الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بلدة سهوة الحناوي

بلـدة سهـوة الحنّـاوي
في جبل العرب

تاريخ كفاح ومنارة العقل والصالحين

قدمت الشهداء في مقاومة محمد علي باشا والفرنسيين
ولجأ إليها سلطان باشا إبّان الحملة الظالمة للشيشكلي

زارها الرحالة والمستشرق السويسري بيركهاردت
وانتصر آل الحنّاوي فيها للأطارشة ضد آل الحمدان

آل الحناوي قدموا مجموعة من مشايخ العقل
أبرزهم أبو علي قسام الملقب بـ «سيف الدين»

فصل-الخريف-وبقية-من-بحيرة-السد-تنتظر-مياه-الشتاء،-وتبدو-بساتين-الزيتون-في-بحر-الصورة
فصل-الخريف-وبقية-من-بحيرة-السد-تنتظر-مياه-الشتاء،-وتبدو-بساتين-الزيتون-في-بحر-الصورة

شقيقان من آل غريزي من بتاتر في لبنان استشهدا بعد مقاومة بطولية ساعدت في تأخير اقتحام الجيش للقريّا وأعطت سلطان باشا فرصة كسر الطوق والتوجّه إلى السهوة

على السفح الغربي الأوسط من جبل العرب، وعلى مسافة نحو تسعة كيلومترات من مدينة السويداء مركز الجبل، بين مخاريط بركانية عدة منطفئة، تقع سهوة البلاطة، وهي قرية قديمة العمران أصلاً، القديم منها يقع على بلاطة صخرية، بل قل على مرتفع صخري منبسط يمتد باتجاه شمالي ـ جنوبي، يظهر هذا بوضوح بالنسبة للناظر إلى عمرانها القديم من جهة الغرب، ولا تزال ماثلة فيها بعض المباني القديمة التي تعود إلى عصور الإغريق ما بعد الإسكندر، والأنباط والرومان، والعصور العربية، إضافة إلى مقابر قديمة تشهد على عراقة عمرانها، ولابدّ أنّ وجود عدد من الينابيع قد ساهم بنشوء تلك القرية الأولى القابعة على الكتف الغربي لجبل «الرّيّان»، كما كان يسميه العرب قبل الإسلام، ومن هذه الينابيع نبع «عين الوسطاني» و «نبع الشلاّلي» و«عين زيدان»، لكن كل هذا لم يحل دون أن تمتد إليها يد الخراب التي طالما تطاولت على الجبل عبر التاريخ، بحكم موقعه على حافة جنوبية من الهلال الخصيب ممّا يلي بوادي الصحارى العربية، وهذا الموقع المفصلي بين الحضر والبادية، جعل سكّان الجبل منذ القديم على تناقض حاد مع البداوة، بما هي عليه من تهديد تاريخي للتحضّر والعمران.
ترتفع قرية السهوة القديمة الأولى عن مستوى سطح البحر نحو 1150 متراً، ويبلغ عدد سكانها على دفتر النفوس نحو الخمسة آلاف نسمة، أمّا عمرانها الحديث فقد تجاوز البلاطة الصخرية التي تتوّج التلّة التي تموضع عليها العمران القديم، وامتدّ لينتشر على تلال عدة متتالية الارتفاع باتجاه الشرق، وباتّجاه الغرب حيث يميل السفح الجبلي إلى انحدار ليّن باتجاه قرية رساس، غير أن القادم إليها من جهة الشرق لا يرى شيئاً من عمرانها للوهلة الاولى، وكأنه في حالة من السهو عن أن بلدة ما سيفاجئه ظهورها أمامه على غفلة منه، ولعل إسم البلدة جاء من هذا المعنى، فالسّهو، هو الغفلة والذهول عن الشيء، وفي اللغة: السهوة: الريح الليّنة، والصخرة لا أصل لها في الأرض، والليّن السهل الوطيء الملائم، وما يشبه الرّف توضع عليه الأشياء.
تبلغ المساحة العامة للأراضي الزراعية والحرجية والصخرية للقرية نحو 25000 دونم، ويتراوح ارتفاع تلك الأراضي عن سطح البحر ما بين 1050 متراً في الغرب، ممّا يلي قرية رساس، و 1600 متر من جهة الشرق مما يلي قرية الكفر وجبل القليب، ومن ضمنها مساحة المخطط التنظيمي العمراني للسهوة والبالغة ألفين وخمسمائة دونم تضم القرية الأثرية القديمة كنواة ينتشر حولها العمران الحديث على سفوح وقمم تلّية متموّجة تهب القرية طبيعة جبلية آسرة.
دخول آل الشومري
كانت السهوة في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر إقطاعاً من حصة الشيخ خطار الحمدان، أحد مشايخ آل الحمدان في السويداء، وقد أسكن هذا فيها الشيخ أبو حسين علي الشومري وآله المهجّرين قسراً من كفرقوق من ديار راشيّا الوادي في لبنان، إذ كان الموحّدون آنذاك يتعرّضون في سائر ديار جبل لبنان لاضطهاد منظم من قبل الشهابيين وأحلافهم من الفرنسيين وبعض أوساط الإكليروس بهدف تهجيرهم من لبنان وديارهم.
وهكذا كان آل الشومري، ممثّلين بشخص الشيخ أبو حسين علي الشومري، على ما يذكره الشيخ مهنّا الشومري، مختار السهوة الحالي، أول من سكن سهوة البلاطة من بني معروف الموحّدين.

المستشرق بيركهاردت
سنة 1810، في التاسع عشر من تشرين الثاني، زارها المستشرق السويسري جان لويس بركهارت ــ رحّالة من أب سويسري وأم إنكليزية، وهو صاحب كتاب رحلات في شبه الجزيرة العربية ــ موفداً من قبل الجمعية الملكية البريطانية، وكان هذا يتنكّر بشخصية رجل مسلم ألباني قد تضطلع بالعربية والقرآن وأحكام الشريعة تحت إسم الحاج عبد الله إبراهيم اعتقاداً منه أن ذلك سيسهل له رحلاته إلى المشرق والتعامل مع أهل البلاد، وهناك دلائل قوية أنه أسلم فعلياً في ما بعد. وصف بيركهاردت السهوة بالقول: « يمرّ بالسهوة وادٍ يدعى عين الطواحين ينحدر من عين موسى، وهو نبع قرب الكفر، ويجري نحو عرى. والسهوة قرية درزية وليس فيها إلّا عائلة واحدة مسيحية. ثم يقول «وعندما تركت القرية صار همس بين الدروز لمنعي من السفر أو لقطع الطريق عليّ، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث».
ولعل توجّس بركهارت وخوفه من قطع الطريق عليه ناجم من تشكك أهل البلاد الشرقية من نوايا المستشرقين الغربيين الذين وفد معظمهم بمهام استخباراتية، في الوقت كانت الدولة العثمانية أصيبت بالضعف وبدت عاجزة عن مواكبة ما أصبح عليه أولئك الغربيون من قوة وقدرة على اقتحام البلاد الشرقية.

آل الحنّاوي ينزلون في السهوة
يذكر الشيخ فارس قاسم الحنّاوي، مؤلّف كتاب «صفحة مجيدة من تراث الأسرة الحنّاويّة »، ما يشير إلى أن أصل آل الحنّاوي يعودون في أصلهم إلى «أسرة عربية عريقة قدم رجالها من شبه الجزيرة العربية، ورافقت جيوش الفتح الإسلامي لتستقرّ في المغرب العربي، ومنها انتقلت إلى الأندلس ثم عاد أبناؤها فاستقرّوا في جزيرة «جربة» في تونس، ومن ثمّ انتقلوا منها أيّام فتح مصر من جديد عن طريق الخلفاء الفاطميين وبزمن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، واستوطنت بعض هذه العائلات في طنطا». وحسب الرواية، فإنّه في زمن محنة الخليفة الفاطمي علي الظاهر ضد الموحّدين، اضطر الموحّدون من تلك الأسرة إلى الانتقال إلى بلاد الشام، فأقاموا في يافا، ويبدو أنهم اضطرّوا في ما بعد للإنتقال إلى جبل عامل، فجبل لبنان، حيث أقاموا في قرية الكنيسة بادئ الأمر، أمّا زمن استقرار آل الحنّاوي في السهوة فقد يعود إلى نحو سنة 1832م ممثّلين بالشيخ أبو فارس أسعد الحنّاوي. ولمّا كان تملّك المطحنة على الماء في ذلك العهد يعتبر أحد مظاهر الوجاهة وعلوّ الشأن، وحيث كانت قوة آل الحمدان آخذة بالتراجع، فقد اشترى الشيخ أسعد الحناوي إحدى المطاحن على نبع عرى القريب من السهوة من الشيخ هزّاع الحمدان، ولم يلبث أن لحق به إليها الشيخ المشهور، أبوعلي قسّام الحنّاوي، وقد برز دور آل الحناوي أكثر، إثر توطّد تحالفهم مع اسماعيل الأطرش وآله ضد آل الحمدان، أصحاب الزعامة الأولى في الجبل قبل قدوم الأطارشة إليه، ونظراً لغلبة تلك العائلة عددياً في السهوة، إضافة إلى ظهور شخصيات بارزة من رجالاتها في مجالات المجتمع والفروسية في الجبل، أبرزهم الشيخ أبوعلي قسّام الحنّاوي، الملقّب بسيف الدين. ويروى أنّه بعلو همّته قدم خصيصاً من جبل الدروز، إلى جبل لبنان بهدف إنجاز المصالحة بين الحزب الجنبلاطي والحزب اليزبكي أيام سعيد بك جنبلاط، والمشايخ من الحزب اليزبكي، وهم خطّار بك العماد، والشيخ أبوعبّاس حسين تلحوق والمشايخ من آل نكد وغيرهم، وذلك بعد استفحال الخلاف الحزبي بين الفريقين، والذي طالما كان قد لعب بشير الشهابي الثاني دوراً خبيثاً في تأجيجه.
يضاف إلى ذلك، عدد من مشايخ العقل الحنّاويين المشهود لهم بالتقوى ورجاحة العقل، وفي فترة الأربعينات برز في حقل العمل الوطني من السهوة « كَرَم الحنّاوي » الذي كان أميناً عامّاً لعصبة العمل القومي في محافظة السويداء. لكل ما سلف بيانه فقد أصبحت تلك البلدة تدعى أحياناً بـ «سهوة الحنّاوي»، تمييزاً لها عن قرية أخرى تحمل الإسم نفسه، وتقع إلى الجنوب الشرقي منها على مسافة بضعة عشر كيلومتراً، هي قرية «سهوة الخُضر» نسبة إلى مزار منسوب إلى النبي الخضر، وهو كان في أصله كنيسة غسانية قديمة تعود للعصر البيزنطي، كما وتدعى تلك القرية أحياناً بـ « سهوة الكواونة» نسبة لآل كيوان الذين يشكّلون أغلبية سكّانها. وممّا يجدر ذكره أنّ آل الحنّاوي هم أيضاً من مجموعة العائلات المدعوّة بالكفارقة (نسبة إلى قرية كفرقوق في قضاء راشيا من جنوب لبنان)، هذا من حيث التاريخ القريب، غير أن الشيخ مهنّا الشومري يذكر ما يؤكّد رواية الشيخ فارس قاسم الحناوي حول الأصل البعيد للأسرة، ولئن صحّت هذه الرواية، فلا بدّ أن تكون هجرة القوم قد أعقبت وقف العمل بنشر دعوة التوحيد وما حلّ بالموحّدين من اضطهاد بعد ذلك، كما ويعتبر آل الشومري، وهم الذين سبقوا آل الحناوي إلى إعادة إحياء الموات في عمرانهم للسهوة من جديد، من مجموعة العائلات المعروفية الوافدة إلى الجبل من كفر قوق وما حولها.

مجتمع السهوة
يتألّف مجتمع السهوة الحالي من عائلات عديدة من الموحّدين من بني معروف، والعائلة الأكثر عدداً بينها اليوم هم آل البنّي، وهؤلاء قدموا إلى القرية نحو النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قرية البنّيه القريبة من عاليه، في جبل لبنان من عائلات (حسن، وهبه، جابر، يحيى) وقد اتخذوا جميعاً اسم عائلة البنّي تعبيراً عن وحدتهم والفتهم. تليها عدداً عائلة آل الحنّاوي ومن هؤلاء عدد من شيوخ العقل المعروفين بمواقفهم الشجاعة في الذود عن أهل التوحيد بدءاً من الشيخ أبوعلي قسّام، ومنهم شيخ العقل الحالي الشيخ أبو وائل حمّود الحنّاوي أطال الله بعمره، كما عرفت السهوة في العقود الأخيرة من القرن الماضي شيخاً جليلاً من مشايخ التصوّف هو الشيخ أبو حسين محمد الحنّاوي.
ولآل الحناوي فروع هم آل صلاح وأبو حدّور، وأبو الجود، ومن العائلات الأُخرى في السهوة، آل الشومري، وهم الأقدم وفوداً إليها، وآل كَحْل، وهؤلاء فرع من آل حاطوم المهجّرين من كفرسلوان في لبنان أيام بشير الشهابي الثاني، وآل خويص وعزّام، وعسّاف وهاني وأبو غاوي والجوهري وأمان الدين والدبس والسلمان، ووهبي وأبو حسّون، وغريزي، ويونس ومرداس، والمصري وحيدر ونكد والعرموني ومن البدو عشيرة الشنابلة السنّة، وعائلات: الحمد والشباط والسعيد ومطر.

جانب-من-العمران-القديم-على-البلاطة-الأم...
جانب-من-العمران-القديم-على-البلاطة-الأم…

تاريخ من الكفاح
لمجتمع السهوة تاريخ كفاحي عريق في سبيل الحفاظ على مقومات الحرية وكرامة الإنسان في جبل العرب، بدأ هذا منذ إعادة إعمار بني معروف للجبل، وتمثّل خصوصاً في مناهضة محمد علي باشا والي مصر المنشق عن الدولة العثمانية، الذي طرد العثمانيين بجيوشه من بلاد الشام في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، ومطلع العقد الخامس منه، وقد توسّم به أهل الشام بادئ الأمر خيراً، إلاّ أنّ سياساته، وسياسة ابنه ابراهيم التعسفية غير المتبصّرة والمنحازة إلى جانب بشير الشهابي وأحلافه ضد الموحّدين الدروز في جبل لبنان، أثارت ضدّه سلسلة من المتاعب، ومن ثم نشبت بؤر من ثورات متتابعة في ما بعد بسبب عدم تفهّم تلك الإدارة لمصالح الناس وحاجاتهم الأساسية، ولم يلبث معظم السوريين في فلسطين، وجبل الدروز وجبل لبنان وسواها أن انخرطوا في معمعانها، وكان الموحّدون الدروز على قلة عددهم، هم أبرز من قدّم التضحيات لمناهضة تلك الإدارة الطغيانية للإحتلال المصري.
في خضم معارك بني معروف في تلك المواجهات التي حدثت في القرن التاسع عشر، استشهد العشرات، من أبطال البلدة أسوة بإخوتهم من قرى جبل الدروز آنذاك، ويذكر الشيخ فارس قاسم الحناوي أسماء عشرين شهيداً من آل الحناوي، كما ينقل الشيخ فارس الحناوي أن عدد شهداء البلدة بلغ واحداً وعشرين شهيداً في معارك المواجهات ضد الاحتلال الفرنسي.
أمّا الشاعر الشيخ صالح عمار أبو الحسن فيذكر في ديوانه الشعبي الذي وثّق فيه ما استطاع من أسماء شهداء الثورة السورية الكبرى، ص 17 و18، أسماء تسعة عشر شهيداً من أهل السهوة عامة من آل الحناوي وسواهم، وهم: عمّار وذياب وسعيد وفرزان وحمدان وعلي وحمد وسلامة ومحسن قسّام وهاني عسّاف وقاسم بوحدّور وقاسم صلاح الحناوي ومن أهل البلدة: هلال البنّي ويوسف عبد السلام ومحمد طربيه ومحمد أمان الدين. وفارس بن ابراهيم كحل ــ على حد رواية الشيخ فارس قاسم الحنّاوي، الذي يقول إنّ المجاهد ناصر الدين صلاح الحنّاوي، حامل بيرق سهوة البلاطة ومن تبعه من مقاتلي قريته، يوم معركة المسيفرة سنة 1925، قد تقدّم فرسان قريته خارقين بذلك التحصينات التي أقامها الجيش الفرنسي، ورفع البيرق فوق أعلى السطوح في قلب المسيفرة، هذا ويشيد الشاعر المعاصر لأحداث الثورة السورية الكبرى، صالح عمار بمقاتلي سهوة البلاطة، وكرم أهلها بقوله:
فرســــــــــان في سهوة بلاطة حَيّها أهل الديانة بتنعرف من زيّهــــــــــا
أهل الشهامة والكرم والمرجلـــــــة وقت المجاعة أيتام عاشوا بحيّهـــــا

المضافة-وجانب-من-البيت-لشيخ-العقل..
المضافة-وجانب-من-البيت-لشيخ-العقل..

في مواجهة استبداد الشيشكلي
عمد الضابط الانقلابي أديب الشيشكلي إلى فرض نفسه رئيساً للجمهورية السورية سنة 1951م عبر استفتاء صوري، والاستئثار بالسلطة ومصادرة الحرّيات، فألّف حزباً ليدعم به سلطته، أسمّاه «حركة التحرير» وصنع مجلساً نيابياً بانتخابات مزوّرة، «يحقّق رغائبه» ــ على حد تعبير الشيخ فارس قاسم الحناوي في كتابه «صراع بين الحرية والاستبداد» (ص 106)، واستنهض طغيان الشيشكلي قوى المجتمع السوري للمطالبة بالحريّات والديمقراطية فعُقد مؤتمر حمص سنة 1953 وفيه قُرئت كلمة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، التي دعا فيها إلى « تحقيق آمال البلاد وإعادة الحرّيات والحياة الدستورية الصحيحة»، وقد أثار هذا غضب الشيشكلي الذي كان يقول في مجالسه الخاصة، وإلى المقرّبين منه: «إن أعدائي يشبهون الأفعى رأسها جبل العرب وبطنها في حمص وذنبها حلب، فإذا سحقنا الرأس ماتت الأفعى». ويشير الشيخ الحنّاوي في كتابه السالف الذكر(ص 116و117) إلا أن الشيشكلي كان يستند إلى الدعم الأميركي في سياسته ضد الحركة الوطنية في سوريا، وهكذا فإنه بادر إلى محاولة التخلّص من سلطان باشا والحركة الوطنية السورية عموماً، فعمد إلى إرسال حملة عسكرية من الجيش إلى السويداء، فاحتلت المدينة التي قاومت العدوان وخسرت أربعة وعشرين شهيداً بينهم شيوخ ونساء وأطفال، وقاد ذلك العدوان الجنرال رسمي القدسي الذي حاصرت قوّاته القريا أيضاً بهدف اعتقال سلطان، وكان من بين الرجال الذين هبّوا لفك الحصار عن القريا شبّان من بلدة سهوة البلاطة، وقد استشهد يومها هاني الحناوي في معركة نمرة، وكانت حصيلة حصار القريّا آنذاك أربعة وعشرين شهيداً من بني معروف توافدوا من قرى عدة من الجبل.

سلطان باشا ينتقل إلى سهوة البلاطة
كانت أوامر الشيشكلي تقضي باعتقال سلطان باشا ونقله إلى دمشق، ولما كان لا يثق بنوايا العقيد الوطني فؤاد الأسود، فقد عزله وعيّن بدلاً منه الزعيم رسمي القدسي الذي ارتكبت قواته فظائع في الجبل، ولكن ثلّة من رجال قرية حبران الأبطال وبأسلحتهم القديمة التي كانت مخبأة منذ أيام الثورة على الاحتلال الفرنسي، وبأسلحة الصيد والفؤوس والعصي اقتحموا الطوق المضروب حول بلدة القريّا من جهة الشمال الشرقي، وقد استشهد اثنان منهم في موقعة كسر الحصار تلك هما: قاسم أبو سعد وسلمان الحيناني، لكنّ مقاتلي حبران بإقدامهم البطولي ذاك تمكّنوا من إنقاذ سلطان باشا من الحصار وحموا شرف بني معروف وكرامتهم.
غير أنّ المقدّم فيصل الحسيني من قوّات الشيشكلي انتقم من الجرحى المتواجدين في قرية نمرة على بعد نحو كيلومترين جنوب القريّا، وذلك بعد انسحاب المقاتلين منها، وكانوا في بيت حمد الصّفدي وشقيقه خليل، يذكر ذلك فارس الحناوي في كتابه المشار إليه سابقاً، ص 130 فيقول:« كان عددهم خمسة عشر جريحاً فلما دخل عليهم فيصل الحسيني أطلق عليهم الرصاص فقتل ستة أشخاص، وأجهز النقيب فيصل الشيشكلي على الباقين فقتلهم جميعاً».

مسجد-البلدة
مسجد-البلدة

سلطان يتوجه إلى منفاه في صحراء الأردن
كتب فارس الحناوي في «صراع بين الحرّية والاستبداد» (ص139) «أنّ سلطان باشا انتقل بعد خروجه من طوق الحصار إلى قرية سهوة البلاطة، ترافقه زوجته، وولداه ناصر وطلال، ومن معه من رجال لم يتخلّوا عنه أثناء الحصار، وهم أخوه علي وكذلك هايل ونوّاف الأطرش برفقتهم نخبة من شباب القريّا وأعيانها، منهم: جادالله شلهوب وصالح الصالح وسلامي وحديثي مراد وكذلك المجاهد نوّاف علي الأطرش والمجاهدون نايف وفؤاد وسليم وزيد وحمد جودية من قرية قيصما» وفي السهوة نزلوا ضيوفاً في منزل الوجيه رشراش الحنّاوي، ومنزل سماحة شيخ العقل يحيى الحنّاوي.
وأودع سلطان باشا أسلحة ومقتنيات من بيته في بيت الشيخ أبو حمد شاهين قسّام الحنّاوي، وذلك قبل أن يتوجّه إلى قرية حبران، ومنها عبر بعض قرى الجبل التي لم تتخلَّ عنه، ومن ثمّ إلى الصفاة شرقي الجبل متجنّباً الاشتباك مع الجيش، ليتوجّه بعد ذلك إلى المملكة الأردنية الهاشمية، كان سلطان باشا يعتبر أن الخسائر في المواجهة ستكون على حساب الشعب السوري والوطن، وأن الحرب الأهلية هي كارثة وطنية عامّة.
وقد أشار إلى هذه المسألة الدكتور حسن أمين البعيني، صاحب كتاب «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» (ص583) بالقول: «إزاء إصرار أديب الشيشكلي بعدوانه على جبل العرب، وعلى اعتقال سلطان، وُضع سلطان أمام أمرين: إمّا أن يقاوم مع ما في ذلك من سفك دماء أهل الجبل والجيش السوري، وخراب وتدمير وخسائر وخطر على الوحدة الوطنية، وإمّا التنحّي ( يقصد الابتعاد خارج سوريا) مع ما في ذلك من وضع نفسه والبلاد أمام المصير المجهول، والتسليم المؤقت بانتصار الطاغية على القوى الوطنية. وكلا الأمرين مرّ. وقد فضّل الأمر الثاني. لأنه أحلى ألف مرّة من سفك الدماء العزيزة، وراهن على حصول تطوّرات وانتفاضات في سائر المناطق السورية، أو انقلاب الجيش على الطاغية»، وقد برهنت مجريات الأحداث اللاحقة في ما بعد على بُعد نظر سلطان باشا وحرصه على حماية الوطن من الخراب.

قصة الشقيقين اللبنانيين حسيب وملحم الغريزي
كان من بين شهداء حصار قوّات الشيشكلي للقريّا آنذاك أخَوان لبنانيّان، هما حسيب وملحم غريزي من بلدة «بتاتر» في جرود عاليه من ديار جبل لبنان، يومها دخل هذان الرجلان تاريخ جبل الدروز من بابه الأوسع، كانا حينها دخيلين في حمى سلطان، وقد أبت عليهما شهامة بني معروف أن يقفا متفرجين في يوم يتهدّد فيه العدوّ مضيفهما وحاميهما. حمل كلّ منهما بندقية، ووقفا يقاتلان في وجه القوات المكلّفة باقتحام الدار التي بها يحتميان، دار سلطان.
صمد الأخَوان من آل غريزي في مواجهة المدرّعات والمدافع والرشاشات، والبنادق الأحدث، وقاتلا حتى الاستشهاد، كما قاتل سائر بني معروف يومذاك، بأسلحة قديمة!، وقد أبديا شجاعة خارقة في تعويق اقتحام الجيش لدار سلطان، بطولة مازالت ذكراها ماثلة في مضافات ومرويّات جبل العرب، وبموقفهما المشرّف هذا عند حيطان حِماهما، سهّلا على رجال قرية حبران كسر الحصار من الجانب الشمالي الشرقي لبلدة القريّا، فخرج سلطان باشا سالماً، وهكذا خابت آمال الشيشكلي باعتقاله، ولكن جند الشيشكلي والقدسي دخلوا الدار على دماء الشهداء الذين أمّنوا على سلامة قائد الثورة، فنهبوا ما وجدوه أمامهم من سلاح ووثائق، ولمّا أراد القدسي تفجير الدار منعه الشيشكلي من الإقدام على ذلك، ولعلّه في موقفه ذاك كان يستبصر مغادرته لداره هو أيضاً في القادمات من الأيّام.

العمران والحياة الاقتصادية في السهوة
يشير الأستاذ يوسف البني إلى أنّ عدد المساكن في السهوة سنة 2004 بلغ نحو 656 مسكناً، 97 % منها تتمتّع بخدمة الصرف الصحّي، وقد أنجز هذا بمساهمة مشتركة بين مواطني البلدة والجهات المختصة في الدولة، أمّا المساكن المسكونة في السهوة فيبلغ تعدادها نحو 538 مسكناً، والفارق بين الرقمين يعود لغلبة الهجرة على نشاطات أهل السهوة الذين يعتبرون من السبّاقين إلى الاغتراب، وخاصة إلى فنزويلّا، وغيرها من بلدان أميركا اللاتينية، يبلغ عدد الأفراد المغتربين خارج القطر من القرية بـ 762 مغترباً. ويبلغ عدد مواطني السهوة المسجّلين في دفتر النفوس نحو الخمسة آلاف نسمة، المقيمون منهم في البلدة نحو 3000 نسمة.
وفي ذلك العام ــ عام الإحصاء ــ كان عدد المساكن قيد الإنشاء 42 مسكناً، هذا ويبلغ عدد الأسر النازحة داخل القطر 548 أسرة أغلبها يسكن في مدينة السويداء، مركز المحافظة، والعاصمة دمشق.
وتشكّل الزراعة نشاطاً أساسياً للسكّان في السهوة، إذ يبلغ عدد المزارعين الحائزين على ملكيات زراعية نحو 313 شخصاً.
وفي القرية 47 بئراً ارتوازية سطحية على عمق 160 متراً كحد أقصى، منها سبعة آبار خارج المخطّط التنظيمي، وبطاقات ضخ محدودة تفيد في الاستثمار الزراعي الفردي.

