الخميس, تشرين الثاني 14, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 14, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

شكيب أرسلان

الأمير شكيب أرسلان
حول إسلام الدروز وعروبتهم الصريحة

في مصارعة المسلمين للإفرنج لا بد للدروز أن يكونوا في صفوف المسلمين وهذا شأنهم من أيام الصليبيين.

الدروز في النسب عرب أقحاح لا يوجد في العرب الجالين عن جزيرة العرب أصحّ عروبة منهم

في سياق التعريف بسيرة وجهاد الأمير شكيب أرسلان، تبدأ مجلة الضحى مع هذا العدد نشر نصوص مختارة من مؤلفاته ومراسلاته ومقالاته التي خطّها على مدى يزيد على النصف قرن. وهذه النصوص تعكس في الوقت نفسه المراحل المختلفة لجهاد الأمير شكيب وهو الذي كان يقرن الموقف بالعمل والدعوة إلى مجاهدة المستعمر والقوى الطامعة بالمبادرة إلى تحريك الهمم واستنهاض المجاهدين إلى جبهات القتال. وفي ما يلي نصان مهمان يتعلق كلامهما بالدفاع عن إسلام وعروبة الموحدين الدروز كتبهما الأمير للردّ على بعض الافتراءات أو على الادعاءات الباطلة لبعض المؤرخين حول نسب الدروز، مؤكداً بما لا يدع مجالاً للشك نسبهم العربي الصحيح وانتماءهم العرقي والحضاري الذي لا يداخله شائبة أو خلط إلى أشرف القبائل التي سكنت شبه الجزيرة العربية وحملت لواء الفتح الإسلامي وبناء الدولة الإسلامية. وفي ما يلي ما كتبه الأمير شكيب ببلاغته وحجته البالغة حول الموضوع:

ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً

الدروز فرقة من الفرق الإسلامية أصلهم من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية، والشيعة الإسماعيلية الفاطمية أصلها من الشيعة السبعية القائلين بالأئمة السبعة وهؤلاء هم من جملة المسلمين كما لا يخفى. وإذا قيل أن الدروز هم من الفرق الباطنية التي لا يحكم لها بالإسلام فالجواب هو أن الدروز يقولون أنهم مسلمون ويقيمون جميع شعائر المسلمين ويتواصون بمرافقة الإسلام والمسلمين في السراء والضراء، ويقولون أن كلَّ مَن خرج عن ذلك منهم فليس بمسلم. ولهذا فأصبح من الصعب على المسلم الذي فهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح والذي سمع حديث (فهلّا شققت عن قلبه؟) أن يخرج الدروز من الإسلام. وفي الشرع المحمدي قاعدة: نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال الله تعالى }ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا{ وهؤلاء لا يلقون السلام فقط بل يلقون السلام ويقولون أنهم مسلمون ويحفظون القرآن ويلقن الميت منهم “إذا جاءك منكر ونكير وسألاك ما دينك ومن نبيّك وما كتابك ومن إخوانك وما قبلتك فقل لهما الإسلام ديني ومحمّد نبيّي والقرآن كتابي والكعبة قبلتي والمسلمون إخوتي” وليس من شعائر الإسلام شيء لا يقيمه أو لا يوجب الدروز إقامته.
وإذا قيل أنهم مع كل هذه المظاهر تحتوي عقيدتهم الباطنية التي تعرفها طبقة العقّال على ما يصادِم أو كان عقيدة السنّة والجماعة ولا يتفق معها في شيء فالجواب قد وجد في الإسلام أئمة كبار يُترضّى عنهم عند ذكرهم ولهم قباب تزار وتعلق فيها القناديل وكانوا يقولون بوحدة الوجود! فهل وحدة الوجود مما يطابق السنة؟ كلا. فهل أخرج المسلمون هؤلاء الأئمة من الإسلام؟ كلا. أما تجسد الإله فليس من عقيدة الدروز كما يتهمهم بعضهم والتجسد شيء والترائي شيء آخر. وأما تأويل آي القرآن الكريم بحسب زعمهم فكم من فرقة في الإسلام انفردت بتأويل للآيات الكريمة، وقد رأينا مؤخراً عالماً من علماء الإسلام يؤلف كتاباً في الإسلام وأصول الحكم وينفرد بتأويل آيات من القرآن العظيم على حسب مذهبه وقد طبق ذكر كتابه الشرق والغرب ومع أن تأويله للآيات مخالف لتأويل الجمهور من أهل السنة فلم يخرجه أحد من الإسلام بل دافع عنه أناس كثيرون.
عندما كان الإسلام قوياً عزيزاً لا يخشى خصماً ولا يتهيب طارئاً ولا يُغزى في عقر داره كانت القوة التي من شأنها الاندفاع تدفع بعض فرقه لمحاربة فرق أخرى ومناضلتهم ومناقشتهم وكان هذا يكفِّر هذا كما هو معلوم وكانت دولة آل عثمان السنيّة لا تفتأ تقاتل دولة إيران الشيعية مما أضعف الفريقين وكان من حظ الأوروبيين.
وكم من فتن في الإسلام من أجل المذاهب حتى كانت تقع الوقائع بين أهل الحديث وأهل الرأي أي بين الشافعية والحنفية وتقع بين الأشعرية والمجسمة أي الشافعية والحنابلة، أو المالكية والحنابلة وهلمَّ جرا مما لا يحصيه تاريخ. فلما ضعف الإسلام وانهارت جوانبه و”مشت سكَّة الأجنبي في حقله” على رأي زويمر انفثأت مراجل العداوات المذهبية بين دول الإسلام وطوائفه وندموا على ما أسلفوه منها لا بل عرف بعضهم بعضاً وأخذوا يتناسون الخلافات الماضية، والدولة العثمانية أيام كانت هي الخلافة الإسلامية عرّفت الدروز مسلمين، ولما كان جماعة من مشايخ دروز حوران في الآستانة صدرت إرادة السلطان عبد الحميد الخليفة يومئذٍ بأن يصلّوا الجمعة وراءه في جامع يلدز ولهذا أنا لا أفهم ما وجه الضرورة لفتح مسألة ديانة الدروز وإظهار ما فيها يخالف من مخالفة الإسلام في وقت يسفك فيه الدروز دماءهم بإسراف في الدفاع عن حوزة تسعة أعشارها لا بل أكثر من تسعة أعشارها المسلمين بل معلوم أن الحكم إنما هو للأكثرية فكون الدروز يقاتلون جنباً لجنب مع إخوانهم المسلمين ويرفضون الصلح الذي كان عرضه عليهم الفرنسيون بأحسن الشروط بل كونهم يحملون من كبر هذه الثورة ما لا نسبة بينه وبين عددهم إنما هو منهم محض مروءة وإنسانية ونزعة عربية، المقصد منها تأييد استقلال عربي أكثر ما يستفيد منه المسلمون فالنصارى وهذا من جملة الأدلّة على موالاتهم للمسلمين وأنهم في مصارعة المسلمين للإفرنج لا بد أن يكونوا في صفوف المسلمين وهذا شأنهم من أيام الصليبيين.

بنو معروف بأجمعهم عرب صراح

ورد في مقالة مترجمة عن الألماني كلام عن الدروز يزعم الكاتب فيه أن الدروز كسائر أهل سورية من أجناس مختلفة. وهذا الكلام خبص في خبص كسائر تخاليط الإفرنج إذا شرعوا في الكلام عن الشرقيين.
والدروز في النسب عرب أقحاح لا يوجد في العرب الجالين عن جزيرة العرب أصحّ عروبة منهم.
نستدل على ذلك أولاً من سحنتهم العربية الصرفة وتشابه بعضهم لبعض إذ لا يوجد قبيل يشبه بعضه بعضاً مثل الدروز، وكان أستاذنا الشيخ محمد عبده رحمه الله، كثيراً ما يفضي إليّ بعجبه من شدة هذا التشابه فيقول لي: إذا رأيت الرجل المعروفي فكأنك رأيتهم جميعاً.
ثانياً: في نقاوة لغتهم العربية وإخراجهم الحروف من مخارجها الصحيحة فلا تجد في الخارج عن جزيرة العرب من يتكلّم بالعربية مثل الدروز ولا من يتلفّظ بالعربية مثل الدروز زأن المرأة منهم لتسوق الحديث بعبارة إن لم تكن معربة فهي فصيحة صريحة متينة مستعملة فيها الكلمات بالمعاني التي وضعت لها فتجدها أصحّ لغةً من الرجل العالم النحوي من غيرهم. والفصاحة التي اشتهر بها الدروز آتية من كونهم عرباً.
ثالثاً: التواريخ التي عند الدروز والتي عند الطوائف الأخرى المساكنة لهم في جبل لبنان متفقة على كونهم أبناء اثنتي عشرة قبيلة عربية هاجروا من ديار إلى لبنان في أوائل عهد العباسيين –ولا تزال منهم بقية في الجبل الأعلى بجهات حلب- وهذه القبائل كانت أوطنت بلاد معرّة النعمان منذ أوائل الفتح العربي. ثم أن التواتر فيما بينهم مأثور من الخلف عن السلف يؤيد هذه التواريخ المكتوبة.
رابعاً: إنهم كانوا من الشيعة السبعية أي القائلون بالأئمة السبعة وهم فرقة من الشيعة. فلما كانت الدعوة الفاطمية وتلقّاها بعض الشيعة فكان منهم الإسماعيلية وكان منهم الدروز انقسمت بعض العائلات إلى قسمين منهم من بقي على التشيّع الأصلي ومنهم من غلا غلوّ الفاطميين. ولكن هذه العائلات، التي أصلها واحد، معروف كثير منها اليوم يعرفون أنهم أقارب. وهؤلاء دروز وأولئك متاولة أي شيعة وذلك مثل بني أبي علوان وبني عبد الصمد وبني المصري وبني القنطار وغيرهم. وكذلك موجود قرابات عصبية بين كثير من الدروز والمسلمين السنيين وإن كانت هذه القرابات أكثر منها بين الشيعيين والدروز، وذلك مثل بني أبي شقرا وبني الأعور وغيرهم مما لا يحصى. ولا يخفى أن الشيعة في سورية عرب أقحاح أيضاً وبلادهم جبل عاملة، إنما سميت كذلك لنزول عاملة قبيلة من عرب اليمن بذلك الجبل. كذلك نجد أسماء كثيرة منسوبة إلى قبائل يمانية مثل السكسكية في ساحل عاملة بقرب صيدا وهي نسبة إلى السكاسكة من عرب اليمن وغيرها مما يا يحضرني الآن بدون مراجعة كتب. ونجد بيوتات كثيرة محفوظة أنسابها إلى قبائل العرب مثل إخواننا الأمراء آل الحرفوش في بعلبك المنسوبين إلى خزاعة، ومثل إخواننا البكوات آل علي الصغير المنسوبين إلى وائل وغيرهم مما لا يحصى.فإذا تقرر أن الشيعة عرب فالذين أصلهم من الشيعة عرب. أما الذين أصلهم من أهل السنة فلا بد أن يكونوا من أهل السنة العرب أيضاً بدليل السحنة إذ أن السحنة العربية لا تخفى.، ثم بدليل أنهم منذ تسعمائة سنة أي منذ وقع هذا الانشقاق من الشجرة الواحدة لا يزال بعضهم يعرف بعضاً ولا يوجد حفظ الأنساب إلى هذا الحدّ مع تعاقب القرون العديدة إلا عند العرب.
فلو كان أولئك المسلمون الذين تشعب من دوحة نسبهم كثير من بني معروف هم من الآراميين أو الكلدانيين أو من الذين أسلموا من اليونان أو الرومان أو من الترك أو الكُرد ما كان نسبهم محفوظاً.
خامساً: في الدروز أنفسهم بطون وأفخاذ معروفة الأنساب إلى قبائل العرب، هذا إى لخم وذاك إلى طي، وأناس إلى تميم وأناس إلى كلب ومنهم من لا تزال معروفة مثل بني عزّام الذين لهم أقارب في الشرارات ومثل بني قعيق وبني ركين وبني خميس الذين لهم أقارب في عرب العراق.
نعم يوجد في الدروز بعض عائلات وجيهة أصلهم من الأكراد والأتراك وهم معروفون وعددهم قليل جداً وهذا لا يخرج هذه الطائفة من صراحة النسب العربي لأن العبرة بالسواد الأعظم كما لا يخفى.

شكيب أرسلان
جنيف 12 سبتمبر 1925

مَوقعَةُ بَيروتَ ومقتلة أمراء تنوخ

مَوقعَةُ بَيروتَ ومقتلة أمراء تنوخ

الأمــراء التنوخيــون يدفعــون ضريبــة الــدم الباهظــة
فــي التصــدي للحملــة الصليبيــة علــى فلسطيــن

