الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

أبو بكر الشبلي

الشيــــخ الزاهــــد وشاعــــر الوجــــد والفنــــاء بالله

أبو بكر الشبلي

هو الشيخ الزاهد أبو بكر دلف بن جعفر بن يونس الشبلي، ولد في بغداد وبعضهم يقول في سامراء عام 247هـ، الموافق 861م، وكان أبوه من رجال دار الخلافة بسامراء، وهو تركي الأصل من قرية شبلية من أعمال أشروسنة. نشأ الشبلي مع أولاد الأمراء والوزراء، وانخرط في سلك الوظيفة بدار الخلافة، وحظي من الأمراء بالنعم الوافرة، وعين أميرا على (دوماند) من توابع طبرستان. وكان يرى المظالم في عمله والسعايات بين الحكام بالباطل فيؤلمه ذلك إذ لم يكن يوافق طبعه وخلقه الرفيع، وأحس بقيود الوظيفة، وأراد خلعها لأنه يرى مصيره سيئا في الدنيا والآخرة إذا إستمر بالعمل مع هؤلاء المتكالبين على الدنيا، والتقى بالرجل الصالح (خير النساج) وكان من مشاهير الوعاظ في عصره، وقد وجهه هذا نحو الجنيد البغدادي.
التقى الشبلي بالجنيد البغدادي فرحّب به الجنيد وأكرمه وحبب إليه العبادات والتصوف والانصراف عن الدنيا.
جزع الشبلي من الاستمرار في العمل أميراً عند الولاة وقرر الاستقالة من عمله. لكن الجنيد طلب منه أن يعود إلى وظيفته ويسترضي الناس، فرجع الشبلي لعمله وأقام فيها سنة، يسترضي خلالها الناس ويطلب المسامحة منهم، ثم عاد إلى بغداد، وسلك سبيل التصوف وكان يعرف الزهد بقوله: (تحول القلوب من الأشياء إلى رب الأشياء).
هو أول من سمّى التصوف بعلم الخِرَق، أو علم الحقيقة في مقابل “علم الورق” (أي العلم الظاهر أو علم الشريعة)، والخِرقة هي ثوب فقر كان غالباً من الصوف وكان المرشد يُلبِسَه للمريد عند نضجه في الطريق. وقد ورد ذلك في شعر قال فيه:
تســـربلتُ للحــرب ثــوب الغـــرق وهمــتُ البــلاد لوجــــد القلــــــق
ففيــــك هتكــــت قنــــاع الغِـــوى وعنــــك نطقتُ لدى من نطـــــق
اذا خــــاطبوني بعلـــــــــم الـــــورق برزت عليهـــم بعلــــم الخـــــــــرق

قال الجنيد عنه: لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض فإنه عين من عيون الله .وقال أيضاً: لكل قوم تاج، وتاج هذا القوم الشبلي.
اشتهر بمجاهداته في أول أمره وكان يكتحل بالملح ليعتاد السهر، وكان يبالغ في تعظيم الشرع المكرم. وكان يأخذه الوله فيغيب ويُـرَدّ في أوقات الصلوات إلى حِسِّه حتى لا يفوته شيء مما يتوجب عليه من التكاليف فإذا فرغ من صلاته أخذه الوله وصار لا يعقل .
قال عن التصوف: هو ترويح القلوب، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء والبِشر في اللقاء، وهو الجلوس مع الله بلا هم.
توفي الشيخ الشبلي ليلة السبت 27 من ذي الحجة في سنة 334هـ، الموافق 945م، ودفن ضحى في مقبرة الخيزران، وقبره ظاهر يزار وعليه قبة، ودفن إلى جواره بعض طلابه ومحبيه.

من أقواله
التصوف ضبط حواسك، ومراعاة أنفاسك
من عرف الله خضع له كل شيء؛ لأنه عاين أثر ملكه فيه.
الفرح بالله أولى من الحزن بين يدي الله.
ليس للمريد فترة ولا لعارف معرفة ولا للمعرفة علاقة ولا للمحب سكون ولا للصادق دعوى ولا للخائف قرار ولا للخلق من الله فرار.
سئل في معنى قول القرآن: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ). النور:30) فقال: “أبصار الرءوس عن المحارم، وأبصار القلوب عما سوى الله عز وجل”.

من شعره

عودوني الوصال والوصل عـذب ورمـوني بالصـد والصـدّ صعـب
زعمـــوا حـــين عاتبــــوا أن ذنـــبي فرط حـبي لهـم ومــا ذاك ذنــب
لا وحسن الخضوع عند التلاقــي ما جـزا من يحــب إلا أن يُحــبّ

رآنـــي فــــأوراني عجائب لطفـــه فهِمــتُ وقلــــبي بالفــــراق يــذوب
فــــلا غائــب عــني فأسلو بذكـرهِ ولا هــو عــني معــرضٌ فأغيـــبُ

لــها فــي طرفهــا لحــظات سحــر تميــت بهــــا وتحيــــي مــن تــريـــد
وتســــــــبي العالمــــــــين بمقلتيــــــــها كــــــأن العالمــــــين لهــــــــا عبيـــــد
ألاحــــظها فتعــــلم مــــا بقــــلــبي وألحظهــــــا فتعلــــــم مــــــا أريــــد

الناس في عيد قد سروا وقد فرحوا وما ســــررت به والواحد الصمدِ
لمــــا تيقنــــت إنــــي لا أعاينكــــم غمضت طرفي فلم أنظر إلى أحدِ

تزيــــن النــــاس يــــوم العيـــد للعيد وقد لبست ثياب الزرق والسـودِ
أعــــددت نوحــاً وتعديدا وباكيةً ضدّا من الراح والريحـان والعــودِ
وأصبــــح الكل مسرورا بعيدهم ورحت فيكــم إلى نــوح وتعديــدِ
أصبحت في ترحٍ والناس في فرحٍ شتان بيني وبين النــاس في العيــدِ

بــــــــاح مجنــون عامــــــرٍ بهــــــــواه وكــتمت الهــوى ففــزتُ بوجدي
وإذا كــان فــي القيامــــــة نــــودي أيــن أهل الهوى تقدمت وحدي

أُقــــلّل ما بـــي فيك وهـو كثــــــير وأزجرُ دمعي فيك وهو غزيــــــرُ
وعندي دموع، لو بكيت ببعضـها لفاضـــت بحـــور بعدهنَّ بحـــــورُ
قبول الورى تحت التراب وللهــوى رجالٌ هم تحت الثيــاب قُبــــــورُ
سأبكــــــي بأجفان عليك قريحـةٌ وأرنــــو بألحاظٍ إليــــــك تشــــــيرُ
إن مــــوت المحــــب من ألم الشـــوقِ وخوف الفِــراقِ يــــورث عــــذرا
صابَرَ الصبرَ فاستغاث به الصَّبــــرُ فصــــاح المحبُّ بالصـــبرِ صــــبراً

دعِ الأقمـــــــار تغــــرُب أو تنــــــــيرُ لنــــا بــــدرٌ تــــذِلُّ لــــه البــــــدور
لنــــا مــــن نــــورهِ فــــي كـــل وقتٍ ضيــــاءً مــــات غيِّــــره الدّهـــورُ

الـــــدهر لي مأتمٌ إن غبت يا أمـلي والعيدُ ما كنت لي مرأى ومستمعا
أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوبِ الذي خُلِعــا

إنـــي لأَحسِـــدُ ناظـــــــرَيَّ عليكَـــا حتى أغـــضّ إذا نظـــرتُ إليـــك
وأراك تخـــطرُ في شمـــــــائلك الـــتي هي فتنتي فأغــار منـــك عليـــكَ
ولو قلتَ: طأ في النار بادرت نحوها سروراً لأني قد خطرت ببالكــا

والهجـــر لو سكن الجِنان تحـــولت نعم الجنان على العبيد جحيمــاً
والوصل لو سكن الجحيم تحولت نار الجحيم على العبيــد نعيمــــاً

تغنـــّــــى العـــــــــــــــودُ فاشتقنـــــــــا إلى الأحبــــــــــــابِ إذ غنّــــــــــــى
وكــــــــــــــنّـا حيثــــــــــــما كانـــــــــوا وكانــــــــــوا حيثمـــــــــا كـــنّـــــــــــا
ذكـــــــــرتك لا أنــــــي نسيتك لمحـةً وأيسـر ما في الذِّكر ذكر لســـاني
وكِـدتُ بلا وجدٍ أموت من الهوى وهام علـــيَّ القلــــــب بالخفقـــانِ
فلمّــــا أراني الوجد أنك حاضري شهدتــك موجـودا بكـــل مكـــانِ
فخاطبـــتً موجـــوداً بغـــير تكلــمٍ ولاحظـــتُ معلومـــا بغـــير عيـانِ

علــــــم التصــــــوُّفِ علم لا نفاد له علـــم سَنيٌّ سمــــــاويٌّ رُبوبــــــــيُّ
فيـــه الفوائـــدُ للألبــــــابِ يعرفهــــــا أهل الجزالـةِ والصنع الخصوصـيُّ

 

أبيات مفردة وحكمة جامعة

في ما يلي بعض الأبيات المفردة التي قالها الشبلي (ر) واشتهر الكثير منها بسبب بلاغته ورقته في الأدب الصوفي وبات يتناقل من جيل إلى جيل عبر الأزمان:

بقلــــــبي هـــــوى أذكـــــى مـــــن النـــــار حـــــرّه وأحـــــلى مـــــن التقـــــوى وأمضـــــى مـــــن السيـــــفِ
* * * *
مـــــن لــــــم يكــــــــــن للوصـــــــــال أهـــــــــــــــلا فكـــــــــــــــــــــــــل إحسانــــــــــــــــــــه ذنــــــــــــــــــــــــــوب
* * * *
إن المحبــــــــــة للرحمـــــــــــــن تســـــكرنــــــــــــــي وهـــــــــــــــل رأيـــــــــــــــت محبــــــــــّاً غيـــــرَ سكـــــرانِ
* * * *
مــــن اعــــتـــــــــــــــــز بــــــــــــــــــذي العـــــــــــــــز فـــــــــــــــذو العـــــــــــــــــــــــــــــــــــزِّ له عـــــــــــــــــــــــــــــزٌّ
* * * *
كلـمــــــا قلــــت قــــد دنـــــا حـــــــلُّ قيـــــــــدي قــــــــــــــــــــدَّمونــــــــــي وأوثقـــــــــــــــوا المِسمـــــــــــــــارا
* * * *
وتحسبـــــــــني حيـــــــــّاً وإنــــــــي لميِّـــــــــــــــــتٌ وبعضـــــي مـــــن الهجـــــران يبكـــــي علـــــى بعــــــضِ
* * * *
الصـــــــــبرُ يَجمُـــــــــلُ فـــــي المواطـــــنِ كلّهـــــــا إلا عليـــــــــــــــــــك فإنــــــــــــــــــــــــه لا يَجمُـــــــــــــــــــــلُ
* * * *

داروين نبي الإلحاد

الدجــــــال
العِلــم يفضــح زيف الداروينية

الـــداروينيـــة منظومـــة إلحـــاد تستهـــدف
هـــدم الأديـــان وإشاعـــة الفوضـــى الأخلاقيـــة

الله نفـــخ من روحـــه في الإنســـان وكرّمـــه
ودارون أراد إذلالـــه بـــرده إلـــى عالـــم الحيـــوان

عجـــزوا عـــن إثبـــات أن الحيـــاة نشـــأت صدفـــة
فزعمـــوا أنهـــا جـــاءت من الفضـــاء الخارجــــــي!

أدت الثورة العلمية والصناعية في القرن التاسع عشر إلى انقلاب شامل في نمط حياة الناس ونظامهم الاجتماعي، وكان من أهم علامات ذلك الانقلاب هو انتقال الثقل الاقتصادي والسكاني والاجتماعي والثقافي بصورة حاسمة من الأرياف إلى المدن الرئيسية، وأدى قيام الصناعات الكبيرة واكتشافات مثل الكهرباء والتلغراف والقطارات ثم العربات السيارة وغيرها إلى دخول الإمبراطوريات الغربية مرحلة غير مسبوقة من الازدهار والرخاء الاجتماعي، وقد تمّ تمويل هذا الرخاء من مصدرين رئيسيين التطور الصناعي في الداخل والاستعمار وقهر الشعوب الضعيفة في آسيا وأفريقيا في الخارج. وساهم التطور المتسارع في الولايات المتحدة ودول العالم الجديد في تعميم الثورة الصناعية ونمط الحياة المادية فبدأت تلك المجتمعات تتفلت من القيم المعنوية والأخلاقية التي تمّ الحفاظ عليها على مدى الأزمنة.

أعطت الثورة الصناعية والعلمية شعوراً هائلاً بالثقة والقوة للمجتمع الغربي لكنها ترافقت أيضاً بتزايد غير مسبوق في المشكلات الإنسانية وظلم الإنسان للإنسان، وقد وجدت قوى الأنانية والطمع الكامنة في البشر في التقنيات الحديثة وتطبيقاتها في الميدان الحربي وسائل عظيمة الفائدة للسيطرة وقهر الآخرين. ولم تقتصر عقلية القهر والفتح على موجة الاستعمار الخارجي، بل ارتدت أيضاً إلى داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، إذ حتم اتساع نطاق الثورة الصناعية تعمق الانقسام بين مالكي الثروة والمصانع والمؤسسات وبين ملايين الناس الذين فقدوا أراضيهم وتحولوا من مالكين أحراراً إلى أجراء يتعرضون لأقسى أنظمة العمل وأبشع أشكال الاستغلال.

لكن في موازاة التحوّل الكبير على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، شهد العالم في القرن التاسع عشر انقلاباً موازياً في القيم ستكون له آثاره البعيدة وثماره المرة في ما تبقى من ذلك القرن وخلال القرن العشرين بصورة خاصة. فقد ازدهرت في تلك الفترة النظريات المادية الإلحادية وخصوصاً مع قيام الحركة الماركسية في العام 1848، والتي استهدفت قلب الأوضاع المستقرة في أوروبا، ولعب اليهود الأوروبيون الذين كانوا يعانون بقوة في الدول الأوروبية دوراً مهماً جداً في الترويج للحركات الثورية على اعتبار أن تحطيم الكيانات الأوروبية بما في ذلك الكنيسة التي كانت سداً منيعاً في وجه اليهود سيخلق وضعاً فوضوياً يسمح لليهود كأقلية منظمة وفعّالة في بسط هيمنتهم على القارة ومن خلالها على العالم.
في ذلك الوقت بالذات، وبعد 11 عاماً من إطلاق اليهودي الألماني كارل ماركس لما سمي يومها “البيان الشيوعي” في لندن، أصدر مؤلف يهودي آخر هو تشارلز داروين مؤلفاً بعنوان “أصل الأنواع” وقد وضع هذا المؤلف في كتابه مجموعة من النظريات والفرضيات والمزاعم التي تقول بأن الكون بكل تفاصيله إنما وجد بفعل الصدفة وإن الحياة وجدت بفعل الصدفة وتطورت من أشكال بسيطة مثل البروتين والخلية ثم البكتيريا إلى أشكال أكثر تطوراً إلى أن وصلت إلى وضعها المعقد الحالي. وتضمّن كتاب داروين فرضيات مثل أن الإنسان تطور من القرد وأن الطيور تطورت من الديناصورات وأن التمساح والزواحف تطورت من الأسماك وأن الفيل تطوّر من الدب والحصان من أحد الحيوانات الأصغر إلى آخر ما هنالك من المزاعم.

منظومة التطور المزعوم لاقت ترحيباً فورياً من مؤسسي الشيوعية والقيادة النازية لأنها تحقِّر الإنسان وتبرر العنف ونزعة السيطرة

لم تكن نظرية التطور التي قدمها داروين مستندة إلى أي أدلة علمية، لكنها بدت مفيدة إلى أقصى الحدود لكونها تخدم غرضاً إيديولوجياً مهماً وهو أنها تهدم نظرية الخلق والاعتقاد الراسخ لدى مختلف الأعراق والأديان والحضارات بأن الكون مخلوق وأنه الصنعة البديعة لخلاق عظيم والآية المعجزة الدالة على وجوده الفاعل في الكون. وبسبب فائدتها المباشرة في هدم المعتقد الديني فقد وجدت التيارات المادية التي غذاها اليهود في الداروينية سلاحاً ماضياً يمكن استخدامه لهدم الكنيسة ونفوذ الكهنوت وفي الوقت نفسه لهدم النظم الأخلاقية التي استندت إلى الدين والوصايا المتضمنة في الكتب السماوية. وقام على الفور تحالف مقدس بين الماركسية ومن بعدها النازية والفاشية وبقية التيارات الإلحادية وبين الداروينية وأتباعها وكتب ماركس إلى رفيقه أنجلز لافتاً إياه إلى أهمية ترويج الداروينية في خدمة الماركسية. وكذلك أعلن لينين في ما بعد وستالين وماو وهتلر أهمية الداروينية كأساس لمعتقدهم الفلسفي والسياسي.
ومما لا شك فيه أن اللوبي اليهودي العالمي لعب دوراً حاسماً في نشر الداروينية والترويج لها، كما أن قوى الإلحاد التي تلقفت النظرية نجحت بدورها وعلى مدى 150 عاماً تقريباً من العمل المنهجي في جعل نظرية التطور بمثابة الدين البديل للبشر الذي يقوم على أنقاض الشرائع، وتمّ هذا الترويج المنهجي ليس فقط دون مستندات علمية مقنعة، بل عبر استخدام وسائل الخداع العلمي وتلفيق الحالات والتلاعب بالوقائع واستخدام الرسوم التخيلية الوهمية لإثبات فرضيات التطور. واستفادت الداروينية خلال القرن العشرين بصورة خاصة من مؤسسات رئيسية كانت قد وقعت تحت سيطرة النخب اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا وأهم تلك المؤسسات:
وسائل الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع بما في ذلك مجلات “علمية” مثل ناشونال جيوغرافيك ونيو ساينتيست وتايم وغيرها من المجلات الواسعة النفوذ في العالم.
الجامعات الكبرى خصوصاً أقسام العلوم الطبيعية والتاريخ البشري والتي سيطر عليها الداروينيون وفرضوا عليها مع الوقت ديكتاتورية أكاديمية كانت ترفض تعيين أساتذة في الجامعات ما لم يعلن هؤلاء ولاءهم للداروينية ورفضهم لنظرية خلق الكون. وبالطبع فقد لعبت الجامعات التي سيطر عليها أتباع نظرية داروين والحلقات الأكاديمية الموالية لنظرية التطور دوراً حاسماً في وضع البرامج التربوية للناشئة وفي تكريس نظرية التطور على المستوى العالمي كنظرية علمية لا تقل في علميتها عن العلوم الاختبارية المدعمة بالبراهين القاطعة.
الحليف الثالث والمهم للداروينية كان ولا شك في فئة العلماء والأوساط العلمية التي تميل بتكوينها في غالب الأحيان إلى رفض غريزي للدين ولكل الأفكار التي قد ترتبط بمصادر دينية مثل الكتب السماوية. وقد تمثّل هذا العداء الغريزي للدين من قبل غالبية العلماء في مواقف إيديولوجية كانت تناصر نظرية التطور ليس لأنها نظرية علمية يمكن الدفاع عنها بالبراهين الاختبارية بل لأنها البديل الجاهز والأكثر فائدة في التصدّي للدين وتسفيه الأفكار الدينية وبصورة خاصة إنكار وجود الخالق.
ومما لا شك فيه أن أنصار الداروينية حققوا نجاحاً باهراً في تحويل نظرية لا تستند إلى أي أسس علمية إلى ما يشبه المعتقد العلمي بل الديني الذي لا يقبل الجدل حتى بات من الممكن القول إن الداروينية، وبسبب انتسابها المزيف إلى العلم، قد تكون النظام الفكري الأكثر نفوذاً في العالم اليوم. ويتمثل هذا النفوذ في مختلف وسائل الإعلام لكنّه يظهر بأشد قوته في برامج التعليم التي تسللت إليها الداروينية تحت ستار العلم لتمارس تأثيراً مدمراً على الأجيال الشابة، كما يظهر في الأحاديث اليومية للناس الذين يتعاملون مع نظرية التطور والانتقاء الطبيعي كما لو كانت علماً لا يقل قوة في براهينه عن القوانين العلمية الراسخة.
ويشير مناهضو الداروينية إلى أن هذه الأخيرة استفادت في السابق إلى حدّ كبير من كونها نشأت في منتصف القرن التاسع عشر عندما كانت العلوم الاختبارية الحديثة وتقنيات البحث العلمي في مرحلة بدائية، كما استفادت من الدعم الإيديولوجي الذي جاءها من التيارات الإلحادية المعاصرة وخصوصاً الحركة الشيوعية التي انتشرت في نصف الأرض تقريباً قبل زاولها شبه التام في أواخر القرن الماضي. لكن من حسن الحظ فإن العلوم ووسائل الاختبار الحديثة التي نشأت في القرن العشرين ولاسيما النصف الثاني منه باتت هي التحدي الأول للداروينية وساهمت بصورة أكيدة في زعزعة كل فرضياتها واحداً بعد الآخر.
ويجادل أخصام الداروينية اليوم بالقول إن مشكلة هذه الدوغما الفكرية المشابهة للدوغما الستالينية في روسيا ليس فقط في أنها لا تستند إلى أي أسس يمكن البرهنة عليها، بل في كون جميع التطورات العلمية التي توالت خلال العقود الأخيرة جاءت مناقضة تماماً للفرضيات الداروينية. وسنعرض في ما يلي إلى أهم التحديات والتطورات العلمية المهمة التي دحضت الفرضيات الداروينية وكشفت زيفها وطابعها الإيديولوجي بالدرجة الأولى.

إنسان النياندرتال هدم شجرة التطور الداروينية بعد أن أكدت الأبحاث أنه كان بشرياً مثلنا يخيط الثياب ويرسم ويعزف الناي

التأثير الحاسم لسجل الأحافير Fossil records
تقوم نظرية التطور التي ابتدعها تشارلز داروين على فرضية أساسية هي أن الكائنات جميعها تطورت باستمرار من أشكال حياة بدائية إلى أشكال أكثر تعقيداً إلى أن بلغت صورتها وخصائصها الحالية. من ذلك أن الحياة على وجه الأرض بدأت ببروتين منعزل تطور بعد ذلك وبالصدفة إلى خلية واحدة وتطورت الخلية بفعل مرور ملايين السنين إلى بكتيريا ثم تفرّعت إلى خلية ثم تجمعت الخلايا وتفرّعت بفعل الصدفة أيضاً لتنتج مع مرور الزمن مختلف الأجناس البشرية والحيوانية والنباتية التي نراها اليوم . ومن النظريات التي روّج لها داروين أن نجمة البحر تحولت إلى سمكة مثلاً وأن السمكة تحولت إلى حيوانات مختلفة منها التمساح والعديد من الزواحف، وأن القرد تحول إلى إنسان وأن أحد الحيوانات القارضة الصغيرة تحول عبر التطور الطبيعي إلى الحصان المعاصر، ومن المزاعم الداروينية غير المثبتة بأي برهان أن الديناصورات تحولت إلى طيور ونبتت لها أجنحة بفعل التطور إلخ..
لكن إحدى أكبر الهزائم التي لحقت بهذه المزاعم نجمت عن تطور علم الأحافير والتاريخ الطبيعي Palaeontology الذي يختص بدراسة الأحافير Fossils أو البقايا المتحجرة للأنواع والكائنات من نبات وأسماك وحيوانات وبشر. وقد شهد هذا العلم تطورات هائلة جرّاء تطور أساليب التنقيب وتقنيات تحديد العمر الزمني للمكتشفات والتحليل الإلكتروني والجيني وغير ذلك. كما ساهمت أعمال التنقيب والبحث المتواصلة في تكوين قاعدة بيانات واسعة عن الأحافير تضم أكثر من ثلاثة ملايين أحفور تمّ اكتشافها وتصنيفها وحفظها في متاحف التاريخ الطبيعي ومراكز الأبحاث وغيرها.
إن المشكلة الكبرى التي واجهت الداروينية والداروينيين هي أنه لم يوجد بين جميع تلك الأحافير أحفور واحد يشير إلى وجود أشكال انتقالية أو “تطورية” للحياة. بمعنى آخر، إذا كان داروين على صواب في افتراضه فقد كان على الأحافير أن تضم نماذج “انتقالية” عن الكائنات الموجودة بحيث نرى مثلاً متحجرات لسمكة في طور التحول إلى تمساح أو ديناصور في طور التحول إلى طائر أو نجمة بحر في طور التحول إلى سمكة. والحال لم يعثر العلماء في الـثلاثة ملايين من الأحافير التي عثروا عليها أي أثر من هذا النوع بل كل ما عثروا عليه هو متحجرات لكائنات شبيهة جداً بالكائنات التي تعيش الآن ولا تختلف عنها إطلاقاً. وبهذا المعنى فإن سمكة السردين مثلا وجدت في متحجرات عمرها أكثر من 250 مليون سنة وهذه السمكة لا تختلف أبداً عن سمكة السردين كما نعرفها اليوم. وقد وجدت كل أنواع الحشرات تقريباً متحجرة منذ مئات ملايين السنين بأشكالها التي نعرفها اليوم وكذلك النباتات وأوراق الأشجار والطيور وغيرها. وبالطبع فإن هذه الأحافير أظهرت أن الكائنات والأنواع لم تشهد أي تطور عبر ملايين السنين وأنها خلقت بأروع صورها وبكامل مكوناتها ووظائفها في وقت واحد وليست أبداً نتيجة لتطور مزعوم كما ادعى داروين وكما يستمر أتباعه في الزعم حتى يومنا هذا.
ولو أن هذه الأشكال الوسيطة التي تزعم الداروينية أن التطور الطبيعي مرّ بها قد وجدت حقاً، لكانت أعدادها أكبر بكثير من أعداد أنواع الحيوانات التي نعرفها اليوم، ولَما خَلا مكان في العالم من بقايا أحفورية لكائنات انتقالية ماتت ثم تحجرت وهي في طور التطور. وبسبب هذه الورطة الكبيرة التي تفضح قدر الدجل الذي بنيت عليه نظرية التطور فإن منظري الإلحاد في العالم لا ينفكون يبحثون بصورة محمومة وينقبون منذ القرن التاسع عشر في الأحافير لعلهم يجدون هذه الأشكال الوسيطة، ومع ذلك، فإنهم لم يجدوا أي أثر لهذه الأشكال. وبسبب هذا الحرج الكبير فإننا نجد أتباع نظرية التطور يحتفلون بأي اكتشاف قد يبدو أنه قد يظهر وجود شكل انتقالي لكن في كل مرة كان يتبين أن ظنهم خاب فعلاً، إن ما وجدوه لم يكن شكلاً انتقالياً بل آثاراً لكائنات وجدت دوماً. وبسبب الحرج الذي يشعرون به فقد جنح بعض علماء التطور من أمثال هيكل الألماني (صديق داروين) وبعده العديد من العلماء المزيفين إلى تزوير الأدلة أو تشويهها بهدف سد هذه الفجوة الخطيرة في المنطق التطوري. لكن في كل مرة كان ينكشف التلاعب ويضطر هؤلاء العلماء المتعصبون لنظرية التطور للإقرار بالفشل.

سجل الأحافير أوقع الداروينيين في حرج كبير لأنه كشف أن كل المخلوقات الموجودة اليوم وجدت كما هي قبل ملايين السنين

خرافة نشوء الحياة بالصدفة
في سعيه لتسفيه الإيمان الراسخ لدى أي إنسان عاقل بأن هذا الكون الكامل والمعجز في كماله وتناغمه هو الآية العظمى التي يدل بها الخالق جل وعلا على ذاته وعلى صفاته وكماله وحكمته، اتجه فكر داروين إلى الافتراض القائل بأن الكون بكل تعقيده وتنوعه وتناغمه وإعجازه لم “يخلق” إنما “نشأ” من تلقاء نفسه بالصدفة وبفعل تراكم التطور على مئات الملايين من السنين.
وبالطبع، فقد واجهت محاولة داروين نفي فكرة الخلق صعوبات شديدة كان أهمها: كيف يفسر نشوء الحياة من المادة الميتة، إذ أن نظرية التطور مضطرة للقول بأن العالم الذي بدأ ميتاً ومزيجاً من العناصر الجامدة مثل التراب أو الماء أو الهواء لم يبقَ كذلك، بل “حدث” فيه أمر ما نجم عنه ولادة أول عنصر دبّت فيه الحياة كما نعرفها في الكائنات الموجودة على وجه الطبيعة. وبغض النظر عن أن التحدي الأكبر يبقى في تفسير ظاهرة الحياة نفسها وفهم سرها، فقد أجمع علماء الأحياء المعاصرون أنه من المستحيل تولد الحياة من الجماد. ويشير المفكر والعالم التركي المناهض للداروينية عدنان أوكتار (يحيى هارون) في كتاباته ومداخلاته إلى أن تطور علوم الوراثة، والكيمياء الحيوية، والأحياء الجزيئية وعلم التاريخ الطبيعي أثبتت كلها استحالة أن تكون الحياة قد نشأت بالمصادفة، أو أن تكون قد ظهرت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية، كما أن هناك اتفاقاً عاماً في الأوساط العلمية على أن الخلية الحية تشكل أعقد تركيب واجهته البشرية حتى الآن. وقد كشف العلم الحديث أن التعقيد الموجود في تركيب خلية حية واحدة وفي ترابط نظمها يفوق ذلك الموجود في أي مدينة كبرى.
كما كشفت العلوم أن هذا التركيب المعقد لا يمكن أن يكون قد تكون بعملية تراكمية أو عبر التطور، وأنه من المستحيل أن يعمل بنظامه الحالي إلا إذا نشأت كل أجزائه المتفرقة في وقت واحد وكان كل جزء منها يعمل بتناغم مع الأجزاء الأخرى على أكمل وجه. ولا يمكننا أن نتوقع ظهور أجزاء هذا التركيب بمحض المصادفة على مدى ملايين السنين كما تدعي نظرية التطور. ولهذا السبب، يتضح بجلاء، من خلال التصميم المعقد لخلية واحدة فحسب، أننا أمام نموذج مصغر لمعجزة الخلق التي لا يمكن لأي عقل بشري تفسيرها أو فهم بدايتها أو منتهاها. وإذا كان هذا النظام الشديد التعقيد للحياة موجوداً في خلية واحدة لا أكثر، فكيف هي الحال، إذن، إذا بدأنا التفكير في عمل الأعضاء والجسد والدماغ وفي الوجود المعجز لكل كائن في هذا الكون، نباتاً كان أو حيواناً أو حتى جماداً، وكيف إذا تفكرنا في الأرض التي نعيش عليها وفي تكامل نظامها وحلقاتها ثم انطلقنا إلى المجموعة الشمسية ومنها إلى الأكوان التي عجز الإنسان على أن يعرف لها حداً أو أن يبدأ حتى بفهم حقيقتها.