الاشجار المثمرة تحل محل الحبوب
بعد أن كان النشاط الزراعي متركزاً على زراعة الحبوب وتربية الماعز والأغنام والأبقار الجبلية والخيول والدواجن، فقد تراجعت هذه النشاطات في العقود الأخيرة من السنين لصالح زراعة الأشجار المثمرة، كالعنب والزيتون والتفاح واللوزيات وغيرها.
وقد بلغ متوسّط إنتاج العنب في السنوات الأخيرة نحو 2000 طنّ سنويّاً، منها 17 طنّاً على الري، ومن حيث إنتاج الدبس فإن كل 5 كلغ من العنب تعطي كيلوغراماً واحداً من الدبس، هذا ويرفض المشايخ من الموحّدين بيع عنب كرومهم لغابات إنتاج الخمر، وهم يفضّلون تصنيع عنب كرومهم دبساً وزبيباً وخلاًّ.
وفي السنوات الأخيرة بلغ متوسّط إنتاج الزيتون نحو 169 طنّاً، منها مئة وستون طنّاً بعلية، وتسعة أطنان على الري. ومن المعروف بأن كل 4 إلى 5 كيلوغرامات من حبوب الزيتون تعطي كيلوغراماً واحداً من الزيت. أمّا التفاح فقد بلغ إنتاجه نحو 600 طن، ولمّا لم يكن إنتاج اللوز على ما يرام في العام الفائت فإن إنتاجه لم يتعدَّ الخمسة أطنان. وفي السهوة أربعة برّادات لحفظ الفواكه، وذلك حرصاً على عدم التفريط بمواسمها، ولبيعها بأسعار مناسبة.
وهكذا، فإنّه امام منافسة زراعة الأشجار المثمرة، ككروم العنب والتفاح والزيتون واللوزيات، والفستق الحلبي والإجّاص، تراجعت زراعة الحبوب عمّا مضى بشكل ملحوظ، وخاصة القمح والشعير، لذا، فإن نحو ألفي دونم فقط، هي ما تبقّى لهذا النوع من الزراعة الاستراتيجية، التي تساهم في تحقيق الأمن الغذائي.
ومن أجل خدمة الأعمال الزراعية من حراثة ونقل مواسم، يوجد في السهوة خمسة وخمسون جرّاراً تتراوح قوّة محرّك كل منها ما بين 70 إلى 45 حصاناً، بالإضافة إلى درّاسة آلية واحدة.

تربية الماشية والدواجن
تراجعت إلى حد الانقراض تربية الأبقار الجبلية (عجول باشان)، تلك التي أشارت إليها التوراة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وحلّت محلّها تربية الأبقار ذات الأنواع المحسّنة من السلالات الأوروبية كالفريزيان عالية الإدرار، إذ يبلغ متوسط إنتاج البقرة الواحدة سنويّاً نحو3000 كلغ من الحليب، وبالإضافة إلى ذلك فهي أكثر إنتاجاً للّحم من سلالات البقر الجبلي. ويبلغ عدد الأبقار المحسنة في السهوة مئة وسبعة، تنتج سنوياً نحو 306 أطنان من الحليب.
أما تربية الدواجن، ففي القرية 3 مداجن متخصّصة بإنتاج الفرّوج للّحم، تنتج كل منها 3 إلى 4 أفواج في السنة، ويبلغ عدد الطيور المنتجة نحو مئتي ألف فرّوج في السنة.

المستشرق-جون-لويس-بيركهاردت-بزي-الحاج-ابراهيم
المستشرق-جون-لويس-بيركهاردت-بزي-الحاج-ابراهيم

الطبيعة جبلية أخاذة
تتنوّع المناظر الطبيعية في الأراضي المحيطة بقرية السهوة، فهناك نحو 1800 دونم من الأراضي، هي عبارة عن أحراج تغلب عليها أشجار البلّوط والزعرور والسنديان، وهي محمية من قبل الدولة. وهناك نحو 2500 دونم من الأراضي الصخرية والرملية غير صالحة للزراعة، لكنّها لا تفتقر للإخضرار، كما يشغل السدّ الواقع إلى الغرب من البلدة ما مساحته نحو 2000دونم على شكل بحيرة تتقلّص مساحتها في الفصول الجافة، وتبلغ الطاقه التخزينيّة لها نحو مليون متر مكعب سنوياً، يستفاد منها في الري وسقاية مواشي القرية. ونظراً لأهمية الزراعة والأشجار والأحراج في السهوة، ولكونها تقع ضمن منطقة الاستقرار الأولى في محافظة السويداء، إذ يبلغ متوسّط أمطارها السنوية أكثر من 350 ميلّيمتراً، فقد مُنعت فيها تربية الماعز الجبلي والأغنام من قبل الدولة، وذلك حماية للزراعة والاخضرار في هذه القرية الجبلية الجميلة.

دكّان...والرزق-على-الله...
دكّان…والرزق-على-الله…

ثروات المغتربين ظاهرة في كثرة السيارات وفي الجمعية الخيرية والحركة النشطة لبناء الفلل الحديثة

المرافق العامة والخاصة
تتواجد في قرية السهوة مدرسة إعدادية واحدة، بشُعَب مختلطة للذكور والإناث، كما توجد جمعية تعاونية فلاّحية ومركز صحّي للعلاج المجّاني، وقد تمّ تقديم البناء من قبل أهالي البلدة، يعمل فيه بضعة من الموظفين والموظفات لدى مديرية الصحة ويستقبل المرضى فيه طبيب يحضر إلى المركز ثلاثة أيام في الأسبوع، بالإضافة إلى عيادة لعلاج الأسنان. وهناك في السهوة صالة بيع للمستهلك، ومبنى خاص بالهاتف.
وبالنظر للنشاط الاغترابي في السهوة فقد انعكس ذلك بحالة رخاء نسبي في البلدة التي يبلغ عدد السيارات الخاصة فيها نحو خمسمائة سيارة، وهناك خمس حافلات نقل عام للركاب ــ بملكية خاصة ــ تنقل الركاب بالأجرة، بين البلدة والسويداء وسواهما.
وفي البلدة جمعية خيرية يدعمها مغتربو البلدة ومتموّلوها وعامة القادرين من أهلها، وتلعب هذه الجمعية دوراً ذا شأن في تقديم الخدمات التعليمية والصحّية والاجتماعية لمواطني السهوة، وتعمل هذه الجمعية على مساعدة الطلاب المحتاجين لإتمام دراستهم والسعي لرفع المستوى الثقافي لدى أبناء القرية والمساهمة في بناء المرافق الخدمية في السهوة. ويبلغ عدد أعضاء الجمعية أكثر من مئة وخمسين عضواً، أمّا مواردها فهي التبرّعات، ووصايا المحسنين المتوفّين، والهبات، وتبلغ وارداتها بضعة ملايين من الليرات السورية سنوياً.
كما بني مدرّج عام يتسع لآلاف الأشخاص من المشاركين في المناسبات العامة، والمشاركين في التعازي في حالات الوفاة.
ومن المرافق العامة في البلدة مجلس للموحّدين، ومسجد للبدو السنّة في الحي الذي يقطنونه من السهوة. بالإضافة إلى الصالة الاستهلاكية التجارية، هناك عدد من المحلاّت التجارية التي يبلغ مجموعها نحو 70 محلاً، ومحلات أُخرى متعددة تنتشر في أرجاء البلدة تبيع سلعاً متعدّدة.

 

بقعاتا

مدافن -ومتحف-الشهداء في بقعاتا

أبناء الجبل يخلِّدون أبطالهم

المعلم الأهم في المدفن والذي يضم النسر
المعلم الأهم في المدفن والذي يضم النسر

«ساحة الشهداء» اسم مطبوع في أذهان أبناء الشوف يرددونه يومياً ليس بسبب إلمامهم بحقيقة التسمية ولكن غالباً كعنوان يشيرون فيه إلى منازلهم أو تجارتهم أو إلى غير ذلك من الأمور اليومية. قليلون هم ربما الذين فكروا باجتياز العتبة التي تفصل بين الساحة وبين تلك الواحة التراثية العظيمة الشأن التي سميت عند إنشائها بـ «مدافن شهداء 1958» لكنها في الحقيقة أقيمت لتكون معلماً معمارياً وثقافياً يعبّر عن تكريم الموحدين الدروز وأبناء الجبل لشهدائهم وتقديرهم لكل من أولئك الرجال الذين بذلوا النفس رخيصة من أجل أن يبقى الجبل آمناً ومصوناً.
عندما أقيمت مدافن الشهداء سنة 1958 تحوّلت هذه فوراًَ إلى معلم مهم يزوره القاصي والداني، فقد شاع بين معاصري تلك الفترة التصميم الرفيع الذي بنيت على أساسه والجهد الكبير الذي بذله فنانون ونحاتون كبار من أجل تحويل أفكار المعلم كمال جنبلاط إلى إنجاز عمراني وتراثي على الأرض.
كان المعلم كمال جنبلاط متعلقا أشد التعلق برفاقه المجاهدين وكان من أصعب الأمور عليه أن يسمع بنبأ استشهاد أي منهم في ساحة الجهاد. وقد كانت فكرة إنشاء المدافن وتزيينها بالمنحوتات والنصب الرمزية هي الطريقة التي أراد بها أن يظهر حجم التكريم الذي يدخره الموحدون الدروز لأبطالهم، وهو قام شخصيا لذلك بوضع التصور العام للمدافن وساعده فيها بصورة خاصة الفنان المرحوم عارف الريس الذي شارك شخصياً أيضاً مع الفنان الراحل وهيب البتديني في أعمال النحت وتوجيه النحاتين والبنّائين الذين عملوا بلا كلل لأكثر من سنة ونصف السنة من أجل إنهاء العمل.
أقيمت المدافن يومها في موقع وسط على الطريق العام بين السمقانية والجديدة، ولما كانت حركة العمران يومها لم تبدأ بعد في بقعاتا فقد كانت المدافن يومها معلماً بارزاً يلفت نظر المواطنين ويستقطب اهتمامهم، كما أنه ونظراً إلى أن أحداث الثورة كانت قريبة للأذهان فقد كانت المدافن توارى من قبل العديد من أهالي الشهداء ومن أعداد من المواطنين الذين اجتذبتهم شهرة المدافن فأحبوا الاطلاع عن كثب على تصميمها ومعالمها الكثيرة.
بالطبع اختلف الوضع اليوم، فكثر العمران وطغت اهتمامات المال والتجارة وابتعد ذلك الزمن الشريف في الزمن ونال مدافن الشهداء بذلك ما نالها من آفة النسيان بل ومن ضعف الصيانة والإهمال، ومع ذلك فإن آثار السنين ليس فقط لم تنل من هذا المعلم الذي لا يزال واقفاً وصامداً كما لم تضعف من معانيه، بل زادته جاذبية وجلالاً. وعلى سبيل المقال فقد قام أحد المغتربين بزيارة مدافن الشهداء اثنتي عشرة مرة حتى الآن وفي كل مرة، يقول، كان يكتشف معاني وإيحاءات خفية جديدة.
عندما تطأ قدمك تراب المدافن وتدخل ميدانها الفسيح تجد نفسك على الفور في عالم آخر من السكينة والصمت غير المبالي بكل ما يحيط به من ضجيج الأعمال والمصالح وازدحام وضجيج السيارات. وبالفعل يتحول المشهد إلى رمزية غريبة. هنا مثلاً داخل سور المدافن وعشبه واشجاره الباسقة رموز للتضحية بالنفوس والزهد بمتع الحياة من أجل قيم البطولة والكرامة والحق، وهناك خارج السور كل ما يبدو على طرف نقيض من تلك القيم.

منحوتة تخلد دور مجاهدي جبل العرب في ثورة 1958
منحوتة تخلد دور مجاهدي جبل العرب في ثورة 1958
الكتاب ويرمز إلى المعرفة
الكتاب ويرمز إلى المعرفة
مثوى أحد شهداء 1958 والشاهد الحجري
مثوى أحد شهداء 1958 والشاهد الحجري

حقيقة الأمر أن تعبير «مدافن الشهداء» أعطي بهدف تكريم المناضلين الذين سقطوا في ثورة 1958 وهذا التعبير ينطبق على الشواهد التي جرى نظمها وفق خطوط مستقيمة متوازية وكتب عليها إسم كل شهيد وتاريخ ومكان استشهاده. لكن في ما عدا ذلك، فإن المعلم أراد أن يقدّم في الوقت نفسه وعبر تصميم المدافن وتزيينها عرضاً مجسّماً للحقيقة وترجمة بالرمز والعمل الفني لبعض أهم مقولات التوحيد العرفاني وخصوصاً وحدة الحياة والموت. وقد أراد ربما في الوقت الذي كان يتم دفن الشهداء التذكير بأن الموت ليس نهاية بقدر ما هو بداية جديدة وولادة، وبهذه القيم المستبشرة تعامل المعلم وأراد لرفاقه أن يتعاملوا مع الشهادة والموت بإعتبارهما تحققاً وليس فناءً، وهو أضفى بذلك على تلك الفترة العصيبة دلالات يحتاج التعمق في معانيها إلى الكثير من التفكّر وربما يحتاج إلى دليل يشرح للزائر مغزى الرسالة الفلسفية التي تركها كمال جنبلاط وكان يومها في سن الأربعبن للأجيال التي ستليه.
لهذه الأسباب، فإن الزائر لـ «مدافن الشهداء» ينتظره مفاجأة هي أنه ما أن ينقل ناظريه عن صفوف الشواهد الحجرية حتى يجد نفسه في ما يشبه متحف لقيم ومفاهيم ورموز مستقاة بترتيب من أدوار الحكمة القديمة. فهناك النسر المهيب الذي يفرد جناحيه الضخمين، وهناك مثلث هرمس الحكيم والحيّة والصولجان، وهناك المسلّة المرتبطة بالتوحيد المصري القديم كما سترى على اليسار زهرة اللوتس تقابلها بيضة كبيرة نحتت من الحجر ويفصل صفوف المدافن في الوسط بركة مياه ومنحوتات في داخلها وعلى أولها ورموز وأعداد قد تفهم بعضها وتعجز عن فهم بعضها الآخر. ينتقل ناظرك بعد ذلك إلى هرمين مستدقّين ولوحة على مدخله وخلف اللوحة المزيد من الشواهد الحجرية لمزيد من الشهداء. تعود وترى الصورة بالتدريج من المدخل: هرمان على المدخل يشكلان لوحة، ثم بركة مياه تفصل مدافن الشهداء التي تتقدمها لوحة حجرية نقش عليها علم لبنان وصورة لصفوف الثوار على يمين النسر تجد برجاً يوحي بأنه النهاية أو طريق الصعود.
من الأمور اللافتة لا يكون هناك أي نص تمّ فيه شرح المعاني الفلسفية لمعالم مدافن الشهداء ومنحوتاته. إذاً إن المعلم نفسه لم يكتب بنفسه عن الرمزية الفلسفية لمدافن الشهداء كما أن الذين شاركوا في صنع المدافن ونحتها أصبحوا جميعاً تقريباً في دار الحق. وعدا ذلك، فإنه لم نعثر على نص يشرح المعاني الفلسفية لمدافن الشهداء ومعالمها.
لحسن الحظ التقت «الضحى» بفعل الصدفة مع أحد الرجال الذين نحتوا هذه الرموز وهو تبرع مشكورا برواية ما يتذكره من أحداثها وذكرياتها.
إنه الشيخ أبو زياد يوسف محاسن، ابن الخامسة والسبعين عاماً الذي أعادته أسئلتنا عن مدافن الشهداء نحو 54 عاماً إلى الوراء وأثارت فيه الذكرى مشاعر عميقة جعلته يستذكر تلك التجربة الغنية، تجربة العمل مباشرة مع المعلّم كمال جنبلاط.
يقول: «هذه المدافن وما تحتويه قرر كمال بك انشاءها بعد أن بدأت معارك ثورة الـ 58 وصممها بنفسه. كانت هناك معارك تجري بينما العمل على المدافن قائماً، كانوا يجلبون الشهداء ونحن نعمل، يدفنونهم ونحن ننحت لوحة لكل شهيد بإسمه وتاريخ ومكان استشهاده». يضيف الشيخ أبو زياد: «أنا كنت من الثوار وكنت ضمن فصيلة الجديدة، بدأت الثورة في الربيع وكان المعلّم ممنوناً جداً منّا نحن الثوار، اذ أننا كنا نلتزم قيم الشهامة والأمانة والصدق فلم تفقد قشة من أي موقع دخلناه».
شارك الشيخ أبو زياد في الثورة على مدى ثمانية أشهر ومن ثم انضم الى فريق العمل في الساحة: «كل هذه الرموز التي ترونها في الساحة نحتناها بأيدينا بإستخدام الشوكة والمطرقة بشكل يومي على مدى ستة أشهر، كنا أكثر من سبعة أو ثمانية معلمين وعمال وكان كمال بك يشرف على العمل». وعندما تسأله كنتم تتحدثون اليه؟ يرد وهو يهز رأسه بالإيجاب: «معلوووم»، ويسهب في الحديث عن التواضع الذي كان يعاملهم به المعلّم، راوياً أحد المواقف التي حصلت أثناء العمل: «في أحد المرات جاء كمال بك وجلس على حجر الى جانبنا فيما نحن نعمل وكانت شذرات الحجر تتطاير عليه، فنهض الناطور وقتها وجلب له بطانية ليجلس عليها قائلاً له هذه أطرى، ولكن المعلّم أخذ الأمر بالمزاح ولم يقبل أن يجلس على البطانية». وعن الأبعاد التي أرادها كمال بك من هذه الرموز يقول: «وقتها قال لنا إن النسر الطائر من البركة هو رمز للخلود، والحيّة على ظهره رمز للفطنة، أما العصا الموجودة أيضاً على ظهر النسر فهي رمز لصولجان العدل. ويلفت الى أنه تمّ نحت البرج في آخر الساحة بعد سنة من العمل بالمنحوتات الأخرى، مشيراً الى أنه لا يعرف الى ماذا يرمز. وعندما تسأله عن الرموز الباقية يرد بأسف: «قال لنا وقتها ولكن نسينا».

تصاوير ورموز فلسفية وضعها المعلم كمال جنبلاط وأبدعها النحاتون
تصاوير ورموز فلسفية وضعها المعلم كمال جنبلاط وأبدعها النحاتون
مدافع حجرية تحمي سكون المكان
مدافع حجرية تحمي سكون المكان
مجاهدو 1958
مجاهدو 1958

نحات شارك في المعلم المعماري يستذكر المعلـّم والثورة

صورة من الندوة التكريمية

نــدوة تكريميــة في الأونيسكــو تناقــش
كتابــاً للمــؤرخ الراحــل عبــاس أبــو صالــح

أُقيمت في قاعة قصر الأونيسكو في بيروت ندوة تكريمية للمغفور له الدكتور عباس أبو صالح بمناسبة صدور كتابه الجديد «التاريخ المعاصر للموحدين الدروز»، بدعوة من اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، بالتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية والمكتبة الوطنية في بعقلين، حضر الندوة ممثلٌ لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، الشيخ غسان الحلبي، وللنائب وليد جنبلاط ، الدكتور ناصر زيدان، والنائب مروان حمادة، وممثل للنائب أنور الخليل، جوزيف الغريب، ولرئيس الأركان اللواء وليد سلمان، النقيب حسام أبو هدير، والوزير السابق بهيج طبارة، والنائب السابق بيار دكّاش، واللواء الركن شوقي المصري، والقاضي غاندي مكارم، والسيدة حياة أرسلان، وأمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي ظافر ناصر، والعميد أنور يحيى، والعميد صلاح عيد، والأستاذ أنور ضو، والدكتور وليد صافي، ورئيس مؤسسة أديان الأب فادي ضو، ورئيس جمعية فرح العطاء ملحم خلف، ورؤساء لجان في المجلس المذهبي، الشيخ كميل سري الدين والأستاذ رامي الريس والمحامية غادة جنبلاط والمحامي نشأت هلال، وعدد من أعضاء المجلس، والدكتور نمر فريحة والدكتور أنطوان سيف، وحشدٌ من المثقفين وأساتذة الجامعة اللبنانية وبعض الجامعات الخاصة، وأصدقاء المؤلّف الراحل وعائلته، وجمعٌ من طلاب الجامعات والشباب.

افتتح الندوة الشيخ سامي أبي المنى، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، بعرض مضمون الكتاب ومواضيع، وتبعه القاضي غالب غانم، الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى، الذي اعتبر الكتاب «رصداً لمواقف الأباةِ الدروز منذ طوالع القرن العشرين حتى مشارف الستّينات. وتحدث الدكتور أحمد حطيط، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية، مشيراً إلى أن كتاب الدكتور أبو صالح «ينطلق من مسلّمة مفادها أنّ للدروز دوراً رئيسياً في الثورات العربية، بدليل ما بذله زعماؤهم وأعيانهم، من تضحيات ومواقف جريئة وصادقة، من أجل الدفاع عن حقوق الأمة العربية، مركزاً بصورة خاصة على الأدوار المهمة التي لعبها كل من القائد سلطان باشا الأطرش وأمير البيان شكيب أرسلان والمعلّم كمال جنبلاط.

وتحدث الدكتور أنطوان مسرّة، عضو المجلس الدستوري، فشرح ما كتبه في مقدمة الكتاب، مشيداً بالدكتور أبو صالح من خلال تجربته وإياه في لجنة وضع مناهج التاريخ في المركز التربوي، وختم حلقة التقييم القاضي عباس الحلبي، رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي، مؤكداً على أن الموحدين الدروز» لعبوا دوراً حيوياً في قلب هذا المشرق وخاضوا سلسلة طويلة من حروب التحرير الوطنية كما في ثورتهم المظفرة سنة 1925 في سوريا أو عشية النكبة في فلسطين 1948، مما جعلهم ينخرطون بقوة وفاعلية في شؤون العالم العربي ويؤدون دوراً محورياً كأقلية محاربة بعيدة كل البعد عن أي سمة إنعزالية، وفق تعبير كمال جنبلاط».

المناذرة اللخميون

المناذرة اللخميّون

نسبهم وفروعهم ودورهم الجهادي

“تا الله لا يأتي الزمان بمثلهم ولا يحمي الثغور سواهم”
صالح بن يحيى التنوخي

نفوذهم تعدّى إمارة الغرب إلى بيروت وطرابلس وصيدا وصور والشوف وراشيا والبقاع الغربي وامتد حتى اللجون وصفد في فلسطين

المناذرة هم آل أرسلان وآل عبد الله وآل تنوخ وبنو فوارس. قدموا من معرّة النعمان إلى لبنان في أواسط القرن الثامن الميلادي، وتأمّروا لقرون عديدة على مناطق من جبل لبنان. إنهم من قبيلة لخم. ومن جدودهم الأعلين عمرو بن عدي اللخمي، مؤسس مملكة الحيرة التي دامت 364 سنة، وحكمها 23 ملكاً، بينهم 17 ملكاً لخمياً من الأب والأم. ومن الملوك السبعة عشر هؤلاء خمسة إسمهم «المنذر»، هم المنذر بن النعمان، المنذر بن المنذر، المنذر بن أمرؤ القيس الملقّب بإبن ماء السماء، المنذر بن المنذر بن ماء السماء، المنذر بن النعمان الملقّب بالمغرور لهذا دُعيت مملكة الحيرة بإسم مملكة المناذرة، ودُعي ملوكها بإسم الملوك المناذرة، ودُعي أحفادهم الذين جاؤوا إلى لبنان بإسم المناذرة.
وبما أن بين أسر المناذرة، الذين توطّنوا جبل لبنان، أسرة آل تنوخ أو التنوخيين، فقد كان إسمهم ونسبهم من الإشكاليات في تاريخ لبنان بسبب وجود من يشاركون هذه الأسرة إسمها، وهم التنوخيون نسبة إلى قبيلة تنوخ، أو نسبة إلى حلف تنوخ الذي قال بعض المؤرّخين إنه نشأ في البحرين (الأحساء، حالياً في المملكة العربية السعودية)، وإنه ضمّ قبائل عدّة نزحت من اليمن ومن شرق الجزيرة العربية إلى البحرين حيث تتنّخت، أي اتفقت على التنوخ والإقامة مع بعضها فضمّها إسم «تنوخ» بمعنى المقام، وبعد ذلك إنتقل معظمها إلى العراق، ثم إنتقل منها فريق كبير من تنوخيي قضاعة، ولحق بمن سبقهم من تنوخ إلى السكن في معرّة النعمان وجهاتها. وكان سبب النزوح من العراق تضييق الملك أردشير بن بابك على من لم يوافقه في سياسته(1).
جانب العديدُ من المؤرّخين الحقيقة، حين أعادوا التنوخيين المناذرة إلى تنوخيي قضاعة الذين أقاموا في معرّة النعمان ومحيطها. وجانب الحقيقة أيضاً من أعادوا التنوخيين المناذرة إلى حلف تنوخ. واللافت أن إسم تنوخ بات عند العديد من المؤرّخين صفةً للنسب الرفيع تعني «علو شأن ومحتد»، وأن بعضهم اعتبر التنوخيين اللبنانيين أجداد الموحِّدين الدروز.
وفي الحقيقة أن التنوخيين المناذرة لا علاقة لهم بتنوخيي قضاعة الذين منهم فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعرّي، والذين انتقل بعضهم من معرّة النعمان ومحيطها إلى أماكن عدة منها منطقة اللاذقية حيث أسسوا إمارة تنوخية كان من أمرائها ممدوحون للشاعر أبي الطيب المتنبي. فلا علاقة بين التنوخيين المناذرة وتنوخيي قضاعة الا بالإسم فقط، وعلاقة الإسم هذه هي الوحيدة أيضاً بين التنوخيين المناذرة وسائر المناذرة، وبين حلف تنوخ، لأنه لم يثبت أن اجداد المناذرة كانوا من مكوّنات هذا الحلف الآني الذي لم يُعمِّر طويلاً، كما أن مسارهم التاريخي كان مختلفاً عن مسار هؤلاء.(2) وإذا إفترضنا أن هناك مبرّراً للجمع بين تنوخيي لبنان، وبين قبيلة تنوخ وحلف تنوخ وجعلهم من أصل واحد جرّاء الإشتراك بالإسم، فإنه ليس هناك مبرّر على الإطلاق للجمع بين سائر المناذرة وبينهما، وجعلهم من أصل واحد.
إن انتساب التنوخيين وسائر المناذرة إلى الملوك المناذرة يمنحهم شرفاً أرفع من تنسيبهم إلى حلف تنوخ الذي كان منه فقط ثلاثة ملوك حكموا في العراق قبل الملوك المناذرة، وكان مقرّهم بين الحيرة والأنبار، مع الإشارة إلى أن المناذرة اللخميين أسسوا بعد إنتهاء مملكتهم الشهيرة في الحيرة، إمارات في جبل لبنان استمرت قروناً، وكان لها دورها وأهميتها وشهرتها أكثر بكثير من إمارة التنوخيين في اللاذقية، ثم إنه كان من نسل الملك النعمان بن المنذر اللخمي ملوك إشبيلية في الأندلس، وهم أبو القاسم محمد، وإبنه المعتضد، والمعتمد على الله إبن المعتضد(3)، أما القول إن التنوخيين هم أجداد الموحِّدين الدروز ففيه بعض الصحة، لكنّهم فقط فريق من أجداد الموحّدين الدروز في لبنان، إذ إن هناك أسراً كثيرة غيرهم أقامت معهم في جبل لبنان، واعتنق أبناؤها مذهب التوحيد (الدرزي).

