهم مما لا يحصى. ولا يخفى أن الشيعة في سورية عرب أقحاح أيضاً وبلادهم جبل عاملة، إنما سميت كذلك لنزول عاملة قبيلة من عرب اليمن بذلك الجبل. كذلك نجد أسماء كثيرة منسوبة إلى قبائل يمانية مثل السكسكية في ساحل عاملة بقرب صيدا وهي نسبة إلى السكاسكة من عرب اليمن وغيرها مما يا يحضرني الآن بدون مراجعة كتب. ونجد بيوتات كثيرة محفوظة أنسابها إلى قبائل العرب مثل إخواننا الأمراء آل الحرفوش في بعلبك المنسوبين إلى خزاعة، ومثل إخواننا البكوات آل علي الصغير المنسوبين إلى وائل وغيرهم مما لا يحصى.فإذا تقرر أن الشيعة عرب فالذين أصلهم من الشيعة عرب. أما الذين أصلهم من أهل السنة فلا بد أن يكونوا من أهل السنة العرب أيضاً بدليل السحنة إذ أن السحنة العربية لا تخفى.، ثم بدليل أنهم منذ تسعمائة سنة أي منذ وقع هذا الانشقاق من الشجرة الواحدة لا يزال بعضهم يعرف بعضاً ولا يوجد حفظ الأنساب إلى هذا الحدّ مع تعاقب القرون العديدة إلا عند العرب.
فلو كان أولئك المسلمون الذين تشعب من دوحة نسبهم كثير من بني معروف هم من الآراميين أو الكلدانيين أو من الذين أسلموا من اليونان أو الرومان أو من الترك أو الكُرد ما كان نسبهم محفوظاً.
خامساً: في الدروز أنفسهم بطون وأفخاذ معروفة الأنساب إلى قبائل العرب، هذا إى لخم وذاك إلى طي، وأناس إلى تميم وأناس إلى كلب ومنهم من لا تزال معروفة مثل بني عزّام الذين لهم أقارب في الشرارات ومثل بني قعيق وبني ركين وبني خميس الذين لهم أقارب في عرب العراق.
نعم يوجد في الدروز بعض عائلات وجيهة أصلهم من الأكراد والأتراك وهم معروفون وعددهم قليل جداً وهذا لا يخرج هذه الطائفة من صراحة النسب العربي لأن العبرة بالسواد الأعظم كما لا يخفى.
شكيب أرسلان
جنيف 12 سبتمبر 1925