تبارك الله أحسن الخالقين

صورة إيضاحية لـ”النيوكليوسوم”“nucleosome” الذي يحوي وحدات (د ن أ) في الصبغيات (الكروموسومات). وتحتوي الخلية على الكثير من التراكيب والنظم شديدة التعقيد، بل أن التعقيد الموجود في تركيب خلية حية واحدة وفي ترابط نظمها يفوق ذلك الموجود في أي مدينة كبرى. وقد أثبتت علوم الحياة الحديثة أن هذا التركيب المعقد لا يمكن أن يعمل إلا إذا نشأت كل أجزائه المتفرقة في وقت واحد وفي حالة عمل على أكمل وجه، وإلا فسيكون هذا التركيب بلا جدوى وسينهار بمرور الوقت ويختفي.

الداروينية ليست عِلماً
يدل كل ذلك على أن الداروينية ليست علماً، بل هي تنتمي إلى فلسفة الطبيعة وإلى المعتقدات الساذجة الوثنية العديدة التي سعت إلى تفسير وجود الكون Cosmogony بشتى النظريات والأساطير. وكما نعلم فإن تاريخ البشرية مليء بالأساطير حول بدء الكون وحقيقة الخلق وقد تمت صياغة تلك الأساطير وفق مستوى الفهم والخيال البشري لكل عصر أو حضارة قديمة، ربما لأن الناس يحتاجون إلى تفسير يعطي الطمأنينة لقلوبهم ويتكامل مع معتقداتهم ونظام حياتهم. وبهذا المعنى فإن الداروينية هي أيضاً محاولة لتفسير الإعجاز الرباني في الخلق لكن من منظور طائفة الملحدين الذين يحتاجون بدورهم إلى بناء أساطيرهم الخاصة التي تبرر موقفهم الفلسفي. لكن الغريب بالطبع هو أن الحضارة المادية في الغرب وبصورة خاصة بتأثير النفوذ اليهود المعادي للأديان الأخرى تمكنت من ترقية هذه الفلسفة الطبيعية إلى مكانة العلم والقوانين التي لا يمكن النقاش في صحتها.
يقول الحق تعالى في كتابه العزيز:
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (الكهف: 51)
أي أن الحق تعالى ينبه عباده إلى التواضع والخضوع والتصديق بآياته ورسالاته وعدم إطلاق العنان للفكر في محاولة فهم ما يستحيل عليهم فهمه في ثوبهم البشري. وكيف يمكن للمخلوق أن يدرك فعل الخلق أو للمصنوع أن يدرك سر الصنع والصانع. يقول جل من قائل في شرح الخلق:
َدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة:117).

شعوذات ريتشار داوكن
عجزت الداروينية، وهي مجرد إيديولوجية مقتنعة بالعلم عن إيجاد برهان واحد على أن الحياة يمكن أن تولد صدفة من لا شيء. وما زال هذا الفشل أحد الأدلة الأهم على تهافت الداروينية كعلم مزعوم. لكن أتباع الداروينية الذين يصرون على رفض مبدأ الخلق لم يتورعوا في محاولة الخروج من مأزقهم عن اللجوء إلى حيلة صبيانية لفقها الفيلسوف البريطاني ريتشارد داوكن وتزعم أن الحياة بدأت عندما اصطدم نيزك أو أجسام فلكية بالأرض، الأمر الذي أدى إلى زرع أول جزيء Molecule والذي بدأ بعد ذلك باستنساخ نفسه والتكاثر موفراً الخطوة الأولى لتكوّن الحياة بمختلف مكوناتها وأجناسها. لكن أصحاب التفكير العلمي يسخرون من هذه الحيلة ويعتبرونها مؤشراً ساطعاً على إفلاس الداروينية وحالة اليأس التي تعيشها لجهة الفشل في إثبات أصل الحياة على الأرض. ويسأل هؤلاء: كيف تكوَّن هذا الجزيء الذي سقط على الأرض في الفضاء وكيف يمكن تفسير نشوئه، أي أن نقل مشكلة أصل الحياة التي استعصت على الداروينيين من الأرض إلى الفضاء لا يبدل شيئاً في المعضلة.
يقول المولى عز وجل : َيَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 74)

خرافة الإنسان-القرد
إذا كان الإنسان عاجزاً عجزاً مطلقاً عن فهم أصل الخلق والحياة، فإن المولى جل وعلا حرص مع ذلك على أن يكشف له عن حقيقة وجوده وعن رسالته في الكون. وقد بشر الله تعالى الإنسان بأنه خلقه من ذاته ووضع فيه سر الربوبية عندما قال في كتابه العزيز مخاطباً الملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة:30) ثم قوله جل من قائل مخاطباً الملائكة أيضاً فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: 29). أي أن الله تعالى أودع في الإنسان من روحه أي حقيقته ذاتها ورفعه إلى أعلى مراتب الخلق بل جعل مرتبته فوق الملائكة والذين أمروا بالسجود له. وهو القائل أيضاً وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء:70).
ذلك هو تعريف الإنسان كما أبلغه المولى عز وجل لعباده، وهو تعريف يشرف الإنسان ويطمئنه إلى مغزى الخلق، كما يرسم له معالم الحياة السامية والشريفة التي يتعين عليه أن يحياها في الأرض. واستخلاف الله للإنسان في أرضه شرف كبير لكنه شرف يحتم عليه أن يسلك سلوكاً شريفاً يليق بمقامه عند الله وبالأمانة التي كلف بها. ويشكل هذا الإيمان اليقيني عند جميع الأديان السماوية وخصوصاً الإسلام والمسيحية الأساس الشامل لمنظومة القيم والأخلاق التي يفترض أن تسير حياتهم وقد أمرهم الله صراحة أن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (آل عمران:79) أي تخلقوا بأخلاق الله واعملوا بما أمركم به.
ذلك هو أصل الإنسان كما ورد في الرسالات السماوية وخصوصاً في الرسالة الخاتمة، وهو أصل يبعث شعور الرفعة والكرامة والسعادة في الإنسان ويثبـّـته على طريق الحق ويحميه من الزلل والضياع في حبائل الشيطان.
هذا المقام الرفيع الذي منّ الله به على بني آدم سعى داروين ثم أتباعه إلى تدميره بصورة ماكرة عندما ادعوا أن الإنسان لم يخلق إنساناً بل تحدّر من القرود. وقد كان لابتداع هذه النظرية الخبيثة أهداف عدة واضحة لكل ذي عقل. وأول تلك الأهداف هو إنكار الخلق والخالق وبالتالي هدم الدين. أما الثاني فهو قتل شعور العزة والكرامة لدى الإنسان عبر الزعم بأنه متحدّر من الحيوان بفعل سلسلة من الصدف ومن دون أن يكون لحياته معنى أو هدف. أما الهدف الثالث فهو التمهيد لسلخ هذا الإنسان عن قيمه البشرية وإغرائه باتباع السلوك البهيمي وسلبه من طمأنينة الإيمان وإلقائه في دوامة الحيرة والضياع. وبالطبع، فإذا تمّ ذلك يصبح الإنسان مادة يمكن التلاعب بها وتسييرها من قبل تلك العصبة الماكرة التي تقف وراء مؤامرة هدم الأديان والأخلاق في العالم وهي تسعى من خلال ذلك للسيطرة على الكون.
تزييف العلوم
يعمل الداروينيون وفق أجندة واضحة لا علاقة لها بالعلم، فهم يسعون إلى استخدام كل اكتشاف لآثار عن السلالات البشرية القديمة لتأكيد نظريتهم حول التطور التدريجي للإنسان من عالم القرود إلى عالم الإنسانية. ورغم انهماك هذه الفرقة في التنقيب على مدى أكثر من 150 عاماً فإن المعضلة التي واجهتها كانت وما زالت كيفية العثور في المتحجرات والحفريات على آثار يمكن اعتبارها أشكالاً وسيطة بين القرد والإنسان. لقد وجد الكثير من الآثار والبقايا التي تبين أنها جميعاً لسلالات القرود، كما وجدت آثار تبين أنها للإنسان القديم الذي لا يختلف في تكوينه وخصائصه عن الإنسان المعاصر. وبين صنف القرود الواضح في خصائصه وصنف البشر الأقدمين يحار الداروينيون في كيفية إيجاد أشكال “وسيطة” تبرر نظرية التطور التي يروجون لها. لكن هذه المجموعة المتعصبة التي تستطيع تسخير الإعلام والعلماء والجامعات لم تتردد مع ذلك في تزوير الحقائق واختراع سلاسل خيالية لأجناس أعطيت أسماء علمية وهمية واعتبر الداروينيون أنها تمثل خط التطور من القرد إلى الإنسان، بل أن بعض علماء الداروينية لجأ إلى التزوير أو وضع الرسوم التخيلية التي تؤخذ على أنها حقائق أو تركيب الجماجم أو تركيب فرضيات عن إنسان قديم بالإستناد إلى ضرس وحيد تبين بعد ذلك أنه يعود إلى خنزير بري. وتاريخ الداروينية مليء بحالات التزوير وفضائح التلفيق التي كشف العلم أمرها بسهولة بفضل تقدم وسائل التحقق وتقنياته. لكن هذه العصبة لا يردعها رادع في إصرارها على محاولة إثبات فرضيتها على الرغم من أن العلم كذّب هذه الفرضية على الدوام.

الداروينية هي اليوم، وبسبب انتسابها المزيف إلى العلم، النظام الفكري الأكثر نفوذاً في العالم خصوصاً في أوساط العلم والإعلام والمؤسسات التعليمية

صورة وضعها الفيلسوف الألماني المزوّر هيكل وهو صديق داروين تظهر تصوره الخاص لتطور الإنسان من الجرثومة إلى وجوده الحالي عبر المرور بمختلف الأنواع. وقد فضح العلم زيف هذه النظرية
صورة وضعها الفيلسوف الألماني المزوّر هيكل وهو صديق داروين تظهر تصوره الخاص لتطور الإنسان من الجرثومة إلى وجوده الحالي عبر المرور بمختلف الأنواع. وقد فضح العلم زيف هذه النظرية

إنسان النياندرتال
أحد أهم الأمثلة التي سعت الداروينية إلى استغلالها اكتشاف سلسلة بشرية عاشت قبل نحو 200.000 عام وانقرضت قبل نحو 60,000 عام. اجتهد أتباع داروين للتأكيد على أن إنسان النياندرتال هو كائن بدائي لم يكن في إمكانه أن يمشي منتصباً أو أن يتكلم وأشاروا إلى جبهته الضيقة ليبنوا على ذلك زعمهم بأن هذا الصنف البشري هو دليل على التطور لأن إنسان النياندرتال بهذا المعنى كان جنساً وسيطاً أو انتقالياً على طريق التطور من القرود. وبناء عليه فقد أدرج الداروينيون إنسان النياندرتال في “شجرة التطور” التي اخترعوها باعتباره يمثل مرحلة من مراحل تطور الإنسان من القرود.
لكن الأبحاث العلمية أثبتت بعد ذلك أن إنسان النياندرتال لا يختلف في خصائصه عن الإنسان وأنه يمثل جنساً بشرياً كان يجوب الأرض منتصباً ويخيط الثياب بل ويعزف الناي التي صنعها من عظام الدببة. وأدى تأكيد بشرية إنسان النياندرتال مجدداً إلى إسقاط “شجرة التطور” التي فبركها الداروينيون، وعاد هؤلاء إلى المربع الأول يبحثون عمّا يسمونه “الحلقة المفقودة” التي يمكن أن تستكمل شجرتهم المزعومة وتقيم بالتالي الدليل على أن الإنسان الذي كرّمه الله تعالى إنما تحدّر من القرود.

سجل حافل من المغالطات
لم يقتصر فشل نظرية التطور على حالة الإنسان الذي فشل الداروينيون في إثبات أنه مرّ بمراحل وسيطة، بل أن السجل الهائل للأحافير التي يربو عددها على ثلاثة ملايين أحفور أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك عدم وجود أي دليل على أن النباتات المعروفة اليوم تطورت من أجناس أخرى، أو أن الحيوانات والحشرات والطيور والأسماك التي عاشت منذ مئات ملايين السنين خضعت لتطور مماثل، بل أن التماثل التام بين ما وجده العلماء في الحفريات من متحجرات يثبت أن كل الكائنات على وجه الأرض لم تخضع لأي تطور، وأنها وجدت كما هي في الأزمنة السحيقة بكمال طبيعتها وصفاتها ووظائفها ولم تتغيّر أبداً.
على الرغم من ذلك، فإن الداروينية التي سيطرت على مؤسسات التعليم والإعلام وفرضت نفسها بمثابة دين عالمي للإلحاد المتستر بالعلوم ما زالت ماضية في إنتاج الحكايات وفبركة الحالات لإثبات نظرية التطور التي رفضتها العلوم ويرفضها أي عقل سليم، بل أنه كلما افتضح أمر الداروينية في مغالطة ما نجد أنصارها لا يتأخرون في فبركة حالة جديدة أو اللجوء إلى أحفور جديد قد يكون فتات من العظام أو بقايا جمجمة ليقدموا من خلالها الدليل على أنهم وجدوا هذه المرة الحلقة المفقودة. لكن الله جل وعلا يسّر دوماً فضح هذه الأحابيل عبر وسائل العلم بحيث باتت لعبة الداروينية مكشوفة أكثر وبات العديد من الناس يفتحون أعينهم على زيفها العلمي والأغراض الحقيقية التي تسعى إلى تحقيقها. يقول جل من قائل:
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (التوبة:2)
لكن هذا الإصرار المستمر لهذه الحركة الواسعة النفوذ في العالم إن دل على شيء فهو يدل على أن الداروينية لا يهمها العلم بقدر ما يهمها ترويج إيديولوجية إلحادية تستهدف هدم الأديان والقيم، وأن القوى الداعمة لها والتي تحميها وتقمع بلا هوادة المشككين بها لا تنتمي إلى العلم الذي يفترض أن ينشد الحقيقة وأن يتمسك بالبرهان بل هي قوى لها أجندة خفية إيديولوجية وبعيدة الأمد على النطاق العالمي.
إن علينا أن نكون على حذر شديد من تسلل تلك النظريات إلى معاهدنا وجامعاتنا تحت ستار العلم، وهو أمر حاصل مع الأسف لأن الدول العربية وبحجة العولمة والأخذ بالمعايير العالمية باتت تستورد البرامج التعليمية التي يتم طبخها في الغرب، ومن قبل هيئات يسيطر عليها الداروينيون. وهناك دلائل أكيدة على أن الجامعات المتقدمة في العالم العربي باتت تمارس تأثيراً خطيراً على الشباب الذين يدخلونها ولديهم الكثير من الإيمان ويتخرجون منها وقد اعترت قلوبهم الشكوك أو حتى الإنكار لكل ما هو دين بسبب الغسل المنهجي لأدمغة الشباب الذي يتم بتأثير النفوذ الكبير للداروينية في مؤسسات التعليم.

أحفور لعشب السرخس عمره ما بين 268 و360 مليون عام لم يتبدل أو يتحول إطلاقا !! أين التطور؟
أحفور لعشب السرخس عمره ما بين 268 و360 مليون عام لم يتبدل أو يتحول إطلاقا !! أين التطور؟

الداروينية سيطرت على مؤسسات التعليم والإعلام وأبعدت معارضيها عن الجامعات واضطهدت بلا هوادة كل من تجرأ على رفضها

الصيد العشوائي

الصيد العشوائي في حوض البحر المتوسط وآثاره على التنوع البيئي

500 مليــون طيـر مهاجـر تقتـل سنويــاً
وأنـواع عديـدة باتـت فـي حكـم المهـددة

في غياب القوانين المنظمة وغياب الدولة شبه التام عن فرض احترام الأنظمة، تحوّل الصيد وخصوصاً صيد الطيور المهاجرة في لبنان، إلى حال مقلقة من الفلتان التام والقتل العشوائي لملايين الطيور في العام، وتتم عملية القتل التي يسمونها صيداً بوسائل ممنوعة تماماً في الخارج مثل استخدام “المكنة”، وهي التي تبث نداءات مسجلة للطيور المستهدفة أو الأضواء الكاشفة وغيرهما. وبلغت فوضى الصيد في السنوات الأخيرة حداً تحول معه كل من يمتلك ثمن بندقية صيد لا يتجاوز سعرها الـ 100 أو الـ 200 دولار إلى “صياد” يجوب القفار والجرود والأودية بحثاً عن أي جناح يطير من دون أي اهتمام لنوعه أو لواقع كون الطير من الأنواع المهدّدة التي تستوجب الحماية، بل في كثير من الأحيان يتم قتل الطيور المهاجرة التي لا يمكن أكلها مثل النسور والعقبان والبوم أو طائر السنونو أو غيره، كل ذلك في اندفاع السلاح والرماية على أي هدف يطير في السماء. وبالنظر لغياب جمعيات الصيادين المنظمة أو السلطات المحلية أو غيرهما، فإن معظم “الصيادين” ليست لديهم فكرة على الإطلاق عن الأنواع المهدّدة ولا عن الآثار السلبية المتزايدة لقتل الطيور على التنوع البيئي، ويكفي قول بعض كبار السن إن الوفرة الهائلة للطيور قبل نحو 60 أو 70 سنة كانت عاملاً أساسياً في نقاء الطبيعة والمحاصيل من الآفات، فلم تكن هناك حاجة لرش المبيدات أو أشكال المكافحة، وقد كانت الطيور المهاجرة يومها تنعم بأمن كبير لأن الصيد كان مقتصراً يومها على استخدام قضبان “الدبق” وبعض أسلحة الصيد البدائية التي يتم حشوها في كل مرة يراد فيها قنص طير من الطيور. ومن المرجّح أن تطور أساليب الصيد وأسلحته والاتساع غير المسبوق للأشخاص الذين يمارسون الصيد أدّيا إلى إنقاص كبير في عدد الطيور المهاجرة التي تمرّ في بلداننا، والتي كان الكثير منها يشكل العدو الطبيعي للكثير من الديدان أو الحشرات الضارة . وقد شهدنا في السنوات الأخيرة مثالاً على ذلك انتشار دودة الصندل التي تفتك بأشجار الصنوبر البري وبأشجار السنديان والملول، وقد عزا الخبراء استفحال أمر هذه الدودة إلى الفتك الواسع النطاق بأنواع من الطيور، مثل السفري التي كانت تتغذى على هذه الديدان وتحدّ بالتالي من أثرها على البيئة، وذلك كجزء من التوازن الطبيعي الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة وحافظت عليه الأجيال السابقة من الأجداد على مر القرون والدهور. كما أن طيور “العابور” تتغذى على أنواع كثيرة من الحشرات التي تكثر في موسم الربيع ومطلع الصيف عندما تتحرك الطبيعة وتبدأ الحشرات الضارة بالتحرك من سباتها الشتوي.
إن التشديد على هذه الأمور لا يعني بالضرورة العمل على منع الصيد بصورة تامة، لأن الصيد معترف به كنشاط يخدم التوازن البيئي إذا تمّ ضمن قوانين وعمليات متابعة وإحصاءات مستمرة لكميات الطيور المهاجرة للتأكد من الحفاظ على معدل معين لأعدادها وتوالدها. وقد طوّرت البلدان الغربية وسائل حديثة وتقنيات متطورة لمتابعة أسراب الطيور وطرق هجرتها وسلوكها خلال موسمي الهجرة، وهما: الهجرة من الشمال البارد إلى أفريقيا قبل موسم الشتاء، ثم الهجرة المعاكسة من أفريقيا باتجاه شمال الكرة الأرضية في الربيع ومع اقتراب الصيف.
أما في لبنان، فلا توجد جهود حقيقية للقيام بهذا النوع من المتابعة والتقييم بإستثناء الجهود المخلصة لبعض جمعيات حماية الطيور أو لبعض البرامج الخاصة والمدعومة من الاتحاد الأوروبي أو برنامج الأمم المتحدة للتنمية، لكنّها جهود محدودة ولا ترقى أبداً إلى مستوى الإدارة المنتظمة والعلمية لنشاطات الصيد مع التقييم والقياس الدائمين لأثر تلك النشاطات على أجناس الطيور وأعدادها بين موسم وآخر.
ومما لا شك فيه أن عدد الكثير من الطيور المهاجرة قد تأثر مع السنين بالصيد الجائر والعشوائي حتى أن عدداً منها بات فعلاً مدرجاً في لائحة الأنواع المهدّدة، والتي تتطلب بالتالي تطبيق إجراءات فورية لحمايتها.
وتشير دراسات قامت بها المنظمات المتخصصة في حماية الطيور ومتابعة الأنواع المختلفة منها إلى أن الصيادين في لبنان يقتلون ملايين الطيور المهاجرة التي تمر في لبنان سنوياً في طريقها نحو أفريقيا،وكذلك في طريق عودتها إلى شمال الكرة الأرضية. وهناك تقديرات بأن نشاط الصيد في دول حوض البحر المتوسط أي جنوب أوروبا وشمال أفريقيا ودول الحوض الشرقي للبحر المتوسط يؤدي سنوياً إلى قتل نحو 500 مليون طير، وذلك خلال عبور الأسراب المهاجرة فوق منطقة البحر الأبيض المتوسط، علماً أن قسماً كبيراً من هذه الطيور يتم قنصها أو أسرها بالجملة بواسطة الشباك والأساليب الأخرى في منطقتي شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط المحاذية للبحر الأبيض المتوسط. يذكر أن معظم الطيور التي يتم قتلها هي أنواع تتوالد في أوروبا خلال الصيف وتقضي الشتاء في أفريقيا، كما أن العديد من تلك الطيور بات مصنفاً ضمن الأنواع المهدّدة عالمياً، وذلك في المصنف الأوروبي للطيور.

الكثير من الآفات الزراعية الفتاكة انتشر في لبنان بسبب الصيد الجائر لأجناس من الطيور تشكل العدو الطبيعي للحشرات المسببة لتلك الأضرار

وظائف الطيور
في البيئة الطبيعية

1. الطيور تنشّط نمو الأشجار بما لا يقل عن نسبة
30 %، وذلك عبر تنقية البيئة من الطفيليات وغيرها من الحشرات الضارة التي تتسبب بتأخير النمو.
2. الطيور هي أكبر وسيلة لنشر البذور وتكثير العديد من النباتات، وذلك بسبب أنها تنقل الكثير منها عبر قوائمها.
3. تساعد الطيور أيضاً في تلقيح الثمار عند انتقالها بين الأشجار ونشرها لحبوب اللقاح في الهواء.

مسارات الطيور المحلقة المهاجرة عبر لبنان

على الرغم من أن أسراب الطيور العالية التحليق (مثل البجع والكركي واللقلاق وغيرها) يمكن مشاهدتها في أي مكان من لبنان خلال مواسم الهجرة، فإن الأبحاث العديدة برهنت على أن تلك الطيور تفضل بعض الطرق على غيرها، لكن هذه الطرق ليست نفسها بالنسبة لجميع الأجناس أو في موسمي الهجرة كما يظهر من الخارطة المرفقة. إذ تظهر الخطوط الصفراء السميكة الطرق التي تأكد وجودها عبر الأبحاث، أما الخطوط الصفراء المنقطة فقط تمّ استنتاجها بصورة أولية وتحتاج إلى المزيد من الأبحاث للتأكد منها.

لا يوجد في لبنان إطار قانوني ينظم الصيد، ولا قوى كافية لفرض الالتزام بأي إجراءات تنظيمية والكثير من القرارات يبقى من دون متابعة وتنفيذ

وكذلك في طريق عودتها إلى شمال الكرة الأرضية. وهناك تقديرات بأن نشاط الصيد في دول حوض البحر المتوسط أي جنوب أوروبا وشمال أفريقيا ودول الحوض الشرقي للبحر المتوسط يؤدي سنوياً إلى قتل نحو 500 مليون طير، وذلك خلال عبور الأسراب المهاجرة فوق منطقة البحر الأبيض المتوسط، علماً أن قسماً كبيراً من هذه الطيور يتم قنصها أو أسرها بالجملة بواسطة الشباك والأساليب الأخرى في منطقتي شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط المحاذية للبحر الأبيض المتوسط. يذكر أن معظم الطيور التي يتم قتلها هي أنواع تتوالد في أوروبا خلال الصيف وتقضي الشتاء في أفريقيا، كما أن العديد من تلك الطيور بات مصنفاً ضمن الأنواع المهدّدة عالمياً، وذلك في المصنف الأوروبي للطيور.
لكن على الرغم من الاهتمام بالطيور المهاجرة، فإن المؤسسات والجمعيات المتخصصة تعترف بأن نشاط الصيد هو نشاط اقتصادي واجتماعي مهم في كافة البلدان المعنية، وأن أي خطة لحماية الطيور يجب أن تأخذ في الاعتبار واقع أن الصيد نشاط يدخل فيه مئات الآلاف من الأشخاص ويتم على مساحات شاسعة من المنطقة، وتشير التقارير إلى أن أبرز العقبات التي تواجه مهمة حماية الطيور المهاجرة في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط هي التالية:
1. لا توجد إدارة فعلية لحركة وواقع الطيور المهاجرة في المنطقة، كما لا يوجد إطار قانوني ينظم الصيد، ولا قوى ووسائل فعّالة لفرض الإلتزام بأي إجراءات تنظيمية للصيد بحيث يبقى الكثير من تلك القرارات من دون متابعة وتنفيذ.
2. لا توجد موارد كافية في هذا الصدد سواء لدى الحكومات أم لدى منظمات المجتمع المدني المعنية.
3. هناك ضعف عام في الوعي لدى الصيادين، ولدى الرأي العام عموماً، بالأثر البيئي الذي ينتج عن الصيد الجائر وغير المنظم للطيور.
4. لا يوجد إطار للتعاون الإقليمي بين الحكومات والمؤسسات المعنية من أجل تحقيق حماية أفضل للطيور المهاجرة.
5. هناك تاريخ من النزاع وسوء التفاهم المستمرين بين الصيادين وبين المنظمات المعنية بحماية الطيور حول الأولويات وأساليب التعامل مع الصيد المنظم للطيور.
الطريف أن الكثير من اللبنانيين يعتقدون خطأً بأن الصيد تقليد قديم وأنه يسري مسرى الدم في عروقهم ، أما حقيقة الأمر فهي أن الصيد لم يدخل إلى لبنان على نطاق واسع إلا في مطلع الخمسينات، وذلك خلال عهد الرئيس كميل نمر شمعون الذي كان هو نفسه من أكثر المتحمسين للصيد، وقد تعلم فنونه في بريطانيا حيث أتم دراسته وعاد إلى لبنان ليمارس تلك الهواية غالباً تحت أنظار الصحافيين والجمهور. وبالنظر لشخصية الرئيس شمعون وشعبيته فقد بدأ العديد من أبناء الطبقات الميسورة دخول حقل الصيد تشبهاً برئيس البلاد، وبدأ تقليد إدخال أسلحة الصيد الحديثة وكلاب الصيد ينتشر تدريجياً مع بداية الستينات. وقد أظهر إحصاء أجري في سنة 1994 أن عدد الصيادين المسجلين في لبنان كان قد بلغ 14,000 صياد، لكن التقديرات الواقعية المبنية على معلومات وتحقيقات لاحقة أظهرت أن العدد قد يتراوح بين 60,000 حسب مصادر الصيادين وربما 200,000 أو أكثر إذا أخذ في الاعتبار نشاطات الصيد المتقطعة للكثيرين.
وفي سنة 1995 أصدرت الحكومة اللبنانية وبناءً لاتفاق مع هيئات الأمم المتحدة حظراً شاملاً على الصيد لمدة خمس سنوات، وذلك بعد سنة من توقيع لبنان على معاهدة التنوع البيئي الدولية، والتي فرضت عليه التزامات محددة بشأن حماية الحياة البرية والبحرية.
وبعد انقضاء مدة الحظر، وفي غياب بدائل أفضل فقد استمرت الدولة اللبنانية في تجديد الحظر سنة بعد سنة إلى أن تقرر في سنة 2005 إصدار قانون للصيد ينظم الموسم بدلاً من الحظر التام، إلا أن القانون يحتاج إلى مراسيم تنظيمية وآليات لم تكتمل بعد. وقد أرسل موقف الدولة اللبنانية والبرلمان رسائل متناقضة للمجتمع بحيث عاد الصيد غير القانوني بقوة غير مسبوقة. وتقول منظمات حماية الطيور إن منع الصيد لا يمكن أن يطبّق بفعالية من دون تحديد “كوتا” محددة لكميات الخرطوش وعتاد الصيد الذي يُسمح للمحلات المتخصصة بأسلحة الصيد ببيعها سنوياً، وكذلك من دون منع تقديم العصافير كطبق في المطاعم، لأن أحد المحفزات الأساسية للصيد هو إمكان بيع العصافير للمطاعم من قبل صيادين يعتمدون عليها لتحقيق دخل من هذا النشاط.