قدوم المناذرة إلى لبنان
إن وجود المناذرة في جبل لبنان مرتبط بظهور الإسلام، وبالفتوحات العربية. والسجل الأرسلاني يضيء على مرحلة من تاريخهم كانت غامضة، ويسجّل لهم، في كلامه عن الأرسلانيين، دوراً لم يذكره المؤرّخون، وهو سير الأمير عون، إبن الملك المنذر (المغرور) إبن ملك الحيرة النعمان (أبو قابوس)، مع القائد خالد بن الوليد المخزومي، من العراق إلى الشام، حين طلب الخليفة الراشدي أبو بكر الصديق من خالد أن ينضمَّ إلى الجيوش العربية التي تقاتل الروم البيزنطيين في الشام. وقد حضر الأمير عون فتح بصرى الشام، وشارك في موقعة أجنادين وجُرح فيها وتوفي بعد أيام قليلة بسبب جرحه، فخلفه إبنه مسعود في الإمارة على لخم، وحضر فتح دمشق، وكان أول من دخلها من الثقب الذي أحدثه يونس بن مرقص في سورها، ثم حضر واقعة مرج الديباج، ومعركة اليرموك، وحضر مع أخيه عمرو فتح بيت المقدس، وسار مع القائد أبي عبيدة بن الجرّاح، الذي تسلّم القيادة العامة للجيوش العربية بدلاً من خالد بن الوليد، لفتح قنّسرين وحلب وإنطاكية، فيما سار أخوه عمرو وإبن عمه الأمير همّام مع القائد عمرو بن العاص لفتح قيسارية ومصر.(4)
نزل الأمير مسعود وأقاربه ومن رافقه من لخم، في معرّة النعمان، وأقاموا فيها منذ بدايات الثلث الثاني للقرن السابع الميلادي حتى سنة 758م. ففي هذه السنة انتقلوا من المعرّة إلى جبل لبنان بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الذي طلب منهم الإقامة في الهضاب المطلة على ثغر بيروت، للدفاع عنها ضد غارات الروم البيزنطيين الذين كانوا يغزون السواحل بعد جلائهم عن الشام، وللدفاع عن الطريق الساحلية، وعن الطرق الجبلية بين بيروت ودمشق، التي كانت تتعرّض لهجمات حلفاء الروم من السكان المحليين، وهم المردة بحسب تسميات العديد من المؤرّخين، فيما إسمهم الحقيقي هو الموارنة، لأن المردة كانوا آنذاك قد خرجوا من لبنان، والقلة الباقية منهم إندمجت مع الموارنة.
مواجهات مع الموارنة
ما كان الأرسلانيون وحدهم في المسيرة من العراق إلى معرّة النعمان، وعلى الأخص في الإنتقال من المعرّة إلى جبل لبنان والتوطّن فيه، بل كان معهم سائر أبناء عمومتهم، بدليل أن المواقع التي خاضوها مع الموارنة، في بداية توطّنهم في الجبل، تدلُّ على أنهم كانوا عدداً وافراً بحيث تمكّنوا من هزيمة الموارنة في المواقع الأولى التي خاضوها معهم، ثم في المواقع التي استمرت وأدّت الى إنكفاء الموارنة نحو الشمال، من محيط مصبّ نهر بيروت إلى محيط مصبّ نهر الكلب. فالسجل الأرسلاني لا يذكر من الأمراء الوافدين إلى جبل لبنان سنة 758م إلاّ الأمير المنذر بن مالك وأخاه الأمير أرسلان وأولاد إخوتهما الأمير خالد إبن الأمير حسّان، والأمير عبدالله إبن الأمير النعمان، والأمير فوارس إبن الأمير عبد الملك(5)، وهؤلاء لا يمكنهم وحدهم التغلّب على الموارنة الوافري العدد. ومن هذا، يُستنتج إغفال السجل لذكر أبناء عمومة الأميرين، المنذر وأرسلان، والعديد من أبناء قبيلتهم لخم، فإن كان لا يمكن تسمية أبناء هذه القبيلة، فإنه يمكن الإشارة إليهم، كما يمكن تسمية سائر الأمراء المرافقين.
أسس المناذرة في المنطقة المطلة على بيروت، والمعروفة بجبل بيروت أو الغرب، إمارة إسمها «إمارة الغرب». وهذه المنطقة تشمل حالياً الجزء الغربي من قضاءي عاليه، وبعبدا (المتن الجنوبي)، لأن جزءَهما الشرقي يشكّل منطقتين تُعرفان بإسمي «الجرد» و «المتن». كان نفوذ إمارة الغرب يتعدّى أحياناً حدود «الغرب» ليشمل مدن بيروت وطرابلس وصيدا وصور، ومناطق الشوف وإقليم الخرّوب وراشيا والبقاع الغربي، ويمتد إلى خارج لبنان ليشمل اللجون وصفد، وكان متسلّمها أميراً مقدّماً بين متساوين من أمراء المناذرة، يُعرف بالأمير الكبير، ومقرها هو مقرّ هذا الأمير، مثل سن الفيل والشويفات وعرمون وفلجّين وعبيه.
كان المناذرة على مذهب السنّة عند قدومهم إلى لبنان، وبعد إحتلال الدولة الفاطمية لبلاد الشام، في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، تأثروا بمذهبهم الشيعي الإسماعيلي. . ثم إعتنقوا مذهب التوحيد.

التنوخيون المناذرة الذين رافقوا الفتح الإسلامي لا علاقة لهم إلا بالاسم بتنوخيي قضاعة الذين منهم أبو العلاء المعرّي، والذين أسسوا إمارة في شمال سوريا لكنّ المؤرخين خلطوا بين الجماعتين

آل أرسلان
سمّي آل أرسلان أو بنو رسلان بإسم الأمير أرسلان بن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون إبن الملك المنذر (المغرور) إبن الملك النعمان (أبو قابوس).
والإسم «أرسلان» سلجوقي، شاع منذ القرن العاشر الميلادي، وخصوصاً بعد شهرة الملك السلجوقي ألب أرسلان الذي هزم الروم البيزنطيين هزيمة منكرة في معركة ملازكرت سنة 1071م، وأسر أمبراطورهم أرمانوس. والإسم «رسلان» عربي، ظهر حوالي الفترة نفسها، في المصادر التاريخية، لكنه لم يشع كالإسم «أرسلان». وقد ذُكر من حملوا هذا الإسم من المناذرة بآل ارسلان، في السجل الأرسلاني، وفي العديد من المراجع، كما عُرفوا ايضاً بإسم « بيت رسلان»، وذُكروا به من قبل الناس في أحاديثهم، وظهر على بلاطة مدخل السراي الأرسلانية في عين عنوب، المشادة بتاريخ سنة 1117ه (1705م) والمجال هنا لا يتسع أكثر للحديث عن هذين الإسمين، وخصوصاً الإسم «أرسلان» الذي كان واحدةً من نقاطٍ ركّز عليها بعض الباحثين في نقدهم للسجل الأرسلاني.(6)
أسس آل أرسلان أول إمارة منذرية في جبل لبنان، هي أول إمارة عربية إسلامية فيه، وجاهدوا ضد الروم البيزنطيين وأعوانهم المحليين والفرنجة، وكادوا أن ينقرضوا في صراعهم مع الفرنجة سنة 1110م، لو لم ينجُ منهم أمير صغير إسمه ناهض الدين أبو العشاير بحتر. فقد استطاع هذا الأمير أن يعمّر البيت الأرسلاني من جديد، لكنه لم يستطع إستعادة إمارةَّ الغرب كلها، بل غدا أميراً على جزء منها، لأن أميراً آخر يحمل إسمه هو ناهض الدولة أبو العشاير بحتر بن شرف الدولة التنوخي، نافسه على الإمارة، ثم غدا أميراً على الغرب.
كان من نسل الأمير بحتر الأرسلاني أمير إسمه أبو الجيش زين الدين صالح، وهو الذي عاد وعمّر البيت الأرسلاني للمرة الثانية، بعد أن كاد يندثر في أوائل عهد المماليك الجراكسة، ومنه ينحدر الأرسلانيون الذين لا يزال نسلهم ونفوذهم مستمرين إلى اليوم. وإسم «أبو الجيش» ليس نسبة إلى حصن أبي الجيش الموجود في وادي التيم، والذي أشار إليه أحد المصادر، وإنما هو صفة أعطيت للأمير زين الدين صالح وفق العرف الذي كان متّبعاً في الماضي، وهو إعطاء صفة للرجل النافذ تُضاف إلى إسمه. وبعد أن ضعف نفوذ آل أرسلان في عهد الإمارة البحترية التنوخية استعادوا بعضه في العهد العثماني. وبعد أن عاد وضعف في العهد الشهابي إستعادوه في عهد المتصرّفية من خلال تولي قائمقامية الشوف.

بنو فوارس
ينتسب بنو فوارس إلى الأمير فوارس بن عبد الملك بن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون إبن الملك المنذر (المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس). فهم تبعاً لذلك أبناء عم الأرسلانيين. والأمير الذي ينتسبون إليه هو إبن أخ الأمير أرسلان. إنهم الأكثر عدداً بين أسر المناذرة، والأكثر إنتشاراً، إذ إنهم أقاموا في «الغرب» وشمال الشوف، والجرد، والمتن. وعن هذا جاء في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» المدوّن في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، أن الأمير فوارس أنجب احد عشر ولداً ذكراً، وقوي بالمال والرجال ممّا أوجد الغيرة عند أقاربه، فاقترح أعقلهم أن يتقاسموا البلاد وأن يكبّروا حصة فوارس.(7)
أشهر الأمراء، بعد الأمير فوارس، أحد أحفاده الأمير معضاد الذي كان مقيماً في فلجّين، وهو مشهور جداً في أوساط الموحّدين الدروز، ويتردّد إسمه وأفعاله في أدبياتهم، ويعتبره الموحّدون أول رئيس روحي لهم في جبل لبنان. وقد تقلّد الأمير معضاد إمارة الغرب من سنة 1020 إلى سنة 1040م، بعد أن تنازع عليها مع الأمير عماد الدين موسى الأرسلاني، لكن هذه الإمارة عادت إلى آل ارسلان بعد وفاته.
من فروع بني فوارس، التي حملت أسماء أحفاد الأمير فوارس، معضاد وزعازع وأبو اللمع والخضر والمغربي. وقد جاء في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» أن الأمير معضاد خلف في فلجّين ولدين هما أبو اللمع وزعازع(8)، ولا يزال آل أبو اللمع وآل المغربي موجودين إلى اليوم، كما أن آل ابو اللمع الذين عُرفوا بالمقدّمين لفترة من الزمن باتوا يُعرفون بالأمراء في العهد الشهابي، ولا يزال لهم نفوذ إلى اليوم. وهناك أسرة في قرية بزبدين في قضاء المتن الجنوبي ( قضاء بعبدا) تحمل شهرة معضاد، هي، بحسب اعتقادنا، من أحفاد الأمير معضاد.

المناذرة اللخميون شاركوا في فتح دمشق ومصر ومعركة اليرموك وفتح قنسرين وقيسارية وحلب وأنطاكية قبل الانتقال للدفاع عن الدولة الإسلامية في جرود
وسواحل لبنان

أطلال مدينة الحيرة اليوم
أطلال مدينة الحيرة اليوم

آل عبد الله
ينتسب آل عبد الله إلى الأمير عبد الله بن النعمان بن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون ابن الملك المنذر(المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس) فهم تبعاً لذلك أبناء عم آل أرسلان وبني فوارس. المعلومات عن تاريخهم القديم قليلة، تقتصر على نسبهم الذي ذكره السجل الأرسلاني وتاريخ بيروت لصالح بن يحيى، وعلى أسماء بعض أمرائهم. ومما ذكره السجل الأرسلاني هو تسلّم أحد أمرائهم، مجد الدولة بن عدي، إمارة الغرب، بعد الضربة القاسية التي أنزلها الفرنجة بالأمراء الأرسلانيين سنة 1110م، ولكن لم يخلفه أحد من أسرته فيها، بعد مقتله في أحد المواقع مع الفرنجة سنة 1127م.
من فروع آل عبدالله فرع الطوارقة نسبة إلى الأمير طارق بن عبدالله بن النعمان، ومنهم آل تقي الدين المقيمون حالياً في بعقلين في قضاء الشوف، وآل علم الدين الذين برزوا منذ القرن الثالث عشر الميلادي. ينتسب آل علم الدين إلى الأمير علم الدين سليمان الموصوف بالكبير والمعروف بالرمطوني، لأنه أقام في رمطون الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الصفا تحت بلدة كفرمتى. وقد أخطأ العديد من المؤرّخين حين نسّبوهم إلى أبناء عمهم التنوخيين المناذرة، اعتماداً على بعض ما قاله المؤرّخ صالح بن يحيى عنهم، إذ أعاد نسبهم في مكان إلى آل عبدالله، وأعاده في مكان آخر إلى البحتريين التنوخيين، وأدرجهم مع البحتريين التنوخيين في حديثه عن الطبقة الثانية منهم(9) ، ونسبهم هذا المدرج في النص، في النسخة المحققة من الدكتور فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، مدرج أيضاً في شجرة النسب التنوخي في النسخة المحققة من الأب لويس شيخو(10). لكن المؤرخ ابن سباط، الذي جاء بعد المؤرخ صالح بن يحيى بزمن قصير، قال إن آل علم الدين فخذٌ من آل عبدالله، نُسبوا إلى التنوخيين بسبب المصاهرة(11). وهذه المصاهرة كانت متبادلة، ومع العديد من الأمراء، كما أن السجل الأرسلاني وكتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» يعيدان آل علم الدين إلى آل عبدالله.

الأمير علم الدين الكبير
بعد أن كان آل علم الدين أمراء مغمورين برز دورهم مع الأمير علم الدين سليمان الرمطوني، في عهد الأمير ناصر الدين الحسين التنوخي الموصوف بالكبير. كانوا مقيمين في عبيه، لكنهم انتقلوا منها إلى رمطون بسبب مضايقة الأمير نجم الدين محمد، المعروف بنجم الدين العاق لإبيه، لأنه لم يسر على نهج والده جمال الدين حجى الموصوف بالكبير. فعمرت رمطون بالبيوت الكبيرة التي شيدها علم الدين وأبناؤه، لكنها تحوّلت إلى قرية دارسة بعد أن تركها أحفاده إلى منطقة الجرد واتخذوا بلدة عين دارة قاعدة لهم، وكان ذلك حين غزا تركمان كسروان الغرب سنة 1389م وعاثوا فيه(12).
برز دور آل علم الدين مجدّداً في عهد الإمارة المعنية. فلقد تسلّموا زعامة اليمنيين، وخاضوا، بعد نهاية الأمير فخر الدين المعني الثاني، صراعاً قويّاً مع المعنيين، ثم مع الشهابيين، على إمارة الجبل، لكنهم إنتهوا في موقعة عين دارة سنة 1711 حيث انهزمت اليمنية التي يقودونها ومحمود باشا أبو هرموش، وانتصرت القيسية بقيادة الأمير حيدر الشهابي. وفي حين تَذْكُر المراجع أنهم دُثروا في هذه الموقعة ظهرت مؤخراً أسرة من بقاياهم، هي على المذهب السنّي، وقد برز منها عز الدين علم الدين التنوخي، عضو المجمع العلمي العربي في دمشق، وأحد أساتذة جامعتها في النصف الأول من القرن العشرين.

آل تنوخ
ينتسب آل تنوح أو التنوخيون المناذرة إلى الأمير تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طيء بن تميم إبن الملك النعمان (أبو قابوس)، فهم تبعاً لذلك أبناء عم آل أرسلان وآل عبدالله وبني فوارس، يلتقون معهم عند الجد الأعلى الملك النعمان (أبو قابوس)، الذي كان له ولدان، هما الملك المنذر (المغرور) الذي من نسله آل أرسلان وآل عبد الله وبنو فوارس، وتميم الذي من نسله التنوخيون.
من فروع التنوخيين بحتر، وهو جد الأمراء البحتريين التنوخيين، أنشأ الإمارة البحترية التنوخية في «الغرب» المعروفة أيضاً بالإمارة التنوخية نسبة إلى الجد الأعلى الأمير تنوخ. واذا كانت الإمارة الأرسلانية هي الأقدم بين إمارات المناذرة في لبنان، فإن الإمارة البحترية التنوخية هي الأشهر والأهم. وقد برز من أمرائها رجال سيف وقلم وتقوى، وكان منهم بالإضافة إلى الأمراء الزمنيين الحاكمين، المؤرّخ صالح بن يحيى، صاحب كتاب «تاريخ بيروت» والأمير جمال الدين عبدالله، المعروف بالأمير السيّد، وهو الذي ينسب إليه تجديد مسلك التوحيد وتوثيقه، كما يعتبر المرجع الروحي الأبرز في تاريخ الموحدين بعد وقف الدعوة في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي.

ميناء يروت في القرن التاسع عشر
ميناء يروت في القرن التاسع عشر

آل أرسلان أسسوا أول إمارة عربية إسلامية في جبل لبنان وكادوا أن ينقرضـــــوا بســــبب حروبـــهم مع الفرنجــــة لو لم ينـــــجُ منهم أمير صغــــــير هو ناهــــض الدين بحتـر

تحديات تواجه الإمارة التنوخية
واجهت الإمارة البحترية التنوخية صعوبات عدّة وأخطاراً ولكنها تجاوزتها، وتمكّنت من الإستمرار، وأبرز تلك الأخطار كانت:
1. هجوم فرنجة سنيورية بيروت المفاجئ على الغرب، سنة 1174م، وإنزالهم بأهاليه ضربة موجعة بحيث لم ينجُ منهم إلا من تستّروا بالشعاب والأودية. وكان من الناجين الطفل حجى بن كرامة بن بحتر الذي عاد وعمّر البيت البحتري من جديد.
2. قيام الأيوبيين، في أواخر عهد سيطرتهم على بلاد الشام، بحملة على «الغرب» سنة 1255، لكنّ البحتريين هزموهم في موقعة عيتات.
3. صراع أربع قوى على بلاد الشام وتداول حكمها في سنة 1260، وهي الأيوبيون بقيادة الملك الناصر يوسف، والمماليك البحرية بقيادة السلطان قطز، والمماليك البحرية بقيادة السلطان بيبرس الذي اغتال قطز وتسلّم الحكم بعده، والتتار (المغول) بقيادة هولاكو، الذين وصلوا في زحفهم إلى بلاد الشام واحتلوا دمشق. هذا الصراع، وهذا التداول السريع لحكم بلاد الشام، وضعا الإمارة البحترية بين شقي الرحى مما اضطر الأمير جمال الدين حجى بن محمد بن حجى وابن عمه الأمير زين الدين صالح إلى تناوب الأدوار، فكان الأول مع المغول في دمشق، والثاني مع المماليك في معركة عين جالوت حيث حصلت الهزيمة المنكرة للمغول.
4. لجوء المماليك البحرية إلى مركز الإدارة، وفرض النظام الإقطاعي العسكري، وقيامهم بحملة على «الغرب» سنة 1278، بحيث غدت الإمارة البحترية مزعزعة لولا إسراع أمرائها، وعلى رأسهم الأمير ناصر الدين الحسين، إلى الالتحاق بجند الحلقة.
5. منافسة أمراء كسروان التركمان للأمراء البحتريين وطمعهم في إقطاع «الغرب».
بعد أن استطاعت الإمارة البحترية تجاوز هذه الأخطار والصعوبات ضعفت في أواخر عهد المماليك البرجية، ثم أخذت الإمارة المعنية، التي قامت في الشوف، مكانها في العهد العثماني. وكانت نهاية أمرائها في سنة 1633 حين فتك الأمير علي علم الدين اليمني بهم، وهو على مائدتهم في عبيه، ثم هدم سراي عبيه على أطفالهم. وإذا كانت هناك أسر منهم، فهي التي تخلّت عن اسم «تنوخ» واسم «بختر» وحملت شهرة غيرهما.

دولة المناذرة في فجر الإسلام
دولة المناذرة في فجر الإسلام
سوق الغرب المطلة على بيروت تظهر أهمية الجبل في الدفاع عن الثغور الإسلامية
سوق الغرب المطلة على بيروت تظهر أهمية الجبل في الدفاع عن الثغور الإسلامية

 

 

 

 

 

 

 

لدور الجهادي للمناذرة
كانت المهمة الأساسية من وجود المناذرة في جبل لبنان هي الدفاع عن ثغري بيروت وصيدا، والساحل الممتد بينهما، ضدّ الخطر الذي تمثّل بالروم البيزنطيين وحلفائهم المحليين، ثم بالفرنجة. وقد بدأوا هذه المهمة حين قدموا من معرّة النعمان وجهاتها في سنة 758م بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وتوطنوا جبل لبنان للقيام بدور جهادي. وهذا الدور لم يتغيّر بتغيّر أمرائهم وإماراتهم، وبتغيّر الخلفاء العباسيين وسائر حكام الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم بلاد الشام، بل ظل هو ذاته طوال قرون عديدة، لأن موقعهم الجغرافي ظل نفسه، وهو بيروت وجبلها، ولأن ولاءَهم السياسي أو «عقيدتهم السياسية» إذا صح التعبير، لم يتبدلا، وهو الولاء للدولة الإسلامية الحاكمة، ونصرتها ضد أعدائها، وربط مصيرهم بمصيرها.
تغيّرت مع الزمن وتطوّر الأحداث، وحصول التحوّلات، القوةُ المعادية للمسلمين، فبعد أن كانت متمثلة بالروم البيزنطيين حتى أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت بعد ذلك تتمثل بالفرنجة الذين بدأوا بحملاتهم على الشرق، ووصلوا إلى السواحل الشامية سنة 1098م، وأسّسوا المملكة اللاتينية أو مملكة بيت المقدس، وثلاث إمارات مرتبطة بها، هي إمارة الرها وإمارة إنطاكية وإمارة طرابلس. ومع أنهم طردوا من الشرق نهائياً في سنة 1291، إلا أنهم واصلوا حملاتهم على سواحل الشام، وكانت حملاتهم السبع على الشرق بإسم الجهاد من أجل إنقاذ الأماكن المقدّسة في فلسطين. أما أهدافهم الرئيسية، فهي سياسية وتوسّعية. وكان قتال المسلمين لهم جهاداً مقدّساً لإستعادة القدس والأراضي الاسلامية المحتلة. وكان للمناذرة إسهام بارز في هذا الجهاد.
من قبل، كان المناذرة أثناء سيطرتهم على مناطق واسعة في غرب العراق، وأحياناً في شرق الشام، يشكلون خط دفاع عن الأمبراطورية الفارسية في وجه الأمبراطورية البيزنطية، فيما كان الغساسنة خط دفاع عن الأمبراطورية البيزنطية في وجه الأمبراطورية الفارسية. وتبعاً لذلك كان المناذرة رجالاً للفرس، يحافظون على حدود أمبراطوريتهم ويحافظون بهذا على وجودهم وسط دولتين كانتا الدولتين العظميين في العالم. وبعد توطّنهم في جبل لبنان صاروا مجاهدين في سبيل الإسلام، الذين شاركوا في فتوحاته، وحموا ساحل بلاد الشام وثغورها. وهذا دفع أحد أبنائهم، المؤرّخ صالح بن يحيى، على الإفتخار بهذا الدور في حديثه عن أجداده البحتريين التنوخيين، والقول:
« تا الله لا يأتي الزمان بمثلهم ولا يحمي الثغور سواهم».(13)
كان المناذرة مرابطين لحماية الثغور والساحل، وكانوا في الوقت نفسه خط دفاع أول عن دمشق والداخل، ولا سيما في فترات توسّع الفرنجة، إذ أن البحتريين التنوخيين المتأمّرين على «الغرب» وقفوا في وجه توسّع هؤلاء نحو المرتفعات الشرقية، وحصروا وجودهم على الساحل فيما استطاع الفرنجة مثلاً، التوسّع في جهات الشوف وجنوب لبنان حتى بلغوا الجبال. لكن هذا الجهاد المشرّف كان مكلفاً، ومن الأدلة على ذلك إبادة الفرنجة في سنة 1110م لجميع الأمراء الأرسلانيين بإستثناء واحد منهم هو الأمير ناهض الدين أبو العشاير بحتر بن عضد الدولة علي، وإبادتهم في سنة 1174 لجميع الأمراء البحتريين التنوخيين بإستثناء واحد هو حجى بن كرامة بن بحتر.