تعتبرُ موقِعةُ بيروت أولى المعاركَ التي خاضها التنوخيون دفاعاً عن عروبة لبنان، ومحطةً بارزةً حدّدت بوضوحٍ عمق التزامهم بالدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تمسكهم بأرضهم التي ارتوت بدمائهم وعرق جبينهم. وتُعدّ هذه الموقعة نموذجاً عن التضحيات التي تكبّدها الموحدون الدروز عبر تاريخهم جرّاء الدور الذي ارتبط برسالتهم المشرقية، وهو دور الدفاع عن الثغور الإسلامية والذود عن حياض الدولة الإسلامية مهما كانت التضحيات. ويفخر الموحدون الدروز أنهم كانوا دوماً أوفياء لهذا الدور، ولم يترددوا في أي وقت وبغض النظر عن حجم القوى المعتدية عن أداء ضريبة الدم والتصدي لتلك القوى بإيمان وعزم.
وقبلَ الحديث في هذا الموضوعِ نورد نصَّيْنِ لكاتبينِ ثقتيْنِ، كيْ يتعرَّفَ القارِىءُ عنْ كثَبٍ علَىْ التنوخيين، فيعلْمَ ما كانوْا عليْه مِنِ حميْد المنهجٍ وعلُوِّ الكلِمَةِ، ويُدرِكَ حجْم التضحيات التِّيْ قدّموها قبل أَنْ يُثبتوُاْ أقدامهُمْ أمراء للجبل ولمناطق واسعة من لبنان. قالَ الشًّيْخُ علَمُ الديّنِ سُليمْاَنُ بْنُ حُسيْنِ بنِ نصْرِ فِي كتَابِ «دُرَّةِ التَّاجِ» وَسُلَّمِ المعراجِ فِي معْرِضِ حديْثِهِ عَنْ آلِ تنْوخَ: «مُلُوْكٌ سابقةٌ وجُدُوْدٌ فائِقَةٌ، حاربُوْا الإفْرَنج بسيوْفٍ بارقَةٍ وأسنَّةِ خارقَةِ، لبثوُا فِي الغرْبِ مدَّةً مِنَ الزَّمَانِ تتداوَلُ أيامهُمْ بالوسْعِ والإمكَانِ، شيدَّوا الإسلاَمَ ورفعوا في دحْضِ الكُفرِ الأعلاَمَ. أقاموْا شعائَر الدّينِ والتزموْا الشّرائِعَ الإسلاميَّةَ فيْ الحلاَلِ والحرامِ فوقَّرهُمْ كلُّ منْ لهُ مقامٌ، علماَءُ حكماَءُ شهداءُ فِيْ الطّاعَةِ، أبرارُ وأخياَرُ لهُمْ في الدّينِ الوراعَةُ، أظهرُوْا الفنوْنَ وأبهرُوْا العيوْنَ وطرّزوْا كلَّ صناعةٍ، فرسانُ شجعانٌ عُرفتْ بهمْ الوقائِعُ، كتبوُاْ بأقلامِ الطبقاتِ وبلغَتَ مكارمهُمُ الزّيادَاتِ، ولهُمُ العطايَا الفاخراتُ وفضلُ العاداتِ. ملوكُ زمانهِمْ بالعزّ والرّعاياتِ، ملكوْا ثغْرَ بيروتَ بقصورِ عمرّوهَا وقلاعٍ حصّنوهَا وحروْبٍ شهدوْها».
وقالَ الشّيْخُ محمّدُ الأشرفانِي: «ولمَّا توجّهَ ساداتُ الصّحابَةِ إلَى فتوْحِ الشّامِ، أَتَى فخْذ مِنَ التَّنوخيّيْن لنصرتهِمْ, وخرجوْا إلى ثغْرِ بيروُتَ بعددهِمْ وعدَّتهِمْ، ورفعوُاْ في دحْضِ الشّرْكِ الأعلاَمَ وأقاموْا شعائِرَ الدّيْنِ، وضربَتْ سيوفهُمُ البارقَةُ رقابَ المشركيْنَ وملكوْا بلاَدَ الغرْبَ وجبل بيروْتَ. ولمْ تزَلْ تتداوَلُ بالسَّعْدِ أيّامُهم ويعلُوْ مقامهُمْ وينفُذُ كلامهُمْ وترتفِعُ أعلامهُمْ وتخضَعُ لهُمُ الرّجالُ المجيدة، وتفِدُ عليهِمِ الوفوْدُ العديدَةُ، وتعرفُ بهِمِ الأفعًالُ الحميدةِ، ويقابلوُنَ الملوُكَ الشّديدَةَ، حتّى خافتهُمُ الأعداءُ فيْ البّرِ والبحْرِ، وحكَمَ لهَمُ الدّهرُ بتتابُعِ النَّصْرِ. فرسَان شجعان كتبة بأعلَى الطّبقاَتِ، حكمَاء كرماء لهُمُ العطايَا الفاخراَتُ، والعدْلُ فِي الرَّعَايا ومكارِمُ الأخلاقِ والمزَايَا».
هَذانِ النَّصاَّن يعطيَانِ صورَةً مشرِّفة عَنِ التنّوخيّيْنَ الأوائِلِ، وهذا مع العلم أن التوخيين لم يشتهروا بالشجاعة والبطولات الحربية بل أن مؤرخي ذلك العصر أفاضوا في الحديث عن أخلاقهم المَلَكيّة وورعهم وتمسكهم بالدين الحنيف وشرعته، ولم يذكر التاريخ أنَّ أحدَاً من أمراء تنوخ تعاطىَ منكرَاً، أَوْ عدَلَ عنْ مستقيْمِ الصراطِ، أوْ ظلمَ رعيَّة.
ولمّا برَزَ الطّالِعُ السّعيْدُ الميمُوْنُ في مصْرَ، أقبل التنوخيون علَى الدّعوَةِ الهادِيةِ المهديَّةِ. وكانَ منهُمْ دعاةُ بارزوْن قاموْا بواجبهِمْ في نشْرِ تعاليْمِ هذا المسلك الإسلامي الزهدي بين رعاياهُمْ وترسيخِهِ في نفوسْهِمْ، لكن قبْلَ أنْ تنقضِيَ المائَةُ الأوْلى علَى ظهورِ الدّعوَةِ التوحْيدِيَّةِ، أقبَلَ الصّليبيوْنَ الإفرنج مِنْ مختلفٍ أنحَاءِ أوروبَّا وافتتحوْا مدينَةَ نيقية في بلاد الأناضول سنة 1097م ثم مدينة أنطاكيَة سنة 1098م وأقامُوْا فيْ منطقة الرها أولى ممالكِهِمْ في الشرق واستمروا قرابة قرنين من الزمن (1097-1291م) مصدر قلق وبؤرة إزعاج ومصدر تهديد للعالم الإسلامي والعربي ومقدساته.
ولمَّا كانَ هَمُّ الإفرنج الأولُ الوصوْلَ إلى القدْسِ فقد زحفوا جنوْباً ومرُّوْا بالسواحِلِ اللبنانيّةِ دونَ أنْ يتعرَّضوْا للمدُنِ القائمةِ على الشواطِئ فلم يلقوا مقاومة تذكر بإستثناء بعض المناوشات التي لم تكن لتؤثر على تقدمهم وزحفهم نحو بيت المقدس، والتي احتلوها سنة 1099م وجعلوها مملكة بقيادة «غودفري دي بويون». لكِنَّ التّنوخيّيْنَ القاطنيْنَ في منطقَةِ الغرْبِ والجبالِ المحيْطَةِ ببيرُوْتَ والمطلَّةِ عليهَا استفزهم مشهد الحملات الصليبية في توجهها نحو القدس الشريف واجتياحها لذرى الإسلام فقرروا، وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى، التصدي والقيام بواجبهم في مقاومة هذه الحملة ومحاولة وقفها وردها على أعقابها.
وبالفعل، فقد انطلق التنوخيون إلى مواجهة الحملة الصليبية بقيادَةِ الأميْرِ عُضْدِ الدّولَةِ عليّ، وقطعُوْا الطريْقَ على الغزاةِ عندَ منطقَةِ نهْرِ الكلْبِ، وهْوَ ممرُّ إجباريَّ ضيّقٌ محصوْرُ بيْنَ الجبالِ والبحْرِ، لا بُدَّ لكُلِّ مَنْ يجتازُ السّواحِلَ منَ المروْرِ فيهِ فكانَتْ معركُة نهْرِ الكلْبِ سنَةَ 495هـ-1099م أوَّلَ معركَةٍ بيْنَ الإفرنج وبين التّنوخيّين، والذين استبسلُوْا في القتال وتمكنوا من وقف الحملة في ذلك الموقع. لكنّ التنوخيين قليلي العدد لم يتمكنوا من حسم المعركة بسبب التفوق الكبير في الجيوش والسلاح بينهم وبين جحافل الصليبيين، مما اضطرهم إلى الانسحاب نحو المرتفعات والعودة إلى مواقعهم وحصونهم.
يذكر أن شجاعة التنوخيين وبسالتهم في التصدي للإفرنج لفتت أنظار الأمير دقّاق السلجوقي، فأضاف إلى إمارتهم المشتملة على الغرب وبيروت إمارة صيدا، وقدّم لهم المساعدات اللازمة لتحصين المدينتين. أما الصليبيون الإفرنج فقد أضْمَروا الحقد للتنوخيين وأسرّوه في أنفسهم. فلَمْ يكَدْ يستقرّ بهِمِ المقامُ بعْدَ فتحهِمْ لمدينةِ القدْسِ حتَّى توجهت أنظارهم إلى المدن الساحلية التي كانت كثيراً ما تضايقهم أثناء تنقلهم بين أنطاكية والقدس، فوجهوا حملاتهم نحوها، فأول ما سقطت مدينة عكا ثم تبعتها جبيل سنة 1104م، وسقطت بعدهما طرابلس سنة 1109م، فتفرغوا للثأر من التنوخيين لأن معركة نهر الكلب وما حل بهم خلالها من خسائر بقيت في ذاكرتهم.
جمَعَ الملِكُ بُولدوِن، وهو أحَدُ أمراَءِ فرنْسَا المشاركيْنَ فِي الحملَةِ الصَّليبيَّة، جيوشه وجعل «برتران» قائداً لفرسانه وقصَدَ مدينَةَ بيروْتَ فِيْ العَامِ 504 للهجرَةِ، وحاصَرَهَا مدَّةَ شهرَيْنِ، فصَمَدَتْ المدينَةُ التنُّوخيَّةُ التِيْ كانَتْ بقيادَةِ الأميْرين التنوخيين عُضْدِ الدولة وشُجاعِ الدَّولَة وجَماعَةٍ مِنْ أقارِبِهِم، وكان من أهم الأسباب التي ساعدت بيروت على الصمود ثلاثة رئيسية هي:
-1 وجود المدينة على مقربة من منطقة جبلية حصينة، وحواجز طبيعية صعبة لا يمكن اجتيازها إلا عبر ممرات إجبارية ضيقة المسالك تسهل فيها إقامة الكمائن وحرب العصابات.
-2 وجود سور قوي متين عالٍ يحيط بالمدينة، معزز بحامية متيقظة تستميت في الدفاع عنها، فلا يمكن أخذها على حين غرة.
-3 وجود الأسطول الفاطمي الذي قدم من مصر لنجدة مدينة طرابلس ولكنّه وصل متأخراً بعد سقوطها بثمانية أيام فتحول للدفاع عن بيروت وصيدا.
وللتغلب على هذه العقبات الثلاث جمع الإفرنج سفنهم وتوجهوا بها إلى بيروت، ثم شرعوا في ب ناء برج متحرك لينصبوه على سور المدينة بما يمكنهم من تسلق أسوارها وفتح ثغرات في دفاعاتها. فلما أتموا صنعه زحفوا به واقتربوا من السور، لكنّ التنوخيين قذفوه بالحجارة الثقيلة من المنجنيق الذي كانوا يحسنون استعماله، فحطموه. صنع الإفرنج برجاً آخر فلم يكن مصيره بأفضل من مصير سلفه، ومن ثم تمكّن الأسطول الفاطمي من التغلب على مراكب الإفرنج التي أرسلوها إلى شواطئ المدينة، فاستولوا على بعضها واستمروا في تمويل المدينة التنوخية مما مكّنها من مقاومة الحصار وإطالته مدة أكثر.
عندئذ استنْجَدَ بُولْدوِن بإفرَنْجِ السَّواحِلِ وأُمَراءِ المَرَدَةِ في شمال لبنان والأسطول الأوروبي المرابط في ميناء جنوى الإيطالي، فنَهَضَ إفرَنْجُ الشَّمالِ وتَجَمَّعُوا مَعَ المَرَدَةِ في جُبَيْل، بينَمَا اجتَمَعَ إفرَنْجُ الجَنوْبِ فِيْ مَرْجِ الغازيَّةِ قُرْبَ صَيْدَا، وتَحَرَّكَ الفريقَانِ فِيْ يَوْمٍ واحِدٍ باتِّجاهِ بيروْتَ ودَهَمُوْا الغرْبَ صبَاحَاً فغدروا بسكانه ونَهَبُوْهُ وأحرقوْهُ، ثم قتلُوْا وأسرُوْا مَنْ وَجَدُوْهُ. فلَمْ ينْجُ مِنْ أهلِهِ سِوَىْ الغائبيْنَ والجالين والمختبئيْنَ، فقُتِلَ مِنَ الأمرَاءِ التنوخيين الأميْرُ مُوسَى بْنُ إبراهيْمَ بْنِ أبِيْ بَكْرِ المنذِرِ وأولادُهُ الصِّغارُ والأميْرُ قاسِمُ بْنُ هشَامِ بْنِ أبي بَكْرٍ وَوَلَدُهُ الأميْرُ إدريْسُ، والأميْرُ مَوْدُوْدُ بْنُ سَعيْدِ بْنُ قابُوْسَ وَوَلَداهُ الأميْرُ أَسَدُ والأميْرُ زُهَيْرُ، والأميْرُ مالِكُ بْنُ مصطَفَى بْنِ عَوْن والأميْرُ عُبَيْدُ بْنُ مِعْضَادِ بْنِ حُسَامِ والأميْرُ يَحْيَى بْنُ الخُضْرِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيْ وأخوْهُ الأميْرُ يُوسُفُ والأميْرُ عَلِي بْنُ حَليمِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ فَارِسِ الفَوَارِسِيْ وأولادُهُ وإخوتُهُ وبَنُو عمِّهِ. فانقطعَتْ بموتهم سلالَةُ بنِيْ فوارِسٍ. ولَمْ يبْقَ مِنَ الأمرَاءِ سوَى الأميْرُ بُحْتُرَ بْنِ الأميْرِ عُضْدِ الدَّولَةِ، الَّذِيْ هربَتْ به والدتُهُ إلَى عَرَمُوْنَ، حيْثُ بقيَتْ هناكَ إلَى أَن انجلَتِ الحملَةُ الصَّليبيَّةُ عَنِ الغرْبِ، وفي هذه الأثناء وصل الأسطول الجنوي فأنزل بالأسطول الفاطمي هزيمة قاسية، فتابعَتْ جموْعُ الصَّليبيِّينَ طريقَهَا إلَى بَيْرُوْتَ وشدَّدُوْا الحصار عليْهَا من كل الجهات في البر والبحر، فتمكنوا من اختراق أسوارها وافتتحوْهَا عُنْوَةً وأقاموا فيها مذبحة رهيبة قاسية ذهب ضحيتها الآلاف واستشهد الأميْرُ عُضْدِ الدَّولَةِ عَلِيُّ فضُمَّ اسمُهُ إلَى أسماءِ أكثر من 20 أميراً تنوخياً سقطوا شهداء في الدفاع عن العمق العربي الإسلامي لجبل لبنان، واعتبر مع رفاقه من الأبطال الصناديد الشرفاء الذين سطروا ببذلهم وتضحيتهم ملحمة لا يزال التاريخ يسجلها بأحرف من نور، ولا يزال الأبناء والأحفاد يتذكرونها بكثير من الأسى والفخر والاعتزاز. وقد وَصَفتُ هذه الموقعة بهذه المقطوعة الشعرية المؤرخة:

نَفَـــــــى الـنـــــــَّـوْمَ عَـــــــنْ عَـيْـنـــــــَـيَّ شَــــــــرُّ جَـحَـافِــــــــــلٍ
صَـلِـيْـبِـيَّـــــــــــــــةٍ تَـغْـــــــــــــــزُوْ الـبِـــــــــــــــلادَ وَتَـنْـهَـــــــــــــــبُ
أَتَــــــــوْا مـــــــِنْ بِـــــــلادِ الـغَــــــــرْبِ يَـبْـغُــــــــوْنَ مَـوْطِـئــــــــاً
لأَقْـدَامِـهِـــــــــــــمْ فِـــــــي الـشَّــــــــرْقِ بِئْـــــــسَ الـتَّـطَـلُّــــــــبُ
وَفِـــــــْي زَعْـمِـهـــــــِـمْ يَحْمُــــــــوْنَ مَـهْـــــــــــــــدَ نَـبِـيِّـهِـــــــــــــــمْ
فَـأَحْـبَــــــــطَ مَـسْـعَـــــــــــــــاهُـمْ تَـنُـــــــــــــــوْخٌ وَيَـعْـــــــــــــــرُبُ
تَـفَـانَــــــــوْا حُـمَــــــــــــــــاةً لِـلـدِّيَــــــــــــــــــــــارِ قَـسَــــــــــــــــاوِراً
لُـيُــــــــوْثَ وَغَـــــــــــــــىً مِنْهـــــــَا الـعِـــــــــــدَى تَـتَـهَـيّــــــــــــــَـبُ
سُــــــــرَاةً أُبَــــــــــاةً نَـاهِـضِـيْــــــــنَ إلــــــــــــــَى الـعُـــــــــــــــلَـىْ
وَخُلْـقُـهُــــــــــــــــمُ سَــــــــــــــــامٍ رَفِـيْــــــــــــــــــــعٌ مُـهَـــــــــــــــذَّبُ
رِمَـاحُـهُـــــــــــمُ تَـفـْــــــــــــــري صُــــــــــــــدُوْرَ خُصُـوْمِـهِــــــــمْ
وصَــــــــارِمُـهُــــــــمْ عَـضْـــــــــــبٌ يَـمَـــــــــــــــانٍ مُـخَـضَّــــــــبُ
تَصَـــــــــــــدَّوْا لَهُــــــــــــــمْ مُـسْـتَـبْـسِـلِـيــــــــــــــْـنَ بِـقُـــــــــــــــوَّةٍ
وَلـــــــَمْ يَحْـــــــذَرُوْا سَـيْــــــــلَ الـجُـمُـــــــــــــــوْعِ وَيَـرْهَـبُــــــــوْا
قَضـــــــَىْ مِـنْـهُــــــــمُ الآلاف نُـجْـبـــــــــــــــــــــا فَوارِســــــــــــــا
وَكُـلُّـهُـــــــــمُ نَــــــــــــــــــــــدْبٌ كَـمِـــــــــــــــــــــــيٌّ مُـجَـــــــــــــــرَّبُ
دِمَــاؤُهــــــــــــــُــمُ أَرْوَتْ تُـــــــــــــــــــــــــرَابَ جُـدُوْدِهِــــــــــــــــمْ
وَرَايَـاتُـهُـــــــــــــــمْ فــــــــــــــَوْقَ الـسِّـمَـاكَـيْـــــــــــــــنِ كَـوْكَــــــبُ
هَـــــــــــــــوَوْا فِـــــــيْ دِفـــــــَـاعٍ عَـــــــنْ عُـرُوْبَــــــــةِ أرْضِـهِـــــمْ
تَـسَـــــــامَـى لَهُـــــــمْ فِـــــــيْ الخُلـــــــْـدِ هَــــــــامٌ وَمَـنْـكِــــــــبُ
وَأَثْــــــــوَوْا كِـرَامــــــــــــــــاً فِـــــــيْ مَـوَاطِــــــــنِ عِـزِّهِـــــــــــــــمْ
يَـسُـــــــحُّ عَـلَيْـهِـــــــــــــــمْ مِـــــــنْ ذُرَى المَجْــــــــدِ صَـيِّــــــــبُ
عَـرِيْـنُـهُـــــــــــــــمُ الـمِعْـــــــــــــــطَـاءُ أَرَّخَتْـــــــــــــــهُ حِـمـــــــــىً
وَمَـنْـزِلُـهُـــــــــــــــمْ زَاهِـــــــــــــــيْ الـمَـنَـاقِــــــــبِ طَـيِّـــــــــــــــبُ
سنة 504 هـ

خصال الدروز

من شكيب وأمين أرسلان إلى سلطان باشا وكمال جنبلاط

خصال الموحدين الدروز ودورهم المجيد

في تاريخ العروبة ولبنان

شخصية الموحدين الدروز تقوم على الانفتاح والتسامح، لا الانعزال والانغلاق، وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الإلغاء أو الإقصاء أو الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد.

.

في ندوة خصصت للإحتفاء بصدور كتاب “الأمير أمين أرسلان ناشر ثقافة العرب في الأرجنتين”، ألقى الدكتور سعود المولى كلمة تناول فيها دور الأمير أمين ورفاق له في نشر ثقافة العرب وحضارتهم في الأمصار البعيدة، كما تطرّق في جزء كبير منها إلى خصال الموحدين الدروز الذين حملوا عبر التاريخ رسالة العرفان والتسامح، وكان لهم القسط الأكبر في بناء لبنان وحماية وحدته وهويته العربية. وفي ما يلي أبرز ما جاء في تلك الكلمة:

ول الكلام هنا اليوم: العرفان. والعرفان في عرف بني معروف معرفة وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: “إعرف الحق تعرف أهله”..هكذا عرفنا الأميرين أمين وشكيب أرسلان، أهل حق وعدل. وهكذا اعترفنا لهم بالفضل والريادة. فالكبار الأفذاذ من أمثال الأميرين شكيب وأمين، حملوا انتماءً أصيلاً مبدئياً إلى الحق والعدل، فوق كل إنتماء وطني أو قومي أو مذهبي أو ديني أو قبلي أو عشائري فاستحقوا منا كل تقدير وكل عرفان.
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الأنبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق، وفي رواية أخرى صلاح الأخلاق)، “فمن منحه الله القبول والترقي والعروج إلى حد الإنسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الأخلاق”( على ما جاء في المأثور عن السيد عبد الله التنوخي)..
ونحن اليوم في محفل عرفان بالجميل وتقدير لعلَم كبير من أعلام الأسرة الأرسلانية التي جسّدت عبر التاريخ كل الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة، ورفع تلك الرايات عالياً أعلام كبار: منَ الأمير السيد عبد الله التنوخي إلى الشيخ الفاضل محمد بو هلال، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش إلى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا إلى بطل إستقلال لبنان الأمير مجيد أرسلان، ومن ناشر ثقافة العرب في الأرجنتين الأمير أمين أرسلان إلى ناشر الثقافة التحررية وروح الثورة النهضوية كمال بك جنبلاط.
ومناسبة العرفان والمعرفة اليوم كتاب جمع بين دفتيه ثلاثة رجال وحّدت بينهم ثلاث خصال، فسمت بهم إلى أعلى المراتب: لغة وفصاحة، علم وثقافة، نبل وشهامة، جهاد وشجاعة.
ثلاثة من أعلام لبنان جمع بينهم القلم فكانوا هم سيفنا والقلم، وكانوا هم سهلنا والجبل، من الشاطىء الفضي (الأرجنتين حيث عاش الأمير أمين أرسلان) وفنزويلا (حيث يعيش خلدون نويهض)، إلى القدس وفلسطين (قبلة عجاج نويهض وقلبه) فإلى سوريا ولبنان.
ثلاثة أعلام- أقلام وحدت بينهم خصال ثلاث، لا يخطئها القلب إن ألقى السمع وهو شهيد: انتماء- التزام- وفاء.
1. من الحضن الدافئ للجبل العربي ولمسلك التوحيد العرفاني، إلى لبنان الوطن الصعب المتعدد المذاهب والجماعات، ومن العثمانية الإسلامية النهضوية الإصلاحية، إلى العروبة الحضارية الجامعة، ومن ثقافة ولغة العرب، إلى الثقافة الإنسانية العالمية، انتماءات تنوعت وتعدّدت ولكنها تفاعلت وتكاملت في شخصية واحدة موحّدة، شخصية لم تتنكر لتاريخ قومها وعاداتهم وتقاليدهم، بل إنتمت إلى المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم، ما جعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار ثابت للشخصية السوية المتوازنة، التي تقوم على الانفتاح والتسامح، لا الانعزال والانغلاق، وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الإلغاء أو الإقصاء أو الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدّد، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل إنتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً، ما يشكل معنى لبنان وسره، ومعنى هوية اللبنانيين العرب، والمعروفيين عموماً، والأرسلانيين تحديداً.
2. وإلى الانتماء المعروفي اللبناني العربي الإسلامي الإنساني، التزام بقضايا الأمة العربية أولاً، بحضارتها ولغتها وتراثها وثقافتها، ولكن أيضاً وأساساً بالسعي الدؤوب نحو وحدتها وعزتها وتحررها. وفي القلب دائماً وأبداً فلسطين، فهي الجامع المانع، وهي الهم والاهتمام، وهي الفكر والوجدان، التزام إسلامي عروبي وطني لم تقوَ الجبال عليه..فتقدم النبلاء الأمراء الشجعان وحملوه وكان له اسم وعنوان: الاستقلال، هكذا سموا الصحف والمجلات والأحزاب، والبيانات والخطابات والمقالات، وهكذا سمت الدكتورة بيان دار النشر والدراسات التي طبعت هذا الكتاب، فهي الأصيلة بنت الأصيل، وهي المنتمية إلى دوحة باسقة معطاءة في العروبة والوطنية الحقّة الصادقة وفي الالتزام العربي الإنساني النبيل، فلها منا كل الشكر والامتنان والعرفان.والاستقلال كان صرخة الأمراء الأرسلانيين: أمين وشكيب وعادل ومجيد ومحمد ومصطفى. هكذا تتأسس الأوطان، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن لبنان. وهكذا تُحفظ العروبة، وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مرّ الأزمان.
3. وثالث الخصال الوفاء، في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الذي بين أيدينا، لا بل في كل لحظة من لحظات عمر هؤلاء النبلاء الكرام الثلاثة: الأمير أمين والسادة عجاج وخلدون، لم يتنفسوا ولم ينطقوا إلا وفاءً في زمن عز فيه الرجال وقل فيه الوفاء. الوفاء للدولة العثمانية يوم كانت دولة العرب والمسلمين في مواجهة الاستعمار والظالمين، والوفاء لحركة النهضة الإصلاحية بالنقد والتصحيح يوم انحرف الأتراك الثوار عن روابط الإسلام والإنسانية والديمقراطية وقاموا بالتتريك والقمع والاستبداد. والوفاء بالعمل السياسي الوطني العربي الواضح المستقيم، والوفاء للشعب اللبناني وللأمة العربية ولقضاياها. والوفاء هنا هو عنوان النبل والشهامة والأصالة في زمن السفاهة والتفاهة.

