الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

فريد الدين العطار

سلطان العاشقين العارفين
فريـد الديـن العطار النيسابوري

«لقد طاف العطار بمدن العشق السبع، وما زلنا نحن في منعطف جادة من جادات إحداها».
جلال الدين الرومي

كلمة «أنا» تجلب البلايا فلا تقلها
حتى لا تبتــــلي بشــــرور إبليس

من يعشق عالم الغيب فهذا هو الخلي من كل عيب

الخلق بلا وفاء وغاية في الجهل، لذا فقد تحملت الآلام وحدي
وإذا أقمت مائدة من خبز جاف فإنني أبلله بدموع عينيّ

يا من وقعت أسيراً للتعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب
إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب؟

يتربع على عرش الإرث الشعري الصوفي ثلاثة من عمالقة العرفان المسلمين هم على التوالي الحكيم سنائي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي. وقد ظهر الثلاثة إلى الوجود في حقبة متقاربة وخلف كل منهم للحضارة الإسلامية والإرث الروحي الإنساني عموماً إرثاً هائلاً ومتنوعاً ما زال يغذي بثرائه وموسيقاه وفعله في النفوس أجيالاً متعاقبة من الباحثين والسالكين والمهتمين في جميع أنحاء الأرض. ومن مظاهر إعجاز القدرة أن يتميز كل من هؤلاء بلون وبأسلوب وأن يأخذ كل منهم منحى معيناً في التعبير عن اختباره العرفاني، وهذا التنوع لا يعكس فقط اختلاف في الميزات الشخصية والذوقية وفي الزاد اللغوي والثقافي لكل من الشعراء الثلاثة، بل هو في الحقيقة برهان ساطع على إعجاز العرفاني الصوفي وتنوع رسالته ومصادر إمداده في الغيب وقد جاء في الآية الكريمة:
} قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا{ (الكهف: 109) ولا بد من القول إن كل ما جاد به شعراء الصوفية الكبار يكاد يكون قطرات لا غير من بحور المعنى التي لم يتوقف ورودها على السالكين في طريق الحق، وذلك رأفة من الله تعالى ومِنّة وإكراماً.
في هذه الحديقة المباركة يجلس فريد الدين العطار في مكانة رفيعة إلى جانب الشاعرين سنائي والرومي إلا أنه حظي بتعظيم خاص من جلال الدين الرومي نفسه الذي عاش بعده، ويقال إنه التقى العطار عندما كان طفلاً برفقة والده بهاء ولد في زيارة لنيسابور. وقد قال الرومي الذي يعدّ أعظم شعراء الصوفية في جميع العصور عن العطار: «لقد طاف العطار بمدن العشق السبع، وما زلنا نحن في منعطف جادة من جادات إحداها» وكما عظم الرومي العطار فإن العديد من أعلام الصوفية أسبغوا على شخصيته هالة وضاءة من المهابة والاحترام. وقد اشتهر العطار واحتل مكانته الفريدة فعلاً بسبب تبوّئه عرش شعر العشق الإلهي خصوصاً القصصي منه وأسلوبه العجيب في المناجاة واستدرار الرحمة والعون من الحضرة، وهو أسلوب يهيج المشاعر وأمواج الشوق والحزن معاً في صدور السالكين. وقد ألّف العطار عدداً من الدواوين والمنظومات الشعرية أبرزها وأشهرها هو ولا شك كتاب «منطق الطير» الذي سنعرض له ولأهميته في هذا القسم الأول من البحث على أن نخصص الحلقة الثانية لعرض موجز لبعض أهم حكايات منطق الطير ومعانيها الروحية العميقة.

من هو فريد الدين العطار
إنه فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر بن أبي يعقوب اسحق العطار المعروف أيضاً بنسبته إلى مدينة نيسابور من بلاد فارس، وفيها دفن وأقيم له ضريح، هو من مقامات الصوفية الأكثر اجتذاباً للزائرين.
عرف بالعطار لأنه مارس مهنة الطب والصيدلة التي ورثها عن والده وقيل إن الأخير اشتهر حتى ملك في بعض الأيام أكثر حوانيت العطارة في نيسابور وحقق من ذلك ثروة كبيرة. ويبدو أن العطار برع أيضاً في المهنة، وذكر هو أنه كان يستقبل كل يوم نحو خمسمائة مريض يجس نبضهم ويصف لهم العلاج وغالباً ما كان يصنعه هو من خلائط وعناصر في دكانه المزدهرة.
من المؤكد أن العطار سلك في طريق الصوفية وكان لا يزال يمارس مهنة العطارة فهو يخبر مثلاً أنه ألف «مصيبة نامه» و«إلهي نامه» في دكانته، حيث يقول في تقديم كتابه الضخم «تذكرة الأولياء»: «مصيبة نامه وهي حسرة العالم وإلهي نامه وهي الإسرار المشهودة، بدأتهما في الصيدلة وسرعان ما فرغت من كليهما». ويضيف في مقدمة تذكرة الأولياء ما ترجمته:«وباعث آخر – لتأليف الكتاب- هو أنني بلا سبب كنت أشعر منذ الطفولة بمحبة زائدة تجاه هذه الطائفة تموج في قلبي، كما كانت أقوالهم تسعدني في كل آونة».
وهذا يعني أن العطار كان مولعاً بطريق التصوف منذ صغره لا سيما وأن والده كان سالكاً في طريق القوم، كما أن الحقائق الصوفية العميقة التي يعبّر عنها في الكتابين المذكورين تؤكد أنه كان قد بلغ مرحلة متقدمة من الاختبار الصوفي قبل أن يهجر دكانه. لكن العطار سيقرر لاحقاً التخلي عن مهنة العطارة والتفرغ للخلوة والعبادة، ولا توجد رواية واضحة عن زمن وظروف تركه للمهنة ودخوله مرحلة الاعتكاف وترك الدنيا بكل وجوهها، إلا أن عبد الرحمن الجامي يورد في كتابه «نفحات الإنس» رواية جاء فيها: «ذات يوم كان العطار في دكان عطارته فجاءه هناك فقير، وقال له مرات عدة: أعطني شيئاً لله. فلم يأبه له. فقال الفقير: أيها السيد كيف تموت؟ فقال العطار: كما ستموت أنت. فقال الفقير: أيمكنك أن تموت مثلي؟ فقال العطار: نعم. فوضع الفقير قدحه تحت رأسه وقال: الله! وأسلم الروح. فتغيّر حال العطار وتخلص من متجره توا وجاء إلى هذا الطريق». وقد تكون هذه الرواية صحيحة وقد لا تعدو كونها بعض ما ينتجه خيال العامة حول حياة الأولياء من الفصول المثيرة. ولا بدّ من القول إن القصة تتحدث عن رد العطار للسائل الفقير وهذا مناقض لشيم العطار نفسه وللصوفية عموما،ً كما أن واقع أن العطار أنجز تأليف اثنين من أهم كتبه في عطارته، كما يقول يلقي بشكوك قوية على الحكاية التي تجعل من تحول العطار إلى طريق الزهد بالدنيا تحولاً مفاجئاً نجم عن حادث غير متوقع اعترض حياته العادية. وتذكِّر القصة بما حدث للحكيم سنائي مع «المجنون» الذي أنبه لمجالسته السلطان وسعيه في الدنيا، كما أنها تذكر بقصة إبراهيم بن أدهم وتحوله المفاجئ إلى الزهد، كما أن جلال الدين الرومي أيضاً تبدّلت حياته جذرياً بمجرد اعتراض سيره من درويش أمي غامض هو شمس تبريز.
تتفق المصادر المختلفة على أن والد العطار اسمه إبراهيم وكنيته أبو بكر وكان يعمل عطاراً هو الآخر، وكان من مريدي الشيخ الصوفي قطب الدين حيدر في قرية كدكن، وهي إحدى قرى نيسابور. وقد عمر والد العطار إلى ما بعد الثمانين من عمره، كما أن امه كانت على قيد الحياة يوم وفاة أبيه ويعتقد أنها توفيت أثناء تأليف العطار لكتاب «اسرار نامه»، وأنها كانت من أهل المعنى وقد بكاها العطار، وكتب يقول:«لم يكن لي إنس إلا بأمي، وقد ذهبت. كم أشدت أزري هذه الضعيفة التي كانت خليفة من مملكة الدين، لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت، ولكنها كانت لي حصناً ودرعاً». وكانت كما يقول «رابعة الثانية بل أتقى من رابعة، بقيت تسعة وعشرين عاماً تلبس حقير الثياب وخشِنَها، وكانت تقوم الليل دعاء وبكاء».

«شكرا لله أنني لم ألجأ إلى قصر ولم أكن ذليلاً لحقير ولم أُطعم من خوان أي ظالم أبداً، ولم أختم كتاباً بذكر أحدهم مطلقاً»

لقاء العطار والرومي
تحدّث المؤرخون عن لقاء العطار بجلال الدين الرومي الذي كان يومها ولداً صغيراً وقد اصطحبه والده «بهاء ولد» إلى نيسابور حيث زار الشيخ فريد الدين العطار، ويقال إن العطار أخذ الطفل جلال الدين بين ذراعيه وبشر والده بأن له مستقبلاً عظيماً ثم باركه وأعطاه نسخة من منظومته «أسرار نامه»
وليس هذا بغريب، فمن عادة الصوفية أثناء الترحال الإسراع بلقاء كل شيخ عارف مشهور تسنح لهم فرصة اللقاء به. وقد كان العطار يوم زيارة بهاء ولد إلى نيسابور قد أصبح ذائع الصيت ولا بد أن بهاء ولد كان في شوق لرؤيته فانتهز تلك الفرصة.
اختلف المؤرخون في تحديد سنة ولادة فريد الدين العطار لكن الرأي الأغلب هو أنه ولد بين سنتي 545 و553 هجرية. لكنّ المؤرخين اتفقوا على أن العطار عمَّر أيضاً حتى سن الكهولة وذهب بعضهم إلى أنه عاش حتى بلغ 114 عاماً. لكن الرأي المرجح بناء لبعض تلميحات العطار نفسه في شعره أنه بلغ الثمانين من العمر.
توفي العطار بإجماع أغلب المؤرخين في سنة 627هـ. وفاة طبيعية ودفن في نيسابور حيث يقع ضريحه .
مؤلفاته
هناك تباين كبير في تحديد عدد المؤلفات التي كتبها فريد الدين العطار، وذلك بسبب الكم الكبير من المؤلفات التي نسبت إليه أو دُست عليه لأغراض معينة، لكن يوجد في الوقت نفسه اتفاق على أن الكتب الصحيحة النسب إلى فريد الدين العطار، تسعة وهي:
1.تذكرة الأولياء – 2.أسرار نامه – 3.إلهي نامه – 4.يند نامه – 5.خسرو نامه – 6.الديوان – 7.مختار نامه – 8.مصيبة نامه – 9.مصيبت نامه – 10.منطق الطير.
وجميع هذه الكتب شعرية، عدا كتاب تذكرة الأولياء الذي تناول فيه بالشرح والدراسة أحوال عدد كبير من أعلام التصوف، ويقع في جزءين كبيرين، وقد أشرف على طبعه وتصحيحه العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني، كما أن هذه الكتب نشرت وترجم بعضها إلى لغات عدة. لكن لم يترجم منها إلى العربية إلا كتاب يند نامه (أي كتاب النصيحة) وتبع ذلك ترجمة كتاب منطق الطير وأخيراً تذكرة الأولياء.

شيخ العطار
التقى العطار بالشيخ مجد الدين البغدادي، وقال البعض إنه كان من أنصار الشيخ نجم الدين كبرى لكن الرأي الأرجح أنه تأثر بالشيخ أبي سعيد ابن ابي الخير المتوفي سنة 440 هـ. والدليل على ذلك أنه أكثر من مديحه فقد ذكره في تسع حكايات في «مصيبة نامه» وفي خمس حكايات في «إلهي نامه» وفي ثلاث حكايات في منطق الطير وفي حكاية واحدة في «أسرار نامه»، وكل هذه الحكايات تعظم أبا سعيد غاية التعظيم.
كما أن العطار أشار صراحة إلى أن ما بلغه مستمد من روحانية الشيخ أبي سعيد فضل الله ابن أبي الخير.
«إنني أدرك أن كل حظ أجده في هذا الزمان من أنفاس أبي سعيد».
«كما أنني أحظى في كل لحظة بنصيب وافر من سبل مدده».
لكن العطار تأثر أيضاً بالإمام أبو حامد الغزالي بدليل أن الغزالي كان أول من أعلن الحرب على الفلسفة وقد تابعه العطار في ذلك، كما أن العطار متأثر في بعض قصصه بالغزالي وخصوصاً قصة منطق الطير التي أخذ أصولها عن «رسالة الطير» للغزالي، كما أن العطار أخذ قصة الشيخ صنعان عن الفصل العاشر من تحفة الملوك للغزالي. أخيراً فإن الغزالي قام بالتدريس في نيسابور فترة من الزمن ولا بدّ أنه ترك آثاراً كبيرة فيها، وأن بعض تأثير الغزالي وصل إلى العطار وإن كان من المرجح أن الرجلين لم يلتقيا.
كان العطار ذا ثقافة واسعة تغطي مختلف جوانب الفقه وعلوم الحديث والتاريخ والطب والفلك وكان حافظاً للقرآن شغوفاً بقراءة سير السابقين من الأئمة والأولياء الصالحين وكتابه «تذكرة الأولياء» خير دليل على ذلك. إذ يقال إنه قرأ من كتب السير والتراجم ما وصل مجموعه إلى أربعمائة كتاب في سياق جمع مادة «التذكرة».

ابتعاده عن أهل السلطان
كان العطار يعيش بيسر ودعة من جراء عمله في مهنة الطب والصيدلة، وكان يستقبل حسب قوله نحو خمسمائة مريض يومياً ويصف لهم الدواء أو يصنعه بنفسه. وقد ساعدته مهنته على أن يحتفظ لنفسه بحرية تامة، وأن يجانب أهل السلطان منصرفاً بكليته إلى مهنته أولاً ثم إلى العبادة والتأليف. ولم يؤثر عنه انه أهدى كتاباً من كتبه إلى ملك أو أمير، كما فعل سنائي الشاعر الصوفي الذي ختم سير العباد إلى المعاد بمدح أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور قاضي سرخس.
وهو يقول في منطق الطير ما ترجمته:
لكن حال العطار تبدّلت بعد أن هجر الصيدلية ودخل في مرحلة من الاعتكاف والبعد عن الناس وعاش على أبسط الطعام، كما يقول هو في منطق الطير:
«الخلق كلهم بلا وفاء وغاية في الجهل، لذا فقد تحملت الآلام وحدي وإذا أقمت مائدة من خبز جاف فإنني أبلله بدموع عينيّ».
وفي شعر آخر شبّه العطار نفسه في عزلته وابتعاده عن الخلق بمالك الحزين.
«يقولون: ما له آثر العزلة، لا! إنني أصادق الله في هذه العزلة»
«ولا صديق لي بين الخلق، وإن كنت أفعل ذلك فلأنني في الطبع مثل مالك الحزين».

ناهض الفلسفة لقيامها على التأويل العقلي الظني لشؤون لا يمكن إدراكها إلا بالمجاهدة والكشوفات القلبية، مؤكداً أن العقل الإنساني قاصر، وهو عرضة لمختلف أنواع التأثر والتوهم والأهـواء

ن-حدائق-نيسابور
ن-حدائق-نيسابور

مناهضته للفلسفة
يتفق الصوفيون على اختلاف مشاربهم على مناهضة الفلسفة بإعتبارها تقوم على التأويل الظني لشؤون لا يمكن إدراكها إلا بالمجاهدة والاختبار الحدسي. فالحقائق العلوية أو «العلوم اللدنية» لا تأتي في نظر أهل التصوف من طريق إعمال العقل، لأن العقل الإنساني قاصر – وهو عرضة لمختلف أنواع التأثر والتوهم والأهواء- بل عن طريق الكشوفات التي ترد على القلب غالباً بفعل إمداد المرشد وفي سياق تربيته للسالك أو المريد. وبهذا المعنى فإنه لا تعلُّم في نظرهم من دون معلم، أو كما يقولون «من ليس له مرشد فمرشده الشيطان»، وهم يعنون بذلك أن من لا يأخذ المعرفة عن طريق مُسلِّك عارف بالأسرار فإنه سيقع عاجلاً أم آجلاً في الحيرة ويقيم علمه على الظن وأهواء النفس فيصبح بذلك فريسة سهلة للشيطان.
يبقى القول إن العطار ناهض الفلسفة بقوة كما ناهضها الإمام أبو حامد الغزالي في مؤلفه الشهير «المنقذ من الضلال»، وكذلك في كتاب «تهافت الفلاسفة»، إلا أنه ناهضها بشِعرِه القلبي واختباره الروحي المباشر وإعلائه لشأن العشق والفناء كطريق للكشف العرفاني. وجاء نقد العطار للفلسفة صدى لإزدهار ما سمي في عصره علم الكلام، وما أثاره عبر نظريات الفارابي وابن سينا من جدالات ومحاكمات عقلية لا تنتهي حول الوجود والعالم، وكل تلك النظريات المتضاربة كانت كلها في نظره نتاج الخيال ولا تفعل سوى قطع السالك عن مسيره عبر إلهائه بجدل يقوم كله على الظن وليس الاختبار اليقيني.
«وكيف تعرف عالم الروحانيين من بين فلسفة اليونانيين»
«ولن تكون رجلاً في حكمة الدين إن لم تفارق تلك الحكمة»
«وكل من يحمل هذا الاسم (فيلسوف) في طريق العشق فلن يكون خبيراً في مجال الدين بالعشق»
«يكفي رجل الدين حكمة السيرة (المحمدية) فانثر التراب على مفرق اليونانيين من طريق الدين»
«وإن يقطع علم الجدل الطريق فهو كثيراً ما يقطعه على العارفين».

مناهضته للتعصب
كان العطار معادياً للتعصب والمتعصبين، وهو كتب في مقدمة منطق الطير فصلاً مسهياً حاول فيه تسفيه منطق المتعصبين وتعييرهم بالجهل بصورة عامة وبجهل حقيقة النبوة وحقيقة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام. يقول العطار في مطلع منطق الطير ما ترجمته:
«يا من وقعت في أسر التعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب، إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب؟ فيا أيها الجاهل لا توجد الرغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى الرغبة لدى أبي بكر وعمر؟
يشير بعض المؤرخين إلى أن العطار كان سنياً شافعياً لكن شعر العطار يوحي بأنه كان مثل أهل الصوفية منفتحاً على المذاهب فهو مدح الخلفاء الراشدين وخص الإمام علي (ع) بالكثير من المديح، كما أنه ذكر أبا حنيفة وترجم له ومدحه في كتاب تذكرة الأولياء وذكر الإمام الشافعي، وخص أحمد ابن حنبل بحكاية في منطق الطير.
ونعود إلى نقطة أساسية هي أن العطار مثل جميع الصوفية الكبار هو من أهل المعنى والتحقيق وهو لا يرى من منظار مقام التوحيد سوى التوحيد، فلا توجد في ذلك المقام مذاهب ولا اجتهادات ولا فوارق لكن العطار يلتزم أدب الصوفية في احترام مختلف العقائد والنظر إلى التنوع بعين الوحدة. لهذا السبب، فإن معظم أقطاب الصوفية عظموا القرآن الكريم والرسول (ص) والصحابة كما عظموا الأنبياء الذين عظمهم الإسلام لكنهم لم يدخلوا إطلاقاً في جدل المذاهب، ولم يذهب أي منهم إلى القول بهذا المذهب أو ذاك، وقد كان هذا التباين، أو قل التنوع، شائعاً بين الفقهاء وهو أمر اعتبره الإسلام أمراً إيجابياً بدليل الحكمة الشائعة «اختلاف الأئمة رحمة للأمة».

مكانة العطار
يحتل فريد الدين العطار مقاماً رفيعاً بين شعراء الصوفية، وهو أحد الذين ألهبوا مشاعر العابدين وألهموا العديد من شعراء الصوفية في ما بعد، وها هو جلال الدين الرومي الذي يعتبر العطار أحد مصادر إلهامه يقول:
«العطار روح وسنائي عيناه، ونحن خلَفنا سنائي والعطار»، وقد نهج شعراء المولوية، وهم أتباع جلال الدين الرومي على نهج مؤسس الطريقة في إحاطة اسم العطار بهالة من الحرمة والقدسية، فالشاعر المولوي محمد أفندي وهو من شعراء القرن الثالث عشر الميلادي يقول في إحدى غزلياته:
«إن مصباح طبعي يشتعل عن قاسم الأنوار، ويتنسم أنفه عطر الفناء من العطار».
ويقول الشاعر كاتبي النيسابوري:
«إنني كالعطار من روضة نيسابور، ولكنني شوك في صحراء نيسابور وهو وردها».
وكتب الحاج ميرزا عبد الكريم بخط يده بيتين على نسخة من ديوان العطار هذه ترجمتها:
«إن العطار كاشف أسرار الوجود وإنه كسنائي من فيض الإله
فاقرأه دائماً كما تقرأ القرآن فإنه يحيل أهل الشكوك أهل شهود».

مدح العطار لشعره
الملفت أن العطار نفسه كان معجباً بشعره ليس من منظور التفاخر بل لأنه اعتبره نتاج إلهام رباني وإمداد أولياء المعنى الذين تعهدوا مسيرته الروحية والشعرية. وهذا بعض ما جاء في خاتمة منطق الطير على لسان الشاعر:
«لقد خُتم عليك منطق الطير ومقامات الطيور كما ختم على الشمس بالنور»
«وهذه المقامات طريق كل حائر، كما أنها ملاذ لك مضطرب»
«وكل من لم يتنسم قولاً من هذا الاسلوب، فما أدرك قيد شعرة من طريق العشاق»
«وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيراً، فبلا شك سيزداد حسناً في كل مرة لديك»
« ولقد نثرت الدر من بحر الحقيقة، كما ختم عليّ الكلام وهذا هو الدليل»
«وإن تلاشت هذه الأفلاك التسعة من الوجود، فلن تضيع نقطة واحدة من هذه التذكرة»,
وقال أيضاً:
«وأهل الصورة غرقى بحار كلامي وأهل المعنى رجال أسراري»
«إن نظمي يتسم بخاصية عجيبة فهو يولد معنى جديداً في كل آونة»
«وحتى يوم القيامة لن يكتب شخص قط كلاماً مثلي أنا الولهان»

منطق الطير
يعتبر كتاب منطق الطير أهم مؤلفات العطار الشعرية، كما أنه من أعظم ما نظم في الأدب الفارسي عامة وفي الأدب الصوفي بشكل خاص. وقد توسّل الشاعر في نظم منطق الطير قصة النبي سليمان بن داود في القرآن الكريم وحديثه مع الطير، والقرآن الكريم تكثر فيه الآيات التي تفيد بأن للطير لغته الخاصة. من ذلك ما جاء في سورة النمل
} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{ (النمل:18)
كما أنطق الله سبحانه وتعالى الهدهد الذي قال موجهاً كلامه إلى الملك سليمان:
}فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ { (النمل:22).
وجاء في القرآن الكريم قول النبي سليمان لقومه إن الله علمه لغة الطير }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ{ (النمل:16)
كما أن القرآن الكريم يورد أمثلة عديدة على أن الطيور وكافة المخلوقات تسبح الله تعالى }وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ{ (الإسراء:44) كذلك قوله تعالى في سورة النور: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ{ (النور: 41)
كل هذه الأمثلة وفرت للعطار المنطلق الإيماني لكتاب منطق الطير، لكن الشاعر وجد في استخدام عالم الطير أيضاً ميزات شعرية مهمة لجهة استخدام الرمزية وإسناد الصفات المختلفة للطيور بما يجعل سهلاً عقد رابط بين سلوكها في الرحلة وأقوالها وأعذار كل منها وبين ما يتعرض له السالكون في الطريق، لكن بأسلوب شاعري خيالي يضفي على الرواية سحراً خاصاً بل وأثراً روحياً في النفوس، كما أن استخدام الطير مكّن العطار من الحديث عن الطيران، وهو صورة جميلة للارتقاء، كما مكّنه من استخدام صورة الهبوط والتعثّر في الأودية التي تعترض السالك في رحلته إلى المعرفة.

بنية الكتاب
تبدأ قصة منطق الطير باجتماع للطيور استهدفوا منه البحث عن طريق موصل إلى الله تعالى ومعرفة سبل السير عليه بحيث لا يضيع المسافر في الطريق ويتعرض إلى المهالك. وكان أول ما فعلته الطير هو اختيار الهدهد مرشداً لها يتولى السير بها نحو الله تعالى، والذي يرمز له العطار بطائر السيمرغ، وهو طائر متخيل لا وجود له في الطبيعة، وقد بدأ الهدهد بتعريف الطيور بمصاعب الطريق وما ينتظرها فيه، وقد أثر إدراك الطيور بقدر المشاق والمخاطر التي تكتنف الرحلة في عزيمتها، وبدأ كثير منها بالتلكؤ وإيجاد الأعذار للهدهد الذي كان يرد على كل من تلك الأعذار ويحث كل منها على متابعة السير. ويعرض العطار في الكتاب للأودية السبعة التي لا بدّ للسالك من اجتيازها، وهذه الأودية هي وادي الطلب ووادي العشق ووادي المعرفة ووادي الاستغناء ووادي التوحيد ووادي الحيرة وأخيراً وادي الفقر، وهو آخر الأودية الموصل إلى الفناء.

الصوفي والتكليف

يعتبر العطار التمسّك بأهداب الدين شرطاً أساسياً للطريق، وهو في هذا لا يختلف عن أعلام الصوفية الذين أعلنوا دوماً تمسكهم بالشريعة. لكن العطار شأنه شأن صوفيين كبار مثل نجم الدين كبرى والبسطامي والرومي وغيرهم يعتبر استغراق القلب وإقبال الروح على الله في حالة الفناء أعلى من التكليف. وهو يورد المثال التالي وينسبه إلى لقمان الحكيم.
طلب لقمان السرخسي من الله أن يمنحه السعادة فقال له هاتف:”يا من يعد من خواص الحرم، إن كل من يطلب الخلاص من العبودية عليه أن يفنى عقله وتكليفه معاً. فقال: “إلهي، إني أطلبك أنت على الدوام، وليس لي بالعقل والتكليف أي اهتمام”.
وأخيراً خرج عن حدود العقل والتكليف، وظل يرقص مما تملكه من جنون، ويقول: إني لا أعرف الآن من أنا، فإن لم أكن عبداً فمن أنا؟ لقد انمحت العبودية، وانعدمت الحرية، وما تبقى من ذرّة هم أو بارقة سعادة في القلب، وهل عدمت الصفة؟ وهل أنا عارف؟ أم أنني لا اتسم بأي معرفة؟ ولا أعلم أأنا أنت أم أنت أنا؟ فقد فنيت فيك وتلاشت الأنية.

آراء العطار في منطق الطير

أولاً: المرشد والمريد
بدأ العطار منظمته بمشهد اختيار الطيور للهدهد مرشداً لها تأتمر بأمره وتتبع هديه وإرشاده، وعرض العطار في هذا الفصل لأهمية المرشد في طريق المعرفة وأهمية التسليم له بالكلية حتى يصبح المريد بين يدي الشيخ مثل «الميت بين يدي الغاسل»، لأنه من دون هذا التسليم لا يمكن للمريد متابعة السير. يصف العطار هذا المبدأ الأساسي في مسلك الصوفية فيقول:
«وقال الجميع: يجب أن يكون لنا رائد في طريق البحث، يكون له علينا العقد والحل
ويكون مرشدنا في الطريق، لأنه لا يمكن قطع الطريق اعتماداً على الغرور
وسننفذ أوامر حاكمنا بأرواحنا، ولن نقطع الطريق إلا بحكمه وأمره
وبعد الاقتراع لصالح اختيار الهدهد مرشداً في هذه الرحلة الشاقة يتحدث العطار عن أهمية التسليم التام للمرشد من قبل المريد بالكلام التالي:
«وتعهد الجميع أن يكون هو (الهدهد) رئيسهم، وأن يكون مرشدهم في الطريق وهاديهم. والحكم حكمه والأمر أمره ولن يبخل أحد عليه بالروح أو بالجسد» .
وفي هذه الأبيات يوضح العطار بعض مبادئ الصوفية حول علاقة الشيخ بالمريد وهي:
لا بد أن تكون للسالك الرغبة الجامحة في السير إلى جناب الحق، وهذا واضح في مقدار عزم الطير على المسير.
لا يمكن قطع الطريق بلا مرشد أو دليل يعرف أسرار الطريق وطرق الوصول إلى الهدف، لأنه أولاً هو واصل وباتت لديه خبرة طبيب القلوب وتخليص المريد من أدران النفس، وتربيته بحيث يصبح أهلاً لتسلّم الأسرار، وهذا يعني أن المريد يبدأ طالباً لكنه جاهل بسبل الوصول ومخاطر السير، فإذا سار بمفرده فإنه سيتبع هواه والأوهام المسلطة على عقله فيضل.
والعطار يشير إلى تلك المبادئ في سلوك أهل المعنى بالقول:
«ولا بدّ للطريق من شيخ ولا تسر بمفردك ولا تسلك هذا البحر مسلك التخبط والعمى.
وإذا كنت لا تميّز بين الطريق والهوة السحيقة فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل.
«وليست لك عين بصيرة، كما أن الطريق ليست قصيرة والشيخ في طريقك هو هادي الطريق».
والولاية في رأي العطار منحة إلهية لا تتم بالمجاهدة والرياضة بل يهبها الله سبحانه وتعالى لمن أراد. وهو يشير إلى أن الشيخ المرشد يصل إلى الولاية بنظرة تصيبه من صاحب الحضرة فترفعه هذه النظرة إلى مقام المرشد،.شرح العطار ذلك في جواب الهدهد لطائر سأله كيف حظي بهذه المكانة العالية دون سائر الطير. قال العطار على لسان الهدهد:
«أيها الطائر لقد كان سليمان يديم النظر صوبي في كل آونة.
ولم أحصل على ذلك بالفضة أو الذهب، وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة».
ومن صفات الشيخ حسب العطار، أن يكون قد وصل إلى إدراك الحقيقة كما يكون قد خبر الطريق وطاف بكل وديانه، فقد قال على لسان الهدهد:
«وجئت وقد أمدتني الحضرة بالمعرفة، وصرت صاحب أسرار بالفطرة
ولقد قضيت السنين في البحر والبر، وكم أصابني الاضطراب من قطع الطريق».

ثانياً: الله والعالم
يقول العطار في منطق الطير:
«وعندما هبطت الروح إلى الجسد صار الجزء كلاً، والروح: تتصف بالطهارة، أما الجسد فصفته الذلة والمهانة. وسرعان ما اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد المهين، وما أن اتحد السمو بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار».
أي أن الإنسان، كما يرى العطار وغيره من المتصوفة، مكون من جسد نزاع للشهوات والعودة إلى أصله الخسيس وروح نزاعة إلى الطهر والعودة إلى أصلها العلوي أو القدسي. يقول على لسان الله تعالى موجهاً كلامه إلى النبي داود عليه السلام:
«ولما لم يكن هناك عوض لي فلا تكن بدوني، وأنا يكفيني الروح فكن روحاً ولا تكن جسداً».
أما عن طبيعة الصلة بين الله والعالم فهي حسب تصوير العطار مثل الصلة بين القطرة والبحر وما البحر إلا الله وما القطرة إلا العالم.
«وحضرة الحق بحر خضم عظيم، وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم ومن يملك البحر يملك القطرة، وكل ما عدا البحر هوس وجنون».
ويستخدم العطار تصويراً رائعاً ثانياً لمحاولة تقريب صلة الله بالعالم إلى الإذهان مستخدماً مثل العلاقة بين الشمس والظل. فالعالم ما هو إلا ظل الله سبحانه وتعالى. وحين سأل طائر الهدهد أن يوضح العلاقة بين «السيمرغ»، أي الله تعالى، وبين الطير أي الإنسان، قال الهدهد:
«عندما رفع «السيمرغ» النقاب فإن وجهه بدا كالشمس المشرقة، وسقطت منه مئات الألوف من الظلال على التراب، وقد نثر ظله على العالم فأصبحت تلك الطيور، وصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظل للسيمرغ».
ويقول العطار على لسان الهدهد:
«إن كل ثوب يكسو المروج ما هو إلا ظل للسيمرغ، ونحن نعرف السيمرغ في هذا الظل، لأن السيمرغ لا ينفصل عن الظل، ولا ينبغي للإنسان أن يبقى أسير الظل يتخبط فيه، وإنما يجب عليه أن ينظر في ظل السيمرغ وسيرى الشمس وسط الظل، وإذا فتح باب المعرفة فسترى كيف تتلاشى الظلال في الشمس وتشاهد كذلك أن كل شيء هو الشمس».
وفي مقدمة منطق الطير يناجي العطار ربه فيقول:
«ولما كنا متلازمين دائماً، فأنت كالشمس ونحن كالظل».
ويقول :
«وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر، ولكن لم يدرك أحد قط ما في قاعه. فالكنز في القاع وما الدنيا إلا طلسم، وفي نهاية الطلسم سيتحطم قيد الجسد، وستجد الكنز عندما يفنى الطلسم أولاً، وستظهر الروح عندما يفنى الجسد، وبعد ذلك فما روحك إلا طلسم آخر، فروحك للغيب جسد آخر وما الغيب إلا الله».
ويستخدم العطار صورة المولّى والعبد ليصف علاقة الإنسان بالله يقول:
«أنا بالنسبة لك عبد بذول للروح ولي وسم كالحبشان منك، وإن لم أكن لك عبداً فكيف أكون سعيداً؟ وقد احترق قلبي حتى أصبحت عبداً لك، فلا تبع عبدك الموسومن ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك».
بناءً على هذه الصور الثلاث، فإن العالم عدم لا وجود له ولا وجود إلا لله الأعظم وهو صاحب الوجود وحده. وما دام الوجود لله وحده وما عداه عدم فلا يمكن أن يصدر عن العدم فعل فالفاعل هو الله وحده }فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ{(هود: 107)
«فقال صاحب الحضرة: أيها العجزة، يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة
فإن تكونوا أو لا تكونوا في الدنيا فهو السلطان المطلق الأبدي»
كما أن الملك محمد الغزنوي يرد على ذلك الذي حادثه في دار القرار وسأله عن حاله فيها مخاطباً إياه بلقب السلطان. يقول:
«إن سلطاني خيال وغرور، إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط؟ الله وحده هو السلطان مالك الدنيا، وهو الحقيق بهذه السلطنة، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالعار من سلطنتي».
وما دام الله هو السلطان وحده والخلق ظل له فهو في غنى عن الخلق وطاعتهم لن تنفعه بشيء كما أن معصيتهم لن تضره بشيء فكل شيء قد يخطر على بال بشر أو لا يخطر متوافر لديه، وخزائنه لا يمكن أن تنقص من المنة والعطاء.

الهدهد-الذي-ذكره-القرآن-الكريم-في-سورة-سبأ-جعله-العطار-مرشدا-للطير-إلى-الله-في-كتاب-منطق-الطير
الهدهد-الذي-ذكره-القرآن-الكريم-في-سورة-سبأ-جعله-العطار-مرشدا-للطير-إلى-الله-في-كتاب-منطق-الطير

وما أكثـــــر من خبروا سطح ذلك البـــحر ولكــــن لم يدرك أحــد قط ما في قاعـــــه

جانب-من-بازار-نيسابور
جانب-من-بازار-نيسابور

فناء السالك في الله أشبه بفناء القطرة في البحر والظل في الشمس والفـــراشة فــي شعــلة النور

 

عالم الوحدانية والفناء في الله
يبدع العطار في أوصافه الشاعرية للوحدانية وهو يختلف هنا في وصفه عن مفهوم وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، :
«وعلى أي شيء يستقر الفضاء؟ لم يستقر على شيء مطلقاً، فلا شيء إلا العدم، وما كل هذه الأشياء إلا عدم مطلق، فأمعن التفكير، في صنع الله، إذ كيف يحفظ هذه الأشياء مستندة إلى العدم؟ وإذا كانت كلها في عالم الوحدانية عدماً، فهذه كلها عدم ولا ريب. فالجميع هو الله، وما هذا العالم أو ذاك إلا الله وحده، ولا وجود إلا له، وإن كان هناك موجود فهو الموجود وحده».
فالوحدانية بالنسبة للعطار لا تعني وحدة الوجود بل وحدة الموجود بمعنى أنه وحده الموجود وكل ما عداه في عالم الصورة عدم متخيل ونتاج الوهم.
«فتخلَّ عن نفسك، فهذا أصل الكمال، وكفى، وافن نفسك، فهذا عين الوصال، وكفى، فلتفن نفسك فيه حيث في الفناء الخلود، وكل ما عدا ذلك ضرب من الفضول، ولتمضِ في طريق الوحدانية متجنباً الثنائية، وليكن لك قلب واحد وقبلة واحدة وطريق واحد».

دعوته لكتم الحقيقة عن غير أهلها
والعطار رغم جرأته في البوح بسرّ الوحدانية يدرك بحكمته ويعي دقة الكلام في الموضوع، والذي يجب أن لا يتجاوز الخاصة والراسخين في التجربة وعالم البرهان، وهو يوصي بكتمان الحقائق الملكوتية عن العامة والاحتفاظ بالسر، يقول:
«فإذا عرفت فتبين الحقيقة وكن حذراً، وإذا عرفت فلا تكن مفشياً للسر وكل من صار هكذا فإنه يكون مستغرقاً، فحاشا لله أن تقول «أنا الحق»، وإذا لن تصر مثلما قلت فأنت لست الله، ولكنك مستغرق في الحق دائماً، وكيف يكون المستغرق حلولياً؟ وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي؟»
«لا تقل ذلك ما لم تأتِك إشارة بذلك، ولا تتحدث عن شيء ما لم يأتِك به بيان، أما هو فلا تليق به الإشارة ولا البيان، وليس لإنسان قط علم به، ولا عرفان التجربة والمقربون من جنبا الحق، فهو ينصح السالك المطلع بالكتمان ويضيف وعبرة الحلاج لا شك ماثلة في ذهنه».

صور الفناء في شعر العطار
فناء السالك في الله كفناء القطرة في البحر، وقد وضع العطار هذه الصورة في نهاية الحديث عن وادي الفقر والفناء، وهو يقول:
«إذا هاج وماج البحر الكلي فهل تبقى نقوش على صفحة البحر؟ إن كلا العالمين نقش ذلك البحر. وكل من أصابه الفناء في بحر الكل فهو دائما فانٍ بالٍ، والقلب في هذا البحر الغاص بالفناء لا يجد شيئاً إلا الفناء.. وإذا فني نجس في بحر الكل صار إلى القاع ذليلاً بصفاته، ولكن إذا مضى فيه رجل طاهر فسيفنى فناء حقيقياً، ولن يبقى له أثر، فتصبح حركته هي حركة البحر».
في صورة أخرى يشبه العطار فناء السالك بالله بفناء الظل في الشمس، وهو يقول في نهاية القصة بعد أن وصلت الطير إلى السيمرغ، وتمّ اللقاء بينها وبينه وتمّ لها الفناء. يقول:
«لقد انمحوا فيه في النهاية على الدوام، كا يفنى الظل في الشمس والسلام».
ويشرح العطار هذه الصورة في كتاب مختار نامه فيقول:
«إن النبي يقول للسالك: إذا أردت أن تخرج عن نفسك، وأن تفنى، فلا بدّ وأن تصبح لا شيء في ذات الله، كن ظلاً يضيع في الشمس، كن لاشيء والله عالم بكل شيء».
يقول العطار:
«إن لم يصبك النقصان في الفناء فلن ترى السلامة مطلقاً في البقاء. وفي الطريق تُلقى إليك الذِلة في البداية ثم ترتقي فجأة بالعِزة، فصِر إلى العدم حتى تدرك الحياة في أثر ذلك، فما دمت موجوداً فكيف تصل الحياة إليك، وإن لم تُمحَ في الذلة والفناء فكيف يصلك من العزّ إثبات البقاء».