سلسلة نسب أسر المناذرة وصولاً إلى الملك المنذر الأول

المجاهد حمد البربور

قصة ثأر وشجاعة وأقدار عجيبة
بين البطل ظاهر عامر وآل الفحيلي

كيف حولت تقاليد البادية وأخلاق الرجال
عداوة الدم بين عائلتين إلى صداقة مديدة

كان ظاهر بن حمّود عامر واحداً من ستة أخوة اشتهروا بفروسيتهم، وهم فارس وأسعد وظاهر وفندي وخزاعي وخمري. تميز ظاهر من بين أخوته بلون بشرته الأشقر الضارب إلى الحُمْرَة، وبكثافة شعر حاجبيه المتدلّيين على عينيه حتى كادا أن يحجبا الرؤية عنهما إن هو لم يرفعهما، أو يثبّتهما بعصابة. وهو سليل أسرة كافحت للحفاظ على انتمائها للتوحيد ضد الظلم والتمييز الطائفي، إذ هاجر أجداده من شمالي سوريا بتأثير تلك المظالم لينزلوا في جهات الغوطة وإقليم البلاّن. يذكر هذا الكاتب يحيى حسين عمّار في كتابه “الأصول والأنساب”، الصادر عن دار الضحى سنة 2002، فيقول إنّ تلك الأسرة سكنت أوّل الأمر في بلدة قَطَنا، ثمّ ارتحلوا منها إلى قرية مجاورة تدعى “حينا”، وهناك استقرّوا في أبنية كانت في القديم ديراً للرهبان هجره أصحابه، لقد كانت هجرة الديار والنزوح منها ظاهرة تكاد تكون عامة في ذلك العهد بسبب عدم الاستقرار وغياب سلطة الدولة خارج المدن الكبرى في بلاد الشام.

ضريبة الشرف
في مطلع القرن التاسع عشر تعرّض بعض الأهالي من الجيران لنساء من آل عامر، سكان دير حينا الموحّدين، كان رجالهم في العمل خارج القرية، ولما رجع هؤلاء مساء وتبينوا ما جرى، هاجموا الجماعة المعتدية وانتقموا منهم بمقتلة كانت حصيلتها نحو ستين قتيلاً، عندئذ فطن العثمانيون لما حدث، فأرسلوا حملة عسكرية على آل عامر وأبناء عمومتهم من آل نوفل هدمت عليهم البيوت التي يقطنونها، وقتلت منهم من قتلت واستاقت من أسَرَتهم من الرجال، وشتت شمل الباقين الذين فرّوا باتجاه جبل حوران ــ كما كان يدعى آنذاك ــ ليستقرّوا في قرية أم الزيتون، ومن ثم مدّوا نفوذهم إلى شهبا.
لقد رتّبت سيطرة آل عامر على شهبا، والعديد من قرى وادي اللوى المنحدر من السفوح الشمالية الغربية لجبل العرب باتّجاه سهلة براق جنوب شرق دمشق، مسؤوليات الدفاع عن الوجود الحضري للإنسان في البلدة والديار المجاورة التي تآكّلها الخراب والبداوة قروناً مديدة، فعملوا على حماية الزراعة في موطن ناشئ كانت تسيطر فيه تقاليد الصحراء والغزو، بحيث كان الوالي العثماني المقيم في مدينة دمشق، يجد نفسه مجبَراً على تجييش عساكر الولاية ومنازلة أولئك البدو في القفار التي هم أكثر خبرة بدروبها ومسالكها المخيفة، أو كان يدفع لهم المال مقابل تسوية موسميّة توفّر إراقة الدماء.
نتج ذلك عن تراجع القوة العثمانية بسبب فساد ولاة وجيش السلطنة، وعجز القيادة عن مواكبة العلوم العسكرية والإدارية الحديثة. نتيجة لذلك توجّب على رعايا السلطنة أن تقوم كل فئة منهم خارج المدن الرئيسية التي تنحصر فيها سيطرة الدولة، بالاعتماد على نفسها في توفير الأمن الذاتي الذي طالما كان يضطرب تبعاً لموازين القوى التي لم تكن لتستقرّ على حال، إذ كان الولاة العثمانيون ينقلون تأييدهم ودعمهم إلى هذه الفئة أو تلك، من فئات السكّان وطوائفهم وفقاً لحسابات سياسية، أو بحسب كميّة الرشاوى أو وفقاً لأهواء مذهبية ضيّقة.
ولم يكن العوامرة وحدهم في معترك أحياء شهبا وقرى القسم الشمالي من الجبل، فقد كان بنو معروف في سائر قرى الجبل التي أحْيَوْا مواتها، وعمّروها بعد خرابها، يتآزرون في هذا المجال دفاعاً عن وجودهم على هذه الأرض الجديدة التي وصلوها مُطارَدين من مواطنهم الأولى.
كان الاستبداد السائد في مواطنهم التي هُجّروا منها، يضاف إليه الحلف الشهابي الفرنسي الطائفي المركّب ضدّهم في جبل لبنان، والاضطهاد الديني في ديار حلب والشام، وشمال فلسطين، وصراعاتهم القبلية الموروثة بين”قيسي” و”يمني”، كل تلك العوامل كانت من أسباب تشتتهم ولجوئهم إلى جبل حوران، الذي حمّلوه اسمهم ( جبل الدروز)، في ما بعد، وكان ذلك كلّه يتمّ على حساب تضحيات جسيمة، وسيل من دماء الضحايا.

كان فرسان آل الفحيلي يصرّون على أن تُقدّم الذبائح طعاماً لهم وهم على ظهور خيولهم، وصحاف الطعام محمولة على رؤوس الرجال أو النســـاء من فلاحي السـهل المقهورين

نزاع مع سادة الريف الدمشقي، آل الفحيلي
كانت لقبيلة الفحيلية، في مطلع القرن التاسع عشر وما سبقه، صولة وجولة في جنوب مدينة دمشق، وخصوصاً في منطقة اللجاة وأطرافها، إذ كانت هذه القبيلة البدوية الباسلة تمد نفوذها أحياناً إلى سهل حوران بكامله، بحيث كان فرسانها يفرضون خُوّة سنوية على كافة قرى السهل الحوراني، أما الجبل الذي كان آنذاك بمعظمه خراباً، ومراعي لمواشي البدو في فصل الربيع وأوائل الصيف، فقد بدأ ينفض عنه مظاهر الخراب والبداوة.
حدث ذلك عندما أخذ الموحّدون الدروز المهجّرون من لبنان وديار حلب وشمال فلسطين ببعث العمران في أرجائه التي ران عليها الخراب ونعيق البوم منذ مئات السنين… وقد بلغ من سطوة فرسان الفحيلية وجبروتهم في ذلك الزمن أنّهم عندما كانوا يجوسون في قرى السهل الحوراني كانوا يفرضون على الأهالي من الحوارنة أن تُقدّم الذبائح طعاماً لهم، فلا يأكلون إلاّ وهم راكبون على ظهور خيولهم، والموائد وصحاف الطعام محمولة على رؤوس الرجال أو النساء من فلاحي السهل المقهورين بالدولة وبسيطرة البدو معاً.
حتى والي دمشق العثماني كان يضطرّ لمصانعة أولئك البدو، فيسلّم في كل سنة خُلعة لشيوخ البدو من الفحيلي والسرديّة، وكان هذا التصرّف من الباشا العثماني بمثابة تفويض من السلطة لهؤلاء البدو يجيز لهم أخذ الإتاوة من قرى حوران والجولان، ومن قرى كثيرة في جبل عجلون، على أن تكون حصة الوالي من تلك الضريبة عشرين كيساً من القروش الذهبية (الكيس يحوي خمسمائة قرش) يدفعها له آل الفحيلي، كما يدفع السردية أيضاً اثني عشر كيساً مثلها.
في تلك الفترة التي تميّزت بضعف هيبة الدولة، وتنازع الفئات الاجتماعية، وسيادة شريعة الغاب، نزل آل عامر في مدينة شهبا، كان ذلك نحو العقد الأول من القرن التاسع عشر، بعد أن انتقلوا إليها من بلدة أم الزيتون، ومن ثم أزاحوا آل القلعاني الذين ضعف دورهم بعد موقعة مذبح الدروز،على تخوم وعرة الصفاة شرقي قرية الحقف التي تبعد نحو عشرين كيلومتراً شمال شرق شهبا، تلك الموقعة التي شكّلت كارثة على آل القلعاني، إذ خسروا ستة أشقاء من خيرة فرسان بني معروف أثناء ملاحقتهم لجماعات البدو الذين لم ينفكوا عن الإغارة على الأراضي الزراعية. وبنتيجة تلك الخسارة الفادحة فقد آل القلعاني موقع الوجاهة في شهبا لصالح آل عامر، فانتقلوا في ما بعد إلى نمرة، ومن ثم إلى شقّا.

سلطان-باشا-الأطرش-ورفاقه--في-منفاهم-في-الكرك---المملكة-الأردنية--سنة-1935
سلطان-باشا-الأطرش-ورفاقه–في-منفاهم-في-الكرك—المملكة-الأردنية–سنة-1935

قال ظاهر لرجاله:” سأهجم على الفحيلي لوحدي، فإن قتلته سينهزم رجاله، ونسلم، وإن هو قتلنــي فليتــدبّر كل واحد منـــكم أمر نفسه”

آل عامر في موقع المواجهة
لم تكن زعامة آل عامر في شهبا بالمهمّة السهلة في ذلك العصر من فوضى البداوة وتواطؤ الولاة الذين كانوا لا يكفون عن تحريض البدو والجوار على الموحّدين، وطبقاً لهذه السياسة وإثر اعتداء قام به رعاة من قبيلة الفحيلي على مزروعات أهالي شهبا ذات ربيع من ذلك الزمن البعيد، فاشتبكوا مع نواطير المزروعات الذين لم يتمكنوا منهم لأنهم أعدّوا عدّتهم للأذى، فاضطرّوا لطلب النجدة من فرسان بلدتهم الذين سارعوا إليهم ولاحقوا المعتدين بهدف إبعادهم عن معمور بني معروف باتجاه مواقعهم التي قدموا منها وراء خربة المسمية الواقعة شمالي اللجاة ــ كانت المسمية آنذاك خراباً لم تعمّر بعد ــ ، وفي ذلك الموقع البعيد من حمى الجبل فوجئ فرسان شهبا ببركات الفحيلي، شيخ قبيلة الرعاة المعتدين، يرافقه نحو ثلاثين فارساً من قبيلته بعد أن كان راجعاً من زيارته للوالي العثماني في الشام.
كان الرعاة بدورهم قد استنجدوا بفرسان قبيلتهم التي كانت مضاربها قريبة منهم، وقد اشتد الاشتباك بين الفريقين، وما أن رأى بركات رجاله يتراجعون في مواجهة فرسان شهبا الذين كان يقودهم ظاهر حتى اعتملت في رأسه حَميّة القبيلة، فانبرى مع من معه واندفعوا إلى جانب مقاتلي الفحيلي، هنا وقع فرسان شهبا القلائل في مأزق، فإمّا الهزيمة والنجاة، وإمّا الإبادة.
كانت تقاليد البداوة تقضي بهزيمة المقاتلين إن قتل قائدهم، قال ظاهر لرجاله:” سأهجم على الفحيلي لوحدي، فإن قتلته سينهزم رجاله، ونسلم، وإن هو قتلني فليتدبّر كل واحد منكم أمر نفسه”.
لم يمهل ظاهر نفسه، ثبّت حاجبيه بعصابة على جبهته، وانتخى كعادة فرسان ذلك الزمن واندفع نحو زعيم القوم يشتبك معه كيفما كان الأمر، بارودة لبارودة، وسيفاً لسيف، وما هي إلّا جولات مريرة حتى وقع الفحيلي قتيلاً، وانهزم من كانوا معه يلوذون بوعور اللجاة.

ثأر لم تَطْوِه الأيّام
كان يوم المسمية نصراً للزراعة والتحضّر لا في شهبا وحدها، بل في سائر قرى المقرن الشمالي من الجبل، فقد أدرك البدو أن للزراعة ربّاً يحميها، ولكن قبيلة الفحيلي قبيلة عربية لا تنام على ضيم لحقها بمقتل شيخها.
يوم قتل بركات كانت إحدى نسائه حاملاً تنتظر وليداً قارب قدومه إلى هذا العالم الدامي، وعندما ولدته كان مولوداً ذكراً أسمته( ظاهر)، على اسم قاتل والده، كان هذا تدبيراً ذكيّاً من الأم الوالدة لكيلا يُنسى الثأر من القاتل، ظاهر عامر.
مرّت أعوام تتلوها أعوام، بضعة عشر عاماً، وإذا بظاهر الفحيلي شابّاً يافعاً، وقد ورث حمى أجداده المتمثل بسيطرة قبيلته على الريف الجنوبي لدمشق، وامتداداً إلى قرى حوران.
أمّا الطريق ما بين الجبل ودمشق، فقد كانت طريقاً مخيفة في تلك الأيام، كشأنها في أيّام الاضطرابات دائماً، وإلى يومنا هذا.
ويشاء مدبّر القدر أن يكون ظاهر عامر عائداً من دمشق إلى شهبا بصحبة فارسين اثنين من بني عمّه، وعلى ذلك الطريق في سهلة براق وفي ليلة شتائية باردة داهمتهم عاصفة وضباب أضاعوا معهما الطريق فتاهوا، وعندما انفرج الجو قليلاً أدركوا أنهم في موضع بعيد عن ديارهم، ولم يلبثوا أن استأنسوا بنار تلوح عن بعد، فتوجّهوا نحوها علّهم يجدون قربها مأوى دافئاً من برد وبلل ألمّا بهم.

عجائب الأقدار
ما أن وصلوا، ترجّلوا عن خيولهم ونزلوا ضيوفاً في البيت الذي استدعتهم إليه ناره، كان بيت الشيخ الذي رحّب بهم، وكان في المضيف شبّان ساهرون من الأسرة بينهم ظاهر الذي تنبّه إلى أنّ أوصاف أحد الضيوف تطابق أوصاف قاتل أبيه، فعجّل في تلك الليلة يستدعي عمّه الكهل للتثبّت من صحّة معرفته بقاتل والده الذي يعرفه بحكم علاقات الجوار القديمة.
وصل العمّ سريعاً، وعندما سلّم على الضيوف أدرك أن طريدته وصلت إلى بيته!؟، التفت نحو الشبّان، أولاد أخيه المقتول، وقال لهم ( كبّروا النار يا عيال)، وما أن شبّت النار حتى ظهرت ملامح ظاهر عامر التي يعرفها جيّداً، شعر الحاجبين الكثّ فوق العينين، والبشرة الشقراء المائلة للحمرة، ومهابة الرجل.
بادره العم:” هو انت ظاهر وَلاّ انت شبيه لَهْ ؟!”.
أجابه ظاهر بلا تردّد:” أنا ظاهر بذاته”.
ــ هو انت واهم أو انت وارد؟ ( الواهم هو الواصل إلى مكان عن طريق الغلط، أي لم يقصده، والوارد هو القادم عن سبق تصميم وإصرار).
قال ظاهر عن بداهة منه واستدراك:”بل أنا وارد”.
هنا، قال العم لأولاد أخيه:” قدّموا للضيوف تمراً، ولا تقبلوا إلاّ أن يأكلوا، وبعدها أطفئوا النار، وفي الغد نرى ما سنفعل”.( لأنّه من تقاليد العرب أن من يطعم الضيف الخبز والملح لا يحق له أن ينال الثأر الذي له عنده).
في تلك اللحظات الحرجة أدرك ظاهر أن القدر ساقه إلى بيت غريمه، فقال لصاحبيه: “ليس بيدنا أن نفعل شيئاً، ولابدّ أنهم قد ربّطوا أفراسنا، وشددوا الحراسة علينا لكيلا نفلت منهم، ناموا وتوكّلوا على الله، والصباح رباح”.

قال شيخ الفحيلي: “إن حلف ظاهر عامر وأنكر أنه قتل بركات أخي سنقتله لأنه كذاب، وإن هو اعترف فلتزغرد نساء القبيلة لأننا نكون قد أخذنا ثأرنا بالعفو عند المقـــدرة”

يوم الفصل
صبيحة اليوم التالي جمع العمّ رجال القبيلة، وقال لهم:”هذا اليوم لنا. إذا حلف ظاهر عامر وأنكر أنه قتل بركات أخي سنقتله لأنه كذاب، أنا رأيته بعينيّ هاتين يوم قتل بركات، وإن هو اعترف ــ والتفت نحو جمع من نساء القبيلة ــ وقال لهنّ: لازم تزغردن يا بنات، بهذا نكون قد أخذنا ثأرنا بالعفو عند المقدرة”.
ما هي إلاّ لحظات كانت كدهر مديد على ظاهر عامر ورفيقيه الحبيسين في المضيف، وقد أسلموا أمرهم لله تعالى، حتى قدم رجال من القبيلة وطلبوا إليهم المثول أمام الحشد في ساحة من عراء اللجاة، وفي صباح تقنّعت شمسه ببراقع من غيوم دكناء ورياح غربية باردة يدفعها البحر المتوسّط شتاءً عبر فتحة الجولان إلى وعور اللجاة، تقدّم العمّ من ظاهر وهو يحمل بيده عوداً من شجر اللوز البرّي الذي كان يكثر انتشاره في تلك الدّيار، وخطّ به على الأرض دائرة، وقال له:”توسّط الخِطّة يا ظاهر، وهاك عود اللوز واحلف بما تعرف عن يوم ذبحة بركات”.
تناول ظاهر العود من غريمه، ثم توسّط الخطّة وصاح بأعلى صوته:”وحياة من خلق عود اللوز، وخلق الدنيا بالجوز( أي خلقها أزواجاً)، وحياة من خلق هذا العود، وما لنا غير الله من رب معبود، بارودتي أصابت بركات الفحيلي، والله هو المحيي وهو المميت”.

خاتمتها صلح وصداقة
لم يكد ظاهر يكمل قسمه، حتّى علت زغاريد نساء القبيلة اعتزازاً بأن قاتل شيخهم بطل شجاع من أشراف الناس، وليس إنساناً نكرة، وهذه الدنيا شأنها هكذا، يوم لك ويوم عليك…
بعد ذلك صنعوا وليمة لظاهر ورفيقيه، وعقدوا راية بيضاء دلالة على المصالحة والتسامح وتجاوز العداوة القديمة، وأن لا ثأر لآل الفحيلي عند آل عامر بعد اليوم، ولم يلبث أن انطلق ظاهر وصاحباه من مضارب الفحيلي إلى شهبا، وقد حمّله آل الفحيلي بنبلهم وتسامحهم دَيْناً عظيماً، فجمع أقاربه وأعيان شهبا، وأنبأهم بالذي حدث له ولصاحبيه مع آل الفحيلي، قدّر آل عامر وأهالي شهبا ما فعله آل الفحيلي تقديراً عالياً، وقرّروا أن يقوموا بزيارة رد جميل لهم، وهكذا كان، إذ جمع ظاهر عامر وفداً من آل عامر وسائر أعيان شهبا، ومن ثمّ انطلقوا يحملون هدايا ثمينة تليق بتسامح القوم الكرام، آل الفحيلي، وإلى يومنا هذا لم تزل المودّة قائمة بين آل الفحيلي من جهة، وآل عامر وسائر بني معروف تقديراً لتلك التقاليد النبيلة.

كان حمد قادراً على كسب الناس للثورة بسبب ثقة الناس به لصدقه وإخلاصه وكرمه وشجاعته وتفانيـــــه وعدم اكتراثه بالتضحيات واستخفافه بالموت

aصورة-نادرة-للشيخ-عودة-أبو-تايه-وبعض-وجهاء-الحويطات
aصورة-نادرة-للشيخ-عودة-أبو-تايه-وبعض-وجهاء-الحويطات
شبلي-الأطرش
شبلي-الأطرش
الجنرال موريس سراي
الجنرال موريس سراي

استشهاد حمد البربور في موقعة تل الخروف آلم سلطان وأثّر على مسار الثورة في المراحل والمعارك التالية

الفيتامين

أبحاث علمية تؤكد:

خطر حبوب الكالسيوم على الصحة
أكبـــر بكثيــر من منفعتـها للعظام

الكالسيوم الصناعي قشور بيض وصخور وعظام ذبائح
ولا يمكن للجسم امتصاصه دون وجود أنزيمات مساعدة

لقوة العظام خذوا الكالسيوم من مصادره الطبيعية
وتناولوا الفيتامين K2 وثمار الرمان

منذ نحو عقد أو اكثر برز في عالم الصحة اصطلاح جديد لم يكن أحد قد سمع به من قبل هو “ترقق العظام”، ومنذ ذلك الوقت بات الحديث عن “ترقق العظام” يتكرر في الصالونات، وفي وسائل الإعلام، وفي لغة الأطباء الذين بدأوا يصفون لهذه الحالة الجديدة حبوب الكالسيوم بجرعات متفاوتة على سبيل الوقاية. وقد بات الانطباع شائعاً بأن “ترقق العظام” حالة مرضية لا بد من معالجتها خوف أن يؤدي سقوط الأشخاص المتقدمين في السن إلى إحداث كسور في جسمهم قد تؤدي إلى مضاعفات أخرى.
لكن خلال الفترة التي بدأ الحديث فيها عن ترقق العظام والوقاية منه بحبوب الكالسيوم، نظمت أبحاث علمية كثيرة توصلت إلى نتائج أساسية تثبت أن تناول الكالسيوم يتسبب بمخاطر صحية كبيرة على صحة القلب والكلى والأوعية الدموية بل الدماغ، ويزيد خطر الذبحات القلبية والإصابة بسرطان الثدي لدى النساء. وبناء على تلك الدراسات، يتعاظم كل يوم حجم الرأي العلمي بل الطبي الذي يدعو إلى وقف استخدام حبوب الكالسيوم والاستعاضة عنها بمصادر الغذاء التي تحتوي على نسبة عالية من الكالسيوم الطبيعي القابل للامتصاص.

الحصول على جواب علينا تحرّي الدور الذي تلعبه الشركات المهيمنة على صناعة الأدوية في العالم في إعادة تعريف الكثير من الحالات بهدف جعلها حالات تستدعي معالجة بالأدوية، وهذه الاستراتيجية التي طبقت بنجاح في العديد من الحالات لاقت دوماً دعماً من منظمة الصحة العالمية، وأدت إلى اتساع هائل في سوق الدواء وتنامٍ غير مسبوق في أرباح شركات الأدوية العالمية.
في حالة ما يسمى “ترقق العظم” حققت صناعة الأدوية وبالتحديد مصنّعو الكالسيوم اختراقاً مهماً عندما تمكنوا في سنة 1994 من إقناع منظمة الصحة العالمية بتبني تعريف جديد للمعدل الطبيعي لكثافة العظام بني على كثافة العظم لدى إمرأة بعمر 25 عاماً (وهو عمر الذروة في كثافة النسيج العظمي لدى المرأة). وجرى تصنيف “المرض”إلى مرحلتين أولى تدعى Osteopenia، وأخرى “أكثر حدة” دعيت باسم osteoporosis.
وبالطبع، نجم عن ذلك أن فئات كبيرة من النساء اللواتي كنّ يعتبرن صحيحات الجسم تم
تصنيفهن كـ “مريضات” يحتجن إلى معالجة وقائية، وقد بني على هذا التحول قيام صناعات عالمية واسعة لمعالجة الحالة الجديدة، وهي صناعات يقدر دخلها السنوي بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً.

تضليل علمي
هل تحتاج نساء اليوم اللواتي يدخلن في سن متقدمة (60 عاماً وما فوق ) إلى تناول حبوب الكالسيوم للوقاية من “ترقق العظام”؟
لا توجد إجابة علمية واحدة بالطبع، إذ أن العديد من الأطباء يفضلون اتباع توجيهات منظمة الصحة العالمية. لكنّ هناك تياراً متزايداً بين الأوساط العلمية والصحية يعتبر أن تناول النساء للكالسيوم الصناعي غير ضروري إطلاقاً، بل هو يتسبب في أمراض ومخاطر جسيمة على الصحة. وهذه الفئة من العلماء يعتبرون أن تراجع كثافة العظم لدى النساء أو الرجال ظاهرة طبيعية كغيرها من ظواهر التقدم في السن، ولم يكن من الجائز علمياً اعتبارها “مرضاً”. كما يشددون على أن خطر الموت بسبب حادث انزلاق يسبب كسوراً يعتبر ضئيلاً جداً إذا قيس بالمخاطر التي يسببها الكالسيوم الصناعي على صحة الجسد وخصوصاً خطر التعرض لنوبات قلبية، أو مرض سرطان الثدي بالنسبة للنساء. وهناك أدلة علمية قوية تثبت أن خطر الإصابة بسرطان الثدي يقفز 300% في النساء اللواتي يتناولن حبوب الكالسيوم لسنوات طويلة.

مخاطر الكالسيوم الصناعي

 

الكالسيوم الوحيد المفيد للجسم هو الذي يحصله الجسم من عدد من الأغذية التي تحتوي على نسب عالية منه، أما حبوب الكالسيوم فإنها مصنوعة في الغالب من الصخور أو قشور البيض أو طحين عظام الذبائح أو قشور القواقع البحرية، وهناك سبب رئيسي لعدم فعالية تلك الحبوب بل خطرها، وهو أن الكالسيوم الصناعي يدخل الجسم من دون أن يكون متّحداً مع الأنزيمات والعناصر العضوية الأخرى التي تسهل “توجيهه” بصورة طبيعية عبر الدم إلى المستقر النهائي له في الجسم، وهو العظام. وبالنظر الى انعدام وسيلة توصيل “ذكية” للكالسيوم الصناعي فإن هذه المادة الكثيفة قد تتجه إلى الأماكن الخطأ في الجسم أو قد تتجه إلى المكان المقصود وهو العظام. لكن مخاطر أن يضيّع الكالسيوم طريقه تصبح أكبر كلما زادت الجرعات منه أو طالت مدة استخدامه.
ومن أبرز المضاعفات التي قد تنجم عن تناول حبوب الكالسيوم الصناعي:
أن فضلات الكالسيوم التي لا ينجح الجسم في توجيهها إلى العظام قد تتراكم في الأمعاء الغليظة مسببة الإمساك.
فضلات الكالسيوم قد تتجمع في الأوردة مسببة ارتفاعاً في ضغط الدم أو الجلطات أو حتى اضطراب خفقان القلب أو انقباض عضلة القلب.
قد يتراكم الكالسيوم في الكلى مسبباً أمراض الحصى أو الرمل الكلوي.
من أكثر الأمور غرابة هو اكتشاف ترسبات كالسيوم بحجم الحصى منتشرة في أنحاء الدماغ البشري، وذلك لدى تشريح بعض المتوفين الذين كانوا يتناولون حبوب الكالسيوم بانتظام ولسنوات طويلة.