شغف الرئيس كميل شمعون بالصيد ورحلاته المصورة في خمسينات القرن الماضي لعبت دوراً في ترويج الصيد بين أبناء الطبقة الغنية أولاً ثم بين عامة الناس

الصيد في لبنان من رياضة المشي
إلى فن القتل الكسول بواسطة «المكنة»

صيد الطيور في لبنان هل هو رياضة فعلاً؟ أو هل بقيّ فيه شيء من نشاط وتقاليد وقيم الرياضة؟ في الماضي كان الصيد متعة حقيقية في الطبيعة وترصداً وانتظاراً أو سيراً حثيثاً وتسلقاً للجبال أو هبوطاً للوديان، كما كان سمراً بين الصيادين وتعاوناً ولم يكن المهم فيه كمية الصيد أو حجم الطرائد بقدر ما كانت الرياضة نفسها وما تجلبه للصيّاد من عافية للجسم وتحمل المشاق، كما أن قسماً منها ولا شك كان متصلاً بالتاريخ الحربي للعديد من مناطق لبنان بما في ذلك الجبل، فكان الصيد ولو من باب غير مباشر جزءاً من اعتياد السلاح وفن الرماية وسبباً للثقة بالنفس والشعور بالقوة. وبهذا المعنى على الأقل فقد كان الشعور العام هو شعور تسامح وإعجاب بالصيادين وبقوتهم وجلدهم وشعور الأخوة بينهم والمنافسة الرياضية بينهم.
لكن أين صورة الصيد هذه وتقاليده من الصورة التي أصبح عليها الصيد في أيامنا الحاضرة. لقد تحول الصيد إلى رياضة للقتل الكسول في غالب الأحيان. سيارات متوقفة على قارعة الطريق وطاولات ونارجيلة بالتبغ “المعسَّل” واستعراض لأنواع السلاح وماركاته والأحدث منه أو الأغلى ثمناً. لكن كل هذه العدّة لا تساوي شيئاً أمام الاختراع الذي دخل ميدان الصيد عندنا وهو “المكنة”، أي آلة التسجيل التي تخدع الطيور بإذاعة صوت طيور من جنسها وهو ما يدفع بها إلى الاقتراب من الصيادين الذين قد يقتلونها وهم في أماكنهم ومن دون الحاجة إلى أن يتحركوا خلفها أو يطاردوها.
هل هذه “رياضة” فعلاً، وأي هدف منها سوى الظهور وحرق الخرطوش على كل جناح يطير أو يقوده سوء الحظ إلى مجال الرماية هذا الذي قد يضم أحياناً أكثر من خمسين سيارة مع أطقمها وأسلحتها المتنوعة والمتطورة؟

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

والليل إذا سجى

نعيش في زمن ضاعت فيه الحدود بين حق الفرد وحقوق الجماعة بين ممارسة الحرية الشخصية واحترام حرية الآخرين، وعندما تخترق الفردية المنفلتة من أي ضابط اجتماعي أو إنساني حياة الآخرين فتعكر صفوها تصبح بكل بساطة عدواناً، وفي غياب الدولة وحكم القانون يصبح كل فرد أو جهة مهما صغرت مرجعية في حد ذاتها ترسم حدود فعلها تعسفاً محضاً وتشرِّع لنفسها وما على الآخرين بكل بساطة سوى الرضوخ.

مناسبة هذا الكلام استفحال ظاهرة الضجيج وفتح مكبرات الصوت في الأماكن المفتوحة وبعض الصالات التي تأخذ على عاتقها تنظيم سهرات الأعراس والحفلات من كل نوع، وقد قلبت هذه الدكاكين الفوضوية ليل الجبل الهادئ إلى صخب مرهق يصم الآذان، وينطلق في جميع الاتجاهات ليمزق ستر الليل ويفسد سمر السامرين وسكون العابدين وطمأنينتهم في زوايا البيوت والملتقيات، رغم أن القانون يشترط الترخيص لإقامة الحفلات في الأماكن المفتوحة كما يشترط الالتزام بوقف المذياع بعد الحادية عشرة ليلا،ً فإن القانون المطبّق الآن هو شريعة الغاب فلا أحد يهتم بالحصول على ترخيص أو يلتزم وقتاً معيناً لوقف مكبرات الصوت، وقد أصبحنا فعلاً في حيرة حول ما يمكن فعله لوقف هذه “الغزوة” وهذا التلوث المتزايد بالضجيج في بيئة الجبل، الذي يُعتبر الهدوء والسكينة من أهم مكوناته التقليدية بل وأهم عناصر النوعية العالية للحياة التي يتمتع بها سكانه وزواره على السواء.

بعض الناس الذين قرروا كسب رزقهم بهذا النوع من النشاطات يعتقدون فعلاً أن في إمكانهم ومن حقهم أن يقضُّوا مضجع منطقة بكاملها ساعة يشاؤون وأينما يشاؤون. ونقول “أينما” يشاؤون لأن الجبل بكامله أصبح مباحاً ومشرعاً لكل من يمتلك مجموعة كراسي ومكبرات صوت ومذياع، إذ لا توجد مناطق لا يُسمح فيها مثلاً بإقامة الحفلات في الأماكن المفتوحة كما في بيروت التي تخصص شوارع معينة لنشاط المقاهي والسهر (في مكان مقفل) دون غيرها وتبقي على عناصر الشرطة والأمن في المكان لرصد أي تجاوزات وتلقي الشكاوى وقمع المخالفات.

ما تتجاهله دكاكين الضجيج هذه هو أن الليل ليس ملكاً خاصاً ولا مشاعاً بل هو مثل الهواء والماء “حق” من حقوق الجماعة لا بدّ من تنظيم الانتفاع به كما ينظم الانتفاع بالفضاء والأرض والمياه. وكما أن من غير المسموح أن يعتدي إنسان على الطريق العام أو يستولي على مياه نبع ماء أو أن ينفث الملوثات الكيميائية في الهواء، كذلك من غير المسموح أن يستولي أي كان على الليل وسكونه فيلحقه بعمله أو تجارته في وقت يحتاج الناس الليل، وبعد العمل المضني في النهار، للإخلاد إلى الراحة أو التسامر أو الاستغراق في نوم مطمئن. وقد جاء في الكتاب الكريم }وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا{(النبأ: 10 و11)، أي أن المولى جل وعلا جعل النهار للكسب بينما خصص الليل لراحة الإنسان كما جعل ربعه الأخير وقتاً للعبادة والذكر والتقرب من الله.

السؤال المهم هنا هو بالطبع: من هي الجهة المسؤولة عن وقف هذا التعدي المتمادي؟ نعتقد أن المسؤولية مشتركة بين البلديات والدولة والجمعيات الأهلية، إذ يمكن للبلديات أن تأخذ على عاتقها وضع تشريعات واضحة لتنظيم الحفلات في الأماكن المفتوحة والإصرار على عدم تجاوز الصوت حاجزاً معيناً (بوحدة الضجيج أو Decibel) وأن يُمنع بتاتاً الاستمرار في استخدام مكبرات الصوت بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً وفي الأماكن المرخصة، والتي تستوفي الشروط فقط. كما أن قوى الأمن الساهرة مشكورة على أمن الناس يمكنها تطبيق القانون بجدية، مع الثقة التامة بأن قرى الجبل ومجتمعه المدني يدعمانها في أي إجراءات تستهدف وقف الفوضى الحالية.

أخيراً، فإن الجمعيات الأهلية يمكنها أخذ المبادرة للتعاون من أجل إطلاق حملة “أعيدوا لنا ليلنا”، والتي تعتزم “الضحى” تقديم المساعدة لها بشتى السُبل الممكنة ابتداءً من العدد المقبل، وكذلك عبر الموقع الشبكي الذي سيخصص مساحة بارزة لهذه الحملة فور انطلاقة هذا الموقع قريباً جداً بإذن الله. فتابعونا.

السبيل إلى التوحيـــد

السبيـــل الــى التوحيــــد

مشيخـــة العقـــل تنشـــر دليـــل المهتميـــن والطالبيـــن
للتعـرُّف علـــى مرتكـــزات الإيمـــان والسلـــوك التوحيدييـــن

تتابع مجلة “الضحى” في هذا العدد نشر فصول أول إصدار مرجعي تنشره مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز بهدف تنوير المهتمين والطالبين من أبناء الطائفة وغيرهم من أبناء الجماعات الروحية المهتمين بالإطلاع على موجز سهل يبيِّن أسس المسلك التوحيدي الدرزي وثوابته الروحية والأخلاقية.
وفي ما يلي الحلقة الثالثة من هذا الإصدار المهم على أن يتبع ذلك نشر الحلقة الأخيرة في العدد المقبل، علماً أن مشيخة عقل الطائفة تستعدّ لإعادة إصدار هذا النص المرجعي باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، وذلك في طبعة مراجعة ومنقحة، ويؤمل أن يساهم هذا العمل الأول من نوعه في سدّ ثغرة مهمة في إيضاح أسس المذهب وإزالة الكثير من اللبس والأفكار الخاطئة التي نجمت عن غياب النصوص وغلبة المواقف والاجتهادات والتأويلات غير الدقيقة أحياناً.
وفي يلي الحلقة الثالثة:

[su_accordion]

[su_spoiler title=”الفصل الخامس: خلاصة مفهوم مذهب التوحيد” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الرؤية أو المُشَاهَدَة
علَّمَ جِبريلُ النَّاسَ دِينَهُم لمّا أتى النَّبيَّ  رجُلٌ بينَ النّاس قَائِلاً: “مَا الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أن تُؤمِنَ بِاللهِ، وَمَلائكتِه، وبِلِقائِه، وَرُسُلِه، وتُؤمِنَ بِالبَعثِ. قال: مَا الإسلامُ؟ قالَ: الإسلاَمُ أن تَعبُدَ الله ولاَ تُشرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤدِّىَ الزَّكاةَ المَفرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ. قالَ: مَا الإحسَانُ؟ قالَ: أن تعبُدَ الله كأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لمْ تكُن تَراهُ فإنَّهُ يَراكَ” (البخاري)، والإحسان هو التوحيد.
وفسَّرَ ذلِك ابنُ القّيِّم، قَال: “هُوَ ألاَّ تُزَايِل المُشَاهَدَةَ أبَدًا، وَلاَ تَخلِط بِهِمَّتِكَ أحدًا” (مدارج السالكين). وَالحقِيقَةُ الَّتي لاَ تغِيب عنْ قَـلبِ المُوَحِّد هِيَ أنَّ الله نُورُ السَّمَوات وَالأرض (النور 35)، وَأَنَّ مَنْ لم يجعَل اللهُ لهُ نُورًا فَمَا لهُ مِن نُور(النور 40)، وَأنَّ هَذِه اللَّطَافة اللَّدُنيَّة لاَ يُدرَك استِبصَارُهَا إلاَّ بِسلُوكِ السُّبُل المُستقِيمَة، وَتحقِيق الفضائِل الشَّريفَة، وبَذل الذّات فِي صَالِح الأعمَال، وحَميد الأحوَال سَعيًا إلَى وَجْه الله لقَولِهِ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ الله(البقرة 115)، وَلِقولِهِ عزَّ مِن قَائِل ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذِينَ يُريدُونَ وَجهَ الله(الروم 38). وهَذا السَّعيُ المُبَارَك سُمِّيَ فِي الكِتابِ العَزيـز كَدحًا، فِي قولِهِ مِن سُـورَة الانشِقاق يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى ربِّكَ كَدحًا فَمُلاقِيه(الانشقاق 6)، وهُوَ الرِّضَى أعظَم الثَّواب. وأجلُّهُ فِي الآخِرةِ مَا وَرَدَ فِي الذِّكر الحَكِيم وُجُوهٌ يَومَئذٍ نَاضِرَة * إلَى ربِّهَا نَاظِرَة (القيامة 22-23).
إن اصل الاعتقاد لدى الموحدين هو الاقرار بوجود الله عز وجل واهب الوجود، وجوداً حقيقياً محضاً دائماً قائماً بذاته لأنه الحي القيوم الذي لا يشوبه العدم ولا يعتوره التعطيل. قال تعالى: قُـلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (الإخلاص).
ثم تنزيه الذات العلية عن الماهية، وتقديس صفاته تعالى عن الكيفية، وأن الوجود لا يخلو منه طرفة عين وما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم (المجادلة 7) وجوداً متعالياً عن الحد والكمية.
وأن معرفة الله عز وجل هي أعظم المفترضات وأجل المذدخرات.
ولا بد للعبد من معرفة معبوده، وللمخلوق من تسبيح خالقه، وللمرزوق من حمد رازقه، معرفة جزئية وإدراكاً محدوداً من حيث الإنسان لتقوم الحجة وتتم النعمة.
وفي مسلك التوحيد فعبادة الله عز وجل شوقاً إلى رؤيته في الدار الباقية أسمى أهداف العبادة، كما قالت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ر) ساعة النزاع: إليك ربي لا إلى النار، ولم تقل إلى الجنة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” الفصلُ السادِس: قواعد الحَلال والحَرام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عرفت كثيرٌ منَ الشّعوبِ القدِيمَة العديدَ منَ أنواع الإباحَات التي ساهمَت في نهَايةِ المَطافِ في انحِطاطِهَا وتهافُت بنيانهَا. فكانت الرِّسالات السماويَّة شِرعةً ومِنهاجًا (المائدة 48)، أخرجَت شعوبًا بأسرِهَا مِن ظلمات الجَهل إلَى نُور الحضَارات الإنسَانيَّة المَشهُودَة. وكانَ أمرُ الحلال والحَرام والتَّمييزُ بينهُمَا، فِي كلٍّ منهَا، قوامَ الدِّين، ودَلِيلَ الإيمَان، ومِيزان الصِّدق الَّذي بهِ يصِحُّ مسلكُ المَرء أو يلتبس عليه. إنَّ الله سبحانَهُ وتعالَى، أرادَ بالتَّحليل والتَّحريم الرَّحمةَ بعبادِه لحِكمَةٍ منهُ بَالِغَة متعلِّقَة بِخَير النَّاس أنفسهم، فلم يُحِلّ سبحانه إلا طيِّباً، ولم يُحرِّم إلا خبيثاً، يُريدُ اللهُ بِكُم اليُسرَ ولاَ يُريدُ العُسرَ (البقرة 185)، إنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم (البقرة 143).
إنَّ مِن واجبَاتِ المُوحِّد شَرعًا حِفظَ العَقل، وحِفظَ النَّفس، وحِفظَ المَحَارِم، وحِفظَ الدِّين، وحِفظَ المَال، لأنَّ بِهَذِهِ العَطَايَا تستقيمُ الحيَاة، وبِهَا يكونُ المرءُ قادِرًا علَى تحقيق الغَاية مِن وُجُودِه وفق قوله تَعَالَى يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ ويَنهَاهُم عنِ المُنكَر ويُحِلُّ لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ علَيهِمُ الخَبَائِثَ (الأعراف 157).
إنَّ قواعِدَ الحلال والحَرَام تُستمدُّ مِن كِتابِ الله المُبِين الَّذِي يفصل بينَ الحقّ وَالبَاطل، والَّذي هوَ هُدًى لِلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ منَ الهُدَى والفُرقَان (البقرة 185)، لِذَلِكَ، فإنَّ الحَلالَ مَا حلَّلهُ اللهُ تَعالَى الحَكيمُ العَليم، والحَرام مَا حرَّمَه عزَّ وجلّ، وَاللهُ يقولُ الحقَّ وهُوَ يَهدِي السَّبِيل (الأحزاب 4).

المأكل والمشرب
يُشدِّدُ الموحِّدون على ضرورة السَّعي لكسب الطَّعام والرِّزق الحلال لقولِهِ سُبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ (سورة البقرة 172). فأمّا الحرام فِي مسألَةِ المأكَل والمَشرب عندهُم فهُو معيَّنٌ فِي آياتٍ كَريمَة منها:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ (سورة البقرة 173)، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلَامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُـفلِحُونَ (سورة المائدة 90).
ومِنَ الواجبِ أيضًا عندَ الموحِّدين الدّروز ذِكر اسم الله سبحانه وتعالى عند بداية تناول الطعام، وفي كل موقف يتوجَّب ذكره، ومنها ذبح الأنعام والمواشي وذلك لقوله تعالى:
وَما لَكُم أَلاَّ تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ (سورة الأنعام 119)، فإنّ ذكرَه تعالى عند ابتداء تناوُل الطَّعام هو تذكُّر وشكر لنِعم الله عزَّ وجلَّ الَّتي لا تُعدُّ ولاَ تُحصَى، وكذلك عند الذبح لأن الذبائح لا تحلّ إلا باسم الله وحده.
الزَّواج
تضمَّن قانونُ الأَحوَال الشَّخصِيَّة لِطائِفة المُوحِّدِين الدّروز العديدَ من القَواعدَ المتعلِّقَة بقضَايا الخطبة، والزّواج، والطّلاق، والحجر، والوِصَاية، والوَصيَّة، والإرث وغيرها. وقد اعتمَدَت تشريعَاتُ الزَّواج علَى ما وَردَ فِي القرآن الكريم مِن آياتٍ طيِّبات، ومَا وَردَ فِي الحَدِيث الشَريفِ مِن الحَثِّ علَى الزَّواج وضوابطِه. وقد تمَّ اختِيار مسلك التَّحفّظ والحيطة فِي مسألة تعدُّد الزّوجات، فاعتُمِد الاكتِفَاء بِالزَّوجَة الواحدة استناداً لقولِه تَعالى: فَإِنْ خِفتُم أَلاَّ تَعدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء 3)، ثمَّ قالَ عزَّ مِن قائل وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ (النساء 129). كذلِك تمّ اعتمَاد عدم جواز إعادة المطلقة اجتهاداً إلى إمكانية الوصول للطلاق البائن والنهائي بعد مراعاة كامل التدرج في معالجة الخلاف الزوجي وفقاً للآيات التفصيلية الواردة في سورة النساء(34-35).

المحَارِم
إنَّ مَا يحرُمُ التزوُّج بهنَّ مِنَ النِّسَاءِ عندَ المُوَحِّدِينَ مُعيَّنٌ فِي الآيةِ الكَريمَةِ مِن سُورةِ النِّساء: حُرِّمَت عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم وَبَنَاتُكُم وَأَخَوَاتُكُم وَعَمَّاتُكُم وَخَالاَتُكُم وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُختِ وَأُمَّهَاتُكُم اللاَّتِي أَرضَعـنَكُم وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُم وَرَبَائِبُكُم اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلتُم بِهِنَّ فَإِن لَّم تَكُونُوا دَخَلتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم وَحَلاَئِلُ أَبنَائِكُم الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُم وَأَن تَجمَعُوا بَينَ الأُختَينِ إَلاَّ مَا قَد سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(سورة النساء 23).
كذلك تحرُم المَرأة المتزوِّجَة مَا دَامت فِي عِصمَة زَوجِها، وتحرُم المَرأة الَّتي لم تَستوفِ عدَّتها (أربعة أشهر) إما بطلاق من زوجها أو موت. وكذلك زَوجة الأب، فإنَّها تحرُم على ابنِ زوجها كمَا جاءَ في الآيةِ 22 من سُورَة النِّساء.
وعَدَّ الموحِّدون الزِّنَى مِنَ الكبائِر الَّتي يؤدِّي ارتِكابُهَا إلَى الضَّرر الروحيّ البَالِغ، لِذَلِك فهُوَ مُحرَّم استِنادًا فِي الأصلِ إلَى الرسالات السماوية ووَصَايا الأنبِيَاء، وأيضًا لِمَا يُمكِن أن يترتَّبَ عليهِ مِن اختِلاطِ الأنسَاب، وانحِلال الأُسَر، وتفكُّك الرّوابِط، وانتِشَار الأمراض، وأيضًا، لِمَا يُسبِّبُه مِن انطماسِ بصيرَة مُرتكبه الَّذي يعدم اكتِسَاب لطافَة الفائِدة الرُّوحيَّة، “فلا يستـلذّ بِكلامِ الحقّ، ولاَ يستحلِيه، وإن كثُر تردادُهُ علَى لِسَانِه” كمَا ذكرَ الشَّيخُ الفَاضِل.
إنَّ اللائقَ بالمرأةِ الموحِّدَة، وفقًا لأدبيَّات الثِّقات، أن تكونَ عاقـلةً، رصينة، عفيفة، ذات حيَاء، صادقة، تصون كرامتَها بشجَاعة، وتتجنَّب كلَّ مَا قد يُسيء إليها من اختلاءٍ بغير محرم، أو مِن لباس غير محتشم. وتكونُ متمسِّكةً بواجباتها العائليَّة والدينية، ملتزمةً بشروط الزّواج والإنجاب والتربيَة الصَّالِحة. وفِي كلِّ حال، تكون مستشعِرةً وجُود الخالق، متشوِّقة إلَى اكتِساب المعرفَة اللطيفة لتُضيءَ سِراج سجايا الخَير فِي روحِهَا، ويكون باستِطاعتِهَا تفهُّم المعانِي السَّاميَة للتربيَة المستقيمَة.
إنَّ غايةَ الحرِّيَّة فِي المفهوم التَّوحيديّ أن يحقِّـقَ الإنسَانُ فضِيلَةَ ذاتِه بالحقّ، كمَا جاء فِي قول السيِّد المسيح “إعرفُوا الحقَّ والحقُّ يحرِّرُكُم”.
ومِنَ الأمُور الَّتي تدخُل فِي بَابِ ارتِكابِ الحَرام كلّ أنواع العلاقات الشَّاذّة كالزّواج المِثـلي، والمَساكَنة وغيره. وبالإجمال، فإنَّ الرؤيَة الأخلاقيَّة لِلموحِّدِين، مِن حيثُ هيَ مرتبطةٌ ارتِباطًا وثيقًا وضروريًّا بقاعدَة الترقِّي فِي العُلوم المُثمِرَة، واقتِبَاس اللطائف العقـليَّة السَّاميَة، واستِخدَام الجَوارح فِيمَا خُلِقَت لهُ مِن دون انزلاقٍ فِي الإفراطِ المؤذِي، والتَّـلهِّي فِيمَا يطمس بصيرة القـلب، كلّ ذَلِكَ يُسهِمُ فِي تحدِيد الموقف أيضًا مِن أمُورٍ متعدِّدَة منهَا عدم الاحتشام في اختِيار الأزيَاء والألبِسَة، خصُوصًا عندَ النِّسَاء، ومِنهَا الاختِلاء بينَ الجِنسَين مع عدم وجُود محرم، ومِنهَا أيضًا الموقف مِنَ القَضايَا المندرجَة تحت عنوان “الأخلاق الطبِّيَّة” مثل الإجهَاض، والموت الرَّحيم، والاستِنسَاخ وما شَاكَل، وكلّهَا تُعتبَر دخُولاً فِي بابٍ من أبوابِ الحرام.
أمّا في ما يتعلَّق بالأولاد، فإن نسبَهُم يعُود إلى والدِهم، ويُنسب الولدُ إلى والدَيهِ المتزَوِّجين زواجاً شرعيّاً. أمّا فكرة التبني فقد تمَّ رفضهَا فِي أوساطِ الموحِّدِينَ الدّروز، لما يُمكِن أن يترتَّبُ عنهَا من مشَاكل أسريَّة.

المخدِّرات
المخدّرات آفَة محرَّمَة لِما تسبِّبُهُ من أضرار صحيَّة وعقـليَّة وروحيَّة وأدبيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، والرَّسول  يقول: “لا ضَرر ولا ضِرار”، لذلك تحرّم المخدّرات بمشتقاتها، بقاعدة دفع الشرّ وصدّ ذرائع الفساد.
يَستشعِرُ العدِيد من مؤسَّسات المجتمعِ المدنيِّ أخطار هذه الآفَة المتفشِّيَة فِي المجتمَعَات المُعاصِرة، ويعبِّرُ أهلُ الاختِصَاص عَن المدى الخطِر الَّذي تستحضِره المُشكلة، وكمَا يقولُ أحدُهم: “إنّ المخدِّرات تهلك الأرواح والمجتمعات، وتقوِّض التنمية البشريَّة المستدامة وتولِّدُ الإجرام، وهي تمسّ جميعَ قطاعات المجتمع في كلّ البلدان مؤثّرة على وجه الخصوص في حرّية ونموّ الشباب الذين يمثّلون أغلى ثروة يملكها العالم… ليس للمشكلة بُعدٌ شخصيّ بل أيضًا أبعاد اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة بحيث يُصبحُ تنفيذ استراتيجيَّة خلق ثقافة مضادّة للمخدِّرات جزءًا لا يتجزّأ من تنفيذ الاستراتيجيّات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة والصحّيّة والثقافيَّة.”
عُقدَت العديد منَ المؤتمَرات الإسلاميَّة لمعالجَة تحدِّيات هذه الآفّة. وَتمحورت مقرراتها حول مفاهيم إصلاح نظام التعليم والتربية، ودعوة الأسرة إلى النهوض بواجبها، ورعاية الشباب، وإنشاء مركز علمي دولي للأبحاث وما إلى ذلك، وَصعَّدت اللهجة لدى حديثها عن المهرّبين والمروِّجين والمتاجرين مطالبة بتوقيع أقصى العقوبات عليهم.
وفي الرؤيَة الأخلاقيَّة التَّوحيديَّة، يُعتبَر العقلُ والجسَدُ مِن نِعَم الله الكُبرَى، لِذلِك كان واجب الحفاظ علَى سلامتهما منَ الفَرائِض اللازمَة، لارتِبَاط ذلك بصحَّة المسلك ذاته. إنَّ مَا يؤذِي العقل بالتشويش عليه، وبتعمُّدِ تعطيل حركتِه الفِكريَّة، وقدرتِه علَى الاستنباط والتحليل، لَهُو أمرٌ لا يقرّهُ دِينٌ، ولاَ يسلِّم بهِ قانُون. كذلِك، فإنَّ تـلويثَ بيئَة الجسَد بفِعل استِخدام المواد المخدِّرَة هوَ هدمٌ للنِّعمَةِ المُعطاة للإنسَان، وتدميرٌ لمستقبل الحياةِ، والارتِمَاء فِي هَاويَةٍ لاَ يسلمُ مِنهَا إلاَّ ما رحم الله عزَّ وجلّ. وفِي كلِّ حَال، فإنَّ هذه المسألة تتطلَّب تضافُر جُهود الجميع لدرء خطرهَا، والحدّ من انتشارِهَا، ورعايَة ضحاياهَا بردِّهِم إلَى الثِّقَة بالحياة، والاقتِصَاص منَ المُتاجِرين بهَا بما يصون المجتمع مِن شرِّهِم.

التّدخيـن
مضار التدخين (وإدمان النارجيلة) يتفاقَم فِي ناحيتين: إتلاف الجِسم وإسقامه، وذهابه بالمال وإهداره. وبما أنه منَ الثَّابت علمياً وطبياً بما لا يدع مجالاً للشك وقوع ضرر التدخين بالنفس والمال، وقد جعلهما الله وديعتين عند كل إنسان، فإن المسؤولية بين يدي الله تعالى عنهما يوم لقائه مسؤولية كبرى.