ما-هذه-الدنيا-إلا-وهم
ما-هذه-الدنيا-إلا-وهم

التحقق الصوفي
التحقق أي تلقي الكشوفات الربانية والعلم اللدني غير ممكن في نظر العطار من دون الفناء في العشق والمحبة. يقول في هذا المعنى:
«فما أن جئت من العدم إلى الوجود، حتى جئت أسير وجودك، فيا ليتك تكون الآن كما كنت أولاً، حيث كنت عن الوجود معطلاً، فطهر نفسك كلية من الدنية، ثم أسلم هذه النفس إلى الريح بعد ذلك ووارها التراب.
ويضيف في مكان آخر:
«وأنت يا عطّار متى تتخلص من هذا الكلام المجازي؟ وتعود إلى سر أسرار التوحيد؟ فعندما يصل السالك إلى ذلك المكان، يتلاشى الرجل والمكان من الطريق، يتلاشى لأنه هو وحده الظاهر والبادي، ويلزم الصمت، لأنه وحده المتكلم والناطق، ويفنى الجزء ويبقى الكلّ، ثم يفنى الكلّ والجزء معاً»
أفاض العطار كثيراً في منطق الطير في الحديث عن العشق، وهو القوة الخفية التي تدفع السالك للمضي قدماً في الطريق شوقاً للقاء بالمحبوب الأزلي. وقد اعتبر العطار وغيره من الصوفية العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر فهو يفوقهما معاً.
«كل من كانت له قدم في طريق العشق راسخة فقد تخطى الكفر والإسلام معاً».
اعتبر العطار العشق أسمى مكانة من العقل البشري فقال:
الفارق بين العقل والعشق هو أن الأول مخالط للطبيعة والثاني من الذات الإلهية.
وقد نصح أحد شيوخ الصوفية مريده بالقول:
«عليك بإفناء نفسك في العشق تماماً حتى تصبح في الضعف كالشعرة».
والعشق نوعان: عشق دائم هو عشق المعرفة، وعشق زائل هو عشق الصورة الذي يزول بزوال الصورة. يقول العطار:
«ومن يعشق عالم الغيب فهذا هو العشق الحق، إذ أنه خلي من كل عيب»
كما أن الهدهد يرد على البلبل وهو يتباهى بعشق الوردة فيقول له: يا من تعلقت بالصورة لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميل فعشق شيء مآله الزوال يصيب العاقلين بالملل والضجر».
ويرى العطار أن عشق الذهب يصيب الإنسان بالبلايا، وهو دليل الكفر، وفي الآخرة تمسخ صورة عابد الذهب».
والعاشق يفضّل المعشوق على كل ما عداه من نعيم وملك وأموال، كما جاء في قصة ذلك الوقّاد الذي كان محمود الغزنوي ينزل عليه ضيفاً. وفي زيارة قال السلطان محمود للوقّاد: اطلب ما تبغي وأنا أحققه لك في التو والحال، ولو طلبت أن تكون ملكاً لما توانيت في تحقيق ما تريد. ولكن الوقّاد يقول: إنني أطلبك أنت ولا حاجة لي إلى هذا أو ذاك.
«أنا لا أطلب مُلكاً ولا سلطنة، ولكن كل ما أطلبه منك هو أنت»
والعاشق الحق هو الذي يتخلى عن روحه طواعية من أجل محبوبه ويتضح ذلك من قصة الفقير الذي وقع في حب ملك مصر، ثم خيره الملك بين القتل وترك البلاد جزاء جرأته على حبه فاختار المسكين الرحيل، فما كان من الحاكم إلا أن أمر بقتله لأنه غير جاد في عشقه، ولأنه لو كان جاداً لما خاف الموت ولعرض تقديم روحه للمحبوب بلا تردد.
لقد أعلى العطار مكانة العشق وأحاطه بهالة من السمو والرفعة حتى جعل في مقدور العاشق الإتيان بالخوارق.
«أنه شبيه بالمجنون من شدة العشق، كما أنه يسير على سطح الماء من قوة العشق».
ومن كان في الضعف أكثر عجزاً من النملة، فإن العشق سيمدّه في كل لحظة بقوة هائلة».
العشق هو القوة الحقيقية التي تحث الإنسان على الطلب والعمل والمجاهدة، والتي تهيب بالإنسان إلى العظائم، وترفعه عن الدنايا.

وصف الطريق والأودية السبعة
أولاً: وادي الطلب
وادٍ مليء بالتعب ولا بد فيه من الجد والمجاهدة لسنوات طويلة كما يجب التخلي فيه عن المال والملك وعن الكل، كما يجب التطهر من كل العلائق، وعلى السالك ألا يأبه في هذا الوادي بمخاوف الطريق، كما يجب أن لا يكف عن الطلب، فإذا توانى لحظة عن الطلب فهو مرتد وعليه أن يقدم روحه نثاراً في هذا الوادي، كما يجب أن يتحلى بالصبر حتى لا ييأس في أول مراحل الطريق.
ثانياً: وادي العشق
كل من سار فيه فهو في نار وحرقة، لا يعرف الكفر من الإيمان كما يتساوى أمامه الخير والشر، والعقل غير جدير بهذا الوادي فهو عاجز عن إدراك اسرار العشق. والعشق يوجب على السالك أن يقوم بأي عمل مهما صعب من أجل المعشوق، والسالك في ذلك الوادي يجب أن يتخلى عن كل ما يملك، فالعشق والإفلاس قرينان والعاشق يقدم روحه طواعية تلبية لأمر المعشوق ولكن يكره أن تكون هناك واسطة بينه وبين معشوقه.
ثالثاً: وادي المعرفة
في هذا الوادي يختلف سالك الروح عن سالك الجسد وتتفاوت المعرفة بين السالكين كل حسب مقدرته، بعضهم يدرك المحراب وبعضهم يدرك الصنم، وكلما واصل السالك المسير كلما زادت معرفته بالأسرار، ولا بدّ للسالك ألا يقنع بما يحصله من معرفة بل عليه أن يقول دائماً «هل من مزيد؟» حتى يصل إلى ذي العرش المجيد. وهذا الوادي طريقه طويل لا تبدو له بداية ولا نهاية، وعلى السالك أن يبعد النوم عن عينيه وأن يكون في سهاد وأرق دائمين.
رابعاً: وادي الاستغناء
وفيه يجب على السالك أن يتخلى عن كل شيء في الدنيا، فكل ما فيها تافه لا قيمة له، فما هذه البحار الشاسعة إلا بركة صغيرة وما الأفلاك والأنجم إلا كورقة شجرة كما يجب على السالك أن لا يطمع في شيء مطلقاٌ فما العالمان إلا كذرة رمل لا قيمة لها.
خامساً: وادي التوحيد
وهو منزل التجريد والتفريد، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحداً، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي، ومن لم يفنِ من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالمريدية. وعندما يصل السالك إلى مقام التوحيد فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه، فيضمحل وجوده الفردي ويتلاشى في هذا الوادي، كما تتلاشى الثنائية أو الإثنينية ولا بقاء إلا للوحدانية.
} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ (الرحمن:27)

اجتماع-الطير-في-رسم-فارسي
اجتماع-الطير-في-رسم-فارسي

وهو منزل التجريد والتفريد، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحداً، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي، ومن لم يفنِ من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالمريدية. وعندما يصل السالك إلى مقام التوحيد فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه، فيضمحل وجوده الفردي ويتلاشى في هذا الوادي، كما تتلاشى الثنائية أو الإثنينية ولا بقاء إلا للوحدانية.
} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ (الرحمن:27)
سادساً: وادي الحيرة
وفيه يصاب السالك بالألم والحسرة وينخرط في عمل متواصل ويكون عرضة للأحزان دائماً، وتنهال عليه المصائب في كل لحظة فتكثر آهاته وكل ما حصلت روحه عليه من التوحيد يضيع منه في هذا الوادي دفعة واحدة، ولا يعرف السالك أهو موجود أم غير موجود، أهو ظاهر أم خفي، فالسالك في هذا الوادي لا يعرف كنهه ويكون قلبه مفعماً بالعشق ولكن لا يعرف من المعشوق ويكون حائراً بين الكفر والإسلام وقد ساق العطار قصة الشيخ نصر آباد دليلاً على ذلك، إذ حج أربعين مرة ثم ترك ذلك كله وطاف حول معبد للنار من شدة اضطرابه وحيرته من دون أن يشعر بما يفعل.
سابعاً: وادي الفقر والفناء
أهم ما يميّز هذا الوادي هو النسيان، ولا سبيل أمام القلب في هذا البحر الخضم إلا الفناء، ونهاية المطاف في هذا الوادي تختلف من سالك إلى آخر كل حسب طهره وعزيمته، فمرتكبو الخطايا يسيرون إلى القاع أذلاء ولكن من تتطهر نفوسهم يفنون فناء حقيقياً وتصبح حركة كل واحد منهم هي حركة البحر. وهكذا يتم الاتحاد وما الاتحاد إلا فناء السالك عن ذاته وفناؤه في الله، وإذا ما مضى السالك عن الجميع فهذا هو الفناء، وإذا ما فني عن الفناء فهذا هو البقاء بعد الفناء.
ثامناً: العطار وذم النفس
العطار يذم النفس دائماً ويشبهها في بعض الأحايين بالكلب الذي لا يطيع أمراً مطلقاً. فالنفس بمثابة العدو الأول له، وبمثابة اللص الذي يسرق منه أسرار الطريق، فهو يقول:
«إن نفسي لي عدوّ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصاً، فالنفس كالكلب لم تطع لي أمراً مطلقاً، ولا أعلم كيف أحرر الروح من ربقتها».
ولا سبيل بالتالي لبلوغ الكمال حسب العطار إلا بإفناء النفس:

مشهد-من-طبيعة-نيسابور
مشهد-من-طبيعة-نيسابور

السهاد ضريبة العشق

يقول العطار إن على العاشق أن لا يغمض له جفن، لأن آلام العشق يجب أن تؤرقه دائماً إن كان صادقاً في عشقه. وهو يورد هذه الحكاية:
“مر معشوق بعاشقه فوجده نائماً فكتب له وريقة فيها بعض الكلمات منها: لتخجل إن كنت عاشقاً، فأي شأن للنوم بعين العاشق، وإذا نام العاشق فلا يكون ذلك إلا في الكفن. وإذا كنت بالعشق جاهلاً فلتهنأ بالنوم لأنك لست للعشق أهلاً”.
وجزاء من لا يحسن العشق الإلهي أن يطرده الله سبحانه وتعالى من عشقه، فالله يطرد من عشقه من ينشغل بأي أمر من الأمور عن عبادته، والدليل على ذلك قصة العابد الذي عبد الله أربعمئة سنة ثم انشغل بتغريد طائر فوق شجرة في بستان يتوسط داره.

«وإن تفن نفسك ذات يوم فستصبح في إشراقة حتى ولو كانت الليالي كلها حالكة».
«وما دامت لك نفس وشيطان، ففي داخلك فرعون وهامان»
«الخلق يخشونك وأنا أخشى نفسي، فما رأيت منك إلا كل خير، وما رأيت من نفسي إلا كل شرّ»
وهو يشبه النفس أيضاً بالثعبان والعقرب فيقول:
«فطهر نفسك من الصفات الدنية، ولتصر بعد ذلك إلى العدم وأنى لك أن تعلم ما بجسدك من أدران وأوساخ فالثعبان والعقرب خفيّان تحت حجبك، وقد ناما وأخفيا نفسيهما».
« ولا تقل «أنا» فكلمة «أنا» تجلب العديد من البلايا حتى لا تبتلي بشرور إبليس».
وصف العطار للنفس لا يختلف عن وصف جميع الزهاد والصوفية كما أنه مستمد من نظرة القرآن الكريم الذي يحذر من مكر النفس ويثني على من يحكمها ويخالف أهواءَها. } أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{(الجاثية:23)
وأيضاً : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) سورة النازعات.
}فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ{ (البقرة: 54)
}إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ{ (التوبة:111)
العطار وذم الدنيا
العطار، كعامة الصوفية، يذم الدنيا وينفر منها، وهو يشبهها في مواضع كثيرة بموقد مشتعل، إذ لا يستقر فيها إنسان في هدوء وسكينة، وهو يقول على لسان الهدهد:
«يا من أنت أقل همة من المخنث، إنك كلب فوق موقد نار، فماذا تصنع؟ وما الدنيا الدون إلا هذا الموقد، وما قصرك إلا حفنة من تراب هذا الموقد».
ويشبهها كذلك ببيت العنكبوت وما الساكن فيها إلا كذبابة تتردى في هذا البيت حتى يصيبها الفناء والبلاء بعد أن يمتص العنكبوت دمها:
«إن الدنيا ومن يرتزق فيها أشبه بذبابة داخل بيت العنكبوت»
وهو يعتبرها في موضع آخر ناراً محرقة:
«وما نارك إلا الدنيا فابتعد عنها، وافعل كما فعل الأبطال، وكن حذراً من هذه النار».
خاتمة : من مناجاة العطار
يا من لا وجود لسواك في طلعتك، أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك، الروح خفية في الجسد، أما أنت ففي الروح اختفيت.
إذا كنت أيها القلب طالباً فكن للطريق سالكاً، وتزود بالحذر ولتمعن النظر أمامك وخلفك. وارقب من وصلوا إلى الأعتاب العلية من السالكين، فجميعهم سلكوا الطريق متعاقبين. وفي كل ذرّة في الطريق عقبة وخلف وكل ذرة طريق جديد إليه؛ فكيف يمكنك معرفة أي طريق ستسلك؟ وأي طريق إلى تلك الأعتاب يوصلك؟
ما أحاط به شرح، كما تنزه عن أي صفة، ولا نصيب للخلق منه أكثر من الخيال، ومعرفة أي خبر عنه ليس أكثر من محال، وما قيل، حسناً كان أم سيئاً، فقد صدر من نبع الخيال، وليس لشخص قط في الصحو والسكر أن يدرك منه نصيباً، وأنى تستطيع روح آدمية أن تصل إلى إدراكه، إنه أسمى منزلة من الروح آلاف المرات لذا فهو يسمو عن كل ما أنطق به.

إن نفسي لي عدوّ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصاً

ممر-العجائب-في-جبال-نيسابور
ممر-العجائب-في-جبال-نيسابور

يا خالقي لقد وقعت في الحيرة والاضطراب، أما أنت فظللت في سترك خلف النقاب، فلترفع النقاب ولا تحرق روحي، ولا تعذبني أكثر مما أنا فيه، فقد غرقت فجأة في أمواج بحرك، فمن هذا البحر المتلاطم أنقذني، وإن لم تأخذ بيدي فالويل لي. كما لوث العبث روحي، ولم تعد لي طاقة لتحمل أي عبث، فإما أن تخلصني من هذا الفساد، وإلا فلتنه حياتي ولتوارني في التراب.
يا إلهي لقد تخضب قلبي بالدم، وأصبحت في حيرة كالفلك، فوجه أقوالي إليك ليل نهار، ولا تتخلَّ لحظة واحدة عن تحقيق طلبي وأنا في جوارك دائماً. فأنت كالشمس وأنا كالطفل. فيا واهب المحتاجين ماذا يكون الأمر لو أنك حفظت حق الجوار؟ فبقلب مفعم بالأسى وبروح غاصّة بالألم تنهمر دموعي كالمطر اشتياقاً إليك. فلتكن مرشدي إذا ما ضللت الطريق، ولتعنِّي إذا ما جئت في غير موعدي. فكل من حاز البقاء في حضرتك أصبح سعيداً، بعد أن فني فيك، وأصبح بنفسه غير مكترث، فلست مستيئساً وقد قرّ قراري بجوار من يعين واحداً من كل مائة ألف.

 

سماحة الشيخ

سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

القيَم والأخلاق تعيدُنا إلى طريق الخلاص

يستحضرُ حلولُ شهر رمضان المبارك في ذِهننا التقاليدَ العريقة التي عرفتها المجتمعات الإسلاميَّة في طرائق أدآئها لآداب الصَّوم، وامتثالها في وجدانها ومسالكها المعاني الخيِّرة المرتبطة أصلاً بالدَّلالة الأولى التي شرَّفت هذا الشهر الفضيل ألا وهي نزول القرآن الكريم بالدَّعوةِ إلى رحاب الله الممَهَّدة بالرَّحمةِ والفضلِ والخير.

ويُدركُ المؤمنُ بفطرتِه السَّليمة – والإسلام دينُ الفطرة – أنَّ التَّقوى هي غاية الأمر الإلهيّ الجليل الّذي به كُتِبَ عَلَيكُم الصَّوم. فالجوعُ «غذاءٌ للقَلب» ذلك أنَّه يُخضِع الجسد لامتحان افتقاره إلى الطعام والشراب، فإن امتلأت النفسُ آنذاك بالذِّكر الحميد ومقاصده، أشرقت فسحةُ القلب والرُّوح، فامتثلت لطافة المعنى، واستشعرَت واجبَ الحضور الإنسانيّ في الجماعة، وما يعنيه من حِسّ المشاركةِ في الإيمان والمسلكِ الّذي يجدُ تعبيره المحسوس في المشاركة بالمال والرِّزق ومائدة الخيرات، وهذا أصل أصول العدالة الإجتماعيّة، واللبنة الأولى في بناء مجتمعٍ قويّ ومتماسِكٍ ومتعاضِد، الأمر الَّذي من شأنه أن ينير سُبلَه نحو عوامل النهضة والرقيّ والفلاح.

إنَّ الشّعورَ ببَرَكة هذه المشاركة يدفع المرء نحو جمع شمل الأسرة، وما تضمّه من أحبَّةٍ تجمعهُم أواصرُ القربى، ليس فقط في البيت الواحد، وإنَّما في الحيّ والبلدة والاجتماع العام، فتصفو أجواؤهم بقدر ما تنقى قلوبُهُم ونواياهُم في الخير، وهذا سرُّ الزَّكاة التي تعني، بأثر المبادرة إليها وما تعكسه في الرُّوح العميقة، تطهُّر الذات ونموّ قواها الجوهريَّة في «حضور الله» لأنَّ خفقات القلب المختلجة بالخير هي سببٌ لاستكناه ذلك الحضور وفق الطاقة البشريَّة، وهذا، إن تحقَّق للفرد وللأسرة وللمجتمع، هو الجمال الأرفع للحياة التي وهبنا إيّاها القديرُ الحكيم.

يَطيبُ لنا في هذه الأيّام العصيبة من زمننا الرّاهن، أن نتمعَّنَ في هذه الحقائق الفاضلة التي مَنَّ بها الحكيمُ القادر على عِباده ليهديهم سواء السَّبيل، ليس فقط إلى خلاص الذّات، ولكن من أجل إخراج الفرد من أنانيته ودائرة رغباته المغلقة إلى فسحة مشاركة الآخَر في بُعده الإنسانيّ تأسيساً للمجتمع والمدنيَّة وصولاً إلى تحقيق مفهوم «ألأمَّة» بمعناه الأرحب.

نتأمَّل ذلك كأن لنشفي القلبَ ممّا يعتريه من هواجس وعوامل قلق، حين يستشعرُ الأخطار الدّاهمة، ويرى مشاهد المآسي الضاربة في عمق مجتمعاتنا التي لم تُعطَ عبر أزمان مديدة فرصة العيش في نِعمة حُكمٍ عادل ودولةٍ مستقرَّةٍ ومزدهرة وقادرة على توفير فرص الحياة والعدل والكرامة. ولنا أن نتساءل، كما يتساءلُ أيّ مُواطِن «مسكين»: كيف يُمكنُ لنا، بما يجمعنا تحت فيئه من نور الكتاب، أن نصلَ بواقعنا إلى هذه المدارك الوخيمة؟ كيف لنا، بما يوجبُ علينا التزامه من مقوِّمات الإسلام العظيم السّمح الجامع، أن نحوِّلَ مفهومَ الدِّين إلى أداةٍ لخوض الصّراعات والنزاعات والانقسامات؟ بل كيف لنا أن لا نبذلَ أقصى الهمم وأشدّ العزائم كي نعودَ إلى «مرآة الله»، أي إلى تجريد المعاني من الرِّسالة الإلهيَّة كي نتشبَّهَ بها من جديد، أوّابِين إلى الصّراط المستقيم، ولائذين بطلب الصَّفح والمغفرة، وسائلين أن يقدِّرنا برحمته وعفوه على أن نسلكَ المسلكَ السَّليم مبتعدِين عن كلِّ مظاهر الإساءةِ والمعاندةِ لِما أراده الله لنا أن نكون.

إنَّنا لا نرى في خضمِّ هذه العاصفة الـمُقبِضة إلا أن ندعوَ أنفسَنا وأبناءَنا وبني قومنا في أمَّتنا إلى التنبُّه والتيقُّظ من حبائل الضّدّية السّائقة للنفوس إلى النّفور من منظومة القيَم والأخلاق والعدل، واتِّباع الأهواء انبهاراً بغواية الرَّغبات ونوازع الهوى التي تدفعُ إلى الابتعاد عن أمانة الدِّين السَّامية والمنزَّهة بحقيقتها عن كلِّ سُوءٍ من الأعمال التي يرتكبُها الغافلون العصاة.

كما لا يسعنا إلا أن نطلقَ الصَّوت عالياً للتّذكير على الدّوام ببركات التآلُف والاجتماع والوحدة حول منابع الخير. إنَّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الّذين آمنوا أن يكونوا بالتقوى والمروءةِ والشّجاعة الخُلقيَّة ملتحمين كالبنيان المرصُوص تحقيقاً لصلاح النّفس، ومن ثمَّ ذوداً عن الحمى، ورداً لمطامع الطغاة أعداء الحقّ والدّين.

هذه المبادئ هي الثّوابت عندنا، ننادي بها، وندعو إليها، ونطالبُ أبناءَنا بالتزامها انطلاقاً من الاحترام العميق للكينونة الأخلاقيَّة التي هي النّواة المباركة لبناء الشخصيَّة الإنسانيَّة والمجتمع الإنساني الّذي نتوق إلى تحقيقه.

سعيد زين الدين

سعيد زين الدين فارس العدالة

سيرة قاض أصبح في عهود الاستبداد
رمزا لتحدي فساد الحكام انتصارا للحق

شجاعته في صون استقلال القضاء وعدل الأحكام
جعلت إحدى الصحف تشبهه بعدل عمر بن الخطاب

وبـّخ جمال باشا لمحاولته التدخل في عمل القضاء
فزاره القائد التركي بعد سنوات في دارته في عين قني

ذاع صيته كقاض شجاع وكمصلح في بلاد المشرق
وكانت الصحف تهلل لتعيينه رئيساً للقضاء في بلدها

عاقبه الفرنسيون لذهابه للتعزية بالمناضل رشيد طليع
لكنهم عادوا ورقّوه إلى أعلى منصب قضائي في لبنان

 

في حقبة تاريخية عصيبة تميّزت بثقافة الاستبداد وفساد المتنفذين وتحكم بعضهم بالأرزاق والأعناق تحوّل القاضي سعيد زين الدين إلى رمز لكلمة الحق وشجاعة الموقف وكان لنزاهته كقاض ورفضه لتدخل أهل السياسة وتمسكه بحكم القانون أصداء واسعة في المنطقة جعلت منه رمزاً للعدل يلتف حوله الناس وتهلل له المدن عند تعيينه كرئيس للقضاء فيها. لكن تمسك زين الدين الشديد بمسلكية القاضي الحر جلب عليه الكثير من المتاعب وكلفه في أحد الأوقات االنفي الى أقاصي الأناضول. فمن هو سعيد زين الدين وما الذي جعل من حياته قصة زاخرة بالأحداث والفصول المثيرة؟ في هذا الملف تعرض الدكتورة عايدة الجوهري لسيرة الرجل وللأسباب التي تجعل منه أحد أبرز الأعلام الذين أنجبتهم طائفة الموحدين الدروز في الأزمنة المعاصرة. والمقال مستقى من كتاب للدكتورة الجوهري يصدر قريباً بعنوان:“ القاضي والنقاب“.

ولد سعيد زين الدين سنة 1877 في جبل لبنان أيام حكم ثالث المتصرفين، رستم باشا (1883-1873)، وبعد سنة من وصول السلطان عبد الحميد الثاني إلى سدّة السلطة سنة 1876 وبعد 21 عاماً من إعلان المحطة الثانية من التنظيمات العثمانية الإصلاحية المعروفة بخط همايون (1856)، الذي تلا الخط الأول خط كلخانه (1839). وقد أطلقت تلك الإصلاحات موجة من السياسات التحديثيه العثمانيه في مجال الإدارة والتعليم. لكن قيض لسعيد أيضاً أن يشهد في مستهل حياته المهنية كقاضٍ انقلاب جمعية “الاتحاد والترّقي” المتعصبة سنة 1908 وخلعها للسلطان عبد الحميد، وتعيين محمد رشاد بديلاً عنه مع تجريد الأخير من معظم صلاحيات السلطان. وأطلق انقلاب الطورانيين حملة التتريك واضطهاد العرب وثقافتهم، كما قام العهد الجديد بإلغاء نظام المتصرفية سنة 1915 بعد سنة من إندلاع الحرب العالمية الأولى (1914) التي انتهت بهزيمة العثمانيين وجلاء الأتراك عن لبنان سنة 1918، ودخول لبنان في حقبة الإنتداب الفرنسي تنفيذاً لإتفاقية سايكس- بيكو السرية (1916) بين بريطانيا وفرنسا.
وبذلك شهد سعيد زين الدين المخاضات السياسية الكبرى التي إنتقلت فيها المنطقة العربية ومن ضمنها لبنان، من حالٍ الى حال، كما شهد التطور التحديثي الذي نجم عن التنظيمات الإدارية وكذلك عن النهضة غير المسبوقة في مجالي التعليم والعمران، والتي ساهمت الإرساليات الأجنبية والمدارس الخاصة الطائفية والعلمانية التي كانت تدرس العلوم الحديثة في انطلاقها. وقد بلغت هذه الإصلاحات أوجها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر وصولاً الى العقود الأولى من القرن العشرين.
في ظل هذه التحولات ولد سعيد وأتمّ علومه وولج الحياة المهنية كقاضٍ، متنقلاً بين ولاية عثمانية واخرى، روتينياً أو تأديبياً، خائضاً مواجهات متواصلة استهدفت محاربة الفساد وإصلاح القضاء وصون حصانة القاضي واستقلال قراراته واحكامه عن أي ضغوطات أو تدخلات. وقد أثارت مواقف سعيد في كل مرة ضجة إعلامية وسياسية وتابعتها صحف تلك الفترة في لبنان ومصر وفلسطين بصورة خاصة بكل اهتمام وحماس حتى بات سعيد زين الدين في أكثر من مواجهة بطلاً حقيقياً للعدل ومثالاً للقاضي النزيه الذي يواجه بشجاعة عسف النافذين والمسؤولين الفاسدين.
لا بدّ من القول إن مسار سعيد زين الدين ونضاله القضائي تأثرا بعوامل عدة منها مكانة الأسرة وشخصية الرجل التي تميّزت بالذكاء والجرأة بل العناد في الدفاع عن قناعاته واستقلاله كقاضٍ. وهناك ايضاً البيئة الاجتماعية والثقافية المتحرّرة في بيروت وفي فلسطين ومصر وهذه قدمت لسعيد الكثير من الدعم والتشجيع في مواجهته مع الحكام.

كتيّب نادر
يعود الفضل في انتقال الكثير من التفاصيل المثيرة لحياة هذا الرجل الفذّ إلى وجود كتيب صغير مجهول المؤلف من 86 صفحة من الحجم الصغير، طبع بحروف كبيرة ويحمل عنوان “حياة رجل” محفوظ لدى حفنة صغيرة من الباحثين وبعض اقارب سعيد وجيرانه، في عين قني إذ لولاه لضاع الكثير من سيرة هذا الرجل، كما ضاعت وتضيع سير كثير من الرجال المتفردين بسبب نقص التدوين في زمانهم أو عدم اهتمامهم هم أنفسهم بذلك.
وقد وقّع الكتاب بإسم “لبناني” واستهله الكاتب المجهول بإهداء جاء فيه “الى القاضي الحر العارف قدر ضميره ، الى الحاكم العادل الذي اوصد في وجه الناس ابواب الشفاعات، الى نصير المظلوم، وحصة البريء وملجأ البائس الى سعيد بك زين الدين رئيس الإستئناف الأول، أقدّم هذا المؤلف الصغير مطوياً على تاريخ حياته”

من هو سعيد زين الدين؟
هو بن زين الدين بن حسن بن ابراهيم بن يوسف بن زين الخطيب، قدمت أسرة زين الدين من جرمانا في سوريا الى عين قني الشوف، بشخص ابراهيم بن يوسف بن زين الدين ثم نسب ابناؤه واحفاده اليه.
ولد سعيد سنة 1877 في عين قني ولكنه ما لبث ان غادرها في عمر مبكر الى بيروت، الى مدرسة الحكمة، لإتمام دروسه الإبتدائية والإعدادية. على الأرجح في اواسط ثمانينات القرن التاسع عشر، لينتقل بعدها الى المكتب الإعدادي العثماني، ثم الى “مكتب الحقوق الأعلى” في الآستانة.
كان لمدرسة الحكمة، بنوع خاص، فضل في نشر اللغة العربية منسجمة في ذلك مع النداء الذي ترددت اصداؤه منذ منتصف القرن التاسع عشر، في إطار حلقة المعلم بطرس البستاني، والجمعية العلمية السورية، فتخرّج من مدرسة الحكمة اساتذة كبار وشخصيات بارزة احتلت مراكز حساسة ادارية وقضائية وفيها درس شكيب ارسلان (1946-1860) وأمين تقي الدين (1937-1884) وكان هذا الاخير شاعراً ومحامياً و عادل ارسلان (1887 – 1954) وكان سياسياً ومناضلاً معروفاً، عدا عن شغله مناصب ادارية ايام المتصرفية، واحمد تقي الدين (1937-1884) وأمين تقي الدين (1935-1888) وكان في عشرينات القرن رئيساً لمحكمة الشوف في بعقلين.
كانت مدرسة الحكمة مدرسة سعيد الأولى وأتمّ فيها الصفوف ما قبل النهائية، الإبتدائية والإعدادية اي المعادلة لصفوف البريفيه، وفي مدرسة الحكمة تلقى سعيد العلوم الحديثة واتقن اللغتين العربية والفرنسية وبعض الإنكليزية، وتعلم فن الخطابة، إلا أن العائلة قررت أن ينتقل الى الآستانة ليتابع علومه في المكتب الإعدادي العثماني.

المنزل كما يبدو  اليوم
المنزل كما يبدو اليوم

الانتقال إلى الآستانة
انتقل سعيد الى المكتب الإعدادي العثماني وهو أحد المكاتب الإعدادية العثمانية التي تمّ إنشاؤها في اواخر ثمانينات القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية حكم السلطان عبد الحميد، وقد تمّ تنظيمها وفق مناهج التعليم الحديثة وكانت تؤهل لدخول مدارس التعليم العالي التخصصي،
وبعد انهاء دراسته في المكتب الإعدادي العثماني ذهب سعيد الى الآستانة لإكمال تعليمه ودراسة الحقوق نظراً لأنه لم يكن يتوفر في بيروت معهد لتدريس الحقوق والفقه، كونهما كانا متلازمين، سوى معهد الحكمة للحقوق الذي تأسس سنة 1877 لكن سعيداً اختار المعاهد الرسمية العليا للتخصص في هذه المادة، ولم تكن هذه متوفرة في بيروت. وبالتالي كان يتوجب على من يريد متابعة تحصيله العلمي العالي خارج مدارس الإرساليات والمدارس المحلية الخاصة ان يقصد إسطنبول.
ويبدو أن سعيداً، بتشجيع من عائلته، كان يخطط لشغل منصب في المؤسسات الرسمية العثمانية، وقد كان لمتخرجي الآستانة بريق خاص فكان معظم الذين شغلوا مناصب ادارية في دوائر السلطة العثمانية من خريجي معاهد الآستانة. وكان سعيد موضع إعجاب نظاره والقائمين بأمره لذكائه ونبوغه، وما لبث أن حاز شهادة الدكتورية (الدكتوراه) في الحقوق مع علامة “على الأعلى” مما فتح امامه ابواب الوظائف القضائية الرفيعة.
وكانت المؤسسات القضائية أحد مرتكزات التنظيمات التي كانت تهدف لاحتواء مختلف مكونات الامبراطورية وانشاء ادارة وقضاء يستوعبان “التنوع الملي” على قاعدة المساواة الحقوقية بين الملل في الإدارة والقضاء والجيش والتعليم، وعلى قاعدة التوفيق بين مصالح الملة و”الأمة” في اطار الهوية العثمانية الواحدة وكان الجهاز القضائي عماد تطبيق تلك القوانين. كما ارادت “التنظيمات” تخويل كل عثماني الانخراط في مؤسسات الدولة، في اطار الهوية العثمانية الجامعة مع الإبقاء على الامتيازات التي أعطيت تحت ضغط الدول الأوروبية للملل غير الاسلامية.

جانب من الباحة الداخلية
جانب من الباحة الداخلية

أبواب العمل في المتصرفية
في ذلك الوقت ولد استقلال جبل لبنان الذاتي مجموعة من المناصب الحقوقية والقضائية بفضل المحاكم الذاتية التي تمّ انشاؤها طبقاً لبروتوكولي 1861 و1864 الناظمين لإدارة الجبل. وقد كانت الوظائف العمومية في تلك الفترة على حد قول بشارة الخوري “وقفاً على العائلات الكبيرة في البلاد والوظيفة آنذاك كانت كل شيء, فهي مطمح الانظار ومصدر النفوذ والوجاهة، يتناحر في سبيل الوصول اليها البيت الواحد والاصدقاء، ويتهالكون للفوز بها “. وقد كان بعض رجال الاقطاع الدروز يضطرون لبيع ممتلكاتهم ليشتروا بثمنها من المتصرف واعوانه المراكز الادارية للمحافظة على مستواهم المعيشي السابق.
لكن مسار هذه الظاهرة التي وسمت عهد المتصرفية بشكل سافر وترافقت مع تراجع دور الإقطاع الاقتصادي والسياسي، لا ينطبق على سعيد الذي تميّز في مساره الدراسي، وشغل في مستهل حياته المهنية مناصب في بيروت وفي الولايات العثمانية والعربية، دونما حاجة الى وساطة سياسية محلية إذ كان والده زين الدين بن حسن الخطيب وكيلاً لنسيب جنبلاط، ابن سعيد جنبلاط، وقد اعانه مركزه ووضعه المالي على تعليم اولاده محمد وسلمان وسعيد وارسالهم للدراسة في بيروت ثم الآستانة. وقد تولّى محمد القضاء في محاكم عدة منها عضوية محكمة الجزاء الاستئنافية التي نقل منها الى رئاسة محكمة الشوف سنة 1907 وكان شاعراً ، يتقن النظم باللغتين العربية والتركية، ونظم عدة قصائد في مدح السلطان عبد الحميد اصدرها في كتاب حمل عنوان “كتاب العقود البهية في المآثر الحميدية لناظمها العبد الأمين محمد زين الدين” المتوطن في مدينة بيروت – الجزء الأول- طبع في مطبعة جريدة بيروت 1312هـ، 1894م”،
اما سلمان المولود سنة 1865 في عين قني، فقد عين مديراً للشوف ولكنه ما لبث ان استقال لانه غير ميالٍ الى الوظائف الحكومية وهو ترك مؤلفاً واحداً هو كتاب “زبدة القوانين”، أوضح الكاتب على غلافه بأنه مختصر لمجلة الأحكام العدلية واصول المحاكمات الحقوقية والجزائية وقانون الجزاء الهمايوني وقانون التجارة، وقد أضاف اليها اصول تقسيم الإرث وتوفي سنة 1935.
ولم تكن علاقة سعيد بأخويه محمد وسلمان عادية، واتسمت بالتضامن والتآزر والتكافل، وكانت حياتهم اليومية مشتركة، وكان المنزل الكبير الذي كانوا يقيمون فيه في “عين قني” مشتركاً أيضاً وكذلك الممتلكات الموروثة. وقد لجأ الأخوة الثلاثة الى عقد مكتوب يحدّد كيفية ادارة الممتلكات، وتوزيع المسؤوليات، كما كيفية إدارة الحياة اليومية المشتركة في المنزل الكبير، وحدّدوا فيه آليات ديمقراطية لإتخاذ القرارات وفض النزاعات التي قد تنشب بينهم، وذلك بلغة قانونية تفصيلية صارمة.

سيرة قضائية حافلة
كانت سيرة سعيد القضائية مميزة، إذ باشرها بأهلية عالية ولكن ايضاً بشجاعة مستنداً الى ثقافة قانونية حديثة هي ثقافة التنظيمات والدساتير والى الرغبة بالإصلاح والتحديث والحرية والى شخصيته المجبولة على رفض المساومة على الحق.
وقد عين سعيد عقب تخرّجه من الآستانة في دائرة الجزاء الأولى ثم في القسم التجاري من محكمة الإستئناف في عاصمة الولاية بيروت، غير أن وزارة العدلية ما لبثت، أن عينته مدعياً عاماً في متصرفية قوزان، من أعمال ولاية أضنة في 9 آذار سنة 1897، وكانت وظيفته هذه أول وظيفة عهدت إليه، ومنذ ذلك الحين بدأت حياته في خدمة الدولة.
أما المناصب التي عهد بها اليه، فهي بعد النيابة العمومية في قوزان، مثلها في كليسة، تلك المدينة التي اشتهرت في حرب البلقان، غير انه ما لبث أن دعي في وقت لاحق الى رئاسة محكمة الجزاء في متصرفية كوملنجة، من أعمال ولاية ادرنة، في 21 نيسان 1903.

ذيوع صيته في حلب
تمّ تعيين سعيد بعد ذلك سنة 1907 مدعياً عاماً في محكمة استئناف ولاية حلب، وكانت شهرته قد سبقته إليها، فما إن وصلها حتى استبشر أهلها بفاتحة عصرٍ جديد للعدالة والحق، وتغنّى السكان على مختلف أحزابهم وطوائفهم بذكر مآثره السابقة ولهجت جرائد حلب بالحديث عن نزاهة الرجل وعدله ورحّب أحد شعراء حلب المسيحيين به قائلاً:
شــــــــكــــــــــــــراً لآلاء الإلـــــــــــــــــــــــه فقــــــــــــــد حبــــــا
هـــــــذي الولايــــــــــة حامــــــــــــي القانـــــــــــــــــــــــــون
نـــــــدب قـــــــد اتخــــــذ العدالـــــــــــــــــة شـــــــــــــــــــــيمةً
واتــــــــــــى لدفــــــــــــــع مضــــــــــــــــرة المســـــكــــــــــــين
وجــــرى علــــــى نهــــــــــــج قويــــــــــــم منصـــــــــــــــــــف
وفقـــــــــــــا لشـــــــــــرع عــــــــــــادل مســنــــــــــــــــــــــــون
فغــــــــــــدت بــــــــــــه هــــــــــــذي الولايــــــــــــــــة جنـــــــــةً
واستبشــــــــــــرت بقدومـــــــــــــــــــه الميمـــــــــــــــــــــــون
وبــــــــــــه ازدرهــــــــــــت حلــــــــــــب وأرخ شعبـــــهــــــــــــا
قد اسعــــــــــــدت بسعيــــــــــــــد زيــــــــــــن الديــــــــــــن
(حلب 1907)

بعد أشهر قليلة من تولّي سعيد هذا المنصب، بدأ أهل حلب يلمسون التأثير الفوري لقدومه وكانوا يتابعون بإهتمام التدابير الإصلاحية التي اتخذها، لجهة اختيار الموظفين الأكفاء، وتنظيم دوائر العدلية، وإنجاز الدعاوى المتراكمة، فكتبت جريدة “صدى الشهباء” في 18 شباط/فبراير 1910: “فالناس كلهم ألسنة شكر وثناء، على هذا الرجل الفاضل، الساهر على تأمين الحقوق مهما كانت، الذي لم ترزق شهباؤنا مثله منذ زمن طويل، فإن مهضوم الحقوق يراجعه، ولا حاجب على بابه، فإن كان تركياً يقضي له حاجته بلسانه التركي، وإن كان عربياً فبلغته، مع كل بشاشة وجه، وحسن خلق”.
وكتبت جريدة “التقدم” في 22 آذار/مارس 1910: “إن وجود هذا الرجل عندنا، يعدّ نعمة كبرى تقتضي منا الشكر، فقد أجمع العموم على أنه لم يتسلّم زمام هذه الوظيفة رجل أكثر منه اقتداراً واختباراً ونزاهة واستقامة واثاره ظاهرة لكل ذي عينين لا ينكرها الا المكابر، فإن دوائر العدلية، قد انتظمت انتظاماً لم يكن أحد ليحلم به، وقد تطهرت من كل مفسد مستبد، وصارت دعاوى العباد تجري في محورها القانوني دون مطل ولا تسويف ولا ظلم، وهو رعاه الله، يباشر أعماله بنفسه بهمة لا تعرف الكلل والملل وعزيمة امضى من السيف، ويشرف على المحاكم، ويراقب المأمورين مراقبة صارمة، ومع ذلك، فأن الرجل على جانب عظيم من اللطف والدعة ومكارم الاخلاق، يقابل الضعفاء والمظلومين ببشاشة وطلاقة وجه، يساعدهم على احقاق حقوقهم، فهو شديد على الظالمين، رحيم للمساكين”.
وذاعت مآثر سعيد في البلاد السورية، وباتت موضع افتخار اهالي بيروت، فأخذت بعض الصحف البيروتية تشيد بنجاحات واحد من مواطنيها.
وفي 23 آب/أغسطس 1910، نقلت جريدة “النصير” البيروتية، مقالاً عن إحدى الجرائد التركية خص إنجازات العدلية في حلب وكيف أنها نشطت من تضعضعها الماضي ومشت في سبيل الإصلاح وقد قال:
” وكله بهمة حضرة سعيد زين الدين بك أفندي مدعي عمومي محكمة الإستئناف، فأنه أعزه الله ما برح منذ شرف هذه الحاضرة يأتي من الأعمال الخطيرة والمآثر الجمة الوفيرة ما يعجز عن يأتي بمثلها أعظم النبلاء وأكمل الفضلاء، وقد واصل الجد والغيرة، وسهر الليل والنهار وشارك العملة في الأعمال، فكان من حسن نيته وجزيل همته وغيرته أنه وصل لغاية ما يرومه من الإنتظام والكمال، فجعل العدلية في مقام يليق بها من الشرف والمجد في هذا الدور السعيد وكل ما ذكر من الإصلاحات كان بفضل هذا الشهم الهمام وأثراً من عناية هذا الدستوري المقدام”.