حبوب الكالسيوم وسرطان الثدي
يعتبر تزايد احتمال الإصابة بسرطان الثدي جراء تناول حبوب الكالسيوم من أبرز المخاطر التي بدأت تجتذب انتباه الأوساط العلمية وتعزز الدعوة إلى وقف استعمال الكالسيوم من قبل النساء. وقد أظهرت الأبحاث وجود جزيئات الكالسيوم في خلايا سرطان الثدي، وقد كان يظن أن هذه الجزيئات هي نتيجة للإصابة بالمرض، إلا أن الرأي الغالب هو أن تراكم جزيئات الكالسيوم في الثدي يعمل كمحرض لتكاثر الخلايا ويطلق أعراض السرطان. وقد أظهرت الأبحاث أن النساء اللواتي يتمتعن بأعلى درجة كثافة في العظام معرضات للإصابة بمرض سرطان الثدي بنسبة 300% أكثر من اللواتي لا يتعاطين حبوب الكالسيوم.

خلاصة
يمكن تلخيص الجدل العلمي حول “ترقق العظام” بالنقاط الأساسية التالية:
1. إن تراجع كثافة العظام ظاهرة طبيعية (وليست مرضية) سببها التقدم في السن، وقد عاش الناس لقرون طويلة وهم يعلمون أن التقدم في السن ينعكس على مختلف قدرات الإنسان من النظر إلى السمع إلى الذاكرة إلى القوة البدنية، ومن بين تلك النتائج تراجع كثافة العظام. لكنّ السابقين عاشوا حياتهم وأنهوها بصورة طبيعية، ولم يكن موضوع ضعف العظام لديهم وسواساً، بل أحد مظاهر الكهولة، ولهذا السبب لم يوجد لحالة “ترقق العظم” أي ذكر في تاريخ العلوم قبل اعتماد التسمية من قبل منظمة الصحة العالمية!
2. إن كثافة العظم قد تكون معياراً لقوة احتمال الصدمات لكنها قد لا تؤشر إلى “ليونة” تساعد العظم على مقاومة حالات أخرى مثل الشد أو المط، بل أن الدراسات أظهرت أن العظم الكثيف قد يكون أحياناً أضعف، كما يظهر في المقارنة بين الخشب (وهو أقرب في تكوينه إلى عظم الإنسان)، وهو أقل “كثافة” من البلّور مثلاً، لكنه أقوى احتمالاً بكثير منه، إذ أن الأخير رغم كثافته يعتبر سريع العطب في حال السقوط.
3. إن كثافة العظام مقياس مختلف عن مقياس نوعية المادة العظمية، فالأولى قد تحصل عليها من تناول مكملات غذائية صناعية مثل حبوب الكالسيوم، لكن نوعية وحيوية العظام لا يمكن الحصول عليهما إلا من مصادر التغذية الصحية، ومن أهم مصادر تحسين قوة ومرونة العظام مثلاً الفيتامين K2 والرمان.
4. إن تعريف منظمة الصحة العالمية لخطر السقوط أو كسر العظام يركز على كثافة العظام لكنه يتجاهل أن العديد من أسباب الوقاية من حوادث كسر العظام لا يتعلق بتناول حبوب الكالسيوم بل بعوامل أخرى مثل مشكلات التوازن وأسلوب المشي أو ضعف النظر. بمعنى آخر، فإنه طالما كانت لديك القوة للتحرك والنظر الصحي لرؤية طريقك فإن من أبعد الاحتمالات أن تتعرض للسقوط.
5. إن كثيراً من الشباب أو النساء الشابات يتعرضن أحياناً لكسور متفاوتة الخطورة من جراء السقوط، والأمر كله يتوقف على طبيعة الحادث وظروفه، وهذا يعني أن حوادث السقوط والإصابة بكسور في العظام حوادث لا علاقة لها دائماً بـ “ترقق العظم”، وهي تشمل الجميع ولا مبرر بالتالي لتخويف كبار السن واعتبارهم “مرضى”

تعاطي حبوب الكالسيوم قد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم والجلطات والإمساك وحصى الكلى وأمراض القلب وزيادة مخاطر سرطان الثدي لدى النســـاء

منظمة الصحة العالمية
ومصالح صناعة الدواء

يعتبر النقد الشديد الذي توجهه أوساط طبية وعلمية لمنظمة الصحة العالمية بشأن حبوب الكالسيوم حالة من حالات عدة وقعت فيها المنظمة في أخطاء أو تبنت مواقف بدت فيها أقرب إلى مصالح صناعة الادوية العالمية منها إلى الإنسان العادي الذي يفترض أن المنظمة تعمل لأجله.
من ذلك مثلاً مسارعة منظمة الصحة العالمية أكثر من مرة لتحويل بعض حالات المرض والأنفلونزا إلى “حالات وبائية” خطرة والترويج بسبب ذلك لفرض التلقيح ضد تلك “الأوبئة” في أنحاء العالم ليتبين بعدها أن تلك الحالات كانت معزولة، ولم تكن تبرر إثارة الذعر في العالم. لكن موجات الهلع التي أثارتها بيانات المنظمة مكنت شركات الأدوية وما زالت من أن تحصد مليارات الدولارات من تصنيع لقاحات مشكوك جداً في فعاليتها تجاه الأمراض التي طورت للحماية منها.
من ذلك أيضاً موقف المنظمة الجازم بفرض لقاحات على الأطفال تزايدت الشكوك حول فعاليتها ومخاطرها الجانبية على صحتهم.
وقبل عقد من الزمن، روجت المنظمة لأسلوب المعالجة بالهرمونات لمساعدة النساء على تخطي سن اليأس والاحتفاظ بحيويتهن الجنسية إلا أنها توقفت عن ذلك بعدما ظهرت آثار المعالجة بالهرمونات في تزايد حالات السرطان والجلطات والأزمات القلبية.
إن أهمية منظمة الصحة العالمية هنا هي طابعها الكوني وقدرتها على إصدار تعميمات وإرشادات يتم رفعها إلى الحكومات التي تقوم عندها بتبنيها كسياسات وفرضها على أنظمة الرعاية الصحية في بلدها، كما أن الأدبيات التي تنشرها المنظمة يتم تداولها في الإعلام فتروج باعتبارها أموراً “علمية” لا غبار عليها. لذلك، فإنه عندما تتبنى المنظمة الجهة الخطأ مثل دعمها لمصالح صانعي الأدوية بدلاً من الإنسان العادي، فإن العالم يكون في مشكل حقيقي.

الأهرامات سر مغلق

بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته الأولى زيارة الأهرامات قبل سواها، ليقف أمامها مستعظماً ومندهشاً وحتى مستغرباً قائلاً في ذاته: هل هي حقاً من بناء البشر العاديين أم من بناء الجن أو مخلوقات خارقة من خارج الأرض!!
يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير “شامبليون”، الذي رافق نابليون في رحلته إلى مصر واكتشف “حجر رشيد”، الذي مهد لفك رموز الكتابة الهيروغلوفية: “إن الأهرامات لم تكن من صنع كائنات بشرية مثلنا، بل من صنع طوائف حاملي الأسرار التي ما خلا منهم زمان ولا مكان، لقد تمكنت هذه الطوائف المتفوقة أن تمتلك تكنولوجيات متقدمة اختفت مع الطوفان أو صينت وحفظت في أحرام خفية في مكان ما من العالم، وهذه الحضارة الخفية ما زالت ترشد المؤمنين وتقوي عزيمتهم وتشرق من عليائها بأنوار اليقين”.
ظهرت عظمة الأهرامات عبر التاريخ في ما تجسده من أحجامها الهائلة، ودقة هندستها، وعجائب ما في جوفها وغموض رموزها، وصمودها وثباتها أمام عواتي الدهر كالزلازل والفيضانات والرياح وأطماع البشر بما في ذلك تخريب الفاتحين وعبث العابثين واللصوص المحترفين ليصح فيها قول الشاعر القديم:
بناءٌ يخاف الدهرُ منه وكل مـا علـى ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

قصة باني الأهرام
أجمع العديد من العلماء والمؤخرين الأقدمين أن هرمس الهرامسة هو باني أهرامات الجيزة، من ضواحي مصر، أي القاهرة حالياً، وقد عرف هرمس في اللغة اليونانية بـ”أرميس”، ومعنى أرميس عطارد. وآخرون قالوا إنه اسم سرياني واشتقاقه عن الهرمسة أي علم النجوم. وعُرف عند العرب بالنبي ادريس وأسموه بذلك لكثرة دراسته. وعند العبرانيين عرف بـ “أخنوخ أو أخناتون” التوحيدي، وقد وُلد بمدينة مناف في مصر القديمة، وعندما بلغ الأربعين من عمره أُنزل عليه ثلاثون صحيفة وورث صحف شئت وتابوت آدم. والصابئة الحاليون، وهم فرقة قديمة في التاريخ، لم تزل تقطن منطقة الأهواز في جنوب العراق يزعمون أنهم من أتباعه ومتمسكون بكتب النبي هرمس ويقدسونه ويعبدونه. كذلك تماثلهم فرق باطنية أخرى تقول عن بناء الأهرامات أنها بُنيت لأجل الحفاظ في داخلها على أسرار الكون ومواثيق البشر، وأن لكل فرد سجلاً في داخلها.
ومما يلفت النظر أن جماعة “الروز كروشن” أو الهالة الوردية، والتي يبلغ عدد أفرادها في العالم نحو 14 مليوناً، منتشرين في أوروبا وأميركا وآسيا، تؤمن بأن الأهرامات هي كعبة المؤمنين والموحدين عبر الأجيال.
كذلك ما أوردته حديثاً إحدى الدراسات الأميركية الصادرة عن جمعية “فيدرالية الأخوة العالمية ” IFB، إذ تقول عن الحضارة المصرية إنها حضارة روحانية تؤمن باليوم الآخر وجوهرها تقديس الحياة الآخرة للإنسان، لهذا كان أعظم رموزها هي الأهرامات وما تحويه من أسرار الكون وقبور الملوك، وكتابها المقدس هو “كتاب الموتى” وفحواه كيفية اجتياز يوم الحساب وبلوغ الآخرة.
وما يماثل هذا القول ما أورده العالم الإنكليزي الشهير “بول برنتون” PAUL BRUNTON، الذي أمضى بمفرده ليلة كاملة داخل حجرة الملك في الهرم الأكبر إذ أتاه الوحي قائلاً: “اعلموا يا أولادي أنه في هذا الأثر القديم تكمن الحقائق والمعارف المفقودة للأجيال السابقة من البشر، إذ تكمن أسرار المواثيق التي عقدها الانسان القديم مع الخالق من خلال الأنبياء والسابقين، واعلموا أيضاً أنه لم يطّـلع على هذه المواثيق سوى المختارين من أبناء البشر”.
والحقيقة أن الأهرامات هي من غرائب العبر إذ أن لها آلافاً من السنين والحقب لم يعرف ما في داخلها أي مخلوق من البشر، كذلك عجز الملوك والجبابرة عن هدمها واستخراج ما في باطنها، ورجعوا عنها بعد بذل الأموال الطائلة خائبين، ومنهم الخليفة المأمون العباسي، والذي حشد لها أعداداً كبيرة من الفعلة والحجارين، وضاعف لهم النفقات حتى قيل أنه قدّم لذلك نحو ألف أوقية من الذهب الخالص ولم يحصل على طائل، وكفّ عنها خائباً، “حسب بعض المخطوطات القديمة”، وتكمل تلك المخطوطات فتقول: ” أمّا الهرمان في الجانب الغربي من فسطاط مصر وهما من عجائب برهان العالم مبنيّان بالحجم العظيم على الرياح الأربع، وما على وجه الأرض أعظم وأجل بناء، ولا أحسن هندسة ولا أطول بقاء ولا أرفع سناء من هذه الأهرامات، إذ بعضها مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة والقسوة. ومن عجائب بنائها وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل أبرة، ولا خلل شعرة، ووجد مكتوب عليها كتابة غريبة ترجمتها هي: “إن بين هذين الهرمين والنسر الواقع في السرطان” فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية فبلغ إثنين وسبعين ألف سنة شمسية (لا نعلم ما هو هذا الحساب).

باسم الله
وقيل أن هرمس الهرامسة لما عزم على بنائها أمر باستخراج الرصاص من بلاد المغرب، وقطع الأحجار الضخمة الهائلة من أماكن بعيدة جداً عنها، وكان عندهم صحائف مكتوب عليها اسم الله العظيم فيضعون الصحيفة على الحجر ويسمّون باسم الله تعالى ويدفعونه بتلك الدفعة مقدار مائة سهم، ثم يعيدون عليها الصحائف والدفع حتى تصل إلى الهرم بغير حملٍ ولا مشقة، فإذا وصل الحجر إلى الهرم يثقبونه ويجعلون في وسطه قطباً من حديد قائماً ثم يركّبون عليه حجراً آخر مثقوباً ويُدخلون القطب فيهما جميعاً ثم يُذاب الرصاص ويُصب في القطب وحول الحجر بهندام وإتقان.
وتناسباً مع هذا القول القديم ما أورده في دراسته المؤرخ الأوروبي في القرن التاسع عشر (Kings Land ) كنجزلاند، إذ ذكر أن قطع أحجار الجرانيت (الصوان)، والتي تزن الواحدة منها سبعين (70) طناً، والموجودة في مخدع الملك، قد أعدّت في مقالع تبعد ستمائة (600) ميل قبل نقلها فوق النيل، ثم تابع يقول: “لا بد أن قوة غامضة قد استخدمت في نقل هذه الأحجار لا يعلمها سوى الله”.

شهادة نابليون
والقائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1789، وبعد أن وقف مندهشاً أمام عظمة الأهرامات قال إن ما تحويه من حجارة ومواد بناء يكفي لإحاطة فرنسا بجدار تبلغ سماكته 92 سم، وارتفاعه نحو 3 أمتار. وكلام روحي آخر يقول: “إن في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب وتكوينها وما يحدث في أدوارها وقتاً وقتاً، وما تحمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأحداث التي ينتظر حدوثها في مصر، وما يليها من أقطار العالم إلى آخر الزمان”.
“وكذلك زُبر على حيطانها أصناف العلوم العظيمة كعلم السيما وعلم الكيمياء والهيئة والحساب والأحكام الهندسية والمنطق والطب والفلسفة، ولم يترك علم من العلوم حتى تمّ زبره ورسمه”. ويضيف بعض المؤرخين القدماء القول إنه لا يوجد على وجه الأرض قاطبة بناء أعظم منها أو يضاهيها، وهي مع طول الأمد والدهور لم ترث ولم تبل، وهي العجيبة الوحيدة الباقية سالمة من عجائب الدنيا السبع القديمة.
إلى هنا انتهى ما ذكرته تلك المخطوطات القديمة، ونحن بدورنا لا يمكننا أن نذكر كل ما كتب عنها من المؤرخين والجغرافيين الحديثين من علماء ومفكرين ورحّالين، وقد أسهبوا في بيان أوصافها ومميزاتها وأهميتها التاريخية، وحتى تقديسها، ومنهم من أصابته لعنة الفراعنة والمعروفة عند الجميع إذ حلّت بهم بعد أن تطاولوا من قطع أو حفر أو إخفاء بعض حجارتها أو معالمها، ثم نقلها إلى بلدانهم أو بيوتهم فكان نصيبهم أن حلّت المصائب والأحزان في ديارهم، ومنهم العالم الاسكتلندي “Winston” ونستون، إذ فقد أولاً أولاده ولداً تلو الآخر، ثم فقد زوجته. كذلك أصابه الوسواس ولم يعد إلى صوابه إلا بعد أن أعاد إلى الأهرامات ما سرقه من أفيائها، وقصص كثيرة تُروى بين العامة من المصريين وسواهم ما جعل الجميع يهابون لمسها أو أخذ أي شيء منها بعد أن دفع العديد منهم الأثمان غالية.
خاتمة: ليس بالكثير أن يكون عدد الزائرين لتلك الأهرامات، وحسب إحصاء وزارة السياحة المصرية في أيام السلام والأمان، نحو (20) عشرين مليون زائر كل عام، وأن عدد زائريها من الأحياء على وجه الأرض ربما يزيد عن نصف مليار زائر من البشر.

الأخوت اللّي بدو يقتل أمو
ويحتمي عند خالتو

لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوّة ولكل جوادٍ كبـوة
( عمر بن الخطاب)

بعد أن تدفقت مياه نبع الصفا في أجران أحواض قصر بيت الدين، لتزيده روعة وجمالاً وتبعث الحياة في حدائقه، ازداد الجميع إحتراماً وتقديراً لأخوت شناي (حسن) صاحب فكرة إيصال المياه، وإن تكن تسميته بالمجنون فهو بالحقيقة ذو عقل أميز من عقول العديد من العقلاء، ورأيه كما تبين كان أصوب بكثير من آراء حاشية الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل بنصيحة “الأخوت” وجلب المياه إلى قصره العامر.
وحيث إن صفة الجنون كانت تلازمه، لذا كان يدلي بدلوه، وأينما وجد، من دون خوف أو حذر، بل باعثاً في محدثيه حس الطرافة وقوة الرأي العفوي الذي لا يخالطه أي رياء. فبعد أن وجد الأمير بشير الشهابي في حيرة من أمره، مرتبكاً متردداً كيف ستصل المياه إلى القصر، وكيف سيتمكن من جرها والمسافة بعيدة وتتخللها أودية ومنحدرات.
وبينما هو في هذه الحيرة تقدم منه أخوت شناي وحادثه قائلاً: لماذا هذا الإرتباك يا سيدي المير ورجالك إذا مددتهم على الأرض من الصفا إلى القصر، وأمرتهم أن يحفرَ كل واحد منهم على قدر طوله، فخلال يومين أو أكثر تصل المياه إلى بيت الدين.
وهكذا كان، فبعد أن أخذ الأمير برأي الأخوت، عظم شأن الأخير وازداد احترامه، وأصبح رأيه قبل رأي العديد من المقربين والمستشارين، يُلازم المير في حلّه وترحاله في قصره وشتى أحواله، متندراً وراوياً، متعرفاً ومصادقاً معظم زواره. يعلم بكل شاردة أو واردة ترد إلى القصر أو تخرج منه، وما أكثرها تلك الأيام، وخاصة الدسائس والمكائد، والتي كان صاحب القصر سيدها لإيجاد التفرقة والبغضاء بين الزعماء والوجهاء، الذين يأتون لزيارته، وقصده من خلالها إذلال الجميع وتفرقتهم عن بعضهم البعض، وإخلاء أي إعتراض من قبلهم، وهذا ما عرف به تاريخ ذلك المتسلط خبثاً ودهاء.
وأخطر تلك المكائد كانت على ولي نعمته، والعامل الأول لإيصاله إلى مكانته، الشيخ بشير جنيلاط، وكيف أوقع الفتنة بينه وبين أنسبائه من المشايخ النكدية أصحاب إقطاعية المناصف ودير القمر، ثم كيف استدار نحوه وتمكن من خلال والي عكا من قتله خنقاً ورمي جثته مع مرافقه على رمالها، إلى أن سمح لمشايخ آل معدي في بلدة يركا من الجليل الأعلى، بجلبهما ودفنهما في مدافنهم، ولتاريخه لم تزل في تلك الديار.
لكن ما سنرويه كيف أراد أن يوقع بين الشيخ علي العماد زعيم منطقة الباروك، وما يعرف بالعرقوب، وبين ربيبه ومستشاره الخواجه جرجس باز، بعد أن توجس الخوف والحذر من جانبه لما له من مكانة عالية وتقدير كبير بين أتباعه. لهذا حقد في ذاته ثم أخذ يتحين الفرص للتخلص من الإثنين معاً.
استدعى يوماً الشيخ علي العماد ثم أسرّ له في أذنه، أن جرجس باز يضمر لكم الحقد والإحتقار، ويعمل خفية على إبعادكم والإقتصاص منكم، وهذا ما ردده مراراً وتكراراً.
في المقابل أيضاً كان المثل مع جرجس باز إذ أسر له الأمير الداهية بكلام استهدف منه أن يوغر صدره على الشيخ علي العماد، بحيث تكتمل أسباب العداوة بين الرجلين، وعندها فإن التخلص منهما معاً يصبح أسهل.
وفي يوم، كان علي العماد في طريقه عائداً من كفرحيم إلى بلدته كفرنبرخ، وقد توقف أمام دارة  جرجس باز في دير القمر، ثم ناداه: يا خواجه جرجس “أنا شايف لازم نعيّر الرطل بيننا وعليك بملاقاتي إلى ميدان بتاتر، كي نقيم نزالاً ثم نعلم بعده لمن ستكون الوجاهة”
استغرب جرجس باز ونفر لهذا التصرف من قبل الشيخ، ولاسيما أن عهده به أنهما صديقان. إلا أنه ورغم ذلك أجابه: “على رأيك يا شيخ علي ونحن لها”.
شاع الخبر وسرى بين القرى والبلدات كما تسري النار في الهشيم، وغدا الناس منقسمين بين الإثنين وكل يتبع وجيه طائفته.
أخوت شناي بحكم تواجده الدائم في القصر علم أن الأمير بشير، هو مدبر هذه المكيدة وقصده إيقاع الفتنة والخلاف بين النصارى والدروز على مبدأ فرّق تسد.
في اليوم المحدد للمبارزة توجه جرجس باز وبرفقته أنصاره إلى ميدان بتاتر، كذلك فعل الشيخ علي لكنه عرّج في طريقه على نبع الصفا فوجد أخوت شناي ينتظره هناك. وحال وصوله هاجمه شاهراً بيده سيفاً من الخشب قائلاً: “إنزل عن فرسك يا شيخ وإلا قتلتك بسيفي”، أجابه الشيخ: “حل عنا ولك يا أخوت”
هز أخوت شناي برأسه، وقال: “أنا أخوت ولاّ إنت؟؟ أخوت إللي بده يقتل أمو ويروح يحتمي عند خالتو”!
وتابع: “شو بدك فيه لإبن باز تا تقتلو وساعتها بيغضبوا النصارى ويحملوك دمّو؟ بتعرفش العاقبة بعدها شو بتكون؟ غاية الأمير أنو يتخلص منك ومنو”.
أمعن الشيخ التفكير بعد سماعه قول الأخوت، ثم هزّ برأسه موافقاً، وقال لمن حوله: فعلاً خذوا الحكمة من أفواه المجانين، والظاهر إنو أخوت شناي أعقل وأخبر منا”، ثم تابع طريقه وهو في حالة تأمل وحذر متذكراً مكائد الأمير وخبثه. وعند وصوله إلى ميدان بتاتر ترجل عن فرسه، ثم ربط لجامه برجل الكرسي الذي جلس عليه ووضع سيفه على ركبتيه ينتظر قدوم جرجس باز ورجاله.
أطل جرجس باز على الميدان فوجد الشيخ علي بوضع عادي أقله أنه بعيد عن المبارزة.
أومأ الشيخ إلى غريمه كي يترجل لوحده، ثمّ أسرّ في أذنه ما سمعه من أخوت شناي. وبعد تحقق الإثنين من نوايا الأمير وغدره، اتفقا على أن يجريا المبارزة باستحقاقها وبأن يسدد الشيخ علي ضربة لجرجس باز فيصرخ عندها مستغيثاً بالقول: العفو عند المقدرة يا شيخ علي!
وهكذا تمّت المبارزة كما رُسم لها، ثم عاد الفريقان كل إلى بلدته من دون أن يعلم أحد من الحاضرين بحقية ما اتفقا عليه.
في اليوم التالي، ذهب جرجس باز لزيارة الأمير، وكان من عادته أن يدخل عليه من دون إستئذان.. حملق الأمير في وجه زائره كأنه غير مصدق ما يشاهده، لاعتقاده أن جرجس أصبح في عداد الأموات وينتظر نعيه.
رحب به بعد أن تمالك نفسه متجاهلاً ومتناسياً ما كان حضّر له لضيفه.
بعد مغادرة جرجس باز مجلس الأمير أرسل هذا وراء الشيخ علي يستخبره عمّا حدث. فأخبره الشيخ بما حدث قائلاً: “وأنت بتعرف يا مير ياللي بيستجيرنا منجيره”
لكن رغم أن جرجس باز اكتفى شر الأمير وكظم على جرحه وابتعد عنه، إلا أن الأمير بقي حاقداً عليه متوجساً من وجاهته ومكانته، وقد تمكن أخيراً من أن يوقع به فقتله مع شقيقه عبدالأحد.