الأمور الاجتماعية
أما في ما يتعلق بالأمور الاجتماعية، فإن تاريخ وتراث هذه الطائفة الشريفة هو خير شاهد على مدى تأصل أبناء طائفة الموحدين الدروز بالعادات والتقاليد والتراث العريق والقيم الإنسانية النبيلة. هذه القيم لا تتبدل في زمان أو مكان سواء في التاريخ القديم أو الحضارات المعاصرة.
وقد شدَّدت تعاليمُ الموحِّدين وأدبيّاتهم على ضرورة الامتثال بالمثال الأخلاقي، والالتزام بالفضيلة مسلكياً وعملياً، وبالتالي اجتناب الكثير من الأفعال والأقوال المنافية للأخلاق والقيم والآداب الإنسانية: كالقتل (الجائز منه الدفاع عن العِرض والنفس والمال)، والانتحار، والسرقة، وشهادة الزور، والظلم (البغي)، والغيبة، والنميمة، والخيانة، والتجسّس، والرشوة، والغش، والرياء، والفحش، والغدر، والكذب، والتعصب، والحسد، والربا، وارتكاب الذنوب، والتعدي على مال اليتيم، والتعدي على مال الأوقاف، كلها أمور محرّمة عند الموحدين الدروز عملاً بحدود الدِّين الحَنيف.
أما في موضوع وهب الأعضاء، فإنّه يُترك للموحِّد اتخاذ القرار المناسب من خلال قاعدة التخيير في الأعمال وقاعدة اكتساب الخير والشر من خلال جوارح الإنسان، وبعد الاطّلاع علَى توصِيَات المؤتمرات الطبيَّة الشّرعيَّة استئناسًا وتبصّرًا.
الإيصاء والإرث
قالَ اللهُ سبحانه وتعالى في كتابِه العزيز كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ (سورة البقرة 180).
إنَّ الموحدين الدروز انطلاقاً من هذه الآية يرون أنَّ الوصيَّةَ واجبةٌ على كل مُوحِّد، ويتميَّزون في حريَّة الإيصَاء وفقاً لقاعدة التخيير في الأعمال.
فِي حال عدم وجود وصية، يُعتمد في توزيع الإرث على المذهب الحنفي. وقد نصَّت المادة171 من قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدّروز الصادر بتاريخ 24 شباط 1948 علَى مَا يلي: “إنَّه في جميع المسائل الداخلة في اختصاص قاضي المذهب والتي لم يرد عليها نصٌّ خاص في هذا القانون يُطبِّق القاضي المُشار إليه أحكام الشَّرع الإسلامي، المذهب الحنفي، وجميع النصوص القانونية التي لا تتعارض مع الشَّرع الإسلامي”.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الفصل السابع: البُعدُ الإنسانيّ الكونيّ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحقيقةُ هيَ مِرآةُ الموحِّد في غايةِ القصْد. لِذا، فإنَّ قـلبَهُ ولِسانَهُ وجميعَ جوارحِه متَّحِدَةٌ في انسِجام لطيف لا تشوِّشُ عليهِ التباسَات المُركَّب. والتَّركيب يتأتَّى مِن التناقض الناتِج عن الفرق بين مضامين العِلم وَواقع الأفعال، واختِلاف النَّوايا عَن ظاهر المَسالِك، والرّكون إلى نسبيّة الرؤية من أجل أن يصِيرَ ثوبُ الحَقيقةِ على قِياسٍ خاص. فلا عجبَ إذن أن يكونَ الصِّدقُ سيِّدَ الخِصال الحَمِيدة المَطلوبَة، وحُسن الخُلُق قاعِدة أساسيَّة لتهذِيب الأخلاق، وتصفيَة القـلب، واكتساب المزايا الشَّريفة.
المُوحِّدُ تعلَّمَ بعقله وقلبه وحسه أن يميِّز ويتفهَّمَ الفضِيلَةَ ويثقَ بهَا مِن حيثُ أنَّ بِهَا وحدها تتحقَّق وحدةُ النَّفس المتَّزنَة الَّتي بهَا يكونُ الإنسانُ إنسَانًا بالمَعنى الأسمَى المتعلِّق بالغَايةِ مِن وجوده. وإنَّ من شأنِ هذَا التحقُّق الأشرَف أن يهبَهُ قوة الإدراك، والوعيَ، والرّزانَةَ، وسكون الرُّوح المطمئنة، والاستِقرار الداخليّ الَّذي هوَ حَاجَةٌ عزيزَة فِي قـلبِ عالَمٍ مُتأرجِح يعبُر أكثر عصُوره اضطرابًا والتبَاسًا ونزوعًا مُقـلِقًا نحوَ دوّامةِ النَّزَق واللجَاجةِ وتهافُت الغرائز. يُدرِكُ المُوحِّدُ سرَّ النِّعمَةِ والفَضل فِيمَن أتَى يُزَكِّيهِم ويُعلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكمةَ (آل عمران 164)، ويوقِـنُ بأنَّ مَن يُؤتَ الحِكمةَ فَقد أُوتِيَ خَيرًا كثيرًا (البقرة 269)، لِذَلِك، فهُوَ لا يفوِّتُ فرصَةَ التَّعـلُّم، وطَلَب الفائِدَة، واكتِسَاب المَعرفَة، لا لمُجرَّدِ أخذ العِلم، بَل لاستِدراك الأمر الإنسَانيّ المُلِحّ، والتَّحلِّي بِخصَال الخَير الَّتي تُنير القـلبَ والعقـلَ، وتأخذ بِيدِ الإنسَان بكلِّ عَطفٍ وحُبّ فِي أيِّ مكان وزمَن، الَّذي إنْ خذلته مَصاعبُ الحيَاة، وأوحشتهُ الأكدار، ونغَّصَت عليه عيشَهُ الهُمُوم، فلسَوفَ يجدُ فِي فَائِدةِ تِلك الخِصَال ملاذَه وسنَدَهُ وسبيلَ الخَلاص.
تمثِّـلُ حركةُ الإفادَة والاستفادَة فِي المعرفَة التوحيديَّة أصلاً راسِخًا من أصُول المسلك الصَّحيح، حيث أنَّ التَّعلِيمَ المُثمِر ينمو بالتربيَة الحسنة والمُذاكَرة وحُسن الرِّعايَة. إنَّ فِي صمِيم غاياتِ التَّربيَة بِشكل عام، إنضاج الشَّخصيَّة الإنسَانيَّة السَّويَّة المُتمكِّنَةِ بقوَّة سجاياها الخَيِّرة من مواجَهَة مخاطِر وقوع الأبناء الأعزَّاء في مزالِق الابتذال، والسطحيَّة، وضعف التَّدبير، وفقدان التَّمييز بين ما هوَ خيرٌ، ومَا هوَ مُؤذٍ وضار.
يقولُ الأميرُ السيِّدُ (ق) فِي رسالةٍ لهُ لأحد الأفاضِل مَا معناه أنْ ليسَ ثَمَّ غُربَة إلاَّ بالحُجبَةِ عن الحقّ، لأنَّ المُحِقِّينَ غُربتُهُم هيَ حُجبتُهُم عن اقتِباسِ أنوار الحَقيقَة، فالغُربَة هي الانقِطاعُ عن مَعرفَةِ الله، والانصِرَافُ عن فائِدَة العقـل، والرّكون إلَى الغَـفلة. إنَّهُ بالعَودةِ إلَى المفاهِيمِ البسيطَة الصَّادِقَة الجَوهريَّة، والسَّعي في إيقاظِ معناهَا فِي النُّفوس، لهُوَ أشرف الأعمال وأجلّها، لأنَّ انشغَالَ المَرءِ فِي تَهذيبِ نفسِه وجَوارحِه بنيَّةٍ صادِقَة، يكشِف بصيرتَهُ، ويُسدِّد عـقلَهُ، ويثبِّتُ روحَه فِي الحقّ، وهذا غايةُ الكمال الإنسَانيّ.

[/su_spoiler][/su_accordion]

صناعة دبس العنب

صناعة دبس العنب
فـي منطقـة راشـــيا

أشقر وحلو معتق تفخر به موائد الشتاء

الزبيــب غـذاء ودواء وأغلبـه
ما زال يجفـف بالطـرق التقليديـــة

«أيلول ذيله بالشتي مبلول»، قول شائع بين المزارعين وأهل الأرياف يقصد به تبدل الطقس مع دخول شهر أيلول وتحول الميزان نحو الرطوبة وسحابات المطر الخريفي.
لكن لشهر أيلول معنى آخر في منطقة راشيا باعتباره شهر القطاف، وبالتحديد قطاف كروم العنب والبدء في تحويل قسم كبير من المحصول إلى الدبس العنبي الشهير والزبيب.
وزراعة الكرمة من الزراعات الشهيرة في منطقة راشيا، إذ تحتل الجزء الأكبر من مساحة الأراضي الزراعية. وعلى الرغم من تراجع مساحة الأراضي المستصلحة نتيجة اتساع رقعة الأراضي المهملة (البور) وتمدّد العمران، فإن هذه الزراعة ما زالت أساسية ويعوّل عليها السكان بشكل كبير في اقتصادهم الموسمي.
أما صناعة الدبس العنبي فلا تقل أهمية، وهي قديمة العهد تناقلها المزارعون منذ مئات السنين، وكان الهدف منها تحويل عصير العنب إلى مكثّف سائل يُعرف بإسم «الدبس» والاستفادة بالتالي من فائض المحصول عبر تصنيع مشتقات منه مثل الدبس والزبيب، اللذين يتم استهلاكهما خلال فصل الشتاء ليعطيا دفئاً للجسم وغذاءً أساسياً.
ومع انتصاف شهر أيلول يبدأ المزارعون بقطاف العنب ونقله إلى المعصرة حيث يتم تجميعه ثم تنقيته من الشوائب ليصار الى عصره. وهذه العملية تمرّ بمراحل متعددة تبدأ بفرز العنب بعد قطافه إلى أقسام عدة. ويؤخذ القسم المعدّ للعصر إلى «بيدر المعصرة» حيث كان يوجد على كل معصرة بيدران أو أكثر، ويتبع كل بيدر جرن. والبيدر هو عبارة عن مسطح من الحجر يتم وضع العنب عليه ليتم عصره فيرش العنب بتراب أبيض يقال له الحوارة أو تراب الدبس، والهدف منه تنقية العصير بعد العصر ثم يُقدم شخص أو أكثر ليبدأ «خبص» العنب بواسطة الأقدام التي تكون نظيفة بطبيعة الحال، ويذهب العصير إلى جرن المعصرة الذي يكون بمستوى أدنى من البيدر فيجمع العصير الذي كان يقال له (مستار ) حتى تركد الشوائب والتراب في أرضه ليصار في ما بعد إلى نقله بواسطة أوعية معدنية أو نحاسية الى الحلة أو الخلقينة، ويوضع العصير على موقد الحطب لتبدأ عملية الغلي التي تستمر لساعات عدة حتى يتكثّف العصير ويصبح دبساً، علماً أن هذه العملية بدورها تمرّ في أكثر من مرحلة:
المرحلة الأولى: وتسمى «السلق» حيث تستمر الى أكثر من ساعتين ونصف الساعة، ويتمّ السلق على درجة أقل من درجة الغليان ما بين 80 الى 90 درجة مئوية. خلال هذه المرحلة يتم تشلية العصير، والهدف منها هو تبريد العصير وعدم خروجه من الحلة، وبعد الانتهاء من هذه المرحلة يتم نقل العصير الى بيدر المعصرة مجدداً لتبريده وتصفيته من الشوائب ويُنقل بواسطة “القسط”، وهو إحدى لوازم المعصرة القديمة، وتحتاج هذه المرحلة ما يقارب الخمس ساعات.
المرحلة الثانية: وتسمى مرحلة «الطهي»، وتستغرق وقتاً يصل إلى أربع ساعات، وذلك حسب الكمية. وأثناء الغلي يتم تشلية العصير ونزع ما تبقى من شوائب في داخله قبل أن نصل الى المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة التي يتم فيها وضع الدبس في أوعية نحاسية ليصار الى تحريكه بواسطة أغصان التين ليأخذ اللون الأشقر وبعدها يصبح الدبس جاهزاً للسكب بواسطة المغراف ويوضع في أوعية خاصة به، وغالباً ما تكون الجرار فخارية.
ضحية التحديث
لكن موجة التحديث طالت هذه الصناعة التقليدية كما طالت غيرها من الصناعات لتختصر المكننة الوقت الذي يستغرقه التصنيع مسببةً في الوقت نفسه البطالة لدى الذين كانوا يعملون في صناعة الدبس، والضحية الأولى لدخول الآلة هو الحدث الاحتفالي لجمع الموسم الذي كان يستمر أكثر من شهرين، وكان يجمع شمل الناس في التعاون على إنهاء الموسم. أما الضحية الثانية فهي عملية العصر والطهي التقليدية للدبس على الحطب، والتي تراجعت أمام فعالية المعصرة الحديثة التي اختصرت الوقت والجهد إلى أكثر من النصف.
أحد المشايخ الطاعنين في السن تحسّر على أيام زمان قائلاً:” رزق الله على تلك الأيام!”. كانت حسرة نابعة من القلب على أيام الإلفة والنخوة التي كانت عنوان الموسم. فالمزارعون يعينون بعضهم البعض في القطاف ونقل المحصول من الكروم لعصره وطهيه، فترى المعصرة عرساً مستمراً، وكانت الأهازيج والتقاول (قول الشعر العامي) بين الشبان الذين يعصرون العنب تضفي جواً من الفرح وتبعد الملل. أما اليوم، فإن دخول الآلة قطع دابر تلك العادات والتقاليد وتلك الأجواء التي كانت جزءاً من ثقافة الناس ومجتمعهم.

استخدامات الدبس العنبي
يحتل الدبس العنبي الأشقر موقعاً مهماً على مائدة الكثيرين في لبنان بحيث أنه يؤكل خالصاً أو ممزوجاً بالطحينة في أيام الشتاء الباردة، أما في الصيف فقد كان الناس يمزجونه بالماء البارد ليصنعوا منه شراباً منعشاً يقدّم للضيوف، وبدأ الدبس يدخل بصورة متزايدة في تصنيع الكعك والحلويات المنزلية.
ويعتبر الدبس نافعاً جداً للصحة بسبب كونه مصنوعاً من عصير العنب الصافي، وينصح به الأطباء لخلوه من المواد الحافظة، ولكون تركيبته تساهم في التخلص من السموم وتقوي المعدة واضطرابات الأمعاء.

الفوائد الصحية لثمار العنب
تتميز ثمار العنب عن غيرها من الفواكه بفوائد صحية جمة يذكر منها:
التأثير الإيجابي في الحدّ من تصلب الشرايين وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم.
المساعدة على تنشيط الكبد وسلامة وظائفه وإدرار الصفراء بشكل منتظم.
الحدّ من داء المفاصل أو ما يُعرف بداء النقرس، وهذا إضافة لاحتواء العنب على العديد من الفيتامينات والمعادن والألياف والمواد المضادة. للأكسدة.
يساعد العنب في معالجة هشاشة العظام وتهدئة السعال وطرد البلغم، كما يساعد في الوقاية من أمراض اللثة وتساقط الأسنان.

كعك لبناني محلى بدبس العنب
كعك لبناني محلى بدبس العنب

صناعة الزبيب
يعتبر تحضير الزبيب من أولويات البيت القروي حيث تبدأ هذه العملية بعد أن ينضج العنب جيداً، والأولوية هي دوماً للعنب الأبيض بأصنافه المختلفة نظراً للجودة التي يتمتع بها.
كيف يتم تصنيع الزبيب بالطرق التقليدية؟
بعد قطاف العنب، يبدأ تحضير المزيج المخصص في تحويل العنب الى زبيب، وهو عبارة عن ماء ممزوج بالرماد حيث يتم احضار ثلاثة كيلوغرامات من الرماد المنخول جيداً، وغالباً ما يفضل الرماد الناتج من حطب السنديان (فضلة الحطب بعد حرقه)، حيث يتم وضع الماء في حلة على النار ويبدأ غلي هذا المزيج بعد أن تضاف اليه مجموعة من أوراق التين حتى يصبح متماسكاً ويقال له الصفوة، وبعده يترك حتى يبرد ويركد ما تبقى من شوائب ثم يتم تصفيته، ومن ثم يتم احضار عشبة يقال لها الطيون مع قطعة من صابون الزيت (بلدي) وإضافة بعض من زيت الزيتون الى المزيج وملعقة صغيرة من ملح الطعام ويتم خلط هذا المزيج بواسطة الطيون.
الخطوة الأولى تبدأ بغسل العنب جيداً بعد تنقيته من الشوائب ووضعه حتى تجف المياه لتبدأ عملية سطح العنب، فيتم تخصيل عناقيد العنب الى أجزاء صغيرة وغسلها مجدداً بماء الصفوة ووضعها على «المسطاح». وبعد الانتهاء يتم رش المسطاح بماء الصفوة ويترك العنب أياماً عدة في الشمس ويتم الإعتناء به خلال هذه الفترة مثل تقليبه ورشه بمزيج الصفوة مرات عدة ليتم ابعاد الحشرات والإسراع في تجفيفه، وبعد أن يجف يتم نقله إلى المنزل ليصار إلى توضيبه وخزنه إلى فصل الشتاء.

من عصير مصفى إلى دبس العنب الفاخر
من عصير مصفى إلى دبس العنب الفاخر

“شيخ الدبس” صاحب القرار

يسمى الذي يشرف على عصر العنب «البرّاك»، أمّا من يشرف على طبخ العصير فهو «الشيخ» (شيخ الحرفة أو الصنعة) وليس بالضرورة أن يكون رجل دين إنما هي عبارة عن رتبة يحوز عليها عرفاً، وتجعل له الرأي الأول والأخير في تحديد مدى نضوج العصير حتى يصبح دبساً، وهذا يعود إلى الخبرة الطويلة التي يتمتع بها وخوضه تجارب كثيرة في مجال هذه الصناعة .

تحقيق حاصبيا

حاصبيا

بلــدة التاريــخ والســلام والزيتــون

الأمير منقذ شهاب انتزع قلعتها من الصليبيين
وزاد الشهابيون بعد ذلك عليها وعززوها

شهيرة بزيتونها وزيتها والصابون
وبمنتزهاتها الأخاذة على نهر الحاصباني

لكل قرية أو بلدة في لبنان أسرارها ونعم حباها الله بها لتكون فريدة بين أقرانها من القرى والبلدات. ومن حسن حظ حاصبيا أن نصيبها من الموارد والخصائص ونعم الطبيعة وافر ومتنوع، فهناك الطبيعة الخلابة والخضراء والموارد الزراعية والموقع الإستراتيجي على التقاطع الجغرافي بين لبنان وسوريا وفلسطين، وهناك أيضاً التاريخ الغني والتراث المعماري الجميل، فضلاً عن مناخ التنوع والتعايش الآمن بين مختلف مكونات البلدة، والذين يعملون جميعاً من أجل رفعتها وازدهارها. في هذا التحقيق كشف موجز بأخبار حاصبيا وأسرارها وعيشها وبعض إرثها الغني وحياتها اليومية.

حاصبيا عاصمة وادي التيم الجنوبي، وهي مركز لقضاءٍ يتبع إدارياً محافظة النبطية، ويضم 22 قرية وبلدة، وهي لذلك المقر الإداري لكافة الدوائر الرسمية في القضاء. يبلغ ارتفاعها نحو 800 متر عن سطح البحر وتقدر مساحتها بنحو 2565 هكتاراً، وهي مساحة في غالبيتها الكبيرة خضراء تضلل مساحات كبيرة منها غابات الزيتون، وهو أحد أشهر محاصيل البلدة، كما يقارب عدد سكانها 16000 نسمة بين مقيم ومغترب. أكسبها موقعها الجغرافي بين لبنان وسوريا وفلسطين أهمية كبرى عبر التاريخ مما جعلها هدفاً رئيسياً لكل الحملات والغزوات التي هبّت على لبنان من الخارج، كما أن حاصبيا تحتضن خلوات البيّاضة، التي تحتل مكاناً بارزاً بين المرجعيات الروحية لطائفة الموحدين الدروز. والبلدة شأنها في ذلك شأن معظم القرى والبلدات اللبنانية مصدر أساسي للإغتراب حيث انتشر أبناؤها في معظم بلدان العالم فأغنوا تلك المغتربات من خلال ما قدموه إليها، كما عادوا بالفائدة على مدينتهم من خلال الأموال التي ترسل الى ذويهم أو التي يتم استثمارها في قطاعات اقتصادية مثل السياحة والبناء.
تبعد حاصبيا عن بيروت 100 كلم ويمكن الوصول اليها عبر ثلاث طرق:
طريق بيروت- شتورا- المصنع- حاصبيا
طريق بيروت- النبطية- مرجعيون- حاصبيا
طريق بيروت- الشوف- جزين- حاصبيا
تسمية المدينة : تعود تسمية حاصبيا إلى اللغة السريانية Hespayye وتعني معامل الخزف أو الفخاريات حيث تعني Hespa آنية من الخزف.

القلعة الشهابية
أبرز ما يجتذب القادم إلى مدينة حاصبيا البناء المهيب والجميل الذي يتمثل بقلعتها الشهيرة، والتي تعرف بالقلعة الشهابية حيث يعود تاريخها إلى العهد الصليبي وتعتبر من أهم المعالم الأثرية في محافظة الجنوب لما تحويه من آثار ونقوش، ومن أبرز الأحداث التي شهدتها القلعة موقعة سوق الخان التي حصلت في سنة 1173 استطاع من خلالها الأمير منقذ الشهابي أن ينزل بالقائد الصليبي الكونت أورا دي بورون هزيمة موجعة كان من نتيجتها انتزاع الأمير منقذ للقلعة من سيطرة الصليبيين.
تصميم القلعة: تتألف القلعة من ثلاث طبقاتٍ، الأولى والثانية يعود تاريخ بنائهما إلى العهد الصليبي، حيث تمّ بناء الطبقتين وفق تصميم القلعة العسكرية الحصينة، كما يشهد على ذلك الفتحات المتروكة في الجدران السميكة والتي كان يتم استخدامها في إطلاق السهام عند الدفاع عن القلعة في وجه المهاجمين . أما الطبقة الثالثة، فيعود تاريخ بنائها إلى العهد الشهابي مع ما تميز به من فن العمارة الذي تطغى عليه القناطر والنوافذ ذات الطراز العربي بالإضافة إلى القاعات الفسيحة المزدانة بالرسوم والرخام، ولعلّ أبرز ما يميز تلك القاعات هو القاعة الكبرى أو قاعة الاستقبال التي تزدان أرضها بالفسيفساء والمقاعد الحجرية المنحوتة، إضافة ً إلى النقوش التي تزين جدرانها ولا سيما الأسود الحجرية التي تمثل شعار قوة الأسرة الشهابية، ومنهما أسدان عند القنطرة الأساسية من المدخل الغربي مقيدان بالسلاسل على مقربة من أرنب ضعيف والعبرة من ذلك أنه عندما يحكم أمير من الشهابيين يسود العدل بحيث يكون القوي مقيداً بالحق في وجه الضعفاء. وتتوسط الجدران فتحة كانت تستخدم لسكب الزيت المغلي إذا ما تعرضت القلعة لهجوم، أما من الداخل فهناك ساحة كبيرة تشرف عليها كامل أقسام القلعة وتعتلي الصدارة قنطرة كبيرة بارتفاع تسعة أمتار وتعدّ أكبر قنطرة في الشرق ومن خلالها يمكن للزائر الوصول الى كنيسة الكونت اورا.
أما في الطابق الثالث حيث يقيم حاكم القلعة، فقد أدخلت تقنية مدهشة تتمثل في أعمدةٍ رخامية فارغة من الداخل أقيمت على جانبي كرسي الحاكم والغرض منها أن تنقل صدى وقع حوافر الخيل قبل بلوغها أسوار القلعة موفرة للأمير وقتاً ثميناً لاستنفار قواته في حال تعرض الحصن إلى هجوم مباغت. وهناك الآبار الجوفية التي حفرت تحت الساحة الداخلية وتكتسب أهمية كبيرة في حياة القلعة لأنها تستخدم في توفير المياه عند تعرض القلعة إلى حصارٍ طويل. ولكن إذا كان الحصار وغزوات الجيوش كانت في الماضي الخطر الذي يواجه القلعة فإن الخطر الذي يواجهها اليوم هو الإهمال والتقصير، يدل الزائر على ذلك عشرات الحمامات القديمة المتداعية عند الجهة الشرقية من القلعة، والتي كانت مبنية على الطراز الشامي وبدأ العشب يكسوها بسبب تركها لعوامل الزمن من دون ترميم أو اهتمام.

زراعة الزيتون ومعاصر الزيت
زراعة الزيتون مرتكز أساسي في حياة السكان الذين يعولون عليها بشكل كبير، وقد بات موسم الزيتون فترة مهمة في حياة البلدة تبدأ مع إطلالة تشرين وتمتد حتى شهر كانون الأول أو مطلع السنة الجديدة. وتزدهر زراعة الزيتون يوماً بعد يوم في حاصبيا بسبب أهميتها الإقتصادية كمصدر مهم لدخل السكان، إذ يتم بيع جزء بسيط داخل الأسواق المحلية بينما يسوَّق القسم الأكبر في بقية المناطق اللبنانية وبعض الأسواق الخارجية. والمدهش أن السكان مازالوا يعتمدون طريقة المقايضة، أي استبدال الزيتون بالمواد والمنتجات التي يحتاجونها. وتحتل غابات الزيتون القسم الأكبر من مساحة الأراضي الزراعية في البلدة ومحيطها.

الزيت الحاصباني
بالنظر للمساحات الكبيرة لغابات الزيتون، فقد نشأت في البلدة معاصر عدة للزيت يقصدها المزارعون من حاصبيا والقرى المجاورة. وهذه المعاصر منها الذي يعمل بالطريقة التقليدية، ومنها ما هو حديث أدخلت فيه تقنيات متقدمة، لكن النتيجة واحدة وهي زيت الزيتون الحاصباني الذي يعتبر من أجود أنواع زيت الزيتون، وقد أزالت المعاصر عن كاهل المزارعين أعباءً كثيرة لاسيما مسألة فصل الورق عن الزيتون، كما أن معاصر الزيت توفر فرص عمل موسمية لا يستهان بها لعدد كبير من الشبان لمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، كما توفر مادة دسمة لمدافئ الحطب خلال فصل الشتاء من خلال بقايا الزيتون أو ما يعرف بمادة الجفت. لكنّ مزارعي الزيتون في حاصبيا يعانون غالباً من منافسة الزيوت الرخيصة ويطالبون بحماية إنتاجهم والمساعدة في تصريف الإنتاج لاسيما بعد ارتفاع تكلفة جمع المحاصيل وخاصة تكلفة اليد العاملة وتكلفة معاصر الزيت في حين ما زالت أسعار الزيت مستقرة على حالها عموماً.
يذكر أن زراعة الزيتون أفسحت في المجال لقيام صناعة الصابون البلدي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على زيت الزيتون الذي لا يصلح للمائدة بسبب استخراجه من الزيتون المتساقط تحت شجرة الزيتون، وهو زيتون من الدرجة الثانية ويقل من حيث النوعية عن ذلك المستخرج من الحبوب المنقاة.

زراعة الخضار والفواكه
تنشط زراعة الخضار والفواكه بشكل كبير على ضفاف نهر الحاصباني بحيث يستفيد المزارعون من المياه الجارية لريّ المزروعات، مما يعطي مردوداً جيداً يغذي أسواق المدينة والفائض يتم تسويقه في القرى والبلدات المجاورة.
أما الزراعات الأخرى كالتين والعنب والحمضيات والحبوب فتلعب دوراً محدوداً في اقتصاد البلدة الزراعي.
منتزهات الحاصباني: تعود شهرة هذه المنتزهات الى نهر الحاصباني الذي يعتبر أحد الروافد الأساسية لنهر الأردن، وهي تشكل دعامة مهمة للاقتصاد ليس في حاصبيا وحدها بل أيضاً بالنسبة إلى القرى المجاورة، وهي الآن مصدر لتشغيل العشرات من أبناء المنطقة، كما أنها مقصد سياحي مهم يرتاده الزوار من مختلف المناطق اللبنانية ومن البلدان العربية والأجنبية، ويعتبر أفراد وضباط قوات اليونيفيل من أهم الرواد الذين اعتادوا التردد على منتزهات الحاصباني وتمضية الوقت الممتع على ضفاف النهر وسط الخضرة والماء.

على الصعيد التربوي
يوجد فــي مدينة حاصبــيــا عــدد من المؤسسات التربوية الخاصة الى جانب المدارس الرسمية، والتي تعتبر مركز جذب لأبناء القرى والبلدات المجاورة نظراً لتقدم هذا القطاع ومواكبته للمتغيّرات التقنية. لكن غياب مؤسسات التعليم العالي يسبب إرباكاً للطلاب ويضطرهم للانتقال إلى البقاع أو النبطيــة أو إلــى بيــروت مما يرتب أعباءً إضافية على كاهل الأهــالي. وفي هذا المجال يملأ معهد حاصبيا الفني فراغاً مهماً عبر توفيره للعديد من اختصاصات الامتياز الفني (TS) والبكالوريا الفنية، مشكّلاً بذلك خياراً بديلاً للطلاب الذين لا يستطيعون الانتقال إلى الخارج أو الذين يرغبون في التخصص المهني على نيل الشهادات، ويذكر أن نتائج المعهد المميزة تدفع عدداً كبيراً من الطلاب للالتحاق به فور إنجازهم المرحــلة الثانــوية، وذلك طلــباً للتخــصص في المهنة التي تؤمن مستقبلهــم.

الحُمَّر ثروة لبنان المجهولة

أبرز ما يستوقف الباحث عن معالم حاصبيا وميزاتها تلك المادة المعروفة باسم «الحُمَّر»، وهي مادة نفطية متجمدة تكونت تحت الأرض وخسرت بعض مكوناتها لتتحول إلى مادة صلبة داكنة السواد. وقد تمّ اكتشاف الحُمَّر كنشاط منجمي مصادفة في مطلع القرن العشرين، لكن المادة كانت معروفة وكان الناس يجدونها على شكل قطع حجرية سوداء لامعة اللون على ضفاف الحاصباني وكانوا في عهد السلطنة العثمانية يأخذونها ويعمدون إلى بيعها، وكانت الحجارة السوداء اللامعة تصل إلى نهر الحاصباني من أحد مجاري المياه التي تنبع من مرتفعات حاصبيا. وفي أيام الإنتداب الفرنسي توصّل أحد الأشخاص وهو مواطن سوري إلى الاستحصال من السلطات الفرنسية على رخصة للتنقيب عن هذه المادة وكان ذلك في سنة 1920 وتطور العمل حتى أصبح هناك مناجم تعرف باسم «مناجم الحمّر» ومصلحة خاصة بهذه المادة، وتعتبر منطقة حاصبيا فريدة في إنتاجها من الحُمَّر بالنسبة إلى لبنان والدول المجاورة .

كيفية الاستخراج:
يتمّ استغلال هذه المادة من خلال انفاق وسراديب يتم حفرها في الأرض وقد يصل عمقها أحياناً إلى أكثر من مئة متر، ويُستخرج «الحُمَّر» بواسطة الرافعات أو البكرة، علماً أن المادة موجودة داخل المناجم على شكل عروق أو طبقات تصل سماكتها أحياناً إلى مترين حيث يتم فصلها عن التربة والمواد المحيطة تمهيداً لنقلها نحو سطح الأرض. ويتم تصدير ما يزيد على 90 % من الحُمَّر اللبناني إلى الخارج حيث يدخل في صناعة الطلاء لا سيما طلاء السفن وفي صناعة المواد العازلة، كما يستخدم في صناعة الأسمدة والمبيدات الحشرية.