سعيد المعلم والمصلح الإجتماعي
الى جانب واجباته الإعتيادية كمدعٍ عام في الإستئناف، أخذ سعيد على عاتقه أمر تأهيل رجال الشرطة، حسبهم واجهة القانون، وعنصراً مكملاً للقضاء فقام بتأسيس مكتب ليلي للشرطة يتخرج منه أفراد هذا السلك ليكونوا أعوانه عند الحاجة وموضع ثقته في الطوارئ ولم يضن بوقته يصرفه لهذه الغاية. “فكان يتعهد المكتب بعنايته الخاصة في ساعات فراغه، يخرج من مكتب عمله بعد معاناة التعب، فيذهب ليلاً لإلقاء دروس الحقوق فيه”.
وعلى صعيد آخر رأى سعيد في إحدى دوائر السجن مكاناً كان في ما مضى جامعاً، ولكنه أهمل بعد ذلك، فأمر بإعادته معبداً وترميمه وأن تجري عليه العائدات المخصصة له، وذلك لأنه عندما درس أحوال المسجونين الروحية، أدركته الرأفة بهم، لعلمه أن المجتمع، إنما أراد من سجنهم، إصلاح حالهم، فأمر بإعادة المسجد الى السجن.
يدل هذا الإحتفاء بما أنجزه سعيد زين الدين على تميّزه عمن سبقه من جهة، وعلى توق النخب والأهالي الى إصلاح لدوائر الدولة طال انتظاره، كما يدل نجاحه في استيعاب واجباته كقاضٍ استيعاباً كاملاً وتمتعه بملكات شخصية ذاتية تؤهله للقيام بهذه الواجبات بجد وحماس بلا افتعال أو مباهاة.

مدينة حلب في مطلع القرن العشرين
مدينة حلب في مطلع القرن العشرين

فساد الدوائر العدلية العثمانية
لم تأت محاربة سعيد للفساد من فراغ، بل فرضتها أحوال مؤسسات القضاء العثماني نفسها، التي اتسمت بالإزدواجية القانونية والبيروقراطية وسوء الإدارة وعدم نزاهة الموظفين وقذارة السجون.
ورغم جهود التحديث التي طاولت الشؤون الحقوقية والقضائية عملاً بمضامين التنظيمات وبنظام الولايات، إلا ان هذه الجهود لم تؤد إلى ما كان يرجى منها في النظام القضائي والعدلي، فقد بقي هذا النظام غير ملائم من حيث قاعدته القانونية المتناقضة، وتشويشه وبطئه الإجرائي، وفي استخدامه لموظفين غير أكفاء من حيث القدرة على التوجيه وكذلك، غالباً جداً، من حيث الأخلاق، أما التنفيذ فكان عرضة للنزوات وغير مؤكد. وكانت السجون قذرة جداً ومحكومة بسوء إدارة بالغ، وكانت أحوال المحاكم عرضة لانتقاد المصلحين بمن فيهم والي سوريا ومهندس دستور 1876 “مدحت باشا” الذي كتب سنة 1879 الى الباب العالي ينعي فيها أحوال الولاية بما فيها المحاكم قائلاً: “الولاية محتاجة الى إصلاح أحوالها المالية ومحاكمها ومنع الرشوة التي تورث الخجل، وتجعل الوطني منخفض الرأس أمام الأجانب.

قال لجمال باشا موبخا: “انتهك حرمة القانون إن أردت فالأمر هيِّن عليك، أما أنا فلا يهون عليّ الإغضاء عن ذلك”

سعيد يواجه “جمال باشا” في أطنة
اواخر سنة 1910 نقل سعيد وفقاً للروتين الإداري، من حلب الى “أطنة”، في أطنة خاض بشجاعة أدبية نادرة سلسلة مواجهات دفاعاً عن استقلاله وحريته كقاضٍ، وذلك بتصديه أولاً لوالٍ حاول التدخل في الشأن القضائي وتابع تلك المواجهات في المناصب التي شغلها لاحقاً في القدس ثم في بيروت، وكان عليه منذ تعيينه في أطنة مواجهة الولاة ومقاومة تدخل المتنفذين والمتزعمين، وقد عرّضه ذلك لانتقام هؤلاء بنقله من مكان عمل الى آخر، حتى انتهى الأمر بنفيه الى سيواس في الأناضول سنة 1914.
حصر مؤلف كتاب “حياة رجل” تجربة سعيد في أطنة بالمواجهة التي جرت بينه و”أحمد جمال باشا”، الذي ذاع صيته في الحرب العالمية الأولى في بلاد سوريا بسبب فظاظته. وكان جمال في ذلك الحين حاكماً إدارياً لولاية أطنة وسعيد مدعياً عاماً في الاستئناف في الولاية، وكان جمال لا يتورع عن تجاوز القانون والتدخل السافر في شؤون القضاء، وكان سعيد يتصدى لتجاوزاته بكل ما أوتي من قوة وجرأة”، وذات يوم قال سعيد لأحمد جمال باشا مرشداً وموبخاً ومذكراً بجوهر العمل القضائي:
“إن الولاة لا يستطيعون أن يزيلوا حرفاً واحداً، ولم يكن القضاء الحر ليتأثر من تدخل الحكام وتعرضهم، فالقضاء مستقل، وهو لا يعمل بغير نصوصه، وكلانا مكلف بصيانة الحق والعدل، فلا تتعرض لي في واجبي”.
وفي مواجهة قضائية أخرى لقّن سعيد أحمد جمال باشا درساً جديداً في ضرورة فصل السلطات واستقلال القضاء واحترام القانون قائلاً:
” انتهك حرمة القانون إن أردت فالأمر هين عليك، أما أنا فلا يهون علي الإغضاء عن ذلك”
وأخيراً نجح سعيد في ردع جمال باشا عن التدخل في شؤون القضاء وممارسة ضغوط عليه، ربما لأن هذا الأخير، وهو الداهية المجرب، أيقن أن أمامه رجلاً “لا تلين قناته، وجندياً يدافع عن القانون والعدل على ما استنتج مؤلف كتاب “حياة رجل”.
وللمفارقة، ستثبث الأيام أن سعيداً انتزع احترام أحمد جمال باشا، فخلال الحرب العالمية وعندما عُيّن جمال باشا حاكماً على سوريا ولبنان، قام بزيارة سعيد في منزله في عين قني، ونزل عند رغبة سعيد بإطلاق سراح أخيه المنفي الى القدس، ولكننا سنرى لاحقاً ان سعيداً لم يغفر له ما ارتكب من مظالم أثناء الحرب العالمية الأولى.

   فضح مؤامرة الوالي لتجريم لبناني بريء بعمل إرهابي فسحبت نظارة العدلية القضية منه ونقلتها الى اسطنبول
فضح مؤامرة الوالي لتجريم لبناني بريء بعمل إرهابي فسحبت نظارة العدلية القضية منه ونقلتها الى اسطنبول

رابعاً: سعيد في القدس
ظل سعيد يتقلب في المناصب القضائية في الولايات العربية، الى ان عُين في 11 تموز 327(31)،1909، مدعياً عاماً في محكمة الاستئناف في القدس.
وكعادته، انبرى سعيد يعارض توسط المتزعمين، وتدخل المتنفذين في شؤون القضاء، لتنفيذ اغراضهم، وقد عارضهم دون مهابة احد، ودون خشية خصومتهم.
ولم ينج سعيد هذه المرة من التأديب السافر، إذ قررت نظارة العدلية اقالته، من دون سبب معروف أو معلن. ولكننا سنشهد بعد الآن صراعاً بين الحكام العثمانيين من جهة ونخب وأهالي الولايات التي يعمل فيها سعيد، الذين سينحازون إلى القاضي الشريف مدافعين عنه وعن أنفسهم والمؤسسات التي تدير حياتهم العامة، من جهة اخرى.
وما إن ذاع خبر إقالة سعيد حتى هاج الرأي العام، وقام أعيان المدينة ورؤساؤها وأشرافها ولم يقعدوا لهذا الخبر، وأرسلوا برقية الى الآستانة موقّعة من بضعة وثمانين وجيهاً من وجهاء مدينة القدس، منهم مفتي الشافعية، ورئيس البلدية وأعضاؤها وأعضاء مجلس الإدارة والمبعوثون السابقون، وأشراف المدينة واعيان الملحقات والرؤساء الروحيون، هذا نصّها:
“كنا ننتظر من نظارة العدلية لطفاً يبذل بحق سعيد بك زين الدين، مدعي عمومي الاستئناف عندنا بالنظر لباهر خدماته في بلادنا وما اتصف به من العفة والنزاهة والإقتدار والدراية والحمية والعدالة والغيرة وتسهيل مصالح العباد والتفاني في حب وطنه زيادة تنشيط له واستزادة نفع به وتشويقاً لغيره حيث ان سعادة الأمة والبلاد والإصلاح المنشود لا يحصل إلا بأعمال أمثاله من المأمورين الصادقين وقد كنا استرحمنا مع عموم القدسيين من نظارة العدلية ترفيعه عندنا ذاكرين صفاته العالية وما للعموم من فرط الاعتماد عليه وملء الثقة والآمال به فأتانا الأمر مع الأسف لعزله، كأن عدله ونزاهته وثقتنا واسترحامنا كانوا علينا وعليه ذنباً استحق هذا الجزاء، ولهذا اننا نحتج بكل قوانا على هذه المعاملة التي لم تنطبق على مصلحة أو عدل ونعلن بإسم العموم الآسفين أعظم الأسف على انفكاكه، أسفنا العظيم، شاكرين مساعيه وخدماته عندنا حافظين جميله في قلوبنا سائلين الله أن لا يضيع حسناته وأن يكثر من امثاله من أبناء الوطن آملين دوام السعي بتكاتفنا جميعاً للاستحصال على الإصلاحات المطلوبة التي تكون بحول الله مانعة أيضاً لتكرر مثل هذه الحادثة الجارحة والله ولي التوفيق”.

نائباً عاماً في بيروت
أقيل سعيد من منصب في القدس ليعين في مثله في بيروت، ويضمر هذا التعيين الذي جاء في سياق التخلص من سعيد وإزاحته من الواجهة، إعترافاً ضمنياً بكفاءته، فبيروت كانت آنذاك عاصمة ولايتها، وكانت هذه الولاية مترامية الأطرافتشمل 5 سناجق: سنجق بيروت، سنجق عكا، سنجق نابلس، سنجق طرابلس وسنجق اللاذقية، و21 قضاء و49 ناحية و2564 قرية، وكان سنجق بيروت اكثر الألوية تقدماً وإزهاراً رغم صغر مساحته.
وكانت بيروت مركز السلطة السياسية والمدنية في الولاية والسنجق، فالوالي المقيم فيها كان يدير في الوقت نفسه شؤون السنجق والقضاء ويشرف ايضاً على إدارة بقية السناجق، الموكلة الى خمسة متصرفين يهتم كل واحد منهم بمنطقته، كما على الأقضية الموكلة الى ستة عشر قائمقاماً.
كانت المدينة أيضاً مركزاً للمحاكم البدائية التي تحكم على أساس القوانين الحديثة في الدولة العثمانية ومقرّاً للمحاكم التجارية التي تحكم في القضايا المحلية والمختلطة، وفي الآن ذاته مركز المحاكم الشرعية الإسلامية الذي يشرف عليه القاضي ونائبه.
وكانت ولاية بيروت، كغيرها من الولايات، تعاني من فساد الإدارة عموماً وفساد الدوائر العدلية خصوصاً، وكانت على غرار الولايات، التي سبق وعيّن فيها سعيد، تنتظر مجيء موظفين أكفاء، يعيدون الأمور الى نصابها، وجديرين بعلو شأن المدينة، على ما لاحظ، مؤلف “حياة رجل”، الذي عاصر تلك المرحلة، ومن جهة اخرى كانت لمنصب النيابة العامة في الإستئناف سلطة معتبرة أيام الحكم التركي، إذ كان مقامه، اول مقام بعد مقام الوالي في الولاية و”النائب العام الإستئنافي، ضابط بيده جميع الشؤون الإدارية في العدلية، وبيده تقرير الأمن والنظام”.

نظارة العدلية في الآستانة قررت نقله من القدس بسبب انزعاجها من استقلاليته فرد ثمانون من وجهائها على رأسهم المفتي ببرقية استنكار إلى الباب العالي

سعيد وقضية إلياس رفّول
وفي عهد سعيد، جرت خلال شهري حزيران وتموز 1914 حادثة ما سمي بـ “قضية الياس رفول” شغلت السلطة العثمانية وأجهزتها والرأي العام البيروتي واللبناني والعربي، وخلاصتها، أن يداً أثيمة اطلقت ذات يوم النار على احد أفراد الجندرمة بالقرب من “مدرسة الحكمة” في بيروت، فقتلته، وحيث ان القاتل وسبب القتل كانا مجهولين، توهمت الحكومة ان الجناية سياسية، مدبرة، وتستهدف هيبة السلطة، فاهتم والي بيروت للأمر، وطلب الى مدير البوليس وكبار رجال الأمن إظهار الفاعل حالاً، وإلقاء القبض عليه وتسليمه للعدلية، معلناً انه سيُعدم في القريب العاجل عبرة وإرهاباً.
أما مدير البوليس وأركان الضابطة، فلما لم يستطيعوا إظهار الفاعل الحقيقي، فقد عمدوا الى رجل آمن وبسيط، ملازم عمله في منزل في ذلك الجوار، أسمه “الياس رفول”، فألقوا القبض عليه، وأخضعوه لتحقيق مرتب مزور، في حين كان الياس رفول بريئاً، ولا علم له بتلك الجريمة، ولأجل تمويه ما زوروه، استعملوا الشدة والضرب والتهديد، ضد الاشخاص الذين تصبّ شهادتهم لصالح المتهم، وحبسوهم في مكانٍ لا تطاله الأنظار، إخفاءً لعملهم غير المشروع، ولم يكترثوا لأكثر من إفادة آلت الى اركان دائرتي البوليس والجندرمة بأن القاتل هو شخص يدعى “ديب الشامي ورفيقه يوسف الشويري”، فلم يكترثوا للأمر ولا أجروا تحقيقاً بهذا الشأن، ثم رفعوا ملف التحقيق الى والي الولاية، وهذا الأخير أحاله بدوره الى العدلية طالباً إليها، بكل اهتمام، إنجاز المعاملات اللازمة للحكم، وتنفيذه بحق البريء، وكانت نتيجة التحقيق، إلقاء الظن على الياس رفول الذي اتهم وسيق الى المحكمة.
لكن أمر هذه المؤامرة لم يطل، فقد اتفق أن الوالي في ذلك الحين، طُلِب الى الآستانة، واثناء وداعه كبار الموظفين، التفت الى سعيد، ورئيس محكمة الجنايات وأعضائها، وطلب اليهم الإسراع بإصدار الحكم على ابن رفول، وأن يعلموه وهو في الآستانة، عن رقم التحرير الذي ترسل به أوراق الدعوى الى محكمة التمييز، ليلاحقها هناك، على أمل أن ينفذ حكم الإعدام بالرجل يوم عودته، فنظر سعيد الى الوالي قائلاً: “إن القضاء المستقل في أعماله، سيجري واجبه كاملاً، ضمن دائرة استقلاله وبحسب ما يوحي اليه الوجدانِ” وفي توصية الوالي وجواب سعيد كمنت عناصر المشكلة التي سنشهد تطوراتها.
لاحقاً، وبعد تدقيق سعيد في أوراق القضية وزيارته شخصياً لمكان وقوع الجريمة واستطلاعه الحقائق عن كثب، واستجوابه المزيد من الشهود، استجلى الأمور، ولمس الحقيقة بيده، وتأكد من تزوير التحقيق وتحامل أركان الضابطة على “الياس رفول” الذين أرادوا التضحية به إرضاء للوالي، وظهر لسعيد أن الفاعل الحقيقي للجناية، كان قد ارتكبها وفرّ.
وفي معرض مطالعته بيّن سعيد حجم إساءة هؤلاء الى مفهوم العدل، حين يفتشون عن كبش محرقة، كبديل عن المجرم الحقيقي، قائلاً: “هل يلزم أن نعاقب أياً كان أم يلزم أن نعاقب الجاني؟ إن من يعتقد لزوم الوجه الأول والإكتفاء به فهو مغشوش كثيراً، فالعدل أساس الملك، ولا يجوز اللعب به”.
ولم يفت سعيداً في مطالعته إنتقاد رجال البوليس للجوئهم لضرب الشهود المظنون بهم، مستنداً الى القانون الذي ينهي عن الضرب، مستنكراً جواز عقاب أي مظنون به قبل التحقق من ارتكابه الجريمة المستحقة المجازاة.
نشرت صحف بيروت، مهللة ومؤيدة، تقرير القاضي سعيد زين الدين، وكانت، على اختلاف اتجاهاتها، تراقب أفعاله يوماً بيوم، وقامت إحداهن بنشر مطالعته بحذافيرها معلقة على كيفية القائه لهذه المطالعة قائلة:
” ثم تدفق حضرة القانوني سعيد بك زين الدين كالسيل، وأخذ يسرد مطالعته الجليلة النفيسة، التي هي والحق يقال جديرة بأن تنقش على القلوب لتبقى خالدة الى ما شاء الله.
وانبرت صحف بيروت وفلسطين تشيد بأداء سعيد القضائي وترى فيه خطوة بناءة على طريق اصلاح القضاء واحترام القانون واحقاق العدل ومصالحة الشعب مع الحكومة ودعت إحداها الى تكريم سعيد وهيئة المحكمة بالإكتتاب لشراء مجموعة من الأقلام الذهبية تقدم لهم إقراراً بنزاهتهم وتشجيعاً للموظفين الصادقين .
وكتبت صحيفة أخرى معربة عن دهشتها البالغة إذ “لم يشهد البيروتيون ولا السوريون ولا الشرقيون، محكمة تجلّت فيها النزاهة وتمثلّت برجالها الكرام العدالة كمحكمة الإستئناف في بيروت التي مدعيها العام سعادة القانوني الضليع سعيد بك زين الدين”. ورأت جريدة “الحارس” في سعيد “القدوة التي تذكّر بماضٍ مجيد هو عهد الخلفاء الراشدين”.
أما جريدة “البرق” فكتبت مبتهجة: “الحق الحق يقال إن ما أتاه حضرة المدعي العمومي سعيد بك زين الدين لجدير بأن يكون نعم المثال لرجال العدلية في أنحاء السلطنة، كان الحق ميتاً فأحياه”.

سعيد-زين-الدين-في-منزله-في-عين-قني-بعد-تقاعده
سعيد-زين-الدين-في-منزله-في-عين-قني-بعد-تقاعده

أصداء مرحّبة في فلسطين
وردّدت جرائد فلسطين صدى الحدث، نظراً للبصمات التي تركها سعيد في القدس أثناء توليه منصب الإدعاء العام، ورأت في مجريات الحادثة انتصاراً للقانون والعدالة والإنسانية والحكومة وهزيمة للفساد. فكتبت إحداها تقول: “ألا فلتعلم الحكومة أن رجلاً عاقلاً نزيهاً كسعيد بك زين الدين مدعي عمومي استئناف ولاية بيروت يقدر العدالة قدرها، فيتقيد بالقانون، يخدم الإنسانية والحكومة اكثر من ألوف من الموظفين المستبدين الذين يسيئون استعمال الوظائف فيكرههم الناس وينفرون بسببهم من الحكومة، وفي الختام نقول للحكومة المركزية، زيدي من تعيين أمثال سعيد بك، لتجتمع القلوب على محبتك وترتاح النفوس لعدالة محاكمك”.
ولكن العرس الإعلامي الذي فاض ابتهاجاً وتفاؤلاً ، ما لبث ان انحسر وانطفأ، لتحلّ محله موجة الأسف والمرارة، إذ أن السلطة العثمانية المتهالكة، لم تكن مستعدّة لاستيعاب وتحمّل هذه الإنتكاسة الأمنية والقضائية، فلجأت من أجل طمس هذه الإنتكاسة، الى نقل القضية الى محاكم الآستانة، وإخراجها بالتالي من يدي المدعي العمومي سعيد زين الدين. وزاد الطين بلّة، نقل سعيد، بطل القضية، من منصب الإدعاء العام في الإستئناف في بيروت، الى رئاسة محكمة الإستئناف في سيواس في الأناضول، الأمر الذي اعتبر بمثابة نفي عاجل مموه بحجاب الوظيفة وإبعاد مشفوع بالتشفي الضمني. وذاع خبر إقصاء سعيد في اليوم التالي لعودة الوالي من الآستانة وفور ورود تلغرف من نظارة العدلية في الآستانة.
استنفرت الصحافة مجدداً، وانتفضت صحف بيروت ومصر وفلسطين وإهتاج أهاليها وأعيانها وهبوا لنصرة سعيد مستنكرين غاضبين. وامتزج إعجابهم بأدائه، بالتضامن معه، والزود عنه، ومهاجمة السلطة صاحبة القرار، وقد أرسل وجهاء بيروت وأدباؤها وتجارها، على اختلاف مذاهبهم، برقية الى نظارة العدلية ونظارة الداخلية والى الصدارة العظمى، ورئاسة مجلسي الأعيان والنواب، والى مبعوثي بيروت، طالبين فيها بقاء الرئيس والمدعي العام في وظيفتيهما مبرزين رمزية اداء سعيد وجدوى ابقائه في منصبه هذا نصها:
” إن تبادل الثقة بين الأمة وموظفي الحكومة هو العامل الأهم في تقوية الحكومة وترقية الأمة وهذه الثقة بلغت أخيراً في بيروت درجة عالية بما أتاه فيها مدعي عمومي الإستئناف الفاضل من تأييد العدالة ودفع المظالم بين العثمانيين على اختلاف مذاهبهم، ودرجاتهم طبقاً لنيات صاحب الجلالة الأعظم جئنا بعريضتنا نجهر بفضله تنشيطاً لسواه من المأمورين ملتمسين إبقاءه في بيروت تعزيزاً لثقة الشعب بحكومته وإحياءً للعدل فالعدل أساس الملك”.
ردود فعل عربية على نقله التعسفي
ذاع خبر نقل سعيد في الأقطار العربية، في مصر ودمشق وفلسطين وبغداد والموصل، فتواترت البرقيات على اولياء الأمور في الآستانة يطلبون إبقاء سعيد في منصبه صوناً للعدل، وأبرز البرقيات هي تلك التي بعث بها المفكر شبلي الشميل مباشرة الى ناظر الداخلية طلعت باشا، أحد رموز “جمعية الإتحاد والترقي”، هجا فيها ظلم السلطة العثمانية وذكرها بفشلها المزمن في حقل العدل، في ما يلي نصها:
“الى طلعت بك ناظر داخلية الحكومة التركية،
عدل القضاء في زمان دولتكم مرة واحدة ، فانتقمتم للظلم من العدل ونفيتم القاضي العادل الى سيواس، فيا ويلكم ويا ويل انفسنا منكم”.
غير ان سيل البرقيات والمقالات لم يثن الحكومة العثمانية عن قرارها، فأصرت على أمرها بنقل سعيد وإبعاده. وكلما إزداد إصرار الدولة على التخلص من سعيد ازداد غضب النخب والأهالي، وهذه المدة كانت الصحف المصرية في طليعة المستنكرين، فانكبت صحف “الاهرام” و”المقطم” و”البصير” التي يحررها ويديرها لبنانيون منفيون على معالجة المشكلة. وإذا اكتفت “الاهرام” بالإشارة الى إنشغال الرأي العام العارم، في بيروت بنقل الموظف النزيه سعيد زين الدين الى الآستانة، بادرت جريدة “المقطم”، الى تحليل الخبر والتعقيب عليه، على لسان الكاتب الشهير شبلي الشميل، الذي أولى قضية سعيد اهتماماً خاصاً.
هال شبلي الشميل نقل سعيد الذي بيّض وجه العدالة” واعتبر الخطوة ضربة قاضية على الآمال المعقودة على إصلاح المحاكم، مستطرداً بسخرية سوداء:
“فكأنهم خشوا أن تكون هذه المحاكمة على هذه الصورة سابقة حسنة لمحاكمنا الملحلحة – كما يقول اخو صدرنا الأعظم، فضرب المدعي العام هذه الضربة القاضية على آمالنا من محاكمنا وكانت ان تنتعش، فيا ويلنا منا!!”

نفي مقنع عقاباً على جرأته
كل هذه الإدانات والمناشدات، فضلاً عن حملات الصحف لم تثن لا نظارة العدلية ولا الوالي عن قرارهما، وسافر سعيد مرغماً الى الآستانة، وفي هذه المرحلة ايضاً لم يترك الصحافيون والأهالي سعيداً وشأنه، فرافقته جريدة “فلسطين” حتى ركوبه الباخرة واصفة مراسيم الوداع الشعبي.
قام الأهالي بوداعه وقدموا له القلم الذهبي الموعود اعترافاً “بشجاعته الأدبية”، ومجاهرته برفع لواء العدل وانتصاره للشعب على بعض المأمورين “الذين متى استلموا السلطة اعتقدوا انهم ليسوا من طبقة البشر” على ما كتبت جريدة فلسطين في مقالٍ تحت عنوان “بطل الدعوى التاريخية” مفاخرة بتواجد بعض محرريها على متن الباخرة التي نقلت سعيداً الى الآستانة ناقلة تفاصيل وداع أهالي بيروت له، مفيدة بأن أهالي بيروت “قاموا بأحسن وداع لهذا الشهم.
أما صحف بيروت فواكبت من جهتها هذا الحدث بمزيد من التحليلات والمقارنات فجدّدت جريدة “الحارس”، اعجابها بأداء سعيد وشبّهت إنجازه القضائي بانجازات عهد الخلفاء الراشدين، مقارنة “بين ما جرى في فرنسا، البلد العريق في الديمقراطية، في وقت مماثل، في ما سمي “قضية مدام كايو” و”قضية الياس رفول”، فخلصت الجريدة الى ان “محكمة بيروت” كانت أكثر عدلاً من “محكمة باريس”، ففي الأولى تمت “تبرئة رجل بريء” وفي الثانية تمت “تبرئة امرأة مجرمة” رغم اعترافها بالقتل، ويطول زمن سجن بريء، في حين يطلق سراح مجرمة، فاضحاً فساد السلطتين، العثمانية والفرنسية، فالسلطة الفرنسية اقدمت على هذه الخطوة حفاظاً على التوازن بين الاحزاب وتسكيناً للاضطراب و”السلطة العثمانية اقدمت على نزع رجل كسعيد زين الدين لأنه قال إنه بريء”.

سعيد قاضياً في عهد الانتداب الفرنسي
بغية إطلاق عجلة الحكم وتثبيت سلطتها، قامت سلطة الإنتداب في مطلع كانون الاول 1918، أي بعد شهرين من وصول طلائع الجيش الفرنسي الى مرفأ بيروت، بتعيين سعيد مدعياً عاماً للإستئناف في محكمة بيروت، أي في ذات المنصب الذي كان يشغله سنة 1914، قبل نقله الى محكمة سيواس في الاناضول، وتمّ ذلك ضمن خطة عامة شملت بيروت وجبل لبنان والعرقوب، وفي هذه الخطة ثبتت السلطة الفرنسية العديد من الموظفين في وظائفهم وأسندت الى البعض الآخر وظائف جديدة، إما بدافع الحاجة الموضوعية الى مساعدتهم إما للرغبة في كسب ولائهم واسترضائهم وحتى مكافأتهم، فبالإضافة الى تعيين سعيد في منصب الإدعاء العام، ثبت أعضاء مجلس إدارة جبل لبنان الذي من بينهم محمود جنبلاط وفؤاد عبد الملك، وكانا رافضين للانتداب الفرنسي ومؤيدين للحكومة العربية في دمشق وللوحدة السورية، كما اسند الفرنسيون قائمقامية الشوف الى توفيق ارسلان والد مجيد ارسلان، وفي شهر آذار من السنة نفسها عينت سامي عبد الملك مديراً للجرد الشمالي وسامي العماد مديراً للعرقوب الجنوبي بدلاً من فرحان ابو علوان وابقت فؤاد جنبلاط مديراً للشوفين.
ومما يدل على اعتماد السلطة الانتدابية سياسة الاسترضاء والجذب او المكافأة هو تعيينها في وقت لاحق، سنة 1920 رشيد جنبلاط الذي كان قائداً في الجيش العربي ثم مرافقاً للملك فيصل، مستشاراً للمندوب الإداري في “المنطقة الغربية” وتعيينها في وقت سابق توفيق أرسلان الذي كان في عداد وفد مجلس إدارة جبل لبنان برئاسة المطران عبدالله الخوري الى مؤتمر الصلح في آذار 1920 للمطالبة بإستقلال لبنان التام بحماية فرنسية.
ولدى استعراضنا لائحة أسماء الموظفين المعينين أو المثبتين يتضح لنا ان السلطة المنتدبة منحت العائلات الدرزية النافذة والمقاطعجية، بإستثناء آل نكد، ما كان لها من وظائف ونفوذ في العهد العثماني، محققة التوازن السياسي الذي كان بينها، مستعملة سياسة التوظيف كوسيلة جذب ناجحة لاحتواء الزعماء وعبرهم الجمهور الدرزي، فيما توسّل هؤلاء الوظيفة للمحافظة على نفوذهم السياسي والإداري وتعزيزه، والاستفادة من مكاسب الوظيفة المادية، متوجهين دوماً الى مركز القرار المتمثل بالسلطة الفرنسية.
ولكن دوافع السلطة الانتدابية في توزيع المناصب على الدروز لا تنطبق كلها على سعيد، بل ينطبق عليه مبدأ “الحاجة الى مساعدة”، فهو يقع خارج دائرة الاستمالة والاسترضاء، فهو لم يكن منخرطاً في العمل السياسي المباشر، ولو كنا نفترض بحق انه كان ممتعضاً من سياسات “جمعية الاتحاد والترقي” في الولايات العربية التي تولّى فيها مسؤوليات قضائية، وإنه راكم ذكريات سلبية عن تردّي الحكم العثماني في سنواته الأخيرة، قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها، إلا أن نضاله ظل مهنياً، كما أن عائلته كانت تملك نفوذاً إجتماعياً، بحكم موقع الأب كملاك معتبر، لا نفوذاً سياسياً يستهاب، كما أن أخوته شغلوا مناصب ادارية في المتصرفية نظراً لحيازتهم علوماً تؤهلهم لتلك المناصب، مما يجيز القول إن سعيداً اختير لكفاءته العلمية والمهنية المكرسة، التي لم تكن تخفى على القناصل والمراجع المعنية وليس ما يشير إلى أن سعيداً كان على صلة معها، وهو بالإضافة الى ذلك فرنكوفوني اللغة، بصفته خريج مدرسة الحكمة، وجاء تعيينه في زمن ندر فيه ذوو التخصص العالي، فآنذاك “لم يكن ممكناً تأمين اكثر من نصف عدد الموظفين المطلوب وكان الإداريون المجربون نادرين، والاختصاصيون أندر.”

ساعة الحساب
بعد عودته الى لبنان اثر اندلاع الحرب العالمية الاولى سنة 1914، شهد سعيد، كسائر سكان المنطقة أهوال الحرب العالمية الاولى، التي زرعت الموت والجوع والخراب، فحفرت تجاوزات القادة الاتراك وارتكاباتهم عميقاً في وجدانه وعقله، وما أن عين مدعياً عاماً حتى هرع الى المطالبة بإحالة احمد جمال باشا قائد الجيش التركي في سوريا وفلسطين، وعزمي بك والي بيروت وعلي منيف بك متصرف جبل لبنان وجميع شركائهم بالجرائم، الى القضاء وإلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم.
قبل الشروع في مبادرته استشار سعيد السلطة الفرنسية في هذا الشأن وبعد بحث متواصل ومداولات طويلة، فوّض إليه الحاكم العام في 2 كانون الاول 1918 الصلاحيات الواسعة لاجراء ما يوجبه القانون فبدأ التحقيق الدقيق عن الجرائم المسندة الى هؤلاء، ورأى استكمالاً لهذا التحقيق، ان يصدر بحقهم مذكرات احضار، وكان اشيع ان المسؤولين الثلاثة يقيمون حيناً في ألمانيا، وآخرى في سويسرا او روسيا اي في البلدان الحليفة لتركيا.
في مذكرة الاحضار المذكورة المؤرخة في 2 كانون الاول 1918 تقرر القاء الظن على جمال باشا بقتل مجموع كبير من الاشخاص بصورة التعمد باستعمال الضغط والشدة على اعضاء المجالس العرفية واستعمال التعذيب في اثناء التحقيقات لإجبار الموقوفين على الاقرار
كما القي الظن على جمال باشا وعزمي بك المظنون فيه هو الآخر لارتكابهما جنايات منها إعدام اشخاص كثيرين تعمداً بدون إجراء تحقيقات ما وبدون وجود حكم يقضي به وذلك بتأثير الإكراه وسرقة أموال الأفراد باستعمال الشدة والتزوير وكسر الأبواب واشتراك جمال باشا وعزمي بك المتقدم ذكرهما وعلي منيف بك جنايات منها تهجير الآلاف من الناس مع عائلاتهم كباراً وصغاراً وجماهير بدون مسوغ قانوني، الجرم الذي جرّ وراءه خراب بيوت المبعدين تماماً، وموت كثيرين منهم، وعدا عن التهجير المذكور التسبب باستئصال شأفة الشعب اللبناني بالجوع والفاقة المرتبين بصورة منتظمة ووقوع قتل مجموع عظيم منه عدده مئة وخمسون الف شخص وكذلك جناية الاختلاس والاحتكار والسرقة للحنطة وسائر المواد الغذائية قصد تصديرها بصورة احتيالية للمناطق الجائعة في اوقات مناسبة يتمكن معها من تأمين ابهظ الارباح لمنافعهم الشخصية والتي حصل من جرائها موت قسم كبير من الأهالي.
ويجب القول إن مصير هذه المذكرة لا يزال مجهولاً، وجل ما ذكر في “حياة رجل” الذي انهي تحريره قبل سنة 1929 ان المتهمين الثلاثة “قد طالتهم يد القضاء الأعلى، الذي لا مرد لحكمه سبحانه عز وجلّ”.

سعيد يصدر مذكرة إحضار بحق جمال باشا وعزمي وعلي منيف بك بتهم القتل بلا سند قانوني أو تحقيق كاف وسرقة المحاصيل وتعذيب المتهمين وتهجير الألوف مع عائلاتهم

سعيد مثقف رجال الشرطة
ظل سعيد مدعياً استئنافياً لأكثر من سنة، ولكن سلطة الانتداب ما لبثت ان رقته واوكلت اليه منصب رئاسة المدعين العموميين على الاراضي اللبنانية، ولكن الترفيع لم يصبه بالغرور والاعجاب بالذات، فراح، كما كان يفعل في حلب، يلقي الدروس على مفوضي الشرطة ومعاونيهم، زهاء شهرين، وخلال المدة المذكورة وضع مؤلفاً، كان الاول من نوعه في لبنان سماه، “نظامات الضابطة” ضمنه كل ما يتعلق بسلك الشرطة من قوانين وواجبات واستحق المؤلف ثناء المستشار القضائي الأعلى في المفوضية العليا السيد “بياش” فبعث الى سعيد برسالة جاء فيها: “لا اشك في ان كتابكم يؤدي لهذه البلاد انفع الخدم واجلها، فأرجو ان تقبلوا أحرّ التهاني بعملكم الشاق الذي دلَّ في الوقت نفسه على علمكم الواسع في الشؤون القضائية واقتداركم السامي في الادارة واتمنى من صميم قلبي ان تهتم الحكومة بطبعه خدمة للبلاد.وتقديراً لإخلاص سعيد وتفانيه بأداء وظائفه، أهدته سلطة الانتداب وسام جوقة الشرف بموجب براءة من رئيس الجمهورية مؤرخة في كانون الثاني، سنة 1921.

تكليفه بتطهير الجمارك من الفساد
وفي سنة 1921 ولما انفضح أمر بعض رؤساء الجمرك وتورطهم في أعمال فساد، اهتمت المفوضية العليا بالامر، واخذت توفد الموظفين لكشف الستار عن ارتكابات المسؤولين عن قطاع الجمرك وتجاوزاتهم، ولكن جهود هؤلاء الموظفين باءت بالفشل، فتقرر انتداب سعيد لهذه المهمة، ومنحته المفوضية أوسع الصلاحيات واسعة للقيام بمهمته ووضعت كافة الأجهزة وسلطة القضاء تحت تصرفه.
وقد برهنت الصلاحيات الواسعة التي أعطيت لسعيد عن ثقة المفوضية العليا به، وعن تيقنها من مدى جدارته وجديته وشجاعته بالاضافة الى الاهتمام الخاص والمميز الذي توليه لدوائر الجمارك. وكان سعيد عند حسن ظن السلطة الانتدابية، فكشفت تحقيقاته عن الجرائم المالية التي ارتكبت وعن حجم الاختلاسات الحاصلة. فرفع الى السلطة الانتدابية تقريراً مفصلاً عن مراحل التحقيق واسماء المجرمين وشركائهم، مرفقاً بتوصيات مؤداها منع تكرار ما جرى .
هذه الانجازات دفعت السلطة الانتدابية الى ترقية سعيد من منصب المدعي العام للمحكمة العليا في بيروت، الى منصب رئيس الاستئناف الاول.

سعيد زين الدين وابنته نظيرة
سعيد زين الدين وابنته نظيرة

تدبير تأديبي فرنسي مفاجئ
استمر سعيد في نهجه الأصيل، المتميز بالنزاهة وروح المسؤولية، ولكنه، خلافاً للمحطات السابقة لم يصطدم بحواجز السلطة بل على العكس حظي بدعمها وتقديرها، ودارت معركته مع الموظفين الفاسدين في قطاع الجمارك، وفي هذا المجال عاضدته السلطة واطلقت يديه وكافأته بالترقية، فانتقل من منصب المدعي العام العمومي الى رئاسة محكمة الاستئناف، إلا ان خبراً مفاجئاً ورد في جريدة لسان الحال عدد 25/10/1926 جاء يربك هذه السيرة ويضع سعيداً في مواجهة السلطة الانتدابية إذ جاء فيه:
” كفت يد سعيد زين الدين الرئيس الاول لدى محكمة الاستئناف وملحم بك حمدان المحامي العام لدى محكمة التمييز واحيلا الى المجلس التأديبي، وذلك من اجل الاعمال المنسوبة اليهما في التقرير المذكور”.
للوهلة الأولى يُظن ان إحالة سعيد إلى المجلس التأديبي ذات صلة بمحاكمات المقاتلين الدروز ضد الانتداب في سوريا ولبنان ، إلا ان هذه الصلة ليست بديهية لأن محاكمة هؤلاء كانت تتم في المجلس الحربي الذي انشئ لهذه الغاية، لا في محكمة الاستئناف المختصة بالقضايا المدنية الا ان جريدة الحارس الصادرة في 26/10/1926 اي بعد يوم واحد، أجلت هذا الغموض. فالسلطة الفرنسية اصدرت هذا القرار اثر قيام سعيد وملحم بواجب التعزية برشيد طليع، الذي توفي في 13/9/1926 في السويداء واقيم له مجلس عزاء في بلدته “جديدة الشوف”، حيث اعتبرت السلطة الفرنسية مشاركة شخصيات رسمية في الدولة في تأبين شخص معارض يعتبر عملاً مؤيداً للثوار وداعماً لتحركاتهم وتشجيعاً للآخرين على مناهضة السلطة(15)، غير آبهة بالتقاليد الريفية التي تقضي بتقديم واجب التعزية بالمتوفين أياً كانت هويتهم السياسية، عدا عن كون رشيد طليع مجايلاً لسعيد وقريته مجاورة لقريته، ثم انه لم يصدر عن سعيد اي موقف مناهض للانتداب او منافح عنه، اذ كان قدم واجباته المهنية على نضاله السياسي، قد يكون عربي الهوى ، غير انه لم يبدر منه اي موقف او تصريح معارض للانتداب، وهذا لا يعني انه متنكر لهويته العربية- اللبنانية، بيد اننا نرى في تعاونه المهني مع السلطة الفرنسية امراً اعتيادياً وسلوكاً براغماتياً واقعياً، اذ كان لا يزال في عمر الـ 41 عندما استدعته سلطة الانتداب لشغل منصب المدعي العام، وبصفته قاضياً لم يكن بمقدوره فعل غير ذلك، أي تغيير وجهته المهنية ورفض عرض السلطة الانتدابية المهني، والتكيّف مع الأمر الواقع، ولو أن سعيداً كان يسر الى المقربين منه ان الشعب اللبناني ليس بعد قادراً على ادارة شؤونه العامة بنفسه ويحتاج الى مساعدة، على ما أخبرنا سليم صفا أحد معارفه. ولكن اتضح ان هذا الاشكال كان عابراً لأن السلطة الانتدابية ما لبثت ان رقّت سعيداً الى منصب النائب العام لمحكمتي الاستئناف والتمييز.