كلمة السواء

كلمة السواء

حافظوا ..تُحفَظوا

الكثير من الناس استبدلوا دين أجدادهم وموروث الآداب والسلوك القويم الذي تناقلته الأجيال، بعقيدة العصر، وهي عقيدة الحرية المنفلتة من أي قيد، حيث الإنسان يعيش لنفسه ويضع على جبينه شعاراً بالأحمر لعل الجميع يقرأه، وهذا الشعار هو: “أنا حر”. إنسان العصر الجديد بين ظهرانينا هو تركيب مسوخي غريب من بيئتنا الاجتماعية وعصبياتنا ومن عقيدة الحرية الفردية التي أشرِبناها بمختلف الصور المباشرة والخفية بدءاً بسنوات الدراسة ومروراً بمقررات الجامعات وأخيراً عبر وسائل التواصل والمنتج الثقافي الغربي، سواء كان في السينما أو الأقنية الفضائية أم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وما أدراك ما الإنترنت.
كل هذه الوسائل وكل ما نراه في التلفزيون وعلى الإنترنت من كلمات ومشاهد وخطابات كله يدعونا لأن “نكون أحراراً، وأن نترك واجب احترام حقوق الآخرين، وهو يزرع في رأسنا أن حرية الفرد وحقه في أن يفعل ما يشاء هي الغاية لأي نظام سياسي واجتماعي في عصرنا. لا شيء في ما نتلقاه من كل تلك الوسائل يرشدنا إلى الفضائل أو إلى سبيل الله تعالى أو فعل الخير. لا شيء يبصرنا بأهمية وجود شرعة وأعراف تنظم العلاقات بين الأفراد والجماعات وتحول دون تحول الدنيا إلى غاب تسرح فيه الوحوش.
الحقيقة المؤسفة هي أنه لا أمل على الإطلاق في أي خير يأتي من حضارتهم لسببين أساسيين: الأول هو أنهم تخلوا تماماً عن الدين وقيمه وفضائله وباتوا يعيشون في مجتمع يمجد الأنانية وانهارت فيه لذلك قيم الترابط الأسري أو العائلي أو المجتمعي فأصبحوا أفراداً لا يربطهم رابط أخلاقي أو ديني أو اجتماعي. ومن الطبيعي أن تأتي القيم التي يروجون لها في منتجاتهم الثقافية لتعكس واقع تلك المجتمعات بل مأساتها. أما السبب الثاني، والذي لا يدركه السذج الذين يلحقون بتلك النفايات الثقافية هو أن ما يأتينا من جهتهم ليس لتسليتنا بل هو مصمم لتخريب نظام قيمنا بل هو جزء من “حرب إلغاء”، الهدف منها تدمير مقومات الثقافة العربية الإسلامية وكل منظومة قيم محافظة يمكن أن تقاوم المد الثقافي ومن بعده المد الاستهلاكي والتجاري للشركات الأجنبية. بهذا المعنى، فإن الذين يسقطون في فخ تقليد الآخرين واتباع النماذج الغربية الفاسدة يعتقدون أنهم يلحقون بالحضارة، لكنهم في الحقيقة يخسرون أنفسهم ويصبحون مثل شجرة مقطوعة الجذور إذ يتحولون بملء إرادتهم إلى عمّال أو خدم صغار لحضارة الاستهلاك الغربية وللقيمين عليها من حكومات وشركات وتجار سلاح ومؤسسات استرهان مالي واقتصادي وثقافي.
إذا أردت أن تعرف ماذا يحل بنا على هذا الصعيد يكفي أن تأخذ عينة من أبناء الجيل الجديد الصغار أو الأحداث، أو حتى الذين هم في سن الدراسة الجامعية، وكل ما عليك أن تحاول البحث عنه لديهم هو أي الأسماء والمواضيع هي الأكثر تكرراً في حياتهم اليومية، وما هو مثالهم الأعلى إذا وُجِد- وكيف يقضون وقت الفراغ في الموسم الدراسي أو في العطلات الدراسية. النتيجة المفاجئة أنهم يعرفون الكثير تقريباً عن “نجوم” عرب وأجانب وعن آخر “موضات” الموسم ومنتجات الهواتف الذكية وتطبيقات “أندرويد” أو “أبل” وألعاب، وكما أنهم منشغلون لساعات في اليوم في ثرثرات “الهاتف” أو “الفايسبوك” أو “تويتر”، وفي تبادل الصور والنكات والأغاني وغيرها من الترهات. الآن اِسأل أياً من هؤلاء عن آخر كتاب قرأه أو اِسأله عن شخصيات عربية أو إسلامية شهيرة يعرفها، اسأله عن زراعات الجبل أو أهم قراه، اسأله عن كمال جنبلاط أو سلطان باشا الأطرش أو شكيب أرسلان، اسأله عن أهله في جبل العرب أو في الجولان المحتل، اسأله عن نباتات الحقل وعن الوزال والبطم والقطلب والسنديان، اسأله عن الأنهر والأودية ومحميات الجبل، اسأله عن التنوخيين وعن الأمير السيد وعن الشيخ الفاضل وغيرهما من أولياء الجماعة المعروفية الشريفة.. اللائحة طويلة فلا تتعب نفسك في المزيد لأن الذي ستحصل عليه من أكثر أبناء جيل اليوم هو عيون فارغة وأفواه فاغرة وصمت مرتبك وغير مبالٍ.
تلك بصورة تقريبية نذر مقلقة لمستقبل لا نعرف ما الذي يحمله لنا، لكن يجب علينا أن نتكهن بما قد يجره هذا الفساد العام على حياتنا انطلاقاً من قاعدة متفق عليها بين عقّال هذه الأمة، وهي أن “الجزاء من جنس العمل” (إنما هي أعمالكم ترد إليكم)، وقد كان المغفور له الشيخ أبو حسن عارف حلاوي يذكرنا على الدوام بهذه القاعدة الأساسية عندما كان يشدّد على الدوام في لقاءاته بجمهور الطائفة وأركانها على أنه “بقدر ما نحافظ بقدر ما ننحفظ، بقدر ما نهمل بقدر ما ننهمل”، وهذا المبدأ البسيط يكاد يكون قاعدة ذهبية تلخص سرّ صمود الموحدين الدروز لشتى أنواع التحديات والأطماع ونوايا الشر على الرغم من قلة عددهم وعدتهم وافتقادهم للكثير مما يتوهم البعض أنه أساس القوة والغلبة، ألا وهو الكثرة في الرجال وفي المال.
هذا هو السر: لقد عمل أجدادنا والذين سبقونا بوصايا المولى وانتهوا عمّا نهاهم عنه، كما صانوا قيمهم وقيم أسلافهم، فأيّدهم رب العزة ونصرهم ولم يخذلهم في أي وقت. وقد تعهد المولى عباده الصالحين بهذا التأييد في قوله جل من قائل: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{ (الحجّ: 38) وبالطبع أن الوجه الآخر لهذه الحقيقة هو أن الله تعالى لا يدافع عن الذين كفروا بنعمه وأهملوا وصاياه وساروا على غير هدى في سبل الطيش والشر والضلالة.
فلنتفكر بهذه الحقائق ولنستفق من غيبوبة الروح والضمير قبل فوات الأوان.

طريق السراب

الجبل يدفع أثماناً باهظة لزهد الناس بأرضهم وقراهم وتوجههم إلى سراب المال والعمل السهل في قطاع التجارة والخدمات وغيرها من الأعمال والمشاريع. نقول “أثماناً باهظة” بصيغة الجميع لنشير إلى العدد الكبير من الخاسرين في هذا التحول الاجتماعي الكارثي.
الخاسر الأول والأهم هنا هو أكثر قرى الجبل في لبنان التي فرغت من معظم شبابها ليس فقط بسبب الهجرة إلى الخارج، وقد كانت الهجرة عاملاً إيجابياً في تعويض الجمود الاقتصادي في الداخل ووفّرت للناس مداخيل بديلة مكّنتهم من الصمود، لكن بسبب النزوح من القرية إلى ما يمكن اعتباره “المدن الجديدة” التي لم تكن موجودة قبل خمسين عاماً لكنها أصبحت اليوم نقاط جذب كبيرة للناس من قراهم، وبسبب هذا الجذب والتدفق اليومي لسكان القرى القريبة والبعيدة إلى تلك الحواضر يستمر التوسّع العمراني العشوائي في تلك التجمعات السكانية، فتنشأ كل يوم عشرات الأبنية السكنية وتفتح المحال التجارية ومراكز التسوق والدكاكين المختلفة الأغراض.
صحيح أن وجود مراكز تجارية سهّل على الناس مسألة التبضع ووفّر عليهم في الكثير من الحالات عبء الانتقال إلى العاصمة أو غيرها من المدن البعيدة نسبياً، كما أن للمدن الجديدة ميزة هي أنها وفّرت قاعدة لقيام الخدمات الصحية والتعليمية، وهذا الاتجاه موجود في كل لبنان، وفي العديد من الدول، وسببه الأول هو النمو السكاني وتوسع شبكة المواصلات، الأمر الذي بات يسهل توصيل البضائع إلى أي نقطة في البلد من دون صعوبة.
لكن مثلما يحصل في المدن عموماً، فإن الكثيرين من الوافدين إليها ليس لهم عمل حقيقي، وهم يدلفون إليها من قراهم ليس بسبب وجود فرص أفضل لهم، بل بسبب عقلية الزهد بالأرض والعمل فيها والعيش مما تنتجه. واللافت أن العديد من أغنياء الجبل يستثمرون بسخاء في المشاريع الزراعية بعد أن اكتشفوا أهمية الزراعة كمصدر للدخل والربح، بينما يزهد الفقير في أرضه ويتركها لتبور وتأكلها الأشواك.
وهذا الجيل من النازحين بلا هدف إلى التجمعات الحضرية الكبيرة هم وعائلاتهم الخاسر الثاني لأنهم يُحشرون في شقق رثة ثم يعملون ليل نهار، من أجل دفع الإيجار وتأمين أقساط المدارس والطعام وغيره من الأساسيات، وهؤلاء هم دوماً في حالة عوز وضنك كبيرين. أما عائلاتهم فهي عرضة أكثر من أي مكان للتفكك والتمازج السيىء العواقب ورفقة السوء، ونحن بتنا نسمع الكثير عن الانحرافات ومظاهر الفساد التي تنمو في زواريب تلك المدن وعتمتها في بيئة هي، على عكس البيئة المتماسكة للقرية، مفككة أصلاً ولا تربط الناس فيها روابط تضامن بل حالة عامة من عدم الاكتراث في أفضل الحالات.
وبسبب النمو العشوائي للبناء في العديد من هذه التجمعات البشرية، فإن أكثرها يفتقد إلى البنى الأساسية الحيوية لتقدم أي مدينة، بل أن التزايد المستمر في عدد السكان وتكاثر الأبنية وتوالدها كالفطر خلق ضغطاً هائلاً على البنى الأساسية، وعلى الخدمات التي تكاد تكون شبه معدومة في الكثير من الحالات، وهذا ما يصيب المدن الجديدة بالكثير مما أصاب المدن اللبنانية الرئيسية وخصوصاً التلوث البيئي والضجيج وتردي شروط العيش مع تسرب مياه الصرف الصحي إلى الشوارع وبين البيوت. وتُفاقِم هذه الظروف مشكلة الانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه وتردي نوعية الطرق وغياب أي صيانة للمرافق العامة.
خلاصة القول إن المدن الجديدة لها إيجابياتها لكنها ولّدت الكثير من السلبيات لأنها خلقت سراباً بات يجتذب الكثير من بسطاء القرى، كما تجتذب الفراشات إلى اللهب المحرق للشموع.

العقبة

العقبة، بلدة التسعين شهيداً
تستذكر مواسم العنب والتنور

الشيخ التسعيني سيف الدين دحسون
كنا نأكل الخبز والجرجير البري لكننا كنا سعداء
أما الآن فكل شيء متوفّر لكن أين الألفة والطمأنينة؟

أهل العقبة تركوا الزراعة وبرعوا في إدارة المطاعم والفنادق
حتى باتت أكثر مطاعم المنطقة مملوكة من أبناء البلدة

 

لكل من بلدات قضاء راشيا تاريخ، ولكل منها شخصية مميزة هي في الواقع نتاج موقعها الجغرافي وطبيعة أرضها وصفات سكانها، كما أنها نتاج بعض الأحداث والملمات التي مرت عليها في الأزمات الماضية أو الحديثة. أما بلدة العقبة، فإن طابعها الأهم هو الوطنية والغيرة على الارض والعرض وهو ما جعل منها إحدى أكبر البلدات سخاء في تقديم الشهداء في المواجهات مع طغيان إبراهيم باشا أولاً ثم الانتداب الفرنسي سنة 1925، كما أن من سمات العقبة التضامن الاجتماعي وتعاون أبناء القرية في إنماء البلدة وتوفير حاجاتها الأساسية من مياه ورعاية صحية وتعليم وغيرها. في هذا التحقيق نعرض لواقع بلدة العقبة في قضاء راشيا ونتحدث إلى رئيس بلديتها، ثم نفتح خزان الذاكرة مع شيخها التسعيني سيف الدين دحسون.

تسعون مناضلاً من أبنائها استشهدوا في محاولة اقتحام قلعة راشيا وتسلّق أسوارها وفي القتال مع الفرنسيين

موقعها وأصل إسمها
تقع بلدة العقبة في الطرف الغربي لبلدة راشيا ويحيط بها عدد من قرى القضاء مثل راشيا، وضهر الأحمر وكوكبا وبكيفا، وهي تبعد عن مركز القضاء 5 كلم وعن العاصمة بيروت 90 كلم، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب الـ 4000 نسمة، وهم موزعون على العقبة وعلى أحياء المزارع وجب فرح. تقع العقبة على ارتفاع نحو 900م عن سطح البحر ويمكن الوصول اليها عن طريق شتورة المصنع، ضهر الاحمر العقبة، أو عن طريق مرجعيون حاصبيا عين عطا العقبة.
تعود تسمية البلدة الى القرن السادس عشر، حيث كانت تُعرف هذه المنطقة بـ «عقب راشيا»، أي المكان الذي كان يعتبر محطة للقوافل التجارية التي كانت تمرّ من سوريا ولبنان الى فلسطين ومنها الى مصر، وهناك كانت تأخذ قسطاً من الراحة قبل أن تكمل سيرها إلى الوجهة المقصودة. وفي هذا المكان كان التجّار ( المكاريّة ) يلتقون خلال استراحتهم تحت الاشجار الوارفة الظل، وعلى منابع المياه العذبة يتناولون الطعام ويأخذون قسطاً من الراحة، ومن ثم يتابعون المسير. ومع الأيام حرفت التسمية الأصلية أي «عقب» لتصبح « العقبة» .
توجد في غرب العقبة بقايا لقصر روماني، وقد إختفى جزء مهم منه وبقيت بعض النواويس الحجرية، وقد طال هذا الموقع الأثري إهمال مزمن، وأدى غياب الرقابة من الدولة إلى إساءات متكررة للموقع لاسيما أصحاب الأراضي المجاورة. إن الموقع أو ما تبقى منه يؤكد أن الإنسان سكن هذه المنطقة منذ أقدم الأزمان.

بلدة التسعين شهيداً
يعتبر تاريخ هذه البلدة حافلاً بالشهادة حيث كانت السبّاقة في تقديم أبنائها من أجل عزة الوطن والذود عن كرامته، فكانت مشاركة ابنائها في ثورة 1838 ضد ابراهيم باشا الذي حاول اخضاع دروز المنطقة وتجريدهم من اسلحتهم وفرض الخدمة العسكرية الاجبارية عليهم ابان وجوده في بلاد الشام، فهبّ أبناء البلدة لمناصرة اخوانهم فاستشهد عدد كبير منهم وغادر آخرون اتقاءً لظلم الطاغية الى جبل الدروز واستوطنوا هناك، ومازالت معظم هذه العائلات في الجبل تحمل أسماء العائلات نفسها المنتسبة إلى قرية العقبة.
وكان لبلدة العقبة نصيب وافر من الشهداء أثناء مقاومة الانتداب الفرنسي، وعلى وجه التحديد في الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش في سنة 1925، إذ شكل الاهالي عدداً من المجموعات التي أخذت على عاتقها مهاجمة الوحدات الفرنسية التي كانت تتجه لقمع ثورة سلطان باشا في جبل الدروز وعرقلتها، لاسيما تلك الوحدات التي كانت تتجه الى قلعة راشيا، وتم قتل قائد احدى السرايا مع مجموعة من جنوده على تخوم البلدة مما دفع بالسلطات الفرنسية الى الانتقام من ابنائها، فعمدت الى تطويقها ومهاجمتها واعتقال ثلاثة وأربعين شاباً منهم واقتيادهم الى قلعة راشيا حيث تمّ تنفيذ حكم الاعدام بهم رمياً بالرصاص أمام عائلاتهم وذويهم. وقد استشهد عدد آخر من سكان البلدة عندما هاجمها الفرنسيون ففرّ من فرّ منهم مجدداً الى جبل الدروز ليعاودوا مهاجمة القلعة من جديد مع مجاهدي الجبل مرات عديدة، وقد استشهد العديد منهم عندما كانوا يحاولون تسلق جدران القلعة مستخدمين أجسادهم سلالم وجسوراً بهدف الوصول الى داخلها، كما استخدم المجاهدون كوفياتهم في اشعال النار في داخل القلعة. وقد قضى من أهل البلدة في تلك الموقعة تسعون شهيداً، ولذلك اطلق على قرية العقبة بعد ذلك التاريخ اسم «بلدة التسعين شهيداً».
مستذكراً تلك المحنة التي عصفت بالبلدة، يحدثنا الشيخ التسعيني سيف الدين دحسون الذي غادر البلدة طفلاً رضيعاً مع والدته الى جبل الدروز بعد حرقها ليعود اليها بعد سنوات ليجد أن منزلهم هو المنزل الوحيد الذي سلم من الحريق فيحدثنا قائلاً:
عندما عدنا الى البلدة كان منزلنا هو المنزل الوحيد الذي سلُم من الحريق، وكان حديث الأشخاص الذين لم يغادروا أنه تعرّض الى الحريق أكثر من مرة، وكانت النيران تنطفئ في وقت قصير ولا تمتد كما هو مفترض. وقد دهش الفرنسيون الذين وجهوا إحدى قذائفهم إلى المنزل لكنها لم تصبه بأي ضرر وغادر الجيش المكان وهم في حيرة من تفسير تلك الظاهرة. ويتنهد الشيخ متابعاً حديثه عن مشهدٍ لا يمحى من ذاكرته، وهو جموع الناس التي كانت تعود من ملجأها في جبل العرب لترى منازلها وقد تهدمت أو احترقت، وكان هؤلاء يلجأون إلى منزل الشيخ الوحيد الذي سلم من الدمار وكانوا يتكدسون في مساحة صغيرة ، قبل أن تبدأ كل أسرة من الأسر العائدة في إعادة بناء مساكنها.

العقبة
.العقبة

اقتصاد، زراعة وخدمات
الحياة الإقتصادية لأبناء البلدة متنوعة وهي تشمل زراعة الاشجار المثمرة وبعض الزراعات الأخرى المحدودة، وهذا يعود الى وعورة الأراضي وضيق المساحة المخصصة للزراعة من جهة، وضعف الدخل الذي يؤمنه هذا القطاع من جهة أخرى. وبسبب طبيعة الأرض يتم التركيز على زراعات قادرة على التكيّف مع طبيعة المكان، أي الزراعات غير «السهلية» ومن هذه اللوزيات والزيتون وكروم العنب والتين وبعض الحبوب كالقمح والحمص والعدس والفول، بالإضافة الى زراعة بعض الخضار خلال فصل الصيف. ونظراً لافتقار البلدة لمصادر المياه، فإن أكثر الزراعات تستهدف تأمين الحاجات المنزلية ولا توفّر فائضاً مهماً يمكن تسويقه بالطرق التجارية.
وبسبب تراجع أهمية الزراعة كمصدر لتأمين العيش اللائق ومواجهة المتطلبات المتزايدة للحياة، فقد اتجه عدد متزايد من شباب البلدة إلى العمل في المطاعم والفنادق، وقد برع هؤلاء في هذا القطاع حتى بات معظم المطاعم الموجودة في المنطقة مملوكاً من ابناء بلدة العقبة، كما أن الكثير من المطاعم والفنادق في البقاع يعتمد على أبناء بلدة العقبة في تسيير عمله. وهنا نلاحظ مفارقة هامة نتيجة هذا العمل أن معظم حفلات الزفاف في البلدة تتم في وسط الأسبوع وليس في نهايته نظراً لإرتباط أبناء البلدة في عمل المطاعم، والذي تكون ذروته في نهاية الأسبوع حين لا يمكن للعريس تأمين الحضور الكافي لإحياء حفل الزفاف.
كما يلعب ابناء البلدة دوراً هاماً في تنشيط الحركة التجارية في منطقة راشيا لاسيما في سوق ضهر الأحمر التجاري، حيث يمتلكون عدداً كبيراً من المؤسسات التجارية، وعلى وجه الخصوص تجارة الثياب، وهم يشكلون دعامة أساسية في تحريك العجلة الإقتصادية، كما يوجد عدد كبير من الباعة المتجولين الذين يجوبون قرى وبلدات راشيا عارضين شتى انواع السلع الإستهلاكية، وهذه الظاهرة ليست حديثة العهد بل تعود الى سنوات خلت، ولعل ابرز هؤلاء الباعة المتجولين المعروف بإسمه الأول فقط (رضا) ومن أبناء المنطقة لم يألف وجهه الذي يطالعك في كل يوم مطالعة البشير يقص عليك من نوادر الحياة ما تيسّر يزيل همومك وكأنه مبعوث المحبة المتنقل. وكان رضا في كل رحلة تجارية يقوم بها ينسج على أنغام شبابته (مزماره) نهاراً جديداً حتى بات يخصص لكل بلدة يوماً يجوب أرجاءَها عارضاً بضاعته البسيطة التي كانت تكتنزها كشته، وإذا إفتقدته يوماً فإنك لا بدّ أن تجده في «سوق الأربعاء» الذي يؤمه أبناء المنطقة بين عارض لبضاعته ومشترٍ أو متبضع يبحث عمّا يلبي حاجته. ولعل رضا هو العلامة الفارقة الذي يجوب أرجاء السوق نافخاً في شبابته باعثاً الفرح والسعادة في نفوس الزائرين والباعة على حدٍ سواء.
تعاني العقبة شأنها شأن معظم القرى اللبنانية النائية من الحرمان ونقص الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن في حياته اليومية، لكن عزيمة أبناء البلدة وإصرارهم على تحسين بلدتهم أحدث الفرق، وكانت باكورة هذا العمل في مطلع التسعينيات أن قدّم أهل البلدة قطعة أرض خصصت لتشييد المستشفى الحكومي الذي بدوره أحيا المنطقة برمتها وكان متنفساً حقيقياً خفف على ابناء منطقة راشيا مشقة الإنتقال الى مستشفيات زحلة والبقاع الأوسط وخلق بدوره فرص عمل لأصحاب الإختصاصات الصحية المرتبطة به.
لم يقف أبناء العقبة عند هذا الحد، بل قدموا قطعة أرض أخرى في منطقة الملول لصالح وزارة التربية والتعليم المهني والتقني لتشييد المعهد الفني الذي كان له الأثر الأكبر في دفع العملية التربوية قدماً، حيث كان على أبناء قضاء راشيا الإنتقال الى البقاع الغربي أو الى البقاع الأوسط لتحصيل التعليم المهني، فكانت لهذا الصرح التربوي نتائج ايجابية على أكثر من صعيد، حيث خفف عن الأهل أعباء وتكاليف التعليم المرتفعة التي كانوا يتكبدونها في إرسال أولادهم الى مناطق بعيدة لمتابعة تحصيلهم العلمي من جهة، كما أصبح بإمكان الفتيات اللواتي لا يستطعن أو لا يرغبن في الانتقال الى أماكن بعيدة عن سكن ذويهن متابعة تحصيلهن العلمي، نظراً للإختصاصات المتنوعة التي يوفرها، وقد وفّر المعهد فرص عمل لأكثر من مئة مجاز في مختلف الإختصاصات، مما ساهم في تثبيت الناس في أرضهم وتخفيف وطأة البطالة التي يعاني منها ابناء المنطقة، كما ساهم في تحريك العجلة الإقتصادية المرتبطة به من وسائل النقل وغيرها.

عين-البلدة
عين-البلدة

المستشفى الحكومي والمعهد الفني عززا اقتصاد العقبة وحولاها إلى نقطة جذب لأبناء المنطقة

لواقع الإغترابي في البلدة
الإغتراب هو إحدى السمات البارزة التي وسمت منطقة راشيا في السنوات الأخيرة نظراً لغياب فرص العمل، وكان لبلدة العقبة نصيب وافر من هذا الواقع، حيث تركزت الهجرة في السنوات الأخيرة على دول الخليج العربي، وكانت قد سبقت ذلك الهجرة الى بعض دول القارة الأميركية. ويسهم الاغتراب الى حدٍ ما في تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال الأموال التي يرسلها المغتربون الى ذويهم لكن نسبة المغتربين في البلدة تبقى محدودة مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة حيث لا تتعدى الـ 5 % .

نشاط الأندية والجمعيات
تلعب الأندية والجمعيات دوراً بارزاً في تفعيل دور الشباب في البلدة من خلال الأنشطة التي تنظمها على المستويين الرياضي والثقافي، إضافة الى مبادرات تنشيط العمل الحرفي والزراعي. وتضم البلدة ناديين هما نادي الطليعة ونادي العقبة، بالإضافة الى جمعيتين هما: الجمعية التعاونية الحرفية والجمعية التعاونية الزراعية التي قامت في سنة 1988 بشق وتعبيد طريق يصل البلدة في حي جب فرح الذي يبلغ طوله ما يزيد على 5 كلم.

الشيخ-سيف-الدين-دحسون-(2)
الشيخ-سيف-الدين-دحسون

دور البلدية
يتحدث رئيس بلدية العقبة الشيخ رشيد حماد عن واقع العمل البلدي والصعوبات التي تعترض عمل البلدية، ولعل أبرزها غياب الأموال وضعف الجباية وعدم دعم الدولة الا أن ذلك لم يقف حاجزاً، بل نسعى بالامكانيات المتوافرة الى تقديم كافة الخدمات المطلوبة في ما يتعلق بالخدمات الأساسية للمواطن من كهرباء وماء.
– كيف تصفون تجربة البلدة في مجال العمل العام؟
التوافق الذي حصل على المجلس البلدي من ابناء البلدة كافة على إختلاف انتماءاتهم السياسية كان الإنجاز الأهم بعد سنوات من المشاكل كانت تنعكس سلباً على العمل البلدي. لكن المشكلة ما زالت في ضعف الامكانات المادية، والذي يقف حائلاً امام القيام بمشاريع تحتاج اليها البلدة. على سبيل المثال عندما استلمنا البلدية كان هناك ديون قمنا بتسديدها، وخلال السنوات الماضية نفذت البلدية عدداً من المشاريع التي تتعلق بصيانة الطرقات الرئيسية والفرعية وتعبيدها وتوسيع مداخل البلدة وشراء مولّد كهربائي للبلدة بالتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعية، وقد قمنا ايضاً بترميم وتحديث شبكة الكهرباء التي تضررت من العواصف الثلجية، كما أقمنا العديد من جدران الدعم ووضعنا حجر الأساس للقاعة العامة، والتي تعتبر من أولويات المجلس البلدي الحالي.

-ما هي مشاريعكم للمستقبل؟
أبرزها التالي:
حفر بئر للمياه وسوف يبدأ العمل به قريباً ويعتبر من اولويات البلدة أيضاً لغياب مياه شمسين وعدم وصول مياه العين الزرقاء التي وعدنا بها منذ مدة، ولتلبية حاجة الناس الماسة الى مياه الشفه.
استكمال بناء القاعة العامة.
السعي الى بناء مصنع لفرز النفايات بالتعاون مع اتحاد بلديات جبل الشيخ.
العمل على إنشاء شبكة للصرف الصحي من خلال تأمين التمويل من الجهات المانحة.
مشروع زيادة الثروة الحرجية من خلال عملية التشجير التي سوف تبدأ مطلع الشتاء المقبل.

ما هي المساعدة التي تنشدون الحصول عليها من الجهات المعنية؟
نتمنى على الدولة والوزارات التي تعنى بالشأن العام أن تضاعف اهتمامها بالبلديات النائية نظراً إلى الإهمال المزمن الذي كانت تتعرض اليه، لاسيما امام حاجة المواطنين المتزايدة والملحة وضعف إمكانات البلدية منفردة للقيام بتلك الأعباء.