إن الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للعروبة ولدنيا العرب وقضايا العرب، هي إنتماء للبنان أولاً، والتزام بالحق والعدل ثانياً، ووفاء للإسلام وللإنسانية ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو إنعزال، ودون إدعاء أو تفاخر، وهي أمانة حملها الأمراء المجاهدون من آل أرسلان ومارسوها كما مارسوا خصال المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الإخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والإمتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام. هكذا بنى الأميران أمين وشكيب شخصيتهما الشفافة الواثقة المطمئنة، لا المستلَبة ولا المقلِدة، رغم الإغتراب والغربة، فكانوا بحق زيتونة شرقية يضيء زيتها نوراً على نور، فيلهب كل شعاب العقل والروح: فصدق في القول، واستقامة في العمل، استقامة كحد السيف في حب الخير للناس وفي بذل الجهد والجهاد والعطاء والتضحية في سبيل الناس..ودون أي إعتبار لجاه أو مال أو منصب أو موقع.
ذهبت إلى منزل عجاج نويهض في رأس المتن في شهر حزيران من العام 1982 وقبل وفاته بأسبوع أو عشرة أيام، وقبيل العدوان والغزو الإسرائيلي للبنان بأيام قليلة كنت بصحبة زملاء أساتذة نحاول إجراء مقابلة معه يحدثنا فيها عن سيرة جهاده في فلسطين، فكان كل الحديث عن الأمير شكيب أرسلان، وبعضه عن الأمير أمين. وكنت قد زرت الأستاذ عجاج مراراً في العامين 1980 و1981 أثناء التحضير لأطروحتي للدكتوراه عن الأمير شكيب أرسلان. وكان هو من عرفني على شكيب أرسلان حين كنت أعتزم كتابة أطروحة الدكتوراه عن جهاد شعب فلسطين، فحدثني عجاج عن محمد علي الطاهر وعن القدس ويافا وصحف فلسطين ثم إنتقل بي إلى الأمير شكيب، وكانت المرة الأولى التي أسمع بها عنه لكن في كل مرة زرته فيها بعد ذلك كان حديثه شكيب أرسلان وفلسطين.
وهكذا أيضاً في الكتاب الذي نحتفي به، لم يكتب عجاج عن نفسه وإنما خلد لنا، هو وخلدون وبيان، خلدوا أمين أرسلان، وهو المستحِق، وهم أيضاً مستحِقون. هكذا يكون الوفاء.
إننا لا نجتمع هنا اليوم إلا من باب الوفاء. الوفاء للرجال الكبار في تاريخنا، لنصل ما انقطع بين حاضرنا وماضينا نؤسس عليه مستقبلنا، ولكي نستعيد ونستحضر مع الأمير أمين والأمير شكيب والأساتذة عجاج وخلدون، تلك اللحظات الحلوة الماضية التي كان فيها القول عملاً، وكان فيها السيف قلماً، وكان فيها الموقف سلاحاً، وكانت فيها الثقافة إنفتاحاً، وكانت فيها العروبة إنتماءً حضارياً وسماحة فكرية..وكان فيها لبنان في القلب من كل انتماء والتزام ووفاء.
واليوم فإن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هما جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم. فلا انعزال ولا تطرف، ولا اِفراط ولا تفريط، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الأميران شكيب وأمين أرسلان في مطلع القرن العشرين، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة إستشهاده، وفي القلب من هذه المعادلة فلسطين. تلك كانت آخر كلمات الأمير شكيب لصديقه عبدالله المشنوق: أوصيكم بفلسطين..فلسطين الإسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، وتلك هي أيضاً وصية عجاج وخلدون وبيان نويهض وشفيق الحوت، ووصية كل أهل الانتماء والالتزام والوفاء، ونحن وأنتم مؤتمنون علي.

معركة عين داره

«حرب الإخوة» التي غيّرت تاريخ لبنان
300 سنـة علـى معـركة عيـن داره

صـــراع العائـــلات أضعـــف الموحديـــن الـــدروز
وأجهـــض إمكـــان استعادتهـــم لإمـــارة الجبـــل

قيـــام جبــل الــدروز فــي منطقــة حــوران
مــن أبــرز نتائــج معركــة عيــن داره

.

عين داره في الجغرافيا بلدة من مقاطعة الجرد في قضاء عاليه حالياً، كانت المدخل الشرقي إلى جبل لبنان من ناحية ضهر البيدر، وكانت في التاريخ مدخلَ العشائر التي نزحت إليه من معرّة النعمان وجهاتها في شمال سورية، ابتداءً من سنة 759 م، وميدانَ الموقعة التي جرت بين فريقين من أحفاد هذه العشائر في سنة 1711م. وهذه الموقعة محطة مهمة، ومفصل من مفاصل تاريخ لبنان، إذ أنها تمتاز عن سائر المواقع الحربية، بما في ذلك الأكبر منها، بنتائجها الكثيرة والخطيرة، ليس على الصعيد العسكري فحسب، وإنما أيضاً على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهذه النتائج ظلّت تتفاعل في لبنان، وتجاوز تأثيرها حدوده ليصل إلى جبل حوران (جبل العرب أو محافظة السويداء حالياً في الجمهورية العربية السورية).
لكل مكان اسم يُعرف به، ويميّزه عن غيره. ومعظم أسماء المكان لها تفسيرات عدّة، ومنها عين داره التي من تفسيراتها أنها «عين الحرب والقتال» وموقعتها الشهيرة أضفت عليها هذا المعنى فبدا أقرب إلى الأذهان من معناها المرجّح، وهو «عين البيوت والمساكن».
توفي الأمير أحمد المعني سنة 1697 من دون عقب من الذكور، فانتهت بموته سلالة البيت المعني الحاكم. وكان على أعيان الموحدين الدروز أن يختاروا، بموافقة الدولة العثمانية، أميراً يخلفه على ما سمي «إمارة ابن معن». وبحسب المراجع المحلية اجتمع مشايخ البلاد من المقاطعات السبع، وهي الشوف والمناصف والعرقوب والجرد والمتن والغرب والشحّار، واختاروا الأمير بشير حسين الشهابي، أمير راشيا، أميراً عليهم، وهو ابن أخت الأمير أحمد المعني، وأعلموا والي صيدا، مصطفى باشا، واستأذنوه في تولية الأمير بشير عليهم، فقبل بذلك، وأخبر الدولة العلية العثمانية. لكن الباب العالي أخذ برأي حسين ابن الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي أبقاه السلطان العثماني حيّاً بعد إعدام أخوته ووالده فخر الدين سنة 1635، ورُبَّيَ تربيةً عثمانية. وكان رأي هذا الأخير أن يكون الأمير حيدر ابن أمير حاصبيا موسى الشهابي، وابن بنت الأمير أحمد المعني، حاكماً على مقاطعات ابن معن. وبما أن حيدراً كان لا يزال صغيراً، وعمره اثنتا عشرة سنة فعندها يتولى الأمير بشير الإمارة بصفته وكيلاً أو وصياً إلى أن يبلغ الأمير حيدر سن الرشد. هذا ما ورد في مرجعين محليين، هما تاريخ الأمير حيدر الشهابي، وكتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان للشيخ طنّوس الشدياق. ولا يسعى المؤرخ إلا أن يأخذ بهما بحذر وأن يناقشهما إذا كان هناك مجال للمناقشة، إلى أن يظهر من الوثائق العثمانية المحفوظة في اسطنبول ما يخالفها كلياً أو جزئياً.
لم تذكر المراجع المحلية أعيان الموحدين الدروز الذين اجتمعوا وقرّروا تولية الأمير بشير الشهابي، وإنما ذكرت أن الذين اختاروا بشيراً كانوا من القيسيين، وإنهم اجتمعوا في مرج السمقانية، وفضّلوا أن ينصِّبوا عليهم أميراً قيسياً من خارج منطقتهم بدلاً من اختيار أحد الأمراء اليمنيين، وذلك لأنه وبعد موت الأمير أحمد المعني، الذي كان يتزعّم حزب القيسية، لم يعد هناك أمير قيسي في منطقهم، لأن الأمراء الدروز المتبّقين كانوا من آل إرسلان اليمنيين الذين تراجع دورهم بعد تسلّم الأمراء التنوخيين ثم المعنيين الإمارة، كان هناك أيضاً آل علم الدين اليمنيين الذين كانوا مرفوضين من القيسيين بعد الصراعات الدامية التي نشبت ابتداءً من سنة 1633 بين القيسية بقيادة المعنيين، واليمنية بقيادة آل علم الدين. وقد جاء اختيار أعيان الدروز القيسيين للأمير بشير الشهابي من منطلق أنه من الحزب القيسي، وأن لأسرته تاريخاً طويلاً من التعاون والمصاهرة مع المعنيين. ولم يكن عندهم أي اعتبار لاختلاف مذهب الأمير الشهابي السني عن مذهبهم، بل كان منطلقهم الأساس هو عامل الانتماء الحزبي الذي غلّبوه على عامل الانتماء المذهبي، مع الإشارة إلى أن بعض المؤرخين يطرحون احتمال درزية الشهابيين. فالتحالفات السياسية كانت آنذاك قائمة على عامل وحدة المصالح والتقائها، لا على عامل وحدة الدين أو المذهب، وهذا وجه من وجوه تسامح الموحدين الدروز الديني مقابل تعصبهم العشائري والحزبي.
لم يقبل اليمنيون بالأمير بشير الشهابي، وأظهروا بوضوح رفضهم هذا الاختيار، ومعارضتهم له، لكنهم لم يقرنوا ذلك بالتحرك الميداني، نظراً لأن الأمير بشير كان قد حظيّ بدعم قوي من الدولة العثمانية ومن والي صيدا تحديداً، كما أنه أظهر في الوقت نفسه مقدرة سياسية وعسكرية، إذ استطاع وهو الوافد من راشيا إلى الشوف والهابط على عاصمة المعنيين دير القمر، أن يفرض هيبته على أعيان الجبل، وأن يوّسع منطقة التزامه الضرائبي لتشمل صفد، وينتصر على آل الصغير وحلفائهم في جنوب جبل عامل في موقعة المزيرعة سنة 1698، ويحصل على ولاء بني صعب أصحاب مقاطعة الشقيف وبني منكر أصحاب إقليمي الشومَر والتفاح. وبذلك استطاع الأمير الجديد وبسرعة أن يملأ الفراغ الذي تركه الأمير أحمد المعني.

الأمير حيدر يغتال الأمير بشير الأول
استأنس الأمير بشير الشهابي بقوته، وارتاح لوضعه واستمر في الحكم بعد بلوغ الأمير حيدر سن الرشد. ولم يكن هناك ما يمنعه من الاستمرار لمدة أطول طالما أنه حائز على رضى والي صيدا ومواظب على تقديم الضرائب المطلوبة منه. ومع تأكد رغبة الأمير بشير في الاحتفاظ بالحكم لجأ الأمير حيدر الذي كان قد بلغ سن الرشد إلى وسيلة لم تكن نادرة في ذلك الزمان، وهي دس السم لغريمه بهدف قتله، وهذا ما تمّ بالفعل إذ نجح الأمير حيدر في تسميم الحلوى المقدمة للأمير بشير وتمكّن بذلك من تصفيته. وقد كان ذلك السبيل الوحيد إلى تسلمه الإمارة التي كانت تعود إليه حسب الاتفاق الذي رعته الدولة العثمانية، وهو نجح في ذلك دونما صعوبة لأن الأمير بشير لم يكن له وريث من صلبه. ولكن على عكس الأمير بشير الذي كان يحظى بالرضى من قبل معظم الأطراف، فإن الأمير حيدر سيواجه صعوبات كثيرة فور تسلمه إمارة ابن معن، ولن يؤدي تسلمه للالتزام الضرائبي في جبل عامل إلى تعزيز وضعه وإنما سيؤدي إلى إيجاد منافس قوي له على السلطة، هو الشيخ محمود أبي هرموش من السمقانية، نائبه في جمع الضرائب من جبل عامل، والمنقلب عليه بتأييد من والي صيدا. وحين عجز الأمير حيدر عن تقديم الضرائب المطلوبة منه للدولة، وعن الصمود في وجه المعارضة اليمنية الممثلة بآل علم الدين وبحليفهم أبي هرموش، ترك دير القمر إلى غزير في كسروان، ثم وبعد طرده منها لجأ إلى الهرمل حيث توارى عن الأنظار لمدة سنة في مغارة فاطمة المعروفة أيضاً بمغارة عزرائيل، ورافقه من أعيان القيسيين الشيخ محمد تلحوق وولده شاهين.

آل علم الدين والإمارة
تسلّم آل علم الدين إمارة ابن معن، إلا أن تجربتهم هذه المرة كانت محكومة بالفشل كتجاربهم السابقة في العهد المعني، إذ لم ينجحوا في كسر حدّة معارضة القيسيين والصمود في وجهها. ويلاحظ أن أحد أحفاد الأمير حيدر الشهابي (المؤرخ حيدر الشهابي) وتلميذه الشدياق تعمدّا تضخيم حالة التذمّر التي سادت الأهلين إزاء محمود أبي هرموش، فصورّاه ظالماً متعسفاً في جمع الضرائب، كما أنهما سوّدا صورة آل علم الدين بجعلهم مُضْطَهِدين للقيسيين يجورون عليهم ولا يبقون لهم منزلة ولا حرمة.
حقيقة الأمر أن الوضع لم يكن مأسوياً وسوداوياً بالشكل الذي صوّره الشهابي والشدياق، إلا أنه لم يخلُ من صعوبات واجهت آل علم الدين اليمنيين وأبا هرموش، على الرغم من الدعم العثماني لهم، لأن القيسيين رفضوا استمرار حكمهم. وقد وصلت العداوة بين الفريقين إلى حد عدم قبول أحدهما حكم الآخر له، بصرف النظر عن حسن إدارته للأمور أو سوئها، وعن ظلمه أو عدله. وقد واصل القيسيون الاتصال بالأمير حيدر وشجّعوه على العودة، وهو الذي كان يراقب ويتابع ما يجري على الأرض، وحين وجد الأجواء ملائمة لعودته ترك مخبأه وأتى إلى رأس المتن ونزل عند الأمير حسين أبي اللمع، وقيل أنه جاء برفقة مقاتلين من آل حماده الشيعة، ووافته إلى هناك جموع القيسيين المؤيدين له.
علم محمود أبي هرموش وآل علم الدين بعودة الأمير حيدر فتجمعوا مع أنصارهم في عين داره، قاعدة آل علم الدين، وانتظروا استكمال حشدهم ووصول والي صيدا ودمشق، للزحف إلى رأس المتن، وكان هذان الواليان أظهرا لهم التأييد فقدم الأول إلى حرج بيروت وقدم الثاني إلى قب الياس. وقبل أن يتقدمّا إلى عين داره، ويكتمل فيها حشد اليمنيين، أقدم الأمير حيدر على مغامرة جريئة هي الهجوم الليلي المباغت المعروف بالمصطلحات الحربية باسم «كبسة»، ففاجأ خصومه ليل الجمعة في 15 محرم 1123 هـ/ 5 آذار 1711 م، وهاجم رجاله عين داره عن طريق وادي الجوز، إلى الشمال الشرقي منها، وعن طريق وادي قطليج الواقع بينها وبين شمليخ، وأحاطوا بها من الشمال والشرق والغرب، وكان اللمعيون في مقدمة الداخلين إليها.
أمراء آل إرسلان يلتزمون الحياد
وكما كان اليمنيون أضعف من أن يستمروا بالحكم من دون دعم فعلي قوي من الولاة العثمانيين، كانوا أيضاً أضعف من أن يواجهوا القيسيين وحدهم في معركة عين داره من دون نجدة من واليي دمشق وصيدا يعولون عليها، خصوصاً بعد أن امتنع الإرسلانيون اليمنيون من الدخول في الصراع العسكري الدائر على الرغم من ميلهم لأبي هرموش. وقد كان تفكير آل إرسلان أنه لو ربح آل هرموش المعركة فإن هؤلاء هم الذين سيجنون مغانمها، وأنهم إن خسروا المعركة فإن آل إرسلان سيكونون أول الخاسرين.
وكما هو معروف فقد أسفرت الموقعة عن مقتل الكثيرين من الفريقين من بينهم عدد كبير من اليمنيين قدّره قنصل فرنسا في صيدا (استيل) في رسالة إلى حكومته بتاريخ 23 أيار 1711 بخمسمائة رجل، ولم يذكر القنصل عدد القتلى لدى القيسيين، كما أسفرت المعركة عن مقتل قادة اليمنيين وعلى رأسهم ثلاثة من أمراء آل علم الدين وأسرِ أربعة منهم أجهز عليهم الأمير حيدر في الباروك، كما تمّ أسر محمود أبي هرموش، الذي عزم الأمير حيدر على قتله، لكنّه نزل عند طلب المشايخ القيسية ولم يقتله احتراماً للقب الباشوية الذي ناله بواسطة والي صيدا، فاكتفى بقطع لسانه وإبهاميه. وحين علم واليا دمشق وصيدا بالنتيجة، رجع كلًّ منهما إلى مقر ولايته استعداداً للتعامل مع الواقع الجديد، إذ لم يكن لهذين الواليين ومن سبقهما وأعقبهما من الولاة العثمانيين، أيّ اهتمام لمن ينتصر أو يخسر من الفرقاء المحليين، بل كان الهمّ الأساسي هو جمع الضرائب واستنزاف قوى الجماعات المحلية المتناحرة وابتزاز أموالها، وإشغال الأمراء المتنافسين بعضهم ببعض بحيث يسهل إحكام السيطرة عليهم وعلى إمارة الجبل. ولم يكن ممكناً لأي فريق منتصر، مهما كانت قوته الذاتية كبيرة، أن يستمر في الإمارة إلا بنيل رضى الولاة والمسؤولين العثمانيين الكبار في الآستانة.