رئيس البلدية الشيخ غسان خير الدين

التمنيات لا تكفي ولا بدّ من عمل لإعادة حاصبيا
الى الخارطة السياحية والتراثية في لبنان

التقت “الضحى” رئيس بلدية حاصبيا الشيخ غسان خير الدين في حوار حاولت من خلاله استشراف مستقبل المدينة، وأبرز المشاريع التي تحتاجها للنهوض باقتصادها ومجتمعها. وهنا نص الحوار:

الضحى: كيف تصفون تجربتكم في العمل البلدي، وما هي أبرز الإنجازات حتى الآن؟
غسان خير الدين: العمل البلدي ممتع لاسيما اذا استطاع التركيز على تحقيق المصلحة العامة، عندها يفرح المرء لما أنجزه قدر ما يفرح به أهل البلدة المستفيدين، والمستقبل كفيل بالحكم على عملنا.
أما الانجازات فهي بسيطة عند مقارنتها بالطموح وما نتطلع إليه، لكن والحمد لله كان لها أثرها في حياة البلدة. فقد تمّ تغيير الإنارة في حاصبيا وصيانتها وتأهيل الطرقات وتعبيد الحفر وإعادة تأهيل شبكة الصرف الصحي في مختلف الأحياء وترميم مدخل البلدة الجنوبي حتى السرايا الشهابية والعمل على تجميله، بالإضافة إلى عمليات التشجير المستمرة. كما تمّ استقدام مؤسسة الرعاية الصحية الأولية من قبل وزارة الصحة حيث تقدم خدمات صحية مقابل بدلاتٍ رمزية أبرزها تأمين الدواء للأمراض المزمنة مع العمل على توسيع لائحة تلك الأدوية.

الضحى: ما هي العقبات التي تعترض عملكم؟
غسان خير الدين:لا توجد عقبات بالمعنى الحقيقي لكن نقص الموارد يقف حائلاً أمام انجاز المشاريع التي نحن بصدد إطلاقها كون الجباية محدودة، كما أن تأخر أموال الدولة يسبب إرباكاً في العمل، ونحن نأمل من الوزارات المعنية التعاون لما فيه من تسهيل أمور المواطنين والنهوض بالبلدة.

الضحى: ما هي خطة عمل السنوات المقبلة، وهل تتوفر الامكانيات المالية لتنفيذها؟
غسان خير الدين: هناك خطة عمل تراعي الأولويات ونسعى جاهدين لتطبيقها في السنوات المقبلة. إننا في منطقة تفتقر للبنية التحتية لاسيما بعد سنوات من الاحتلال وغياب الدولة. ومن المشاريع التي نسعى إلى تحقيقها تحديث شبكة الكهرباء لتصبح قادرة على استيعاب النمو والتمدد العمراني وإيصال شبكة الصرف الصحي إلى أماكن السكن الجديدة والعمل على تأهيل الطرقات واستحداث الطرق الزراعية والمضي قدماً في عملية التشجير.

الضحى: حاصبيا بلدة سياحية كيف تساهم البلدية في تشجيع هذا القطاع، وهل هناك من خطة لجذب السياح ؟
غسان خير الدين: تنعم حاصبيا بمجموعة من المقومات السياحية الهامة لاسيما منتزهات الحاصباني والقلعة الشهابية، وهي بحدّ ذاتها مراكز جذب للسياحة. ودورنا يتركز هنا في توفير المقومات الأساسية كالماء والكهرباء، وقد تمّ إنشاء لجنة سياحية كلفت بالتواصل مع أصحاب المنتزهات للتوافق على تطبيق أسعارٍ مدروسة تشجع السيّاح أكثر في زيارة المنطقة والتعرّف عليها، وهذا ما من شأنه إعادة حاصبيا على الخارطة السياحية في لبنان، والعمل على إحياء مهرجاناتها السنوية.

الضحى: هل تسعون لخلق فرص عمل جديدة من خلال البلدية؟
غسان خير الدين: حتى هذه اللحظة العدد محدود تم توظيف بعض الشبان لكن السعي متواصل لتأمين أكبر قدر ممكن من فرص العمل.

الضحى: كيف ستوفرون الأموال اللازمة للمشاريع التي أنتم في صدد إنشائها؟
غسان خير الدين: نسعى إلى تفعيل الجباية لاسيما جباية المسقفات، والتي تعتبر مورداً سنوياً جيداً إذا تمّ تفعيله، كما نسعى مع الخيرين الذين كانت لهم أياد بيضاء في الكثير من المشاريع الإنمائية في البلدة، كما نأمل من المغتربين المساهمة.

الضحى: كيف تصفون دور المغتربين في حاصبيا؟
غسان خير الدين: يلعب المغتربون دوراً هاماً في تحريك عجلة الإقتصاد المحلي من خلال الأموال التي يتم انفاقها في السوق المحلية، لاسيما خلال فصل الاصطياف، أو من خلال التحويلات التي ترسل إلى ذويهم. إلا أن الاستثمار الاغترابي ما زال مقتصراً على بناء المنازل الخاصة أو الاستثمار في الأبنية السكنية، وما نتطلع إليه هو أن يقوم المغتربون بإقامة المعامل والمشاريع الإنتاجية التي تعود بالفائدة على البلدة وفي خلق فرص عمل جديدة للشباب.

الضحى: كلمة أخيرة.
غسان خير الدين: نشكر “الضحى” والقيمين على هذه المجلة الغنية، كما نشكر كل من يساهم في الشأن العام لما فيه خير البلدة ومصلحة أهلنا والأجيال المقبلة.

عباس أبو صالح

بعـــد الـــوداع الأخيـــر

د. عباس أبو صالح

سيــــرة
مناضــــل

هذه المرة لم يسافر إلى أميركا ليتخصص فيها، توقفت منذ زمن رسائله التي كان يعبر فيها عن شوقه إليها وإلى الأولاد، ويشرح تفاصيل حياته اليومية في الغربة معللاً النفس بأمل اللقاء القريب. السفرة هذه المرة كانت رحلة إلى الخلود، إلى حيث كان هو يؤمن بأنه المستقر الأرفع للوجود وقد كان في لحظاته الأخيرة يشد عزيمة الأسرة الحزينة المتحلقة حوله بإشارات حاول من خلالها القول إنه يصعد أو أن روحه بدأت رحلة الخلاص بعيداً عن الجسد المتعب والمنهوك. مات مبتسماً وعلى وجهه مسحة سلام وتسليم لمجرى الزمان ولنقلة الانعتاق من ثقل التراب.
أما شريكة حياته فهي اليوم وحيدة مع الذكريات ومع حصاد الرسائل والمكاتبات التي لا تزال تحتفظ بها وترعاها رغم مرور زمن عليها، وهي ولا شك رسائل ثمينة عاطفياً كما أنها سجل موجز لأخبار هذا المكافح الصلب والمتواضع ولما أنتجه خلال سنوات طويلة من النضال العصامي.
بعد وفاته، وجدت “أم نضال” نفسها تذهب إلى صندوقه الخشبي الذي لم تعرف يوماً ماذا يحتوي. سألته مرة إذا كان في إمكانها الإطلاع على ما فيه قال وقتها: “شو بدك فيه، هيدا في كتب وأوراق ربما تهمني وحدي”.. كأن الصندوق الذي بقي من رائحة الأحباب أصبح فرصة بالنسبة اليها لتعرف جديداً لم يقوله لها شريك العمر خلال شراكة الحياة التي تخطّت الثلاثين عاماً.

آخر كلماته
من خلال حبّي للأرض تعمَّق إيماني بوجود خالق لهذا الكون وتـرسّخ انتمائي إلى التــوحيد وإلى أهلي الموحـِّدين الدروز

تجلس السيدة مي أبو صالح والحزن يخيّم على معالم وجهها، تتصفّح معنا الأوراق التي جمعتها من صندوق زوجها الراحل. بعض تلك الأوراق المكتوبة بخط يده تدوين لوقائع جلسات له ولرفاقه في المدرسة حيث كان يصغي لمداخلات زملائه ويكتب نقداً لكل منهم، معلّقة:
“أول مرة أجد مستندات كتب فيها انتقاداً لشيء”. وتبدأ بسرد قصة الرجل الذي لم يثنِه الفقر والمصاعب عن خوض غمار التحدي لتحقيق طموحه وأخذ مكانه المرموق في مسيرة الحياة.
لم تكن بلدة بتلون الشوفية تعلم سنة 1942 أنها أنجبت ابناً مبدعاً سيتخطى بنجاحاته حدود الوطن، فالزمن وقتها كان زمن زراعة وكان العلم نادراً، ومن أراد أن يتعلم كان عليه أن يكون على استعداد لتحمل المشقّات.
كان الصبي الناشئ عباس أبو صالح كغيره من أبناء جيله يعمل يومها مع أهله في الزراعة ورعاية بعض الماشية التي تشكّل جزءاً من الاقتصاد المنزلي، لكن قلب الصبي عباس كان ومنذ يفاعه متعلقاً بالعلم. ولشدة حبه للعلم فقد كان يأخذ كتابه معه إلى الحقل. يعمل ويدرس في الوقت نفسه. لم يكن يطلب شيئاً من أهله، وكان لخلوات الزنبقية التي تقع بين بتلون وكفرنبرخ ويملك أهله أرضاً فيها مكانة مميزة في قلبه، حيث كان يتبارك فيها وهو الذي أوصى قبل وفاته بقليل بتخصيص ربع مردود بيع كتبه لتلك الخلوات.
بين مدرسة السنديانة ومدرسة الشويفات الدولية (شارلي سعد) تنقل الراحل بين عدد من المدارس، بسبب ضعف الإمكانات المادية، لكنّه تميز في جميع الأمكنة التي ارتادها للتعليم باجتهاد ملف وبتفوقه على أقرانه وبقوة ذاكرته لدرجة أنه كان يحفظ محتويات الكتاب من أول مرة يقرأه. كان شغفه بالعلم يزداد في وقت كان كل شيء حوله يحاول ردعه عن هذا الطريق الصعب. وعلى سبيل المثال فقد كان والده البسيط المؤمن بحياة القرية وقدر الزراعة وكذلك جاره يسخران منه ويحاولان أن يمتحناه بالطلب إليه أن يعيد ما قرأه عن غيب ظناً منهما أنه سيعجز ولكنه كان يكسب الرهان ويتركهما مع ملاحظاتهما الساخرة في حيرة وحرج.
عدم تشجيع الأهل لاحقه الى الجامعة، وفي الوقت الذي حرمه النقص في منهج الرياضيات في الصف الثانوي الثاني من التخصص في الهندسة التي كان يحبها، حرمه والده من التخصص في الحقوق التي يحبها أيضاً انطلاقاً من مقولة: “ليس هناك عمل للمحامي”. وبقيت الجامعة الأميركية نغصته حيث كان مجبراً على تركها لأنه لم يستطع استكمال دفع القسط. وهكذا حط به الرحال في كلية التاريخ في الجامعة اللبنانية، وهناك فتح له تفوقه أبواب أميركا حيث حصل على منحة دكتوراه. عاد إليه حلم الهندسة وحاول فعلاً العودة إليها، لكن الأستاذ المشرف نصحه بألا يغيّر اختصاصه قائلاً: “كل بلد بحاجة الى مؤرخ”.

كلماته الأخيرة

لم يتمكن الفقيد الذي أقعده المرض من حضور حفل التكريم الذي نظمه المجلس المذهبي، لكنه أرسل كلمة مسجلة احتوت كلماته الأخيرة التي جاء فيها:
“لم أفكّر يوماً بمثل هذا التكريم، فأنا ابن فلاح غرس في قلبه، منذ الصغر، حب التواضع وعدم الظهور والمباهاة، وقد عملت مع والدي أحياناً، قبل وأثناء دراستي الطويلة، فعشقت الأرض وتعلقت بها وتعلمت من خلالها مبدأ أساسياً، وهو السعي للكسب الحلال. ومن خلال حبي للأرض تعمّق إيماني بوجود خالق لهذا الكون، وترسّخ انتمائي الى التوحيد والى أهلي الموحدين الدروز.
ومن خلال العمل بالأرض وحبي لها، تعرفت بالعمق على هويتي وهوية هذه الأرض، وثبت لي أننا لم نكن مجرّد شريحة صغيرة مقاتلة في هذا الشرق، وقد دافعنا عن بلادنا وبذلنا من أجلها التضحيات الجسام، للمحافظة على هويتنا وكرامتنا ووجودنا”.
“إن علينا واجب النهوض وتقديم التضحيات والمبادرات، لإنشاء مؤسسات مواكبة للعصر، كي لا ينسى أبناؤنا تراثهم الزاخر وكي لا نصبح، مع الوقت، صفحة منسية في التاريخ، وذلك لا يتحقق إلا بالعلم، الذي هو السلاح الوحيد للمحافظة على المجد وجوهر التوحيد وكرامة الإنسان”.

د. كميل سرحال:
لم يسيء إلى أحد ولو قيد أنملة والكل يذكره بالمحبة والإنسانية والتواضع، ورغم الهجرة والعيش في الخارج بقي محافظاً على القيم والعادات والتقاليد

لم تكن المنحة كافية لتغطية مصاريفه، وكانت امكانياته المادية صعبة لدرجة أنه تأخر في تقديم أطروحة الدكتوراه لعدم توفّر المال اللازم لطباعتها، ولكنّه لم يطلب يوماً من أحد وحاول تأمين حاجته من تعبه من دون أن يشعر أحداً حتى أهله. وفي هذا الصدد يقول صديقه كميل سرحال بغصة: “رحمة الله عليه كان عنده عزة نفس عالية جداً”. ويشرح أنهما كانا يعيشان معاً في بيروت في الفترة التي كان عباس أبو صالح يتحضّر فيها للسفر الى أميركا، ورغم ضيق أوضاعه المادية لم يقبل أن يقترض المال منه. ويشيد سرحال بأخلاق الراحل العالية وتهذيبه وأدبه، ويقول: “منذ نشأته ونفسه ميّالة الى الخير. سكنّا معاً فترة 7 أو 8 سنوات، كنت آتي من عملي منتصف الليل أجده يدرس وأذهب الى العمل في السادسة صباحاً يكون يدرس أيضاً، كان ينام بين ساعتين وأربع ساعات يومياً فقط، ورغم شغفه بالعلم كان عنده روح الفكاهة ويحب الشعر والزجل. منذ أن أخذ شهادة “السيرتيفيكا” كان يصرف على نفسه من تعبه ولم يكلّف أهله بشيء، ولا أذكر أنه أساء الى أحد ولو قيد أنملة وكان الكل يذكره بالمحبة والإنسانية، وطوال حياته رافقته ميزة التواضع ورغم تغربه وعيشه في الخارج بقي محافظاً على القيم والعادات والتقاليد”. عاد الدكتور أبو صالح الى لبنان سنة 1971 حاملاً شهادة الدكتوراه بتفوق، والتحق بالجامعة اللبنانية وبعد معاناة حقق حلمه بالانضمام الى الجامعة الأميركية في بيروت، ولكن هذه المرة كأستاذ محاضر ودرّس فيها على مدى 15 عاماً.
تنتقل السيدة أبو صالح الى الجزء الأعز على قلبها، الى تلك الحياة التي شاركته فيها ابتداء من سنة 1979 تاريخ زفافهما. فإبنة العز صبرت كثيراً وإن لاقت صعوبة في التأقلم مع ظروف الرجل المكافح الذي رغم ضائقته المادية كان يعلّم أخاه في الجامعة الأميركية على حسابه، والمفارقة أن الكل كان يظن أن الأخ يتعلّم بمنحة فيما الحقيقة أن الراحل كان يقدّم عملاً مجانياً لمؤسسة المجلس الدرزي للبحوث والإنماء مقابل تغطية تكاليف دراسة أخيه.
حنوه واهتمامه امتدا من عائلته الكبرى الى عائلته الصغرى التي غمرها بالحب والعطاء من دون أن يطلب شيئاً. وبغصة الحنين الى الماضي تقول زوجته: “كان من النوع العاطفي والحنون جداً، وكان يساعدني كثيراً وعندما أكون حاملاً يهتم بالأولاد. ولم أشعر يوماً أنه يحتاجني، حتى ثيابه كان يرتبها وحده”. وتلفت الى أنه ورغم أوضاعه المادية الصعبة كان كريماً جداً ولبّى رغبتها واستأجر

المجلس المذهبي يكرّم الفقيد

أكرم شهيب: صحح تاريخاً شوّهه الحقد منذ القرن التاسع عشر ولا يزال
د. عصام خليفة: مرجع استثنائي في التسجيل الموضوعي لتاريخنا المعاصر

وكأنه كان يشعر أنه سيكون الوداع الأخير، أراد أن يشكر من أحبوه وقدروه بأن يكون بينهم، ولكن المرض كان أقوى منه ومنعه، فكرّمت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز الحاضر الغائب الدكتور عباس أبو صالح تقديراً لعطاءاته الفكرية وكتاباته التاريخية القيّمة قبل أيام قليلة من رحيله.
تخللت التكريم كلمات أشادت بمسيرة الدكتور أبو صالح، بدأت بكلمة ممثل صاحب الرعاية الاستاذ وليد جنبلاط، النائب أكرم شهيب الذي اعتبر أن الدكتور أبو صالح مكرّم بما أعطى وأبدع وبما وثّق وأرّخ.. مكرّم من رفعة خلق، وعلو همة، وسمو هدف، وكبير جهاد، مشيراً الى أنه ساهم في إحياء تراث بني قومه، وكتابة تاريخهم المجيد بصدق وموضوعية، بعدما شوّهته الأقلام الحاقدة منذ القرن التاسع عشر ولا تزال.
أما أستاذ الفكر الإسلامي في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور سامي مكارم فقال في كلمته: “إن الدكتور عباس أبو صالح حرص على أن يدرس التاريخ بموضوعية من جهة وبعمق من جهة أخرى، من هنا تجنبه الأسلوب الخطابي في كتبه. ومن هنا حرصه على أن يرد كل حدث تاريخي الى أسبابه، ودرس نتائجه بتجرّد، واتخاذه العبر من هذه الأحداث”.
واستشهد بما كتبه الدكتور أبو صالح في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”، والتي جاء فيها: “أخذ الولاء الطائفي ينمو على حساب الانتماء القومي والوطني، وبرزت مشاعر منها ما هو انكماشي وانطوائي ومنها ما تجاوز القومية الى ولاءات أخرى يمليها الشعور الطائفي السياسي. ونخشى أن تكون هذه المشاعر قد أخذت تؤثر بدورها في الموحدين الدروز، كما أثرت في بعض الطوائف اللبنانية، وهذا من شأنه أن يسيء الى ولاء الدروز الوطني والقومي.”
من جهته، الرئيس الأسبق لرابطة الأساتذة في الجامعة اللبنانية، الدكتور عصام خليفة عرض لسيرة الدكتور أبو صالح في كلمة قال فيها: “الدكتور عباس أبو صالح ركن أساسي ومرجع استثنائي في كتابة تاريخنا الحديث والمعاصر، وهو من الأكاديميين الذين تركوا الأثر الكبير في تربية طلاب التاريخ في جامعتنا الوطنية وفي جامعات خاصة أخرى، نتذكره ونتذكر أمثاله ممن رسخوا قيم العلم والأخلاق والوطنية في هذه المؤسسة”. وقدّم الدكتور خليفة أمثلة على الدقة العلمية وسعة المراجع وعمق التحقيق التاريخي الذي أجراه الدكتور أبو صالح في كل من كتب التاريخ التي ألفها، منوّهاً بأمانته العلمية ودقته البالغة في تقصي أحداث التاريخ.
وكان لمشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز كلمة أيضاً ألقاها المستشار الشيخ غسان الحلبي الذي بدأ بالقول: «د. عباس أبو صالح: اتزان التأريخ»، مشيراً الى أن من قرأوا كتاب «تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي»، أدركوا أنه بات للدروز من يملك رؤية متزنة لتاريخهم، يغلب فيها النهج العلمي، والمقاربة العقلانية المشبعة بحس المسؤولية، على انفعال الوجدان، وجنوح العاطفة. واعتبر أن صفات المؤرخ الموضوعي المتزن لم تتجسد فقط في كتاباته ودراساته ومنهجيته الصارمة في اشرافه على الرسالات والأبحاث الجامعية، بل وأيضاً في شخصه ومسلكيته وطبعه كرجل علم يحترم المعرفة، ويجّل أصول طرائق اكتسابها والتعبير عنها. وظلّ، خلال سنوات طويلة من العمل الصامت الدؤوب، مخلصاً لتلك المبادىء مثل ناسك يقدّم قربانه في هيكل العلم.
تحدث رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى أيضاً في خصال المكرّم، قائلاً: «إن المكرّم غلب عليه التواضع الصادق والرغبة في العمل الصامت والابتعاد عن الأضواء، ولم يحب المباهاة أو الاحتفال بنجاح أو تألق، كسواه ممن هم أقل انتاجاً وغنى، وتلك سجيّة فيه رافقته منذ الفتوة»، مضيفاً: «الا أننا لا نغالي اذا اعترفنا أننا تأثرنا بك وبما كتبت وأوحيت، ورحنا معك ومن ورائك نردد كلّما عصف الزمان واحتاج القوم الى جرعة عنفوان. لن أنسى حديثك عن تضحيات الأجداد بدمائهم، وعن عرقهم المصبوب عند كل تل وجل وجبل وسهل، وعند كل منعطف في المكان والزمان، وكأنك كنت تزرع فينا العزم، تنادينا بصوتك الخافت المدوي لكي نعود الى الأرض، نزرعها ونبنيها ونحميها ونعيش وحدتنا عليها، بدل أن نتغنى بمجد ضائع أو ننجرّ الى خصام أو صدام».

جامعة ظفار تودّع د. عباس أبو صالح

شهيد المعرفة لم ينحنِ للظلم
ولم تردعه الصعاب أو تكسره الآلام

أقامت جامعة ظفار في سلطنة عمان حفلاً تأبينياً عن راحة نفس الراحل الدكتور عباس أبو صالح، دعا إليه عميد كلية الآداب والعلوم التطبيقية ورئيس الجامعة بالوكالة، كما لبى الدعوة زملاؤه من الأساتذة والإداريين وموظفي الجامعة والطلبة.
تحدث في الحفل نائب رئيس الجامعة الدكتور أحمد صميلي ممثلاً الرئيس بالوكالة، الذي اعتبر الدكتور أبو صالح “شهيد المعرفة” لأنه سقط في المعمعة في الصف وهو يجاهد، ولم يترك التعليم بملء إرادته بل أجبره المرض على ذلك. وتساءل: “كم هو لغز كبير أن يشاء القدر أن نخسر فقيدنا الغالي وزميلنا العزيز ونحن على أهبة الامتحانات الأخيرة، كأنه يكمل السنة الدراسية معنا ويودعنا في آن إلى الأبد”.
ثم تحدث عميد كلية الآداب والعلوم التطبيقية الدكتور نمر فريحة، فأشاد بمناقبية الراحل وعلومه الغزيرة وصفاته الحميدة وحسن ادائه وتصرفه في القسم والجامعة. وأتى على ذكر الصعاب التي واجهها المرحوم في الأشهر الأخيرة من وجوده في الجامعة إذ بدأ الوهن يبدو عليه ونال من نشاطه، ولكنه بطبعه المشرق وروحه المرحة استطاع أن يخفي آلامه عن أقرب أصدقائه وأخلص زملائه. وقال إن شعوره بالتضحية كان لا يعرف الحدود. ودان الدكتور فريحة جشع شركات التأمين التي تركته بلا غطاء لأن عقد شركة التأمين في الجامعة يستثني المرض الذي ألمّ بالدكتور عباس، فصرف كل ما ادخره خلال سنوات التعليم على الاستشفاء وترك هذه البسيطة مستديناً ليغطي نفقات الطبابة. ووصف الدكتور فريحة زيارته الأخيرة إلى المرحوم الدكتور عباس في المستشفى في بيروت، وكيف كان يتحمل آلامه بصبر وبروح الدعابة، وكيف كان يفكر بالجميع ويسأل عن أحوال كل زملائه في الكلية فرداً فرداً متمنياً لهم النجاح والتوفيق.
أما الدكتور مفيد العبدالله، الأستاذ في قسم اللغة الانكليزية الذي قضى مع الدكتور عباس الكثير من الوقت في جامعة ظفار، فوصف كيف كان الدكتور عباس يحبّ الحرية من كل قلبه، ويؤمن بالديموقراطية فلا يرضى بإذلال أحد ولا يقبل أحداً أن يذله. كان صريحاً في آرائه، جريئاً في أفكاره، لا يلين أمام الصعاب، لا ينحني للظلم ولا تكسره الآلام”. وأشاد الدكتور عبدالله بسعة علوم الدكتور عباس ومعارفه في التاريخ وحبه للشعر والزجل والنكتة.
اختتم الحفل بكلمة للدكتور إبراهيم النجار الذي يعتبره الجميع أخاً للراحل لأنهما قلّما افترقا، فتحدث عن رفقتهما الطويلة، إذ كانا زميلين وجارين في الجامعة الأميركية في بيروت منذ سنة 1988، ورفيقين على مدى ستة أعوام في ظفار.
كانا يحللان الأحداث بعمق وكان المرحوم غالباً ما يلجأ إلى التاريخ ليضفي لمسة وواقعية على الأحداث، “وعندما لا توجد أية أحداث طارئة في العالم كان يعمد إلى الزجل والنكات لكي نتسلى ونمضي الوقت”. والآن بعد فراقه، تغيرت الأمور، فالدكتور نجار بلا شريك يذهب معه إلى العمل ويعود منه ولا جار يتحدث إليه.

أطلق على ابنه البكر اسم “نضال” تيمناً بحياة الكفاح التي عاشها وبنجاحه كإنسان

منزلاً في الشويفات قريباً من منزل أهلها بعد أن لفتته إلى صغر منزله في منطقة بلس في الحمراء، وبقيا في المنزل المستأجر الى أن أصبح عاجزاً عن الدفع واضطر الى تركه والعودة الى بلس. وتتابع: “عانينا كثيراً أول زواجنا، كان المنزل عبارة عن غرفة ومطبخ، وبقينا على هذه الحال حتى بعد أن أصبح لدينا 3 أطفال، مما كان يدفعه للبقاء في الجامعة حتى منتصف الليل ليعمل”. ورغم ذلك كان يدعو زملاءه في الجامعة الى الغداء قائلاً أنهم عازبون وليس هناك من يطهو لهم.
لم يقتصر حبه للعلم على نفسه بل شجّع زوجته على متابعة دراستها ونيل شهادة دبلوم تعليم. وتعود السيدة مي بالذكريات الى أول فترة زواجهما: “كان حساساً ومرهفاً ويحب الفن، أخذني إلى ايطاليا ولأنه غير قادر على شراء اللوحات الخالصة، كان يشتري صوراً ويقول لي أنا أشتري لها إطاراً”. ولأنها تحبه قررت أن تكون هي رسّامته، وبعد أن عادا اشترى لها أدوات الرسم وتعلّمت عند الفنان حموي ورسمت 45 لوحة. أما عن أولاده فتقول: “أطلق على ابنه البكر اسم “نضال” لأنه عانى حتى وصل. ولم يميّز بين الصبي والبنت، كان يعطيهم كل ما يريدون ويضحي من نفسه لأجلهم، وكنت ألومه على عاطفته، لأنهم يعتمدون علينا كثيراً فلو قساهم لكانوا أنجح، فالظلم رحمة أحياناً”. أما أحفاده فلم يتمكن من أن يراهم بسبب موعده المفاجئ مع القدر.
عزة نفس الراحل برزت في عدد من محطات حياته، ومنها عندما ترك العمل في الجامعة الأميركية في بيروت بعد مضايقات تعرض لها، تركها من دون أن يخبر أحداً بما حدث معه. بعدها درّس سنة في جامعة AUST، ومن بعدها انتقل للتعليم في جامعة ظفار في سلطنة عمان، وكان يتنقل بين لبنان وسلطنة عمان.
كان خريف 2010 صعباً على الراحل حيث بدأ يعاني من السعّال ولم يستطع أحد أن يشخّص حالته في البداية، البعض ظنّ أنه يعاني من مرض السلّ الى أن تبين أن مرض السرطان نال منه. كان ايمانه أقوى من معاناته مع المرض، وكان يرد على زوجته عندما تسأل من أين أتى هذا المرض: “لا تقولي ذلك، فهذا اعتراض على مشيئة الله”. قاوم المرض بقوة وإرادة، وحاول ألا ينام في الفراش وقد أثارت عزيمته استغراب الطبيب الذي كان يسأل أسرته: كيف يمكنه وهو في مرضه المتقدم أن يقف ويسير منفرداً على قدميه؟ كان يقول لزوجته لو كان هناك أمل واحد في المئة سأتمسك به، ولكن الأمل كان مفقوداً وخطفه المرض من بين عائلته التي بقي حاضراً معها حتى آخر رمق من حياته… ويروي ابنه البكر نضال كيف كان في آخر لحظات حياته يضغط على أصبعه وكأنه يحاول أن يقول له شيئاً، ولكن الكلمة الأخيرة لم تكن له بل للمشيئة الربانية التي أخذت رجلاً قلّ مثيله في الاستقامة والتواضع وقوة العزيمة… رجل ترك إرثاً غنياً ليس لعائلته فقط بل لمجتمع الموحدين الذين تعلق بهم وأحبهم وأرخ أحداثهم ومآثرهم ولمهنة التأريخ الأمين التي أتقنها ومارسها بأمانة وأخيراً للعرب جميعاً ولبلده لبنان.