حفـــر البئر الارتـــوازي وتشييـــد القاعة العامة والصـــرف الصحـــي
والتحريج من أبرز أولويات المجـــلس البلـــدي

الشيخ-رشيد-حماد-رئيس-البلدية--2
الشيخ-رشيد-حماد-رئيس-البلدية
العقبة
العقبة

-ما هي مشاريعكم للمستقبل؟
أبرزها التالي:
حفر بئر للمياه وسوف يبدأ العمل به قريباً ويعتبر من اولويات البلدة أيضاً لغياب مياه شمسين وعدم وصول مياه العين الزرقاء التي وعدنا بها منذ مدة، ولتلبية حاجة الناس الماسة الى مياه الشفه.
استكمال بناء القاعة العامة.
السعي الى بناء مصنع لفرز النفايات بالتعاون مع اتحاد بلديات جبل الشيخ.
العمل على إنشاء شبكة للصرف الصحي من خلال تأمين التمويل من الجهات المانحة.
مشروع زيادة الثروة الحرجية من خلال عملية التشجير التي سوف تبدأ مطلع الشتاء المقبل.

ما هي المساعدة التي تنشدون الحصول عليها من الجهات المعنية؟
نتمنى على الدولة والوزارات التي تعنى بالشأن العام أن تضاعف اهتمامها بالبلديات النائية نظراً إلى الإهمال المزمن الذي كانت تتعرض اليه، لاسيما امام حاجة المواطنين المتزايدة والملحة وضعف إمكانات البلدية منفردة للقيام بتلك الأعباء.

الشيخ دحسون يتذكر
بعد هذا الحوار القصير مع رئيس بلدية العقبة عدنا إلى الشيخ التسعيني سيف الدين دحسون لنستعيد معه بعض المحطات المهمة في تاريخ قرية العقبة وبدأنا بالسؤال:
-ما هي أبرز الصور التي ما زالت تجول في ذاكرتكم؟
ينظر جانباً قبل أن يجيب ويقول:« هنا كانت تجتمع معظم نساء البلدة حيث كنّ يخبزن عجينهنّ على التنور، والذي كان يجمع الناس على المحبة والألفة، فكانت النساء يساعدن بعضهن بعضاً وكانت إحدى النساء مثلاً تتولى إشعال النار حتى تصبح كمية الجمر كبيرة، عندها تبدأ النساء في التوافد اليه كل واحدة لخبز عجينها حسب دورها، وذلك في جوٍ من المعونة والنخوة والسمر. يتنهد الشيخ متأسفاً على زوال تلك الحياة البسيطة معبراً عن ألمه إلى «هذه الأيام التي وصلناها»، حيث حلّ التباعد محل الألفة وحلّت الأنانية وقسوة القلوب محل روح المحبة والتسامح وغلبت المصالح الفردية الضيقة على روح الجماعة والتضحية من أجل الآخرين».
ويضيف: « كانت الناس في تلك الفترة، التي تسودها حالة العوز والفقر، تأكل القرة والجرجير (نوع من النباتات البرية) لكنها كانت تعيش بسعادة ومحبة. أما اليوم فكل شيء أصبح متوفراً لكن الناس تعيش في حالة من التنابذ والقلق وافتقاد الطمأنينة».
يمضي في حديث الذاكرة فيقول: كان لشهر أيلول طعمٌ مختلف. لقد كان سكان القرية تحت ضوء القمر وعلى وقع أهازيج الرجال يأتون بأحمال العنب من الكروم الى معاصر البلدة، تلك المعاصر التي كانت محفورة في الصخر، وكان قطاف العنب وعصره يستمر ما يقارب الشهر، فتشاهد الرجال يدعسون العنب وآخرين ينقلونه الى «الخلقين» لغليه وتحويله إلى دبس فيصلون الليل بالنهار دون تعب أو ملل.

عائلات بلدة العقبة

العقباني، زيدان، عقل، سعد، الهبري، كليب، أبو شهلا، فاعور، حماد، حامد، حمود، صافي، العريضي، عساف، مرعي، سعيد، ابو علي، دحسون، أصيل، نمر، شمس.

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

والله يدعو
إلى دار السلام

}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56)

للذين يتقاتلون ويسفكون الدماء شرقاً وغرباً نسوق هذه الآية الكريمة لعلّها تكون عامل إيقاظ للنفوس الضالة والغرائز المنفلتة من عقالها، كما ينفلت السيل العرم في أودية الاخضرار. ما هي غاية الرب جلّ وعلا من الخلق؟ وما هو التكليف الأسمى الذي كُلّف به بنو آدم؟ إنه أولاً وأخيراً أن ينصرفوا إلى عبادته وأن يسعوا إلى معرفته أو على الأقل لمعرفة كنه وجودهم وسر التكريم العظيم الذي مَنّ الله به عليهم عندما أعلن الإنسان خليفة له في الأرض وكرّمه، بل رفعه فوق درجة الملائكة، فدعاهم لأن يسجدوا له.

ولا توجد في هذه الحياة البائسة المثقلة بالهموم والابتلاءات غاية تسمو على تلك التي دعا الله عباده إلى طريقها. قال لهم لقد خلقتكم من تراب لكني نفخت فيكم من روحي (أي من خزائن علمي)، ومننت عليكم بكل شيء وسخرت لكم ما في السماوات والأرض جميعاً لكي لا يكون الرزق هماً لكم فيصرفكم عن سلوك الطريق القويم المفضي إلى عتبة خالقكم حيث انبلاج الحقائق والأنوار والسعادة الأبدية.

يقول جل من قائل في كتابه العزيز: }وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم{(يونس:25). وهنا يبلغ الخالق عباده ثانية الغاية من خلقه. إنه يدعو إلى دار السلام، أي إلى طمأنينة القلب في كنفه والأنس به، وإلى المودة والسلم بين البشر لكي يهنأ الجميع بالنعم الظاهرة والباطنة التي خصهم بها، ولكي يكون السلم والأمان معاً بيئة العبادة والذكر وفعل الخيرات.

نورد هذه الحقائق الأساسية ونطرح السؤال: في أي كتاب أو شريعة دعا الله عباده إلى ما يفعلونه الآن بعضهم ببعض بلا شفقة أو رحمة؟ وأي منا يمكن أن يأتي بتعليم رسول أو نبي أو ولي صالح أو حكيم فيه دعوة لما نشاهده هذه الايام في بلدان كثيرة من أعتى صنوف العنف وظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟ وإذا كان كل ما يجري لا يوجد له أي مبرر أو مسوغ ديني أو شرعي، فبإسم من أو ماذا ترتكب كل هذه المظالم؟ ومن أجل أي قضية يحصل كل هذا السفك للدماء الغزيرة لا فرق في ضحاياها بين شيخ مسن أو طفل، امرأة أو صبي، مذنب أو بريء؟

لقد توعد الله تعالى من يقتل أياً من عباده ظلماً وعداوناً بعذاب أليم، وهو القائل: }وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً{ (النساء:93) وهو يضيف في التنبيه إلى أؤلئك الذين يُكفِّرون الناس ويصدرون الأحكام عليهم من دون علم أو شرعة أو كتاب }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ (النساء: 94)

وجاء في حديث قدسي رواه الرسول (ص) عن ربه قوله تعالى: “لقد حرَّمت الظلم على نفسي فلا تظالموا”، أي أن الحق الذي يعلم ما في نفس الإنسان من نزعات، وما قد يتعرض له من غواية الشيطان وأحابيله، يحذر بني آدم من عاقبة الظلم مقدماً ذاته القدسية كمثال ونموذج بالقول: لقد حرمت الظلم على نفسي”، أي أنه وهو الذي عرّف عن نفسه بأنه }فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ{ (هود: 107) وأنه
}لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل{ُ (الأنبياء: 23) لم يتردد في أن يعلن لعباده أنه وضع قيداً على الربوبية نفسها، وهذا القيد الوحيد هو تحريم الظلم، وهذا القول مجازي وتعليمي بالطبع لأن الظلم مخالف لطبيعة الربوبية، ولأن الرب العظيم الذي له الأسماء الحسنى لا يمكن أن يكون الظلم بين أسمائه أو صفاته على الإطلاق.

ليست الغاية من هذا الكلام أن يكون لنا تأويل أو فهم معين لما يجري في بلداننا من قلاقل وفتن واضطرابات، ونحن نلتزم منذ الصدور موقف الابتعاد عن المواضيع السياسية، آملين أن تنحصر مهمتنا وخدمتنا المتواضعة في الدعوة إلى الخير وإلى سبل الله تعالى، وهذا لـ }مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا{ (الفرقان: 57). أما طرق الشيطان فكثيرة، بل لا حصر لها هذه الأيام، نعوذ بربنا جلّ وعلا من شر أنفسنا ونسأله بحرارة الطلب والتذلل أن لا يجعلنا من أهل الظلم، وأن يلهمنا تقوانا وأن يهدينا إلى سراط مستقيم.

الشيخ ابو حسين محمد الحناوي

سير الصالحين

الشيخ أبوحسين محمد الحنّاوي.

العارف بالله والعالم المتمكن المحيط بعصره

انصرف إلى العبادة والذكر وهو في سن الصغر
فبنى له والده خلوة صغيرة تضم اليوم ضريحه

كان المرجع المهاب يلجأ إليه طالبو العلم
وكان الحكم الفصل في كل خلاف أو نزاع

أحب الشعر الصوفي والروحي وكتب المقالات
وكان على تواصل مع الامير أمين آل ناصرالدين

هو شيخ من أعيان أهل الدين والتّقى، وقد كان فريد عصره من حيث بساطة حياته في ملبسه، ومأكله ومشربه، وعلمه الواسع، وفكره النيّر، وكفّه السّخي، وحكمته البالغة، ووعظه الآسر للقلوب. كان داعية للحق، تقياً زاهداً جامعاً بين لطف المعاشرة والهيبة بين الدين وأدب الدين، رقيقاً في الكلام لكن حازماً في المضمون خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأمور الدين وقيم الموحدين. ذاع صيته في ديار الموحدين وكسب محبين بالألوف يتناقلون سيرته ومواقفه. الضحى تعرض في ما يلي فصولاً من السيرة العطرة للشيخ أبو حسين محمد الحنّاوي الذي توفي سنة 2010 عن عمر ناهز المئة وأربع سنوات.

كتب سماحة شيخ العقل، أبو وائل حمّود الحنّاوي أنّه في عام 1907 شهدت قرية سهوة البلاطة إشراقة مولود أطلّ على الحياة، وأن علائم أهل الفضل والنبوغ، والتفوّق وسمات الإيمان ظهرت عليه منذ السنوات المبكّرة من حياته…
والده المرحوم الشيخ أبو محمّد قاسم الحنّاوي، ووالدته السيّدة التقيّة غضيّة كنعان من قرية الرّحى المجاورة للسّهوة، وقد امتحن الله الشيخ باليتم في سن مبكرة إذ توفي والداه وهو لم يزل بعد حدثاً يافعاً، لكنّ رعاية شقيقته الجليلة، الستّ أم علي ورد خفّفت عليه أعباء الحياة وهمومها، فقد كان مسلك الأخت متوافقاً مع منهج الصبي الشيخ من حيث الورع والزهد، والجود والتقى والمسلك الحميد…، وكان رحمه الله يقدّرها ويحترمها، ويعترف بفضلها، ويميّزها في صفاتها وطهارتها. وعند وفاتها رحمها الله تألّم لفقدها مع رضاه بقدر بارئه، إذ شعر بالفراغ الذي كانت تملؤه في حياته بأنس الأخت البتول.
يذكر مشايخ السهوة الحافظون لسيرة الشيخ أنه سلك مسلك الزهد مذ أن كان صبياً وتكمّل في زيّه واجتذبته العبادة والخلوة، وهو ما لفت نظر والده الشيخ قاسم الحنّاوي قبل وفاته المبكّرة، وقد أحس بأن الصبي يختلف عن أبناء جيله وأنه سيتكرّس للعبادة ومسلك التوحيد بأكمل وجوهه من زهد وعفة ودوام ذكر وأدب جم، وقد ألهمه الله توفير المناخ الملائم للصبي الذي كان يشعر باحترام شديد لتكرسه للدين وزهده في الدنيا الفانية. لذلك بادر الأب العطوف ببناء خلوة متواضعة أشادها من الحجر والطين، ولاتتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربّعة للقراءة والتعبّد، وقد بنيت تلك الخلوة وسط غابة من أشجار السنديان، فوق قمّة مشرفة من جهاتها الأربع تطلّ على السّهوة التي طالما أحبّها.
هذه الخلوة الصغيرة في حجمها، غدت منارة ومزاراً يرتاده الزائرون ويتبرّك به أهل الاستجابة القاصدون، وبعد وفاته عام 2010 أقيم إلى جانب الخلوة مجمّع ديني كبير لم يزل قيد الإنشاء، وهو الآن على وشك تمامه بمساهمات من متبرّعين محسنين يبتغون وجه الله.

نشاط دؤوب، ودعوة مخلصة
لم يتوقف نشاط الشيخ أبو حسين محمّد عند حدود قريته السهوة، ولا عند حدود جبل العرب، فقد كان واعظاً وداعية ومعلّماً لأبناء التوحيد أينما وجدوا، في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والمغتربات، ويشير الشيخ حمّود الحنّاوي إلى أنّه كان أينما حلّ يدير حلقات الذّكْر، فيذوب الليل في قيامه، ويملأ النهار في تعبّده، إذ لا فراغ لديه، ولا وقت مستقطعاً ينفقه إلاّ بالتواصل مع الله، ولا عمل يشغله إلاّ بالذكر مع أهل الثقة والاستجابة، كان يصلح الخطأ بالصواب، ويتّخذ الرأي بالسداد، إن وجد مخالفاً يهديه، أو تائهاً يعينه على تبين طريق إلى الرشد وقد تاب على يديه كثيرون وأخذوا بعد ذلك طريق الحق والفضيلة، وهو ما يدل على عظيم هيبته وتأثيره في نفوس معاصريه. عرف عنه أنه كان رغم استغراقه في العبادة بشوشاً ودوداً ناصحاً بلطف وكان يهتم بالجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً وكان يحترم المرأة العفيفة الطاهرة، فيقدّر منهنّ الصالحات، وقد أسّس المدارس الدينيّة، والمجالس الروحانية، وأقام حلقات الذكر وتابعها، فاستجاب على يديه الكثيرون.
ثقافته
احتوى شيخنا علوم عصره، فكان على بساطة حياته مطّلعاً على علوم الدين والشريعة، واعياً لأحداث التاريخ، وهبه الله تعالى الذكاء الحادّ والذاكرة الحافظة، فكان مفكّرة الأيّام، ماضيها وحاضرها ومستقبلها بشهادة مريديه وعارفيه، شغوفاً بالعلم، ختم المعلوم الشريف والقرآن وحفظ الكتاب الكريم في سنّ مبكّرة، ودرس الكتاب المقدّس، وقد تتلمذ على يد المرحوم الشيخ أبو حسين علي أبو حمدان، المعروف بالخطيب، ولمّا بدأ تميّزه، أفردوا له خلوة خاصة به في مقام عين الزمان في السويداء يختلي فيها للتعبّد والمذاكرة مع إخوانه ومريديه، فاستحق ما نعته به الإخوان من مشايخ لبنان وسوريا بأنه من شيوخ التصوّف التوحيدي. لذلك فقد وصفه شيخ العقل، الشيخ حمّود الحناوي بتعبير “شيخ الجزيرة، وسيّد العشيرة” وقال عنه أيضا إنه “كان سِفراً توحيديّاً حافلاً بالمكارم والكرم والكرامات” .
كان الشيخ أبو حسين محمّد يحبّ العلم ويشجّع عليه، وقد قرأ الأدب والتاريخ والعلوم الإنسانية، وكان متمكّناً من اللغة، إذ درس النحو والأدب والشعر، وكان يتوخّى الدقّة في الألفاظ ويلتزم المنطق السليم وكان يحب الشعر الروحي، ويحترم الشعراء الملتزمين ويحفظ لهم، وكان على تواصل مع الأمير أمين آل ناصر الدين صاحب جريدة الصفاء اللبنانية الغرّاء، وممّا هو جدير بالذكر أنّ الشيخ وبسبب صداقته مع الأمير الشاعر كتب لتلك الجريدة في مواضيع شتّى. ويذكر الشيخ حمّود الحناوي أنّ جريدة “الصفاء” نشرت له مقالات مناسبة لمركزه وعلمه وهدفه، كما أنّ المتخصّصين من أهل العلم كالأطبّاء والمهندسين والآداب والفنون، كانوا يعجبون بخطابه من حيث مناسبته لمعارفهم، وضلوعه بتقاسيم العلوم المحدّدة بالمنهج، فغدا العارف بالله، والعالم المتمكّن، المحيط بعصره أيضاً.

الواجهة الخلفية لمقام الشيخ أبو حسين محمد الحناوي
الواجهة الخلفية لمقام الشيخ أبو حسين محمد الحناوي

الشيخ المعلّم
عمل شيخنا معلّماً في كثير من المدارس السورية واللبنانية، إذ قام بتدريس العلوم الدينية، وتحفيظ القرآن الكريم، وقد شكّل بمنهجه هذا مدرسة روحانية تتلمذ فيها الكثيرون من المشايخ الأجلاّء والرجال الذين تسلّموا مراكز مهمّة في المجتمع، كذلك ساهم بتخريج أجيال من المشايخ المتعلّمين بما يضمن انتفاع الناس بعلمهم وإرشادهم.
الأمير أمين آل ناصر الدين نشر له مقالات في جريدته “ الصفاء”
ومن أبرز المدارس التي علّم بها الشيخ في لبنان مدرسة إبل السقي، وفي سوريا مدرسة بقعاتا في الجولان، وفي جبل العرب علّم في بلدات قنوات وسهوة البلاطة، وعرمان والمنيذرة والثعلة.

نشاط الشيخ في المجال الاجتماعي
بسبب مثابرته على منهج الحكمة، غدا الشيج أبو حسين محمد مرجعاً بارزا من مرجعيات التوحيد، ويشير الشيخ حمّود الحناوي إلى أنّه لعب دوراً كبيراً وبشكل متواصل ومستمر، في مختلف شؤون الحياة الدينية والاجتماعية والوطنية لأهله من بني معروف، ولا بدّ أن مؤهّلاته المعرفيّة التوحيديّة، وعمره المديد الذي نيّف على المئة عام، وانتماءه لأسرة آل الحناوي العريقة، كل ذلك ساعد في تسهيل مهمّاته، وقيامه بأداء دور كبير في مجال الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي الدعوة إلى رأب الصدع بين فئات المجتمع، وكان محط الثقة عند أهل المجتمع التوحيدي في الجبل وفي مقدّمتهم مشايخ العقل الثلاثة.
ومن المهام الأولى التي فتحت لفضيلته الباب على مصراعيه لدى أهلنا في لبنان، الذين أحبّهم وأحبّوه، وتابع صلاته مع الأعلام من رجالاتهم على تنوّع توجّهاتهم، فكان بذلك العروة الوثقى التي جمعت بين الجبلين، جبل العرب، وجبل لبنان في مرحلة حفلت بالأحداث والملمات….
في زمن شيخ العقل المرحوم، أبو هاني علي الحناوي، وفي أعقاب الثورة السورية الكبرى، وكان الفرنسيون قد أقدموا على مصادرة وسلب مقتنيات من خصائص المقامات الروحية، لم يجد الشيخ أبو هاني علي أكفأ من الشيخ أبو حسين محمد ليكون رفيقه في استعادة ماسلبه الفرنسيون من مصادرات تخص أهل التوحيد، وقد سُلّمت في ما بعد إلى مقام البيّاضة الشريف.
بعد ذلك ساهم الشيخ محمد كمُصلح ووسيط خير في تسوية جملة من مسائل كانت مثار خلاف في الجبل، ومنها تباين وجهات النظر حول مكتب مشيخة العقل في عين الزمان، والتي استمرّت نحو ثماني سنوات…
وفي بلدته سهوة البلاطة، كان الساعد الأيمن لمشيخة العقل، فكان رأيه العامل الأساس في تعيين البديل، حدث ذلك بعد وفاة الشيخ أبو هاني علي، والشيخ أبو شبلي يحيى والشيخ أبو حسين شبلي رحمهم الله. ومن جانب آخر فقد كان يهتم بشؤون الأسر في البلدة بوجه عام، وخاصة الفقيرة منها، وأصحاب الحاجات من أهل السترة والمعوزين، ويرعى الأرامل والأيتام، ويزور المرضى والعائدين إلى الوطن، ويشارك المجتمع في السرّاء والضرّاء، وكان يواظب على المجالس والمقامات والمزارات، وكان حضوره في اللقاءات الدينية حضوراً لافتاً.

صلاته بالمغتربين
كان الشيخ أو حسين محمد يهتم بصورة خاصة بالمغتربين من أهل التوحيد فيستقبلهم، ويدعو لهم بالتوفيق، ويحثّهم على الاستقامة، والعودة بسلامة وغُنم، ويتواصل معهم ويراعي أحوالهم، ويشجّعهم على الكسب الحلال والتمسّك بأهداب الدين والفضائل، والمحافظة على الانتماء لقومهم بني معروف، والتمسّك بالعادات والتقاليد الحميدة في مسلكهم وفي تربية أبنائهم، والحرص عليهم من الانحراف والذوبان في مجتمع الاغتراب.

صورة من مأتم الشيخ أبو حسين محمد الحناوي رحمه الله أبو حسين محمد الحناوي
صورة من مأتم الشيخ أبو حسين محمد الحناوي رحمه الله أبو حسين محمد الحناوي

شهادات حيّة في الشيخ
لمّا كان الشيخ الفقيد المتوفّى عام 2010، يتعبّد معتزلاً الدنيا في خلوة متواضعة تقع على قمة مطلّة على ما حولها، فقد احتوت الخلوة بعد وفاته على ضريحه وقد وصف أحد الشعراء بعض ما احتوت عليه نفسه العفيفة من مزايا فقال:
ويحترس مــن نفسه خــــوف زلّــــــــــة
تكـــــون عليه حجّــــــــة هي مــا هيـــــــا
فقلّص بُرديـــــــــــه وأفضى بقلبــــــــــه
إلى البـــرّ والتقــوى فنال الأمــانيـــــــا
وجانب أسباب السفاهــــة والخنـــــــا
عفافـاً وتنزيهــــاً فأصبح عــــــاليــــــــا
وصان عن الفحشــاء نفســــاً كريمـةً
أبــــــت همّـــة إلاّ العلـــى والمعاليــــــــــــا
تراه إذا ما طاش ذو الجهل والصّبا
حليمــــاً وقوراً صائـن النفس هاديــــا

وقال فيه الشيخ أبو حسين فضل الله بلاّن قصيدة منها:
غَمَـر اللطــــيف كثيـفــــــه وبسيــــــــطه
فغـــــــــدا المُحيّــــــــا صورة من نـــــــــورِ
قمــــــــرٌ يشعّ بوجهــــــه مــــــن خافــــق
متوهّــــــجٍ من مُحكم المســـــطــــــــــــور
الزهــــــد فيه طبيعــــــــة لا حِرفـــــــــــةً
كاللحــن موطنــــــــه رؤى الشحــــــرور
عَبَر الحيــــاة بكِســــْرةٍ وبـــجرعـــــــــة
والفَرْش لبّــــــــــادٌ وبعــــــض حصيــــر
طوبى له، رضوان ربّـــــــــــــــــي دائــماً
في هذه أو بعـــد نفــــخ الصّـــــــــــــــــــور
طيرٌ تدرّج بالتــــقى حيث ارتقــــــــــى
لعوالـــــم تعصــــى علــــــــى التصويـــر

أمّا الأستاذ الشاعر جميل كنعان من بلدة الرّحى المجاورة للسّهوة فقال فيه قبل ثماني سنوات من وفاته أي عام 1992 قصيدة تصف اعتزاله الدنيا وعزوفه عن فتنتها، منها:
أبا حُسينٍ على صرف الزمان عـــــلا
بـــــــدر الســماء هلالاً تــمّ واكتمـــــــلا

يذكر أنّ الشاعر الأستاذ كنعان يقرّ معترفاً بأنّ كل ما نظمه من شعر لا يجاري هذه القصيدة التي نظمها في الشيخ الحنّاوي، والتي يقول فيها:
ما قلت شعراً من الأعصاب أسكــبه
إلاّ إليــــــــكم بدم القلـــب قد جُبــــــــلا
كل القصائد لو صُغناها ملحمــــــــة
ما خُطّ منــها وما قد قيل مُرتجَــــــلا
لا تـــــــــكفي الشيــخ جلباباً ولا كفنـــا
فالشيخ هامه فوق النجم قد وصــــلا
ما غرّك الجاه أو أغراك مُغريــــــــــة
أو بات قلبك من هول الردى وجـــــلا
أفنيــــــت عمراً لوجه الله معتكفـــــــــاً
تقضـــــي النهار وجلّ الليل مبتهـــــــلا
حيّاً وميتاً ستبقى في ضمائرنــــــــــــــا
نوراً مُشعّاً وفي أخلاقنـــا أمـــــــــــــــــلا
أعرضت عن متعة الدنيا وبهجتهـــا
كي تبقـى بالخالد الرحمن متّــصــلا
أعطاك ربّك فيضاً من هدايتــــــــــــه
نُبــــــل الكـــرام ونور العلم ما بخــــــلا
عن مغرياتها من مالٍ ومن ولـــــــــــــدٍ
بالصوم والصّون طوعاً كنت منشغلا
مَتّـــــــــعْ قلوبنا بالّلقيا وأعيننـــــــــــــــــا
لُقياك للنفس تُذكي تبهــــج المقـــــــــلا
منــــــك الدعاء ومنّا الشكر نبعثـــــــه
للراحتين وللوجه النــــــــــدي قُـــبَـــــــلا
لابدّ أن تلقى وجه الله مبتســـــمـــــــــاً
فالله خيراً بخيرٍ يجزي من عمــــــلا
أشهدت حيّاً لتبقى خالداً أبــــــــــــــداً
عبر الدهور شروقاً يـــــدعـم الأجلا