النتائج الرئيسية لمعركة الإخوة
أدّى انتصار القيسية بقيادة الأمير حيدر الشهابي إلى نتائج عديدة ومهمة يمكن إيجازها بما يلي:
1. فشل المحاولة الدرزية (عبر الأمراء اليمنيين) استرداد الإمارة: وبصرف النظر عمّا إذا كان محمود أبي هرموش يسعى للحصول شخصياً على السلطة أو يسعى لإعادة آل علم الدين إلى الإمارة، فإن محاولته التي أدت إلى طرد الأمير حيدر وتسلّم آل علم الدين الإمارة كانت تعني استرداد الدروز لها. وفي ما يتعلق بآل علم الدين فإنهم أحق من الشهابيين بها، لأنهم من سلالة المناذرة اللخميين الذين كانوا ملوك الحيرة لزمن طويل، ثم صار أحفادهم أمراء في جبل لبنان. ولآل علم الدين أنفسهم سابقة في تسلّم الإمارة إبّان العهد المعني، وهم من داخل إمارة ابن معن. وبهزيمتهم، وهزيمة حليفهم أبي هرموش قضي على محاولة الدروز استرداد الإمارة. ولم يقم الدروز بعد عين داره بأي محاولة من أجل إعادة الإمارة إلى صفوفهم، وضاع نتيجة لذلك من تاريخ جبل لبنان لقب « الأمير الدرزي» الذي كان يُعطى للتنوخيين والمعنيين، وحلّ مكانه لقب «أمير الدروز» الذي أُعطي غالباً للأمراء الشهابيين. والفرق بين هذا وذاك واضح إذ أن اللقب الأول يعني الأمير الدرزي المؤمّر على الدروز، فيما اللقب الثاني يعني الأمير غير الدرزي المؤمّر على الدروز وهو أمير شهابي سني.
2. تثبيت دعائم الإمارة الشهابية: كما كان الأمير حيدر بحاجة إلى تصفية سلفه الأمير بشير ليصل إلى سدّة الإمارة، فإنه كان أيضاً في حاجة إلى سحق معارضيه اليمنيين لتثبيت دعائمها. وقد فُسِح المجال له لتحقيق ذلك في موقعة عين داره، إذ تمكّن فيها من أن يقضي على آل علم الدين قبل أن ينتقل إلى تحجيم نفوذ الإرسلانيين اليمنيين. وبهذا أزاح الأمير حيدر منافسيه من زعماء الصف الأول، أي من الأمراء، فيما كان زعماء الإقطاع القيسيون مؤيدين له، لكنهم جميعاً من الصف الثاني لا يحملون لقب «أمير» ولا يحق لهم تسلّم الإمارة، وهم سيستمرون في تأييده لأنه نجح في استرضائهم والتقرّب منهم خصوصاً عندما أعاد توزيع الإقطاع، فرضوا بمراتبهم ولم يطمحوا إلى خرق السقف الموضوع لهم. وبتغييب وغياب زعماء الصف الأول بات على كل معارض من زعماء الصف الثاني يريد أن يخلع أميراً من أبناء وأحفاد الأمير حيدر الشهابي أن يسير تحت لواء أمير شهابي من ذرية الأمير حيدر.
3. نهاية الحزب اليمني: معروف أن النزاع القيسي اليمني قديم جداً بين القبائل العربية، وهو كان قائماً في مختلف المناطق التي أقاموا فيها، لكنّه في لبنان لم يبرز بوضوح إلا في عهد الدولة العثمانية. وتعتبر القيسية-اليمنية نوعاً من الثنائية السياسية التي سميت بالحزبية و”الغرضية” والَمشَرب. وكان التكتلان قد بُنيا على أسس قبلية، لكن الصراع بينهما كان صراعاً على السلطة والنفوذ. ولم يكن الولاء لأي منهما ثابتاً، إذ من الممكن أن يتغيّر تبعاً للمصلحة. وقد استطاع الأمير فخر الدين المعني الثاني أن يجمع تحت لوائه اليمنية إلى جانب القيسية التي يتزعمها، كما جمع أبناء المذاهب الدينية المختلفة. وفي ظل إمارته القوية التقى الحزبان، وبعده وأثناء ضعفها تصارعا، والغالب منهما كان يتسلّم الإمارة. إلا أنه في عين داره انزاح الحزب اليمني نهائياً عن مسرح الصراع، وغاب شعاره الأبيض عن المناسبات والاحتشادات، وطويت صفحة من الصراع الداخلي تحت عنوانه وعنوان الحزب القيسي لتبدأ صفحة أخرى من الصراع الداخلي تحت عنوان حزبين جديدين.
4. انفراد الحزب القيسي بالحكم: كان من نتائج موقعة عين داره نتيجتان متلازمتان، هما نهاية الحزب اليمني وانفراد الحزب القيسي بالحكم، ذلك أن اليمنيين الذين لم يقتلوا في عين داره، قُتل بعضهم بعدها، وهجّر الباقون بسبب التنكيل والاضطهاد، وتحول قسم منهم إلى القيسية وما عادوا يظهرون ميلهم كالإرسلانيين مثلاً، إلا أن الحزب القيسي لم يحافظ على وحدته، بل نشأ فيه حزبان أو «غرضيتان» هما اليزبكية والجنبلاطية، فكان آل جنبلاط زعماء الفريق الجنبلاطي، وآل عماد زعماء الفريق اليزبكي، يساعدهم آل تلحوق وآل عبد الملك لإيجاد نوع من التوازن مع الجنبلاطيين، في ما كان بنو نكد «بيضة القبّان» يرجّحون كفة الفريق الذي يميلون إليه. وهذه الثنائية الجديدة هي مثل القيسية واليمنية نوع من التعددية السياسية الاجتماعية، إلا أنها مثلها أضرت بالموحدين الدروز حيث توسّلها زعماء الإقطاع في صراعاتهم على النفوذ والسلطة، والتي اتخذت غالباً طابعاً دموياً في الكثير من الأوقات والأماكن فكان انشغالهم، وإشغال غيرهم من مساكنيهم ومجاوريهم، بها تعويضاً تافهاً عمّا فقدوه من نفوذ.
5. نكبة الأمراء اليمنيين مهدت لإعادة توزيع الإقطاع ومكّنت الأمراء الشهابيين من أن يضعوا يدهم على أملاك شاسعة للدروز.
6. إعادة توزيع الإقطاع: سمح الانتصار في عين داره للأمير حيدر أن يعيد توزيع الإقطاع بشكل يرسّخ دعائم سلطته، ويحفظ التوازن في إمارته، ويجعله في عداد أصحاب الثروة والأملاك في جبل لبنان. اقتص من الأمراء الإرسلانيين باقتطاع الغرب الأعلى من الأمير يوسف وإعطائه للشيخ محمد تلحوق وأخيه بشير. وزاد في إقطاع حليفه الشيخ قبلان القاضي فأعطاه إضافة إلى الشوف الذي كان معه، بعض مقاطعة جزين، وما لبث معظم إقطاع قبلان القاضي أن تحول إلى صهره الشيخ علي جنبلاط مما جعل آل جنبلاط يقفزون إلى مرتبة متقدمة بين الأسر الحاكمة. وأقطع الأمير حيدر الشيخ علي النكدي الناعمة إضافة إلى مقاطعة المناصف التي كانت معه، والشيخ جنبلاط عبد الملك مقاطعة الجرد. وصاهر الأمير حسين أبا اللمع، وأقطع ابنه ما يُسمّىً «قاطع المتن». وأبقى الأسر الإقطاعية التالية في إقطاعاتها: آل الخازن في كسروان، وآل حبيش في غزير، وآل الدحداح في فتوح كسروان، وآل عازار في الكورة، وآل الضاهر في الزاوية. وهذا أوجد مجموعة من زعماء الصف الثاني متنافسة في ما بينها، تاركة المرتبة الأولى للأمير حيدر ثم لخلفه من ذرّيته. وكان للأمير حيدر حصّته، اذ احتفظ لنفسه بقرى بعقلين وبتلون وعماطور وعين داره ونيحا. وحاول أن يضع يده على كامل تركة قبلان القاضي بعد وفاته سنة 1712، لكن زعماء الدروز حالوا بينه وبين ذلك فاكتفى بأخذ مزرعة بحنين ومرج بسري وخمسة وعشرين ألف غرش مقابل التخلي للشيخ علي جنبلاط عن باقي ورثة عمه قبلان القاضي. وحذا خلفُ الأمير حيدر حذوه فغدوا من أصحاب الثروة والأملاك في جبل لبنان بعد أن كانوا لا يملكون شبراً من الأرض فيه.

من أبرز نتائج موقعة عين داره تصفية الحزب اليمني وانفراد القيسيين بالحكم

7. ضعف الموحدين الدروز: كانت السيوف التي تضاربت في موقعة عين داره، كما قبلها من مواقع القيسية مع اليمنية في جبل لبنان، سيوفاً درزية. وقد قضت فيها السيوف القيسية على اليمنية. وما خدم الدروز المنتصرون أنفسهم بهذا، وإنما أرضوا كبرياءهم وعصبيتهم الحزبية بنصر آني لا قيمة له إزاء خسارة إخوان لهم، وخسارة إمارة ما عاد في إمكانهم استعادتها بعد أن تخلوا عنها في اجتماع السمقانية وقضوا بأيديهم على محاولة استعادتها. وترافق الضعف السياسي للموحدين الدروز مع ضعفهم اقتصادياً وعددياً بسبب انصرافهم إلى الحرب، فيما كان مواطنوهم النصارى الوافدون من شمال جبل لبنان إلى جنوبه، يتكاثرون في منطقتهم، ويزدادون ثروة بسبب انصرافهم إلى العمل، فقاسموهم الملكية والثروة، ثم النفوذ والسلطة، مما أدى إلى تحوّلٍ كبير ساهم في إحداثه أيضاً تنصّر الأمراء الشهابيين واللمعيين، والتسامح الديني عند الدروز المناقض كلياً لتعصبهم القبلي والحزبي. ومن دلالات هذا التحول حلول تسمية «جبل لبنان» مكان تسمية «جبل الدروز» و”بلاد الدروز”. وحين استفاق الدروز من غفلتهم السياسية وجدوا أنفسهم أمام شريك قوي لهم في جنوب جبل لبنان، يفوقهم عدداً وثروة، ولا يقابلهم بسياسة مماثلة في التسامح، مما كان أحد أسباب الفتن الطائفية بينهم وبين النصارى في أواسط القرن التاسع عشر.
8. نزوح اليمنيين الدروز إلى جبل حوران: كان النزوح إلى جبل حوران في سوريا الخيار الأول لليمنيين من بين المناطق التي اضطروا للنزوح إليها، لأنه وفّر لهم الملجأ الأمين وسُبل العيش معاً، وإن كان وجودهم فيه سيضعهم أمام مواجهات صعبة مع البدو من سكانه. وهذه المواجهات انتصر فيها الدروز لأنهم متمرّسون في الحروب، وقد سبقتهم إلى جبل حوران جماعة درزية نزحت إليه في سنة 1685، وكانت تلك الموجة نواة لاستقطاب موجات تالية ثم استقطاب النزوح الكبير الذي نجم عن معركة عين داره سنة 1711.
غنيّ عن القول إن موجة النزوح الكبيرة التي تسببت بها معركة عين داره أدت إلى تزايد أعداد الدروز في جبل حوران، والذي سميّ لذلك باسمهم (أي”جبل الدروز”) وقد أسّسوا فيه زعامة على رأسها آل حمدان ثم آل الأطرش. وهذا التجمع الدرزي كان تعويضاً للدروز عمّا فقدوه في جهات حلب بفشل ثورة علي باشا جنبلاط سنة 1607، وعمّا فقدوه في جبل لبنان بعد موقعة عين داره سنة 1711، وكان لهذا التجمع شهرة كبيرة، ودور بارز في التصدّي للحكم المصري والحكم العثماني، ومساهمة كبرى في الثورات الاستقلالية ضد الفرنسيين، وأهمها الثورة السورية سنة 1925، التي انطلقت من جبل الدروز (جبل العرب) وأعلنها وقادها أحد رموز الموحدين الدروز، سلطان باشا الأطرش.

كلمة السواء

تجربة الضحى: تقييــــم أولــــــــي

الحمد لله أن أكثر ما يصلنا من ملاحظات حول مضمون الضحى يندرج في باب التجاوب الحماسي مع المجلة بصيغتها الجديدة والتفهم الواضح لرسالتها وللدور الذي بدأت تضطلع به في حياة الموحدين الدروز في لبنان والمنطقة، وكذلك في المغتربات القريبة والبعيدة. الشهادات أو الآراء التي تصلنا يومياً يمكن إيجازها بما يلي:

• إن المجلة وسيلة جمع لا تفريق: وهي أثبتت في نظر القرّاء أنها غير معنية بما يقسم الموحدين أو يضعف صفوفهم من الأهواء الشخصية أو الحزبية أو الولاءات المتنافرة، ومعنية فقط بما يجمع الشمل ويرتقي بالوعي ويعزز حصانة الأفراد والجماعة إزاء عوامل التفكك والانحلال الاجتماعي والأخلاقي، هذا التفكك الذي لا يهدّد فريقاً من الموحدين الدروز بعينه بل يهددهم جميعاً بغض النظر عن ولاءات كل منهم أو قناعاته أو اجتهاده السياسي، كما يهدّد الأسرة اللبنانية والعربية بغض النظر عن مشاربها أو معتقدها الروحي.

• إن المجلة غير سياسية ولا تتعاطى بالشأن السياسي: لقد ثمّن القرّاء عالياً واقع أن المجلة حافظت على الالتزام الذي قطعته منذ العدد الأول، وهي أنها ستعمل كوسيلة للثقافة والمعرفة ولن تكون منبراً للخوض السياسي. وقد اتفق معنا الجميع على أن من الأفضل، وبدل التلهي بالنظريات والتحليلات والثرثرة بغير علم، أن يقوم كل منا بما عليه لإصلاح شأنه وتقييم نفسه ومواجهة تقصيره، وأن تترك السياسة بشؤونها وشجونها لمن انتدبتهم العناية لتحمل مسؤولياتها وأوزارها.

• المجلة وسيلة للترقي الروحي والفكري والإنساني: وقد ثمّن القرّاء بالفعل كون المجلة جديدة وجدّية في مضمونها ومواضيعها، وليست منبراً للآراء والمحاولات الكتابية ولا تحتوي بالتالي على حشو أو مواضيع لا طائل منها أو فائدة للعموم.

• المجلة تتميز بتنوع واسع في اهتماماتها ومواضيعها: وهذا التنوع يعطي للقارئ وخصوصاً الجيل الشاب في المعاهد والجامعات الفرصة لتكوين ثقافة متكاملة وبناء الشخصية، كما أن تبويب المجلة يعكس فلسفتها في العيش الكامل والعودة إلى الجذور والتصالح مع الأرض وصونها وتثبيت الشباب في تاريخهم وقيمهم وتبصيرهم في ما يحدد شخصيتهم ورسالتهم ويميزهم بالتالي عن معاصريهم في الشرق أو الغرب.

• “الضحى” ليست برجاً عاجياً للثقافة: فهي توأم بين الجدية في المواضيع وبين سلاسة اللغة والأسلوب بما يجعل من السهل على جميع المستويات والأعمار من الناس قراءتها والإفادة منها، وهذه الميزة جعلت معظم الناس يرتاحون إليها ويقبلون على قراءتها بشغف وثقة.

هذه الخصائص في مجلة “الضحى” جعلت الناس يحرصون على الاستفادة من كل باب من أبوابها، وكثيرون أكدوا أنهم لا يتركون مقالاً أو زاوية في المجلة دون قراءة، بينما أعربت أمهات وربّات بيوت عن سعادتهن، إذ بات لديهن وسيلة للتثقيف وبناء الشخصية يمكن اعطاؤها لأبنائهن وبناتهن.
ومن الأمور الملفتة للإنتباه إقبال الكثير من السالكين في طريق التوحيد شباناً وشابات والعديد ممن يحضرون مجالس الذكر على توزيعها وتداولها والتحاور في مواضيعها، وقد كانت لبعض المواضيع أهمية خاصة في الإضاءة على الجذور التاريخية والإنسانية للتوحيد والغنى الاستثنائي للينابيع التي ينهل منها.
مع الطرافة لا التسلية
هناك ملاحظة لا بدّ منها في هذا السياق، وهي أننا وفي مقابل التأييد العام لنهج المجلة تلقينا من بعض الأصدقاء والقرّاء آراء تعتبر الضحى “جدية جداً” وتتمنى لو أننا ندخل أقساماً تسلي القارئ وتزيد من التنوع في أبوابها. وبالطبع، فإننا ننظر إلى تلك الاقتراحات وغيرها باهتمام وبانفتاح كامل لأننا ما زلنا مع هذا العدد الرابع في مرحلة تطوير واختبار وقد تكون نسبة كبيرة من المجلة قد استقرت الآن وباتت جزءاً من شخصيتها، لكن ما زال هناك متسع لإدخال المزيد من التحسين والتطوير. ونحن أدخلنا بالفعل في إطار الإضاءة على التراث أبواباً لا تخلو من الطرافة وإن كانت زاخرة أيضاً بالمعلومات والدروس، وهناك أفكار لإدخال وتطوير أقسام إضافية لكننا لن نفصل فيها في هذه العجالة.

“الضحى” في المكتبات
ابتداءً من هذا العدد الرابع سيتوقف التوزيع المجاني للمجلة، والذي استهدف في البدء إشعار الجمهور بالصيغة الجديدة التي صدرت بها واختبار هذه الصيغة والحصول على تقييم أولي من القرّاء. وقد أمكن الاستمرار في التوزيع المجاني للأعداد الأولى بفضل الدعم السخي لمجلس الأمناء الذي أعرب عن استعداده لدعم الاستمرار في التوزيع المجاني أعداداً إضافية. لكن المشكلة التي واجهتنا أخيراً هي عدم توافر عنصر التطوع بين الشباب بصورة كافية، الأمر الذي أثر على التوزيع وجعل قرى بكاملها أو أقساماً من القرّاء لا تحصل على المجلة وكانت الاتصالات الهاتفية تنهال على مندوبي المناطق وإدارة التوزيع يحتج فيها أصحابها على عدم الحصول على “الضحى” أو إصدار معين منها. وكان جميع المتصلين يسألون عن سبيل الاشتراك بالمجلة بحيث يضمنون الحصول عليها.
لذلك، وبعد تحليل الوضع وجدنا أن الوقت قد حان لطرح المجلة في الأسواق بصورة نظامية عبر شركة توزيع تغطي كافة أنحاء لبنان وخصوصاً مناطق الجبل. وهذا ما يحصل مع هذا العدد من “الضحى” الذي يمكن الحصول عليه من كافة المكتبات، كما سيمكن الحصول عليه أيضاً من مندوبين في بعض الأماكن مثل منطقتي حاصبيا وراشيا وعبر الاتصال بممثل “الضحى” في المناطق.

فتح باب الاشتراك
في الوقت نفسه تقرر فتح الباب لتقديم مساهمات الاشتراك والتبرعات التشجيعية للمجلة، وذلك على نوعين:
• تبرع اشتراك محدد يستهدف تأمين الحصول لسنة أو لسنتين على المجلة، والتي ستقوم شركة التوزيع بتوصيلها إلى عنوان المشترك بانتظام. ومن أجل ترتيب اشتراكات الدعم يرجى الاتصال بإدارة التوزيع والاشتراكات على الأرقام المبينة في صفحة المحتويات من هذه المجلة.
• تبرع دعم تشجيعي للمجلة يترك للإخوان في الوطن والمهاجر تحديده وفقاً لإمكاناتهم وغيرتهم، على أن يعود ريع هذه التبرعات لتطوير أعمال المجلة وتطوير نشاط النشر والأبحاث فيها.