 

السلطان محمد الفاتح

السلطان محمد الفاتح

مؤسس الإمبراطورية العثمانية

لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ
الرسول محمد (ص)

جمع بين الورع والثقافة والإدارة والعبقرية العسكرية
فأزال الدولة البيزنطية وأرعب روما والممالك الأوروبية

كان شيخه الكوراني يخاطبه بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده
وكان يقول له «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط»

أعطى لنصارى القسطنطينية حرية العبادة واختيار رؤسائهم
والحكم في قضاياهم وأبقى لهم نصف الكنائس في المدينة

أعدّ لفتح القسطنطينية بكل عناية فاهتم بالمدافع وإحكام الحصار
والأسطول البحري لكن سلاحه الأول كان مرافقة العلماء للجيش

أغلق المدافعون عن القسطنطينية الممر البحري بالسلاسل
فنقل الفاتح سفنه بجرها على اليابسة فصعق البيزنطيون

كلّف رجال دين نصارى رسمياً مهمة التجوال في أنحاء الدولة،
ومراقبة إدارة الدولة ومدى إحقاق العدل بين الناس في المحاكم

عند ذكر الفاتحين العظام الذين بدّلوا وجه التاريخ يبرز ذكر السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح) كواحد من القلّة النادرة من صنف هؤلاء الفاتحين، وهو الذي لم يكن سنه يتجاوز الرابعة والعشرين عندما تمكّن من سحق الإمبراطورية البيزنطية وإزالتها من الوجود، وقد درس محمد الفاتح على أيدي أولياء صوفية كبار مثل المولى شمس الدين الكوراني والمولى زيرك والقطب الصوفي الشهير آق شمس الدين. فمن هو السلطان محمد الفاتح وما هو الأثر الذي تركه على مسار الدولة العثمانية والعالم الإسلامي والإنسانية؟

«محمد الفاتح» أو «محمد الثاني» هو السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، وهو محمد بن مراد بك بن محمد بك بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان، يُلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً نجح خلالها، من خلال فتح القسطنطينية، في افتتاح تاريخ جديد للدولة العثمانية وعزّز مكانة الإسلام وهيبته في العالم.
نشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني الذي أهلّه ليكون جديراً بالسلطنة، إذ علّمه علوم الدولة وعلوم الشريعة والعلوم الحديثة فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلّم الفقه، كما درس الرياضيّات وعلم الفلك، إضافةً إلى إتقان فنون الحرب والقتال، كما تدرّب على إدارة شؤون الدولة، إذ تولّى السلطة على منطقة أماسيا في السلطنة، وكان ما زال في الحادية عشرة من عمره. وفي هذا ما يذكّر بتجربة الاسكندر الأكبر الذي ولّاه أبوه حكم مقدونيا كوكيل له وهو كان لا يزال في سن الخامسة عشرة. ورث عن أبيه الجلد والشجاعة والصبر والمعرفة بأمور القتال وتشرّب منه روح الإسلام لاسيما عبر الشيوخ الأقطاب الذين انتدبهم والده لتربيته، وكان إلى عبقريته العسكرية عالي الثقافة ومحباً للعلم والعلماء، وكان يتحدث عدداً من اللغات إلى جانب اللغة التركية، وهي: الفرنسية، اللاتينية، اليونانية، الصربية، الفارسية، العربية، والعبرية.
كان محمد الفاتح مهتماً بدراسة التاريخ، مغرماً بقراءة سير العظماء. تميّز بثقته الكبيرة بنفسه وبقدرته على تحمّل المشاق، ندر أن أدى صلاته خارج المسجد وسلك كل طريق تُقرِّبُه إلى الله جلّ وعلا، كان طموحاً محباً للتفوّق. وإلى جانب هذا كلّه، كان متواضعاً محباً للعلماء ورجال الأدب بالإضافة إلى الفنون وخاصةً الرسم، وكان يتذوّق الأدب ويحفظ الشعر وينشده، ولعلّ أكثر ما ميّزه هو حياته البسيطة فقد كان عدواً للترف وللعادات المعقّدة، مائدته بسيطة نادراً ما تخلو من العلماء والأدباء.

إخبار الرسول (ص) عنه
من أهم الكرامات التي حظي بها محمد الفاتح، السلطان المؤمن، هو أن رسول الله (ص) مدحه ضمناً في حديث صحيح ورد في مسند ابن حنبل تنبأ فيه بفتح القسطنطينية وقد جاء فيه:
} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ{
أسبغ الحديث النبوي الذي تنبأ بفتح القسطنطينية وامتدح الأمير الذي سيفتحها وجيشه هالة من الجلال والاحترام على شخص الفاتح عندما تمّ الفتح وتحقق ما جاء في إخبار الرسول (ص) على يده، إذ تمكّن السلطان الشاب بنصر من الله من تحقيق أعظم إنجاز في تاريخ الإسلام منذ الفتوحات الأولى، فأسقط بذلك تلك المدينة العظيمة والمحصّنة التي صمدت أكثر من ثمانية قرون لأكثر من 11 محاولة لفتحها على يد الخلفاء المسلمين المتعاقبين، وهي كانت تحوّلت إلى شوكة في خاصرة الدولة العثمانية الصاعدة ومصدر متاعب لها. وقد أدى فتح القسطنطينية إلى القضاء نهائياً على الدولة البيزنطية بعد أن استمرّت أحد عشر قرناً ونيف، وبلغ من أهمية الحدث في نظر العديد من المؤرخين أنهم اعتبروه خاتمة العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، ويعتبر فتح القسطنطينية عند الأتراك فاتحة ما أسموه بـ «عصر الملوك» إذ تحوّلت الدولة العثمانية في عهد الفاتح ومع زوال بيزنطة من سلطنة إلى إمبراطورية قبل أن تبلغ ذروتها من القوة والمجد والرقي في عهد سليمان القانوني ابن حفيد محمد الفاتح في القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تابع السلطان محمد بعد ذلك فتوحاته في آسيا، فوحّد ممالك الأناضول، وتوغّل في أوروبا حتى بلغراد ويبدو أنه كان في طريقه إلى روما مقر البابوية لولا أن الموت عاجله وهو منشغل بإعداد حملة عسكرية ضخمة أبقى تفاصيلها كلها سراً حتى عن أقرب المقربين إليه.

كتب لوالده الزاهد طالباً منه العودة لتحمــّـل مسؤولياته قائلاً: إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش

مولده ونشأته
وُلد محمد الثاني، للسلطان مراد الثاني في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية فجر يوم الأحد بتاريخ 26 رجب سنة 833 هـ الموافق 20 أبريل من سنة 1429 م ، وعندما بلغ سن الحادية عشرة، أرسله والده السلطان، كما كانت عليه عادة الحكّام العثمانيين، إلى أماسيا ليكون حاكماً عليها وليبدأ في اكتساب الخبرات اللازمة لحكم دولة بقوة واتساع الإمبراطورية العثمانية. وقد مارس محمد الأعمال السلطانية في حياة أبيه، وكان منذ تلك الفترة يعايش ويتابع صراع المسلمين مع الدولة البيزنطية وقد استوعب مع الوقت أن بقاء بيزنطة والقسطنطينية أصبح عقبة لا بدّ من إزالتها إذا أريد للدولة العثمانية القوية أن تحقق طموحاتها وتبسط سيادتها على العالم القديم حتى تخوم الصين والهند. وكان السلطان مطلعاً اطلاعاً وافياً على المحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة.

الشيخ فوق الأمير
وخلال الفترة التي قضاها حاكماً على أماسيا، أرسل السلطان مراد الثاني إليه عدداً من المعلمين بهدف الإشراف على تعليمه وتربيته وفق المبادئ الإسلامية لكنه وهو الأمير الصغير المعتد بقوته لم يمتثل لأمرهم، ولم يقرأ شيئاً، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، الأمر الذي كان يُعد ذا أهمية كبرى في تكوين ملوك بني عثمان، عندها طلب السلطان مراد أن يأتوا له برجل ذي مهابة وحدة، فذكر له المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، فجعله معلماً لولده وأعطاه قضيباً يضربه به إذا خالف أمره، فذهب إليه، ودخل عليه والقضيب بيده، فقال: «أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري»، فضحك السلطان اليافع من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضرباً شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد، وخضع لهيبته وقد ساهم ذلك في تحقيقه تقدماً كبيراً وسريعاً في حفظ القرآن الكريم والتضلّع بالعلوم الشرعية في مدة يسيرة.

تربية إسلامية وتقوى
هذه التربية الإسلامية على يد ذلك الولي الصالح كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية محمد الفاتح، إذ جعلت منه مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيداً بالأوامر والنواهي، معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها، فتأثر بالعلماء الربانيين، وبشكل خاص معلمه مولاه «الكوراني» وانتهج منهجهم. ثم برز دور الشيخ العارف الصوفي «آق شمس الدين» في تكوين شخصية محمد الفاتح وقد بث فيه منذ صغره أمرين هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، وإخباره دوماً منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي، وقد جعل ذلك محمد الثاني مؤمناً حقاً بأنه أصطفي من الله تعالى لإنجاز ذلك الفتح، وأنه هو المقصود على الأرجح بحديث الرسول (ص) حول فتح القسطنطينية.

اعتلاؤه العرش للمرة الأولى
في 13 يوليو سنة 1444 أبرم السلطان مراد الثاني معاهدة سلام مع إمارة قرمان بالأناضول، وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزناً شديداً وسئم الحياة، فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية أيدين للإقامة بعيداً عن هموم الدنيا وغمها، لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتماداً على تغرير الكاردينال «سيزاريني»، مندوب البابا، وإفهامه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تُعد حنثًاً ولا نقضاً.
وكان السلطان محمد الثاني قد كتب إلى والده يطلب منه العودة للقيام بمسؤولية حكم وإدارة السلطنة تحسباً لوقوع معركة مع المجر، إلا أن مراد رفض هذا الطلب. فردّ محمد الثاني الفاتح: «إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش». وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1444.
يُقال بأن عودة السلطان مراد الثاني إلى الحكم كان سببها أيضاً الضغط الذي مارسه عليه الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي لم يكن مولعاً بحكم محمد الثاني، بما أن الأخير كان متأثراً بمعلمه المولى «الكوراني» ويتخذ منه قدوة، وكان الكوراني على خلاف مع الباشا.

ولايته الأولى في مانيسا
انتقل السلطان محمد الثاني إلى مانيسا الواقعة بغرب الأناضول بعد ثورة الإنكشارية عليه، وبعد أن جمعهم والده وانتقل لخوض حروبه في أوروبا. ولا توجد معلومات وافية عمّا قام به السلطان محمد في الفترة التي قضاها في مدينة مانيسا. وكان السلطان مراد الثاني قد عاد إلى عزلته مرة أخرى بعد أن انتصر على المجر واستخلص مدينة فارنا منهم، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضاً، لأن عساكر الإنكشارية ازدروا ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445 وأخمد فتنتهم. وخوفاً من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة، أراد أن يشغلهم بالحرب، فأغار على بلاد اليونان والصرب طيلة سنواته الباقية، وفتح عدداً من المدن والإمارات وضمها إلى الدولة العثمانية.
قام محمد الفاتح خلال المدة التي قضاها في مانيسا، بضرب النقود السلجوقية بإسمه، وفي أغسطس أو سبتمبر من سنة 1449، توفيت والدته، وبعد ذلك بسنة، أي في 1450، أبرم والده صلحاً مع «اسكندر بك الألباني وكان الأخير قد تظاهر بالإسلام وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قرّبه إليه، ثم انقلب عليه أثناء انشغاله بمحاربة الصرب والمجر، وبعد عدد من المعارك رأى السلطان الذي كان منشغلاً بالفتوحات مصالحة الأمير المتمرد ريثما يفرغ من حملاته تلك فيعود إلى معالجة ما كان هذا يحدثه من فوضى واضطراب».

الجيش العثماني يتدفق على المدينة المحاصرة بعد انهيار دفاعاتها
الجيش العثماني يتدفق على المدينة المحاصرة بعد انهيار دفاعاتها

اعتلاؤه العرش للمرة الثانية
عاد السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، عاصمة ممالكه ليُجهز جيوشاً جديدة كافية لقمع الثائر على الدولة، «اسكندر بك»، لكنه توفي في يوم 7 شباط/ فبراير سنة 1451، وما أن وصلت أنباء وفاة السلطان إلى ابنه محمد الثاني، حتى ركب فوراً وعاد إلى أدرنة حيث توّج سلطاناً للمرة الثانية في 19 شباط/ فبراير من السنة نفسها، وأقام جنازة لوالده الراحل وأمر بنقل الجثمان إلى مدينة بورصة لدفنه بها.
عندما تولّى محمد الثاني الملك خلفاً لوالده لم يكن قد بقي خارج سلطانه في آسيا الصغرى إلا جزء من بلاد القرمان ومدينة «سينوب» ومملكة طرابزون الروميّة. وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها. وكان إقليم «موره» مجزءاً بين البنادقة وإمارات صغيرة عدة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية. أضف إلى ذلك بلاد البشناق المستقلة، والصرب التابعة للدولة العثمانية تبعية سيادية؛ أما ما بقي من شبه جزيرة البلقان كان داخلاً تحت سلطة الدولة كذلك.

السلطان-محمد-الفاتح-يشرف-على-نقل-سفن-الأسطول-العثماني-عبر-اليابسة-متجاوزا-إغلاق-المدافعين-لمدخل-البوسفور
السلطان-محمد-الفاتح-يشرف-على-نقل-سفن-الأسطول-العثماني-عبر-اليابسة-متجاوزا-إغلاق-المدافعين-لمدخل-البوسفور

الإعداد لفتح القسطنطينية
أخذ السلطان محمد الثاني، بعد وفاة والده، يستعد لفتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق، فبذل بداية الأمر جهوداً عظيمة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون جندي، وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب الجيش على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهله للغزو الحاسم المنتظر، كما أعتنى الفاتح بإعداد قواته إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وكان يذكرهم دوماً بثناء الرسول (ص) على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لإنتشار العلماء بين الجنود ومرافقتهم لهم في المعارك أثر كبير في تقوية عزائمهم.
أراد السلطان، قبل أن يبدأ الحملة الفاصلة لفتح القسطنطينية أن يُحصّن مضيق البوسفور بما يقطع الطريق المائي لإمداد المدينة من مملكة طرابزون، وذلك بأن يُقيم قلعة على شاطئ المضيق في أضيق نقطة من الجانب الأوروبي منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي. ولمّا بلغ إمبراطور الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يُقررها، فرفض الفاتح طلبه وأصرّ على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأطلق عليها إسم «قلعة روملي حصار» ، وأصبحت القلعتان متقابلتين، ولا يفصل بينهما سوى 660 متراً، تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربه وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة. كما فرض السلطان رسوماً على كل سفينة تمرّ في مجال المدافع العثمانية المنصوبة في القلعة، وكان أن رفضت إحدى سفن البندقية التوقّف رغم إرسال العثمانيين لها عدداً من الإشارات، فتمّ إغراقها بطلقة مدفعية واحدة فقط.
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع، التي أخذت اهتماماً خاصاً منه، حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع، فأحسن استقباله ووفّر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية. تمكّن هذا المهندس من تصميم وتصنيع العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها «المدفع السلطاني» المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.
ويُضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها من دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة، وقد ذُكر أن السفن التي أعدّت لهذا الأمر بلغت مائة وثمانين سفينة في أقل تقدير، وقد ذكرت مصادر أخرى أنها قاربت الثلاثمائة سفينة.

معاهدات لكسب الوقت
عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غالاطا المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع جنوة والبندقية، وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن المدينة.
في الوقت الذي كان السلطان يعد العدة للفتح، حاول الإمبراطور البيزنطي جاهداً ثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره، ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنِه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا وهو الرئيس الروحي للكنيسة الكاثوليكية في العالم، وهذا على الرغم من العداء التاريخي الشديد بين روما وبين الكنيسة البيزنطية، وقد اضطر الإمبراطور لمجاملة البابا والتقرّب إليه بأن أظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وكان موقف الإمبراطور البيزنطي يائساً بالفعل لكي يقدم مثل تلك التنازلات التي لم يكن شعبه أو كنيسته موافقة عليها. ويبدو أن البابا وجد في التهديد الوشيك للقسطنطينية فرصة تاريخية لمدّ نفوذ الفاتيكان شرقاً، وهو قام لذلك بإرسال مندوب منه إلى المدينة فخطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، إلا أن تدخل روما على تلك الصورة أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال أحد زعماء الكنيسة الأرثوذكسية: «إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية» .

أقنعه شيخه بأنه هو المقصود بحديث الرسول (ص) عن فتح القسطنطينية فبث هذا الإيمان في جنوده وضباطه وسار على رأسهم وأثبت صدق النبوءة

الإمبراطور قسطنطين ينظر من فوق حصون القسطنطينية إلى الحشود الهائلة لجيش السلطان محمد الفاتح
الإمبراطور قسطنطين ينظر من فوق حصون القسطنطينية إلى الحشود الهائلة لجيش السلطان محمد الفاتح
صدمة أوروبا بسقوط القسطنطينية
سبّب سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين صدمة عنيفة للعالم الأوروبي المسيحي والذي اعتاد على اعتبار هذه المدينة مقدسة لا تعادلها في القدسية إلا مدينة  القدس التي كانت قد أصبحت منذ العهد الراشدي مدينة إسلامية. وقد اعتبر سقوط المدينة بعد صمودها ثمانية قرون بمثابة أمر يعصى على التصديق ليس فقط لأنه أزال من الوجود معقل المسيحية في الشرق، بل لأنه يفتح الطريق أمام تقدم المسلمين في أوروبا نفسها. لذلك فقد فجّر الفتح الإسلامي للمدينة عاصفة من الخوف والمرارة انعكست بمناخ لا مثيل له من الكراهية للإسلام وبموجات تحريض وتعبئة بدت وكأنّها تستهدف إحياء مناخ العصبية والجهاد المقدس الذي رافق الحملات الصليبية. وقد بذل الأمراء ورجال الإكلير والشعراء والأدباء كل ما في وسعهم لتأجيج براكين الغضب في نفوس الأوروبيين ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادوا إلى نبذ الخلافات والحزازات والتوحد ضد العثمانيين. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وقد عمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عُقد في روما، أعلنت فيه الدول المشاركة عزمها على التعاون في ما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتحقق إلا أن الموت عاجل البابا في 25 مارس سنة 1455 أي بعد سنتين تقريباً من سقوط القسطنطينية.

السلطان يخطب في الجيش
في تلك الأثناء كان السلطان محمد الفاتح قد بدأ في تسريع استعداداته للحرب الفاصلة فقام أولاً بتمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة عبرها إلى القسطنطينية. كما قام السلطان بتحريك المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، وخلال مدة شهرين تمّ تركيزها كلها كما تمت حمايتها بقسم الجيش، ثم وصلت بعد ذلك الجيوش العثمانية التي كان يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 6 أبريل 1453.
صبيحة اليوم التالي جمع السلطان جيوشه المتعددة الألوية والبيارق وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي أي ربع مليون، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكّرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين، وقد ردّ الجيش على الخطبة بصيحات تهليل وتكبير مدوية وعلّت في أرجاء المعسكر أناشيد حماسية عبّرت عن تحرق الجيش لبدء الهجوم.
مع اكتمال حشد الجيوش كان السلطان قد أحكم الحصار على المدينة بجنوده من ناحية البرّ، وبأسطوله من ناحية البحر، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية مدفعية وضع بها المدافع الجسيمة التي صنعها أوربان، والتي قيل بأنها كانت تقذف كرات هائلة من الحجارة إلى مسافة ميل، ومن الأمور العجيبة التي حصلت أثناء الحصار أن قوات السلطان وقادته اكتشفوا في أثناء الحصار قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي استشهد حين حاصر القسطنطينية في سنة 52 هـ أثناء خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي. وقد اعتبر السلطان هذا الاكتشاف فأل خير وهو سيعود ليقيم فوق المكان جامعاً مهيباً يعتبر من أكبر جوامع اسطنبول.
وفي هذا الوقت كان البيزنطيون قد قاموا بسدّ مداخل ميناء القسطنطينية بسلاسل حديدية غليظة حالت بين السفن العثمانية والوصول إلى القرن الذهبي، بل دمرت كل سفينة حاولت الدنو والاقتراب، إلا أن الأسطول العثماني نجح على الرغم من ذلك في الاستيلاء على جزر الأمراء في بحر مرمرة، فاستنجد الإمبراطور قسطنطين، آخر ملوك الروم، بأوروبا، فلبّى طلبه أهالي جنوة وأرسلوا له إمدادات مكونة من خمس سفن، وكان يقودها القائد الجنوي جوستنياني يُرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة، فأتى هذا القائد بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فاعترضته السفن العثمانية ونشبت بينهما معركة هائلة في يوم 21 أبريل، 1453 انتهت بإفلات جوستنياني وتمكّنه من دخوله الميناء بعد أن رفع المحاصَرون السلاسل الحديدية ثم أعادوها بعد مرور السفن الأوروبية كما كانت.
حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلاسل الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، إلا أنها لم تنجح في ذلك، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة. عندها أخذ السلطان يُفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برّاً وبحراً، فخطرت في باله فكرة غريبة هي أن يتم جر المراكب العثمانية في حركة التفافية عبر طريق بري، بحيث يتم تجاوز السلاسل الموضوعة لمنعها من دخول المضيق وإنزالها في مكان متقدم من المضيق خلف القوات البحرية المدافعة. وقد وتمّ هذا الأمر المستغرب بأن مهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وجيء بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة من السهل انزلاق السفن عليها وجرها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من البيزنطيين.
استيقظ أهل المدينة صباح يوم 22 نيسان/ أبريل وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين. وقد عبّر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحوّل الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر».
أيقن المحاصرون عندها أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم، لكنهم صمموا مع ذلك على الدفاع عن مدينتهم ربما بسبب آمال ضعيفة أن تصلهم إمدادات كبيرة من أوروبا إن هم تمكنوا من تأخير الهجوم العثماني، إلا أن السلطان محمد الفاتح الذي أصبح واثقاً من النصر سعى الى اجتناب إراقة الدماء فبعث إلى الإمبراطور قسطنطين برسالة دعاه فيها إلى تسليم المدينة سلماً، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى. وأعطى السلطان الفاتح الخيار لأهل المدينة بالبقاء فيها أو الرحيل عنها. ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إلى التسليم وأصرّ آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور إلى رأي القائلين بالقتال، وهو قام برد رسول الفاتح مع رسالة قال فيها إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم، وأنه يرضى أن يدفع له الجزية، أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها حتى آخر نفس في حياته، فإما أن يحفظ عرشه أو يُدفن تحت أسوارها. ولما وصل جواب الإمبراطور البيزنطي إلى الفاتح قال: «حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر».

كان لشدة اهتمامه بالتعليم يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ويحضر الصفوف كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة مجانياً

قصر-توبكابي---الوردة-الحمراء---في-اسطنبول
قصر-توبكابي—الوردة-الحمراء—في-اسطنبول

الهجوم الحاسم
عند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء 29 مايو، 1453 بدأ الهجوم العام على المدينة، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج وأعملوا السيف في مَنْ عارضهم واحتلوا المدينة شيئاً فشيئاً إلى أن سقطت بأيديهم، بعد 53 يوماً من الحصار، أما الإمبراطور قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه كما وعد، ولم يهرب أو يتخاذل. ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أمره بمنع كل اعتداء، فساد الأمن حالاً. ثم توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القساوسة والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف المسيحيون داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بأن يؤذن في الكنيسة بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً. وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في النظر بالقضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع. ثم قام بجمع رجال الدين المسيحيين لينتخبوا بطريركاً لهم، فاختاروا جورجيوس كورتيسيوس سكولاريوس وأعطاهم نصف الكنائس الموجودة في المدينة، أما النصف الآخر فجعله جوامع للمسلمين. وبتمام فتح المدينة، نقل السلطان محمد مركز العاصمة إليها، وسُميت «إسلامبول»، أي «تخت الإسلام» أو «مدينة الإسلام» .

سياسة الفاتح المتسامحة
بعد تمام النصر والفتح، إتخذ السلطان لقب «الفاتح» و«قيصر الروم»، وذلك بإعتبار أن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل مركز الحكم إليها سنة 330 بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكانت للسلطان رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيراً من أسلافه، كالسلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات.
يذكر أن السلطان أمر بعد سقوط القسطنطينية بحبس الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي اتهم أثناء حصار المدينة بالتعامل مع العدو أو تلقيه رشوة منه لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين يوماً وسُملت عيناه، ثم حُكم عليه بالإعدام فأعدم.
السلطان يوسّع رقعة الدولة
بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر السلطان ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، جرت العادة في ما بعد أن يتقلّد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد، ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها «دمتريوس» و«توماس»، أخوا قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك، وغيّر وجهته قاصداً بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري، الملقب «بالفارس الأبيض»، وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية، إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون حكم المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقاً. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنوياً ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة 1454.
وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومرّ بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها من دون أن يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب وحاصرها من جهة البر والنهر. وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها بشراسة فقرر السلطان رفع عنها الحصار سنة 1455. لكن ورغم عدم تمكّن العثمانيين من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم أصابوا هونياد بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يوماً. ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم «محمود باشا» لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة 1458 إلى سنة 1460.
وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة 1458 فتح السلطان مدينة «كورنته» وما جاورها من بلاد اليونان حتى جرّد «طوماس باليولوج»، أخا قسطنطين، من جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية. وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار طوماس وحارب الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة 1460 فهرب طوماس إلى إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس وغيرهما من جزر بحر الروم.

التوسّع في آسيا الصغرى
بعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحاً مع إسكندر بك وترك له إقليمي ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه من دون أن يُعلم أحداً بوجهته في أوائل سنة1461، فهاجم أولاً ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجّاراً يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم أو لأرواحهم، فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب. ثم أرسل إلى «اسفنديار»، أمير مدينة سينوب، يطلب منه تسليم بلاده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها إليه الأمير وأقطعه السلطان أراضي واسعة بأقليم «بيثينيا» مكافأة له على خضوعه، ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها من دون مقاومة شديدة وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.

وفي سنة 1464، أراد ملك المجر استعادة البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.
في سنة 1463 أشعل البنادقة حركة عصيان على الدولة العثمانية، لكنهم لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد موره من دون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره من دون فائدة.

البابا يدعوه إلى الدين المسيحي
بعد ذلك حاول البابا «بيوس الثاني» بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية النجاح في أحد بأمرين. وهو اختار أولاً سبيل الإغراءات فأرسل خطاباً إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله قسطنطين الأول الروماني وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول بعث المشروع الصليبي في نفوس النصارى، شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة، عاجل الموت البابا بعد ذلك بفترة قصيرة.

لقد حول محمد الفاتح اليابسة إلى بحار وجعل سفنه تبحر فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر
(قائد بيزنطي)

فتح القسطنطينية عام 1453
فتح القسطنطينية عام 1453

الفاتح يلحق الهزيمة بالمغول
بعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا، حوّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى ووجد سبيلاً سهلاً للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحق، ولكونه كان لديه إخوة لأب أكبر منه سناً، يرغب كل منهم بالحكم بطبيعة الأمر، تدخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحق وهزمه وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة اسكندر بك، الذي كان ما زال على قيد الحياة آنذاك، فانتهز الأمير إسحق غياب السلطان وعاود الكرّة على قونية، عاصمة القرمان، لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وقهره. وليستريح باله من هذه الجهة أيضاً، ضمّ إمارة قرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.
وبعد ذلك بقليل زحف أوزون حسن ، سلطان دولة الخروف الأبيض، وهو أحد خلفاء تيمورلنك، الذي كان سلطانه ممتداً على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهري جيحون والفرات، وفتح مدينة «توقات» عنوة ونهب أهلها. فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرّار وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناضول، و مصطفى باشا حاكم القرمان، يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوّ، فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش «أوزون حسن» على حدود إقليم الحميد، وهزماه شر هزيمة في معركة بالقرب من مدينة إرزينجان. وبعدها، في أواخر صيف سنة 1473، سار إليه السلطان نفسه ومعه مائة ألف جندي وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة كَنجه، ولم يعد «أوزون حسن» لمحاربة الدولة العثمانية بعد ذلك، إذ أن هذه المعركة كانت قد قضت على سلطة دولته، ولم يعد للعثمانيين من عدو لجهة الشرق، حتى بروز الشاه إسماعيل الصفوي والدولة الصفوية في وقت لاحق، وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا روما وأمير نابولي، وكان النصر فيها دائماً للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم.

مواجهة دولة البندقية
وفي سنة 1477 أغار السلطان على بلاد البنادقة ووصل إلى إقليم «فريولي» بعد أن مرّ بإقليميّ «كرواتيا» و «دالماسيا » ، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا. بعد ذلك، وبسبب الضغط المستمر للمدفعية العثمانية قرر البنادقة عقد صلح جديد مع السلطان تنازلوا بموجبه عن ميناء إشقودره الاستراتيجي مقابل بعض الامتيازات التجارية، وتمّ الصلح بين الفريقين على ذلك ووقعت بينهما معاهدة في يوم 28 كانون الثاني/يناير سنة 1479 وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية لفرض نفسها كطرف في جنوب القارة الأوروبية، إذ كانت جمهورية البندقية حينذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوة.

تنظيمات السلطان الفاتح للدولة
في موازاة اهتمامه بالفتوحات وتوسيع رقعة الإمبراطورية العثمانية أظهر السلطان محمد الفاتح كفاءة كبيرة في تنظيم الدولة عبر الاهتمام بالاقتصاد والجيش والإدارة والمالية والصحة العامة والأمن والقضاء وغيرها من شؤون الدولة لكن السلطان أولى في الوقت نفسه اهتماماً خاصاً بتعزيز الدين الإسلامي فبنى الجوامع والمعاهد الدينية ورصد لها الأوقاف واهتم بالعلماء وقربهم، ونبع اهتمام السلطان بالجانب الديني من تحول الإمبراطورية العثمانية رسمياً إلى دولة الخلافة والسلطان إلى خليفة المسلمين أو «أمير المؤمنين»، كما نبع من اقتناعه الشديد بأن التزام الدين الحنيف من كل فئات المجتمع ولا سيما الحكام يوفّر للدولة التوفيق والنصر من الله جلّ جلاله.
إصلاحات رائدة لنظام التعليم
كان أول ما فعله السلطان محمد الفاتح هو الاهتمام بنظام ومؤسسات التعليم بحيث يوفر أساس قوة الدولة وحيويتها، وهو بدأ بإعادة هيكلة هذا القطاع وترتيب المدارس درجات ومراحل مع وضع المناهج لها، وجرى تحديد العلوم والمواد التي تُدرّس في كل مرحلة، ووَضَعَ لها نظاماً واضحاً.
فرض السلطان إجراء الامتحانات الدقيقة لتقرير انتقال الطالب إلى المرحلة التالية، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان، وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة، وأنشأ إلى جانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثماني مدارس على كل جانب من جوانب المسجد يتوسطها صحن فسيح، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته، وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وأنشأ إلى جانبها مكتبة خاصة وكان يُشترط في الرجل الذي يتولّى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحراً في أسماء الكتب والمؤلفين، وكانت مناهج المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضاً.
من أبرز مآثره أيضاً تقريبه للعلماء ورفع قدرهم وتشجيعهم على العمل والإنتاج، بدل التواكل، وبذله لهم الأموال والعطايا والمنح والهدايا وتكريمهم غاية الإكرام.
وقد كان من مكانة شيخه المربّي أحمد الكوراني أنه كان يخاطب السلطان بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده بل يصافحه مصافحة، وكان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه، وكان يقول له: «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط». وكذلك بالنسبة للشيخ «آق شمس الدين» الذي درّس السلطان محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية، والفارسية والتركية، وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب، وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولّى إمارة «أماسيا» ليتدرّب على إدارة الولاية، وأصول الحكم. واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: «لتفتحنَّ القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا. وكان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بيّن السلطان لمن حوله – بعد الفتح-: «إنكم ترونني فرحاً، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين». وعبّر السلطان عن مهابته لشيخه في حديث له مع وزيره «محمود باشا»، حيث قال: «إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري. إنني أشعر وأنا إلى جانبه بالانفعال والرهبة».

مدفع سلطاني عثماني مماثل للمدفع الذي استخدم عند حصار القسطنطينية. تمّ صب هذا المدفع عام1464، وهو الآن موجود في متحف الترسانة الملكية البريطانية

دعم حركة الترجمة والتأليف ونشر المعرفة بتعميم المكتبات العامة وأنشأ في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت

اهتمامه بالثقافة والشعر
كان السلطان الفاتح شاعراً موهوباً، وكان له اهتمام شديد بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم، وكان في بلاطه ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم، وكان مع هذا ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب من يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاده. وكان الفاتح يكتب أشعاره بإسم «عوني»، ويُعدّ أوّل شاعر سلطاني اتخذ لنفسه إسماً مستعاراً. وللفاتح ديوان باللغة التركية معظمه في الغزل.
أتقن السلطان اللغة اليونانية وست لغات أخرى وكان عمره لا يتجاوز الـ 21 عاماً، أي في السنة التي فتح فيها القسطنطينية، وقد أمر بنقل العديد من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية، ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب للزهراوي، وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له طلب من العالم الرومي «جورج أميروتزوس» وابنه أن يقوما بترجمته إلى العربية وإعادة رسم الخريطة باللغتين العربية واليونانية، وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة، وقام العلامة القوشجي بتأليف كتاب بالفارسية ونقله للعربية وأهداه للفاتح.
كما كان مهتماً باللغة العربية فقد طلب من المدرّسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في تدريسهم وبين علم اللغة كالصحاح.. ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكتبات العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت.
اهتمامه بصحة رعايا الدولة
كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة. شجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وجميع أشكال العمران التي تعطي المدن بهاء ورونقاً، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتماماً خاصاً، وكان حريصاً على أن يجعلها «أجمل عواصم العالم» و«حاضرة العلوم والفنون».
الكثير من العمران انتشر في عهد الفاتح ، واهتم بدور الشفاء، ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب – ثم زيد إلى اثنين – من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحّال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين، وكان يُشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ووجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وأن لا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس من دون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.
ولعلّ أبرز آثار السلطان العمرانية هو قصر الباب العالي الذي أمر بالبدء ببنائه قرابة عقد الستينات من القرن الخامس عشر، إضافة إلى مسجده الذي حمل اسمه، وآيا صوفيا بطبيعة الحال التي أمر بتحويلها من كنيسة إلى مسجد.

الاهتمام بالتجارة والصناعة
اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية، وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة، وأنشأوا الجسور الجديدة مما سهّل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة، واضطرت الدول الأجنبية لمسايسة الدولة العثمانية ليمارس رعاياها حرفة التجارة في الموانئ المهمة العديدة في ظل الراية العثمانية. كان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عمّ الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة، وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة، ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد.

سنّ القوانين وتنظيم إدارة الدولة
عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته؛ ولذلك فقد سنّ القوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته، وكانت تلك القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية. وضع السلطان الفاتح أنظمة جديدة سار عليها من جاء بعده، فأطلق على الحكومة العثمانية اسم «الباب العالي» وجعل لها أربعة أركان، هم الصدر الأعظم وقاضي العسكر والدفتردار والنيشانجي. وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع «قانون نامه» المستمد من الشريعة المذكورة وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية، وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه، وقد استمرت المبادئ الأساسية لهذا القانون سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى سنة 1839.
إهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجدّ في ملاحقة اللصوص وقطّاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية. وعندما كانت الدولة تعلن الجهاد وتدعو أمراء الولايات وأمراء الألوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجة من إيراد اقطاعه، فإذا كان إيراد إقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاة وفرسان، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الألوية. قام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاءة وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.

رسم للسلطان محمد الفاتح وهو يشم زهرة
رسم للسلطان محمد الفاتح وهو يشم زهرة

فرمان سلطاني بحماية المسيحيين

في سنة 1462، وبعد إخضاع السلطان الفاتح لبلاد البوسنة قام بإصدار فرمان يتعلق بحماية الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد من أي اضطهاد أو ظلم، بسبب معتقداتهم الدينية، وما زال ذلك الفرمان يعتبر نموذجاً على سياسة التسامح التي طبقها العثمانيون على الأقليات المسيحية في جميع البلدان التي فتحوها. وفي ما يلي نص الفرمان.

“ بسم الله الرحمن الرحيم
أنا السلطان محمد خان الفاتح،
أعلن للعالم أجمع أن،
أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن: لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية. وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.
لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيراً، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم !
لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم !
وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية.
وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين أجمعين، بأنه لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !”

اسطنبول اليوم
اسطنبول اليوم

جعل العلاج والأدوية في مستشفيات الدولة بالمجان للجميع دون تمييز وكان يفرض على الأطباء عيادة مرضاهم مرتين في اليوم

تعزيز عديد وأسلحة بالجيش
تميّز عصر السلطان محمد الفاتح إلى جانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي، بإنشاءات عسكرية عديدة متنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسدّ احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال.
كان هناك صنف من الجنود يسمى، «لغمجية» وظيفته الحفر للألغام وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد الاستيلاء عليها، وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء. تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين. استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوة، أقوى الدول البحرية في ذلك الوقت.

تنظيم القضاء
إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه – شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته، ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة، ويمنحهم مرسوماً مكتوباً يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تُساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم، وقد أُعطي هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
كانت تقارير هؤلاء المبعوثين المسيحيين تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس من دون محاباة أو تمييز، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته. اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب، بل لا بدّ إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والقداسة والحماية. أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
كان السلطان الفاتح – رغم اشتغاله بالجهاد والغزوات – إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام، وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي، وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه، كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها.

وفاته
قاد السلطان حملة لم يحدد وجهتها، لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سُئل مرة: «لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها»، لكنّ المؤرخين يخمنون بأنها كانت إلى إيطاليا. لكن السلطان مرض وتوفى قبل تمكنه من السير فيها يوم 3 مايو سنة 1481 عن ثلاث وخمسين سنة بعد أن حكم لمدة 31 عاماً قضاها في حروب متواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، وأتم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وجميع ممالك وأقاليم آسيا الصغرى والصرب والبشناق وألبانيا، وحقق كثيراً من المنجزات الإدارية الداخلية التي سارت بدولته على درب الازدهار ومهدت الطريق أمام السلاطين اللاحقين ليركزوا على توسيع الدولة وفتح أقاليم جديدة. ومن مآثره أيضاً وضعه أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية، أي العين بالعين والسنّ بالسنّ، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمّها السلطان سليمان القانوني لاحقاً.
دُفن السلطان في المدفن المخصص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسسها في الآستانة، وترك للأجيال سمعة مهيبة في العالمين الإسلامي والمسيحي على حد سواء.

 

سيف-السلطان-محمد-الفاتح-في-قصر-الباب-العالي
سيف-السلطان-محمد-الفاتح-في-قصر-الباب-العالي

وصيّته لابنه:

هذه هي الوصية التي سجّلها السلطان محمد الفاتح لابنه بايزيد وهو على فراش الموت:

«ها أنذا أموت، ولكنني غير آسف لأنني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك من دون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها. وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تبدّد، وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتَهم، وابذل إكرامك للمستحقين .
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرَّنَّك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذِ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».

زراعة الخضار الصيفية

زراعــــة الخضــــار الصيفيــــة

مصـدر غـــذاء طبيعـــي يحمـــي صحـــة الأســـرة
ومصـــدر دخـــل وفيـــر للمزارعيـــن المحترفيـــن

حذار التسميد الزائد لأنه يضعف المحصول ويسبب الآفات
ويؤدي أخيراً إلى تملح التربة وقتل الكائنات المفيدة فيها

الخضار خصوصاً العضوية وغير المطهية هي المصدر الأهم للفيتامينات والأملاح والانزيمات والمعادن والألياف الطبيعية

جميع أمراض الخضار لا تحتاج الى مكافحة كيميائية
لوجود بدائل مثل المكافحة اليدوية والبيولوجية والعضوية

زراعة الخضار الصيفية في لبنان هي من الزراعات الهامة التي تلعب دوراً أساسياً في الإقتصاد اللبناني وتعطي مردوداً جيداً للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله من حيث المعاملة، المكافحة، الري، التغذية، والقطاف ثم التوضيب، البيع، والتصنيع. ويتوزّع الاهتمام بزراعة الخضار بين مزارعين صغار هدفهم تأمين حاجة البيت من الخضار الطبيعية التي لا تدخل في إنتاجها المبيدات والأسمدة الكيميائية أو هرمونات النمو، وهي أساليب باتت مع الأسف شائعة، وهناك المشاريع الزراعية الصغيرة (من دونم حتى خمسة دونمات)، وهذه يستهدف أصحابها تأمين العيش أو دعم مداخيلهم بدخل إضافي يحصلون عليه من استثمار أرضهم، خصوصاً إذا توافرت لهم المياه. ونظراً لأهمية الدور الذي تلعبه الخضار في تحقيق الأمن الغذائي وفي رفع مستوى المعيشة وتدعيم الإقتصاد الوطني، نضع بين أيادي المزارع اللبناني، أكان محترفاً أو تقليدياً، هذا الموضوع الذي يتطرق الى سبل كيفية زراعة الخضار بدءاً من تهيئة الأرض حتى القطاف.