بطاقة تعريف

• الدكتور عباس سعيد أبو صالح من مواليد 1943 في بلدة بتلون الشوفية.
• تلقى علومه الابتدائية في بلدته بتلون ثم في بعقلين ونال الشهادة الثانوية من مدرسة الشويفات الدولية.
• حاز على الإجازة التعليمية في التاريخ من الجامعة اللبنانية بدرجة امتياز، وكان أول من أرسل من الجامعة بمنحة الى الولايات المتحدة الأميركية، فتسلّم شهادة تقدير من أستاذه الكبير المؤرخ فؤاد افرام البستاني.
• نال شهادة الكفاءة من كلية التربية في الجامعة اللبنانية وأرسل بعدها بمنحة إلى جامعة تكساس حيث حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ بامتياز.
• درَّس في الجامعة اللبنانية وأشرف على رسائل الماجستير فيها، كما عيّن رئيساً لقسم العلوم الاجتماعية والاجتماعيات في المركز التربوي للبحوث والإنماء، ومدرساً لمادة الفكر والثقافة في الجامعة الأميركية في بيروت لمدة ثلاث عشرة سنة وفي جامعات خاصة أخرى، كما عين عضواً في لجنة الامتحانات لمباراة الدخول الى سلك وزارة الخارجية.
• شارك في لجنة تأليف الكتاب المدرسي لمادة التاريخ في المركز الوطني للمعلومات.
• عيّن من قبل الجامعة الأميركية في بيروت استاذاً في جامعة ظفار (صلاله) في سلطنة عمان، وبقي فيها حتى سنة 2011، وكان عميداً لمادة تاريخ الفكر والثقافة والعلوم الاجتماعية.
• له ثلاثة كتب ومجموعة من المقالات والدراسات والمساهمات الفكرية، من أبرزها: تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي (1980)– التاريخ السياسي للإمارة الشهابية في جبل لبنان (1984) – الأزمة اللبنانية عام 1958 في ضوء وثائق يكشف عنها لأول مرة (2000).
• لديه أبحاث عديدة، نشرت في مجلات علمية منها: الدروز في موسوعة لوميير عن دائرة المعارف الفرنسية – أبي هلال، الشيخ الفاضل، حياته الاجتماعية – الحياة الفكرية في لبنان خلال القرن الثامن عشر – 1981
• عمل على تأليف كتاب عن تاريخ لبنان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بقي القسم الأخير منه غير منجز تماماً، كما عمل مع مؤسسة التراث الدرزي على تأليف كتاب عن التاريخ الحديث للموحدين الدروز، لم ينشر بعد.

المؤسسة الصحية للطائفة الدرزية

المؤسسة الصحية في عيــن وزيـــن

استثمــارات ضخمــة والتحــدي الأول
استعــادة الثقــة وكســب رهــان الجــودة

د. زهير العماد:
النواقــص قائمــة لكننــا حققنــا قفــزات كبيــرة
نرحّــب بالنصــح البنّــاء والتجريــح يضــرّ الجميــع

في سنة 1978 وُضِع حجر الأساس للمؤسسة الصحية للطائفة الدرزية في أرض مطلة وموقع جميل على تلال عين وزين. كان الحدث بالنسبة للكثيرين منعطفاً حاسماً في تاريخ منطقة الشوف والعناية الصحية في الجبل عموماً. وقد كان غياب مستشفى مجهزاً تقنياً وطبياً وبشرياً في المنطقة قد تحول إلى شذوذ بديهي عن بقية المناطق والجماعات اللبنانية التي يحظى كل منها بمستشفى أو مستشفيات عدة ترعى خصوصاً فقراء المناطق إلى جانب المرضى المقتدرين أو المتمتعين بغطاء صحي خاص أو حكومي.
لم يكن مفاجئاً لذلك أن يستقبل قيام المؤسسة الصحية بترحيب شامل وبآمال عريضة، وأن يكون الخبر قد أدخل الطمأنينة إلى قلوب سكان الجبل بصورة عامة. لكن قيام المؤسسة فعلياً وشروعها في تقديم الخدمات الصحية في مطلع الثمانينات سرعان ما كشف عن أن المنطقة لم تكن مجهّزة كما يجب للتعامل مع التعقيد التقني والخدماتي والإداري لمؤسسة صحية متقدمة وحديثة، واتضح للجميع بسرعة أن المستشفى ليس المعدات ولا الغرف ولا العناصر المادية، بل هو نظام متكامل لتوصيل أفضل الخدمات الطبية والصحية يلعب فيه الفريق الطبي والإداري والتمريضي والإدارة اليومية لمختلف الأقسام أدواراً متكاملة ومتلازمة في سياقه. وقد تبين أيضاً أن هذه الخبرات والمهارات لا يمكن تجميعها فجأة بل يجب أن تكون جزءاً من ثقافة إنجاز وخدمة طويلة وأن تكون عناصرها قائمة وجاهزة للعمل بانتظام منذ اليوم الأول لقيام صرح بحجم المؤسسة الصحية.
بالطبع أدى عدم التنبه أو عدم إمكانية تلبية كل هذه الشروط بصورة مسبقة إلى حال أشبه بالتعلم في الميدان، أو التعلم بالتجربة وبالخطأ، وهذا طريق خطر في مهنة الطب كما سيوافق الجميع، وقد نجم عنه سلسلة من الارتباكات والأخطاء التي جاءت مناقضة للتوقعات المرتفعة التي كانت لدى الناس، والذين كانوا يقارنون المؤسسة ومنذ اليوم الأول بمثيلاتها من المؤسسات العريقة والمتقدمة، والناس يمكن أن تعذر أو تمهل في أي شيء إلا في موضوع الصحة والأمن الصحي، ولهذا فقد كان الرأي العام قاسياً في تقييمه لبواكير التجربة وارتسمت من جراء تلك الأحكام الأولية صورة سلبية كانت تتغذى يومياً بمختلف الأخبار الصحيحة أو المضخّمة أو حتى غير الصحيحة عمّا يحصل في المؤسسة الصحية.
كانت تلك فترة صعبة بل دقيقة ولا شك، وقد كان على المؤسسة والعاملين فيها التعلم بسرعة ومعالجة النواقص والثغرات التي تظهر في الممارسة، وهو ما كان يتم بالفعل يوماً بعد يوم وقد مرّت المؤسسة منذ تلك الفترة بمراحل متتالية من التطور والتقدم ومعالجة النواقص أوصلتها إلى ما هي عليه الآن كمؤسسة متكاملة ومتقدمة للرعاية الصحية ورعاية المسنين. لكن المؤسسة ورغم النجاحات التي أحرزتها والتحسّن المطرد في الخدمات الطبية التي تقدمها تشعر أكثر فأكثر أن الجمهور لم ينصفها بسبب قوة الصورة السلبية التي ما زال يتداول بها الكثيرون.
في هذا التحقيق الذي أعدّته “الضحى” عن تجربة المؤسسة وآفاقها محاولة موضوعية لإجراء تقييم منصف وصريح للتجربة بعيداً عن الشائعات والقيل والقال الذي بات الكثير منه يؤذي المؤسسة وجهودها وينعكس بالتالي على قدرتها على أداء الأدوار العديدة المتوقعة منها. تناول التحقيق التعرّف عن قرب على واقع التجربة الحالي ومراحل التطور التي مرّت بها المؤسسة ومشاريع المستقبل، كما تضمن مواجهة مسؤولين، وعلى رأسهم مدير عام المستشفى الدكتور زهير العماد، والشيخ علي عبد اللطيف أمين الصندوق في مجلس أمناء المستشفى، بالأسئلة الصريحة وبالهموم التي يتداولها الناس حول مؤسستهم الصحية وما يتوقعونه منها.

مستشفى عين وزين
يُعتبر مستشفى عين وزين حالياً مركز الإحالة للنسبة الأكبر من الحالات المرضية في كل مناطق الجبل، فمن يحتاج الى عناية قلبية أو علاج كيميائي أو غسيل كلى أو عناية فائقة حتى لحديثي الولادة يقصد “عين وزين”. ويقسّم المستشفى الى 12 دائرة ويتناوب عليه نحو مئتي طبيب من كافة الاختصاصات، وفيه احتكاك سنوي مع ما لا يقل عن 50 ألف مريض، بينهم 10 آلاف يدخلون المستشفى و20 ألفاً في العيادات الخارجية، وهناك ما بين 2500 و3000 جلسة علاج كيميائي، و800 جلسة غسيل كلى، ومعدل 100 جراحة قلب مفتوح، بالاضافة الى ما بين 200 و300 قسطرة قلب، علماً أن 40 % من المرضى عمرهم أكثر من 70 سنة، وهذا عامل مؤثر على مدة الإقامة في المستشفى، فمعدل إقامة المسن غير معدل إقامة الشباب وحديثي الولادة.
يعمل في مستشفى عين وزين 450 موظفاً منهم 100 أجانب، ويتألف الجهاز الاداري من 6 مدراء، وهناك 40 دائرة وقسماً، ولكل دائرة رئيس طبي وهي تعمل وفق نظام عمل واضح، وفي كل أسبوع يعقد كل قسم اجتماعاً لدراسة الحالات قيد المعالجة. وإضافة إلى الأقسام، هناك لجان عدة منها ما يُعنى بموضوع الأوبئة مع فريق عمل مختص، وهناك لجان للجودة، وأخرى لدراسة الحالات الطبية المعقدة، فضلاً عن لجنة تقييم الممارسة الطبية والتدقيق بحالات الوفاة خصوصاً تلك التي تتطلب تفسيراً.
على الرغم من هذه الإنجازات، فإن النقطة الملحة التي أردنا البدء بها هي السؤال عن مستوى الخدمة الطبية، وما يقال بين الناس عن تدنيها في المؤسسة بالمقارنة مع المستشفيات الأخرى المعروفة في لبنان.
يجيب الدكتور العماد على ذلك بالقول:” أنا كل يوم أسأل نفسي هذا السؤال، لماذا الناس غير ممنونين، لماذا الحديث يتركز دوماً على السلبيات والكلام الذي يثبط العزائم؟ الناس توقعاتها عالية جداً وتعتقد أن كل مريض يدخل المستشفى يجب أن يخرج صحيحاً معافى في اليوم التالي، وهذه صورة غير واقعية بالطبع لأن بعض المرضى يدخلون العلاج وهم في حالة متقدمة من المرض، وبعضهم الآخر قد يكون يعاني من اشتراكات وتعقيدات قد لا تكون ظاهرة في البداية، وعلى العموم نحن مثل المستشفيات الباقية لدينا أطباء أكفاء وذوو خبرة، كما أنه أصبح لدينا أحدث التجهيزات والتقنيات وهذه نضعها في تصرف المواطنين ممن يطلبون العناية الصحية في مؤسستنا، وهذا مدعاة فخر واعتزاز لنا، بل أقول إن من حظنا أن تكون لدينا مؤسسة على هذه الدرجة من المهنية والتجهيز ولكن عملنا في المؤسسة يجب أن يقابله تفهم أفضل من الجمهور ووعي مجتمعي أكبر.

“عين وزين” مستشفى فئة أولى
الضحى: ما هو تصنيف المستشفى اليوم بين المستشفيات اللبنانية، وهل حصلتم على شهادات الجودة نتيجة للجهود المبذولة لتحسين الأداء ومستوى الخدمات؟
د. العماد: في سنة 2000 بدأت وزارة الصحة تطبيق نظام اعتماد المستشفيات Accreditation كشرط للتعاقد مع المؤسسات الصحية ضمن مشروع تأهيل القطاع. ومنذ ذلك الوقت ومستشفى عين وزين مصنف بين مستشفيات الفئة الأولى في لبنان (فئة “أ”)، ويتم التقييم وفق معايير معتمدة من قبل الوزارة يتعلّق قسم منها بإدارة المستشفى لكن يؤخذ في الاعتبار أيضاً عناصر أساسية مثل آليات العمل ونوعية الخدمات الطبية والتمريضية والفندقية ومستوى المعدات والبناء ومعايير السلامة العامة ومعايير الأداء الطبي وملاءمة أعداد الموظفين ومدى تلاؤم أعداد الممرضين مع عدد الأسرّة والتطوير الداخلي وآليات الضبط الداخلي (مالياً وطبياً)، ويتم التأكد من وجود لجان تدرس حالات الأخطاء الطبية وحالات الإلتهابات والأوبئة الناتجة عن العمل الطبي الداخلي، بالإضافة إلى معايير سلامة المواد الطبية وتطابقها مع المعايير المعتمدة.
وأود الإشارة هنا إلى أن المستشفى ومنذ سنة 2005 حتى الآن يحصل على شهادة الـ ISO، والتي كانت تعرف بـ ISO 9001/2001 وأصبحت الآن ISO 9001/2008.
فضلاً عن ذلك، يخضع المستشفى لعمليات تقييم دورية ذاتية واختيارية عدة بما في ذلك تدقيق شامل تقوم به شركة ألمانية كل سنة لضبط العمل الداخلي، وهذا التدقيق كما قلت ليس إلزامياً ولكن يعتمده المستشفى بهدف التحسين المستمر للأداء.

لماذا تتجنّب الفئة الميسورة
طرق باب المؤسسة الصحية؟

تبلغ الميزانية السنوية للمؤسسة الصحية للطائفة الدرزية نحو 20 مليار ليرة (13.3 مليون دولار) وهي تدفع شهرياً نحو 450 مليون ليرة على الرواتب والمصاريف الإدارية ونحو 100 مليون ليرة للضمان الاجتماعي. لكن الملفت هو أن نحو 97 % من مداخيل المستشفى تأتي من فئة الدرجة الثالثة (ضمان اجتماعي ووزارة الصحة) بالمقارنة مع 40 % في مستشفيات بيروت، فيما لا يزيد الدخل الناجم عن مرضى الفئتين الثانية والأولى على 3 % في المؤسسة الصحية في عين وزين مقارنة مع 60 % في مستشفيات بيروت، ويعتبر غياب أي دخل حقيقي للمؤسسة من مرضى الفئتين الثانية والأولى سبباً في ضعف مصادر دخل المؤسسة، كما أنه مؤشر واضح على تردد المرضى ذوي الإمكانات المالية عن طرق باب المؤسسة، وذلك بسبب تشوش صورتها في ذهن الكثيرين واستمرار تأثير الصورة السلبية الموروثة عن الماضي على موقف قطاع كبير من زبائن القطاع الصحي من المؤسسة.

الأطباء بين طلب المال وقسم أبقراط

الضحى: لكن هل تحول جهود المؤسسة الصحية وإدارتها دون حصول أخطاء من قبل الأطباء أو دون سيطرة الروح المادية على بعضهم؟ واقع الأمر أن التبدلات الاجتماعية والقيمية تخلق اليوم سباقاً على كسب المال تراجعت بسببه القيم الإنسانية وقيم الضمير المهني واحترام حقوق الآخرين ليس في مهنة الطب وحدها بل في مختلف المهن، وبالطبع فإن الضحية الأولى لهذا التراجع هو المريض وأسرته.
د. العماد: المبدأ والتفكير الإنساني لم يتراجعا، لكن تراجعت امكانية الطبيب أن يعطي من ذاته، فالأطباء هم جزء من المجتمع ويعانون فيه، وهم يعملون في حياة الناس وصحتهم، وفي الوقت نفسه عندهم تحديات معيشية في ظل هذه الظروف، وفي كثير من الأحيان لا يقبضون بدلات أتعابهم قبل ستة أشهر. لكن هل يعني ذلك أن لا يقوم الطبيب بواجبه الإنساني؟ بالتأكيد لا. على الطبيب أن يواظب على الخدمة بصبر لأنه مسؤول عن صحة الناس وهذه هي المهنة التي اختارها ولا بدّ من الالتزام بمبادئها في جميع الظروف.
الضحى: ما هو موقف المستشفى من حالات الطوارئ التي قد ترد عليه؟
د. العماد: لا يتم رفض أي مريض في المؤسسة لسبب مالي، كما أن هناك مساعدات اجتماعية تقدّم للمرضى المحتاجين، وهي تعطى كمساعدات على فواتير وزارة الصحة والضمان الاجتماعي بعد درس طلب المريض من قبل مُساعدة اجتماعية مختصة، ويكون الحسم حسب التصنيف وتزيد نسبته في حال الدخول المتكرر. أما المريض الفقير فيتم تطبيبه 100 % على حساب وزارة الصحة.

مركز رعاية المسنين؟
يعتبر مركز رعاية المسنين في مستشفى عين وزين إضافة مهمة جداً لهذا الصرح الطبي، وجاء قيامه أصلاً مؤشراً على تبدل المفاهيم والعلاقات الاجتماعية داخل الأسر اللبنانية وحتى داخل الجبل، وهو تبدل نشأ أيضاً عن انفراط عقد الأسرة الموسعة وهيمنة الأسرة المنفردة المؤلفة من الزوجين والأولاد. وقد أحدث هذا التبدل فجوة مهمة في رعاية المسنين الذين قد يجدون أنفسهم وقد تركوا لمصيرهم في المنزل الأبوي أو في ظروف هجرة الأولاد وزواج البنات وفراغ المنزل من أشخاص يمكنهم أن يأخذوا على عاتقهم رعاية المسن. وبالطبع يزداد الأمر تعقيداً عندما يصاب المسن بأمراض الشيخوخة مثل الخرف أو أمراض باركنسون أو غيرها من الأمراض المُقعِدة، وهي حالات تجعل من العناية بالمسن أمراً صعباً إلا على شخص متفرغ تماماً ولديه في الوقت نفسه الخبرة والتدريب اللازمان للتعامل مع تلك الحالات.

مضاعفات الصورة السلبية
3 % فقط من مرضى الفئتين الأولى والثانية يختارون المؤسسة الصحية في مقابل 60 % لمستشفيات لبنان

مضاعفات غياب الحس الاجتماعي
60% من أهالــي نزلاء مــركز رعايـــة المسنين لا يدفعون المساهمة الشهرية المترتبة عليهم

الضحى سألت الدكتور العماد: ما هو سبب اللغط القوي حول خدمات مركز رعاية المسنين وشكوى الكثيرين من رفض قبول أهلهم؟
د. العماد: الجدل القائم حول مركز رعاية المسنين والطلب الكبير على غرفه المحدودة هما أحد الأسباب التي ساهمت في حالات التذمر أو النقد الموجه للمؤسسة من قبل البعض. لكن الناس لا تدرك ربما أن طاقة المركز على الاستيعاب تتجاوز اليوم الطلب المتزايد على خدماته، وأن موارد المركز المتاحة ليست بلا حدود. ولا بدّ من الإشارة إلى أن المؤسسة الصحية تغطي عجزاً مالياً في المركز لا يقل عن 20 إلى 30 ألف دولار شهرياً، وذلك بهدف إبقائه قائماً، وأن مركز رعاية المسنين يحتاج في طاقته الحالية إلى 350 ألف دولار كنفقات سنوية في وقت لا يزيد الدخل المحقق على 120 مليون ليرة، أي 80 ألف دولار.
لكن إحدى المفارقات الملفتة في مركز رعاية المسنين هي أن هناك 40 شخصاً من أصل 60 مقيمين حالياً في المركز لا يدفعون بدل إقامتهم ولا تتخذ أي تدابير بحقهم، مما يؤكد سيادة منطق الغلبة وفرض الأمر الواقع، وهو منطق يحرم المركز من الموارد ويجعله غير قادر على تلبية المزيد من الطلبات لإدخال مسنين قد يكونون في حاجة أمس وأكثر إلحاحاً للعناية. فمن المسؤول عن استمرار هذا الوضع؟

خدمات التمريض
الضحى: ما هو وضع خدمة التمريض في المؤسسة ومستوى الكفاءة والتدريب لدى الممرضات؟
د. العماد: هناك نقص في الكفاءة نعمل على سده، لأن العنصر البشري هو أهم رأس مال. وفي المؤسسة المعدل الوسطي لعمر الممرضات هو 27 سنة، أي أن الجسم التمريضي شاب في الغالب، وهو في حاجة إلى التدريب، ولهذا وبسبب الحاجة للتعويض عن نقص الممرضين ذوي الخبرات الطويلة فإن المؤسسة تركّز بصورة كبيرة على التدريب، وهي من أكثر المؤسسات التي تجري دورات تدريبية لموظفيها، فهناك أكثر من 6 أيام تدريب لكل ممرض أو ممرضة في السنة، فيما المعدل في فرنسا 3 أيام.

الضحى: هل تعتقدون أن فريق التمريض في المؤسسة كافٍ في ضوء عدد الغرف والمرضى الذين يستقبلهم المستشفى يومياً؟
د. العماد: من الناحية النظرية، المستشفى ملتزم بتوفير ما يكفي من الممرضين وفقاً لمعايير موضوعية تتعلق بعدد الأسرة والحالات الطبية، لكن المشكلة ليست في العدد بل في عدم كفاية الخبرات الموجودة وعدد سنين الخبرة المتوافرة لأفراد الجهاز التمريضي. ومن المعروف عالمياً أن معدل بقاء الممرضين والممرضات في المهنة أقل منه في الوظائف الأخرى لأن هذه المهنة بطبيعتها تتطلب جهداً وتخلق ضغوطاً كثيرة على العاملين، وهذا على الرغم من الحوافز المادية والاجتماعية والسكنية الموفَّرة للجهاز التمريضي. لكن النتيجة البديهية لهذا الوضع هو أن جهاز التمريض يحتاج إلى تدريب مستمر وإلى تجديد وإعادة تأهيل دائمين، لأن معدل الاستمرارية في عمل الممرضين قصير. أضف إلى ذلك أن مهنة التمريض أصابها ما أصاب المهن الباقية وهي أن النظرة إليها على أنها مهنة للعيش مع تراجع الحوافز الكافية للعطاء والتعامل مع التمريض كخدمة وترقية للنفس. ولهذا السبب ربما فإننا ندرس خفض دوام العمل وبدأنا تنظيم 3 نوبات عمل لتخفيف الضغط عن الممرضات، كما أننا نهتم الآن بموضوع التواصل ونعترف بوجود مشكلة في هذا المجال نسعى لحلّها عبر تخفيف التحكّم المباشر من قبل المسؤولين. أما في ما يخص التواصل مع الناس فنحن بدأنا أيضاً تنظيم دورات تدريبية على مهارات التواصل والتعامل مع المريض لكافة الموظفين.

الخدمات والبرامج التعليمية

تتولى المؤسسة الصحية في عين وزين دوراً تعليمياً مهماً يتمثل في توفير الاختصاصات والشهادات التالية:
1. برنامج شهادة الاختصاص في طب الشيخوخة، وهي تتطلب سنة تخصص بعد إنجاز ثلاث سنوات من التخصص في الأمراض الداخلية بعد إجازة الطب العام.
2. برنامج شهادة الاختصاص في الأمراض الداخلية.
3. تدريب للتخصص في الأمراض الداخلية وطب الشيخوخة.
4. تعليم مادة طب الشيخوخة مع تدريب عملي خلال الدراسة لنيل شهادة الطب العام.

علي عبد اللطيف: استراتيجية للتسويق
تعمل المؤسسة وفق استراتيجية يحدّدها مجلس أمنائها المؤلف من رئيس وأحد عشر عضواً، وتوضع على المدى البعيد حسب الحاجات، وبنظرة تطويرية للوصول بالمؤسسة الى مرحلة متقدمة من الخدمات الطبية.
يقول عضو مجلس الأمناء الشيخ علي عبد اللطيف إن المؤسسة نموذج خاص من التجارب القليلة الناجحة ويقصدها مرضى من الجنوب (صيدا وضواحيها)، البقاع، بيروت وضواحيها، والجبل الساحلي كله، ولكن نسبة القطاع التأميني الخاص فيها قليلة جداً.
ويشير إلى أن المؤسسة وضعت مشروعاً متكاملاً لتحديث المستشفى القديم كون عمره تخطى الـ 25 سنة، وسيتم في مرحلة تالية استكمال تطوير الأقسام وتوسيع أبنية المستشفى بالإضافة إلى استكمال الجزء المكمّل لمستشفى المسنين ومركز رعاية المسنين، علماً أن تكلفة المشروع تصل الى نحو 12 مليون دولار، وأن العمل بتنفيذه سيبدأ من هذه السنة.
ويعتبر أن هناك نقصاً في تسويق المستشفى، فهو غير معروف كما يجب، معترفاً أن ذلك كان خطأ القيمين عليه، اذ يجب أن يكون هناك تسويق مبني على التوعية وخلق المعرفة عند الناس، لذا أنشأ المستشفى أقساماً للإعلام والعلاقات العامة بهدف التواصل مع الجمهور وتحسين أساليب التسويق المستند إلى المعلومات.

المؤسسة الصحية والأخطاء الطبية

أحد الأعباء التي تثقل على صورة المؤسسة الصحية الشائعات والقيل والقال الذي يتناول حوادث الإهمال أو الأخطاء الطبية التي تنجم عنها حالات وفاة أو تفاقم لحالة المريض. وعلى الرغم من أن الكثير من الأنباء المتداولة غير دقيق وغالباً ما يتم تضخيمه، فقد رأت “الضحى” التوجه إلى الدكتور العماد بطلب توضيح هذه المسألة وسألته: أليس صحيحاً أن نسبة الأخطاء الطبية في مستشفى عين وزين عالية؟\
د. العماد: الأخطاء الطبية تحصل في كل المستشفيات، وهي باتت جزءاً من تركيبة قطاع الإستشفاء حتى في دول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ الرقابة واختيار الطاقم الطبي الكفوء لا بدّ من أن يحدا من وقوع تلك الأخطاء. الأخطاء الطبية التي هي على أنواع جسيمة والتي يكتنفها الإهمال الفادح أو الخطأ المهني هي قليلة في المستشفى، وهناك الأخطاء الناتجة عن قلة الاهتمام أو الاحتراز، وفي حال حصول أي خطأ طبي تعمّم الإدارة الحالة على كل الأطباء بهدف التصويب.

الضحى: ما الذي يحصل للطبيب المتهم بالتقصير أو ارتكاب خطأ طبي فادح؟
ردة الفعل على الأخطاء الطبية تبدلت وهي تقرر اليوم وفقاً لمعايير موضوعة من قبل وزارة الصحة والجهات الضامنة. وبناء على المقاربة الحديثة المتبعة، فإن الجواب على الخطأ الطبي لم يعد يتمثل في طرد الطبيب أو فصله، بل في اتخاذ الإجراءات العملية والإجرائية التي تحول دون حصول الخطأ ثانية. أما في ما يخص رفع دعوى على الطبيب فهذا حق للأهل ويعود لهم، لكن المهم هو أن غايتنا في المستشفى هي إزالة الظروف التي قد تتسبب بحصول أخطاء طبية والتقليل من تلك الأخطاء والتعلّم الفوري منها.

الضحى: حصلت حالات تفشي لإلتهابات في بعض أقسام المستشفى، فما هو ردكم؟
د. العماد: معدل الإلتهابات في المؤسسة هو من أدنى المعدلات في مستشفيات لبنان. وذلك بسبب إدخال أفضل أساليب الوقاية والتعقيم في مختلف الأقسام والأجنحة والإصرار على النظافة الشخصية والتحوُّط الطبي من قبل جميع العاملين. وقد حصل في إحدى المراحل أن قويت الإلتهابات في المستشفى فتمّ تعليق العمل في القسم وتغيير مكان غرف العزل وحصرها في مكان واحد، لأن المعدات معقمة ونقل الميكروبات يحصل عادة بواسطة الجسم البشري الطبي، إذا لم تكن لديه تقنيات وإجراءات التعقيم والوقاية الكافية.

الضحى: هناك أمثلة عن تفاقم حالات مرضية أو حصول اشتراكات ومضاعفات؟
د. العماد: لا يوجد مستشفى لا تحصل فيه هذه الأمور ضمن حدود قليلة لأن أجسام المرضى تختلف، وهناك حساسيات متزايدة تجاه لائحة طويلة من العقاقير أو العلاجات أو حتى الإجراءات الطبية. ولهذا، فإن من المكابرة القول إن المضاعفات أو الاشتراكات هي صفر بل من غير الواقعي أن نأمل في خفضها إلى الصفر، فهذا مستحيل ولكن نطمح أن تبقى في الحدود الدنيا عبر الدراسة المستفيضة لحالة المريض والمتابعة عن قرب والاحتياط دوماً لحصول مثل تلك الحالات.

الضحى: كيف تتابعون الأداء الطبي للمستشفى؟
د. العماد: نحن نطلب من جميع المرضى الذين يدخلون المستشفى ملء استمارة تقييم للخدمة الطبية، وهناك فريق مختص من 4 أشخاص يحلّل هذه الاستمارات ويقيّمها لتشكّل مؤشراً بالنسبة للإدارة، هذا بالإضافة إلى تسجيل الملاحظات الشفوية ودرسها. وأنا شخصياً على استعداد لتلقي أي شكوى سواء مباشرة أو عبر صناديق الشكاوى الموزّعة في أرجاء المستشفى.
أما كيف تتم إدارة هذه الأمور؟ فمن خلال إدارة الجودة في المؤسسة، وهناك اللجنة المركزية للجودة وهي مؤلفة من مدراء المؤسسة بالإضافة الى رئيسين اثنين لدوائر طبية. وفي دائرة الجودة 4 اختصاصيين مجازين إجازات عليا يديرون الجودة في العمل على الأرض، وهناك فريق مؤلّف من 10 إلى 12 مدققاً داخلياً يشرفون على أعمال الدوائر في كل قسم ممثل للجودة.