الموقع الشبكي قريباً
الخطوة الكبيرة الإضافية التي باتت “الضحى” على أهبة اتخاذها هي إطلاق الموقع الشبكي للمجلة على الإنترنت بأبهى حلة ومع برمجة تتيح للقارئ في أي مكان في العالم الوصول إلى المجلة منذ العدد الأول وتصفح مواضيعها والتفاعل مع تلك المواضيع تعليقاً أو مساهمة. لكن الموقع الشبكي سيكون أكثر من أرشيف للمجلة، إذ سيتم تحديثه بصورة مستمرة عبر اقتراح نشر مساهمات القرّاء أو تعليقاتهم على المواضيع المنشورة، كما سيتيح الفرصة للمشاركة باستفتاءات رأي عبر الشبكة ستنظمها المجلة بغاية أخذ فكرة عن تفكير الشباب والقرّاء إزاء قضايا أساسية لها أثرها في حياة الجماعة ومستقبلها. وسيسمح الموقع الشبكي للقرّاء بمروحة واسعة من القراءات والاهتمامات وذلك عبر إضافة المواضيع والروابط المفيدة بما يجعل منه موقعاً شاملاً للثقافة والتراث والحياة الطيبة. ونحن نتوقع أن يتم إطلاق الموقع في النصف الثاني من شهر تشرين الأول المقبل، فتابعونا بعد ذلك التاريخ على الموقع الشبكي Dhohamagazine.org

هذا العدد

بعض الأصدقاء الذين تابعوا الأعداد الثلاثة الأولى من المجلة لم يترددوا في التساؤل عمّا إذا كان في الإمكان المحافظة على الزخم والنوعية الرفيعة من المعالجات والمواضيع التي احتوتها الأعداد الأولى. الجواب على تلك التساؤلات يقدمه هذا العدد الرابع من الضحى الذي يصدر بحجم أكبر (148 صفحة مقابل 132 صفحة للعدد السابق) وبتنوع أوسع وتغطية أشمل تمد اهتمام المجلة إلى مختلف النواحي التي تتعلق بها حياة الناس في هذه الفترة الصعبة والحساسة من تطورنا كمجتمع ومن التطور الإنساني عامة. على سبيل المثال، فإننا اخترنا لغلاف هذا العدد موضوعاً غير مسبوق هو كشف النقاب عن الزيف العلمي لنظرية تشارلز داروين في تطور الأجناس، وذلك بالاستناد إلى العلوم الحديثة ولا سيما علوم الأحافير والمتحجرات، والتي أثبتت بطلان نظرية التطور وهدمت أكثر ادعاءاتها ولا سيما الإدعاء بوجود أشكال انتقالية في الحياة داخل الأجناس الحية المختلفة. وجه الأهمية في تناول موضوع الداروينية هو التأثير الخطير الذي تمارسه هذه النظرية في تكوين عقول الشباب –  حتى عبر مناهجنا الدراسية – في اتجاه يقود في النهاية إلى التشكك وإلى الضياع في خضم النظريات المادية والإلحادية، والتي كانت دوماً الداعم الأول لنظرية داروين ومزاعمها الكثيرة.

من المواضيع المهمة التي تظهر النهج الصريح والموضوعي للمجلة هو تناول موضوع دور مشيخة العقل وتطوره خصوصاً بعد إصدار قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز سنة 2006، وكذلك التحقيق عن المؤسسة الصحية في عين وزين والذي تميّز بالصراحة والتناول المباشر للمسائل والتحديات التي تواجه هذه المؤسسة العريقة والمهمة في الحياة اليومية للناس.

نشير في هذا المجال إلى أن الضحى تحافظ على دورها الجامع كمجلة للتراث الروحي المشرقي والإنساني بصورة عامة بدليل التنوع الكبير في المصادر والاختبارات التي تعرضها، والتي تظهر أن الحقيقة واحدة وإن كان التعبير عنها يختلف باختلاف الشعوب وثقافاتها وظروفها ومراحل نموها. وعلى سبيل المثال، فقد أوردنا في هذا العدد ملفاً خاصاً عن الوصايا الفيثاغورسية، وهي تمثل أعلى مستويات الاختبار الروحي والأخلاقي في العصر الذهبي للفلسفة الإغريقية، كما أوردنا موضوعاً شاملاً عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي ومقالاً شاملاً عن الحكيم الشهير راماكريشنا الذي كان لشخصيته الفذة والجليلة أثر هائل ليس فقط داخل الهند بل في مختلف بلدان العالم أيضاً. وتضمّن العدد أيضاً مثالاً عن  الشاعر الفارسي الحكيم سنائي ومختارات من ديوان الصوفي الكبير أبو بكر الشبلي.

في هذه الأثناء حافظت المجلة على تركيزها المستمر على الأرض وأهمية التعلق بها كجزء من نمط حياة سليمة وصحية، وذلك عبر مواضيع تناولت التنمية الزراعية في الجبل وزراعة الزيتون والكستناء، كما تابعت أيضاً نشر الإرث الشعبي الغني والتعريف بالقرى اللبنانية وإرثها وفي الوقت نفسه التحديات التي تواجهها بسبب ما يسمى “التطور”.

تابعنا أيضاً التركيز على الطاقة المتجددة كبديل اقتصادي وغير ملوث في الكثير من الحالات للطاقة الناجمة عن حرق البترول ومشتقاته، وأوردنا بصورة خاصة إرشادات عملية حول سُبل الأخذ بالطاقة المتجددة وإدخال مزاياها في الحياة اليومية للبيت اللبناني.

وشهد العدد أيضاً إدخال باب عن البيئة وآخر عن الصحة والغذاء يستهدف التعريف بأفضل نظم الغذاء وبالمزايا الغذائية والطبية التي تشتمل عليها الكثير من أعشابنا المعروفة وغير المعروفة.

هذا وصف سريع أردنا منه إعطاء فكرة عن رؤية التحرير وتوضيح الغايات التي تصدر المجلة بهدف تحقيقها أو تحقيق بعضها. ولحسن الحظ فقد لاقت هذه الرؤية تأييداً واسعاً من القرّاء والأصدقاء، وهذا التأييد الحماسي هو ما نعوّل عليه الآن من أجل إنجاح طرح المجلة في الأسواق وعبر المكتبات، فضلاً عن إطلاق حملة اشتراكات الدعم والتي نأمل أن تحقق للمجلة ما يكفي من الموارد للاستمرار وكذلك لتطوير دورها ومساهمتها في ترقية مجتمعنا المعروفي العربي الإسلامي.

صورة من التراث

قلعة نيحا

صعتر لبنان غذاء ودواء

زعتر لبنان غــذاء ودواء

منشط للذاكرة مقو للقلب وعلاج مثالي للسعال والنزلة الرئوية
زيت الصعتر يقتل جرثومة الديزانتاري ويبيد جراثيم القولون

أفاضت كتب الطب القديمة في الكلام علن محاسن الصعتر (ويطلق عليه العامة اسم “الزعتر”) فأوصت به لعلاج الربو والروماتيزم ‏وضعف الأمعاء، وأوصت بمزجه مع العسل لإزالة البلغم وقطع البخر وتقوية البصر، كما تحدثت ‏عن قدرته على تحليل الأورام وتلطيف المغص والسعال، والصعتر ينتشر في زماننا في الصحاري والبراري كما ينتشر بصورة خاصة في جبال لبنان على علو قد يصل إلى 1500 متر فوق سطح البحر وقد كان الظن الشائع من قبل أن الصعتر لا يوجد على هذا العلو المرتفع، إلا أن التغيرات المناخية ربما ساهمت في امتداد الصعتر صعوداً في الجبال، وعلى سبيل المثال فقد وجد الصعتر مؤخراً على ارتفاعات تصل إلى 1500 متر في جبال المعاصر والباروك.
ويوجد الصعتر بأنواع عديدة إلا أن الأكثر شيوعاً في لبنان هو الصعتر البري الطويل الساق (ويسمى الزوباع) واسمه العلمي Origanum Syriacum والذي يستخدم في صنع خلطات الصعتر مع السمّاق والسمسم وتصنع منه “المنقوشة” ومنه الصعتر البري ذو الأوراق الصغيرة الشديدة الخضرة والمستدقة ويسمى صعتر “الدقه” ويُعرف بإسم (Thymbra Spicata) وهو يستخدم غالباً أخضر في موسمه وقد يتم تجفيفه ليضاف إلى الصعتر الشائع بهدف إغناء طعم الأخير. وهناك الصعتر البستاني طويل الأوراق الذي يزرع مروياً ويستخدم في المطاعم وفي السلطات كما أن منه أيضا الصعتر الأوروبي العطر الذي يحمل اسم (origanum vulgare) ويزرعه الأوروبيون في حدائقهم ويستخدمونه في التوابل وفي إنتاج مشروبات طبية، وهنا نوع آخر لذيذ وذو رائحة عطرية فواحة يسمى بالإنكليزية Thyme واسمه العلمي Thymus Vulgaris وهو أيضاً من التوابل أو أعشاب المطبخ المشهورة في بريطانيا وأوروبا. وأعجب ما في الصعتر أنه لا يصيبه التسوّس بل من فوائده انه يحفظ الفواكه والخضروات والحبوب من الآفات.

صفات الصعتر
الصعتر أو الزعتر أو السعتر (كما يرد في بعض المعاجم) هو نبات مشهور من الفصيلة الشفوية، وشجيرة الصعتر معمرة عطرية كثيرة الفروع تكوّن كساء للأرض البرية منها تعلو إلى حوالي 30 سم، أما الشائع الطويل الساق منه فيمكن أن يصل ارتفاع الشجيرة فيه إلى 70 سم أو أكثر. ‏وأزهار الصعتر البري وردية أو أرجوانية تزهر منتصف الصيف، ولها رائحة عطرية قوية وطعمها حار أما الصعتر الشائع الطويل الساق فأزهاره بيضاء وكثيفة وتتحول عند النضج إلى عصيات خضراء على بنية تحمل بذور الصعتر الدقيقة ذات اللون البني الغامق الذي ينتشر مع الريح ويساهم بالتالي في انتشار النبتة في البراري.

الجزء الطبي المستخدم منه
تستعمل من نبتة الصعتر الأجزاء فوق الأرضية، أي الجذع والأوراق والأزهار حيث تستعمل طعاماً وشراباً (مغلي الصعتر ومنقوعه)، كما تستخرج منها الزيوت والعقاقير الطبية والمقطرات.

الصعتر ومكوناته الحيوية
في نبتة الصعتر زيوت طيارة أهمها (الثيمول Thymol) وهي مادة مطهرة ومضادة للبكتيريا وطاردة للطفيليات من المعدة وينفرد الثيمول برائحة مميزة وطعم حاد، وهناك مادة في الصعتر تسمى (الكارفكرول) وهي مسكنة ومطهرة ومدرة للبول وطاردة للبلغم ومضادة للسموم، ومادة (التانين) وهي مادة قابضة ومطهرة وكذلك تساعد على شفاء الجروح، كذلك يحتوي الصعتر على بعض المواد الراتنجية والدباغية والفلافونية والأحماض العضوية، كما أنه الصعتر غني بالألياف الغذائية الضرورية لصحة الجهاز الهضمي، وفي الصعتر مواد مقوية للعضلات تمنع تصلب الشرايين وطاردة للأملاح الضارة.

بعض ما قيل في الصعتر قديماً
يقول ابن سينا عن الصعتر: “الصعتر مدر للطمث عند النساء كما انه يساعد على علاج التشنج والنزلات المخاطية المزمنة، وهو مقوي للمعدة مفيد لعلاج الربو وضعف الشعب الهوائية والاحتقانات الناشئة عن البرد”.
وقال عنه ابن البيطار: “الصعتر يبطل السموم ويحلل الرياح وينشط الأعصاب ويفرح القلب ويقويه ويطهر الدم وينقيه.”

فوائد الصعتر
ثبت علمياً أن زيت الصعتر يقتل الجرثومة المسببة للديزانتاري خلال دقيقتين ويبيد جراثيم القولون ويهلك جرثومة التيفوس ويقضي على ميكروب السل خلال ساعة ونصف وانه يقي من الوباء متى استعمل مع الثوم وحبة البركة والعسل ويقوي المناعة المكتسبة، والكثير الكثير من الفوائد التي يتفرد بها الصعتر والتي يمكن إيجاز الأهم منها فيما يلي:

علاج أمراض الجهاز التنفسي والدوري
مثل السعال الديكي والالتهابات الشعبية والربو وفي هذه الحالة يعمل الصعتر على تليين المخاط الشعبي مما يسهل طرده للخارج كما يهدئ الشعب الهوائية ويلطفها، وكذلك يحتوي على مواد لها خاصية مسكنة للألم ومطهرة ومنشطة للدورة الدموية، وينشط الصعتر عامة كل الوظائف المضادة للتسمم، ويسهل إفراز العرق، ويدر البول، والصعتر يحتوي على مواد مقوية للعضلات مثلاً عضلات القلب، تمنع تصلب الشرايين، يعالج التهابات المسالك البولية والمثانة ويشفي من مرض المغص الكلوي ويخفض الكولسترول.

رسم علمي تفصيلي لنبتة الصعتر الشائع
رسم علمي تفصيلي لنبتة الصعتر الشائع

فاتح للشهية
الصعتر يعمل على تنبيه المعدة وطرد الغازات ويمنع التخمرات ويساعد على الهضم وامتصاص المواد الغذائية وطرد الفطريات من المعدة والأمعاء إلى جانب أنه يزيد الشهية لتناول الطعام فهو يحتوي على مادة الثيمول التي تعمل على قتل الميكروبات وتطرد الطفيليات من المعدة، أضف إلى ذلك أن الصعتر ملطف للأغذية وإذا وضع مع الخل لطّف اللحوم وأكسبها طعماً لذيذاً، وهو طارد للديدان وقد أثبتت التجارب العلمية أن زيت الصعتر يقتل الجرثومة المسببة للديزانتاري في فترة قصيرة وهو يبيد جراثيم القولون، ويزيد في قوة الجسم لأنه يساعد على الهضم وامتصاص العناصر الغذائية لكن الإكثار من الصعتر قد يسبب الإمساك عند البعض ولذلك فإن من المفضل تناوله مع زيت الزيتون.

مضاد للأكسدة
الصعتر يحتوي على مواد مضادة للأكسدة وهو بهذا المعنى من العناصر المهمة التي يجب المداومة عليها من أجل الإبقاء على حماية الجسم .

منبّه للذاكرة
يمكن تناول الصعتر مع زيت الزيتون صباحاً وقبل الذهاب إلى المعهد أو العمل لأن الصعتر منبه للذاكرة ويساعد على سرعة استرجاع المعلومات المختزنة وسهولة الاستيعاب، ويدل ذلك إلى أن الأهل كانوا على صواب عندما كانوا ينصحوننا بتناول الصعتر قبل الدرس أو التوجه إلى المدرسة.

العناية بالشعر واللثة ووجع الأسنان
يعتبر الصعتر منشطاً ممتازاً لجلدة الرأس وهو يمنع تساقط الشعر ويكثفه وينشطه، ومضغه ينفع في وجع الأسنان والتهابات اللثة خاصة إذا طبخ مع القرنفل في الماء، ثم ينصح بالتمضمض به بعد أن يبرد، كما انه يقي الأسنان من التسوّس وخاصة إذا مضغ وهو اخضر غض، فنبات الصعتر عامل مهم في معالجة التهابات الحلق والحنجرة والقصبة الهوائية ويعمل على تنبيه الأغشية المخاطية الموجودة في الفم ويقويها، و يدخل الصعتر في معاجين الأسنان فهو يطهر الفم و ومضغه يسكّن آلام الأسنان.

الاستعمال الخارجي
يوصى باستعمال الصعتر كلما دعت الحاجة إلى تنظيف وتطهير الجروح والقروح والمهبل في حال ظهور السيلان الأبيض، ويستعمل الصعتر أيضاً كدواء خارجي، فهو يريح الأعصاب المرهقة، وإذا ما أخذ المرء حماماً معطراً من مغلي قوي للصعتر، كانت له فائدة كبيرة، كما أن الأطفال المصابين بالكساح يجدون فيه مقوياً ناجحاً، وهو شديد الفاعلية، باعتباره مهدئاً للآلام الروماتزمية، والنقرس، والتهاب المفاصل، وهو يتيح تحضير مغاطس مقوية تكثر التوصية باستعمالها للأطفال الذين يعانون من ضعف النمو والهزال، وإضافة (50) غراماً من الصعتر إلى أربعة لترات من الماء والاغتسال بها يزيل التعب العام، ويخفف آلام الروماتيزم، والمفاصل، وعرق النسا.

صعتر-الدق---الرفيع---2
صعتر-الدق—الرفيع

الصعتر زراعة سهلة واقتصادية

يستهلك لبنان حوالي 1500 طن من الصعتر ويصدر 500 طن أخرى في السنة، لكن الطلب المتزايد على الصعتر وارتفاع أسعاره في السوق بدأ يدفع بعدد كبير من اللبنانيين لجنيه من البراري وغالباً دون مراعاة شروط أساسية تضمن الحفاظ على النبتة الأم وبالتالي ضمان استدامة هذه العشبة الثمينة بكل معنى الكلمة. وبالنظر للمخاطر المتزايدة المتمثلة في الجني الجائر للصعتر فقد بدأت مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في لبنان ومنذ العام 1997 تجارب أظهرت أن في الإمكان استنبات بذور الصعتر في أي وقت، كما يمكن تأسيس مشاتل لإكثاره. وبينت الدراسات نفسها أن مردود الدونم الواحد من الصعتر في السنة الثالثة أو الرابعة يمكن أن يصل إلى حوالي 3500 دولار أميركي مما يجعل منه زراعة ذات مردود اقتصادي مرتفع، كما أن تكلفة إنتاج الصعتر متدنية وهو من الزراعات التي لا تحتاج إلى ري إلى في السنوات الأولى ويمكن أن تزدهر بعد ذلك بعلية ولا تتطلب صيانة أو معالجات بسبب ندرة المشاكل أو الآفات التي يتعرض لها.
ويستهدف برنامج مصلحة الأبحاث الزراعية لتعميم زراعة الصعتر في الأراضي الحقلية تحقيق هدفين في آن: الهدف الأول هو المحافظة على قدرة المساحات البرية على تجديد مواردها وغطائها من الصعتر والأعشاب العطرية أو الطبية التي تزخر بها طبيعة لبنان. أما الهدف الثاني فهو خلق شروط تسمح بتغطية الطلب المتزايد على الصعتر وغيره من النباتات الغذائية والطبية دون أن يؤدي ذلك إلى استنزاف المساحات البرية وتعريتها.
ويؤكد الخبراء أن توطين الصعتر البري يمكن أن يشكل زراعة بديلة ذات نظرا لكونه من”الزراعات المكثفة” أي التي يمكن أن تنتج كميات كبيرة في مساحات صغيرة نسبياً، وبالتالي فهي زراعة مناسبة للبنان الذي لا يتمتع بمساحات زراعية كبيرة كما يتميز بهيمنة الملكيات الصغيرة ومن العناصر المهمة في الجدوى الاقتصادية للصعتر هو استخداماته المتعددة لأنه يستهلك كغذاء بل هو مكون أساسي من “مونة” البيت ليس في لبنان فحسب بل في مختلف الدول العربية المجاورة، كما أنه يعتبر أيضاً عشبة ذات خصائص طبية وعلاجية فضلاً عن فائدته الكبيرة في المكافحة البيولوجية للآفات الزراعية. وقد أظهرت الأبحاث الأخيرة أن الصعتر مفيد جداً في مكافحة مرض الفارّوا (Varroa) الذي يعتبر من أولى الآفات التي تفتك بجماعات النحل.

زراعة الكستناء في الجبل

زراعة الكستناء في الجبل

معدل إنتاج شجرة الكستناء المتوسطة الحجم
قد يصل إلى 150 كلغ في حالة التلقيح الكامل

الصين أكبر منتج للكستناء في العالم
واستيراد لبنان يزيد على 3200 طن سنوياً

تحب الماء وتحتاج إلى معدل أمطار سنوي لا يقل عن 800 ملم
وعدم ريها قد يضرها ويؤدي إلى جفاف وتساقط العديد من ثمارها

تتابع “الضحى” في هذا العدد تسليط الضوء على الزراعات الاقتصادية التي يمكن تطويرها في الجبل والتي يمكن أن تشكّل أساساً لمردود اقتصادي مجز للمزارع ومدخلاً لإحياء الاقتصاد الزراعي والإنتاجي وإعادة الاعتبار للأرض كمصدر لإعالة الأسر وتأمين استقرار المواطنين في قراهم. لقد بينا في السابق أن تراجع الاقتصاد الزراعي يعود إلى أسباب منها هيمنة الملكيات الصغيرة وعدم وجود خطة لدعم الزراعة وضعف الإرشاد والدعم بالخبرات، لكننا شدّدنا أيضاً على أن تراجع الجدوى الاقتصادية للزراعة يعود أيضاً إلى ضعف الاستثمار والاقتصار على عدد من “زراعات الكفاف” وغياب نشاطات البحث والتطوير وعدم استكشاف أصناف جديدة يمكن أن تكون أكثر جدوى وملاءمة للمناخ وللشروط الجغرافية والطبيعية، وأوردنا في الأعداد السابقة أبحاثاً حول زراعة الأصناف الجديدة من التفاح وزراعة الكيوي باعتبارهما من البدائل الواعدة اقتصادياً ، ونحن نورد في هذا العدد بحثاً عن زراعة الكستناء التي يمكن اعتبارها من الزراعات الاقتصادية التي توفّر للمزارع مردوداً طيباً مع أقل قدر ممكن من المعاملة أو الصيانة.