كانت زراعة الخضار في المناطق الجبلية حتى أربعينات القرن الماضي مقتصرة على الزراعة البيتية كجزء من الاقتصاد المنزلي الذي يشمل أحياناً تسمين الخراف أو تربية الدواجن، وكان الهدف سدّ حاجة سكان القرى الذين كان العمل في الأرض أسلوب حياتهم ومصدر عيشهم، أي أن الزراعة البيتية كانت جزءاً من حياة الكفاف التي طبعت اقتصاد الجبل، وقد حال دون التوسع فيها نقص المال والمعدات وعدم توافر المياه أو البنى التحتية مثل الطرق ووسائل النقل والخبرات اللازمة. لكن الزراعة لأغراض التجارة أو التسويق المحلي بدأت تتطور منذ منتصف القرن الماضي بسبب نمو المدن والقوة الشرائية للمقيمين فيها وتطور الاقتصاد عموماً، وقد اكتشف المزارعون تدريجياً الزراعة الحديثة ووجدوا فيها مصدر دخل وفير فبدأوا في تعلمها وإتقان فنونها. وقد نشأ عن ذلك تطور القطاع الزراعي في لبنان وتحوله إلى أحد أركان الاقتصاد، لا سيما وقد ذاعت في الدول العربية سمعة وجودة الإنتاج اللبناني. وزادت من قوة القطاع الزراعي خبرة اللبنانيين في استقدام أو تطوير أصناف جديدة مرغوبة من المستهلك اللبناني أو العربي، وتتمتع بخصائص وراثية جيدة ومتطورة من حيث قدرتها على مقاومة الآفات الزراعية وجفاف التربة وتأقلمها مع جميع أنواعها، إضافة الى قدرتها على إنتاج أكبر كمية ممكنة من الخضار مع مواصفات مميزة للبذور والثمار عن الأصناف السابقة. كما تطورت خبرة المزارعين في تنظيم عملية التسميد الذواب وطرق الري والمكافحة العضوية والكيميائية، وبات ممكناً تصدير الكثير من هذه المنتجات للأسواق الخارجية، إضافة الى تصنيع المنتجات الغذائية، خاصة الخضار التي لا تصلح للتسويق والإستهلاك الطازج.
عالم من التنوع
زراعة الخضار عالم واسع من التنوع، وهناك في لبنان محاصيل خضرية كثيرة شائعة تطلبها السوق والمزارع، وأهمها:

الفصيلة الباذنجانية تضم البندورة، البطاطا، الباذنجان، والفليفلة.
الفصيلة القرعية تضم الخيار والكوسا والبطيخ الأحمر والأصفر والقرع والقثاء، واليقطين.
الفصيلة الصليبية تضم الملفوف والقرنبيط واللفت والفجل، والبروكولي.
الفصيلة الخيمية تضم الجزر والبقدونس.
الفصيلة المركبة تضم الخس.
الفصيلة النرجسية تضم البصل والثوم والكراث.
الفصيلة الرمرامية تضم السلق، السبانخ، والشمندر السكري.
الفصيلة الخبازية تضم البامياء.

وتختلف إنتاجية هذه الأصناف حسب إختلاف عوامل الوقت والمعاملة والأحوال الجوية وطبيعة التربة وعمقها وصلاحيتها للزرع وإصابتها بالآفات الزراعية من حشرات وعناكب وفطريات وبكتيريا وفيروسات وغيرها. هذا بالإضافة إلى مدى توافر العناصر الغذائية التي يحتاجها النبات أو زيادة إستهلاك عنصر غذائي أكثر من غيره مما يؤدي إلى ظاهرة عدم إمتصاص باقي العناصر.

أهمية الخضار كغذاء
تتصدّر الخضار على إختلاف أنواعها قائمة المواد الغذائية التي تقدم لجسم الإنسان ما يحتاج إليه من الأملاح المعدنية والفيتامينات الضرورية، إضافة إلى وجود الألياف النباتية الهامة للتغذية وإستمرار الحيوية. فالإنسان منذ القدم أدرك حاجته لجميع أنواع الخضار الشتوية منها والصيفية فإعتمدها في قوائم طعامه اليومي.
لذا، فزراعة الخضار لها أهمية ملحوظة في تأمين جزء من الإحتياجات الغذائية للإنسان. والخضار هي نباتات عشبية حولية أو ثنائية الحول. الحول الواحد معروف بالموسم الواحد أي الخضار التي تزرع في وقت أقل من سنة على سبيل المثال: البندورة تزرع بدءاً من شهر نيسان في المناطق الساحلية حتى شهر حزيران في المناطق الجبلية، وتتوقف عن الإنتاج في شهر تشرين الثاني عند تدني الحرارة. الحولان أي موسمان وهي النباتات التي تعطي الجزء الذي يؤكل في الحول الأول والأزهار والبذور في الحول الثاني مثل البقدونس والسلق.
وتزرع الخضار سنوياً حسب حاجة السوق، منها ما تستخدم أجزاؤها للتغذية فقد تؤكل ثمارها طازجة أو مطبوخة مثل: البندورة، الملفوف، والبازيلا؛ ومنها ما تؤكل نوراتها الزهرية مثل: القرنبيط، والبروكولي؛ أو أوراقها مثل: الخس، البقدونس، السلق، والرشاد؛ أو جذورها مثل: الفجل، الجزر، الشمندر، اللفت، والبطاطا الحلوة؛ أو أبصالها مثل: البصل، والثوم.

تقسيم النباتات
تصنّف علوم النبات أنواع الخضار إلى مجموعات تجمع بينها خصائص مشتركة، وذلك بهدف تسهيل فهم خصائص كل منها ومتطلباته، مع العلم إن النباتات التي تنتمي الى فصيلة واحدة لا تتشابه جميعها في الحاجات والعمليات الزراعية من تغذية وري ومكافحة… ولا في الإحتياجات البيئية من حرارة وتربة… وتقسّم هذه النباتات الخضارية الى مجموعات عدة بحسب الجزء الذي يستعمل للتغذية، وهي كالتالي:
1. خضر ورقية: وتشمل الخضار التي تؤكل أوراقها وتضم: الملفوف، الرشاد، الجرجير، السلق، السبانخ، الخس، البقدونس، الهندباء، الكرفس، الشمرة، البقلي، والكزبرة.
2. خضر ساقية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الساق في التغذية سواء كانت هذه الساق هوائية كما في الهليون، أو ساقاً منتفخة كما في الكرنب، وإما ساقاً متحورة تحت سطح التربة مثل البطاطا، والقلقاس.
3. خضر جذرية: وتضم الخضار التي تؤكل فيها الجذور وتتضخم جذورها كما في الجزر، اللفت، البطاطا الحلوة، والشمندر.
4. خضر زهرية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الأجزاء الزهرية مثل: الأرضي شوكي، القرنبيط، والبروكولي.
5. خضر بصلية: وتضم الخضار التي تؤكل منها الأبصال سواء كانت هذه الأبصال ناتجة عن تضخم قواعد الأوراق كما في البصل؛ أو من تضخم براعم أبطية موجودة في قواعد الأوراق كما في الثوم.
6. خضر ثمرية: وتشمل الخضروات التي تؤكل ثمارها سواء أكانت ناضجة مثل: البندورة، البطيخ الأحمر والأصفر؛ أو غير ناضجة مثل: الخيار، القثاء، الكوسا، اللوبياء، الباذنجان، والبامية.
7. خضر بذرية: وتضم جميع الخضار التي تؤكل بذورها طازجة أو جافة كما في: الفاصولياء، الفول، الحمص، والبازيلاء.

النحل ضروري لتلقيح المحاصيل لكن المبيدات تهدّده بالزوال
النحل ضروري لتلقيح المحاصيل لكن المبيدات تهدّده بالزوال

الإحتياجات البيئية
تحتاج بعض أنواع الخضار الى تنشئة بذورها في مشاتل صغيرة سواء عبر وضع تلك البذور في أوعية خاصة أو وضعها في التربة مباشرة. بالنسبة للبذور الصغيرة مثل: البندورة، الخس، الفليفلة، والباذنجان، يتم بذرها قبل موعد الزرع بحسب النوع من 20 الى 45 يوماً في أتربة مشجّعة للإنبات، والتي تحوي عناصر غذائية، مثل التورب، مع تظليلها (بقطع من النيلون أو في البيوت الزجاجية إن وجدت) تنقل الشتول الصغيرة الى أوانٍ خاصة (صوانٍ أو كبايات صغيرة) لتسريع نموها مع إبقائها في الجو المظلل. بعد ذلك، تتم زراعتها في مكانها المعين عندما يصبح الجو ملائماً والأرض مهيئة. وتساعد هذه العملية في إستمرار النباتات في النمو مباشرة ومن دون الحاجة لتظليلها خاصة إذا كان الجو حاراً، مثل: البندورة، الفليفلة، الباذنجان، الخس، والملفوف.
ملاحظة إن الشتول التي تقلع من المشتل لتزرع في الحقل تفقد قسماً كبيراً من جذورها الماصة مما يؤدي الى تأخيرها مدة أسبوع على الأقل لتبدأ بتكوين جذور حديثة ومن بعدها تبدأ في النمو. لهذا تحتاج الى تظليل بعد الزرع مباشرة.
الموقع: يجب أن يكون في مكان مكشوف لا تتجمع فيه الرطوبة التي تؤدي الى تكاثر وإنتشار الأمراض وغير معرضة للرياح الساخنة التي تؤدي الى تلف الأزهار وجفافها، قرب الموقع من الطريق لتقليل الكلفة، ووجود نبع ماء أو خزان لتجميع مياه الأمطار.
التربة: تحتاج نباتات الخضار الى تربة جيدة الصرف، عميقة ومفككة، وصالحة للزراعة، غنية بالمواد المعدنية الضرورية لها.
الحرارة: تنمو نباتات الخضار في حرارة معتدلة الى حارة نسبياً كونها من الخضار الصيفية. تتراوح درجات الحرارة ما بين 15 الى 33 درجة مئوية. أما الحرارة التي تزيد على 33 درجة مئوية، توقف نمو النباتات وتمنع عقد أزهارها، كما في إنخفاض الحرارة عن المعدل المطلوب، مما يؤدي الى إنخفاض المردود الإقتصادي لهذه الزراعة.
الري: بشكل عام، جميع نباتات الخضار تحتاج الى ري ولكن بمعدلات مختلفة على سبيل المثال: تحتاج البندورة الى حوالي 20 لتراً من الماء في الاسبوع عند مرحلة جني المحصول. أما نبتة القثاء (مقتي)، فلا تحتاج لأكثر من 10 لترات ماء أسبوعياً. إن الخضار تستجيب بشكل جيد عند إشباعها بالماء والسماد وتعطي إنتاجاً ذات جودة وكمية عاليتين.
التسميد: تحتاج الخضار الى كميات متفاوتة من الأسمدة العضوية والكيميائية. بشكل عام، كلما كان حجم وتفرع وعدد الأوراق أكبر، تحتاج الى عناصر غذائية أكثر وتتفاوت حاجة النباتات الى هذه العناصر في مراحل نموها وحسب إنتاجها. فالنباتات الورقية مثل: البقدونس، الخس، والرشاد، تحتاج الى عنصر الآزوت أكثر من الفوسفات والبوطاس، كما أن الخضار التي تعطي ثماراً مثل: البندورة، البطيخ، واللوبياء، تحتاج الى الآزوت أكثر من غيره في مراحل النمو الأولى وتحتاج الى الفوسفور أكثر في مرحلة الإزهرار، والى البوطاس في مرحلة نمو الثمار لزيادة حجمها ونضجها.

مخاطر التسميد الزائد
إن الإفراط في زيادة كميات الأسمدة الكيميائية للخضار يؤدي الى تراجع الخضار عن المقاومة الذاتية للآفات الزراعية وتلف الثمار في وقت قصير وترسبه في التربة كأملاح معدنية وقتل بعض الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة، والتي تساعد النباتات على إمتصاص العناصر الغذائية مع الماء بعد تفكيكها وتحليلها وتحويلها كغذاء صالح للإمتصاص من قبل الجذور. مثلاً، يعطي الكثير من المزارعين لشتلة البندورة حوالي 100 غرام في الشهر من الأسمدة الكيميائية الذوابة (20-20-20 + عناصر صغرى) بينما تحتاج البندورة الى حوالي 30 غراماً من هذا السماد في الشهر ويقدم على دفعتين كل 15 يوماً.
أما الدونم الواحد فيحتاج بين 600 و1000 كلغ من الأسمدة العضوية المخمرة، والتي تؤدي دوراً كبيراً في تحسين خواص التربة والحفاظ على الرطوبة والحرارة. وهي الحاضن الطبيعي والأساسي للكائنات الحية الدقيقة والمساعد على تكاثرها، إضافة الى وجود بعض العناصر الغذائية فيه كالآزوت.
تهيئة الأرض قبل الزرع: تحرث الأرض حراثة أولى متوسطة بواسطة الجرار الذي يحمل السكك على عمق حوالي 40 سم مع إزالة الأعشاب البرية والحجارة إن وجدت التي تعيق العمليات الزراعية مثل الزرع، التسميد، الري، المكافحة، والقطاف، ثم حراثة سطحية على عمق 15 سم تقريباً بواسطة الفرامة أو العزاقة لتكسير الكتل الترابية ولتنعيم وتسوية سطح الأرض أو التربة. من المفضل أن تقسم الأرض الى خطوط متساوية أو أثلام أو مساكب لمعرفة سعة الأرض من الخضار المنوي زراعتها. بعد تقسيم الأرض، يوضع السماد العضوي في أماكن الزرع ويفضّل خلطه مع التراب لتحسين خواصها وإمداد النبات بالمواد الغذائية اللازمة، إضافة الى وضع محيط الجذور مفكك وسهل لتغلغلها بين حبيبات التراب. وأخيراً، تمدّد شبكة الري المعدّة خصيصاً لهذه الغاية ليتم بعدها الزرع حسب المسافات بين الشتلة والأخرى ومتوازية للنقاط الذي يمد الشتلة بالماء مباشرة اثناء عملية الزرع.

المكافحة العضوية تعتمد على الخل والحرّ القارس والثوم ومقطر الزعتر مع إمكان استخدام برش الصابون البلدي والكبريت الغروي والجنزارة

التعشيب: إن عملية العزق أو التعشيب هي من العمليات الهامة التي تحتاج اليها زراعة الخضار لأن الأعشاب تزاحم نباتات الخضار على الغذاء والماء، وتكون الناقل والحاضن لبعض الآفات الزراعية من أمراض وحشرات مشتركة ضارة، ومما يؤدي بالتالي الى إنخفاض الإنتاج.
المكافحة: تصاب نباتات الخضر بآفات عديدة تندرج تحت مجموعتين: الأمراض تسببها الفطريات، البكتيريا والفيروسات؛ والمجموعة الثانية تسببها الحشرات والعناكب، ومن المفضل أن تكون المكافحة متكاملة.
أهم الأمراض: اللفحة المتقدمة، اللفحة المتأخرة، الرمد، التبقع، الفوزاريوم، التبقع، والفيروسات. وهناك الحشرات الضارة مثل المن والذبابة البيضاء والدودة راعية الأوراق ودودة الثمار والدودة الخياطة والبسيلا، وهناك اخيراً العناكب مثل الأكاروز والحلم.
لا تحتاج جميع أمراض الخضار الى مكافحة كيميائية متخصصة بل نستطيع أن نقي الكثير من الخضار بواسطة المكافحة: الميكانيكية، البيولوجية، العضوية.
المكافحة الميكانيكية: أي يجب إزالة النباتات المصابة خاصة بالفيروس وحرقها، كما يجب إزالة الأعشاب البرية التي تنمو عليها بعض الآفات الضارة. يجب التقليل من الرطوبة المحيطة بالنبات والجذور خاصة في مرحلة النمو الأول (بعد الزرع).
المكافحة البيولوجية: تتم بواسطة الأعداء الطبيعية للآفات الضارة مثل أسد المن، أم علي سيري، المتوفرين بوفرة في الحقول التي لا تعامل كيميائياً.
المكافحة العضوية: منها ما يحضر منزلياً خاصة لمكافحة الحشرات من خل صابون التفاح (500 ملل) والفليفلة الحارة القارس (حوالي 50 غراماً) ومقطر القصعين أو الزعتر أو النعنع (50 غراماً) مع القليل من برش الصابون البلدي ويضاف كبريت غروي إذا كان الخضار مصاباً بأمراض فطرية. تضاف جميعها الى 20 لتر ماء وتخلط جيداً وترش على النباتات. والمكافحة العضوية أيضاً تتم بواسطة المبيدات العضوية المتوفرة في الصيدليات الزراعية منها الجنزارة وكبريت الزهرة. يخلط جيداً 1 كيلو كبريت الزهرة مع 200 غرام جنزارة (مادة نحاسية من مصدر موثوق)، ويتم تعفير هذا الخليط على النباتات في بداية نموها مثل الباذنجانيات، القرعيات والبقوليات. ويعمل الكبريت والجنزارة على منع إصابة الخضار بالفطريات والتقليل من إصابتها بالأمراض البكتيرية والفيروسية وإعاقة تكاثر ووصول الكثير من الحشرات والأكاروز الى أجزاء نبات الخضار لإمتصاص عصارتها وقضم بعض أجزائها. فهذا الخليط يشكل طبقة فاصلة، نوعاً ما، بين الآفة وجدار النبات. لكن، ينصح بعدم إستخدام الخليط في حرارة تزيد على 32 درجة مئوية، وفي الأيام التي تزداد فيها الرطوبة. وبعكس ما هو سائد ومعروف منذ القدم، يجب أن لا يكون التعفير باكراً على الندى لأنه يتجمع في أماكن حاملة للندى على أجزاء النبتة مما يؤدي الى حرقها وتبقى أجزاء غير محكمة بالكبريت مما يسمح بدخول الآفات. ومنذ سنوات عدة، بدأت تتوفّر في لبنان مبيدات عضوية متخصصة.
جني المحصول: تقطف ثمار الخضار عند مرحلة النضج تدريجياً التي تحدد باللون مثل: البندورة والبطيخ الأصفر؛ بالحجم مثل الكوسا، الخيار، واللوبياء؛ بعدد الأيام مثل البطاطا. والخضار الورقية تحدد بالحجم مثل الخس، البقدونس، والهندباء.
التوضيب والتسويق: من المفضل أن يتم فرز الخضار الثمرية حسب الحجم والنوعية ووضعها في عبوات صغيرة مكشوفة لأن هذا يساعد على تسويقها بوقت أسرع وبأسعار أعلى. يستحسن بيع الخضار الطازجة الى المستهلكين مباشرة.
التصنيع: هناك العديد من الخضار صالحة للتصنيع وبطرق وأشكال عدة:
صناعة المجففات: بعد تقطيع الثمار الكبيرة الى أجزاء صغيرة مختلفة الأشكال، مثل: البندورة، اللوبياء، البامية، والكوسا، توضع في الأجهزة المعدة للتجفيف أو في أماكن مظللة وقليلة الرطوبة ويجب أن لا تتعرض الى أشعة الشمس المباشرة، بالإضافة الى حمايتها من الغبار والشوائب التي تؤدي الى تلفها.
صناعة التوابل المجففة: بعد قطاف الثمار وتقطيعها أو قطع جزء من نباتات الخضر الورقية، تجفف في الظل لتصبح خالية من الرطوبة نوعاً ما، بعد ذلك يتم تنعيمها مثل: النعنع، الصعتر، المردكوش، والحبق؛ أو طحنها مثل: الفليفلة الحمراء، البصل، والثوم.
صناعة العصائر: الثمار الكبيرة والمشوهة في الشكل والتي لا تصلح الى التسويق وغير المصابة بأي مرض أو حشرة، يعمد الى عصرها وتقديمها طازجة كما في الجزر، والبندورة.
صناعة المخللات: الثمار التي لا تصلح للبيع أو التصدير، تغسل وتنظف وتعد الى تقطيعها وترتيبها في آوانٍ زجاجية وتوضع في محلول من الماء والملح عيار 1 ملح الى 7 أو 8 ماء تقريباً، كما في كبيس الخيار، القثاء، الفطر، الفليفلة، اللفت، القرنبيط، والجزر؛ أو تكبس في زيت الزيتون كما في الفليفلة الحرة، صعتر الخلاط، اللوبياء، والباذنجان المكدوس.
صناعة المربيات: تصنع من بعض أنواع الخضار المربيات، حيث تقطف الثمار بعد نضجها كما في اللقطين؛ وقبل النضج وهي في حجم صغير كما في الباذنجان.
صناعة المقطرات: إن بعض النباتات العطرية هامة جداً من حيث فائدتها الغذائية والطبية والإقتصادية للإنسان خاصة في مرحلة الإزهار مثل النعناع، والصعتر.
صناعة المركزات: إن بعض ثمار نباتات الخضار في غذائنا طازجة ومصنّعة، كما في البندورة، الفليفلة الحلوة والحارة؛ والثمار غير الصالحة لهذه الغاية تحضّر لتركيزها بعد غسلها وإزالة الشوائب منها، ثم تركز على حرارة الشمس أو النار مثل: رب البندورة، الكاتشب، ورب الفليفلة.

الري-بالنقطة-أكثر-الوسائل-فعالية-في-زراعة-الخضار
الري-بالنقطة-أكثر-الوسائل-فعالية-في-زراعة-الخضار
استنبات-شتول-الفليفلة-من-البذور
استنبات-شتول-الفليفلة-من-البذور

 

 

 

 

 

 

 

 

يرقة-أسد-المن-أكثر-أعداء-المن-شراهة-وفعالية
يرقة-أسد-المن-أكثر-أعداء-المن-شراهة-وفعالية

 

الدورة الزراعية
تعني “الدورة الزراعية” عدم زراعة محصول الخضار نفسه أكثر من موسم في المكان نفسه. ويفضّل إتباع دورة زراعية ثلاثية أي كل ثلاث سنوات من فصائل مختلفة. مثلاً: تزرع الأرض في الموسم الأول بنبات الخيار الذي يتبع الفصيلة القرعية. في الموسم القادم، تزرع نباتات اللوبياء التي تنتمي للفصيلة البقولية. وفي الموسم الثالث، تزرع بنباتات البندورة التي تتبع فصيلة الباذنجانيات. لأن نباتات الخضار التي تنتمي للفصيلة الواحدة تحتاج تقريباً الى العناصر الغذائية نفسها، ولكن بكميات ونسب مختلفة وتحمل بعض الأمراض مثل: الرمد، اللفحة؛ والحشرات المشتركة مثل: الدودة الخياطة، المن الأخضر، الذبابة البيضاء؛ وتطفل عليها النباتات المتطفلة نفسها مثل الهالوك (الجعفيل) التي تنمو على جذورها ولا تسمح بمرور إلا القليل من الغذاء الى القسم الموجود فوق سطح التربة من النبتة مما يؤدي الى هلاكها.

تأصيل نباتات الخضار
إن تأصيل النبات يستوجب الأخذ في الإعتبار عوامل عدة هامة. يجب مراقبة النبتة خلال الموسم لمعرفة قدرتها على تأقلمها مع المناخ والأرض المزروعة فيها، مقاومتها للأمراض والحشرات الضارة، تحملها للعطش، وأيضاً مراقبتها من حيث النمو الخضري الجيد للخضار الورقية والإنتاجية العالية للأزهار والثمار، بالإضافة الى شكل الثمار المتناسق وجودتها العالية من حيث الحجم واللون والطعم، هذا في الخضار الثمرية أما في الخضار الدرنية، فتجمع الدرنات الصغيرة بعد القلع لتزرع في الموسم القادم كما في البطاطا. تجمع بذور الخضار الورقية والزهرية بعد نضجها وتحفظ للموسم الذي يليه بعد تجفيفها ونقعها لمدة دقيقتين في محلول نحاسي مثل: البندورة، الفليفلة، القرنبيط، والباذنجان.

أفلاطون

الحلقة الثانية

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة باعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة». كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بإعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم
الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم

سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان

اختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام بـ»تخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حل المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث. إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين»المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.

أخطار بيئية وخطايا مهنية

أخـطار بيئيـة وخطايـا مهنيـة
تهدّد سمعة العسل اللبناني

التهــام العقــار والجرافــات للمساحــات الجبليــة
يضيــق باستمــرار المراعــي المتوافــرة للنحــل

العسل من أشرف وأنفع الأغذية التي أنعم بها الله على الإنسان حتى أنه كان منذ القدم مثالاً للغذاء الطهور النافع والشافي }يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ (النحل:69)، لكن العسل الذي تحدث عنه القرآن الكريم وعرفه الناس لقرون طويلة كدواء شافٍ كان العسل الصافي الذي يصنعه النحل من دون تدخل الإنسان نتاجاً طبيعياً مثل كل خيرات الطبيعة. أما الآن فقد تبدّلت صورة العسل بسبب تدهور البيئة التي يعمل فيها، وكذلك بسبب دخول الجشع وحسابات الربح بأي طريقة في التعامل كسلعة مثل غيرها من السلع. فما الذي يتبدّل في عسل بلادنا، وما العمل للحفاظ على جودته وسمعته من أن تتضررا نتيجة للإهمال البيئي وبعض الممارسات الخاطئة؟
العسل الطبيعي في لبنان من أفضل الأعسال في العالم بشكل عام، لأنه يحتوي على عدد كبير من مصادر الرحيق وحبوب اللقاح، التي يزيد عددها عن ألف نوع، إضافة إلى الندوة العسلية. على سبيل المثال يوجد في محمية أرز الشوف الطبيعية حوالي 530 نوعاً من الأزهار المفيدة للنحل، والتي تمتاز بإنتاجها للرحيق واللقاح معاً، ولكن بنسب مختلفة ويوجد قسم لا بأس به منها في تركيبة العديد من الأدوية، كما يتميز لبنان رغم مساحته الصغيرة بوجود حوالي 2800 زهرة مقارنة ببعض الدول المتطورة في تربية النحل وإنتاج العسل مثل انكلترا أكبر من لبنان بحوالي 22 مرة تحوي 2200 نوع من الأزهار تقريباً.
طفيلي الفاروا يلتصق بنحلة عاملة
طفيلي الفاروا يلتصق بنحلة عاملة

مبيدات رديئة لآفات النحل تترسب في العسل ونحالون «يغـــــذون» النحل أو يسخـــنون العســـل حتى الغليــــان

آثار التدهور البيئي
لكن على الرغم من توافر البيئة الطبيعية المثلى لإنتاج أفضل عسل في العالم ذي خصائص طبية، فإن هناك مجموعة من العوامل بدأت تتسبب بتراجع متزايد في صناعة تربية النحل وكذلك في نوعية العسل التي تميز بها لبنان، ومن أهم تلك العوامل ما يلي:
1. إزدياد المساحات العمرانية وانتشار عادة بناء منازل ضخمة وذات مساحات كبيرة تفوق بكثير ما تحتاجه الأسرة، وذلك على حساب الأشجار المثمرة والحرجية والنباتات والأعشاب البرية المفيدة للبيئة والنحل.
2. تضاعف عملية شق الطرق البلدية أو الخاصة خدمة لأغراض التوسع العقاري، وهو ما يجر إلى استهلاك مساحات كبيرة من الأراضي الحرجية التي ينمو فيها عدد كبير من النباتات البرية المفيدة للنحل، أضف إلى ذلك ما يجره العمران وكافة سير السيارات من تلوث وانتشار غبار وأدخنة تتصاعد من الحافلات والشاحنات ويترسب قسم منها في الأزهار فيتلف الرحيق وحبوب اللقاح، هذا عدا عن الغبار الذي يدخل الى قفران النحل ويتجمع في العيون السداسية المملوءة بالعسل.
3. قطع الأشجار المثمرة والحرجية في عدد من المناطق الساحلية أو الجبلية وبيعها حطباً للتدفئة بهدف إخلاء المزيد من الأراضي لأغراض التوسع العقاري أو لإستبدالها بزراعة بعض النباتات التزينية غير المزهرة أوالمنتجة، وبالتالي غير المفيدة للنحل. نتيجة لذلك، فإن النحالين يجدون صعوبة متزايدة سنة بعد سنة في إيجاد أماكن على الساحل يمكن حفظ قفران النحل فيها خلال فترة الشتاء والربيع، وهي فترة جني مهمة تساعد من جهة على حفظ النحل من شتاء الجبل القارس، كما توفر دخلاً إضافياً يحتاجه النحال بقوة تعويضاً عن ركود الشتاء.
4. على العكس من ذلك، فإن على الدولة، إذا كانت راغبة في تطوير صناعة العسل في لبنان، أن تطبق خطة وطنية للتشجيع على زراعة النباتات والأشجار التي تمد النحل بالرحيق وحبوب اللقاح وخصوصاً في الأماكن العامة (الحدائق العامة والخاصة، جوانب الطرقات، الساحات الخ). وفي الوقت نفسه التشجيع على زراعات منتجة ملائمة لطبيعة الجبل ومفيدة أيضاً لصناعة العسل.
5. الحرائق المفتعلة أو الناجمة عن استهتار المتنزهين أو بعض الأشخاص، والتي تؤدي الى تقلص المراعي الطبيعية للنحل، إضافة الى إنقراض الكثير من النباتات النادرة، والتي تحتوي على مواد طبية مفيدة للنحل والإنسان. كما أن للحرائق ضرراً كبيراً إضافياً هو أنها تفسح المجال لنمو وتكاثر النباتات والأشجار الضارة التي تنمو وتتوسع على حساب غيرها حتى تسيطر عليها كلياً. على سبيل المثال: الصنوبر البري والوزال والقندول وغيرها، والتي بدورها تعيق نمو وإستمرار النباتات الأساسية التي كانت موجودة قبل الحريق.

أخطاء وخطايا النحالين
إضافة إلى التحولات البيئية السلبية التي تقلص باستمرار مراعي النحل الطبيعية، فإن هناك عدداً من الأخطاء أو أعمال التلاعب والسلوك غير المهني من قبل بعض النحالين، وهنا يمكن أن نعدد الكثير منها لكننا نقتصر على الأهم والأكثر شيوعاً، وهو التالي:
1. عدم استخدام المعالجات الكيميائية الصحيحة لمعالجة بعض آفات النحل الخطيرة مثل عنكبوت الفارواز، لأن المبيدات المستخدمة أو المتداولة محلياً غير فعّالة في مكافحة الفارواز لأن المبيدات المتخصصة غير موجودة في لبنان ولا يتم استيرادها ربما لأنها أعلى تكلفة. لذا ننصح بعدم استخدام أي مبيدٍ على النحل غير موثوق المصدر والتركيبة للمادة الفعالة. هذه المبيدات كما جميع المبيدات الزراعية تعيق وتعطل بعض الغدد عند النحل مما يؤدي الى تغيير مسار النحل خاصة الجانيات وعودتها الى خلايا أخرى غير خليتها، فتقتل أو تشرد في البراري حتى موتها. أما تأثير تلك المبيدات الرديئة على نوعية العسل فيكون في ترسب كمية لا بأس بها من المادة الفعّالة للمبيد المستخدم في الخلية داخل العسل لأن هذه المبيدات غازية تنتشر في جميع أنحاء الخلية، والعسل مادة جاذبة للرطوبة المحيطة بها، وهنا تصبح مشبّعة بهذا المبيد المستعمل.
2. المكافحــــــة الكيميائيـــة للاشجـــــــــار المثــــــمــــــرة والمزروعـــــــــات: إن المبيــــــدات الكيميائيـــــــــة التي تستخدم لمكافحة الأمراض والحشرات على الأشجار المثمرة والأشجار الحرجية والخضار سامة جداً، وهي تُسهم مباشرة في موت عدد لا يستهان به من النحلات العاملات التي تعمل خارج الخلية، أو حتى العاملات التي تعمل في داخل الخلية واليرقات التي تتغذى على الرحيق وحبوب اللقاح. إن العاملات، التي تجني الرحيق وحبوب اللقاح، عندما تكتشف مرعى جديداً تعمد الى تذويق العاملات التي تستعد الى رحلة البحث عن الغذاء، وتغذية بعض العاملات التي خرجت حديثاً من النخروب أو العيون السداسية. أما الرحيق المتبقي في حوصلتها فتعمد الى تخزينه في النخاريب المجاورة لليرقات حتى تخلطها العاملات التي ما زالت تعمل داخل الخلية مع حبوب اللقاح وتقدمها الى اليرقات. هذا الغذاء يؤدي الى موت عدد لا يستهان به من العاملات والحضنة.
3. استخدام المبيدات العشبية Herbicides: وهي مركبات شديدة السمية وخطيرة جداً على النحل والإنسان، لأنها جهازية وتصل الى مستوى جذور الأشجار المثمرة والخضار عبر جذور الأعشاب المكافحة. فتمتصها تلك النباتات حتى تترسب في اوراقها وثمارها التي هي غذاء الإنسان. أما ضرر هذه السموم على النحل فيحصل عند استخدام المبيدات في مرحلة الإزهار، وهذا ما يحصل غالباً لأن مكافحة الأعشاب تتم غالباً إما عند بدء الإزهار أو خلال الإزهار وحوالي الـ 70 في المئة من المزارعين يكافحون الأعشاب في هذه المرحلة، وهذا ما يؤدي الى موت النحل كما ذكرنا أعلاه في مكافحة الأمراض والحشرات على الأشجار المثمرة والخضار.

قفران-نحل-في-معاصر-الشوف
قفران-نحل-في-معاصر-الشوف

 

4. تسخين العسل إلى درجة الغليان (100 درجة مئوية تقريباً): وهذه البدعة ونكاد نقول الجريمة يعمد إليها بعض النحالين الجشعين بعد قطاف العسل مباشرة، وذلك لغايتين إثنتين هما:
أ. الحؤول دون تجمّد العسل واحتفاظه بحالته السائلة. لأن الكثير من مستهلكي العسل يعتبرون عن قلة خبرة أو فهم خاطئ أن العسل الذي يتجمد لا بد أن يكون مغشوشاً وغير صالح كغذاء. أما الصحيح فهو العكس تماماً وبالمطلق، إذ أن غلي العسل يفقده جميع ميزاته إضافة الى إسمه، ويؤدي الى موت جميع خواصه الغذائية والطبية من انزيمات ومعادن وفيتامينات ولزوجية ورائحة زكية فيصبح من حيث القيمة الغذائية في مستوى سكر الطعام لا أكثر ولا أقل.
ب. الهدف الثاني من غلي العسل (خصوصاً الربيعي) هو أن يستفيد النحال من مواسم عدة، فهو يقطف العسل قبل إنضاجه من قبل العاملات، أي سحب الرطوبة الزائدة منه وإضافة الأنزيمات وحبوب اللقاح له. ولأن العسل الذي يقطف قبل إنضاجه من قبل النحل يفسد (يحمض) بعد وقت قليل، وتتردى نوعيته، وبالتالي ينخفض سعره. لذلك يقوم النحال بغلي العسل فور قطافه ليحميه من الفساد ولكي يمكنه وضع براويز جديدة يعود النحل فيملأها أو بعضها ويحصل بذلك على محصول إضافي. لكن يجب القول إن هذا العسل المغلي لا يصلح كغذاء ودواء، ويجب أن لا يندرج تحت اسم «عسل» على الإطلاق.
5. التغذية السكرية: وهي مشكلة المشاكل التي تهبط بنوعية العسل وبطعمه وفوائده المفترضة. ونبدأ بالقول إن النحل في لبنان بحاجة الى تغذية سكرية خاصة في بعض أوقات السنة، وفي حال وجود جماعات نحل ضعيفة فقط. مثلاً في فصل الشتاء يغذى النحل لتهيئته للموسم القادم في بداية فصل الربيع، وذلك بهدف حث الملكة على وضع اكبر كمية ممكنة من البيض، بحيث تقوى خلية النحل ويرتفع عدد الجانيات فيكون القفير مستعداً لبدء الجنين مع أول إطلالة لفصل الدفء، وهو ما يؤدي إلى جني اكبر قدر ممكن من الرحيق واللقاح من الإزهار في الربيع. لكن من الضروري، تقديم الغذاء حسب حاجة الخلية له، وبحيث يتأكد إستهلاكه كله من العاملات وعدم تخزين أي نسبة منه في الأقراص الشمعية المعدة لصنع العسل. وبالطبع، فإن أي نحال يستهدف إنتاج محصول يكفي مؤونة العام أو يزيد قليلاً، يهمه الحصول على عسل صافٍ لم يخالطه سكر أو محليات أخرى، وهو سيحرص على أن تكون التغذية للحفاظ على النحل وتقوية الخلية، وهذا يفترض توفير ما يحتاجه النحل من دون زيادة، لأن هذه سيستخدمها النحل لملء براويز العسل بمادة سكرية بالدرجة الأولى. لكن هناك من النحالين من يستخدم التغذية كقناع لغش العسل، وذلك عبر الإسراف في توفيره للخلية حتى عندما تكون هذه قوية وفي موسم لا يحتاج النحل فيه الى الغذاء. إن القاعدة هنا هي أن تُترك للنحل الطبقة السفلى من القفير بعسلها، وأن يتم جني العسل من الطبقة العليا على أن تكون التغذية قد توقفت تماماً عند إضافة تلك الطبقة في أول موسم الجني، عندها يضمن النحال أن العسل الذي يستهلكه أو يبيعه لا يدخله أي تغذية سكرية، وأنه بالتالي صافٍ وذو نوعية جيدة. أما الاستمرار في التغذية بعد أن يتم تركيب الطبقة العليا فهو غش محض لأن فاعله وإن كان لا يضيف السكر إلى العسل مباشرة إلى أنه يضيفه عبر إطعامه للنحل، وعندها فإن العسل الذي يبيعه لا يستحق تسميته بالعسل، كما أنه هو لا يستحق تسمية «نحال» !

ليس كل ما يقطر عسلا
ليس كل ما يقطر عسلا
عاملات-في-الخلية.-البعض-يهتم-بصنع-العسل-والبعض-يهتم-يخدمة-الملكة-_في-الوسط-
عاملات-في-الخلية.-البعض-يهتم-بصنع-العسل-والبعض-يهتم-يخدمة-الملكة-_في-الوسط-

د. عادل إسماعيل

[su_accordion][su_spoiler title=”د. عادل إسماعيل الرجـــــل الـــذي أعـــاد الاحترام إلى مهنة التأريخ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يعتبر المؤرخ الراحل عادل إسماعيل أبرز المؤرخين الذين ساهموا ليس فقط في تأريخ المراحل الأكثر دقة وحساسية في تاريخ لبنان، بل يعود له الفضل الأول ربما في إعادة الاحترام والصدقية إلى مهنة التأريخ، التي ابتليت لفترة بسيطرة الأهواء ونزعات التلفيق حتى كاد تاريخ لبنان يتحول إلى مجموعة أساطير لا هدف لها إلا خدمة الأجندة السياسية لأصحابها.
لم يكن عادل إسماعيل سياسياً، وهو الإداري المثالي الذي تربى في المدرسة الإصلاحية الشهابية وكان أحد أبرز أركانها، لكن هذا المؤرخ اللامع خريج جامعة السوربون في باريس كان رجل استقامة فكرية ورجل عمل يحرص على إتقان عمله وإخراجه وفق أفضل معايير الدقة والموضوعية. لذلك فإنه عندما اصطدم بما أسماه لاحقاً “مجلس الوصاية” المتحكم بأسلوب رواية تاريخ لبنان والتنظير له، فإن ذلك لم يحصل بسبب انحيازه إلى قومه أو تبنيه لروايات مغلوطة، بل لأنه بكل بساطة أراد أن يقدم الرواية الحقيقية، وبالتالي تصحيح الأخطاء والاختلاقات الكثيرة التي خالطت رواية تاريخ لبنان.
كان ابن دلهون البار العصامي هادئاً بطبعه وشديد التهذيب، لكنه أثبت أنه وخلف تلك الدماثة تقف شخصية شجاعة وشديدة الصلابة في الحق، وقد استفز تشويه التاريخ عادل إسماعيل إلى العمل بكل نشاط، واستثار عزيمته ثم هدته منهجيته العلمية إلى كنز الوثائق التي بدأ يجمعها وينقب في أكداسها ليبني على هذا الجهد المهني تاريخ لبنان الحقيقي ويدحض الروايات الملفقة التي كادت أن تصبح صنواً للحقيقة لكثرة تردادها وترويجها.
من أهم إنجازاته ولا شك إماطته اللثام عن الأسباب الحقيقية للأحداث الطائفية للفترة ما بين 1845 و1860، وقد أظهر هذا المؤرخ المنصف العوامل المعقدة الكثيرة التي كانت وراء اندلاع تلك الفتنة الطائفية الخطيرة، وخصوصاً مطامع الأوروبيين وطموحات بعض القوى المتعصبة التي سعت الى إحداث تغيير سياسي بل وديمغرافي في الجبل مستفيدة من ضعف الدولة العثمانية، التي كانت السند التقليدي للموحدين الدروز. وقد برّأ عادل إسماعيل ساحة الموحدين، الدروز من كل الافتراءات التي سيقت ضدهم ومهدت للحملة الانتقامية الفرنسية بقيادة بوفور. وأحدث الكتاب المهم الذي خصصه لتلك الفترة، والذي بني على وثائق ووقائع دامغة، صدمة حقيقية، وقوبل باستهجان واتهامات بمجرد نشره في مطلع سبعينات القرن الماضي. لكن عادل إسماعيل لم يتوقف عند ذلك بل خصص قسماً كبيراً من حياته المهنية لجمع الوثائق الدبلوماسية المحفوظة في عواصم أوروبا وتصنيفها وفهرستها ونشرها بحيث تصبح تلك المادة الأساس الموضوعي لأي كتابة تاريخية، وبحيث يصعب بعدها تلفيق تاريخ خاص سعى البعض الى إنتاجه في غفلة من الزمن.
إن مجلة “الضحى” تفخر بتخصيص هذا الملف التكريمي الخاص إحياء لذكرى الدكتور عادل إسماعيل واعترافاً بفضله في مضمار تصحيح تاريخ لبنان بما يخدم الحقيقة ووحدة البلد، وفي الوقت نفسه رفع إرث الضغائن والأفكار المسبقة وتشويه الحقائق عن كاهل أجيال لبنان.
يتضمن هذا الملف الخاص مقالاً بقلم الدكتور طارق قاسم حول سيرة المؤرخ الكبير، ومقالاً أعدّه المؤرخ الدكتور حسن أمين البعيني يعرض فيه لحجم مساهمة الدكتور عادل إسماعيل في تصحيح تاريخ لبنان.