الشفافية المالية

قفــــزة غيـــر مسبوقـــة
فـــي الشفافيـــة الماليـــة

قواعد وأهداف التدقيق المحاسبي والمالي
في حسابات المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز

منذ انتخاب المجلس المذهبي سنة 2006، طرأت تطورات جوهرية على أنظمة المحاسبة والتدقيق المالي في حسابات المجلس المذهبي للطائفة، بحيث باتت هذه المؤسسة المشرفة على أوضاع الموحدين الدروز تدار بشفافية تامة من الناحية المالية، وذلك بعد أن تمّ رفع كافة احتمالات الاستنساب أو التقصير في عملية الإدارة اليومية للعائدات والنفقات.
إن الضبط اليومـي للوضع المحاسبي في المجلس المذهبي للطائفة يتم بواسطة تدقيـق متكامل داخلي وخارجي، كما أن معالجة معاملات القبض والصرف والتعاملات مع المصارف باتت منوطة بجهاز مالي ومحاسبي كفوء ومتمتع بمهنية عالية. وعلى سبيل المثال، فإن جميع العاملين في قسم المحاسبة هم إمّا من حملة الإجازات الجامعية، أو من الحائزين على مؤهلات متقدمة في أصول مسك المحاسبات وإدارة الشؤون المالية، كما أن هؤلاء الموظفين يخضعون بين الحين والآخر لدورات تدريب أو ورش عمل، هدفها وضعهم في صورة المستجدات القانونية وما قد يطرأ من تعديلات أو جديد على أنظمة المحاسبة وأساليب الإدارة المحاسبية ضمن المجلس.
وفي هذا السياق، قامت إدارة التدقيق الداخلي وكذلك المدقق الخارجي في الآونة الاخيرة بتنظيم دورات تدريبية حول القوانين الضرائبية وشؤون الرواتب وتطبيق نظم المادتين 41 و 42، وكيفية تنظيم كشوفات الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وغيرها (وقد تمّ تنظيم تلك الدورات من قبل المدقق الداخلي)، وذلك إضافة إلى دورة حول بعض المعايير المحاسبية الدولية قدمتها شركة التدقيق الخارجي، وشملت الدورات الثلاث حضور ما بين مسؤول وموظف حوالي 15 الى 20 شخصاً، مجلساً ولجاناً. وكان الهدف من تلك الجهود توفير أعلى مواصفات المهنية والدقة في الوظائف المحاسبية والتدقيق المالي، وبالتالي تأمين أعلى مستويات الشفافية في الأعمال المالية للمجلس ولجانه كافة.
إن المنطلق الأول لعمل التدقيق المالي هو الحرص المضاعف بإعتبار أن الأموال المعنية ليست أموالاً خاصة، بل تدخل في نطاق المال العام والحقوق الأساسية للموحدين الدروز، فضلاً عن أن قسماً كبيراً من تلك الأموال يأتي من عائدات الأوقاف، وهي أموال يحرم التفريط بها أو إنفاقها في غير الأوجه التي خصصت لها أو لا سمح الله الافتئات عليها بصورة أو بأخرى ويتوجب بالتالي مراعاة أقصى الحرص في إنفاقها.

من أجل تحقيق تلك الأهداف، فإن النفقات المالية في المجلس ولجانه (خصوصاً لجنتي الأوقاف واللجنة الإجتماعية) تتم بموجب أوامر صرف موثقة ومراجعة مراراً من مراقب عقد النفقة والمحاسب مروراً بأمانة الصندوق.
بعد إنجاز المعاملات وقبضها أو دفعها لمستحقيها، تتحول هذه المعاملات الى المدقق الداخلي شهرياً، علماً أن عمل التدقيق الخارجي يتم سنوياً وهو عادة ما ينتهي بالمصادقة على الميزانية السنوية للمجلس وتأكيد مطابقتها لحقيقة الوضع المالي.
تجدر الإشارة إلى أن ميزانية مشيخة العقل تخضع أيضاً للتدقيق الداخلي، ويتولى مدقق مختص مراقبة الواردات والنفقات والأمور المالية التي تتعلق بحركة الحسابات في مقام المشيخة.
وسوف نتوقف في هذا السياق، ومن أجل تعميم الفائدة، عند مهمة كـل من التدقيق الداخلي والخارجي في حسابات المجلس ولجانه.

أولاً: التدقيق الداخلي
نشأ التدقيق الداخلي للمجلس ولجانه منذ بداية عمل المجلس الجديد (أي في بداية انتظام العمل في سنة 2007)، وكان يشرف على ذلك الخبير الأستاذ زهير الدنف، ثم ومع بداية سنة 2010 أصبح هذا العمل منوطاً بالخبير الأستاذ رجاء وهبه صعب.
يقوم خبير المحاسبة المدقق الداخلي بكافة الأعمال المنوطة به، والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر الأمور التالية:
1. مراقبة تطبيق النظم والقوانين النافذة الداخلية، منها التي تتعلق بتنفيذ العمل والخارجية كالضرائب والضمان إلخ.
2. مراقبة كافة الأعمال المحاسبية شهرياً وتصويب الأخطاء المحاسبية الطفيفة فورياً مع قسم المحاسبة، وكذلك مراقبة مطابقة حسابات البنوك، المحصورة بحساب موحد تجمع فيه الأموال ثم يحول منه الى حسابي لجنتي الأوقاف واللجنة الاجتماعية ما يتوجب من أموال، خصوصاً الى اللجنة الإجتماعية التي تلعب دوراً مهماً في تقديم المعونات لذوي الحاجة (طبابة، تعليم، مساعدات شهداء وجرحى إلخ.)، وذلك حسب الإمكانات المتوافرة.
3. متابعة العمل مع مديرية الأوقاف للحصول على إفادات عقارية حديثة التاريخ للإثبات النهائي لملكية العقارات الوقفية من أراضٍ فراغ أو تلك المبنية، والتي نأمل تنظيمها ضمن محفظة كاملة اعتباراً من السنة الحالية 2011، لغاية الانتهاء من ذلك، والتأكيد على حقوق الطائفة، علماً أنه تمّ شراء عقارات جديدة في بيروت والمناطق ما بين السنتين 2009 و2010.
4. يتابع المدقق الداخلي أيضاً عمل الإدارة والموظفين، خصوصاً الفصلي منه كي يصدر تقريره الى الجهة المعنية في أقرب وقت بعد انتهاء كل فصل.
5. يدوّن أولاً بأول ملاحظاته حول الأخطاء ذات الأهمية المتوجب تصحيحها وتصويبها، ثم يصدر ذلك بتقرير فصلي مع المستندات المتوجبة ويحوله إلى سماحة رئيس المجلس للإطلاع والإجابة على الملاحظات من قبل المجلس عن أعماله وأعمال اللجان، كما يحوله الى المدير العام للمجلس لإبداء رأيه بالملاحظات، إضافة الى لجنة الأوقاف التي تجيب على ما يتعلق بأعمالها حول الأملاك الوقفية واستثمارها.

ثانياً: التدقيق الخارجي
تقوم بمهمة التدقيق الخارجي السنوي شركة متخصصة ذات خبرة طويلة، هي شركة هوروَث ابو شقرا، حيث يحضر الى المجلس موظفون لديهم الخبرات الكافية للتدقيق في أعمال المجلس واللجان، وذلك بالتعاون مع المدقق الداخلي الذي يرسل إليهم تقاريره الدورية خلال السنة المالية.

ويتولى المدقق الخارجي على سبيل المثال لا الحصر المهمات التالية:
1. بعـد الإنتهاء من العمل المحاسبي خلال السنة وفصلياً وصدور تقرير المدقق الداخلي على تلك الأعمال، يقوم المدقق الخارجي بتدقيق الأعمال لغاية 30/9 أو لغاية الشهر الذي يكون قد اكتمل العمل المحاسبي عنه، وهو يقوم بعمله وفق المعايير الدولية والقوانين المحلية ويراقب صحة التنفيذ لجهة الضبط الداخلي المالي والقانوني ويطلب تصحيح الأوضاع للشفافية والدقة، ثم يصدر كتاباً أولياً بملاحظاته للإدارة التي تقوم بالرد الملائم عليه بالتنسيق مع المدقق الداخلي.
2. بعد الإنتهاء من التدقيق الأولي تكون السنة المالية قد انتهت أو شارفت على نهايتها، عندها يقوم موظفو المدقق الخارجي بإتمام عملهم ليتمكنوا من إصدار تقريرهم السنوي حول كامل أعمال السنة المالية.

3. بعد إصدار تقريره الذي يتم إرساله الى الإدارة للمناقشة حول ملاحظاتهم النهائية وإجراء التعديلات المناسبة في حال وجودها والموافقة على التقرير وتفاصيله مع إبراز النقاط المهمة والإيضاحات اللازمة توخياً للدقة والشفافية، يعود المدقق الخارجي ويصدر تقريره النهائي موّقعاً منه باسم الشركة بما توصل إليه من خلال تدقيقه لكامل أعمال السنة المالية.
الجدير ذكره هو أن المدقق الداخلي وشركة التدقيق الخارجي هما جهتان مستقلتان وتعملان من خلال القوانين ومعايير التدقيق الدولية الملزمة، وهما يراقبان العمل ولا يتدخلان أو ينفذان أية أعمال محاسبية.

ثالثاً: التنظيم الداخلي لدفع النفقات
يقوم المجلس منذ نشأته وبدء عمله في سنة 2007 بإصدار غالبية المدفوعات بشيكات منظّمة ولا يدفع أموالاً نقدية سوى للنثريات أو الضروريات الطارئة، علماً أن ما يسدد نقداً له مستنداته أسوةً بالشيكات. وقد تمّ وبالتعاون والتنسيق مع المدقق الداخلي تجهيز شيكات خاصة بحسابات المجلس وافق عليها المصرف المختص ومصرف لبنان، وبدأ العمل بها خلال العام الحالي،، وهي تشمل إضافة الى الشيك سند صرف مرقماً برقم الشيك ذاته ونسخة إضافية كاملة تحفظ بمستندات المحاسبة لكل شيك وسند الصرف المتصل به.
ومن المتوقع أن يقلل هذا التنظيم المتقدم من احتمال حدوث أخطاء، بل يحول دون وقوع أخطاء من الأساس.

بعض المؤشرات المالية
في الميزانيات المدققة للمجلس المذهبي

التنمية الزراعية في الأرياف

التنمية الزراعية في الأرياف
فــرص حقيقيــة أم حنيــن إلــى مــاضٍ بعيــد

يُنفق الإتحاد الأوروبي مبلغ 365 مليار يورو سنوياً لدعم الزراعة في الدول الأعضاء للاتحاد، وتُصرف معظم بنود الدعم تحت عناوين «الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي ومكافحة البطالة». فالأمر بالنسبة لهذه المجموعة العريقة من الدول هو الحفاظ على استقرار العاملين في الاقتصاد الزراعي في أماكن سكنهم في المدن والبلدات الريفية، وهو ايضاً المحافظة على استمرار قدرة دول الاتحاد الـ 26 على تأمين معظم حاجاتها الغذائية من داخل أسواقها، فلا تكون مكشوفة بالتالي وفي لحظات الصراع والأزمات الكونية إلى الضغوط الخارجية (وخاصة من الحليف الأميركي) في ما يتعلق بالحاجات الغذائية الأساسية لمواطنيها.
هذا المبدأ الحيوي كان فيلسوف ملهم مثل اللبناني جبران خليل جبران قد لحظه ببساطة كلية عندما كتب في «حديقة النبي» سنة 1933:
«ويــــــلٌ لأمـــــةٍ تلـــــبس ممـــــا لا تنســـــُج، وتأكـــــلُ ممـــــا لا تـــــزرع، وتشـــــرب ممـــــا لا تعصُـــــر».
لبنان بلد الجمال، وأيقونة الطبيعة، كان عبر التاريخ يسمَّى «جبل لبنان»، أو بلاد الأرز، في إشارة لوجود شجرة الأرز السحيقة القدم في أعالي قممه. لذلك، فإن الطابع الذي يَغلُب على صورته، هو في كونه قرىً ودساكر جبلية، وأريافاً تَقطُنها المجموعات اللبنانية المتنوعة منذ مئات السنين، أي أن لبنان في الأساس ليس بلداً «مدينياً» (أي مكوّنٌ من مجموعة مدن على الطريقة اليونانية القديمة)، مع التقدير الكامل لدور مُدنه الساحلية، ومنها بيروت، التي شكلت على مرّ العصور أهم الثغور والحواضر التجارية في البحيرة المتوسطية من دون أن يعني ذلك أنها كانت مدينة مكتظة بالسكان، والدليل على ذلك أن بيروت كانت حتى الاستقلال محصورة في الحدود الإدارة الضيقة لها بينما كانت أقسام كبيرة منها وكذلك الضواحي المنبسطة حولها ما زالت تعيش على الاقتصاد الزراعي وتعتبر الممون الرئيسي لسكان المدينة في ما يحتاجونه من سلع عبر المواسم المختلفة.
وعلى الرغم من موجات النزوح الكبيرة التي حصلت من أطراف لبنان الريفية في البقاع والجنوب وعكار وجبل لبنان إلى بيروت (خصوصاً مع انفتاح باب الوظائف الحكومية بعد الاستقلال) فأنه وحتى مطلع ثمانينات القرن الماضي كان 35 % من سكان لبنان ما زالوا يعملون في الزراعة، ويعتاشون من دخلها بالكامل. لكن هذه النسبة تقلصت اليوم إلى 20 %، كما تراجع إسهام القطاع الزراعي في الناتج المحلي
إلى 6 %، علماً أن الصادرات الزراعية ما زالت تمثل نحو 17 % من مجمل الصادرات اللبنانية إلى الخارج.
وفي مطلع الثمانينات كان اللبنانيون أصبحوا يتوزعون في سكنهم مناصفةً بين المدن والقرى. أما اليوم فقد أصبح أكثر من 60 % منهم يقطنون في بيروت وضواحيها ( أو ما يسمى بـ بيروت الكبرى). وهذا التكوُّر، أو التحول الديموغرافي، خلق تشوهات في جسم الوطن، فانتفخت بعض أعضائه ونواحيه، وضعُفت أخرى. وهذا ما نراه في الاكتظاظ الهائل والمخيف الذي تشهده بيروت ومحيطها، بينما تفرغ جباله وقراه من سكانها. وبات لبنان الجديد الذي نَحلمُ به مولوداً مشوهاً يحتاج إلى عمليات تجميل، لتقويم الاعوجاج، وهذا إذا ما نجحت هذه العمليات، وإذا كان الأطباء مَهرة.

نسبة العاملين في الزراعة في لبنان تراجعت من 35 % من السكان في الثمانينات إلى 20 % وإسهام الزراعة في الناتج المحلي تراجع إلى 6 %

ماذا وقع لبنان في مرض التورم المُدُني؟
ساهمت مجموعة عوامل في إنتاج هذه المشكلة، منها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وإجبار مجموعات كبيرة من أبناء الجنوب على النزوح إلى ضواحي العاصمة، ومنها أيضاً – وأبرزها- تدني دخل المزارعين اللبنانيين، بسبب عدم اهتمام الدولة بالقطاع وغياب أي سياسات فعّالة للحفاظ عليه وتطويره. وقد أدى الإهمال الرسمي المتراكم إلى إضعاف مقومات الاقتصاد الزراعي والحياة الريفية وبالتالي تدفق أبناء الأطراف إلى المدينة بحثاً عن مصدر عيش يكفي أو باب لهجرة الأبناء، أو مردود لائق. ولا ننسى أيضاً تأثير الحروب الداخلية المقيتة التي مرَّت على لبنان وساهمت في إعادة التموضع السكاني الجديد.
لقد كان لتقهقر القطاع الزراعي آثارٌ مدمرة على البُنية الاقتصادية والاجتماعية للبنان، وقد كان لهذا التقهقر أسبابه الموضوعية بالطبع مثل ازدهار الدور الوسيط للبنان ومعه قطاعا التجارة والخدمات. لكن كان يُمكن تلافي بعضاً إن لم يَكن جزءاً كبيراً من تلك النتائج لو توافرت الرؤية السليمة ثم الإرادة عند الدولة، وعند هيئات المجتمع المحلي من بلديات وجمعيات وتعاونيات، وفعاليات سياسية واقتصادية، لأن الأمر ليس مجرد تراجع قطاع ونمو قطاع آخر مكانه، بل هو مقاربة وطنية لدور لبنان، ومستقبل أبنائه وأمنهم الغذائي، واستقرارهم الاجتماعي.
لقد ساهمنا جميعاً في تدعيم نمو قطاع الخدمات على حساب تراجع قطاعي الزراعة والصناعة، فأدى ذلك إلى أن يصبح سعر المتر المربع في بعض مناطق بيروت 15000 دولار أميركي، بينما في بعض القرى ما زال ثمن المتر دون الـ 5 دولارات، وارتفعت أسعار السلع – وخاصة الغذائية – وتصاعد غلاء المعيشة الذي يتطلب مداخيل أكبر، لا تؤمنها عائدات الزراعة، خاصة وأن هذا القطاع في لبنان ما زال يدار بصورة بدائية، كما أن إنتاجه مرتفع التكلفة بسبب ضعف الفعالية ونقص التقنيات وغياب الإرشاد وسياسات الدعم المطبقة في معظم دول العالم.
إن محاولة وقف التراجع في التنمية الريفية مسؤولية وطنية، كما أن تأمين البيئة الحاضنة والملائمة للزراعة الجبلية واجب تاريخي، لن ترحمنا على التقصير فيه الأجيال القادمة.
لقد أدى عدم وجود بنية تحتية للتنمية الريفية، وخاصةً للزراعات الجبلية، إلى التدهور الحاد لهذا القطاع، وبالتالي إلى التغيير الديموغرافي غير المناسب لبنية وواقع لبنان. فشبكات الطرق ولا سيما الطرق الزراعية ما زالت في وضع بدائي، إذ يعود تاريخ تنفيذ معظمها إلى فترة الستينات من القرن الماضي، عندما كان في لبنان حوالي مئة ألف سيارة، بينما يسير على طرقاته اليوم ما لا يقل عن المليون وسبعمائة ألف سيارة. أما الكهرباء والمياه فنكاد نقول إنهما ربما كانتا متوافرتين في ذلك الوقت أكثر مما هما اليوم، بينما تتوافر الاتصالات لكن بأسعار مرتفعة. أما طريقة ريّ المزروعات فما زالت بمعظمها تشبه ما ورثناه من حقبة الأمير فخر الدين (التطويف). ولبنان اليوم لا يستطيع ان يُخزِّن أكثر من 1 % من كمية الأمطار المتساقطة على أراضيه في السنة، جراء عدم وجود سدود وبحيرات جبلية لهذه الغاية، بينما أعلن سفير الصين السابق في لبنان أمامنا في أحد اللقاءات: أنه في الصين لا تسقط نقطة مياه واحدة من السماء وتذهب إلى البحر مباشرةً دون الاستفادة منها، في الريّ أو لتوليد الكهرباء، أو للنقل بواسطة الممرات المائية، أو لتربية الأسماك.
ويستورد لبنان 80 % من حاجاته الغذائية، وفاتورة هذه الحاجات تتجاوز الـ 3 مليارات دولار أميركي سنوياً وهي إلى ازدياد، وأكثر من 75 % من مزروعاتنا بعلية (أو مطرية) بمردود منخفض، ولا يستخدم في الريّ أكثر من 700 مليون متر مكعب، بينما تقدر كمية الأمطار التي تتساقط سنوياً فوق أراضيه بنحو 8 مليارات متر مُكعب تقريباً.
لقد أدت سياسة اللامبالاة وانعدام أي خطة لدعم المزارع في الأرياف إلى هجرة المزارعين في اتجاه المدن، وهجرة الشباب في اتجاه الخارج، (1) وأوقع ذلك لبنان في مشكلة أمن غذائي بالغة تتضح مدى خطورتها عند المحطات الأمنية الصعبة – لاسيما أثناء العدوان الإسرائيلي – كما أثناء أزمات الشح الدولية التي تؤدي فوراً إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، كما هو عليه الحال اليوم.
لكن السؤال المطروح هنا هو التالي: هل التنمية الريفية، وخاصة الزراعية ما زالت ممكنة وضرورية؟ أم أنها حنين رومانسي إلى ماضٍ لن يعود.
ان اعتبار الإنتاج الزراعي، والعمل بالزراعة موضة قديمة، ثقافة مدمرة، وكارثة بكافة المقاييس على الوطن وأهله، وهذا على الرغم مما يعتري القطاع الزراعي من تشوهات، خصوصاً بسبب الملكيات الصغيرة وعدم وجود قانون واضح ومُسهل لتأجير الأراضي الزراعية، وعلى الرغم من تدني أسعار المحاصيل بسبب تفرق المزارعين وسيطرة تجار الحسبة على الدورة التسويقية، وعلى الرغم من وجود 280 ألف هكتار أراضٍ زراعية جبلية متروكة بوراً ودون استغلال زراعي، واكتساح الباطون لمناطق أخرى كما في سهول الدامور والشويفات وصيدا وصور وطرابلس، على الرغم من كل ذلك، فإن التنمية الزراعية الريفية ضرورية، وممكنة، وليست مستحيلة، ولها أبعادها الوطنية في آن.
كيف يتم ذلك؟
أولاً : مسؤولية الدولة  على الدولة اللبنانية بوزاراتها المختلفة، وخاصةً وزارة الزراعة، القيام بسلسلة خطوات لتحقيق هدف إعادة الاعتبار للزراعات الجبلية، والنهوض بالقطاع بشكلٍ عام، ومن أهم تلك الخطوات:
1. تأمين البُنى التحتية الملائمة، من الطرقات العادية والزراعية وتأهيلها، وتأمين النقل المشترك ليتمكن المزارعون وأبناؤهم من الانتقال بكلفة معقولة إلى المدينة، ولاسيما إلى الجامعات والعودة منها إلى القرى.
2. إعطاء حوافز تشجيعية في أسعار الكهرباء والهاتف (أسوة ببعض الدول الأوروبية)، كما في تخفيض الرسوم والضرائب لمدد محددة على المزارعين الذين يقطنون في قراهم، وإعطاء جوائز على كمية الإنتاج وجودته.
3. إنشاء السدود والبحيرات الجبلية وتأمين المياه للمزارعين، مجاناً أو بتكلفة تشجيعية، وإنشاء شبكات للريّ الحديث ( التنقيط).
4. تفعيل الإرشاد الزراعي (وفق خطة الوزير د. حسين الحاج حسن) وتعميمه أفقياً، وإجراء الأبحاث المتطورة بهدف استنباط أفضل سُبل إنتاجية، وزراعة أنواع ذات ميزات نسبية بحيث يمكن بيعها أو تصديرها بأرباح جيدة.
5. إصدار القوانين والتشريعات الضرورية لمواكبة العصر، خاصة قانون سلامة الغذاء، وقانون تنظيم استيراد وبيع المستحضرات الزراعية (منعاً للاستغلال) وقانون الحجر الصحي النباتي، وقانون الزراعات العضوية، وقانون أو مرسوم لتحديد مصادر الفاكهة والخضار، تسهيلاً للمراقبة. كما أن مرسوم تصنيف الأراضي الصادر في شباط من سنة 2009 بحاجة لبعض التعديلات، على وجه الخصوص لناحية إعطاء حوافز استثمارية في المناطق الجبلية في مجال الزراعة، وفق مبدأ الحفاظ على البيئة، والإلتزام بمفاهيم التنمية المستدامة، لحفظ حقوق الأجيال القادمة في الطبيعة.
6. توقيع الإتفاقيات الملائمة مع الدول العربية والأجنبية، بما يكفل مصالح الزراعة اللبنانية، خاصة وأن لبنان يستورد عشرة أضعاف ما يُصدر من المواد الغذائية، وهذا الأمر يعطيه مكانة تفاضلية في الاتفاقيات. ولا بأس من بعض الحماية الجمركية التي لا تتناقض مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، لأن فتح الحدود على الزراعات المدعومة في الخارج يعني القبول بشكل من أشكال الإغراق . (2)
7. إعادة النظر بسياسة الدعم الحكومي لثلاثة أنواع زراعية فقط، لا تستفيد منها إلا منطقتان من لبنان، وكبار الملاكين فيهما. وهي الشمندر السكري والتبغ والقمح، بينما لبنان مشهور بالفواكه والخضار الجبلية، مثل التفاح والكرز والعنب والزيتون، والخضار، وهي متروكة من دون أي دعم.

الإهمال الرسمي المتراكم أضعف الزراعة والحياة الريفية وحفز نزوح سكان الأرياف إلى المدن وضخم البطالة والضغوط على البنى التحتية

ثانياً: دور المجتمع المحلي
إن التنمية المحلية المستدامة، لا يمكن أن تأخذ طريقها الصحيح إلى النجاح من غير أن يكون هناك دور أساسي للمواطن والهيئات المحلية المُنتخبة (البلديات) والتعاونيات والجمعيات الأخرى، وهذا الدور يمكن أن يتلخص بالتالي:
1. تعزيز مشاعر تعلُق المواطن بأرضه، وأهمية المساهمة في إعلاء شأن سمعة السلع المُنتجة محلياً، وإبراز ميزاتها على السلع المنافسة.
2. تعميم أجواء التسامح والتعاون، لما فيه خير الجميع، وخاصةً في مجال تسهيل تنظيم عمليات الري المشترك وتوزيع المياه بالتساوي، وبالعدل، ومن دون طمعٍ أو استغلال، وبالتالي الحفاظ على سلامة المشاريع المشتركة.
3. على البلديات القيام بدورها، في تشجيع الاستثمارات الزراعية، وتقديم الخدمات الضرورية للمزارعين، وتنظيم شؤونهم المشتركة، ولاسيما منع استغلالهم من قبل التجار ومُوردي الأدوية الزراعية، ومطالبة السلطات المعنية في الدولة تأمين البنى التحتية اللازمة لتطوير القطاع الزراعي.
4. إنشاء المشروعات الصغيرة التي توزع خدمات على المزارعين، وخاصة البحيرات الجبلية لتجميع مياه الأمطار وتوزيعها.
5. إن البلديات والتعاونيات مدعوة لإنشاء أسواق شعبية للمساهمة في تسويق الإنتاج، كذلك الأمر في إقامة المعارض الإنتاجية، وتقديم الجوائز لأفضل المنتجات، وذلك بهدف إعلاء قيم الإنتاج وتشجيع المزارعين الناجحين وتسليط الضوء بصورة دائمة على ميزات الإنتاج المحلي.
6. التشدّد في منع الحرائق ومكافحتها، لأنها تشكل خطراً محدقاً على الثروة الزراعية والحرجية (مثال على ذلك، أنه في 6 آب 2008 التهمت النيران 20 ألف دونم من الأراضي معظمها زراعية في قرية عيناب ومحيطها في يومٍ واحد).

تجربة البحيرات الجبلية في مرستي الشوف

في سنة 1998، وبتشجيعٍ من الاستاذ وليد بك جنبلاط، أنشأت بلدية مرستي بحيرة على أملاكها العامة – دون تغيير وجه الملكية – تتسع لـ 15 ألف متر مكعب من المياه الشتوية، قدم الحفارة للعمل النائب نعمة طعمة مجاناً، وكانت البحيرة الأولى في المنطقة، وفي السنة التالية بدأ توزيع مياهها مجاناً على المزارعين، ثم قامت البلدية بإنشاء برك أخرى حتى أصبح عددها ست برك، تمّ تمويلها من عائدات الحفر وبعض الرمول، بشفافية مطلقة، وبتكلفة تقارب ربع تكلفتها السوقية أو التجارية، وذلك بفضل العمل المجاني، وتعاون أعضاء المجلس البلدي والأهالي، وقد تكرَّم الأستاذ وليد بك جنبلاط وساهم في تقديم أنابيب للري على النقطة إلى المزارعين .
أدى هذا الأمر إلى استصلاح الأراضي المهملة، وزراعة ما يقارب الخمسين ألف شجرة – خاصة من التفاح والكرز – كما أدى إلى دخول دورة الإنتاج الزراعي مجدداً من قبل نحو مئة رب عائلة، منهم مَن يعتمد على الزراعة بشكل كامل، ومنهم مَن يعتمد على مردودها بشكل جزئي. وتقوم البلدية بتكليف أحد الأشخاص للإشراف على توزيع المياه من البحيرات من دون مقابل، إلا أن المُكَلف يسترد بعض أتعابه من المزارعين.
إن النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي نجمت حتى اليوم، من جراء هذا المشروع يمكن إيجازها كالتالي:
– زيادة الأراضي المستصلحة على نطاقٍ واسع في البلدة، وبالتالي تغيرت معالم الطبيعة إلى اخضرار، فيه حياة، ورائحة جهدٍ ونشاط وعمل من جراء إعادة التجليل والاستصلاح.
– عودة مجموعة كبيرة من أبناء البلدة إلى العمل الزراعي، وبالتالي الإنتاجي، بعد أن كان معظمهم نسيَ هذا الأمر، ومنهم مَن كان مقيماً خارج البلدة لكنّه ونتيجة للفرص التي فتحها المشروع قرر العودة إليها.
– زاد الإنتاج الزراعي بصورة كبيرة كما قفزت العائدات المالية المحصلة من المزارعين بصورة غير مسبوقة لتصل هذه السنة إلى نحو 250 مليون ليرة لبنانية (نحو 166,000 دولار) وذلك من مبيعات الكرز فقط، ومن دون احتساب الاستهلاك المحلي، وهناك عائدات مهمة بدأ الحصول عليها من مواسم أخرى مثل التفاح وغيره.
تجدر الإشارة إلى أن هذا العائد تمّ تحقيقه من أشجار حديثة الزراعة ولم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج الاقتصادي والنضج، وهذا يعني أنه في إمكاننا أن نتوقع تضاعف العائدات المالية للزراعات التي تمّ استحداثها بفضل مشروع البحيرات الجبلية سنة بعد سنة لتصل بعد سنوات عدة إلى مبالغ ضخمة وتتحول بالتالي إلى مصدر إسناد أساسي لمعيشة قسم كبير ومتزايد من السكان.
إلا أنه في المقابل تزيد هذه المشاريع من الأعباء على العمل البلدي، كونها بحاجة إلى متابعة دائمة، إضافةً إلى الصيانة والتَفقُد المستمر لها في فصل الشتاء، وإذا كان التعاون بين الأهالي والبلدية ضرورياً للحفاظ على استمرارية هذه البحيرات، ولكن بعضاً من استخدام سلطة القانون ضروري أحياناً للحفاظ على الحد الأدنى من الانتظام في توزيع المياه بالعدل بين الجميع، وكي لا نَغرق في بحر الفوضى الذي غالباً ما أدى في حالات عديدة إلى تعثر العمل المشترك وخسارة الكثير من فوائده من قبل الجميع.