منشأ الكستناء
إختلفت الآراء حول الموطن الأصلي لأشجار الكستناء، إلا أننا نعلم أنها استخدمت كغذاء أساسي منذ أكثر من 400 عام قبل الميلاد في اوروبا، وهي وجدت في المنطقة الشمالية من الكرة الأرضية خاصة في أوروبا والصين واليابان وشمال القارة الأميركية. أما في يومنا الحاضر فإن زراعة أشجار الكستناء تزدهر في مناطق عديدة حول العالم نظراً لفوائدها الغذائية والاقتصادية، إذ أن شجرة الكستناء تثمر بصورة منتظمة في كل سنة اعتباراً من عمر 25 سنة إذا كانت الأشجار من أصل بذرة ومن دون تطعيم وابتداءً من 4 سنوات إذا كانت الأشجار مطعمة من الصنف الأوروبي الاقتصادي (Castanea sativa).
وتعتبر الكستناء من الأشجار المعمّرة المتوسطة العلو الى المرتفعة، وهي تعيش بصورة طبيعية في المناطق الجبلية متوسطة الارتفاعات والتي يزيد ارتفاعها على 600 متر عن سطح البحر وتتحمّل أشعة الشمس والحرارة العالية، كما تتحمل الصقيع والثلوج في فترة السكون. وشجرة الكستناء تعطي انتاجاً افضل في المرتفعات التي يكون شتاؤها بارداً، وتعتبر من الأشجار النافرة للكلس، إذ لا تناسبها الأتربة الغنية بكربونات الكالسيوم والتي تقترب فيها نسبة الكلس الفعّال من 2 إلى %3.

خصائص الشجرة
تتصف أشجار الكستناء بشكلها الجميل وبحجمها الكبير بحيث يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 30 متراً كما أنها شجرة معمّرة يمكن أن تعيش لآلاف السنين اذا زرعت في بيئة ملائمة من حيث عمق وخصوبة التربة والري والمعاملة، وهي ذات أغصان منبسطة، قشرتها ملساء، الأوراق بسيطة متبادلة ذات عنق قصير، بيضوية الشكل متطاولة يصل طولها الى 25 سم ذات أسنان كبيرة. لون الوجه السفلي للأوراق أخضر غامق، أما البراعم فضخمة مروَّسة ملساء وتنمو الأزهار المذَّكرة بشكل نورات خيطية و طويلة لونها أصفر فاقع، أما الأزهار المؤنثة فهي بدون عنق و تقع عند قاعدة الأزهار المذكرة.
لا تعطي أشجار الكستناء إنتاجها منفردة لأنها بحاجة إلى ملقح مساعد، وفي الماضي كانت أشجار الكستناء تعرف بكونها تحتاج إلى جنسين: أنثى وذكر. لكن في الواقع، شجرة الكستناء تحمل اعضاء التذكير والتأنيث معاً انما تحتاج لمساعدة اضافية للتلقيح من اشجار اخرى. أما التلقيح فيتم بواسطة النحل والهواء. الثمار كبيرة (قطرها 5 – 11 سم) ذات غلاف خشبي قاسي بني اللون ومحاطة بالقنّاب ذي الزوائد الشوكية والذي ينفتح بواسطة مصراعين أو أربعة، يتراوح عدد الثمار داخل كل قناب من 7-1. اشجار الكستناء متساقطة الأوراق، مقاومة للجفاف والرطوبة والآفات الزراعية نوعاً ما. تشبه بعض الأشجار الحرجية التي تحمل ثماراً غير صالحة للأكل وبعضها سام للإنسان.

أصناف الكستناء
تنتمي شجرة الكستناء الى مجموعة أشجار الجوزيات مثل البندق والفستق الحلبي واللوز والجوز والبلوط، وتتميز ثمارها بغلافها الخشبي. وهي تتوزّع على 4 أصناف رئيسية: الأوروبية والصينية واليابانية والأميركية.
• الفصيلة الأوروبية: الكستناء الحلوة (Castanea Sativa) والمعروفة ايضاً بالكستناء الإسبانية وهي الصنف الوحيد في أوروبا. وتمّ ادخاله بنجاح الى الهملايا ومناطق اخرى من آسيا.
• لفصيلة الآسيوية: الكستناء اليابانية (Castanea Crenata)، الكستناء الصينية (Castanea Mollissima)، (Castanea Davidii)، (Castanea Henryi) المعروفة ايضاً (Chinese Chinkapin) و(Castanea Seguinii).
• الفصيلة الأميركية: (Castanea Dentata)، (Castanea Pumila)، (Castanea Alnifolia)، (Castanea Ashei)، Castanea Floridana) و(Castanea Paupispina).

المتطلبات البيئية
الحرارة: تحتاج أشجار الكستناء الى فترة سكون وراحة في فصل الشتاء لا تقل عن أربعة اشهر يرافقها صقيع وثلوج وانخفاض في درجات الحرارة الى اقل من 5 درجات مئوية فوق الصفر وهي تتحمل درجة حرارة منخفضة حتى 30 درجة مئوية تحت الصفر. أما في فصل الربيع عند مرحلة انفتاح البراعم والتفريع (الطرود) فتتأثر الشجرة بالحرارة المتدنية والصقيع على الرغم من أن الكستناء من الاشجار التي تتأخر في تفتح البراعم الخضرية ومن ثم البراعم الثمرية، كما انها تنمو وتنتج بشكل أفضل في السنين الحارة صيفاً.
التربة: تنمو أشجار الكستناء في التربة العميقة والغنية بالمواد الغذائية ذات نسبة رطوبة مرتفعة نسبياً، الجيدة الصرف والقليلة الحموضة أي بمعدل حموضة 5.5 – ph 6.0، والرملية أو الطميية أو الصوانية.. أما الاتربة التي لا ينمو فيها الكستناء فهي الكلسية والقلوية والقليلة العمق.
الضوء: تحتاج اشجار الكستناء الى أشعة الشمس المباشرة مما يعني إنتاجاً اكثر. فهذا يدل على أن زراعة هذه الشجرة يجب أن تكون متباعدة نسبياً. فالاشجار القريبة من بعضها البعض لدرجة تشابك الاغصان تمنع وصول أشعة الشمس وبالتالي لا إنتاج. وان كان لا بدّ من زرع الاشجار متقاربة، فيجب تقليمها بشكل كثيف أو حتى إزالة شجرة بعد فترة.
الري: اشجار الكستناء محبة للمياه، تحتاج إلى معدل أمطار سنوي لا يقل عن 800 ملم. اما في المناطق التي لا يصل تساقط الامطار الى هذا المعدل، فيجب ريها في فصل الصيف، فتستجيب وتنمو بشكل أفضل ولا سيما ريها عبر نظام الري بالتنقيط لتشجيع نمو الجذور. ان نقص المياه عن شجرة الكستناء يضر النبتة بشكل عام والثمار خاصة بحيث تؤدي إلى جفاف وتساقط عدد لا يستهان به من ثمارها، وبالتالي يفقدها نضارتها وجودتها ويجعل من الصعب تسويقها تجارياً. والكمية التي تحتاجها اشجار الكستناء خلال شهري تموز وآب حوالي 30 الى 50 لتراً خاصة الأشجار الحديثة الزرع كي تكوّن مجموع جذري يستطيع مقاومة الجفاف.
إكثار الكستناء
تتكاثر الكستناء بطرق عديدة أهمها:
• البذرة (حبة الكستناء): تزرع بذور الكستناء في شهري كانون الثاني وشباط ضمن أوعية خاصة أو في المشاتل على خطوط. تصبح في العام الثاني جاهزة للتطعيم بالأصناف المرغوبة اقتصادياً لأن الاشجار الناتجة عن البذرة تبدأ بالانتاج بعد 25 عاماً.
• التطعيم: يتم تطعيم نبتة الكستناء بالرقعة او بالعين خلال شهري حزيران وتموز.
• العقل: تؤخذ العقل من أشجار معروفة بانتاجها الوفير ونموها الجيد ومقاومتها للآفات والجفاف ومرغوبة اقتصادياً في فصل الربيع من فروع العام السابق بطول 25 الى 35 سم، تغمس الجانب السفلي بهرمون التجذير وتزرع في الأوعية المجهزة.

تقليم الكستناء
لا تحتاج الاشجار المغروسة بشكل منتظم حسب المسافات (8 – 10 م) تقليماً جائراً. وتقتصر عملية التقليم على إزالة الفروع والأغصان المتزاحمة والمتشابكة والمريضة أو التي تكسرت من جرّاء تراكم الثلوج عليها.

يمكن لشجرة الكستناء تحمّل درجة حرارة حتى 30 درجة مئوية تحت الصفر وهي تنتج بشكل أفضل في السنين الحارة صيفاً

شجرة الكستناء معمرة ويمكن أن يزيد ارتفاعها على عشرين متراً
شجرة الكستناء معمرة ويمكن أن يزيد ارتفاعها على عشرين متراً

تسميد الكستناء
إن تغذية أشجار الكستناء ضرورية خاصة الأسمدة العضوية على أنواعها مثل السماد الحيواني المخمّر (روث الأبقار والماعز والخيل الأغنام والدواجن، والأسمدة النباتية: (النباتات القرنية- فول، عدس، حمص، بازيلاء، الباقي والبرسيم). والتي تثبّت الآزوت الجوي بواسطة الدرنات البكتيرية الموجودة على جذورها.

لا حاجة للأسمدة الكيماوية في زراعتها
من المفضل تسميد الكستناء بالأسمدة العضوية قبل الشتاء أي مرحلة الإزهار تحرث الأرض وتخلط هذه النباتات معها لأنها تكون درناتها مشبّعة بالآزوت المفيد جداً للنبات خاصة للنمو الخضري، وتساهم أوراق الأشجار والحشائش وبقايا مصانع الأوراق والأخشاب (نشارة)، تساهم جميعها في الحفاظ على رطوبة التربة وتكاثر الكائنات الحية الدقيقة (البكتيريا الايجابية) التي تُفكِّك وتحلل وتحوّل المواد الغذائية لامتصاصها من قبل جذور الأشجار. توضع هذه الأسمدة خلال فصل الخريف حول جذع الشجرة على مسافة متوازية مع تفرع اغصانها في خندق يحفر بعمق 20 سم ليصبح هذا السماد قريباً من الشعيرات الماصة لجذور الشجرة وفي متناولها. اما استخدام الأسمدة الكيماوية فغير ضروري، لكن إذا كانت الأرض فقيرة بعض الشيء يضاف إليها القليل من الـNPK 20-20-20 (الآزوت – الفوسفات – البوتاس) الذوابة توضع مع مياه الري بالتنقيط، أما حاجة شجرة الكستناء المتوسطة الحجم وبعمر حوالي 40 عاماً من هذا السماد فهي 500 غرام تقريباً. لكن بعد ثلاث سنوات من الغرس لا تحتاج لأكثر من 100 غرام منه.

آفات الكستناء
أهم الأمراض التي تعتري أشجار الكستناء هي التالية:
1. لفحة الكستناء يسببها فطر يدعى (Cryphonectria
Parasitica).
2. الحشرات: وأولها دودة الثمار التي تسببها خنفساء تدعى
(Curculio Elephas).
3. حشرات العِثّ التي تصيب الأوراق والفروع.

مكافحة آفات الكستناء
حتى تاريخه لا توجد مكافحة خاصة بأشجار الكستناء لأن غالبية الشتول والنصوب المستوردة من الخارج أوروبية المنشأ وهي مقاومة لتلك الآفات، لذا ننصح بغرس الصنف الأوروبي لأنه مقاوم للجفاف ويتأقلم مع طبيعة بلادنا وتربتها.

الصنف الأوروبي أفضل لأنه مقاوم للجفاف والآفات ويتأقلم بسرعة مع طبيعة بلادنا وتربتها
الصنف الأوروبي أفضل لأنه مقاوم للجفاف والآفات ويتأقلم بسرعة مع طبيعة بلادنا وتربتها

آفات الكستناء
أهم الأمراض التي تعتري أشجار الكستناء هي التالية:
1. لفحة الكستناء يسببها فطر يدعى (Cryphonectria
Parasitica).
2. الحشرات: وأولها دودة الثمار التي تسببها خنفساء تدعى
(Curculio Elephas).
3. حشرات العِثّ التي تصيب الأوراق والفروع.

مكافحة آفات الكستناء
حتى تاريخه لا توجد مكافحة خاصة بأشجار الكستناء لأن غالبية الشتول والنصوب المستوردة من الخارج أوروبية المنشأ وهي مقاومة لتلك الآفات، لذا ننصح بغرس الصنف الأوروبي لأنه مقاوم للجفاف ويتأقلم مع طبيعة بلادنا وتربتها.

إنشاء بستان الكستناء
البنية الأساسية: بعد اختيار الموقع المناسب لزراعة الكستناء من حيث صلاحية الأرض للزرع (بحيث لا تميل إلى التربة الكلسية) كما ذكرنا سابقاً في المتطلبات البيئية من التربة العميقة الجيدة الصرف والغنية بالمعادن والمواد الغذائية، قرب الأرض من طريق زراعية أو يتم شقها لتسيهل الأعمال الزراعية (حراثة، تسميد، شبكة ري، قطاف المحصول) أو تأهيل نبع مياه او إنشاء بركة لتجميع مياه الشتاء (بركة ترابية أو تصنع من الإسمنت).
مواعيد النقب: تنقب الأرض خلال الفترة الممتدة بين شهري آب وأيلول، بعد تدني نسبة الرطوبة في الأرض، وقبل هطول الأمطار لضمان عدم استمرارية النباتات البرية وعدم تكتل التربة في حالة الرطوبة المرتفعة. تنقب الأرض على عمق 90 الى 120 سم، تنظف من الصخور والأحجار الكبيرة الحجم (لانشاء الجدران او للإستفادة منها في أغراض أخرى (كاستخدامها لتحديد الأرض أو بيعها) والنباتات وجذور الاشجار البرية الكبيرة ان وجدت، انشاء الجدران في حال كانت الأرض منحدرة. تحرث الأرض بواسطة الجرار (سكة جنزير) حراثة متوسطة على عمق حوالي 45 سم. تساعد هذه الحراثة على رفع ما تبقى من أحجار متوسطة وصغيرة الحجم وتسوية سطح التربة نوعاً ما، ثم تفرم بواسطة الفرامة (العزاقة) لتكسير وتنعيم وتسوية سطح التربة.
تخطيط الأرض: يتم تقطيع أو تقسيم الأرض إلى خطوط وتحديد موقع الغراس مع الأخذ بالإعتبار المسافة بين الشجرة والأخرى وبين الخط والخط. إن افضل وانسب الأشكال الهندسية لزراعة الاشجار المثمرة بشكل عام هي المثلث والمربع. فإذا كان الشكل المعتمد من قبل المزارع “المربع”، نأخذ نفس المسافة بين الشجرة والاخرى وبين الخط والآخر من 8 الى 10 امتار، في الصنف الاوروبي. اما اذا كان الشكل “المثلث” والمفضل والذي يتسع الى عدد أكبر من الأشجار، تبقى المسافة بين الشجرة والأخرى نفسها بينما تنخفض المسافة بين الخط والآخر الى أقل من ذلك أي من حوالي 6 الى 8 امتار. تحفر الجور في المكان المحدد لها على عمق 50 سم وعرض 50 سم، ويوضع 2 كلغ تقريباً من السماد العضوي المخمر في قاع الحفر بالإضافة الى حوالي 100 غرام من السوبر فوسفات الثلاثي وخلطها مع التراب في قاعها.
غرس الأشجار: تغرس أشجار الكستناء في الحفر المهيئة على ان تكون مستقيمة ويجب ان تكون منطقة الإلتحام (الإتصال) بين الأصل (المطعم عليه) والمطعوم على مستوى سطح التربة حتى نمنع حدوث انبات فروع من الأصل اذا ما كان مرتفعاً عن سطح التربة، وعدم السماح للطعم من انبات الجذور اذا ما طمرت منطقة الطعم تحت سطح التربة، ويؤدي ذلك الى عدم مقاومتها للأمراض والجفاف وعدم قدرتها على تكوين مجموع جذري كبير.

جوزة الكستناء قبل تفتحها عن حبات الكستناء الثمين
جوزة الكستناء قبل تفتحها عن حبات الكستناء الثمين

إنتاجية أشجار الكستناء
تتميز اشجار الكستناء بغزارة انتاجها، اذ يصل معدل انتاج الشجرة الواحدة متوسطة الحجم الى حوالي 150 كلغ في حالة التلقيح الكامل، وتنخفض الانتاجية كثيراً في الاشجار التي لا تزورها حشرات النحل لعدم تلقيحها.
وتعتبر ايضاً شجرة الكستناء، بالإضافة لكونها شجرة مثمرة، شجرة خشبية إنتاجية. فخشبها يشبه خشب البلوط غير أنه يختلف عنه بكون الأشعة الخشبية عند الكستناء تكون رفيعة جداً بدلاً من أن تكون سميكة، لذلك يصلح خشب الكستناء لصنع الركائز وبعض المنازل والمزارع الصغيرة والبراميل الخشبية التي تستعمل في تخمير الكحول وألواح الخشب المضغوط. يتم زرع الكستناء أيضاً كشجرة لتشجير الأراضي بشكل أسيجة، أو تُزرع حول الحقول كصادات للرياح، أو تُزرع بشكل مجموعات ضمن الغابات الحرجية نظراً لمقاومتها للحرائق.