الدكتور عادل إسماعيل

الدبلوماسي الراقي والمؤرخ والعالم الكبير

برع في توثيق الأحداث التاريخية بأمانة وتجرد
وكان من أول الذين عرفوا فضل الوثيقة واهتموا بجمعها

د.-عادل-إسماعيل-في-شبابه-scan
د.-عادل-إسماعيل-في-شبابه-

إنه عمل مميز وجميل من مجلة “الضحى” التي لها عندنا كل تقدير واحترام، أن يُفرَد ملف خاص للدبلوماسي الراقي والمؤرخ الخلاّق المغفور له الدكتور عادل إسماعيل الذي جمع بين الدبلوماسية وكتابة التاريخ، وهو وفاء من إدارة مجلة “الضحى” لهذا الرجل الكبير، لكي تتذكر الأجيال الحاضرة والمقبلة هؤلاء الرجال الأفذاذ، وما قدموه للأمة وللحقيقة من خدمات وتضحيات.
تمكّن من أن يكشف بالوثائق حجم التحيّز في أعمال بعض المؤرخين الذي بدوا مهتمين بخدمة قضيتهم السياسية أكثر من اهتمامهم بإنتاج تاريخ يسجل مسار الأحداث.

ولادته وحياته
ولد الدكتور عادل عمر إسماعيل في 18 كانون الثاني 1928، الموافق 4 رجب 1347هـ في قرية دلهون الوادعة من ناحية إقليم الخرّوب في قضاء الشوف، وكان طوال طفولته عليل الصحة، ضعيف البنية، وقد أعيا الأطباء في بيروت وصيدا، لما كانت تنتابه عوارض صحية لم يجدوا لها علاجاً، حيث يئس والداه من شفائه فسلما أمره لله. فما كان من والدته إلا الدعاء له بالشفاء بعد الصلاة وزيارة أضرحة الأولياء الصالحين في إقليم الخروب وصيدا. وكان اسمه منذ ولادته “رجباً” تكنياً بشهر الولادة (وكانت تسمية الأولاد في التقويم الهجري القمري شائعة في ذلك الوقت، وما زالت في بعض المناطق حتى الآن). وبناءً على اقتراح شقيق الوالدة أحمد نصر الدين، وبموافقة الوالد عمر إسماعيل، أبدل إسم رجب بعادل تكنياً وإعجاباً بصديقهما الأمير عادل ارسلان.
بدأ عادل إسماعيل دروسه الأولى في مدرسة القرية وفي مسجدها، كما كانت العادة آنذاك، وكانت تنحصر بدراسة القرآن الكريم وحفظه غيباً، وتعلم قواعد اللغة والحساب، وحفظ بعض أبيات الشعر العربي، واتقان الكتابة بأنواع الخطوط العربية، وقد اكتسب عادل إسماعيل هذه العلوم واتقنها على يد الشيخ حسن حمام، ثم انتقل مع والده إلى الجنوب حيث عيّن مدرساً في مدرسة “شحور الرسمية” في قضاء صور في لبنان الجنوبي فتعلم طيلة ثلاث سنوات في مدرستها. وبعد إقفال مدرسة شحور الرسمية عادت العائلة إلى قرية دلهون فالتحق عادل إسماعيل بمدرستها طيلة أربع سنوات، ومع انتقال الوالد إلى بيروت للعمل، إلتحق عادل إسماعيل بمدرسة حوض الولاية الرسمية لمتابعة دراسته.
كان يحلم بأن يصبح، بعد الانتهاء من دراسته الثانوية، مهندساً كيماوياً، ولكن ظروف الحرب العالمية الثانية حملت الجامعات في لبنان على وقف هذا التخصص، فاضطرَّ إلى دراسة الحقوق على أمل الانخراط في ما بعد في سلك القضاء.
وفي سنة 1947، نشرت الصحف إعلاناً لوزارة العدل اللبنانية بإجراء مباراة لتعيين مئة وخمسين مساعداً قضائياً، فشارك في تلك المباراة، وكان الأول من الناجحين، ولكن أسقط اسمه من بين الأسماء الناجحة نتيجة مداخلات سياسية، وإرضاءً لهذا وذاك من أصحاب النفوذ. كان لهذه الحادثة وقع مؤلم في نفسه، وقد كان يومئذ في مطلع الشباب يتطلع إلى المستقبل بمثالية ويؤمن كل الإيمان أن لبنان المستقل سيقوم على دولة القانون، وعلى القانون وحده. وكانت خيبة أمله كبيرة فقرر بالاتفاق مع والده السفر إلى باريس في أواخر 1949، بعد إنهاء دراسة الحقوق للتخصص في التاريخ.

دراساته العليا وشهاداته
مكث عادل إسماعيل في العاصمة الفرنسية حوالي سبع سنوات نال في أثنائها دكتوراه دولة في التاريخ من جامعة السوربون. عاد إلى لبنان سنة 1957 وعيّن مفتشاً للتعليم، بدعم من الدكتور نجيب صدقه الذي كان يشغل يومئذ منصب المدير العام لوزارة التربية، والذي كان عادل إسماعيل قد تعرّف عليه يوم كان مستشاراً للسفارة اللبنانية في باريس.
وبعد أحداث سنة 1958، قرّرت الحكومة الرباعية التي ألفت في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب أن تجري إصلاحاً إدارياً في البلاد. فعيّن الدكتور عادل إسماعيل مقرراً للجنة الإصلاح في وزارة التربية الوطنية. وبعد نجاحه الكبير في تحديث وزارة التربية الوطنية، طرح إسمه مديراً عاماً لها إلا أن الحسابات الطائفية والمناطقية منعت الدكتور عادل إسماعيل من تولي منصب المدير العام، وهذا ما أحرج الحاج حسين العويني، الذي كان أحد أعضاء الوزارة الرباعية التي تشكلت بعد أحداث 1958، فطلب من الدكتور عادل إسماعيل اختيار مركز آخر، فكان التمني إلحاقه بالسلك الدبلوماسي اللبناني. وبعد أسبوع من لقائه بالحاج حسين العويني، اتصل به الدكتور بشير بيلاني القاضي في ديوان المحاسبة يومئذ، وكان قد استدعي إلى القصر الجمهوري لمراجعة قانونية لمراسم التشكيلات في الإدارة العامة، وأبلغ الدكتور عادل إسماعيل أن مجلس الوزراء قرر تعيينه مستشاراً في السلك الدبلوماسي اللبناني.

الشهادات التي يحملها
دكتوراه دولة في التاريخ (جامعة السوربون- باريس)
دبلوم الدراسات العليا في التاريخ (السوربون)
إجازة في الأدب (السوربون)
إجازة في الحقوق (جامعة ليون)
دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي
(جامعة القديس يوسف- بيروت).

المناصب الإدارية والدبلوماسية
بعد فترة قصيرة من عودة الدكتور عادل إسماعيل من فرنسا سنة 1957 عيّن مفتشاً للتعليم، واستمر في هذا المنصب حتى نهاية سنة 1958، حيث تقلّد في العام المذكور منصب مقرر لجنة إصلاح وزارة التربية الوطنية، واعتبر من الرجال الكبار في الإصلاح الإداري في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وبعد ترشيحه لمنصب المدير العام لوزارة التربية، والذي لم يتحقق، حيث تم تعيينه في العام المذكور في السلك الدبلوماسي، استمر في هذا السلك حتى نهاية خدمته سنة 1992.
وهذه هي المناصب الدبلوماسية التي تبوّأها:
مستشار سفارة وقائم بالأعمال في مدريد 1960 – 1963.
مستشار سفارة في روما 1963 – 1967.
قنصل عام في ميلانو 1964 – 1967.
سفير لبنان في الخرطوم وأديس أبابا 1967 – 1969.
سفير لبنان في جدة 1969 – 1971.
مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية والمغتربين
1971 – 1978.
سفير لبنان في الرباط 1978 – 1985.
سفير لبنان لدى منظمة الأونيسكو 1985 – 1990.
سفير لبنان لدى وكالة التعاون التقني والثقافي التابعة للدول الفرنكوفونية في باريس 1985 – 1992.

وكذلك ترأس عدداً من الوفود اللبنانية إلى مؤتمرات جامعة الدول العربية، ومؤتمرات دول عدم الانحياز، والمؤتمر الإسلامي، كما شارك في معظم المؤتمرات العربية والإسلامية والدولية المتعلقة بالأزمة اللبنانية.
وقد شغل أيضاً منصب أمين عام مشروع “أرابيا” لدى منظمة الأونيسكو لنشر الثقافة العربية ما بين 1991 – 1996، كما ترأس الجمعية اللبنانية للدراسات والبحوث التاريخية، هذا بالإضافة إلى مشاركته في العديد من الجمعيات العلمية والأكاديمية في لبنان والعالم.
ويعتبر الدكتور عادل إسماعيل أن المرحلة الكبرى من مهمته في وزارة الخارجية اللبنانية تمت في إطار العمل الدبلوماسي الثنائي، حيث كان معتمداً لدى عدد من الدول العربية والأجنبية، أما عمله في المنظمات الدولية فانحصر بمنظمة الأونيسكو، وهي كما نعلم منظمة تعنى بالشؤون الثقافية والعلمية، وقد استمرت مهمته فيها مدة خمس سنوات ونصف السنة من منتصف 1985 إلى أواخر سنة 1990.
تجربته في الأونيسكو كانت واسعة الآفاق وغنية في شؤون التراث والعمل الفكري، ذلك أن هذه المنظمة تضم أكثر من 185 دولة، ممثلة بكبار أعلام الفكر فيها، الذين ينتمون الى حضارات وثقافات إنسانية غنية متعددة. وقد أثبت الدكتور عادل إسماعيل، وبشهادة زملائه السفراء والحكومة اللبنانية، دوره الريادي وتأثيره وأهميته في المنظمات الدولية، ورغم موقع لبنان في هذه المنظمات الذي لا يتعلق بقوته وغناه المادي وقدرته العسكرية، وإنما بكفاءات ممثليه، فهناك دول صغيرة أثبت سفراؤها في ندوات الأونيسكو ومؤتمراتها حصافة في الرأي، وقدرة في إقناع الأعضاء بوجهات نظرهم، وبتبني آرائهم من قبل المجتمع الدولي، بينما هناك سفراء لدول كبرى لم يكونوا في المستوى الثقافي والعلمي المطلوب، وفشلوا في الحصول على تقبّل وجهات نظر بلادهم في تلك الندوات والمؤتمرات.
وقد تمكّن الدكتور عادل إسماعيل طوال عمله في الأونيسكو، ولدى وكالة التعاون الثقافي والتقني لدى الدول الفرنكوفونية من الحصول في أثناء الحرب على عشرات المنح الدراسية للطلاب اللبنانيين، كما عمل على إنشاء صندوق للبنان في هذه الوكالة بمعاونة الدول الصديقة، بلغت قيمة المبالغ التي جمعت فيه ملايين الفرنكات الفرنسية، وزعت على المؤسسات الثقافية والاجتماعية في لبنان.

ايام الدراسة في باريس:

مؤلفاته ودراساته
لم يخرج الدكتور عادل إسماعيل في مؤلفاته عن الخط الذي رسمه لنفسه منذ انتهاء دراسته الجامعية في السوربون سنة 1956، وتنحصر هذه المؤلفات في حقلي التاريخ والسياسة، وهذان الحقلان متلازمان يتمم الواحد منهما الآخر. فمؤلفاته تتعلق بمعظمها بتاريخ لبنان، وتاريخ البلاد العربية، والسياسة في الشرق العربي، وغيرها من المواضيع العامة. أما عدد هذه المؤلفات فبلغ 85 مؤلفاً باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
أبرزها كما هو معلوم موسوعة “الوثائق الدبلوماسية والقنصلية” التي بلغت 50 مجلداً تشمل المحررات القنصلية والمحررات السياسية والمحررات الاقتصادية وهي مجموعة من محررات لندن المحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وكذلك محررات بطرسبورغ، وفيينا وبرلين وروما وغيرها من العواصم الكبرى.
المؤلفات التي نشرها باللغة العربية:
السياسة الدولية في الشرق العربي، 5 أجزاء، بالمشاركة مع السفير الأستاذ أميل خوري 1958 – 1973.
تاريخ لبنان الحديث، بالمشاركة مع الدكتور منير إسماعيل 1990.
الصراع الدولي في الشرق العربي، بالمشاركة مع الدكتور منير إسماعيل 1990.
الجديد في التاريخ، 8 أجزاء، 1956 – 1958.
لبنان في تاريخه وتراثه، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان، جزءان- مؤسسة الحريري 1993.
في الحوار والحياة المشتركة بين الطوائف والأديان، النموذج اللبناني، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان- مؤسسة الحريري 1996.
التنشئة الوطنية ومقومات الدولة، وبمشاركة نخبة من رجال الفكر في لبنان.
أزمة الفكر اللبناني، بالمشاركة مع السفير نصري سلهب والدكتور منير إسماعيل بيروت 1997.
المردائيون (المردة) من هم؟ من أين جاؤوا؟ وما هي علاقتهم بالجراجمة والموارنة، بيروت 2000.
إنقلاب على الماضي، لما أدخل على تاريخ لبنان من الأساطير والخرافات والأوهام والأحداث التي لا أساس تاريخياً لها. هل آن الأوان كي يطّلع اللبنانيون على الحقيقة في تاريخ بلادهم؟ بيروت 2003 م.
مناهج الكمال في أسمى الخصال، مع دراسة لغوية وأبحاث في فلسفة الحياة وركائز المجتمع المدني – بيروت 2002.
مساوئ التقسيم، ومخاطر إنشاء الدويلات الطائفية، ونظام شكيب أفندي (1845 – 1860).
مأساة جنوب لبنان، في تردد المواقف العربية، وفي متاهات السياسة الدولية. إلى أين آلت الاستراتيجية العربية الشاملة لحماية جنوب لبنان؟
ثمانون، ذكريات في ما وراء جدار الصمت.
المؤلفات التي نشرها باللغة الفرنسية:
Documents diplomatiques et consulaires relatifs à l’histoire du Liban (50 vol. 1975 – 2000).
Histoire du Liban du XVIIème siècle à nos jours (2 vol. 1955 – 1958).
Le Liban Histoire d’un peuple 1963.
L’histoire des pays arabes dans lesarchives diplomatiques françaises + thèmes et références 1535 – 1945.
Les pays du proche – Orient (2 vol. 1992).
Les pays du grand Maghreb (1 vol. 2000).
L’Islam et les Musulmans dans le Monde (5 vol.).
Ouvrages Collectifs Europe, Asie (2 vol).
Afriques. Amérique.
Texte français (5 vol).
Texte anglais (5 vol).
المؤلفات التي نشرها باللغة الإنكليزية:
Lebanon: History of a people.
هذا بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات السياسية والتاريخية والفكرية، التي نشرت في الصحف العربية والأجنبية، والمحاضرات التي ألقيت في لبنان وفي النوادي العربية والدولية.

مع المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1970
مع المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1970

منهجه في تدوين التاريخ:
ترك الدكتور عادل إسماعيل مكتبة عامرة تأليفاً وتحقيقاً وتوثيقاً وترجمة تناولت صنوف المعارف في ميادين التاريخ والشؤون السياسية اللبنانية والعربية والدولية، وهو موقف دقيق الرصد للأحداث الوطنية وعرض الوقائع التاريخية بتجرد ودقة فساهم بذلك في كشف حجم التحيّز والاختلاق الذي شاب أعمال بعض المؤرخين الذين بدوا مهتمين بخدمة قضيتهم السياسية أكثر من اهتمامهم بإنتاج تاريخ يسجل مسار الأحداث بموضوعية. وقد ساعده في ذلك استحواذه على كم ٍّ هائل من الوثائق الديبلوماسية ومراسلات القناصل والمنشورات السياسية وقنصلية وغيرها مما أعطى صورة حقيقية لتاريخ لبنان القديم والمعاصر الذي كان دوماً نقطة تقاطع للمصالح الدولية الكبرى والسياسات المحلية والإقليمية والدولية.
يقوم أسلوب الدكتور عادل إسماعيل في كتابة التاريخ على أساس ضبط الأحداث التاريخية وتوثيقها وإحكام الربط بينها وبين الأشخاص الذين لعبوا دوراً في صنع تلك الأحداث، وكان يتعامل مع الحوادث بموضوعية وأمانة وتجرد، بارزاً الحقيقة التاريخية في جميع كتاباته فكان من المؤرخين اللبنانيين الرواد الذين عرفوا فضل الوثيقة واهتموا بجمعها والحرص على استخدامها والإحاطة بمضامينها. ومكتبة الدكتور عادل إسماعيل لا تزال تضم مجموعة كبيرة من رسائل ومعلومات ووثائق سياسية ودبلوماسية يعزّ وجودها بهذه الوفرة في مكان واحد. ولم تقتصر كتابات الدكتور عادل إسماعيل على التاريخ اللبناني، وإنما نجده يهتم بتاريخ المشرق العربي وعبر منه إلى السياسة الدولية. وتدل كتاباته التي أنجزها خلال الستين عاماً من حياته الثقافية على مدى حيوية هذا المؤرخ وتأثيره في الحياة السياسية والثقافية.
حثّ الدكتور عادل إسماعيل الباحثين والمؤرخين على أن يعتمدوا تحقيق النصوص التاريخية ويربطوا بينها ويدققوا في ما عداها من مصادر وروايات بما يجعل كتابة التأريخ عملية خالية من التحريف وملتزمة بالأصول العلمية والتي حدّد أصولها وتطبيقها في ما يلي:
1. وجوب توخي الدقة في التعبير والتحلي بالتفكير العقلاني البعيد عن الأهواءء الطائفية والعقائدية والحذر من متاهات الأساطير والخرافات ومزالق الأوهام والأحقاد في تقييم الأحداث ودراسة أسبابها وتطورها.
2. وجوب التحلّي أيضاً بالتسامي الفكري والاعتناء بكتابة أحداث متحرك الماضي بأمانة بحيث يمكن فهم مغزاها والتعلم منها. أما التأريخ المتحرك بدافع الهوى أو الغرض السياسي فلا يعتبر تأريخاً بل عملاً منحازاً في خدمة فريق أو قضية.
3. من شروط كتابة التاريخ والنقد التاريخي أن ينفتح المؤرخ على التيارات الفكرية والمحلية والإقليمية والعالمية فلا يرفضها دون تقييم متجرد، وعليه بالتالي الابتعاد عن التقوقع أو السلبية الجامحة التي تعطل التفكير السليم، وتجعل المؤرخ أسير عقد نفسية طائفية أو قومية، وضحية مواقف يدحضها العلم ويرفضها المنطق.
4. يجب على المؤرخ المهني احترام كرامة الآخرين والابتعاد عن التجني عليهم والتشهير بهم، فالتحقير وتلفيق الأحكام الظالمة ليست من العمل التاريخي وهي تفقد المؤرخ الصدقية وتعبر عن ضعف الحجة لديه، وعن عواطف مشحونة يترفع عنها ويأنفها رجال الفكر وأهل العلم.
5. العمل على التحديث المستمر لكتابة التاريخ وذلك عن طريق البحث الدؤوب ومقارنة الوثائق واستخلاص ما قد قد يحتاج المؤرخ لاستخلاصه في ضوء الوثائق الإضافية أو أي عنصر جديد يظهر في موضوع البحث.
6. هذه بعض من أبرز القواعد العامة التي يراها الدكتور عادل إسماعيل، والتي تتبع في جميع بلدان العالم، ويؤكد على جميع المؤرخين التقيّد بها لأصولية كتابة التاريخ.

مع إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسيه عام 1968 أثناء تقديم أوراق اعتماده
مع إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسيه عام 1968 أثناء تقديم أوراق اعتماده

أبرز إنجازاته موسوعة “الوثائق الدبلوماسية والقنصلية التي جمعها في 50 مجلداً من المحفوظات الدبلوماسية في لندن وباريس بطرسبورغ، وفيينا وبرلين وروما وغيرها من العواصم الدولية

الجوائز والأوسمة
في 29 تشرين الثاني سنة 1996 أقيمت في الجامعة اللبنانية- قسم التاريخ ندوة علمية لتقييم مؤلفات الدكتور عادل إسماعيل التاريخية والسياسية، وقد نشرت في ما بعد في كتاب قيّم بعنوان” عادل إسماعيل، المؤرخ، الباحث، الدبلوماسي”. وقد قال فيه الأستاذ “فيدريكو مايور”، المدير العام السابق لمنظمة الأونيسكو: “الدكتور عادل إسماعيل قد بلغ أهداف التقدّم من السبق والتمييز في العلم والخلق والعطاء، فأغنى المكتبة اللبنانية والمكتبة العربية بإنجازات اكسبتها معنى خاصاً، والفكر العربي انفتاحاً وإبداعاً، فكانت خبرته تجديداً وغنى أضافت إلى خبراته الأكاديمية والفكرية طابعاً إقليمياً ودولياً معترفاً به. فالدكتور عادل إسماعيل موضع تقدير المفكرين والأدباء والمربين، عرباً وأجانب، وموضوع تقديرنا جميعاً… فمكانته فوق كل مكانة، إنه الرجل المفكر والدبلوماسي الذي استطاع أن يمثل بلاده في الأونيسكو بفكره وعطائه، فكان مثالاً لمفكر عربي جمع بين الفكر والسياسة، ومثالاً لمفكر معاصر كرَّس حياته لإخراج ما يزيد على 85 كتاباً هي ثروة هذا العصر، وذخيرته لمن سيخطون خطاه في الفكر والسياسة…”.
وقد نال الدكتور عادل إسماعيل الجوائز والأوسمة التالية:
الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية 1989.
جائزة جمعية المؤلفين باللغة الفرنسية 1980.
جائزة ريشيلو من الأكاديمية الفرنسية 1956.
ميدالية ابن سينا الذهبية التي تمنحها الأونيسكو لرؤساء الدول ولكبار الشخصيات الفكرية في العالم.
ميدالية المؤرخ العربي التي يمنحها اتحاد المؤرخين العرب.
وسام الأرز الوطني برتبة كومندور.
الوشاح الأكبر العلوي (المملكة المغربية).
وسام ضابط أكبر (إيطاليا).
وسام ضابط أكبر (رومانيا).
وسام جوقة الشرف برتبة ضابط (فرنسا).
ميدالية الجامعة اللبنانية.
ميدالية مؤسسة الحريري.
ميدالية رابطة اللبنانيين من خريجي الجامعات الفرنسية.
يقول الدكتور خطار شبلي: “الدكتور عادل إسماعيل مجموعة قيم، بل مجموعة رجال في رجل، هذا الدبلوماسي البارع الذي مثّل لبنان في مختلف عواصم العالم، وفي مختلف المحافل الدولية محاضراً ومحاوراً، وهو المؤرخ العالم في الشؤون اللبنانية والعربية والإسلامية، تحتوي كتبه على ثروة من الوثائق والمستندات القيّمة وعلى تحليل علمي وموضوعي لها. وهو الإنسان الذي يتميز بالنبل والأخلاق السامية. يقدره ويحترمه كل من يتعامل معه من هيئات رسمية واجتماعية، وهو الصديق الصدوق الذي يتحلى بالإخلاص والوفاء، وما أصعب أن تطلق على إنسان كلمة صديق…”.
وبعد هذا نرى أن الدكتور عادل إسماعيل قد وهب حياته إلى البحث العلمي، وقدّم للمكتبة العربية العديد من الدراسات التاريخية والسياسية والتراثية والفكرية.
مع هذا المشوار الطويل، وبعد عمر ناهز الثمانين عاماً، انتقل إلى جوار ربه في صبيحة نهار الخميس 24 حزيران 2010 في فرنسا ودفن في بلدته دلهون يوم الخميس 1 تموز من العام نفسه، وقد خلّف رحيله أسىً موجعاً في قلوب كل محبيه ممن عرفوه أو قرأوه، أولئك الذين افتقدوا فيه الدبلوماسي الراقي والمؤرخ والعالم الكبير، وليس لنا إلا أن نقول “سلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً”.
رحم الله الدكتور عادل إسماعيل وأثابه عما قدم من خدمات جلى
لكتابة التاريخ ولا سيما تاريخ لبنان المعاصر.

 [/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عادل إسماعيل وتصحيح تاريخ لبنان ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الدكتور حسن أمين البعيني

تميّز بتحرّيه الدؤوب للحقائق الموثقة بجهد متواصل
فكسر احتكار كتابة التاريخ وكشف التحريف الواسع فيه

أبرز إضافاته دحض أسطورة علاقة المردة والجراجمة بالموارنة
مثبتاً أن الشعوب الثلاثة مختلفة تماماً تاريخاً ولغةً ومعتقداً

دخل مكتبة الفاتيكان بقصد تحرّي وثائق خاصة بتاريخ لبنان
فسأله الراهب اللبناني: هل تاريخ لبنان يعنيك؟ وما هي علاقتك به؟

المسلمون لم يهتموا بكتابة تاريخ لبنان فأخلوا الساحة لغيرهم
وبعض المتزمتين منهم أنكروا على إسماعيل الكتابة بالفرنسية

الدكتور عادل إسماعيل بحّاثة ومؤّرخ كبير ورائد في مضمار جمع الوثائق ونشرها، فتناول شخصيته وسيرته ومؤلفاته، لا تكفيه مقالة أو بحث قصير، لذا سنتحدث عنه من خلال نقاط محددة تحت عنوان كتابة تاريخ لبنان.

التحوّل من دراسة القانون إلى دراسة التاريخ
بعد أن أنهى عادل إسماعيل الدراسة الثانوية إلتحق بكلية الحقوق التابعة لجامعة القديس يوسف في بيروت (اليسوعية). وكان كسائر أبناء منطقته (إقليم الخرّوب)، الفقيرة والمهملة والمحرومة، يطمح لدخول مجال الوظيفة العامة كباب لتأمين الاكتفاء المادي، لذا قَبل نصيحة والده، حين كان في السنة الثانية من دراسته الجامعية، أن يشترك في مباراة حُدّدت لأخذ 150 مساعداً‏ قضائياً في وزارة العدل، لكنه، بعد صدور النتيجة، وظهوره الأول بين المتبارين، لم ينزل عند رأي والده اللجوء إلى واسطة زعيم، أو موظف كبير، أو مسؤول سياسي، لدعم وصوله إلى الوظيفة المطلوبة، إعتقاداً منه أن حيازته المرتبة الأولى كفيلة وحدها بإيصاله إلى الوظيفة، وأنه إذا حصل تلاعب في المرتبات وتعديل بالأسماء، سيقفان عند حدود المرتبة الأولى ولن يلغيا إسمه. ولم يصح ما توقّعه، وصُدم عند صدور النتيجة، وإيراد أسماء الناجحين في الصحف، بأن إسمه ليس من بينها. وصُدم أكثر حين علم أن الأشخاص الناجحين لم يتقدّم أحدهم إلى الإمتحان، بل عُيّنوا جميعاً تعييناً نتيجة الوساطات التي قاموا بها لدى أصحاب النفوذ وأولي الأمر من الزعماء والبكوات والمشايخ.
جرى ذلك في مطلع عهد الإستقلال، أيام كان اللبنانيون يعملون لبناء أسس الدولة بعد أن نالوا إستقلال الدولة على الصعيد الدستوري ونجحوا في تحرير الدستور من المواد المتعلّقة بالإنتداب الفرنسي، في تشرين الثاني 1943، وعلى الصعيد الإقتصادي بتسلّم المصالح الخاصة بلبنان والمصالح المشتركة مع سوريا، وعلى صعيد جلاء الجيوش الأجنبية بجلاء آخر جندي فرنسي في 31 كانون الأول 1946.
لقد حزّ في نفس عادل إسماعيل أن تجري عملية التوظيف في لبنان، بعد إستقلاله، وفق المحسوبية والوساطة، وألاّ يتحرّر المواطنون من التبعية والمحسوبية والإقطاع السياسي، مع الإشارة إلى أن تجاوز القانون، بالشكل الذي جرى فيه وأدّى إلى حرمان عادل إسماعيل، لم يشهد عهد الإنتداب له مثيلاً بنسبته العالية من تجاهل الأصول والضوابط. لقد آلمه كثيراً أن يتلقى هذه الصدمة الكبيرة في مقتبل عمره، وفي بداية بناء دولة الإستقلال، وأدرك خطورة المسلك الذي سار عليه رجال السياسة في لبنان، وأنه، في حال إستمرارهم فيه، سيؤول حتماً إلى تقويض كيان الدولة، وإلى ترحّم اللبنانيين على عهد الإنتداب.
حين أنهى عادل إسماعيل دراسته في الجامعة اليسوعية، بنيل الإجازة في الحقوق، تحوّل إلى إختصاص آخر، وقرّر السفر إلى باريس للإلتحاق بجامعة السوربون في علوم التاريخ، وبهذا عزم أن ينتقل من مجال القانون، الذي لم يؤمّن له وظيفة تقدّم لها، إلى مجال التاريخ الذي أمل الإبداع فيه، فخرج بهذا من الحاضر إلى أصوله وامتداداته في الماضي، لا ليعيش الماضي بأحداثه ويدوّنها فحسب، بل ليساهم في إعطاء العبر منه، وفي فهم الحاضر، وفي بناء مستقبل لبنان، تبعاً لمفهوم التاريخ وفوائده، بحيث يصبح لبنان وطن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

النهج
إن حرمان الإدارة اللبنانية، وتحديداً وزارة العدل، من موظف صالح كفوء، أكسب مجال التأريخ مؤرّخاً ثقةً كفوءاً، أغنى المكتبات بأفضل الكتب وأعظمها فائدة، وبأوسع الموسوعات الوثائقية، تميّز بتجرّده، وأسلوبه العلمي، وتحرّيه للحقائق، وكشفه للأخطاء، بحيث ساهم ما أمكنه في تصحيح تاريخ طاله الكثير من التحريف، كما ساهم في محاولات وضع الأسس لبناء دولة مختلف على هويتها وعلى قواعد بنائها، وعلى كيفية توحيد مواطنيها، من خلال المعرفة الحقيقية والفهم العميق لتاريخ لبنان.

دير-القمر-في-القرن-التاسع-عشر
دير-القمر-في-القرن-التاسع-عشر

عرف عادل إسماعيل دور التاريخ والمؤرّخ في عملية بناء الوطن، وإيجاد التفاعل والتكامل بين الشعوب. فالتاريخ “ليس عملية ترديد للأحداث كما ترويها كتب الآخرين دون مراجعة أو نقد، وإنما هو دراسة وتحليل وتوضيح عوالم ومقوّمات المجتمع الذي نشأت فيه تلك الأحداث وتطوّرت” وكتابة التاريخ لا تقوم على معلومات سطحية، ومدوّنات مضلّلة، وإنما تقوم على إعتماد المراجع القيمة لأعلام المؤرّخين السابقين والمعاصرين، والعودة إلى الأصول المخطوطة والوثائق غير المنشورة، ومنها ملايين الوثائق الموجودة في مكتبات العواصم والمدن الكبرى التي نشر بعضها عادل إسماعيل، كما سنرى لاحقاً، والتي تنتظر الكثيرين غيره لنشر ما تبقى منها وما سيستجد مع الأيام. أما المؤرّخ، فهو عند عادل إسماعيل الساعي إلى التفتيش عن الحقيقة. ” لكن ما من مؤرّخ رصين يجيز لنفسه القول إنه يملك الحقيقة بكاملها. وهل في العمل التأريخي حقيقة نهائية. فالحقيقة التاريخية هي أمر نسبي في تصوّراتنا، وهي معرّضة في كل وقت للتبدّل كلما زاد الأثريون في إكتشافاتهم، وفي إبراز معالم الحضارات الكثيرة التي عاشت وازدهرت على هذا الكوكب ولا تزال دفينة في الأرض، وكلما توسّع البحث وازداد عمقاً في ذخائر المحفوظات التي لم تطلها بعد يد الإنسان”
أولى نجاحات عادل إسماعيل في الكتابة التاريخية، كانت عندما رغب استاذه البروفسور بيكار، أحد كبار الأساتذة والمؤرّخين في فرنسا، من تلاميذه الثلاثمائة تحضير بحث من عشر صفحات حول الموضوع التالي: “تأثير الحضارات الشرقية القديمة في الحضارتين الهللينية والهللينستية”. فأعد عادل إسماعيل بحثه في ضوء مطالعته لعدد كبير من الكتب الموجودة في مكتبة جامعة السوربون، ومكتبة Sainte Genevieve، التي تطرّقت إلى هذا الموضوع. وبعد أن إطّلع البروفسور بيكار على الأبحاث، وأعادها إلى تلاميذه مع ذكر ملاحظاته عليها، نوّه فقط بعادل إسماعيل، ولأنه وضع دراسة قيّمة في موضوع شائك، لا يتعلق أصلاً بالثقافة العربية الأصيلة، لأنه كتب بلغة فرنسية صحيحة ورجاه أن يستمر في المستقبل في النهج القويم الذي اعتمده.
لقد كان نهج عادل إسماعيل لاحقاً هو النهج القويم الذي هنّأه عليه البروفسور بيكار، وهو سيزداد وضوحاً ورسوخاً في أسسه ومظاهره مع الأيام. إنه نهج الإعتماد على المصادر والأصول، أو التركيز عليها في حال الإعتماد أيضاً على المراجع، فالمصادر هي أساس التاريخ الأول والأصول اذا ضاعت ضاع التاريخ. ونهج عادل إسماعيل هو الموضوعية والأسلوب العلمي، والبعد عن الهوى والتغرّض، وهو نهج الأسلوب الشيّق، واللغة السليمة، والمعاني الواضحة، واعتماد الفهارس والإيضاحات المفصّلة على النص، إضافة إلى الجداول والخرائط والصور.

تاريخ مشحون بالأهواء الفئوية
وجد عادل إسماعيل تاريخاً للبنان محرفاً ومختلفاً عليه، نتيجة لإختلافات الإتجاهات الفكرية والإيديولوجية، ونتيجة للإنقسامات الفئوية، الطائفية والمذهبية، ولاحظ أن من أسباب الإختلافات في كتابات المؤرّخين ضآلة المصادر التاريخية التي يعتمدون عليها، وكثرة إعتمادهم على الروايات المحلية المتناقلة دون سند حقيقي، والمراجع المتضمنة للكثير من الأخطاء، وعلامات الجهل بالحقائق، أو المثقلة بسوء تفسير الأمور، والغرّض السياسي، فقرر سدّ هذه الثغرات الكبيرة عبر انتهاج طريق المؤرخ الرصين والجاد وهو طريق البحث والتنقيب في الوثائق غير المنشورة مثل المراسلات والتقارير الدبلوماسية المحفوظة في إرشيف وزارات الخارجية والحكومات أو في مكتبات العواصم والمدن الأوروبية، وفي الأرشيف العثماني في اسطنبول، وهذه الوثائق كتبت في حينها لتنوير حكومات المبعوثين الدبلوماسيين أو القناصل بما يجري وتزويدها بكل شاردة وواردة مما يتيح لها رسم سياساتها ومواقفها. (ولهذا السرية في وقتها) هي أقرب ما يكون إلى وصف الواقع التاريخي آنذاك دون أن يعني ذلك أنها دقيقة لأن للدبلوماسيين أهواءَهم أيضاً. لكن بصورة عامة، فإن الوثائق التي قرر عادل إسماعيل التنقيب في غياهبها ليست فقط مرجعاً صالحاً لتصويب الأخطاء، وتخفيف الإختلافات، بل هي وسيلة لإغناء الأبحاث، والإضاءة على الفصول الغامضة أو المجهولة، وبالتالي توضيح الصورة الحقيقية لمراحل حساسة ودقيقة من تاريخ لبنان والمنطقة. وما كان عادل إسماعيل يهدف من إعتماد هذا النهج، ومن ترويجه، إختراع تاريخ جديد للبنان، وإنما كان يهدف إلى تصحيح ما فيه من أخطاء والوصول به إلى أعلى نسبة من الحقيقة، كي يؤدي الفائدة المرجوة منه. وفي ما يلي بعض وجوه نشاطه وبعض الإشارة إلى مؤلفاته.

كسر إحتكار كتابة التاريخ
لم يستطع الدكتور عادل إسماعيل الوصول إلى وظيفة مساعد قضائي، لأن أرباب النفوذ والوجاهة والسلطة في لبنان إحتكروا حق التوظيف، وحق إيصال الوظائف والمنافع إلى الناس حتى صارت تسري إلى المواطنين من خلال قنواتهم، وتمرُّ عبر بواباتهم. ثم لم يستطع في ما بعد تسلّم وظيفة مدير عام وزارة التربية، حين طرح اسمه الحاج حسين العويني وكان يومها وزير الخارجية والمغتربين والعدلية والتصميم العام في الحكومة الرباعية التي شكّلها الرئيس رشيد كرامي في 14/10/1958، وذلك لأن مسلمي بيروت إعترضوا عليه فأرسل مفتي الجمهورية اللبنانية وفداً إلى الرئيس الحاج حسين العويني يطلب منه التراجع عن ترشيح عادل إسماعيل، بحجة أنه من جبل لبنان ومن إقليم الخرّوب” وأن إسلامه كأبناء منطقته إسلام فاتر”، وبحجة ثانية هي أهم بالنسبة إلى موضوع كتابة التاريخ، الذي نحن بصدده، وهي أن عادل إسماعيل كتب عن تاريخ لبنان باللغة الفرنسية كتاباً نشرته في باريس دار النشر العالمية Maison neuve سنة 1955، ووضع مقدّمته البروفسور شارل ساماران. وعلّق الدكتور المرافق للوفد الإسلامي، الذي تذرّع بهذه الحجة، قائلاً: “هل يكون مسلماً هذا الذي يكتب تاريخ لبنان باللغة الفرنسية”.
فإنتفض الحاج حسين العويني لدى سماعه ذلك، وقال: وهل من حصّل العلم في جامعة السوربون في فرنسا يخسر هويته الدينية؟ وقد قال الرسول الأعظم: “أطلبوا العلم ولو في الصين” واضاف: وهل الكتابة في تاريخ لبنان أصبحت في نظركم جريمة يعاقب عليها، وتريدون أن تتركوا تاريخ بلدكم في يد الآخرين ليرووه ويدوّنوه على هواهم”.‏
وفي ما إعتبر بعض المسلمين عادل إسماعيل ذا إسلام فاتر، لأنه من أهالي إقليم الخرّوب من الجبل، ولأنه خرج عن إطار التأليف المتبع باللغة العربية، فألف كتاباً باللغة الفرنسية، إعتبره بعض المطارنة مسلماً متعصّباً، وقابلوا الرئيس فؤاد شهاب، ورفضوا تولّيه المديرية العامة لوزارة التربية، وأعلنوا عزمهم على عدم التعاون معه في خطة الإصلاح المنوي القيام بها في هذه الوزارة أسوة بسائر الوزارات، وكانت حجتهم في ذلك الحجة نفسها التي تذرّع به مسلمو بيروت، وإنما بمفهوم مختلف عبّروا عنه بالقول: “إن عادل إسماعيل، بتأليفه كتاباً في تاريخ لبنان، ينسف بأسلوب علمي، وبحجج مقنعة للكثيرين، المعطيات الأساسية لتاريخ لبنان، التي نعتبرها ثوابت لا تمس، وهو بالتالي خطر على مفهومنا للتاريخ”.