ومن لبنان رثاه الشيخ سامي أبي المنى، أمين عام مدارس العرفان التوحيديّة، ورئيس اللجنة الثقافيّة في المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، وهو من بلدة “شانَيهْ “ قرب عاليه، في قصيدة جملية ومعبّرة ومشحونة بالعاطفة الصادقة، وقد كان الشيخ سامي حينها بعيداً عن بلاد الشام، فأفاض بهذه القصيدة التي يقول فيها.
أبـــــكي عليك ونار القـــلب تشتعــــــــل
والروح تدمع والأفكـار والمُــــــــــــــــــقلُ
أبكي بعيداً وحيــــداً كلّمـــــــــا لمعــــــت
في البال خاطرة أو لاح لــــــــــــي طَلَلُ
أبكيك فــــي سفرٍ أبكيك في خـــــفــــرٍ
كأنني بدموع الشوق أغتســــــــــــــــــــلُ

ويتمنّى الشيخ سامي لو كان حاضراً مأتم الشيخ الحنُاوي وهو الذي عرفه عبر الزيارات المتبادلة، ولقاءات المشايخ المتواصلة بين الجبلين، جبل العرب وجبل لبنان، وسائر جزيرة الشام. فيقول:
يا ليتني حاضرٌ والنـــاس زاحفــــــــــة
إلى يديــــــــك، إلى عينيك ترتحـــــــل
هذي أُقبّلها، هذي أُكحِّـــــــــــــلهـــــــــــا
ومثل جفنيك من كفّيك أكتــــــــــــحل
* * * * * * * *
تبكي السـويداء حنّاويّـــــــــها بأســـــى
“وسهوة” الخير حقّــاً خَطبها جَـــــلل
الحُبُّ ملمسها، والحزن ملبســــــــهــا على”الجليل”على”الجولان” ينسـدل
في”غوطة الشام”و”الإقليم” عاصـفةٌ
في كلّ “مقرن” عـزٍّ قد بكى بــــــــــطل
كلّ الجزيرة تبكي شيخـــها أســـــفــــاً
وفي القلوب بصمتٍ يعصف الأجــــل
يا شيخنا الصادق الصّدّيق يا علماً
بمثل صدقك أضحى يُضرب المثـــــل
يا طاهر النفس يا حرّاً ويا رجــــــــلاً
نِعْمَ الصبورُ الجسورُ الصادقُ الرجل
بساطة العيش بين النـاس مسلكُكُــم
وأخلص الناس من عاشوا، وما حــفلوا
“ أبا حسينٍ” صَــحِبـــــتَ الله في أدبٍ
فزدت لطفاً وحنّى وجهَك الخجـــــل
ولم تصاحب سوى الأخيار مكتفيـــــاً
بمن تغذَّوْا من التوحيد أو نهلــــــــــــوا
فكنتَ خيرَ أنيسٍ في مجالســـــــهـــــم
تنهي برفقٍ وتهدي الناس إن جهلــوا
وكنت تُبْحِرُ في الإيمان مرتقــــــيــــــــاً
إلى حيـــــاةٍ بنور الحق تنجبـــــــــــــــــل
حتى بلغت مقاماً بالرّضى وغــــــدت
خصال روحك بالتسليم تكتمــــــــــــل
يا من نشأت على التوحيد مُتــــّــــكلاً
حقّ اتّــكالٍ ولم يقعد بك الكســـــــــــل زهدت بالمال والدنيــــا وما قـــــــدرت
عليــــــــك في وهجها الآفـــــات والعلل
وعشت في خلوة التوحيـــــــد معترفـــاً
على جبينك راحت تسطــــــع الـــمُثُل
عرفت ربّك موجــــــــــــوداً تنزّهُــــــــــه
عن كلّ وصفٍ فلا شــــــكٌّ ولا خـــــلل
عرفت نفسك في مرآته فبــــــــــدا الــ
عجزُ اقتداراً وطاب العلم والعمــــــلُ
وازددت في الحقّ إيماناً وزدتَ عُــلى
مسافراً، ماثنــــــــاك الـــهمّ والـــــكَلل
سلكتَ أصعبَها دربـــــــــاً وأكملَهـــــــــــا
حتّى أطاعتك في معراجك السّـــــبُل
يا من رجعـــــت إلى باريك مقتنعــــــاً
ومطمئنّاً تحاذي دربك الشُّــــــــــــعَـل
رحلت طَوْعــــاً إلى مثواك منتـــصراً
بالروح فوق جسور الموت تنتقــــــــــــل
عِشْ خالداً في حياة الـــروح سيّدَنــــا
عليك سيلٌ من الرحمات ينهــــــــــمل
وألفُ ألفُ سلامٍ كلّمــــــــــــا بُعِثَـــــــــتْ
ذكراك فينا ومنها أشرقَ الجبـــــــــل

مساهمات حرة

المحبة وأعداؤها

بسم الله الرحمن الرحيم الذي هو المحبة وبالمحبة أوجدنا، وبالمحبة يرعانا، وبالمحبة أوصانا، وبالمحبة أرسل كبشه ليفدي اسماعيل، فأصبح للبشرية بذلك عيد للتضحية، هو في الحقيقة عيد للمحبة المطلقة للرب إلى حد التضحية بالنفس بكل طيبة خاطر في سبيل طاعته.
أين نحن من المحبة؟ وكيف يمكن أن نعيشها في زمن غلبت فيه مشاعر السلبية والتنابذ على علاقات الناس وهيمنت روح الفرد والأنانية؟ لا سبيل لنا في ضوء كل ما نعانيه إلا غسل القلوب من كل ما هو ليس محبة لتبقى المحبة صافية وتصبح ايامنا كلها أعياداً. لكن من أجل أن نحيا بالمحبة لا بد لنا أولاً من أن نتنبه إلى أعدائها وأن نتغلب عليهم.
وأعداء المحبة كثر، وأولهم الغضب فهو يعمي البصيرة ويشل التفكير وقد يؤدي إلى ارتكاب الحماقات، وهذه تزيل احترام الإنسان للإنسان وتخرج المحبة من القلوب.
ومن أعداء المحبة الحسد الذي هو اعتراض على حكمة الرزاق في توزيع الأرزاق، والحسد جهالة محض لأنه لا يغيّر من أمر الله شيئاً بل يؤذي صاحبه. على العكس من ذلك، إذا صفيت المحبة فرحنا بما اعطى الله لغيرنا كما لو اعطي لنا فنكون بذلك شركاء في سعادة الآخرين دونما حاجة لأن يكون لنا ما لهم.
ومن أعداء المحبة الحقد، وهو الأصعب غسله لأنه يعلق بالنفوس ويحجر العقول، فيلزمنا الكثير من الجهد والتعب حتى لا يقضي علينا، ويسرق منا العمر، ونحن خائضون في أوحال الكره وأسرى سجن الكراهية.
هذه الثلاثة (الغضب والحسد والحقد) خصال ضدِّية لها فروع كثيرة لو أتينا على ذكرها لطال بنا الشرح، ولكن علاجها يكون بسلوك طريق القرب من الله تعالى، فنرى بنوره وتتوسع مداركنا فتنكشف لنا حقائق كانت امام أعيننا، لكن لم نكن نراها، كما تأتينا من دون جهد حلول كنّا نجد صعوبة في تصورها بسبب الوهم وغشاوة نفوسنا.
الكل بالطبع يدعو إلى المحبة، لكن هذه صارت في الحقيقة نفاقاً وشعاراً أجوف، وبدلاً” من المحبة العاقلة في الله وهي محبة مانحة للنور، سقطنا في مزالق الشهوات وظلماتها فأصبحت المحبة في الحقيقة سباحة في الوهم ونزوعاً لأسر الآخر أو صفقة كأي صفقة تجارية.
محبتنا جوفاء فارغة، لأنني قد أحب فلاناً لكني لا أصدقه القول، وأتحدث بالخير لكني لا أتصدق من مالي لكي أغيث ملهوفاً أو أمسح دمعة فقير أو محزون، وأحب زوجتي ولكني لا التزم الوفاء لها، وأحب أهلي ولا أطيعهم، وأحب اصدقائي وأغدر بهم، وأحب حسن المعاملة ولكن لا أدفع حقوق الناس، وأحب الاخلاص في العمل ولكن لا أخلص في عملي، وأحب الله وأعصي اوامره.
فصح فينا قول عبدالله ابن المبارك:
تعصي اله وانت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لاطعته ان المحب لمن يحب مطيـــــــع
لنرجع الى عقولنا، فالعقل هو الذي ميّزنا عن الحيوان ومن دونه نصبح أدنى من الحيوان.
المحبة الحقيقية هي نظام، هي أن تعمل بالعقل لا بالعاطفة، هي أن تربي ولدك على الفضيلة لا على أهواء النفوس وشهواتها، هي أن تربي ولدك على الحلال والا فأنت لا تحبه مهما قلت وغاليت، وهو لن يحبك مستقبلاً، ولن يكون باراً بك، وهذا سر الجفوة بين الاهل وابنائهم، حيث تكون عقوبة الاهل عقوق اولادهم لهم.
نذهب الى الصائغ لشراء الذهب، ولا نرضى إلا بالصافي، واذا غشنا شكيناه في المحاكم، لكننا نرضى أن نغش المحبة بالضغينة والكره والحقد والحسد، مع أنها اساس هذا الوجود، فكيف يستقيم بناء وجودنا اذا غششنا في الأسس.
كميل بو غانم -ابو ظبي

سيدتي الأميرة مي جنبلاط
أميرتي.. يا نجمة تلألأت في سماء لبنان الحبيب، هنيئاً لك مقامك الكبير- في حياتك كما في مماتك – فالتكريم الذي جاءك من البشر يوم رحيلك جاءك من قبل من علٍ من الله عز وجل..
يا غصناً في هذه الدوحة الأرسلانية العريقة التي أدت الدور البارز خلال مئات السنين، إبنة الأمير شكيب أرسلان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس..السياسي العربي، والنهضوي بامتياز، وهو الذي ترك لنا آثاراً عظيمة يجب علينا أن ننهل منها.
انتقلت يا أميرتي الى الدوحة الجنبلاطية الوارفة. زوجة للكمال، ذاك العبقري المتربع على عرش التقوى والإيمان والحكمة والسمو حتى الشهادة، ووالدة مقربة وناصحة للوليد المنقذ الذي أكمل المسيرة وسطر على دربها البطولات والمآثر التي ستبقى فخراً للأجيال.
كان الكمال، الذي منحته حبك، سنديانة ضاربة جذورها في عمق أعماق لبنان، وقد أعطاه الله ما لم يعطِه لغيره، إرثاً وتراثاً.. وعقلاً ومعرفة وحكمة فبايعه الناس زعيماً ومعلماً وقدوة، وقد عرف العالم كله فضله ومكانته، وبسبب عظمته فقد عرف هذا العالم أيضاً الموحدين الدروز وتراثهم وتاريخهم الحافل بالبطولات والقيم الروحانية والرجولة.
هنيئاً لكِ جنة الخلد يا أميرتي الغالية، وأنني أختم، بما قاله الشهيد كمال جنبلاط يوم مأتم والدته سيدة قصر المختارة، حين قال: “السماء تبكي والناس من حولي يبكون، أما أنا فأفهم حقيقة الموت، الحقيقة التي تقربنا الى خالقنا، فلا اعتراض على حكمه ولا رادّ لقضائه، بل إقرار بوحدانيته”.. والتوسّل إليه أن يقدرنا على واجب الوفاء لأميرة الوفاء وقد أردناها وفاءً لعهد وولاء لبطل، البطل الوليد أمير الرجولة والشهامة والكفاح الوطني والعربي.
طيّب الله ثراك أميرتي بالمسك والعنبر..

د. مفيدة عابد

سقراط: المعلم العظيم
لا مراجع تفيدنا عن حياة سقراط أفضل ممّا جاءنا عن طريق تلميذه النجيب إفلاطون؛ الذي كتب عنه في محاوراته، فنحن مدينون له بمعظم ما نعرفه عن سقراط، ذلك المعلّم الكبير الذي اعتبر أنّ قيمة الإنسان هي في القدر الذي يحصله من المعرفة، وليس في ما يجمعه من المال أو يحققه من الجاه لأنّ المعرفة هي ما يعطي الإنسان قيمته الإنسانية ويقربه من الله، أو كما جاء في الحديث الشريف: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”
حكمة…بالمجان
اعتبر سقراط التربية وسيلة لنشر الفضيلة، ولمّا أراد منه بعض أثرياء مدينة أثينا، التي كانت آنذاك مدينة مزدهرة لإمبراطورية بحرية كبرى، تعليم أولادهم جرياً على عادة ذلك العصر، فإنه رفض عرضهم رغم أنه عاش حياته فقيراً. لكنه في المقابل كان يبذل جهده في نشر المعرفة بين الناس الذين كان يرى فيهم الإخلاص والرغبة الصادقة بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية.
ولأنّه كان مولَعاً بحب الحكمة ويرفض ربط تعليمها بالمال، فقد ابتكر أسلوباً فريداً في عصره، إذ كان ينزل إلى سوق أثينا، ويرتاد المجتمعات العامة ليناقش ويتحدّث بحرّية وجرأة إلى كل من يأنس منه ميلاً إلى الحوار والنقاش. وهكذا، فإن نشاطه التعليمي لم يكن يرتبط بمكان أو بنظام معيّن.
عندما نقرأ سقراط نجد أنّه يربط بين التربية والفضيلة ربطاً عضويّاً، إذ يركّز في تعاليمه على أهمّية تعلّم الفضيلة عندما تكون منظومة من القيم لها هدف وغاية. فهو يريد تعلّم الفضيلة التي يراها من حيث جوهرها تشكّل الغنى الحقيقي للنفس الإنسانيّة، كما يعتبر أنّ التربية تمثّل علاج النفس الأكثر فعالية، وأنّه لا يصح أمر التربية إذا تسلّمتها الأيدي الغريبة الخالية من الضمانات الأخلاقيّة. ولم يكن سقراط طبيباً بالمعنى المتعارف عليه في عصرنا هذا، ولكنه اعتُبر طبيباً للنفس الإنسانية، وذلك لأنه تناول المعرفة من حيث هي غذاء النفس، وبها تستطيع أن تميّز ما هو خير، وما هو شر. وبهذا المعنى، فإن العلم الحق عنده هو علم الخير، ذلك لأنّه ينير العقول ويحفّزها على الفاعليّة، ويصهر ويطهّر القلوب، وعلى كل إنسان أن يتطلع إلى تحصيل العلم الحق الذي يقربه من حقيقة نفسه والوجود وليس العلوم السطحية.
شجاعته في الحق
انتقد سقراط الديمقراطية، ذلك لأنه رأى فيها مدرسة للديماغوجية والتلاعب بعواطف وأفكار الناس، وكان لأفكاره وقع وتأثير، أشعر أصحاب النفوذ في زمانه بالخطر فتألبوا عليه ولفقوا له تهمة “إفساد الشباب” والتجديف على المعتقدات الأثنية (الوثنية)، وقدم سقراط إلى محاكمة مدبرة بدا فيها واضحاً أن الحكم اتخذ قبل المرافعات، ورغم أنه دافع عن موقفه بجرأة إلا أنه بعد أن حكم بالإعدام ترك له المجال ليتقدّم بـ “طلب استرحام” كان يمكن أن يرفع عنه سيف الإعدام. لكن رفض ذلك العرض الماكر الذي أراد إظهاره بمظهر الجبن، وبالتالي تسويد صورته في نظر مريديه ومحبيه، كما رفض سقراط عروض محبيه بتدبير فراره من السجن ساخراً من اهتمامهم بسلامته مستهزئاً بفكرة الموت.
سلّم الفضائل السقراطية
أعلى الفضائل في السلّم القِيَمي عند سقراط هي فضيلة المعرفة، ومع أنّه لم يضع للقيم سلّماً متدرّجاً، فإنه رأى في العمل فضيلة تَلي فضيلة المعرفة، إذ أن العمل يصون كرامة الإنسان كما أنه أحد مسالك تحصيل المعرفة وتأمل الحياة. أما الفضيلة التي تتلو العمل عند سقراط فهي فضيلة القناعة لأنها تحمي الإنسان من الجشع، وتساعده في كبح جماح شهواته، وهي بالتالي سبيل التحرر من النفس الضدية وشغل العقل بالبحث عن الحقيقة. واعتبر سقراط الصداقة من أهم الفضائل لأن الصديق المخلص يهتم بصديقه كاهتمامه بنفسه. وبما أن كافّة الفضائل السقراطية تتأتّى من العقل، فقد اعتبر سقراط العقل مصدر الحقائق كلها.
المعرفة أساس الحكمة والأخلاق
اعتبر سقراط أن معرفة النفس والتصرّف الحكيم يصلان بصاحبهما إلى سبيل السعادة، تلك السعادة التي لا تأتي إلى الإنسان بالصدفة، أو بضربة حظ، بل يكون مصدرها المعرفة والتعلم على يد معلم، وهذا المبدأ طبقه سقراط عندما تفرغ بكليته لتهذيب أخلاق ونفوس الشباب في عصره، وقد أهمل في سبيل هذه الغاية حياته الخاصة، بل أن المعلم العظيم لم يتردد في تقديم حياته دفاعاً عن حقه في تعليم أجيال أثينا، وفي ذلك الموقف الخالد قدّم سقراط أسمى مثال على الشجاعة والتسليم والتضحية في سبيل الحق.

إبراهيم العاقل

المعلم الذي أفتقده
من يزور لبنان لا بد له من زيارة قلعة بعلبك ومشاهدة أعمدتها الستة، ومن يزور لبنان لا بد له من زيارة قصر المختارة ومشاهدة كمال جنبلاط العامود السابع. هذا الكلام للصحافي الراحل ميشال ابو جودة من مقطوعته اليومية من حقيبة النهار سنة 1974. لم يكن كلام الراحل ابو جودة على سبيل المجاملة أو كلاماً عاطفياً، لأنه من المعروف عنه أنه كان يتصف بالموضوعية، بل قد يكون المقصود منه أن تعاليم المعلم كمال بك سوف تجد من يقرأها ويعمل بها طوال قرون من الزمن، كما هي أعمدة بعلبك منتصبة لمدة تزيد على عشرين قرناً.
وبالفعل أن محبي كمال جنبلاط هم قرّاؤه، فلقد كان كل من حلفائه أو خصومه ينحني لكتاباته بكل احترام.
فقد قال المعلم: كل القوة والعظمة تنبع من عدم الخوف ليكن عندك الايمان الذي لا يتزعزع في نفسك عندها كل الأشياء الايجابية والنبيلة ستأتي اليك ما من أحد يمكنه أن يرعبك أو يزيحك عن درب رحلتك.
ومما كتب عنه الصحافي الهندي رافي ناير: نادرة هي النفوس التي يشعر الحاضرون حولها بومضات البركة والنعمة والأطمئنان. كمال بك بايماءاته وسلوكه وفصاحته المحببة والبيئة العفوية من السعادة التي كان ينشرها حوله تعطي اشارات النفس التي تتقمصها البركة، فالمحظوظون كفاية هم الذين أتيحت لهم رؤيته شخصياً أو سماعه والاستمتاع بتلك الفوائد. فكلام الصحافي ناير يتطابق مع قول الفيلسوف الاغريقي فيتاغوروس: ليس لله تعالى في الأرض موضع اولى به من النفس الطاهرة.
كم أحببت لو كنت معاصراً للمعلم لأستمتع بمجالسته أو أتنور بكلامه، فما عرفته عنه أنه كان قائداً متواضعاً وعاملاً متعالياً أسس حزبه يوم عيد العمال، فكان العمل من مقدساته، والعمّال هم اصحاب المنازل العالية بنظره. تكلم بإسمهم – الفقراء والمشردون سوف يحررون العالم – لم أكن من المحظوظين كفاية لأتعلم اكثر، فلقد كان رحمه الله يعلم من أين تبدأ النقطة على قوس الدائرة، والى حيث تنتهي.
العقيد المتقاعد طالب عرنوس

العرس بين الأمس واليوم
خلال مئات السنين، كان العرس الدرزي، من أروع احتفالات الزواج في العالم. فقد كان يجمع كافة أبناء المجتمع، الرجال على حدة، والنساء على حدة، وكانت تقام به أجمل العادات، وألذ وأطيب المعاملات، من حيث صيانة الكرامة والشرف والفضائل. وفي الوقت نفسه، كانت تبرز في العرس التقليدي، المشاركة الحقيقية في الفرح، والنخوة، والكرم، وعندما كنتَ تقترب من بيت فيه عرس، كنت تشعر بالفرح والبهجة إذ ترى الموائد والكراسي تملأ الساحة وأهازيج النساء ودبكاتهن الشعبية البريئة تصدح في الفضاء. وفي مكان قريب، كان الشباب مجتمعين على الدبكات الحماسية والسحجات على وقع الشبابة والمزمار، وكان شيوخ وأعيان المجتمع، يتصدّرون المحتفلين، فكان أعيان القوم يدعون الى الغداء، ويذهبون في مقدمة وفد أهل العريس، يطلبون الإذن من والد العروس، أن يسمح بانتقالها إلى بيتها الجديد، ولم ينقص من هذا الجو أن العريسين، كانا أحياناً، يسكنان في غرفة صغيرة في بيت والد العريس، وقد مرّت ظروف، كان العريسان الجديدان يحصلان على زاوية في باحة البيت، وراء خزانة تستر مبيتهما.
أما اليوم، فقد أنعم الله علينا، والحمد لله، بالخيرات، وأصبح بإمكان كل إنسان أن يقوم بسائر المراسيم والواجبات والمتطلبات مثل أي إنسان آخر. ونحن نقول، كل من يستطيع إلى ذلك سبيلاً فليهنأ ولينعم الله عليه من خيراته، وليمتلئ بيته بالأولاد والمباهج والسرور. لكن هذه أعراس اليوم أصبحت تقليعة، أو موضة “إلزامية” أصبح على كل إنسان أن يتقيد بها. وفي السابق كان صاحب القليل مقتنعاً بما لديه شاكراً الله تعالى على ما أنعم به عليه، أما اليوم، وبسبب توفر القروض والبنوك والإمكانيات، فإن الكثيرين لم يعودوا يقتنعون بما عندهم، وقد بات في مقدورهم الحصول على قروض مصرفية أو ربوية أحياناً من أجل ترتيب عرس يفوق إمكاناتهم كل ذلك على سبيل التقليد والمباهاة الفارغة، لكن المشكلة تكمن، ليس في الحصول على الأموال، بل في تسديد تلك الأموال. ومن له اطلاع على البنوك والمحاكم ودائرة الحجز، يرى العشرات من الذين كانوا مبتهجين بعرسهم الفخم، ملاحقين من المصارف ومن المحاكم بعد أن عجزوا عن سد ديونهم. وقد “راحت السكرة وجاءت الفكرة” كما يقال. بل أن تزايد ظاهرة الطلاق قد تكون أحد أسبابها مشاكل ما بعد العرس، ويقول المثل “القلة تولد النقار”.
كان العرس في الماضي حدثاً بهيجاً واحداً يستغرق نهار القرية ويجمعها. أما اليوم، فقد تحوّل إلى مسلسل أعراس أو قل مسلسل احتفالات مكلفة. فهناك حفلة والد العريس، وحفلة والد العروس، وزفة العريس، وسهرة العروس، ومنتزه لأصحاب العريسين. وقد انتقل قسم من العبء إلى الناس الذين بات عليهم تقديم المساعدة في حساب مصرفي يفتحه العروسان أو شراء الهدايا السخية لهما. وهناك مئات وآلاف الموظفين والأجراء الذين باتوا يتضايقون يئنّون من الأعراس بسبب ما تحمله لهم من أعباء.
المهم أن كل هذه المصاريف والتكاليف لا تنتهي في جيب العروسين أو تساعدهما لأن كل مزاريب العرس تصب في جيوب أصحاب المصالح المسماة بصناعة الأعراس، والتي تضم المقاولين، وأصحاب محلات الأثاث، والمزينين والمزينات، وأصحاب حوانيت ملابس الأعراس، وفرق “الزفّة”، وباعة المفرقعات والألعاب النارية، ومهندسي الموسيقى والإضاءة وسيارات الزفاف، وغيرهم كثر .. فهنيئاً لكل هؤلاء.
قد يسأل أحدهم، وماذا تريد ؟! وسأجيب: لنعد إلى التقاليد السليمة ونجعل من عرسنا احتفالات بيتية صغيرة، ومن أراد أن يزيد على ذلك فليكن ذلك ضمن ما يناسب طاقته وقدرته المالية. لكن علينا، ألاّ نحوّل هذه الأمور إلى فرض اجتماعي ولنوجه إمكانات العروسين وأهلهما لبناء بيت الزوجية والإعداد لاستقبال الأولاد والقيام بأودهم ونفقات تنشئتهم وتعليمهم وغير ذلك. ولا أهمية في الحقيقة لأي عرس لكونه كبيراً أو مكلفاً، بل الأهمية هي لما يجري بعد العرس من تفاهم وانسجام وتوافق وتعاون وحياة مشتركة.
سميح ناطور – فلسطين

هاتوا القَلَم

خلّـــو القلم يحكي وبلا الخنجـر الخنجر كلامو مغمّس بأحمـــــــــــر
أما القلم رمـــز الأدب والفـــــــــن بيخلـــق مدينـــه ثوبها أخضـــــــــــــر
خلّو القلم يحكيلنـــا حكايــــــــــات عن وطـــن مخضـــــرّ وجنّــــــــــــــات
عن مدينــــــــــــــــه فاضله وآيــــات عن كـــون بالأخـــلاق يتـــــــــــــــــزيّن

خلّو القلـم يبقى بديل رصـــــاص عمينتقـــــم.عميحصد بهالنــــاس
أمّا القلــــم للمعــــرفه نبــــــــراس بيخلـــق وطـــن بالعـــدل يتعمـــــــــــّر
خلّو القلم يكتب قصص أخـلاق عن محبّـــه عن عقــــل خــــــــــــــلاق
حتى القلــب للمكرمــه يشتــــــــاق ومن عقــدة الأحقـــــاد يتحــــــــــــرّر

خلّو القلم يحكيلــنا عن عصـــــر يوم العـــدل للنـــاس يعقد نصـــــــر
ولمّا يصير الكوخ خيّ القصـــــــر بنحسّ يومهــــا العالـــم تحضّــــــــر
انشالله القلم يحكي.وبلا مدفـع يقصــف.يدمّر معمــل ومصـنــــــع
والقلــــــــــــم للمعــــــرفة مرجــــــــع بيفتـــح طريق النـــور للإنســــــــــان

يحيا القلـــم وليســقط الخنجر

أمين محمود حسن

العدد 8