الفوائد الغذائية والطبية
تعدّ ثمار الكستناء مصدراً غذائياً مهماً وهي لا تقل أهمية من حيث القيمة الغذائية عن القمح و الذرة. فقد كانت تسمى “أكل الفقراء” واعتمدت قبل اكتشاف البطاطا وطحين القمح كمصدر اساسي للكربوهيدرات Carbohydrates وكانت تقدم حتى على موائد الملوك. وتتميز الكستناء عن غيرها من المكسرات بأنها قليلة الدهون، وذات محتوى عال من النشاء وحلوة المذاق، ويمكن تناولها كطبق جانبي بنكهة خفيفة إما مسلوقة أو مشوية، كما كانت تؤكل كحلوى بعد أن تغمر بماء الورد أو بالنبيذ (في ايطاليا) وغالباً ما تتم اضافة الكستناء الى الحساء او حشوات الطعام والكاتو وتتواجد ثمارها بشكل كبير وطازج في فصل الشتاء، إلا ان هناك أنواعاً مقشرة ومعلّبة على مدار العام.
تحتوي ثمار الكستناء الطازجة على حوالي 180 سعرة حرارية (800 كج) لكل 100 غرام من الأجزاء الصالحة للأكل، وهذا أقل بكثير من الجوز واللوز والمكسرات الأخرى (التي تحتوي حوالي 650 إلى 700 Kcal بكل 100 غرام). ولا تحتوي الكستناء على الكوليسترول بل على القليل من الدهون غير المشبعة في معظمها، كما لا تحتوي على الغلوتين (مادة بروتينية موجودة في الدقيق تسبب حساسية لدى بعض الناس). وتتميز منفردة بين مجموعة الجوزيات باحتوائها على 40 ملغ من فيتامين “س” بكل 100 غرام. (عند استهلاكها نيئة)، وهي تحتفظ بـ 60 % من الفيتامين بعد شيّها. ويعود حفظ الكستناء للفيتامين “س” رغم تعرضها للنار لقشرتها السميكة التي تمنع التقاء لبها بالهواء وبالتالي تأكسدها، وتحوي الكستناء على ضعف نسبة النشاء التي تحتويها البطاطا وحوالي 8 % من السكريات المختلفة أهمها: السكروز، الغلوكوز، الفركتوز، وكميات قليلة من الرافينوز والستاشيوز.
وتحتوي الكستناء على نسب لا بأس بها من الأملاح المعدنية كالصوديوم والكالسيوم والكلور والمغنيسيوم والكبريت والبوتاسيوم، وهي في ذلك من أكثر النباتات التي تحتوي على هذه الأملاح. ونظراً لهذه الخاصية فإن الكستناء تعتبر غذاءً جيداً للأطفال بما تحتويه من العناصر الغذائية الضرورية، كما أن البوتاسيوم يوجد بكمية تعادل ضعف ما يحويه القمح.
وهناك كثيرون يشكون من أن الكستناء صعبة الهضم، وإنها تسبب لهم الانتفاخ والتجشؤ والغازات.
حقيقة الأمر أن الكستناء صعبة الهضم فعلاً بسبب احتوائها على النشاء بنسبة عالية جداً. ومن المعروف أن الطبيعة تقدّم لنا النشاء بصورة معقدة، لا نستطيع الإستفادة منها إلا إذا حولناها إلى مواد أقل تعقيداً، وتقوم عادة مادة البتيالين الموجودة في لعاب الإنسان بهذه المهمة، ثم تكمّل العصارات المعوية هضمها. فإذا ما ابتلع المرء الكستناء قبل أن يمضغها جيداً لسبب أو لآخر، اعترضت عصارات الإمعاء سبيل الكستناء وشنت عليها هجوماً مركزاً لتفتيتها.
ويوصى بتناول الكستناء لمن يعانون من حالات الهزال (الضعف العام)، حيث أنها تفيد في اعادة بناء أنسجة الجسم. وتعدّ الكستناء أفضل وسيلة بناء للعضلات لاحتوائها على العناصر الغذائية.
وتفيد الكستناء ايضاً في علاج تقيح الاسنان والعناية باللثة. وتستخدم اوراق الكستناء في علاج حالات الحمّى. كما تستخدم في علاج حالات السعال الديكي والتشنجي وحالات التهاب الجهاز التنفسي، بالاضافة الى أن الكستناء تعمل على إعادة اصلاح الثقوب الميكروبية والتسرب في الأوعية الدموية والعشيرات الدموية، كما انها تعمل على جعل الأوردة الدموية أكثر مرونة وبالتالي تمنع تورمها.

جبال لبنان العالية مناسبة جداً لزراعة الكستناء
جبال لبنان العالية مناسبة جداً لزراعة الكستناء

نضج ثمار الكستناء خلال شهري أيلول وتشرين الأول من كل عام. قبل حلول موعد القطاف، من الأفضل، تنظيف الأرض تحت أشجار الكستناء من الأعشاب واوراق الأشجار المتساقطة لكي يتم رؤية الثمار بشكل أفضل بعد تساقطها على الأرض. أما طرق القطاف الشائعة فلا زالت يدوية في الغالب. وينصح عدم قطاف الثمار قبل نضجها خاصة بواسطة آلات القطاف التي تعمل على هز الأشجار او الضرب عليها بالمفاريط. ويستدل على مرحلة النضج عند الكستناء من بدء الثمار بالتساقط وعندما يصبح لون الحاضن الشوكي للثمار بني اللون، ونسبة الثمار البنية من 80 الى 90 % تقريباً. ومن المفضل، عدم ترك الثمار المتساقطة على الأرض لفترة طويلة تجنباً لجفافها. ولا تؤذي الرطوبة الثمار خلافاً لبعض المعتقدات. مثلاً في بعض دول أوروبا، توضع ثمار الكستناء بعد جمعها من دون الغلاف الشوكي في المياه لمدة أسبوع وذلك قبل حفظها لمراحل التسويق.

حفظ الكستناء
للحفاظ على ثمار الكستناء طازجة لبضعة أشهر بدون أي تبريد وحسب الطرق التقليدية، يتم نقع ثمار الكستناء في مياه باردة لحوالي 20 ساعة مباشرة بعد القطاف، ثم توضع في الظل لتنشف من المياه. تنقل من بعدها الى غرف الحفظ حيث يتم وضع طبقة من الرمل الرطب بسماكة 10 سم في قاع الغرفة ثم صف او صفين من ثمار الكستناء، وبالتوالي طبقة اخرى من الرمل ثم الكستناء مع الحفاظ على سماكة الرمل والثمار على ان لا يزيد ارتفاع الطبقات على 60 سم.
اما الطرق الحديثة التي تحدّ من انتشار الفطريات وخاصة المسببة للإهتراء والتي تمنع فقدان الوزن، فتوضع ثمار الكستناء في احواض خاصة مغلفة بقطع من البلاستيك الشفاف موصولة على اجهزة تتحكم بجو تلك الاحواض لتعديل الاوكسجين وتخفيضه الى اقل من 5 % ورفع نسبة ثاني اوكسيد الكربون الى اكثر من 15 %، وأفضل درجات الحرارة هي من 1 الى 2 تحت الصفر. هذا بالنسبة للكميات الكبيرة المخصصة للبيع، ولحفظ كمية صغيرة يستطيع المزارع والمستهلك وضع ثمار الكستناء في اكياس مثقبة (مثل اكياس البصل) في برادات المنازل التي لا تزيد حرارتها على درجتين فوق الصفر.

الأهمية الاقتصادية للكستناءستناء في الصناعات الغذائية مثل الكاتو، الحلويات (مارون غلاسيه)، الشوربات، الخ…

تعدّ زراعة الكستناء من الأشجار المثمرة التي تحتل المراتب الاولى من حيث المردود الاقتصادي للمزارع، وهي تساهم في توفير دخل إضافي يساعده على العيش براحة مادية دون تكاليف تذكر. فمثلاً في سويسرا، يمكن لمحصول شجرة واحدة من الكستناء تأمين معيشة جيدة لشخص واحد خلال موسم الشتاء. أما أبرز ميزات أشجار الكستناء الاقتصادية فهي:
1. دخول الشجرة في الانتاج في السنة الرابعة بعد زرعها في الأرض المستديمة.
2. الغزارة في الإنتاج، إذ يصل انتاج الشجرة الواحدة الى حوالي 150 كلغ من ثمار الكستناء في عامها الـ 40 تقريباً.
3. سرعة تأقلم الأشجار مع التربة والمناخ.
4. لا تحتاج إلى أعمال زراعية خاصة.
5. تقاوم أشجار الكستناء الجفاف والآفات بشكل عام.
6. يمكن حفظ ثمار الكستناء لعدة أشهر وبالتالي استغلال الوقت الأفضل للبيع .
7. ارتفاع أسعار ثمار الكستناء لزيادة الطلب عليها وقلة إنتاجها.
8. استخدام ثمار الك

أبرز الدول المنتجة للكستناء
تبين لنا من خلال إحصاءات FAO لعام 2005 أن الدول المنتجة للكستناء التي تحتل المراكز الخمسة الأولى في العالم هي التالية: (الكمية بالطن)

استيراد الكستناء في لبنان:

يستورد لبنان الكستناء منذ سنة 1961 حتى تاريخه وبحسب إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة FAO، يتبين أن كمية الاستيراد للسنوات الثلاث من 2006 وحتى 2008 هي كالتالي:

وهذا يدلّ على أن الطلب على استهلاك الكستناء يتزايد رغم ارتفاع اسعاره الملحوظة سنة تلو الاخرى.
لذلك، وعلى سبيل الاستنتاج، فإننا ننصح بالتوسّع في زراعة أشجار الكستناء في المناطق الجبلية الملائمة لهذه الزراعة من لبنان (وهي التي يزيد ارتفاعها على 600 إلى 700 متر) بإعتبارها من الزراعات الاقتصادية التي تلائم طبيعة لبنان والتي لا تتطلب من المزارع الكثير من الجهد لكنها مع ذلك يمكن أن تشكّل مع الوقت مصدر دخل متناممٍ ومهم للمزارع وأسرته.

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
بمناسبة عيد الفطر السعيد

بســـــــم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسّلام على سيِّد المرسَلين، وآله وصَحبه أجمعين.
ينقضي الشهر المبارَك ولا تنقضي بركاتُه، فليس أيّام الصّومِ بميعاد زمني، لكنَّها، كما قال تعالى، سبيل إلى التّقوى يَا أيُّها الَّذين آمَنوا كُتِب عليكُمُ الصِّيامُ كمَا كُتِب على الَّذين من قبلِكُم لَعلَّكُم تَتَّقُون (البقرة 183). إنَّها إرادة الله سبحانَه وتعالى أن يُقبِل الفطر والنّاس المؤمِنُون الطّائعون في سكينة التّقوى، مليئة قلوبُهُم بفائض الذِّكر، خاضعة جوارحُهُم لهيبَة الحقّ، ومؤتلفة نواياهُم على كلمة التّوحيد، وفي هذا كلِّه صلاح النَّفس الّذي هوَ باب إلى صلاح المجتمع والأمَّة.
إنَّ الفوز العظِيم أن يظفَر الموحِّد بنعمة التَّحقُّق بمقاصِد المعاني الشّريفَة المودُوعة في الذِّكر الحكيم، فيُشرِق في الأفئدة أثر الصِّدق في الطّاعة، ويستنير عقل المرء بلطائف الإشارات، وغاية التَّوفيق أن تُسلِّم النَّفس حينذاك قيادَها للحقيقة، وتسلك في كلِّ حركاتِها سلوكًا إنسانيًّا فاضِلاً، وهذا هو ثمر التَّوحيد الَّذي فيه الخلاص.
إنَّ خلاص المرء هو أن يسلم من نفسِه بإلزامِها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المـُنكَر، فيكون الفِطر إذنًا لها من الله سبحانَه وتعالى لتنهَل من خَيراتِه الظّاهرة فيما يُقيمُ الأَوَد، والباطِنة فيما يُحيي لطائف الرُّوح، وهذه هي غاية العِيد. وفي الحقيقة، فإنّ عمل الإنسان مَوضع نظر الباري تعالى الذي قالَ في كتابِه العزيز ثمَّ جعلناكُم خَلائفَ في الأرضِ مِن بعدِهِم لِنَنظُرَ كيفَ تعمَلُون (يونس 14)، ورضاه عزَّ وجلّ مُوجِب للخيِّر منها ما تنزّه عن الجهل والمعصية، وللطيِّب منها ما سلِم من الخُبث، وللصالِح منها ما نأى عن الشّرور.
هنيئًا لمن سلَك سبيل الحقّ فحظي بتوفيق من الله تعالى، وصارَ بين النّاس دلالة على الفضيلة وحُجّة لها. وإنّ المرء العامِل العالِم في هذا النهج في زمننا الحاضِر لهو نعمة جاد بها الله تعالى على خَلقِه، إذ هو في موقِع اقتباس النّور للشهادة على عبث الظّلام. إنّ مجتمعَنا اليوم بأشدّ الحاجَة إلى مثل هذا الشّاهد العدل الّذي يشهد للحقيقة، ليس فقط بلِسانِه ومظهره، وإنّما أوّلاً بأعماله وسلوكِه وتجرّدِه عن كلّ المصالِح العرَضيّة.
فليكن معنى العيد حاضرًا في القلوب، هكذا يتنبَّه المرء إلى عائلتِه فيرعاها بحسن التّدبير، ويرسِّخ في حماها التشبّثَ بالأخلاقِ الحميدة، والعادات المفيدة، ويردّ عنها مخاطر الجنوح في مزالقِ الهوى الرّخيص، والتشبُّه بالطرائق المذمومة، والظواهر المغايرة لشيَمِنا ومألوفاتِنا الأثيلة. إنَّه، بالمروءة والغيرة على إرثنا الحضاريّ، ننهضُ من كبوةِ التغرُّبِ بعيداً عن أصالتنا وعراقةِ قِيَمِنا السَّديدة. نضع اليدَ في اليدِ لنحمي مجتمعَنا، ولا سيّما الجيل الصّاعد، من آفات البطالة والتسكّع والإدمان، والقلق على المستقبل، وفقدان الطّموح والأمل، والتّطلّع بيأس إلى أبواب الهجرة وأوهام الهروب من الواقع.
إنَّ جيلاً صاعداً ملتزماً بالشفافية الأخلاقيَّة، والمسؤوليَّة الأدبيَّة، والصُّدقيَّة المهنيَّة، والكفاءة وتحقيق الذّات بالسُّبُل الشَّريفة النقيَّة هو الامل الَّذي سوف يعبر بمجتمعنا إلى فجر جديد واعِد بعيداً عن العصبيَّات والفئويّات.
وتيمّناً بمعاني عيد الفطر السعيد، فإننا في هذه الأيام الدقيقة من عمر لبنان بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، نرفع الدعاء الخالص إلى الله تعالى ليُلهِم اللبنانيين والعرب والمسلمين كافة، اتّباع الحكمة وترجيح العقل في كل ما يُقدِمون عليه، وتثبيت الوحدة في ما بينهم، وترسيخ الهدوء والاستقرار والأمن في ربوعهم، وأن لا يفطُروا إلاّ على غذاء المحبة وأن لا يرتووا إلاّ بماء التعاضد والتلاقي والتآخي، وأن يُشهروا كلمة الحق، وأن ينصرفوا إلى الحوار سبيلاً وحيداً لحلّ قضاياهم، وأن يعتمدوا خيار التكاتف الذي يُولّد القوة في وجه المُعتدين والطامعين، وفي طليعة هؤلاء كيان إسرائيل الغاصب، وأن لا يضيّعوا بوصلة فلسطين، وأن يحصّنوا ساحتنا الداخلية بلغة التفاهم وبتعزيز الحرية والديمقراطية وحفظ الكرامات وتحريم الاقتتال بين الأخوة ونبذ التعصب والأحقاد والفتن، عسى أن يُسرعوا إلى ذلك قبل فوات الأوان، والله لدعوانا سميعٌ وهو خير مُجيبٍ للمؤمنين.

سلمان الفارسي

سيـــــرة

سلمان الفارسي

أمير الزهد والورع والحكمة

إنِ استطعت أن تأكل من التراب فكُل منه
ولا تكنــــنَّ أمــيراً على إثنين

سلمان الورع الزاهد نأى بنفسه عن الفتنة
وآثر حياة الزهد والخلوة في المدائن

أمر أبو الدرداء بالاعتدال في العبادة
فعلق الرسول(ص) بالقول: «صدق سلمان»

المهاجر إلى الله
تعتبر حياة الصحابي الجليل سلمان الفارسي لغزاً يحار المرء في فهم أبعاده وخفاياه، ليس فقط بسبب المسار الطويل والشاق الذي اتخذه في البحث المضني عن الحقيقة وليس أيضاً بسبب الظروف العجيبة التي جمعته بأعظم أنبياء البشر وجعلته من المقربين إليه، بل في حياة الزهد والبساطة التي احتفظ بها وجعلت منه مثلاً حياً على رسالة الإسلام ومدرسة في التواضع والورع نهلت منها الأجيال. وبالنظر لمكانته الرفيعة في العصر الأول للإسلام وحب الرسول له إلى حد إدخاله وهو الفارسي في صلب بيته، قال عنه الرسول (ص): سلمان من أهل البيت ( شهد له الرسول بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة)، وقالت عنه عائشة: كان لسلمان مجلس مع رسول الله (ص) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على الرسول (ص).
وفي حديث عن الرسول(ص): «اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم».

ترك أهله ودياره وهاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي غير مبالٍ بكل ما ناله من أهوال وصعوبات

حياة زهد وورع
عاش سلمان الفارسي بعد إسلامه حياة تقشف وزهد، وحتى عندما كان أميراً على المدائن، كان يعيش فيها حياة ينفق خلالها كل مخصصاته على الناس ويعمل بيديه في حياكة سعف النخيل أو دباغة الجلد من أجل كسب عيشه. بل أن المعروف أن سلمان الفارسي لم يكن له بيت يملكه بل كان يتفيأ ظل الأشجار وأنه رفض مراراً عرض بعض المحيطين به والمحبين أن يبنوا له منزلاً يقيه حر الصيف أو برد الشتاء، وهو سيمضي بقية حياته على هذا النحو البسيط حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
نبدأ بهذه المقدمة للتأكيد على أهمية التعرّف على سلمان الفارسي الرجل والصحابي والمنارة الروحية التي شع نورها في سماء الإسلام والبشرية، بل يمكننا القول إن من أشد أشكال الافتئات على هذا العملاق الروحي أن يحجب التلهي ببعض الروايات وصغائر الخلافات المغزى الكبير لمعراجه الروحي الفريد وحياته المليئة بالعبر والدروس لجميع أهل الأزمان.
ولهذا السبب، فإننا في هذه المقالة سنحاول وبالإستناد إلى المصادر التاريخية والروايات الحسنة الإسناد تقديم صور وأمثلة عن الحياة التي عاشها سلمان الفارسي (ر) وعن سيرته وخصاله، وهذا مع العلم أن حياة الزهد والابتعاد عن الأضواء التي عاشها هي في حد ذاتها أحد أهم الأسباب في الكم القليل من الأخبار والأقوال التي رويت عنه، كما أن الرجل عاش بالفعل حياة الفقراء، حتى أن إيفاده للعمل كأمير على المدائن لم يبدّل إطلاقاً في أسلوب عيشه المتقشف والبسيط.