تقرير عن تطور دور مشيخة العقل

تطور دور مشيخة عقل الطائفة
خصوصاً بعد قانون العام 2006

صورة جامعة للمجلس
المذهبي الجديد بعد انتخابه

قانون 2006 أعاد توجيه مسؤوليات مشيخة العقل نحو الأوضاع الداخلية للطائفة في جوانبها الدينية والحياتية والتي أهملت لوقت طويل

مشيخة العقل ليست «زعامة» أو تمثيلاً لحزبية في الطائفة على حساب حزبية بل هي مرجعية للوحدة والحكمة والتعقل والإرشاد في شؤون السلوك والدين

الموحدون الدروز مسلمون وهم وإن اجتهدوا كغيرهم أو أخذوا بالطريق الأصعب للسلوك فإنهم متمسكون بانتمائهم الإسلامي دون لبس

ما هو دور مشيخة العقل في طائفة الموحدين الدروز؟ سؤال مهم لم تكن الإجابة الواضحة عليه أمراً سهلاً حتى سنوات قليلة في غياب الإطار المؤسسي الذي ينظم شؤون الطائفة. وعلى الرغم من صدور بعض النصوص القانونية بهذا الخصوص (خصوصاً قانون العام 1963 والذي تمّ استبداله بالقانون الرقم 208/ 2000) فقد بقيت صلاحيات شيخ العقل ودوره وطبيعة علاقته بالمرجعية السياسية وببعض مؤسسات الطائفة وهيئاتها موضوعاً ملتبساً يتأثر بالأجواء العامة أو بموقف الأطراف المختلفة كما يتأثر بشخصية شاغل المنصب والتفسير الذي يعطيه هو لدوره، أي أن هذا الموضوع المهم بقي قابلاً للاجتهاد والتأويل وغالبا ما يؤدي الاجتهاد – مع غياب النص الواضح- إلى التوسّع في تعريف الدور أو التضييق عليه، وهو ما قد يدخل شيخ العقل –سواء أراد ذلك أم لم يُرِده- في أخذ ورد لا يمكن أن يكون مفيداً للموقع ولما يجب أن يحيط به من إجماع واحترام، كما أنه لا يمكن أن يسهل لشيخ العقل القيام بالدور الروحي والعمومي الجامع الذي هو في صلب رسالته ومسؤولياته. «الضحى» أعدّت هذه الدراسة التي توضح أهم التحولات التي طرأت على موقع مشيخة العقل ودورها الوطني خصوصاً بعد قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز الصادر في العام 2006.

نشير أولاً إلى أن قانون العام 1963 لم يتضمن تطوراً أساسياً في المنصب بل كل ما فعله ربما هو وضع العرف في إطار من التنظيم التشريعي، ولهذا السبب بقي ذلك القانون مجتزأً وملتبساً إلى أن تمت معالجة ثغراته بالقانون الرقم 208/ 2000. لكن التعريف الذي تمت صياغته في أحكام القانون الصادر بتاريخ 2006/6/9 كان هو الأقرب إلى توحيد الرؤية القانونية لما سمِّي «ترتيب شؤون البيت الداخلي» فوُضعت أسُس الانتخاب العام لأعضاء المجلس المذهبي، والاتفاق على موقع مشيخة العقل وتحديد أطر العمل المؤسساتي كما توزيع المهام والواجبات بدءاً من شيخ العقل وصولاً إلى اللجان المتخصِّصة داخل المجلس المذهبي للطائفة، وكل ذلك استناداً إلى قواعد التنسيق والإشراف التي يتولاها موقع مشيخة العقل بالتشاور مع القيادات وممثلي كافة قطاعات المجتمع.
في هذا السياق، يمكن القول إن دور مشيخة العقل أصبح أكثر وضوحا ًوتحديدا وعلى الأخص باعتبار شيخ العقل رئيساً للمجلس المذهبي للطائفة ورأس الهرم المكوّن من قاعدة أعضاء المجلس المذهبي ومجلس إدارة المجلس واللجان المتفرّعة عن مجلس الإدارة، لكن شيخ العقل هو من ناحية التمثيل الرسمي المرجع الأول في تسيير الشؤون الدينية للطائفة وهو بهذه الصفة، يتحمل مسؤولية خاصة في تدبير شؤون مجتمع الموحدين، والعناية بقضاياهم، والسهر على ترتيب أوضاع المجالس والمزارات بما من شأنه تحقيق الغاية من وجودها.كما لحظ التنظيم الأخير مهمّة القيام بالإرشاد المباشر للمجالس وللموحدين عبر مراسلات كتابيّة تتناول مواضيع راهنة ومهمة بهدف خلق الوعي المشترك بين عموم الموحدين بشأن أوضاع الطائفة وما يجري حولها. وقد لاقت هذه التوجيهات صدى إيجابياً كما كشفت أن هذا الدور التوجيهي مهم ومطلوب من جمهور الموحدين الذين باتوا يطمئنون إلى مشيخة العقل وإلى ما يمكن أن تساهم به في الإجابة على التساؤلات ومعالجة المسائل المتعددة اليومية والتوفيق بين المواقف أو الأشخاص.

تعزيز الدور التوجيهي والروحي
إن قيام مشيخة العقل في متابعة الشؤون اليومية والدينية يندرج أيضاً في سياق تعزيز دور المشيخة كمرجعية معنوية وروحية للطائفة وليس فقط كمرجعية مذهبية-مدنية (من خلال دورها في رئاسة المجلس المذهبي)، علماً أن هذا الدور لا يستند فقط إلى العلم الواسع لشيخ العقل بالمسائل الدينية والقانونية، بل يستند في الوقت نفسه إلى كفاءة الرئيس الروحي للطائفة في التعامل الفاعل مع فريق العمل الذي تكوّن حول مشيخة العقل بهدف مساندتها في هذا المجال. وهذا ما يجعل الاجتهاد في موضوع المسلك والتوجيه الإسلامي الروحي للموحدين الدروز مسألة تدارس وشورى وتكامل في الجهود، فالإحاطة بمختلف أوجه مسلك التوحيد وإنتاج مواد التوجيه وبلورة المواقف من بعض المسائل العامة أو السياسات المتعلقة بمواضيع النشر ومضمونها وأسلوب عرضها وغير ذلك من المسائل، كل ذلك يتطلب عمل فريق كما يتطلب التعاون واستقطاب الكفاءات المطلوبة والتي تجعل من مقام مشيخة العقل بدوره مؤسسة ذات موارد فكرية وعملية تمكّنها من القيام بالدور المطلوب والمرتجى منها. وعلى سبيل المثال، فقد لحظ قانون تنظيم شؤون الطائفة إنشاء هيئة استشارية تساند شيخ العقل وتبدي رأيها في العديد من المسائل بما في ذلك مسائل إنفاق الموارد المتاحة والمساعدات وغيرها.
لقد وضعت التطورات السابقة الأسس لواقع مؤسسي بات يخالف الصورة الخاطئة التي كانت ترى في مقام المشيخة «زعامة» أو تمثيلاً ذا نزعةٍ عصبيّة أو عائليَّة، بل على العكس من ذلك، إذ ان انتخابات المجلس المذهبي الأخير رفعت العديد من الالتباسات وأعادت لمنصب شيخ العقل ما توحي به التسمية أصلاً من مؤهلات التقوى والحكمة والتعقل والتفقه في شؤون الدين، وأعاد هذا التحوّل للموقع احترامه ومكانته الخاصة كما أعاد توجيه مسؤوليات مشيخة العقل كمؤسسة نحو الأوضاع الداخلية للطائفة في جوانبها الدينية والحياتية والتي أُهملت لوقت طويل.
الى ذلك، فإن تركيز عمل مشيخة العقل ومسؤولياتها على الوضع الداخلي يسير جنباً إلى جنب مع قيام شيخ العقل بدوره كممثل لطائفة الموحدين الدروز في علاقتها بالطوائف الأخرى ولاسيما الطوائف الإسلامية الشقيقة. ومن أول شروط ارتفاع مكانة الموحدين الدروز على الصعيد العام هو نجاحهم في ترتيب البيت والإعتناء بشؤونهم وتوحيد صفوفهم بحيث يتعاملون مع الآخرين كجماعة وليس كجماعات شتّى.
نهج الاعتدال والانتماء الإسلامي
وفي هذا المجال، فإن مقام مشيخة العقل يُثبت يوماً بعد يوم مكانته الخاصة بالنظر للتعامل الواعي والمتزّن مع مختلف الشؤون العامة يما يشدّد على نهج الإعتدال والإنتماء الوطني الجامع ثم الإنتماء الإسلامي الذي يحدّد الهوية الدينية والروحية للموحدين الدروز. ومن هذا المنطلق فقد ركّزت مشيخة العقل دوماً على كون الموحدين الدروز جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي من حيث الالتزام بأسس الإسلام وشعائره دون لبس أو إبهام وذلك مع الاعتناء في الوقت نفسه بالقيم التوحيدية وبأوجه الخصوصية التي يتميز بها اجتهاد الموحدين في عدد من الشؤون الحياتية والسلوكية، علماً أن هذه الاجتهادات تأثرت بصورة واضحة بالتعبير التقشفي أو الزهدي للإسلام كما عمل به الرسول (ص) والخلفاء الراشدين وعدد كبير من الصحابة الكرام والأولياء الصالحين والشيوخ في ما بعد. وقد عملت مشيخة العقل على الإضاءة الإعلاميَّة على العديد من المناسبات مثل إقامة صلاة العيد بمناسبة عيدي الفطر والأضحى، وإحياء رأس السنة الهجرية، وتنظيم الإفطارات في شهر رمضان المبارك عملاً بمضمون الآية الكريمة
}ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ{ (الحج:32)
لقد أثبتت تجربة المجلس المذهبي أن منصب مشيخة العقل يتطلب كفاءات ومؤهلات عالية ولاسيما على مستوى النزاهة الشخصية والحكمة والقدرة على العمل الدؤوب والمتابعة والأسلوب الحكيم في التعامل مع الصعوبات والمشكلات التي تهب يومياً في وجه العمل العام، والتركيز على تحقيق الغايات المرجوّة من وجود المشيخة ومسؤولياتها وقيامها بالدور الحكيم في وجه الخلافات والمنازعات والمواقف الحادة، حيث أنَّ شيخ العقل ينأى بنفسه عن الجدل والخلافات ليكون الرمز الأبرز لوحدة الموقف، ولعلوّ القيم التوحيدية، ورفعة السلوك والحرص على الإخوان والابتعاد عن كل ما يفرق صفوفهم أو يبث بينهم خلافات عقيمة تستنزف جهودهم، فضلاً عن التأكيد دوماً على البُعد الوطني وعلى مصلحة البلاد العليا في المواقف العامة.
لكن ما هي الإنجازات و الإضافة المهمة التي تندرج في سجل إعادة تحديد وتفعيل الأدوار المطلوبة من مشيخة العقل؟ هذا ما سيتم تفصيله في الفصول التالية.

مشيخة العقل والمسؤولية الإدارية

جعل قانون تنظيم أحوال طائفة الموحدين الدروز من شيخ عقل الطائفة قانونياً وعملياً المرجعية الرئيسية لإدارة الشأن المجتمعي الدرزي وذلك من خلال الإشراف المباشر على عمل المجلس المذهبي ولجانه وانتداب الممثلين عنه في المغتربات وإرسال البعثات والإشراف على المزارات والمقامات والأوقاف وشؤون التعليم الديني والنشر وانتداب المشاركين والممثلين عنه في المناسبات أو الندوات وتمثيل الطائفة في علاقاتها اليومية مع الدولة اللبنانية ومع الطوائف الأخرى وإعلان المواقف بإسمها. لكن القانون الذي حدّد مهام ومسؤوليات شيخ العقل تضمن في الوقت نفسه تعيين الآليات التي تنظّم اتخاذ القرارات المهمة بما يحقق المشاركة في الرأي والتشاور والدرس وذلك من خلال الدور المناط باللجان المتخصصة ورؤسائها وأجهزتها. وبهذا المعنى فإن دور شيخ العقل، هو مثل دور أي رئيس تنفيذي في مؤسسة يتعامل مع خيارات واقتراحات يتم درسها وبلورتها من خلال الإدارات واللجان، لكن هذه القرارات والخيارات المتعددة تحتاج في نهاية المطاف إلى شخص يتحمّل مسؤولية الاختيار بينها وترجيحها. وبهذا المعنى فإن شيخ العقل يتحمّل مسؤولية كبيرة هي على قدر التفويض الممنوح له من القانون.

دور مشيخة العقل في المجلس المذهبي للطائفة
بموجب القانون، فإن شيخ العقل يتولى تسيير شؤون الطائفة عبر اضطلاعه بالمهمات التالية:
يترأس جلسات المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ويعتني لذلك بالإدارة الفعّالة للإجتماعات واتخاذ القرارات المناسبة والتوفيق بين الجوانب المختلفة لعمل اللجان، وبصورة عامة فإن أحد أهم الأدوار التي يقوم بها في هذا الموقع هو الحفاظ على جو الجدية والتعاون والعمل المثمر داخل المجلس.
يترأس الاجتماعات المشتركة للجان عندما يتطلب الأمر عقد اجتماعات للتنسيق بينها، وغالباً ما يتطلب الأمر هذا النوع من التنسيق بسبب تقاطع أعمال اللجان أحياناً والحاجة إلى حسم بعض المسائل المشتركة. وفي هذا المجال فإن دور شيخ العقل مهم أيضاً على صعيد الحفاظ على مناخ التعاون وحلّ الأمور العالقة في وقتها.
يشرف على مالية المجلس المذهبي وعلى مختلف نواحي الإنفاق ويتابع أوضاع الأوقاف ويهتم بكل ما من شأنه زيادة الموارد المالية للمجلس المذهبي ولجانه وذلك بما يساعد المجلس واللجان على القيام بمهماتها ومسؤولياتها.
يشرف على إدارة المقامات والمزارات والمجالس الدينية والخلوات ذات الطابع الديني العام.
يتخذ القرارات المتعلقة بإعادة تسجيل أبناء طائفة الموحدين الدروز وفقاً للقوانين المرعية الإجراء، ويحدد الأشخاص الذين يمارسون الشعائر الدينية التوحيدية من أجل إعفائهم من خدمة العلم.
يفـــوض لمـــدة معينة معتمـــدين مـــن أبناء طائفة الموحدين الدروز اللبنانييـــن للقيـــام في المهجر ببعض الأعمال المتعلقة بممارسة الشعـــائر التوحيدية وله إنهاء التفويض أو تعديله في أي وقت يشـــاء.

1. استقلالية وحصانة مقام مشيخة العقل
أعطى قانون تنظيم شؤون الموحدين الدروز شيخ العقل في هذا الإطار صلاحيات واسعة روحية وإدارية ومالية تعزز استقلاليته وتصون موقعه الذي لا يمثل شخصه بحسب بل يمثل الطائفة ويجب أن يرمز إلى قوتها وهيبتها ومكانتها داخل الوطن وفي ما يتعداه.
وفي سياق تحصين هذا الموقع وإبعاده عن الاعتبارات السياسية أو التدخل من أي نوع، فقد جعل القانون لشيخ العقل بمجرد انتخابه من الهيئة العامة للمجلس المذهبي حصانة تامة تنبع من المنصب نفسه وأهميته المعنوية للموحدين الدروز. وبهذا المعنى فإن القانون يحظّر عليه الجمع بين منصب مشيخة العقل وبين أي عمل آخر من أي نوع كان رسمياً كان أو خاصاً. فشيخ العقل مكرّس بكليته للطائفة وشؤونها.
وكما أعطى القانون لشيخ العقل حصانة قانونية فإنه أعطاه وفي نطاق إدارته لمؤسسة مشيخة العقل استقلالاً واسعاً إدارياً ومالياً. فمشيخة العقل تتمتع بميزانية مستقلة عن ميزانية المجلس المذهبي. وبهذا المعنى فإن شيخ العقل يمسك الحسابات بالواردات والنفقات ويعين مدققاً داخلياً لضبطها وله منفرداً فتح الحسابات المصرفية بإسم المشيخة والسحب منها والإيداع فيها. وبسبب استقلالية ميزانية مشيخة العقل عن ميزانية المجلس المذهبي فقد ترك القانون لشيخ العقل الحرية في تزويد المجلس المذهبي بنسخة عن ميزانية مشيخة العقل “على سبيل العلم”.
ويضع شيخ العقل موازنة المشيخة من موارد ثابتة تأتي من نسبة معينة من حصيلة التبرعات المقدمة للمزارات الدينية (25 %) التي تقع تحت إشراف المشيخة ومن إيرادات الأوقاف والأملاك الموضوعة بإشراف مشيخة العقل (أملاك الشيخ احمد أمين الدين) والتي تتم جبايتها بمساعدة لجنة الأوقاف فضلاً عن الهبات والتبرعات والوصايا الواردة لحساب مشيخة العقل. إن إنفاق التبرعات المقدمة من المزارات الدينية يتم بموجب قرارات من الهيئة الاستشارية لمشيخة العقل.
إن الاستقلالية الممنوحة لشيخ العقل في إدارة هذا المقام المهمة جداً في إدارة الشأن الديني لم تفهم دوماً على حقيقتها كما لم يقدر البعض المغزى المعنوي المهم من وراء النصوص القانونية التي كرستها. وسبب ذلك هو على الأرجح الاختلاط الذي قد يحصل أحياناً في النظر إلى مقام مشيخة العقل إذ يغفل البعض التمييز بين دور شيخ العقل في مهامه الروحية وبين دوره كرئيس للمجلس المذهبي للطائفة. ومن الواضح أن موجبات وحقوق كل من المنصبين ليست ذاتها. فبصفته رئيساً للمجلس المذهبي يتمتع شيخ العقل بصلاحيات واسعة لكنها صلاحيات “وظيفية” تتعلق بتسيير عمل المجلس وإدارة فريقه والإشراف على لجانه المختلفة. لكن في مهامه الروحية فإن شيخ العقل يتمتع بصلاحيات هي أقرب إلى الحقوق أو الامتيازات المتصلة بالمقام وبأهمية صونه وإعطائه درجة كبيرة من الاستقلالية، لأن أساس انتخاب شيخ العقل هو الثقة بدينه ومناقبه ورجاحة عقله وهي الصفات التي يستند إليها التفويض المعطى له والذي يجعله سيد مقام المشيخة والمتحمل لمسؤولياتها واستخدام مواردها والسهر على مجتمع الموحدين والمجالس والاهتمام بالتوجيه الديني، وإيفاد البعثات أو تنظيم أو رعاية المناسبات الدينية وغير ذلك الكثير.

باعتبارها مرجعية روحية للموحدين الدروز فإن لمشيخة العقل حصانتها واستقلاليتها وهي تتمتع بتفويض واسع في إدارة الشأن الإيماني وإدارة شؤونها المالية والإدارية

2. تعيين الهيئة الاستشارية لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
تجتمع الهيئة مرة كل شهر في مقام الأمير السيد عبد الله (ق) برئاسة شيخ العقل ويمكن له دعوتها عند الحاجة لعرض مختلف الشؤون الروحية.

3. إدارة وضبط الشأن الديني بالتشاور مع الهيئة الاستشارية
يعتبر الشأن الديني من أكثر الأمور أهمية ودقة بالنسبة للموحدين الدروز. وتقوم أهمية هذا الشأن على خصوصية مسلك التوحيد باعتباره تطبيقاً لجوهر التوحيد الإسلامي وعملاً برسالته الروحية التي نص عليها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الشريفة وكذلك اقتداء بالصحابة الكرام وبالألوف من الأولياء الصالحين والزهاد العارفين الذين يظهر لهم الموحدون احتراماً شديداً ويتناقلون سيرهم ومواعظهم وما خلفوه من تراث التنبيه والإرشاد في مجالسهم.
لكن بالنظر للطبيعة الخاصة لمسلك التوحيد والينابيع المتعددة التي ينهل منها فقد اقتضى على الدوام وجود مرجعية دينية واسعة العلم ومشهود لها بالاختبار والإحاطة لتبيان أصول الإتباع والتفريق في الوقت نفسه بين ما هو أصيل وما هو دخيل على مسلك التوحيد. وفي غياب التوجّه الصحيح والتمييز المدرك فقد برزت أحياناً اجتهادات في غير محلها وراجت أفكار وأقاويل تسيء إلى حقيقة التوحيد وتشوه معانيه، بل الكثير مما يروج أحياناً هو فهم خاطئ وقد يكون هدف بعض مروجيه إيقاع الفتنة بين الموحدين أنفسهم أو بينهم وبين العقائد والأديان وهو ما يجب أن نحذر منه أشدّ الحذر.
لهذه الأسباب فإن من أولى مسؤوليات مشيخة العقل الدفاع عن مذهب التوحيد وصونه من كل دخيل أو خارج عنه نصا أو معنى. وفي هذا السياق قامت مشيخة العقل بدور كبير ومسؤول في هذا المجال من خلال المبادرات التالية:

1. إصدار كتاب السبيل إلى التوحيد
يتضمن هذا الكتاب، والذي صدر حتى الآن باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، لأول مرة عرضاً مبسطاً لثوابت ومرتكزات المسلك التوحيدي. وهو يأتي في سياق سلسلة من المبادرات التي تستهدف توضيح أسس المسلك لمختلف فئات الطائفة في الوطن أو المهجر، كما استهدف توفير مدخل يُمكّن جميع أبناء الطائفة من امتلاك بعض أهم الأسس الروحية التي توضح هويتهم الدينية والروحية والثقافية وتحفزهم بالتالي لمزيد من الإطلاع من خلال الوسائل والقنوات التي توفرها مشيخة العقل وتشرف على موادها ونوع التعليم الذي تقدمه للمهتمين، وسيتبع بعونه تعالى أجزاء أخرى.

2. توجيه مجالس الذكر
البدء في إرسال رسائل وعظية وإرشادية تقرأ في مجالس الذكر وتستهدف مدّ جمهور الطائفة بالتوجيهات الأولية، إيضاح بعض النقاط المهمة الخاصة بالمسلك بما يوجب فهمها والعمل بها على أوسع نطاق ممكن.

3. ضبط الشأن الإيماني
ويتم ذلك بصورة خاصة عن طريق تفعيل الجهود الرامية لضبط المواقف التي قد تصدر عن بعض الناشطين في الطائفة سواء في المناسبات العامة أم الإعلامية أو وسائل النشر وقد حصلت في المدة الأخيرة عدة أمور أثبتت أهمية الانضباط وعدم التسرع والتشاور مع مقام المشيخة قبل أخذ مبادرة المشاركة في المناقشات والمناظرات التي قد تتطرق لشؤون العقيدة والمسلك. ومن المفيد أن نشير في هذا المجال إلى أن قانون تنظيم شؤون الموحدين الدروز ينص بكل وضوح على مسؤولية مشيخة العقل في هذا المجال إذ جاء فيه أن شيخ العقل: “يعطي الإذن المسبق لكل ما يصدر من كتب ومنشورات مرئية ومسموعة ومسجلة ذات الطابع الديني العقائدي لطائفة الموحدين الدروز”. وتمتد صلاحية شيخ العقل هنا إلى المجال التعليمي، إذ يعود إليه “إعطاء الموافقة المسبقة بالتنسيق مع اللجنة الدينية في المجلس على برامج التعليم الديني لدى طائفة الموحدين الدروز والإشراف على هذه البرامج”.

4. تأكيد الانتماء الإسلامي
الموحدون الدروز مسلمون وهم اجتهدوا كغيرهم من الفرق الإسلامية في التطبيق والأحكام وإن أخذوا ربما بالمنحى الأصعب للسلوك فإنهم يؤكدون على انتمائهم الإسلامي دون لبس. وإن من أبرز ما قامت به مشيخة العقل هو اتخاذ جملة من المبادرات والخطوات التي استهدفت تأكيد الانتماء الإسلامي للموحدين الدروز والتشديد على ضرورة التزام الموحدين الدروز بما هو مأمور به وإهمال كل ما راج بفعل الجهل والتهاون في أمر الدين من اجتهادات وأفكار أفرغت الإيمان التوحيدي من أي موجبات أو التزام بتهذيب النفس والعبادة الحقة.
وكيف يمكن للموحدين التقدّم في معارج الإيمان مع إهمال التقرب من المولى واحترام شرعته ووصاياه وما كانت تلك الوصايا إلا عن علم بضعف الإنسان { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:28) وانكشافه الدائم لإغراءات النفس الضدية خصوصاً في هذا الزمن الذي انهارت فيه القيم واشتدت فيه قوى الجهل الظلمة. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) {. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} (الزخرف: 15).
إن إهمال القيام بواجب العبادة للمولى والتجرؤ على حدود الله يورث الخسران ويعرّض الموحدين الدروز لمخاطر الامتحان وساعات الشدة وما انتصر الموحدون في كل الأزمان على العدوان والظلم إلا بسبب طاعتهم لله وخوفهم الدائم من الوقوع في أشكال الإنكار والحرام.

5. احتضان المغتربين
يواجه الموحدون الدروز في المغتربات أوضاعاً صعبة لجهة الحفاظ على إيمانهم وما يرتبط به من محافظة على القيم وتربية صالحة للأبناء، وذلك بسبب الضغوط الشديدة التي يتعرضون لها من الثقافة السائدة ووسائل الإعلام وبرامج التعليم والاختلاط الواسع ومظاهر الانحراف السلوكي التي عمّت خصوصاً أكثر بلاد الغرب. وفي مثل تلك الأجواء فإن الهم الأول للكثير من الأسر والعائلات يتركّز في كيفية الحفاظ على هويتهم وهوية أبنائهم الذين يولدون في تلك البقاع ويوشكون في وقت قصير أن يندمجوا بأطفال وأولاد تلك البلدان لا يفرقهم عن غيرهم الكثير لجهة الجهل بالدين والاكتساب التدريجي للعادات والانحرافات الرائجة.
وفي تلك المناخات حاول بعض المخلصين من أبناء الطائفة تنظيم ورش عمل أو ندوات أو لقاءات اجتماعية وثقافية، كل ذلك على أمل أن يساعد ذلك على صون الهوية وحس الانتماء. لكن وفي غياب أي نصوص مرجعية مأذون بها فقد كانت تلك المبادرات قائمة على الجهد الشخصي وأحياناً التأويل الشخصي لشؤون دقيقة وحساسة. وقد لمست مشيخة العقل مدى افتقاد المغتربين لوسائل التوجيه والتثقيف الديني خلال انعقاد المؤتمر الاغترابي الأول والذي شهد مشاركة واسعة من المغتربين في مختلف أصقاع الأرض. وكان احتضان تلك الجهود ومد يد العون إلى جميع المخلصين من أبناء الطائفة في الخارج أحد الدوافع وراء العمل على إصدار كتاب «السبيل إلى التوحيد» ليكون بمثابة النص المرجعي المعتمد في عمليات التنشئة وحلقات التعليم التي تنظم في الخارج حول مسلك التوحيد وبحيث يحال دون اضطرار البعض لإصدار نصوص أو مراجع قد لا تكون مستوفية لشروط الوضوح أو الدقة. وتعدّ مشيخة العقل لترجمة النص إلى اللغات الأجنبية الرئيسية وفق أفضل مقاييس الدقة والأمانة، كما تعد لإصدارات جديدة في المستقبل في هذا الشأن.

ما انتصر الموحدون في كل الأزمان على العدوان والظلم إلا بسبب طاعتهم لله تعالى وخوفهم الدائم من إنكار حقوقه والوقوع في مزالق الإنكار والحرام

6. تأكيد الحضور في الشأن العام
أخيراً، فإن من أبرز الخطوات التي حققتها مشيخة العقل تأكيد طائفة الموحدين الدروز لحضورها الخاص والمميز في الشأن العام وذلك من خلال الدعوة و المشاركة في القمم الإسلامية، والإسلامية – المسيحية، وفي مختلف مناسبات الحوار واللقاءات الدينية الجامعة أو الإسلامية والتواصل الدائم مع أركان الطوائف الإسلامية والمسيحية والإعلان عن مواقف محددة بشأن القضايا المحلية أو العربية كلما دعت الحاجة. وقد أصدرت مشيخة العقل سواء عبر المجلس المذهبي أم بصورة مستقلة عشرات المواقف المهمة التي ركزت عليها وسائل الإعلام وذلك بما يؤكد بأن الموحدين الدروز كانوا ولا يزالون وسيبقون من أولى الفصائل المجاهدة في سبيل العرب والمسلمين وأنهم على استعداد دائم للذود عن حياضهم وعروبتهم كلما دعت الحاجة.

7. واجب مراقبة الأوقاف العامة ومقاضاة المتعدين عليها
بموجب القانون الصادر بتاريخ 2006/2/12 اكتسب المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز حق الولاية والإشراف على الأوقاف الدرزية، واتخاذ القرارات اللازمة التي تكفل حسن إدارتها، وطريقة استغلالها ووجهة صرف ريعها، وكل ما من شأنه تحقيق غايتها (باستثناء خلوات البياضة).
وأعطت أنظمة المجلس المذهبي لشيخ العقل بصفته رئيساً للمجلس ممارسة الصلاحيات والمهام التي أولاه إياها القانون، ويمثل المجلسين (الهيئة العامة ومجلس الإدارة) ويرأسهما وينطق باسمهما، وبهذه المهمة يتولى شيخ العقل مع اللجنة القانونية في المجلس المذهبي وبالتعاون مع لجنة الأوقاف اختيار وتوكيل المحامين للدفاع عن حقوق المجلس المذهبي والأوقاف.

العدد 4