المؤرخ فيليب حتي
المؤرخ فيليب حتي

المسلمون أهملوا تاريخ لبنان
المسألة هنا مزدوجة ذات وجهين: أولهما هو عدم اهتمام المسلمين بكتابة تاريخ لبنان، الأمر الذي أشرع الساحة لغيرهم، ثم موقف بعض ضيقي الأفق منهم الذين “أفتوا” بأن من شاء كتابة التاريخ فليكن باللغة العربية فقط، وفي هذا تنازل طوعي عن الإطّلاع على المصادر المكتوبة باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية واللاتينية واليونانية، وهي التي تغني الكتابات التاريخية لإحتوائها على الكثير من المعلومات والحقائق، ولا سيما تلك التي دوّنها البحاثة والمستشرقون والرحّالة الذين حفظوا لنا الكثير من الوقائع والحوادث ووجوه النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، التي لم يدوّنها الكتّاب المحليون، أو دوّنوا بعضها لكنه ضاع ولم يُستفد منه. كما أن الكتابة باللغات الأجنبية هي أكثر من ضرورة، وذلك ليطّلع الأجانب على تاريخنا بلغاتهم، لأنه لا يتيسّر إلا للقلّة منهم فهم اللغة العربية وقراءتها وكتابتها، وبهذا يطّلعون على ما لم يرد في المدوّنات المكتوبة بلغاتهم، فتكتمل الصورة عن تاريخ لبنان، ويحصل التفاعل الثقافي الحضاري المنشود، علماً أن من بديهيات الأمور إمكان تعريب أي عمل يصدر باللغات الأجنبية إلى لغة الضاد، وهذا جارٍ كل يوم في جميع ميادين التأليف ولم تكن لغة الكتاب الأصلية في أي وقت عائقاً أمام وضعه في تصرف قرّاء العربية.
أما الوجه الثاني، فهو أن المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، كانوا أسبق من سائر اللبنانيين إلى الانفتاح على حضارة الغرب ولاسيما الحضارة الفرنسية واللاتينية، وبالتالي تعلّم اللغات الأجنبية، والنهل من الثقافات الأجنبية، وهذا إضافة إلى سبقهم نتيجة دعم الدول الأوروبية في مجالات الاقتصاد والمال والقانون وغيرها، وقد أدت هيمنة بعض المؤرخين إلى تشكّل ما يمكن اعتباره “إقطاعاً ثقافياً” احتكر كتابة تاريخ لبنان بفضل الموقع المتميز لبعض المؤرخين وجدِّهم واجتهادهم، ونتيجة لإهمال سواهم، إلا أن البعض من هؤلاء اغتنم فرصة تفرده بالساحة وغياب الرؤية المقابلة لتسخير التاريخ بما يخدم الأغراض الفئوية، ولترتيب الشؤون السياسية بشكل يضمن استمرارية نفوذ فئة من اللبنانيين وهيمنتها في مختلف المجالات. وقد كان أحد أبرز أهداف المؤرخين أولئك ولا شك توفير أساس تاريخي زائف أو محوّر يثبت الهوية اللبنانية الخاصة الملتصقة بالحضارة الفرنسية والغربية المسيحية والمنقطعة عن جذورها الحقيقية المشرقية العربية ومحيطها الأوسع الذي تميز تاريخياً بالتسامح والتنوع الديني والثقافي في ظل تسامح الإسلام.
حين يُذكر الدكتور عادل إسماعيل تُذكر معه الوثائق الدبلوماسية التي جمعها ونشرها، والتي أثرت المكتبات العامة والخاصة، وساهمت في تصحيح الحقائق ونقض الكثير من الادعاءات والروايات المضللة لتاريخ لبنان الحديث. وحين تُذكر الموسوعات الوثائقية يُذكر أولاً عادل إسماعيل. وقد كانت بداية مشروعه في جمع الوثائق في سنة 1951. في هذه السنة إقترح البروفسور لويس ماسينيون عليه مشروع جمع المحفوظات الفرنسية، فعرض الأمر على صديقه الدكتور الفرد خوري فشجّعه على ذلك منبّهاً إياه إلى المعارضة الشديدة التي سيلقاها إبّان تنفيذه لهذا المشروع “من قبل الذين يعدّون تاريخ لبنان حكراً عليهم”، وأضاف قائلاً: “إنه سيكون أول مسلم لبناني يقتحم القلعة الموصدة لتاريخ لبنان”.

وثائق نادرة جمعها من المحفوظات الفرنسية والإسبانية والإيطالية إختفت من خزائن المتحف الوطني أثناء الحرب اللبنانية وسبق ذلك سرقة الميكرو فيلم الذي يتضمن الوثائق التي نشرها في كتبه عن تاريخ لبنان

مشروع إصدار الوثائق الخاصة بلبنان
أخذ عادل إسماعيل موافقة الأمير موريس شهاب، مدير المتحف الوطني في لبنان (المديرية العامة للآثار في ما بعد) فشجّعه الأمير على ذلك، وقدّم له العديد من التسهيلات والمساعدات. وبعد جمع الوثائق ونقلها إلى ميكرو فيلم، ووضعها في المتحف الوطني، جرى توقيع إتفاق بين وزارة السياحة (المديرية العامة للآثار) والدكتور عادل إسماعيل بتاريخ 25 كانون الثاني 1974 على كيفية نشر هذه الوثائق. ثم جرى أخذ موافقة المراجع الفرنسية واللبنانية المختصة. وحين انتشر خبر ذلك، قوبل بإستحسان الكثيرين من المؤرّخين والباحثين، وقوبل في الوقت نفسه بمعارضة عدد من رجال الاكليروس والمقرّبين منهم، “لأنه لا يسعهم القبول بأن يتولى تنفيذه أحد المسلمين، وأكّدوا للأمير موريس شهاب أن مصلحة لبنان تقضي بأن يبقى هذا المشروع بين أيدي الباحثين والمؤرّخين الموارنة، أو الرهبان منهم على الأخص، لأنهم أحرص من غيرهم على وجه لبنان الثقافي الصحيح حسب رأيهم”.
قبل ذلك بسنوات، وبحسب ما يذكر الدكتور عادل إسماعيل، رغب إليه صديقه السفير إميل خوري أن يزور مكتبة الڤاتيكان، وسهّل له ذلك، وكلّف راهباً لبنانياً بتسهيل زيارته ومرافقته. وكانت بغيته الاطّلاع على الوثائق غير المنشورة، لا على الكتب، وحين أوضح ذلك للراهب، وأنه ينوي كتابة تاريخ لبنان في ضوء وثائق الڤاتيكان كما في ضوء وثائق وزارات خارجية الدول الأوروبية، التي اطّلع عليها، أجابه الراهب: “وماذا يعنيك تاريخ لبنان، وما هي علاقتك بتاريخ لبنان”. فوجد أن الراهب يعرف تاريخ لبنان، أو ينظر إليه من منظار خاص، ويعتقد بأنه ملك لفئة من اللبنانيين من دون غيرها، وليس لأحد الحق في الإهتمام بهذا التاريخ، فودّعه وغادر المكتبة.
ومقابل ما ذكره عادل إسماعيل من عقبات وإعتراضات لقيها من بعض رجال الإكليروس الماروني، وبعض المؤرّخين، قضت الأمانة التي اتصف بها، أن يذكر الذين سهّلوا مهمته وساعدوه فسمّى منهم الأخوين، السفير إميل خوري والدكتور الفرد خوري، والأمير موريس شهاب، ورئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية. وبفضل هذه المساعدة من مسيحيين لبنانيين، وبفضل إصراره على إكمال عمله، وجهوده الجبّارة، تمكّن من دخول ما سمّاه صديقه الفرد خوري “القلعة الموصدة في تاريخ لبنان”، وإختراق ما سمّاه إحتكار كتابته، فصدرت له الكتب العديدة عن تاريخ لبنان، إعتماداً على الوثائق التي جمعها، ثم أصدر هذه الوثائق باللغة الفرنسية في سلسلة من 50 مجلداً بعنوان “Documents diplomatiques et consulaires” غلافها جيد، وورقها ممتاز، مزوّدة بالفهارس والجداول والبيانات والصور، ثم ترجم معظمها الى العربية ليسهّل إطّلاع الجميع عليها، لإصدارها في سلسلتين، الأولى تاريخ لبنان الحديث في 15 جزءاً، والثانية الصراع الدولي حول المشرق العربي 1700 – 1985 في 15 جزءاً. وهذه الوثائق تتعلق بسياسة الدول الكبرى الأوروبية: فرنسا وبريطانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وبروسيا، إضافة إلى السلطنة العثمانية، حول قضايا لبنان السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
أما الوثائق النادرة التي جمعها الدكتور عادل إسماعيل من المحفوظات الفرنسية والإسبانية والإيطالية، فقد إختفت من خزائن المتحف الوطني في أثناء الحرب اللبنانية ما بين العامين 1975 و 1990، وكان سبق ذلك سرقة الميكرو فيلم الذي يتضمن الوثائق التي نشرها عادل إسماعيل، إعتقاداً من الفاعلين أنهم حصلوا على الوثائق، وما عادت هناك إمكانية لنشرها، ولم يدروا أنها طبعت على الآلة الكاتبة. وفي الوثائق الفرنسية والإيطالية والإسبانية المسروقة، وخصوصاً وثائق آل مديتشي في فلورنسا، ما يتعلّق بعهد الأمير فخر الدين المعني الثاني. وقد كتب عادل إسماعيل عنها “أنها تحدّد بوضوح شخصية فخر الدين، وتصحّح الكثير من التفسيرات الخاطئة التي ذُكرت عن مسيرته السياسية وعلاقته بتوسكانا والكرسي الرسولي طوال مدة إقامته منفياً في إيطاليا ( 1613 – 1618) أو بعد عودته منها إلى بلاده. وخلافاً لما قيل، ليس في تلك المحفوظات ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي. وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”.
بالإضافة إلى ما واجهه الدكتور عادل إسماعيل من معارضات لوقف عمله، واجه صعوبات عديدة في قيامه به طوال 23 سنة، من سنة 1951 إلى سنة 1974، منها إختيار ما رآه ضرورياً من مئات آلاف الوثائق، لأن نشرها كلها يتطلّب ألف جزء بمعدل 500 صفحة لكل جزء، فإختار منها ما يفيد ونقله بخط يده، وحذف ما لا يفيد القارئ، ويثير الحساسيات والإشكالات والنعرات الطائفية، وما هو متعلق بحياة اللبنانيين الخاصة. وقال عمن انتقدوه لعدم نشر كل الوثائق وكامل نصوص ما نشره منها، إنهم كانوا سينتقدونه ويهاجمونه لو نشر كل شيء. ومن الإنصاف القول بناء على المبرّرات التي ذكرها حول إختياره للبعض لا للكل إنه كان موضوعياً في إختياره، محايداً يتطلّع إلى الأحداث من فوق، من دون هوى وتغرّض.
أشاد الدكتور عادل إسماعيل بمن تعرّضوا لعمله بالنقد الإيجابي، وتصدّى لمن رآهم مفترين عليه، ومسيئين إليه، وركّز في ردوده على من سمّاهم “مجلس الوصاية غير المنظور المكلّف مراقبة الفكر اللبناني وكتابة تاريخ لبنان وتوثيقه” ، وقال إن هذا المجلس ليس مجلساً منظماً علنياً قائماً في الواقع مرخصاً، له ميثاق خاص ونظام معلن، لكنه مجلس موجود بالفعل، ممثّل ببعض المتطرّفين من اللبنانيين الذين “يعتبرون أنفسهم أوصياء وقيّمين على الفكر اللبناني وعلى تاريخ لبنان بصورة خاصة”، مهمتهم مراقبة الشؤون الثقافية، وتوجيهها بما يتلاءم مع أغراضهم الفئوية. وهم تبعاً لذلك ولإلتقائهم في الأفكار “أبقوا تاريخ لبنان خلال قرون عدة قلعة موصودة الأبواب لا يدخلها إلاّ أعضاء هذا النادي”.

عمر-باشا-النمساوي-الذي-سعى-لإعادة-الحكم-العثماني-المباشر-لجبل-لبنان----2
عمر-باشا-النمساوي-الذي-سعى-لإعادة-الحكم-العثماني-المباشر-لجبل-لبنان—-2

مجلس وصاية ثقافي
ما كان أعضاء مجلس الوصاية، بحسب ما ذكر عادل إسماعيل، يتوّرعون عن الضرب بيد من حديد على كل من يحيد عن الخط الذي رسموه، وعن إعتماد الارهاب الفكري. وأعطى أمثلة عن ذلك، هي التصدّي للمعلم بطرس البستاني، لأنه لم يسمح بمراقبة مؤلفاته، وللمطران يوسف دريان، لأنه لم يوافق من قالوا بأن الموارنة هم المردة، والإستهانة والاستهزاء والعبث بتراث جبران خليل جبران، لأفكاره الجريئة. ووصفهم عادل إسماعيل بالجمود وبرفض التجديد في تاريخ لبنان.
يمكن الربط هنا بين الهيمنة الثقافية والهيمنة السياسية على لبنان. لقد صار للمسيحيين بعد نهاية الإمارة المعنية الدرزية، النفوذ الأول في جبل لبنان في عهد الامارة الشهابية، وعهد المتصرفية. وظل لهم النفوذ الأول في دولة لبنان الكبير في ظل الفرنسيين وبتسهيل منهم. وكان لا بد من تعزيز الهيمنة السياسية بهيمنة إقتصادية، وهيمنة ثقافية، وهذه كان أحد مظاهرها كتابة تاريخ لبنان بنهج يخدم المصالح الفئوية. وكان الموارنة، وهم أقوى الطوائف المسيحية وغير المسيحية، يعتبرون أنفسهم مميّزين عن سائر الطوائف، وأنهم أساس لبنان فيما الآخرون وفدوا عليه بعدهم. وقد عبّر البطريرك الماروني انطوان عريضة عن ذلك حين قال لمبعوث الجنرال كاترو، مندوب حكومة فرنسا الحرّة في سوريا ولبنان، ما يلي: “إن الطائفة المارونية في لبنان هي الأساس، وأما بقية الطوائف فضيوف عليها”.
في ما يتعلّق بكتابة التاريخ – وهذا ما نحن بصدده الآن فقط – يمكن القول إن ما سمّاه الدكتور عادل إسماعيل إحتكاراً من فئة لكتابة تاريخ لبنان هو بالفعل تفوّق ثقافي، ليس ناتجاً فقط من نشاط مؤرّخين منحازين ومدعومين بإمكانيات مادية، وتسهيلات لقيامهم بالأبحاث ولنشرها، بل هو ناتج أيضاً من تقصير المسلمين، على إختلاف مذاهبهم، في كتابة التاريخ، مما أوجد فراغاً في جوانب عدة منه، ملأه غيرهم، وكاد يكون لهم الفضل كاملاً في ملء هذا الفراغ لو لم يتحامل بعضهم ويكتب عن هوى، ويلجأ إلى التحريف والتلفيق، وما كتبوه عن الحوادث الطائفية بين الدروز والنصارى خير مثال عن ذلك، وعن تجنيهم على الدروز إلى حد كبير.
وعلى إفتراض أنه كان من الصعب على المسلمين الوصول إلى أرشيف العواصم والمدن الأوروبية، فقد كان بإمكانهم الكتابة في ضوء التاريخ العربي والاسلامي الذي أدرجوا تاريخ لبنان فيه، أو في ضوء ما نُشر من وثائق أجنبية، وما لديهم من مدوّنات منشورة وغير منشورة، كما أن هناك مجالاً متاحاً لهم للإطّلاع على نصوص المحفوظات الملكية المصرية، التي إكتفى المؤرخ أسد رستم بنشر عناوينها في 5 مجلدات، كما أن هناك ايضاً مجالاً متاحاً للوصول إلى الأرشيف العثماني الغني الذي يحتوي على مئات آلاف الوثائق عن لبنان ومحيطه طوال أربعة قرون ونيّف من الإدارة العثمانية، مما يشكّل مواداً لمئات الأبحاث. وهنا لا بدّ من الإشارة

حملة-الجنرال-بوفور-الفرنسية-على-لبنان-في-عين-فنان-فرنسي---حماية-للأبرياء-وليس-خدمة-لمصالح-استعمارية
حملة-الجنرال-بوفور-الفرنسية-على-لبنان-في-عين-فنان-فرنسي—حماية-للأبرياء-وليس-خدمة-لمصالح-استعمارية

معالجة الإشكاليات التاريخية
في تاريخ لبنان الكثير من الفصول الغامضة، والكثير من الإشكاليات الناتجة من الهوى السياسي، ومن الإختلاف في كتابة المؤرّخين عن الحوادث والوقائع. وقد تطرّق الدكتور عادل إسماعيل إلى قضايا مختلف عليها، وروايات مختلقة جرّاء تسخير التاريخ لمصالح فئوية معينة، فأطلق على هذه القضايا أسماء عدة، هي أسطورة، خرافة، وهم، إختلاق، ثغرة، تفسير خاطئ، تحريف للنصوص. وأسباب ذلك هي الكتابة عن غرض وهوى وخلفية سياسية أو دينية، والإقتباس الأعمى، وأخذ ما يرد في المدوّنات على عواهنه من دون إخضاعه للمناقشة، ووضعه تحت مجهر العقل والمنطق، وإعتبار كل ما وصل إلينا من الماضي صحيحاً وجزءاً من التراث لا يجوز تعديله.
إنبرى عادل إسماعيل لتوضيح الغوامض، وحلّ الإشكاليات، وتحطيم الأساطير، وتبديد الأوهام. وعالج 42 ثغرة، أو إشكالية، في كتاب سمّاه: “إنقلاب على الماضي لما أُدخل على تاريخ لبنان من الأساطير والخرافات والأوهام والأحداث التي لا أساس تاريخياً لها. هل آن الأوان لأن يطّلع اللبنانيون على الحقيقة في تاريخ بلادهم”. ونظراً إلى ضيق المجال سنكتفي فقط بالإشارة إلى هذا الكتاب، وإلى ثغرات أربع، هي اختلاق رهبان المدرسة المارونية في روما أسطورة أن الدروز احفاد الكونت الفرنسي دي درو، وإختلاق غيرهم رواية هدم زحلة بكاملها في حزيران 1850، واختلاق رواية هدم ديري مشموشة والمخلّص في أحداث 1860، واختلاق رواية إبادة المسيحيين في فتنة 1860. وقد رأى عادل اسماعيل أن المغالاة في كتابة تاريخ لبنان، ولا سيما الحوادث التي جرت بين بنيه “على غاية من الخطورة لما يسببه الحديث عنها من أثر سيئ في نفوس النشء اللبناني الطالع”.
أخذت إشكالية “المردة والجراجمة والموارنة” حيّزاً كبيراً في كتابات المؤرخين عموماً، والموارنة خصوصاً، إذ هناك اختلاف حول لغة اسم “المردة”، وحول أصلهم، وما إذا كانوا والجراجمة والموارنة شعباً واحداً أم شعوباً عدة. وقد إعتبر أكثر المؤرخين الموارنة أن الفئات الثلاث شعب واحد هو الموارنة، وأن لفظة المردة صفة أُطلقت على هذا الشعب لتمرّده على الحكم العربي الأموي. لذا، ظل الإسم “المردة” رمزاً في تاريخ الموارنة، وصار إسماً لتنظيم عسكري ماروني في الحرب اللبنانية ما بين العامين 1975 و 1990، تطوّر إلى تنظيم سياسي.
جرت معالجة إشكالية المردة والجراجمة والموارنة في عشرات الأبحاث والمقالات وحظيت أكثر من سائر الاشكاليات بوفرة الأحاديث عنها. وقد عالجها عادل إسماعيل في كتاب خاص شرح فيه بالتفصيل أصل المردة ومواطنهم الأولى، ولغتهم، وكيفية إنتقالهم من وسط آسيا وقدومهم إلى لبنان وتركهم له. وتوصّل إلى الحقائق التالية في المقابلة بينهم وبين الموارنة والجراجمة، التي تظهر أنهم مختلفون عن بعضهم لغةً وعرقاً ومذهباً ومساراً تاريخياً:
1. قدوم المردة إلى لبنان قبل الفتح العربي، ومجيء الموارنة على دفعات بعد هذا الفتح.
2. اشتقاق كلمة “المردة” من لفظة مردائيتاي” اليونانية.
3. لا علاقة بين المردة والجراجمة، فهما شعبان متباينان في العرق والمذهب واللغة.
4. لا تطابق بين المردة والموارنة، لأن المردة من أصل فارسي ميدي، ويتكلمون اللغة الفارسية والميدية والإغريقية، وهم وثنيون تنصّروا واعتنقوا مذاهب نصرانية مختلفة، فيما الموارنة من أصل عربي أو أرامي سرياني، ويتكلمون اللغة السريانية والعربية، وهم خلقيدونيون كاثوليك.
5. كان الموارنة على علاقة سيئة مع الدولة البيزنطية فيما المردة كانوا جنوداً لها.
6. تركُ المردة لبنان في أواخر النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، إلا أقلية ضئيلة منهم إنخرط معظمها مع الروم الأرثوذكس، وبقاء الموارنة في لبنان.
7. نظرة المؤرّخين الإغريق واللاتين لا تنم عن إحترام للمردة، إذ هم في نظرهم، مرتزقة وقتلة وقاطعو طرق، فيما هذه الصفات غير موجودة في الموارنة.
وخلص عادل إسماعيل إلى القول إن المردة والجراجمة والموارنة شعوب مختلفة لغةً وعرقاً ومذهباً.

[/su_spoiler][/su_accordion]

حكايات الأمثال

حكايات الأمثال في جبل العرب

تنشر مجلة “الضحى“ في هذا العدد حلقة ثانية مستمدة من كتاب الأديب السوري فوزات رزق الذي تناول فيه حكايات الأمثال في الأدب الشعبي في جبل العرب، وفي بلاد الشام بصورة أعم. وقام المؤلف بجمع قصص الكتاب بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر المكتوبة والروايات الشفهية التي حققها في قرى جبل العرب بصورة خاصة. ومن المصادر التي يعترف المؤلف بفضلها مثل كتاب “أمثال وتعابير شعبية من السويداء” لمؤلفه سلامة عبيد، وكذلك معجم أحمد أبو سعد ومعجم أحمد تيمور باشا، ومؤلفات الكاتب التراثي اللبناني سلام الراسي.
ويلفت الكاتب إلى تفضيله أحياناً استخدام اللهجة الشعبية في بعض القصص أو في مقاطع حوارية منها بهدف الحفاظ على طرافة القصة وأصالتها، كما يلفت إلى أن التباين الذي قد يجده القارئ بين روايته لبعض الحكايات وبين روايات أخرى متداولة أمر طبيعي في أي أدب شعبي، وذلك بسبب الطابع الشفهي للحكايات الأمر الذي يؤدي غالباً إلى زيادات وتحويرات مصدرها خيال الراوي واجتهاده، كما أن الرواية المعينة قد تستعير من البيئة المحيطة موادَّ ومعطيات تكون أكثر واقعية وتساعد أكثر على فهم المثل والعبرة التي يحملها.

فوق القرق حَطوا له ثقّالة
ويروى: “ فوق القرقرب ثقالة “

والقرق هو انتفاخ في الخصيتين . حطوا له : وضعوا له . ثقالة : ثقلاً
ويضرب هذا المثل في الرجل إذا جاءته مصاعب أو متاعب تضاف إلى الأعباء التي ينوء بها كاهله. وقد سمعت هذه الحكاية سنة 1975من المرحوم نجيب الحكيم، من قرية خازمة وقد أخبرها كالتالي:
كان هناك زلمي مقروق، وهالزلمي محتار كيف بدو يتخلص من هالقرق، وهالقرق كان ملبكه كثير سواء في المشي أم في القعود، وبالليل وبالنهار..
وبيوم من ذات الأيام راح هالزلمي يدوّر على حكيم، بلكي يخلصه من هالقرق، وطلع من ضيعته لضيعة ثانية . وعلى الطريق ما شاف إلا جماعة مقبلين صوبه عم يغنوا ويعيطوا، وهالدَربَكي قايمة ، خاف الرجال وقال لحاله : يا ولد تخبى عن طريقهن أحلى ما يبتلوا فيك لبين ما يمروا ، وراح نقّى له صخرة ولبد وراها .
ولما قربوا وصار صوتهن واضح، عرف إنهم جماعة الأربعين أزعر، وسمع شو عبيغنوا ؛ وكان زعيمهن قدامهن يرفع إيدو ويقول : ” يومنا يوم الأنيس … يومنا يوم الأنيس ” . قال لحاله : ليش ما بطلعلهن بجملة على القافية . بلكي بيستحسنوها، وهيك بخلص منهن . وعند ما صاروا قراب، قفز في وجهن، ولما قالوا: ” يومنا يوم الأنيس … يومنا يوم الأنيس” طلعلهن : ” والثلاثا والخميس ” . هذول فرحوا بهذه الإضافة وأخذوا هالجملة وصاروا يغنوا ” يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس ” .
وكان زعيم هالجماعة حكيم عربي ماهر فأخذ المقروق، وحكّمه وخلصه من القرق وفوق ذلك عبّى له خرجه مصاري، وقال له : سلم على خوالك المراشدي (وهذا مثل يضرب للرجل إذا قضيت حاجته). هالزلمي رجع على الضيعة صاغ سليم ، وفوق هذا وكله خرج معبّى مصاري سألوه أهل الضيعة كيف تخلص من قرقو قام حكى لهن قصته من طقطق للسلام عليكم .
وكان بالضيعة واحد ثاني مقروق، ولما شاف الزلمي راجع ما شالله عنو، راح يسأله :
ـ دخيلك ! شو سويت ؟ . شو عملت ؟ . دلني .
وقام يوصف له المكان، والطريق يلي بيمرقوا منه الأربعين أزعر . والزلمي ما كذب خبر، حمل حاله وراح على نفس المكان، وعلى نفس الطريق . شوي … شوي وإلا مقبلين الجماعة، وعبيغنوا مكيفين:
“يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس ” . لبد الزلمي بظل الصخرة، وصار يرتب له جملة مناسبة . وبس صاروا عند الصخرة فز بوجهنن، وعند ما قالوا : “ يومنا يوم الأنيس … والثلاثا والخميس” صاح : ” والجمعة والسبت ” . الجماعة هن سمعوا هالجملة، وجن جنونهن . مسكوا هالزلمي المسكين، وهاي تضرك، وهاي تنفعك، حتى نزّلوا له قرق ثاني، وقالوا له سلم . رجع الزلمي على الضيعة يمشي فرشخة. وصاروا أهل الضيعة يسألوا : شو صار مع فلان ؟ وأهله يقولوا : مسكين … فوق القرق حَطوا له ثقالة . وصارت مثلاً.
ولقد وقعت على حكاية مشابهة في كتاب عبد الله البردوني ” الأدب الشعبي في اليمن “، وتقول الحكاية اليمنية:
إنه كان في بعض أحياء المدينة رجل أحدب فقير. وكان يجد في الحمام العام دواء لوجع ظهره، وصقيع مفاصله، إلا أن بدل دخول الحمام على ضآلته لم يكن متوافراً له في أكثر الأيام . فألجأه الفقر إلى الاحتيال، فكان يقصد الحمام بعد إغلاقه بساعتين، فيفتحه بمسمار طويل.
وذات يوم فتح الحمام، فسمع أصواتاً كثيفة، فقرر أن يدخل مهما كان الثمن، لأن زحام الحمام يجعل الناس العاملين في الحمام يهملون الفقير. ولكن ذلك الفقير استغرب خلو “مخلع الحمام” وغياب الثياب المطروحة فيه. ولكن الأصوات كانت تتعالى في الداخل، فاقتحم خوفه وولج، وتبين له أن عند الجان حفلة عرس. وأنهم يتحممون في مثل هذه المناسبات كالإنس. وعندما اقترب من الحوض صاح عليه أحدهم :
ـ لا تقرب الماء حتى تزف معنا . وكانوا يرددون ” يومنا يومٍ أنيسا … يوم الربوع والخميسا”. وقالوا للأحدب:
ـ زدنا أياماً تلحق بصوت الزفة على حرفها السين. فقال :
ـ زفوا . فرددوا:
ـ” يومنا يومٍ أنيسا … يوم الربوع والخميسا “. فصاح الأحدب:
ـ والجمعة والسبت والأحد.
فضحكوا لخروجه عن حرف السين. فأضافوا إلى حدبته حدبة ثانية.
وأورد سلام الراسي حكاية مشابهة لهذه الحكاية تحت عنوان
” حيصو بيصو “. وتقول الحكاية:
من طرائف قصص الجن أن رجلاً أحدب استوطى حيطه صبيان الحي، وأخذوا يعيرونه كلما مرّ بهم: ” يا بو حردبة بوبعة … يا بو حردبة بوبعة “. فصار يتجنّب المرور في الأزقة المكتظة بالأولاد ويسلك المعابر المظلمة بين الأشجار. وحدث إن ضل طريقه في إحدى الليالي، ووصل إلى حيث كانت جماعة من الجن يقيمون عرساً لابن مليكهم وهم يحدون: “حيصو بيصو، والعريس لابس قميصو”، ويكررون هذه الردة إذ كانوا لا يعرفون غيرها.
وكان أبو حردبة هذا شاعراً، فهتف قائلاً: ” والأربعا والخميسو “. فلقيت الردة استحساناً عند ملك الجن، وسأله أن يطلب ويتمنى، فطلب أن يرتاح من الحردبة الموجودة على ظهره. فانتزعها ملك الجن من ظهر الرجل، ووضعها في قرقارة إحدى الأشجار، وعاد الرجل مسروراً وأخبر بما جرى معه.
وحدث إن أحدباً آخر من رجال المحلة سمع بما حدث، فتوجه تواً إلى حيث كان جماعة الجن ما زالوا في مهمة العرس، وهم يحدون: ” حيصو بيصو .. والعريس لابس قميصو .. الأربعا والخميسو ” فصاح بهم: ” والجمعة والسبتو ” . فانتهره ملك الجن قائلاً: ” يا قليل الذوق كسرت القافية”، وتناول الحردبة من قرقارة الشجرة، وألصقها في ظهر الرجل، فصار عنده حردبتان.

قاضي الاولاد شنق حالو

يضرب المثل في الرجل الذي يحاول إصلاح ذات البين بين الأولاد الذين يختلفون لأتفه الأسباب، ثم لا يلبثون أن يرتضوا من دون وسيط. والمثل معروف في أنحاء الجبل. وحكايته أرويها من الذاكرة.
تقول الحكاية إن ملكاً كان لديه عدد من النساء، ولكل زوجة عدد من الأولاد. وكان الأولاد يكثرون من التشاجر، وكل أم تحاول أن تنتصر لأولادها، وتستعدي الملك على أولاد ضرائرها فانشغل الملك بهذه النزاعات بين الأولاد، ما ألهاه عن شؤون مملكته. وكان لا بدّ أن يجد وسيلة يتفرغ بها لشؤون المملكة، فما كان منه إلى أن عهد لقاضي القضاة محاولة مراعاة شؤون الأولاد وفض منازعاتهم. ولم تمضِ أيام حتى وجد القاضي مشنوقأ تحت إحدى الأشجار.

ويذكر سلام الراسي الحكاية بإضافات كثيرة، ويختم بالقول: ” حتى قيل في ذلك الزمان: ” قاضي الأولاد شنق حالو”

كثر الطمع ضر ما نفع

يضرب هذا المثل للنيل من الطمع وأصحابه، وللتذكير بنهاية الطمع غير المحمودة، والمثل ليس خاصاً بالجبل، فهو معروف في أكثر بلدان العرب.
وحكاية هذا المثل وردت لي مكتوبة من إحدى الطالبات في صلخد سنة 1984، وذكرت أنها ترويها عن والدتها.
مفاد الحكاية أنه كانت هناك امرأة توجّهت إلى المعصرة بهدف أن تأتي بدبسها، وعادت وهي تحمل سطلاً مليئاً بالدبس، وفي طريق عودتها إلى البيت لاقاها شيخ يرتدي ثوباً أبيض ناصعاً وله لحية بيضاء فقال لها:
ـ حطي سطيلة الدبس واحمليني.
أطاعت المرأة فوضعت سطل الدبس جانباً وحملت الشيخ الذي قال لها:
ـ على بيتك وديني.
وبالفعل حملته إلى أن بلغت به منزلها.
عندها قال لها الشيخ:
ـ جيبي العصا واضربيني .
إلا أنها أبت أن تضرب شيخاً مهيباً.
عندها قال لها: سكري الباب واتركيني. وفعلت كما طلب منها.
ولما عادت في اليوم التالي، فوجئت بأكوام من الذهب في أرض البيت ولم تجد الشيخ.
فرحت المرأة كثيراً وأرادت أن تكيل الذهب، ولما كانت فقيرة ولا تملك وعاء ذهبت إلى جارتها تستعير واحداً، وقد استغربت الجارة وشكت أن هناك أمراً ما لدى جارتها الفقيرة. أعطتها الجارة وعاءً نحاسياً لكنها ألصقت في قعره عجيناً وناولته لجارتها.
المرأة المسكينة كالت الدنانير الذهبية وأعادت الوعاء لجارتها التي وجدت ديناراً ذهبياً عالقاً في قعره.
عادت الجارة إلى المرأة وأصرت عليها أن تخبرها كيف حصلت على الذهب. وبالفعل روت لها القصة. عندها قامت الجارة الطماعة في اليوم التالي فحملت سطلها وتوجهت إلى المعصرة وملأته دبساً، وعادت باتجاه بيتها، وفي الطريق صادفت رجلاً فقالت له:
– قل لي حطي سطلك واحمليني. قال لها ذلك، فوضعت سطلها جانباً وحملته. ثم قالت له:
– قل لي على بيتِك وديني. فقال ذلك. عندها حملته على ظهرها وسارت به حتى بيتها ثم قالت له:
– قل لي جيبي العصا واضربيني، فقال ذلك. عندها أتت المرأة الطمّاعة بعصا ورفعتها وهي تهم بضربه بها. عندها انتزع الرجل العصا منها وأوسعها ضرباً.
وفي اليوم التالي، ذهبت هذه تعاتب جارتها على هذه الورطة التي أوقعتها فيها. وقد جاء جواب الجارة الفقيرة: “هذا من طمعك، كثر الطمع ضر ما نفع”، فذهب هذا القول مثلاً.

لولا جرادة ما علق عصفور

يقال هذا المثل في من يتسبب لشخص آخر بورطة كبيرة نتيجة نصائح فاسدة.
أما الحكاية فتقول:
كان هناك صبي وبنت يتيمان، وكان اسم الصبي “عصفور” أما البنت فكانت تدعى “جرادة” . وكانت جرادة أكبر من عصفور، وأفهم منه وكانت تحتال أحياناً لكي تؤمن القوت لأخيها عصفور. ولما كبر عصفور وأصبح شاباً بدأ يبحث عن عمل يرضيه لكن دون جدوى، وكانت جرادة تهون الأمر عليه، لكنها كانت في الوقت نفسه تفكر بعمل يناسب شقيقها، وذات يوم خاطبت شقيقها بعد العشاء قائلة:
ـ لقد وجدت لك عملاً هيناً ومفيداً.
سألها: وما هو هذا العمل؟
قالت: لم لا تشتغل بالتبصير وقراءة الطالع، بتفتح الفال وبتكتب حجابات؟
بهت عصفور، وبرد وجهه، وقال لها:
ـ هذا اللي طلع معكي، شو بيعرّفني بكتابة الحجابات والتبصير وفتح الفال ؟!
ضحكت جرادة وقالت له:
ـ مين ما بيعرف يكتب حجابات ويشتغل مبصر؟ الشغلي ما بدها شي، شوية كذب وحكي فاضي، وخرطشي على الورق .
قال لها :
ـ قال: هل تهزئين مني؟
ـ قالت: أبداً. أنا جادة في أن عليك أن تشتغل في التبصير وكتابة الحجابات.
ـ لكني لا أعرف شيئاً من التبصير وهذا الكلام الفارغ.
ـ الكلام الفارغ لا يحتاج إلى علم بل قليل من الشطارة. ضع قلوسة على رأسك واحمل مسبحة طويلة وتكلم بأي شيء يخطر في بالك وستجد الناس يهرعون نحوك ويدفعون إليك بالمال.
وبالفعل بدأ عصفور الصنعة وما لبث أن برع بها وأصبح يدور في الحارات منادياً: “مبصِّر فتاح فال، حجابات للحيرة، ولتقريب القلوب، حروزة ضد العين .. وأولاد الحرام” الخ..
وكسب عصفور مالاً كثيراً من صنعته كما ذاع صيته في البلاد.
حتى كان يوم تعرّض فيه عقد بنت الملك للسرقة. وعقد بنت الملك كما تعلمون شأنه عظيم، إذ أن كل حبة فيه تساوي ثروة كبيرة. وقد حزنت ابنة الملك على سرقة العقد كثيراً حتى أنها أصبحت تمتنع عن الطعام لفرط حزنها فهزل جسمها وخاف الملك عليها كثيراً.
وبعد أن تشاور مع قادة عسكره ووزرائه أخبره أحدهم عن عصفور وبراعته في التبصير وأفعاله العجيبة. فأمر الملك بجلب الرجل حالاً.
أحضر عصفور وهو في حالة من الخوف يرثى لها.
قال الملك: لقد سرق عقد ابنتي وعليك أن تجد مكانه بخبرتك وما يذيع عنك من خوارق.
وتابع الملك القول: أعطيك مهلة أربعين يوماً فإما أن تحضر العقد وتحصل على مكافأة كبيرة وإما (ورفع الملك يده ثم أنزلها بسرعة لتشبه حركة قطع الرأس بالسيف!).
خرج عصفور من عند الملك وقد أسودت الدنيا في وجهه وعرف أن أجله اقترب. إذ من أين له أن يجد عقد ابنة الملك مستخدماً أساليب الضحك على ذقون الناس، ووصل بيته في حالة تZ–دمي القلوب.
أخبر شقيقته بالأمر موجهاً إليها اللوم لهذه الصنعة التي اقترحتها عليه، وهي اليوم ستؤدي على الأغلب إلى أن يفقد حياته.
أسقط في يد الشقيقة لكنها كالعادة هونت عليه الأمر مذكرة إياه أن لديه أربعين يوماً، وأنه لا بدّ أن يتفتق عقله عن وسيلة خلال هذه المدة.
بقي عصفور في حال من اليأس لا يدري ما الذي سيحمله إليه القدر، واعتكف في غرفته وهو يتلو الأدعية ويستغفر الله على ما ارتكبه من آثام بتدجيله على البسطاء. وجمع عصفور أربعين حصوة وقرر أن يرمي كل يوم واحدة ليعلم كم بقي له من العمر.
في تلك الأثناء كانت شلة الأربعين حراميّاً قد انشغل بالها بسبب تكليف عصفور أمر الكشف عن من سرق عقد ابنة الملك، وهو الذي كان اشتهر أمره في حقل التبصير و”كشف المخبأ”. وقرر زعيم العصابة أن يرسل أحد أعوانه لمراقبة عصفور. وجاء هذا تحت جنح الظلام ونظر من نافذة عصفور فرآه يقرأ آية الكرسي وينشغل بالدعاء، ثم رفع عصفور حصوة ورمى بها من النافذة قائلاً: “هذا أول واحد من الأربعين”. وتشاء الصدفة أن تصيب الحصوة رأس اللص، فرجع مذعوراً إلى سيده وأخبره بما حدث وأن عصفور ربما يعلم أن شلة الأربعين هي السارقة لعقد ابنة الملك. بالطبع لم يكن قصد عصفور سوى إلقاء حصوة للدلالة على أن أول يوم من مهلة الاربعين يوماً التي حددها له الملك قد انصرم.
وقد بلغ من خوف زعيم العصابة أن قرر التوجّه بنفسه إلى تحت شباك عصفور. وبالفعل رآه منشغلاً بالدعاء والتمتمة فتأكد له أنه يستحضر الجان لتكشف له أمر العقد. وفيما كان رئيس العصابة يتنصت من خلف شباك عصفور تناول هذا حصوة وألقى بها من النافذة قائلاً: وهذا ثاني واحد من الأربعين”! واصابت الحصاة رأس زعيم الحرامية، الذي أيقن عندها أن أمرهم قد كشف وأن من الأفضل لهم أن يخلصوا بجلدهم قبل فوات الأوان وأن يردوا العقد عبر إلقائه إلى عصفور.
وفي اليوم الثالث وبينما عصفور مستغرق في الدعاء والاستغفار حصلت المعجزة. إذ أُلقي في حضنه فجأة عقد رائع الصنع يكاد يضيء الغرفة لما يحمله من جواهر نفيسة. وقد ذهل المسكين ولم يغمض له جفن إلى أن انبلج الصباح، إذ توجه عندها إلى قصر الملك مسرعاً وهو يحمل العقد، ولما أذن له الحرس بالدخول ألقى بنفسه على قدمي الملك ثم طرح العقد بين يديه. قائلاً هل هذا هو العقد الذي تفتقدونه؟
ثار ضجيج في إيوان الملك لهذه المفاجأة وحضرت ابنة الملك على وقع صيحات الدهشة والإعجاب لتجد العقد المسروق أمامها. فرحت كثيراً بالطبع لكن ساورها الشك بسبب السرعة التي تمكن عصفور فيها من إيجاد العقد المسروق. وقبل أن يهم الملك بمكافأة عصفور قالت الأميرة له: وماذا لو كان عصفور هو السارق؟
سقط السؤال مثل صاعقة على رأس عصفور الذي ظن لوقت قصير أنه نجا بجلده من موت محقق فإذا هو الآن يواجه مصيبة جديدة قد تطيح برأسه. وبالفعل فكر الملك بسؤال الأميرة وطلب منها أن تختبر عصفور وعلمه بالمخفي مرة أخيرة .
سألت الأميرة عصفور فقالت: البارحة وبينما أنا في الحديقة صباحاً رفعت يدي لأقطف تفاحة فإذا بعصفور يدخل في كم فسطاني. وأنا أريدك أن تخبرني لأي سبب دخل العصفور كمي؟
صار عصفور المسكين يبلع بريقه، ووجهه يخضر ويحمر، وكان يخاطب نفسه في سِرِّه ويستذكر الحالة الوخيمة التي وصل إليها بسبب نصيحة أخته جرادة له بتعاطي مهنة الشعوذة. وزفر عصفور زفرة مشبعة بالحرقة وقال:
“أه آه . لولا جرادة ما علق عصفور” .
فصرخت بنت الملك غير مصدقة:
ـ صحيح ما قلت، إذ كان العصفور يطارد جرادة، وقد دخلت الجرادة كمي فلحق بها العصفور ودخل كمي أيضاً.
أمام هذا الإنجاز المدهش أمر الملك لعصفور بجائزة كبيرة وعاش الرجل مع أخته جرادة بلذة ونعيم، وقرر الإقلاع نهائياً عن مهنة الشعوذة. لكن قصته العجيبة حفظها الناس الذين أصبحوا من يومها يقولون عن من يتسبب بأذى لآخر جراء نصيحة خرقاء: “ لولا جرادة ما علق عصفور “.