من هو سلمان الفارسي
تتفق معظم الروايات على أن سلمان هو الاسم الذي أعطاه الرسول (ص) لهذا الصحابي الجليل بعد إسلامه في المدينة، وأن الاسم الذي ولد عليه هو روزبه أما مولده فكان في بلدة يقال لها «جي»، والبعض يقول كازرون في جنوب ما يُعرف اليوم بإيران. وتتفق أكثر الروايات على أن روزبه ولد في أسرة وجيهة إذ كان والده دهقان بلدته، أي شيخ المزارعين فيها، وكان قوياً وذا نفوذ وكان يكن لولده حباً شديداً جعله يهتم بتنشئته وفق التقاليد والمعتقدات التي كانت تدين بها الأسرة ومعظم بلاد فارس. وتشير الروايات إلى أن روزبه فتح عينيه فجأة على دين مختلف بعد مروره بكنيسة واستماعه إلى خطبة الكاهن، فتراءت له على الفور حقائق أسمى جعلته يقرر هجر معتقد الأسرة والتعرّف على النصرانية التي كانت قد انتشرت في عدد من بلدان المشرق العربي وفي جنوب إيران المحاذية لبلاد ما بين النهرين، بل أن هذه الحادثة، تؤكد أن سلمان الفارسي لم يكن مجوسياً، كما أن التطورات اللاحقة في حياته تؤكد أنه لم يتبنَّ النصرانية كدين بقدر ما اطمأن إلى أولئك المرشدين والرهبان الزهاد الذين عمل في خدمتهم طمعاً في الاستزادة من المعرفة والترقي في دروب السلوك والتحقق الروحي، وقد كان عطش سلمان للمعرفة من القوة بحيث لم يكن مبالياً في أي مكان أو صومعة يجلس وأي مرشد أو مسلّك يتبع، وفي جميع الحالات لم تكن مراحل ترقي سلمان الفارسي نتيجة اختيارات منه، إذ أن مساره المتعرج والذي استغرق سنوات طويلة بدا مساراً مرسوماً له بعناية تامة. فكانت كل محطة تقود إلى التالية من دون أن يقوم سلمان بأي مبادرة من عنده وهو ما يظهر قدراً كبيراً من التوكل ومن التسليم التام ليد العناية.
لكن من المؤكد أن اندفاع سلمان في مجرى الأقدار إلى حد هجر دياره ومنزله ووالديه وركوب مخاطر السفر والسياحة في الأرض كان مدفوعاً بقوة أكبر بكثير وبنداء في القلب يجعله يحث السير نحو الجزيرة العربية. كانت تلك القوة ولا شك قوة خفيّة جمعت الرسول العربي وسلمان الفارسي في المدينة المنورة.
كانت معجزة سلمان الفارسي أنه هاجر إلى الإسلام بدافع الإلهام الروحي وليس بسبب دعوته إلى الإسلام من قبل النبي (ص) أو أصحابه من مهاجرين وأنصار. وعلى عكس الصحابة الذين هاجروا مع النبي (ص) أو التحقوا به في ما بعد في المدينة أو حتى الذين أسلموا على يديه من قبائل الجزيرة، فإن سلمان كان فارسياً أي غريباً عن بيئة الجزيرة وعصبياتها وروابطها القبلية وأنسابها، كما أنه كان يعيش في بلاد بعيدة عن مهد الدعوة، ومع ذلك فقد قرر ترك كل شيء خلفه وحث السير نحو ما كان يشعر به في قرارة نفسه أنه حدث عظيم اقترب أو أنه نداء يدعوه. ولم يكن مع سلمان (ر) في رحلته الطويلة من فارس إلى جزيرة العرب سوى زاد الطلب الحار والشوق وفي ما عدا ذلك لم يكن هذا المهاجر الكبير ليبالي بكل ما تعرض له في رحلة البحث القلق عن الحقيقة من مصاعب ومجاهدات وأهوال.
من أعجب المسائل التي رويت عن لقاء سلمان والرسول العربي (ص) الطريقة التي لجأ إليها هذا الغريب المهاجر إلى الله للتأكد من أنه فعلاً يقف وجهاً لوجه أمام النبي الذي كانت الناس في انتظاره لعقود طويلة، وقد ذكرت الروايات أن سلمان كان على دراية بأن النبي الذي هاجر إليه لديه دلائل واضحة على نبوته بما في ذلك خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه (ص). وبالطبع تظهر تلك الحادثة الجدية التامة التي تعامل بها سلمان مع مسألة النبوة، فهو وعلى الرغم من كل ما شهده من خضوع المهاجرين والأنصار للرسول محمد (ص) لم يجد حرجاً في التحقق وبأدب شديد من علامات النبوة وقد أراد سلمان أن يطمئن قلبه لنيله الغاية بعد كل المشاق والمخاطر التي لاقاها فعمد إلى البحث في دلائل النبوة ولم يتردد في اختبار صدقة التمر وتقديم الهدية للرسول العربي.
يجب القول، أخيراً، إن قصة هجرة سلمان من أقاصي فارس إلى الإسلام لا مثيل لها في تاريخ الرسالة ولا حتى في العهود اللاحقة، وهناك الكثير من الرمزية في هجرته الفريدة إلى الإسلام عبر تدرج يشبه تدرج أدوار التوحيد ونمو فكرته وإشراق حقيقته عبر العهود، بل إن حياة سلمان نفسها تتضمن الكثير من الحقائق الجوهرية للتوحيد، أما الذين آذوا المسلمين وتآمروا عليهم مع أحزاب الشرك في مكة وغيرها فقد آذوا سلمان أيضاً استرقاقاً وسوء معاملة، لكن التدبير الرباني قضى أخيراً بأن يسارع النبي (ص) والصحابة الكرام بعد قليل من دخول سلمان في الإسلام للعمل على عتقه بدفع مبلغ كبير من الذهب وتقديم نحو ثلاثمائة نخله للمالك اليهودي. وسيعيش سلمان (ر) بعد ذلك في الدائرة المقربة من الرسول (ص) حتى وفاته ثم يرسل أميراً على المدائن حيث عاش فيها فقيراً زاهداً حتى وفاته.

مكانته وعلمه
احتل سلمان الفارسي (ر) مكانة رفيعة بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولدى الرسول (ص) الذي كان أظهر له حباً خاصاً جعله يضمه إلى الدائرة الأقرب منه، وذلك عندما صرّح في يوم الخندق بقوله الشهير (سلمان منا آل البيت)، وروى أنس عن رسول الله (ص) قوله: «السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة».
ولم تكن المكانة التي احتلها سلمان الفارسي بين الصحابة الأوائل ناجمة عمّا عرف عن قصته العجيبة وخصاله وجهاده وزهده وتواضعه بل ناجمة أيضاً عمّا عرف عنه من حكمة وتفقه واسع في الدين وبصيرة وسداد رأي، وقد جعل ذلك منه مرشداً يُلجأ إليه لجلاء ما بطن من معاني الدين أو لطلب المعونة والنصح من أهل زمانه على اختلافهم، وأحد الأمثلة على المكانة التي كان يحتلها سلمان الفارسي (ر) بين الصحابة الأوائل رضي الله عنهم ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب (ر) عندما جاء سلمان الفارسي (ر) المدينة زائراً ، إذ صنع هذا الخليفة ما لا يعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبداً،إذ جمع أصحابه وقال لهم:
«هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان».!!وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
ومن الأدلة على مكانته الرفيعة تعظيم علي بن أبي طالب (ر) له إذ لقّبه بـلقمان الحكيم، وذلك عندما سئل عنه بعد موته فقال: «ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟ أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف».
ومن الأمثلة الكثيرة التي نقلت إلينا عن علم سلمان الفارسي (ر) وشجاعته في الحق ما وقع بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب (ر) في أحد الأيام، إذ جاء الخليفة عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوباً ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟! فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد الله؟! قال إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر، فقال لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان: الآن نسمع. إننا نجد سلمان الفارسي (ر) وقد اعترض بشجاعة على الخليفة عندما ظن أنه ميز نفسه عن أصحابه بارتدائه حلة من ثوبين بينما قسم لكل من الآخرين ثوباً واحداً. لكن الخليفة أوضح بأن الثوب الآخر يعود لولده عبد الله بن عمر الذي كان حاضراً في المجلس، وعندها رفع سلمان اعتراضه. ولم يكن الهدف من اعتراض سلمان الخليفة عمر نفسه بل كان خشيته الشديدة من أن تؤدي الثروات التي بدأت تتدفق على المسلمين نتيجة للفتوحات إلى انتشار فتنة الدنيا والتهالك عليها بين المسلمين مع ما يتبع ذلك من تسرب الوهن إلى الإيمان وانصراف الناس عن الدين إلى الدنيا واقتتالهم في سبيلها.
لكن كما أن سلمان كان شديد التمسك بمبادئ الفقر والانصراف عن فتنة الدنيا فإنه كان حكيماً في نظرته إلى العبادة وآدابها، كما تشير قصته مع أخيه في الإسلام أبو الدرداء إذ زاره يوماً فرأى زوجته أم الدرداء متبذِّلة (أي تاركة لزينتها ومهملة لنفسها) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة في الدنيا. فجاء سلمان إلى أبي الدرداء فصنع له طعاماً فقال ابو الدرداء لسلمان: كُل أنت فإني صائم. قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل أبو الدرداء. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال له سلمان نَم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له سلمان مجدداً: نَم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قُم الآن، فصليّا، فقال سلمان له: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقّ حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي (ص) وذكر ذلك له، فقال النبي (ص): «صدق سلمان». وتشير هذه الحادثة إلى أن سلمان الفارسي (ر) كان مدركاً لجوهر الدين ولحقيقة الإسلام كدين يسر، كما تشير إلى مكانته وهيبته حتى عند كبار الصحابة إذ نجد أبو الدرداء ينصاع لطلب سلمان منه في إتباع سبيل اليسر والاعتدال في العبادة ، وهو أمر شهد له الرسول (ص) بالقول المختصر البليغ: «صدق سلمان».
وجاء في الحلية أيضاً أن سلمان خاطب حذيفة (ر) بالقول: يا أخا بني عبس، إن العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانِه. وفي الحلية أيضاً أن سلمان صحب رجلاً من بني عبس وكانا يمران بمحاذاة دجلة: فشرب الرجل شربة، فقال له سلمان: عُد فاشرب، قال: قد رويت، قال: أترى شربتك هذه هل نقص النهر بسببها؟ كذلك العلم لا ينقص، فخذ من العلم ما ينفعك.
وفي كلتا الحادثتين نجد بوضوح تركيز سلمان الفارسي (ر)على طريق اليسر ونصحه الناس بأخذ ما يحتاجونه من العلم، أي ما ينفعهم في تصويب سلوكهم وعبادتهم وعدم المبالغة في إنفاق العمر على الانشغال بما لا طائلة تحته، وفي هذا الموقف إيحاء واضح بأن المهم هو تصويب السلوك ومراقبة النفس بهدف الارتقاء بها في دروب القربات وليس الاشتغال بظاهر العبادات في حد ذاتها.
وفي الحلية عن أبي ليلى الكندي قال: أقبل سلمان رضي الله عنه في ثلاثة عشر راكباً – أو اثني عشر راكباً- من أصحاب محمد (ص)، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدم يا أبا عبد الله، قال: إنا (أي الفرس) لا نؤمّكم ولا ننكح نساءكم، إن الله تعالى هدانا بكم. قال فتقدم رجل من القوم فصلى أربع ركعات، فلما سلّم قال سلمان: ما لنا وللمربعة ، إنما يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج، قال عبد الرزاق: يعني بذلك قَـصرَ الصّلاة في السفر. وهذا مثال آخر يوضح نهج سلمان الفارسي (ر) في النظر إلى العبادة بعين الحكمة والتواضع والبعد عن الرياء.
وفي الحلية عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما: أَن هلمَّ إلى الأرض المقدّسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تُقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جُعلت طبيباً (أي قاضياً)، فإن كنت تبرئ (أي تقضي بالحق) فنِعِمّا لك، وإن كنت متطبباً (أي تتعاطى القضاء دون معرفة جيدة) فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار. فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه، نظر إليهما وقال: متطبب والله، ارجعا إليّ أعيدا قصتكما. وتشير هذه القصة إلى حذر سلمان الفارسي (ر) الشديد من تبوؤ المناصب ولا سيما القضاء بسبب ورعه، وقد أخذ أبو الدرداء تحذير سلمان على محمل الجد فبات يتفكر كثيراً ويمحص الأمور قبل أن يقضي بين اثنين.

العلم كثير والعمر قليل، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه

لم يكن له بيت فكان يستظل بالفيء حيثما دار وكان يعمل بدرهم ويعيش بدرهم ويتصدق بدرهم

الأمير الزاهد
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عطية بن عمر قوله: رأيت سلمان الفارسي رضي الله عنه أُكره على طعام يأكله فقال: حسبي، حسبي (أي يكفيني) فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. وفي الحلية عن الحسن قال: كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف درهم وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب في الناس بعباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه (أي أنفقه على الناس) ويأكل من سفيف يده. (أي مما تصنعه يداه من نسيج سعف النخل)
وذكر ابن سعد عن مالك بن أنس قوله أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت. فقال له رجل: ألا أبني لك بيتاً تستظل به من الحرّ وتسكن فيه من البرد؟ فقال له سلمان : نعم. فلما أدبر صاح به سلمان وسأله: كيف تبنيه؟ فقال: إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك، فقال سلمان: نعم
أخرج ابن سعد عن النعمان بن حُميد أنه قال: دخلت مع خالي على سلمان رضي الله عنه بالمدائن وهو يعمل الخوص (يحيك سعف النخل) فسمعته يقول: أشتري خوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت. وعنه أيضاً عن أبي عثمان النهدي أن سلمان الفارسي قال: إني لأُحب أن آكل من كدِّ يدي.

مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه
تعكس المواعظ المروية عن سلمان الفارسي (ر) بوضوح تام روح الإسلام الزهدي الأول الذي كان سلمان علماً من أعلامه مع صحابة كبار مثل أبي ذر الغفاري والمقداد. هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ومالهم وراحتهم في سبيل الله ونشر كلمة الحق والدفاع عنها كانوا يحتقرون الدنيا بل ويفرون منها كما تفر الطريدة من الضواري، وكان سلمان (ر) إمام الزهد والورع وكانت كل كلماته ومواعظه مفعمة بالحث على ترك الدنيا وعدم الوقوع في حبائلها.
وقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن سلمان الفارسي كان يقول: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمُسخِط ٌ ربّه أم مُرضيه. وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المَطـلع عند غَمَرات الموت، والوقوف بين يدي ربّ العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: إن الله إذا أراد بعبد شراً أو هَلَكة نزع منه الحياء فلم تره إلا مقيتاً مُمَقّتاً، (أي مبغوضاً). فإذ كان مقيتاً مُمَقّتاً نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظّـاً غليظاً، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة فلم تلقه إلا خائناً مُخوّنـاً، فإذا كان كذلك نزعت منه رِبقة الإسلام (أي عروته) عن عنقه فأصبح لعيناً مُلعّنـاً.

وقوله أيضاً: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي علم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال: لا تقربه، فإن أصبته أهلكك، ولا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما فُضِّل به غيره من العيش، فيمنعه الله إياه ويحجزه عنه حتى يتوفّاه فيُدخِله الجنة.
وعن جرير قال: قال سلمان: يا جرير، تواضع لله عز وجل فإنه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، قال: ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه بين إصبعيه، قال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.
وعن أبي البختري عن سلمان قال: مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد قال المقعد إني أرى تمرة ولا أستطيع أن أقوم إليها فاحملني فحمله فأكل وأطعمه.
وعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال أوصِني، قال: لا تتَكَلَّم، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: إنه ليغشاني مالاً أملكه، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك، قال: زدني، قال لا تلابس الناس، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم، قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأدِّ الأمانة.
وعن أبي عثمان عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء فدعا قالت الملائكة صوت معروف من آدمي ضعيف فيشفعون له، وإذا كان لا يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة صوت منكَر من آدمي ضعيف فلا يشفعون له.
وعن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده فقال له سلمان: إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفّارة لما مضى فيُستعتب فيما بقي، وإن الله عز وجل يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه.

لا تتكلم، وإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، ولا تغضب وإن غضبت فامسك لسانك ويدك، ولا تخالط الناس وإن خالطتهم فاصدق الحديث وأدّ الأمانة

صور من تواضعه(ر)
كان سلمان الخير اذا سئل عن اسمه قال: عبد الله، وعن نسبه قال: ابن الاسلام،عن فخره قال: سلمان منا. عن لباسه قال: التواضع،عن طعامه قال: الجوع، عن شرابه قال: الدموع،عن وسادته قال: السهر، وعن قصده قال: وجه الله عز وجلّ.
في الحلية عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له قُدامة، فقال لي: أحب أن ألقى سلمان الفارسي رضي الله عنه فأسلِّم عليه. فخرجنا إليه فوجدناه في المدائن وهو يومئذٍ على عشرين ألفاً، ووجدناه على سرير يسف الخوص، فسلمنا عليه، قلت: يا أبا عبد الله، هذا ابن أخت لي قدم عليّ من البادية فأحب أن يسلّم عليك. قال: وعليه السلام ورحمة الله. قلت: يزعم أنه يحبك، قال: أحبّه الله.
وأخرج ابن عساكر عن الحارث بن عميرة، قال: قدمت على سلمان رضي الله عنه في المدائن فوجدته في مدبغة يعرك إهاباً (أي جِلداً) بكَفّيه، فلما سلمت عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قلت: والله ما أراك تعرفني، قال: بلى، قد عرِفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجَنّدة فما تعارف منها في الله ائتلف وما كان في غير الله اختلف.
وفي الحلية عن أبي قلابة أن رجلاً دخل على سلمان رضي الله عنه وهو يعجن فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل وكرهنا أن نجمع عليه عملين – أو قال: صنعتين- ثم قال: فلان يقرئك السلام، قال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال فقال سلمان(ر) أما أنك لو لم تؤدِّها كانت أمانة لم تؤدِّها.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن بُريدة رضي الله عنه أن سلمان رضي الله عنه كان يعمل بيديه وإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً – أو سمكاً- ثم يدعو المُجذّمين (أي المصابين بمرض البرص) فيأكلون معه.

بكى عند الوفاة عندما انتبه إلى أنه يفارق الدنيا تاركاً خلفه من حطام الدنيا إناء ومطهرة.

ترغيبه في الصلاة والذكر
أخرج عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إن العبد إذا قام إلى الصلاة وُضِعت خطاياه على رأسه، فلا يفرغ من صلاته حتى تتفرق عنه كما تتفرق عذوق النخلة تساقط يميناً وشمالاً. وعن ابن زنجويهعنه قوله: إذا صلّى العبد اجتمعت خطاياه فوق رأسه، فإذا سجد تحاثِّت كما يتحاثّ ورق الشجر .
وعنده أيضاً عن طارق بن شهاب انه بات عند سلمان ينظر اجتهاده، فقام يصلّي من آخر الليل قال سلمان : حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفّارات لهذه الجراحات ما لم يصب المقتلة، فإذا أمسى الناس كانوا على ثلاث منازل: فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه. فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي حتى أصبح فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه ولا له، ورجل صلّى العشاء ونام فذلك لا له ولا عليه.
وعن حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: ما من مسلم يكون بفيء من الأرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذّن ويقيم إلا أمَّ جنودًا من الملائكة لا يرى طرْفهم أو قال طرفاهم.
وفي الحلية عن سلمان رضي الله عنه قوله: لو بات رجل يعطي البِيض القيان (أي يهب الإماء ويخرج الكثير من ماله ) وبات آخر يتلو كتاب الله عز وجل ويذكر الله تعالى فإن الذي يذكر الله أفضل.
وفي الحلية أن أهل المدائن سمعوا بأن سلمان رضي الله عنه في المسجد فأتوه حتى اجتمع عليه نحو من ألف، فدعاهم سلمان (ر) بالقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا فتح سورة يوسف يقرأها، فجعلوا يتصدعون (أي يتفرقون) ويذهبون حتى بقي في المسجد نحو من مئة فغضب وقال: الزخرف من القول أردتم! ثم قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم!!

كان ينفق ما يخصص له كأمير للمدائن على الناس وأبى أن يعيش إلا من عمله في حياكة سعف النخيل

وفاته رضي الله عنه
تقدم اللحظات الأخيرة من حياة سلمان الفارسي رضي الله عنه صورة بليغة عن زهده وتركه للدنيا وقد روي أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك، قال عهد عهده إلينا رسول الله إذ قال: ليكن بلاغ (أي متاع) أحدكم كزاد الراكب (أي أن سلمان الفارسي جزع عند الموت بأن يفارق الدنيا وحوله أكثر مما ينبغي من أغراضها) قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته سوى وعاء ومطهرة لا يساويان أكثر من عشرين درهماً، ووري جسده الطاهر الثرى في مدينة المدائن.

 

العدد 4