ذاكرة الوطن

حول كتاب «التاريخ المعاصر للموحدين الدروز» للدكتور عباس أبو صالح
ذاكرة الوطن في كل مكوناته

«لبنان أكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون أكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه»
(كمال جنبلاط: في كتاب «من أجل لبنان»)

د. أنطوان مسرّة
عضو المجلس الدستوري

ما معنى الإنتماء اذا كان التلميذ في الكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت لا يرى أين هو موقعه في تاريخ كـــل لبنان؟

لا يجب أن نخاف من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية
لأنها تساهم في إدراك الإنجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات اللبنانيين

تتجاهل غالباً المقاربة التقليدية والسائدة للبناء القومي، من خلال مركز يمتد بالقوة الى كل الاطراف، إشكالية التواريخ المحلية وتواريخ المكونات الدينية والثقافية، أملاً من هذه المقاربة السائدة بتحقيق الاندماج الوطني. أما البناء القومي بالمواثيق على نمط الديموقراطيات الأوروبية الصغرى (سويسرا، بلجيكا، النمسا، البلاد المنخفضة) ولبنان وايرلندا الشمالية وأفريقيا الجنوبية وجزر فيدجي… فهو يتطلب شمول التاريخ كل مكونات المجتمع المحلية والمناطقية والدينية في سبيل تنمية الإدراك النفسي، وبالعمق لإشكالية تكوّن الوحدة المشتركة والجامعة.
تتحوّل في هذا السياق الوحدة من مجرد شعار الى واقع حياتي معيشي، فلا نختزل تالياً تاريخ لبنان بجزء من جبل لبنان، بل نجعله يشمل تاريخ جغرافيا لبنان الكاملة، كما هي محدّدة في الدستور اللبناني وكامل مكوناته الانسانية. ما معنى إنتماء اذا كان التلميذ في الفرزل والكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت… لا يرى أين هو في تاريخ كل لبنان؟
في لبنان ذاكرات طوائف ليست بالضرورة نزاعية، بل قد تكون متكاملة ونابعة من علم النفس التاريخي المتراكم بسبب موقع كل طائفة جغرافياً وخبراتها التاريخية. أدرك ذلك من خلال خبرتي البيروتية وانتمائي الى مذهب الروم الملكيين الكاثوليك وجذوري الارثوذكسية، وربما أيضاً الاسلامية في بعض فروع العائلة. التواصل الاسلامي المسيحي هو الخبز اليومي “لبيارتة” الروم الملكيين الكاثوليك والارثوذكس… الذين عاشوا غالباً في المدن وتعاطوا التجارة وتفاعلوا مع محيطهم اللبناني عامة والعربي. قد يكون الوضع مختلفاً – وليس دونياً – بالنسبة الى طوائف أخرى. فهل نأخذ في الاعتبار كل تواريخنا ونتصالح معها في تناغم مشترك وخلاّق؟
إن تجاهل الذاكرات التاريخية المتنوعة وحساسيات الذهنيات في عمق اللاوعي لدى نقل التاريخ لا يخدم علم التاريخ ولا يخدم الوحدة الوطنية. الخبراء في إثارة الفتنة، داخلياً واقليمياً، يستغلون الذاكرات الفئوية المكبوتة التي لم يتم إخراجها من اللاوعي لمعالجتها وتنقيتها. قد تتكامل عندئذ لبنانية البعض الاطلاقية وعروبة البعض الآخر الاطلاقية في عروبة لبنانية حضارية وليس عروبة السجون.
يتكلم عباس ابو صالح عن “حروب” في لبنان في “ظروف اقليمية ودولية”، وعن “معاناة اللبنانيين الكثير من ويلاتها ومآسيها”. يصدر كتابه، وبفضل جهود رفيقة عمره وامانتها ووفائها، في ظروف تحولات في المنطقة، اذ يوفّر جواباً على تكهنات تستهدف النسيج العربي التعددي فيبرز لنا تالياً “دور الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين ومواقفهم البطولية الى جانب مقاومتهم لمخطط التقسيم الذي ما زالت تسعى اسرائيل لتطبيقه من خلال الحروب الاهلية”.
يطرح الكتاب “آفاقاً جديدة للبحث”، مُركّزاً على “نضال الدروز المستمر في سبيل وحدة الاراضي في لبنان وسوريا”، ودورهم في تحقيق الاستقلال والدفاع عن الحرية الفردية واحترام حقوق المواطن، والعمل على الاصلاح السياسي والاجتماعي، وتمسكهم بـ”كيان لبنان المستقل دون دمجه كلياً أو جزئياً “، ومشاركة الدروز، بخاصة في معارك المالكية التي أسفرت عن نصر عسكري على الدولة الصهيونية “رغم امكانات الجيش المتواضعة”، واهمية تمسك دروز فلسطين بأرضهم.
يعتمد الكاتب على مصادر موثقة وغالباً اولية. أما غايته فيذكرها كالتالي: “بناء لبنان جديد، لبنان عربي ديموقراطي علماني موحد (…) والتقدير للأعلام والرموز الذين خدموا التاريخ“.
تبرز من خلال الوثائق والأحداث الممتدة أن “علاقة الدروز بالطائفة اليهودية لم تكن دائماً ودية وسلمية”. ولم يكن الدروز “أقل وعياً للخطر الاستيطاني الصهيوني”، وساهم تالياً “دروز سوريا ولبنان في دعم ثورة القسّام التي لا تقل شأناً عن مساهمة سائر القوى الوطنية في المشرق العربي”.

الأمير مجيد أرسلان لعب دوراً مهماً في حرب فلسطين ثم استقلال لبنان والزعيم كمال جنبلاط كان رائداً للإصلاح السياســي وفكرة العدالة الاجتماعية

مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958
مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958

تعبّر الوثائق الصهيونية بوضوح عن “الجهود التي بذلها قادة الصهاينة في فلسطين لوقف ومنع المجاهدين الدروز من الالتحاق بالثورة الفلسطينية 1936 – 1937”. وتجاه مساعي التجزئة وتقسيم الكيانات العربية، اتخذ الدروز “الموقف الوطني الصارم”. ويذهب الكاتب الى أبعد من ذلك فيقول: “تقضي الامانة أن من اختار البقاء في فلسطين قد فعل خيراً للوطن، لأن من مصلحة اسرائيل هدم الكيان اللبناني”. هل تتباين بين المذاهب هذه العلاقة العدائية مع الصهيونية؟ تظهر الوثائق الصهيونية “عدم ثقة الصهاينة بأية طائفة عربية في فلسطين بما فيهم الدروز”.
ويورد المؤرخ تقريراً جاء فيه: “إننا لا نستطيع تجاهل ولو للحظة واحدة تجربتنا ومعرفتنا للدروز والمسيحيين، إنهم بهذا لا يختلفون عن المسلمين بل ربما كانوا أسوأ منهم”. شارك الدروز في ثورة فلسطين (1939-1935) وقاوموا مخطط التهجير من منطقة الجليل وقاوموا شراء ما امكن من الاراضي في القرى والبلدات الدرزية في جوار حيفا والجليل. وطالب سلطان الاطرش أن يكون في عداد جيش الانقاذ عدد اكبر من المتطوعين الدروز. وفي آذار 1948 دخلت مجموعة شكيب وهاب الى منطقة الجليل في فلسطين ونزلت في بلدة شفاعمرو.
ما هو واقع الدروز في سوريا؟ شغلت زعامات درزية لبنانية، كالامير عادل ارسلان وعارف النكدي وغيرهما، مراكز مهمة في حكومة العهد الاستقلالي الاول في سوريا. يقول عباس ابو صالح: “إن موقع الدروز في سوريا ورغم اسهامهم الكبير في العمل الوطني بقي ثانوياً، والى الحد الذي خابت معه آمال الوحدويين ولاسيما وهم الذين سبق أن ناضلوا من اجل وحدة الوطن السوري خلال عهد الانتداب”. تاريخ الدروز في سوريا حافل بالتضامن الانساني. خلال 1943-1939 قام الامير مجيد ارسلان بزيارة لجبل الدروز في حوران في هذه الفترة الحرجة بهدف ارسال مزيد من القمح. وبادر بدوره كمال جنبلاط الى “توزيع محصول املاكه من القمح على المحتاجين خلال الحرب مساهمة منه بتخفيف هذه الازمة التموينية”.
لا يخفي المؤرخ صمت البعض خلال مرحلة 1942-1939: “البعض الآخر ظل صامتاً وكأنّ لا موقف له”. ويقول في مجال آخر: “إن حياد جبل الدروز كما حياد سائر الوطنيين في سوريا ولبنان لم يكن على ما يبدو مضموناً في نظر الحلفاء من دون رشوة سياسية أو ثمن ما يجب تقديمه للقوى الوطنية”. ويذكر ايضاً: “أن تعاون هؤلاء الافراد الدروز مع الصهاينة وانشاء وحدة عسكرية خاصة بهم في ما بعد لم يلقَ أي يوم قبولاً اجماعياً من دروز فلسطين”. أما عن عزوف قسم آخر من شباب القرى الدرزية في الجليل الاعلى عن الانضمام الى جيش الانقاذ يومذاك فيعزو ذلك الى فقدان هؤلاء للشعور القومي العربي”.
ما يستوقف في الكتاب الكلام عن شخصيات درزية مرموقة بخاصة كمال جنبلاط الذي “أخذ يمثل دوره الرائد في الاصلاح السياسي خلال عهد بشارة الخوري (…) متجاوزاً أي دور طائفي لخدمة مصلحة الدروز دون غيرهم (…) كان الشاغل الاساسي لكمال جنبلاط، في مرحلة الاستقلال وخلال عهد بشارة الخوري بالذات، الاصلاح السياسي وبالتالي الاهتمام بشؤون طبقة العمال والفقراء في المجتمع اللبناني بأسره، والتي لا تنحصر بالطبع بالموحدين الدروز أو بطائفة معينة في لبنان”. وللأمير مجيد ارسلان دور رائد في معركة المالكية.
ومن الشخصيات الدرزية البارزة التي يذكرها المؤلف فريد زين الدين ومحمد علي حماده وفؤاد ورشيد ارسلان وسلطان الاطرش… الدروز في فلسطين وسوريا ولبنان استقلاليون ومدافعون عن السيادة والاستقلال. يقول عباس ابو صالح: “كانت غالبية درزية في جبل لبنان تميل ايضاً الى معارضة مشروع سوريا الكبرى، وكذلك مشروع الهلال الخصيب”.
ما هو موقع الدروز في التوازن اللبناني؟ يذكر المؤلف أن مسألة تأليف حكومة احمد الداعوق في نيسان 1941، والتي لم يتمثل الدروز فيها كعادتهم، أثارت نقمة الرأي العام في مختلف المناطق الدرزية، وقدم وفد درزي برئاسة الامير مجيد ارسلان وحكمت جنبلاط – ممثل الست نظيرة جنبلاط على الصعيد السياسي – احتجاجاً بشأن حرمان الدروز في لبنان من هذا التمثيل للمندوب الفرنسي الجنرال دانتز. واذ عمد المندوب الفرنسي لتبرير الحرمان بتعيين أحد وجهاء الدروز، شفيق الحلبي، محافظاً على مدينة بيروت فإن زعماء الطائفة لم يقبلوا بهذا التبرير. وسبق أن اثار الامير مجيد ارسلان موضوع مشاركة الدروز في مجلس النواب في نيسان 1937.

غلاف-الكتاب
غلاف-الكتاب

ويذكر نشاط السفير سبيرز بعد اجتماعه بالبطريرك الماروني، ومن ثم بمفتي الجمهورية اللبنانية، وصولاً الى التسوية المقبولة، وهي المعروفة بصيغة ستة نواب مسيحيين لكل خمسة نواب من المسلمين أي ما يُعرف بالقاعدة الإحدى عشرية.
عن مشاركة الطوائف في الحكم ومشاركة الدروز بشكل خاص، يذكر الكاتب عدم معارضة النائب جميل تلحوق عند مناقشة الدستور تضمينه المادة 95 التي تنص على تمثيل الطوائف اللبنانية بصورة عادلة في الوظائف العامة، وذلك – كما يذكر عباس ابو صالح – “من باب الواقعية السياسية ايضاً”، وبسبب “خشية النائب جميل تلحوق من هيمنة الطوائف اللبنانية الكبيرة على الاقل عدداً كالطائفة الدرزية”.
ماذا يقول الكاتب عن ولادة الاستقلال اللبناني والميثاق الوطني؟ إنه يصف الميثاق اللبناني كالتالي: “الميثاق الوطني هو عبارة عن اتفاق عملي للعيش المشترك بين مختلف الطوائف اللبنانية في وطن واحد”.
رفض الدروز دائماً التدخل الاجنبي: “إن تعطيل بناء الدولة الحديثة والمجتمع اللبناني الموحد في ولائه للوطن، لم يكن بعد قيام الميثاق الوطني فحسب، بل بسبب اسرائيل وضربها للصيغة الوطنية اللبنانية الناقضة لأسسِها مما جعل البلد يسقط في مستنقعات الحرب الاهلية ومضاعفات الاحداث الاقليمية التي كانت تنفخها الدول الكبرى واسرائيل”.

رفض الدروز دائماً التدخل الأجنبي وقاوموا مشاريع الدويلات كما قاوموا تذويب لبنان في مشروع الهلال الخصيب وسوريا الكبرى

كتاب عباس ابو صالح هو مساهمة ضرورية ومفيدة كي يعرف اللبنانيون الدروز واللبنانيون عامة أنفسهم حسب تعبير كمال جنبلاط في كتابه: “من اجل لبنان”، اذ يقول كمال جنبلاط: “لبنان اكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون اكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه. كان بوسعه حقاً أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون وطن التوفيق بين الثقافات، ورمزاً ضرورياً اكثر من مفيد، لأنه إنساني حقاً ، ولكُنّا أعطينا معنى جديداً للمساكنة الإنسانية، وقدمنا للمجتمع الحديث مثلاً عن جماعة مختلفة، ليست مجرد حشد من الأفراد على الطريقة الغربية، بل تجمع من الثقافات، أو قل “عصبة أمم” صغيرة”.
إن التواريخ المحلية وتواريخ الطوائف والمذاهب في لبنان، اذا ما قوربت بأمانة، تُظهر بوضوح أن تاريخ كل طائفة في لبنان – الا في الشؤون الفقهية واللاهوتية – هو اولاً تاريخ مساهمة مُميزة في البناء الوطني العام، وهو ثانياً تاريخ تواصل وتفاعل. لا نخشى تالياً من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية… في لبنان لأنها تساهم في ادراك الانجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات فئوية مكبوتة في اللاوعي، في حين أن ذاكراتنا في لبنان، البلد الصغير ذي الدور الكبير، هي غالباً وواقعياً متناغمة ومتواصلة ومتفاعلة.

المــــلك والقاضـــــي

القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وإثنان في النار، وتفسير ذلك:
الأول عرف الحق وقضى بموجبه فدخل الجنة.
أما الثاني فعرف الحق وقضى ضده.
أما الثالث فقضى من دون معرفة الحق فكان الأخيران في النار. (حديث شريف)

قصص القضاة كثيرة ومثيرة أحياناً وقلما خلا الأدب الشعبي في أي بلد من حكايات وعبر عن أعمال القضاة لأن العدل مسألة تتعلق بها قلوب الناس ويهتمون بأخبارها كما يهتمون ويتابعون أخبار الجور والإفتئات على الحقوق والكرامات. تحضرني هنا مأثرة لأحد الملوك في غابر الزمان، إذ كان ما إن يعيّن قاضياً حتى يطالب الشعب بعزله، غير أن قاضياً جديداً انتدبه للنظر في قضايا وشؤون الناس في إحدى المدن بقي الشعب يطالب ببقائه عاماً بعد عام. تعجب الملك من هذه الظاهرة وثار فضوله فقرر أن يذهب بنفسه ويستطلع سبب تعلق الناس بذاك القاضي، تدروش بزي رجل بسيط وركب فرسه قاصداً تلك المدينة.
في الطريق شاهد رجلاً منبطحاً إلى جانب حائط يستغيث بذي المروءة، ليحمله كونه مريضاً. أشفق الملك عليه ثم نزل عن فرسه وأركبه مكانه. وبعد وصولهما إلى المدينة المقصودة، طلب الملك الفرس فأبى المدّعي أن يعيدها قائلاً إنها ملكه، آنذاك ما كان أمامهما سوى الإحتكام إلى القاضي، والذي كان يحاول الملك أن يعرف سبب محبة واحترام الناس لقضائه وأحكامه.
كان القاضي المذكور يقضي بدعويين غير دعوى الملك على الرجل، الأولى بين لحّام وزيّات على صرة دراهم، والثانية بين كاتب ومكاري على إمرأة يدّعي كل منهما أنها زوجته، وهي لا تنبس ببنت شفة. ولما وصل الملك المتدروش والرجل المتخاصمان على الفرس، كان الوقت قد صار مساء، فقال القاضي للمتداعين: اتركوا عندي الصرة والمرأة والفرس وتعالوا غداً فأسلم كل ذي حق حقه.
في الوقت المحدّد، رجع المتداعون إلى المحكمة، فقال القاضي للشرطي: سلّم صرة المال إلى اللحام، واصرف الزيّات بعد أن تجلده أربعين جلدة، ثم سلّم المرأة للكاتب واجلد المكاري أربعين جلدة، ففعل الشرطي، ولما أتى دور المتداعيين على الفرس نهض القاضي، وأنزل المتدروش (أي الملك) إلى الإسطبل، حيث الفرس المربوطة بين عدد من رؤوس الخيل، ثم طلب إليه أن يدله عليها ففعل على الفور، ثم أتى بالرجل وطلب إليه أن يعرفها فعرفها أيضاً.
قال القاضي للشرطي: سلّم الفرس للمتدروش واجلد الرجل أربعين جلدة.
دهش الملك المتنكر لأحكام القاضي القاطعة، فقصده ليلاً إلى منزله وكشف له أنه الملك وأنه يريد أن يعرف على أي أسس بنى أحكامه.
أجاب القاضي: أما الدراهم التي اختلف عليها اللحام والزيّات، فإنني وضعتها في الماء المغلي فطافت الأزهام والأدهان العالقة بها، فعرفتها أنها دراهم اللحام.
أما المرأة التي اختلف عليها المكاري والكاتب، فقد أمرتها أن تضع علفاً للفرس، فلم تستطع أن تميّز نسبة كمية الشعير في العلف إلى نسبة التبن، فعرفت أنها زوجة الكاتب وليس المكاري.
قال الملك: يبقى أن تخبرني كيف علمت أن الفرس هي فرسي، مع أن المدّعي عرفها كما عرفتها أنا!
أجاب القاضي: لكن ظهر لي فرق كبير بين معرفتك ومعرفته، فهي عرفتك بهمهمتها ونظرتها إليك وعطفها نحوك.

فأين قضاة اليوم من قضاة الأمس.
وأين زعماء اليوم من زعماء الأمس.
وهل أن اليوم أفضل من الأمس؟!

 

 

حكاية «أم الصبي» في آداب الشعوب

العدل في التراث الصيني والهندي
وصولاً إلى قضاء النبي سليمان (ع)

قال بعض الحكماء:
لا شيء أحسن من عقل زانه حلـمٌ
ومن عمل زانه علـــمٌ
ومن حلم زانه صدقٌ

البلد مليء بأخبار ونوادر السياسيين وصفقاتهم والأعمال المشينة لبعضهم (ولا نريد التعميم). ومن هؤلاء من يرفعون شعارات العفة والطهارة وحتى الشفافية، حتى إذا تجرّأ أحدهم وسألهم عن سبب التناقض بين أقوالهم وأفعالهم اعتلوا سروج خيولهم وسطوح أبراجهم وملأوا الدنيا بصياحهم مرددين بكل ثقة وفخر: نحن من سلالة “أم الصبي” وهم يعنون بذلك أن لا أحد يمكن أن يضاهيهم في الغيرة على مصلحة البلاد والعباد. وكي لا يبقى استخدام الكلام في غير محله ومن أجل تحرير هذا المثل من الاستخدام الباطل أحببت أن أسرد ثلاث حكايات مما أوردته الكتب المقدسة وآداب الشعوب توضح أصل هذا التعبير وسبب تحوله إلى تعبير شهير في أكثر الثقافات العالمة.
لنبدأ بقصة مثيرة في الأدب الشعبي الصيني وردت في كتاب “الشمعة والغرفة المظلمة” لأحد الكتّاب الصينيين، وقد دارت فصول تلك الرواية في بيت أحد الأمراء في الصين، إذ لعبت دور البطولة فيها زوجة من جهة وعشيقة من جهة ثانية. وتقول الرواية إن الأمير تزوج إبنة عمه فلم يرزق منها بولد رغم مرور ست سنوات على الزواج، فراح يُفكر بوليّ للعهد. وارتأى أن يتخذ له عشيقة لتقوم بالمهمة، ثم فاتح إبنة عمه بالأمر فوافقت بعد ممانعة، كون التعاليم الدينية لا تسمح بتعدد الزوجات عند الصينيين.
استجابت السماء لدعاء الزوجة الطاهرة فحملت في الوقت نفسه الذي حملت فيه المرأة التي اتخذها الأمير عشيقة طمعاً في أن يرزق منها بوليّ للعهد، بل شاءت الأقدار أن تضعا معاً في ليلة واحدة، فولدت الزوجة صبياً وولدت العشيقة بنتاً.
أصيبت العشيقة بصدمة كبيرة وهي ترى غريمتها قد رزقت بوليّ للعهد بينما لم تجلب هي للأمير سوى بنت والبنت في المجتمع الصيني القديم لا يمكن أن تعتلي عرشاً. وسوس الشيطان للعشيقة فعمدت إلى أخذ الصبي خلسة وفي غفلة عن والدته ووضعت البنت مكانه على أمل أن يقوم الأمير بتطليق زوجته وإحلال العشيقة مكانها، كونها هي التي ولدت له ولي العهد. لكن عندما انتبهت الزوجة لجناية العشيقة رفعت الصوت عالياً وأوصلت الأمر إلى قاضي القضاة، فعيّن موعداً للمحاكمة واستمع إلى مرافعات العشيقة والزوجة، وكانت الحجج متقاربة في المرافعتين. عندها قرر إحضار الطفل إلى بيته وأوصى زوجته كي تعتني به.
في الموعد المحدد للإستماع إلى الحكم وضع ثياب الطفل فوق جسد لعبة بحجم الطفل كانت صنعتها زوجته من القماش والقطن، ثم قال للزوجة والعشيقة إنكما لا تستحقان هذا الطفل، وعليه قررت أن أضعه في هذه الجرة، وأن ألقيه في النهر، ثم عمد مسرعاً إلى وضع اللعبة في الجرة ورمى بها في النهر المجاور للمحكمة.
الأم الحقيقية ما كان منها إلا أن ألقت بنفسها في النهر وراء الجرة، أملاً منها بإنقاذ الطفل، رغم أنها لا تحسن السباحة، بينما العشيقة بقيت في محلها.
عرف القاضي آنذاك من هي الأم الحقيقية، ثم أرسل السباحين لإنقاذها، ومن بعدها أصدر أمراً بتسليم الطفل إليها.
وفي الأدب الشعبي الهندي في ( كتاب تاريخ النفق) رواية تأسر الأنفاس تقول: كانت إحدى السيدات اللواتي حُرمن نعمة الأمومة تمر قرب أحد الأنهار فشاهدت شابة خارقة الجمال تستحم في غدير، تاركة ثيابها وطفلها على مقربة منها، فغافلتها واستولت على الطفل وولت هاربة ثم زعمت أنه ابنها.
الأم الحقيقية لحقت بها وهي عارية، محاولة إسترجاع فلذة كبدها فلم تفلح.. لكن القدر كان بالمرصاد إذ وصل إلى مكان النزاع أحد وجهاء القرية المجاورة، وبعد مشاهدة المرأتين تتخاصمان ألقى فوراً بعباءته فوق جسد المرأة العارية، ثم أمرهما بتسليم الطفل إليه والذهاب معه إلى رجل حكيم كان مشهوراً في الناحية.
ما إن وصل الرجل والإمرأتان إلى مقر الحكيم، حتى عقد جلسة محاكمة استمع خلالها إلى الرجل الشاهد أولاً فقال هذا: كنت قاصداً على ظهر فرسي صديقاً في البلدة الواقعة خلف النهر، فشاهدت سيدتين تتنازعان أمومة الطفل الذي أحضرته إلى هنا.. وقد راعني أن تكون إحدى المتنازعتين عارية، من ثيابها فغضضت طرفي ثم ألقيت عليها عباءتي، ولما عرفت سبب النزاع عرضت عليهما أن تحتكما إلى عدلكم أيها الحكيم وأحضرتهما مع الطفل إلى مجلسكم الموقّر.
بعد الشهادة هذه استمع الحكيم إلى المرأة التي كانت متدثرة بالعباءة فقال: قبل شهرين رزقت بهذا الطفل من زوجي المدعو فلان، لكن القدر سرق زوجي مني قبل أن يبصر ولدنا النور بثلاثة أشهر، وبعد فك الحداد قصدت النهر مع طفلي لأستحمّ، فوضعته فوق ثيابي على مقربة من حافة الغدير ولم يكن ببالي أن تتجرّأ إحدى النساء من الإنس أو الجن على التفكير بخطفه مني والإدعاء أنها أمه.
غير أن المرأة الثانية قالت: لقد جنى عليّ الدهر فحرمني العيش في أحضان عائلة كريمة، إذ إنني أبصرت النور عند أم غير مستقيمة وعندما كبرت وقعت في غرام رجل فتزوجته وحملت منه، لكنه لم يكن وفياً فتركني وكنت بعد في الشهر السابع من حملي. وأثناء قيامي اليوم بنزهة مع طفلي على شاطىء النهر تصدّت لي هذه المرأة فخفت منها، لكنها لحقت بي وحاولت أن تنزع فلذة كبدي عن صدري، فتعاركنا إلى أن وصل هذا الرجل في غمرة شجارنا. وطلب منا الاحتكام إلى حضرتك.
تعجب الحكيم بحجة كل من المتداعيتين لكنه لم يصل إلى تكوين القناعة التامة بتحديد الأم الحقيقية، فقرر إخضاعهما لإختبار يقضي بأن تشد كل إمرأة بالطفل شداً قوياً صوبها ومهما تكن النتيجة وبعدها يكون الطفل لمن تشده نحوها. المرأة الباغية قبلت على الفور. لكن لابسة العباءة رفضت قائلة: أفضل أن تأخذه هذه المرأة على أن أسمعه يصرخ من الألم. آنذاك علم الحكيم أن الأخيرة هي الأم الحقيقية للصبي وفهم لماذا ركضت عارية من ثيابها خلف سارقة الطفل لاستعادته فحكم بتسليمها إياه.
أما من هي أم الصبي الحقيقية عند النبي سليمان عليه السلام، فالعديد من المثقفين يعرفونها إذ يتناقلها الأحفاد عن الآباء والأجداد وعبر الزمان. غير أنني أردت أن أوردها كما هي في سفر الملوك من التوراة وليس عن غيرها.
تقول الرواية أن إمرأتين من أهل البغاء كانتا تسكنان كوخاً واحداً، وشاء القدر أن تحمل هاتان البغيتان في وقت متقارب، وبعد تسعة أشهر وضعت كل منهما طفلاً ذكراً بفارق ثلاثة أيام، لكن مشيئة الله قضت أن تكون إحداهما ثقيلة النوم فقلبت أثناء نومها على طفلها وتسببت في إخماد أنفاسه.
استيقظت صباحاً واكتشفت هول ما حدث لطفلها، فعمدت إلى نقل طفلها الميت من فراشها، واستبدلته بطفل صديقتها التي كانت تتحضر خارج الكوخ لإرضاع طفلها. وكان من جراء ذلك أن اشتعل الخلاف بينهما، ولم تستطع أي منهما الإحتفاظ بالصبي الحي. بعد أن هدأت العاصفة لبعض الوقت قالت إحداهما للثانية ما رأيك لو ذهبنا إلى الملك سليمان بصفته وعرضنا عليه خلافنا، فوافقتا وتعاهدتا على أن ترضيا بحكمه العادل.
حضرت المرأتان مجلس النبي سليمان عليه السلام، وعرضت كل منهما القضية عليه فقالت الأولى، إن هذا الطفل هو إبني، أنظر إليه أنه يبز القمر جمالاً مثل أبيه، وعندما سألها عن سبب عدم مجيء والد الطفل قالت إنها بغية.. عندها نظر إلى رفيقتها كي تجيب عن إدعائها فقالت: أنا مثل رفيقتي وهذا الطفل هو طفلي وفلذة كبدي ولا أعرف من هو أبوه.. لكنني أعرف بأن صديقتي ثقيلة النوم كثيراً وقد طلبت منها عندما وضعت طفلها أن لا تدعه ينام في حضنها خوفاً عليه فلم تقبل النصيحة. ومن هنا كانت الوقيعة. وحيث قتلت طفلها بعد أن انقلبت عليه ولكنها استغلت وجودي خارج الكوخ فاستبدلت طفلها الميت بطفلي الحي.
بعد التدقيق بالأمر وتقليبه من جميع الوجوه، وفي ظل عدم وجود شاهد حي على ما جرى، قال النبي سليمان (ع): إما أن أحلّف كل منكما اليمين على صحة ما تدّعي وإما اللجوء إلى الحكم الإلهي.
وبما أنني أخشى أن تحلف كل منكما اليمين الكاذب، كما أخشى أن تنتصر الأم الزائفة على الأم الحقيقية لهذا استلهمت من رب العالمين أن يمدني من لدنه بالقدرة على كشف الحقيقة وإعطاء الحكم العادل.
وبما أنكما لا تستحقان أمومة هذا الطفل قررت أن أقطعه بالسيف نصفين متساويين فأعطي لكل منكما نصفاً محدداً.
ما إن سمعت الأم الحقيقية هذا الحكم حتى صرخت بأعلى صوتها: أرجو صاحب العدالة أن يترك هذا الصبي على قيد الحياة حتى لو أخذته هذه القاتلة. أما الأم الزائفة فلم تعترض على الحكم رغم صعوبته، كما قالت .
على الإثر أدرك النبي سليمان وهو الملك العالم العادل من هي الأم الحقيقية وأصدر أمراً بتسليمها الطفل.

يلي ما عندو كبير يشتري كبير
الشاب الذي أدهش تيمورلنك

حقاً للعمر الطويل والعقل النيّـر المستنير والآخذ معرفة الدال والدليل أن يصبح مدرسة ومرجعاً في الإرشاد والتوجيه لخير السبيل.
الحياة بأكملها مدرسة من المهد إلى اللحد فكيف بالذي يعيش العمر المديد بين الكتب والمعارف والمعاشرة والمؤازرة والتنقل بين شتى المشارب والتجمعات، فمن المدرسة طفلاً حتى الجامعة شاباً إلى الحياة العملية رجلاً، والحياة الإجتماعية كهلاً وشيخاً ليتزود ويزداد علماً ومعرفة بالكثير الكثير من العبر والمآثر والقيم، ومن خلال التجارب والتجاوب مع العديد من العادات والتقاليد والأمثال والمثل ليختبر من ذاك أو يختمر مع ذاك، وفي النهاية يستخلص وليختزن مع ما يكتنز ويغني الفكر والذات.
من هنا الحري بنا أن نأخذ برأي وتدبير من هم أكبر منّا سناً وأكثر تفاعلاً وتجاربَ، إذ أن آراءهم وأحكامهم هي ثمرة تجربة ومعاناة يقدمونها لنا خبزاً ناضجاً من مخابزهم إلى موائدنا نقتات بها بأقل المتاعب والمصاعب، وهذا مغزى القول المأثور الشهير “يلي ما عندو كبير يشتري كبير”.
أما ما أحوجني إلى كتابة هذه المأثرة ما سمعته من شاب كان يتعاون معنا في طرش منزلنا وطلاء أبوابه ونوافذه وهو من بلدة تل الأبيض قرب الرقة في الجمهورية العربية السورية.
قال: ياعم، سمعت أنّكم حافظو ومدونو التراث وتاريخه، فهل تسمع مني هذه العبرة عن لسان جدتي، والتي جاوزت التسعين من العمر وكانت لم تزل تردد على مسامعنا ربما كي نتمثل بها ونقتدي بمدلولها.
قال: إن تيمورلنك ذاك القائد المغولي البطاش، حينما غزا بلادنا وصل أحد قادته المتجبرين إلى مدينة احتلتها جيوشهم فطلب من سكانها أن يخرجوا إليه جميع معمريها من الكهول حتى العجزة، وحيال مثولهم بين يديه أمر بقطع رؤوسهم. أحد الشباب كان يحب والده كثيراً ويعتمد عليه كثيراً، رأياً ومشورةً، وهو تمكن من إخفائه عن نظر الواشين والمخبرين طمعاً في حفظ حياته والعودة إلى رأيه وتدبيره في كل صغيرة وكبيرة.
في تلك الأثناء كان القائد المغولي أمر السكان الباقين بالذهاب إلى حقولهم وكان يعتزم تسخيرهم بعمل مضنٍّ تحت أشعة الشمس وحرّها اللافح، ولكن عمل لا طائلة منه وهو طلب منهم أن يتخيلوا أنفسهم يحصدون الريح.
الشاب أخبر والده بما طلب القائد المتعسف وكيف سيمضون أوقاتهم في لهيب الشمس وما الفائدة من حصاد الريح. أجابه والده إفعل يا بني ما يطلب منك لكن عندما تشاهد القائد قادماً نحوك أفرك يديك وتظاهر أنك تأكل ما بينهما. وهكذا، عندما شاهد الشاب القائد المغولي قادماً صوبه فعل كما نصحه والده. اندهش القائد وسأل الشاب: ماذا تمضغ أيها الشاب؟ أجاب: مولاي ما أمرتنا به، فالذي نحصده نأكله. دهش القائد لتصرف الشاب وبداهته فهزّ برأسه وقال: لا شك من رجل كبير يرشدك.
أحنى الشاب برأسه وقال: مولاي، هل بقي من كبير في مدينتنا كي تسأله وقد أمرت بقتلهم جميعاً، ومنهم أبي وأمي.
لم يقتنع القائد المستبد بإجابته، وأراد أن يمتحنه من جديد فقال له:غداً تأتيني منتعلاً وحافياً.
أخبر الشاب والده بما أمر القائد من جديد فأجابه: هذا سهل يا بني، إخلع نعل حذائك السفلي واجعل الباقي منه فوق رجليك بعد أن تربطهما مع سروالك.
في اليوم التالي نظر القائد نحوه وقال: كيف أنت حافٍ والحذاء فوق رجليك؟ رفع الشاب إحدى رجليه عن الأرض فإذا هي من الأسفل حافية وتلامس الأرض.
هزّ القائد برأسه متعجباً ثم أعاد القول من جديد: لا شك أن والدك حيٌّ أو أحد أقاربك يرشدك برأيه. ثم نظر إليه بمكرٍ وقال: غداً تأتيني راكباً وماشياً.
أعلم الشاب والده بذلك فأجابه: لا تقلق يا بني وهذا أمر سهل، وما عليك إلاّ أن تركب مهراً صغيراً وترخي قدميك بحيث تلامسا الأرض.
عندما وصل الشاب على جحشه الصغير شقل القائد حاجبيه تعجباً ثم استلقى على ظهره ضاحكاً وقال: مهما تخفي ومهما تتظاهر أنك بريء فهذا لا يحملني على تصديقك، وأنك عبقري زمانك، وأن هذا الذكاء لا يصدر عن شاب بعمرك، ومع هذا سأطلب إليك من جديد أن تأتي في اليوم التالي بصديق وعدو من بيتك.
عرض الأمر على والده المحنك فأجابه: الأمر سهل، غداً صباحاً يا بني اصطحب كلبك وزوجتك معاً وعند وصولك بين يديه تضرب الكلب بخيزرانة تحملها بيدك فينبح الكلب ويعوي، وبعد أن يبتعد عنك تناديه من جديد فيعود مسرعاً إليك وهو يهز بذيله، ثم يمرغ برأسه في جانبيك وكأنّ شيئاً لم يكن.
بعدها تضرب زوجتك بذاك القضيب وعندها تسمع الجواب النجيب والغريب، وما يدلك على عدوانيتها وغضبها القريب.
وهكذا حصل أمام القائد فبعد أن ضرب الكلب وعوى، إلا أنه أسرع بالعودة إليه بعد مناداته وهو يشمشمه من جديد. لكنه ما إن ضرب زوجته بالقضيب ذاته حتى انتفضت غاضبة وخاطبت القائد بالقول: مولاي زوجي كذّاب ومحتال وخائن، ووالده لم يزل حياً وقد أخفاه في أحد الأقبية ويعود إليه في جميع ما طلبته منه.
ضحك القائد كثيراً متعجباً أيما إعجاب لهذا الذكاء الخارق للأب الكهل وللشاب الذي يعرف كيف يطلب المشورة من الكبار أصحاب التجارب. فقال: لقد عفوت عنك وعن والدك والواجب كان علينا عكس ما فعلنا أن نحترم الكبار ونجل المقام قبل الصغار كي نأخذ بآرائهم وبركاتهم وتجاربهم فلهم حق المشورة وإليهم نلجأ عندما يعوزنا التدبير.

هذا العدد

هذا العدد

“لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً”

هذا هو العدد الثامن من مجلة “الضحى” بصيغتها الجديدة. وفي هذا العدد، كما في كل من الأعداد السابقة، هناك دوماً علامات نمو ونضج ومد نظر التحرير باتجاه آفاق جديدة. وهذا النمو العضوي يستمر أولاً بسبب دعم سماحة شيخ عقل الطائفة، حفظه الله، وتوفيره لمساحة واسعة من المبادرة والاجتهاد في التحرير، كما أنه حقق نجاحاً بسبب عدم وجود صيغ جامدة وتركيز اهتمامنا على إغناء مضمون المجلة وجعلها فعلاً مرآة لحضارة المعرفة بل المعارف على اختلاف مصادرها، وقد قررنا منذ البدء أنه لا معنى لمجلة تَقصُر عملها على مدح نفسها وقومها، وتقوم كما الكثير من المجلات على تصور آحادي للكون تكون فيه الحقيقة حكراً على جماعة دون غيرها من العالمين. فهذا التصور لا يقوم على معرفة حقيقية بأهداف الخلق وحكمة الخالق من إبداع الكون والشعوب والحضارات والشرائع، وهو القائل في كتابه العزيز

}لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{ (المائدة: 48)
وقد جاء أيضاً في سورة البقرة بالمعنى نفسه قوله تعالى:

}وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ{ (البقرة : 148)

ويتضمن القول الرباني في الحقيقة دستور الخلق الذي يبين سبحانه وتعالى أنه أراده أن يقوم على الاختلاف والتنوع بدليل قوله }وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً{، وفي هذا القول تنبيه للناس بأن يقبلوا حكمة الخالق في خلقه، وأن لا ينشغلوا بالجدل وأن لا يسعى بعضهم لأن يجعلوا من أنفسهم فوق الآخرين، لأن حكمة الخالق في خلقه تتعدى كثيراً أفهامهم، ولأن الانشغال بالجدل عن واجبات العبودية وترقية النفس عن الدنايا يمثل إضاعة للوقت واعتراضاً على حكمته تعالى، وهو “أحسن الخالقين”، وهو الذي يحضهم بدلاً من ذلك على أن “يستبقوا الخيرات”، أي أن يتسابقوا في المعروف وعمل الخير وإيتاء الحسنات، وأن يلتزموا عبادة خالقهم بالمنهاج الذي شرعه لهم، وأن يتركوا أمر الاختلاف له وحده لأنهم أعجز من أن يكونوا قادرين على الحكم فيه، ولأنه هو الذي سيحكم بينهم وينبئهم بما كانوا فيه يختلفون.

ذلك هو النهج الذي يحكم عمل “الضحى” منذ إنطلاقتها، ونحن التزاماً منّا به سعينا وسنسعى لأن نفتح صفحاتها لقضية المعرفة والإيمان بأوسع أبعادها والتعريف بالإرث الروحي الإنساني ومساهمة منارات الحقيقة والعرفان في كل الحضارات في إنارة درب الحقيقة واجتذاب السالكين إلى طريق السلوك والمجاهدة الحقة. ونحن نعي تماماً أننا مدينون في حضارتنا الشرقية الغنية لمختلف الينابيع الغزيرة التي صبت فيها وغذّتها وأعطتها تلاوينها الرائعة. ومن هذه الروافد العظيمة الاختبار الروحي الإغريقي والاختبارات الروحية الزهدية في الهند وبلاد فارس وفي مصر القديمة. وبالطبع مع حرصنا على أن نضيء على التجارب الروحية والعرفانية المختلفة فإننا سنعطي حيزاً أكبر من السابق لإرثنا الإسلامي المجيد والتعريف بمرتكزاته الإيمانية وبالسيرة النبوية العظيمة، وبآثار أهل البيت والصحابة الكرام والتابعين والأولياء الصالحين، وهنالك مخزون هائل يصعب الإحاطة به من سير هؤلاء الرجال العظام وسير جهادهم وتعليمهم نأمل أن نضعها بين أيدي الموحدين الدروز وغيرهم من أهل الإيمان والسلوك في الأعداد القادمة من المجلة بإذن الله تعالى.

العدد 8