الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

كُلّ حِزبٍ بما لَديهِم فرحون

الدول المعاصرة المتقدمة في أميركا وأوروبا وجنوب آسيا منهمكة في العمل والتقدم التكنولوجي والإنتاج. وفي تلك الدول، التي يفتقر كثير منها إلى الثروات الطبيعية التي نمتلكها، نشهد رخاءً اقتصادياً يترافق مع أعلى معدلات التعليم والمهارات والإبداع، وحكومات مستقرة نسبياً واستقراراً سياسياً ونمواً اقتصادياً متواصلاً. وقد أصبحت تلك الدول هي اليوم التي تبيعنا إنتاجها وسلعها المختلفة، علماً أننا أصبحنا نستورد معظم ما نحتاجه في حياتنا من الخارج، وخصوصاً الغذاء، والعالم العربي هو أكبر مستورد للغذاء في العالم ولا ينتج إلا نسبة محدودة مما يستهلكه.
في المقابل، ها هي الصين التي كانت بلداً متأخراً قبل ثلاثة عقود من الزمن، قد أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، بل إنها وبسبب تقدمها العلمي ومهارات شعبها وانكبابه على العمل أصبحت «مصنع العالم» بكل معنى الكلمة، وقلما توجد الآن في السوق منتجات تقنية أو صناعية حديثة إلا وكتب عليها «صنع في الصين».

في العالم الإسلامي الصورة مغايرة تماماً مع الأسف، إذ بدل التركيز على التعليم وبناء الاقتصاد المتين وتحقيق الازدهار للمواطنين، فإننا نرى حروباً داخلية وفتناً هائلة تحرق نيرانها الأخضر واليابس، وقد أمعنت تلك الفتن المتنقلة تمزيقاً في بلداننا حتى أصبح الكثير منها منقسماً على ذاته، إما على أساس طائفي أو مذهبي أو قبلي أو مناطقي، وفي بعض البلدان استيقظت بعض الأقليات لتطالب أيضاً بحقوقها وبكيانها فزادت رقعة الانقسام تعقيداً واتسعت الأزمات واستفحلت، ونجم عنها اضطراب المجتمع وشلل الاقتصاد وتفاقم البطالة والفقر.

وبالطبع مع انهيار النظام العام وتراجع دور الدولة الناظم لعلاقات الأفراد والجماعات، تزدهر مع الوقت الجماعات الفوضوية أو المتطرفة ويسود حكم الغوغاء والرعاع بل المجرمين أحياناً، وقد بتنا نشهد في بعض الحالات منظمات وأحزاباً كثيرة تتصارع في ما بينها على تقاسم المغانم، كأنّ الهدف في الكثير من الحالات لم يعد التغيير السياسي أو خير المواطنين، بل بسط النفوذ على الأرض حتى لو أدى ذلك إلى أسوأ النتائج بالنسبة للبلد وللناس.
إلى جانب هذا التمزق الداخلي، هناك الانقسامات المذهبية بل المواجهات المذهبية العنيفة، والتي جعلت عالم الإسلام دولاً ومحاور يقاتل بعضها بعضاً بقوة الانفعال والأحقاد والنزوات الرعناء، والكل يعلم أن الفتن والحروب لا تؤدي إلا إلى الخراب وليس فيها منتصر أبداً. إن الحمقى فقط هم الذين يعتقدون أن الحروب المذهبية يمكن أن تحقق نتائج إيجابية أو يمكن أن تجلب نصراً أو غلبة، لأن من طبيعة تلك الحروب أنها يمكن أن تمتد مئة سنة وأكثر (كما حصل في بعض الحروب الدينية في أوروبا في القرون السالفة)، وهي تنتهي بتدمير كل شيء وبخسارة للكل.

لاحظوا أن البلدان الإسلامية الممزقة أو المتناحرة في ما بينها حباها الله تعالى بموارد هائلة طبيعية وثروات، بل فضلها على بقية دول العالم لهذه الجهة، وقد كان في إمكان هذه الدول أن تركز على الإدارة الحكيمة لتلك الموارد فتسعد شعبها وتعزز اقتصادها وتجعل من قوتها سنداً وقوة للمسلمين في مواجهة المخاطر الكبيرة، التي تهدد وجودهم على أكثر من جبهة ولا سيما في فلسطين.

لكننا بدل العمل على الاتحاد في وجه الأخطار نوفر على الخصوم والحاقدين الكثير من الجهد فنحقق لهم بأيدينا ما كانوا دوماً يحلمون به ألا وهو تجزئة العالم الإسلامي وتقطيع أوصاله حتى لا يعود يخشى منه أبداً. بل أكثر من ذلك، عندما يصبح عالم المسلمين في الحالة التي نراها اليوم، فإن الهيمنة عليه بلداً بعد آخر ومنطقة بعد منطقة لن تكون مسألة صعبة. فلا نلومن «الاستعمار» ولا الغربيين ولا الدول الكبرى أو حتى إسرائيل، التي من الطبيعي أن تحاول تفريقنا ويهمها أن لا تهدأ الحروب الداخلية والفتن حولها، بل لنلُم أنفسنا وقد أصبحنا في عالم الإسلام ليس فقط 70 فرقة، بل مئات الفرق والشراذم، والعالم يتفرج علينا محتاراً في أمرنا وما نفعله لبلداننا ومجتمعاتنا من منكر وخراب.
يخبر الله تعالى في كتابه العزيز – الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها – عن هذا الأمر في الآية الكريمة إذ يقول جل من قائل:

}فَتَقَطَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{ (المؤمنون :53)
صدق الله العظيم

الشيخ محمد أبو شقرا

الشيخ محمد أبو شقرا

مؤسس الدور الجديد لمشيخة العقل
في مرحلـــة ما بعد الاستقلال

وضع فور انتخابه برنامج عمل لترتيب شؤون البيت
وإطلاق نهضة روحية وخلق المؤسسات الحيوية للطائفة

ارتبط اسمه بثلاثة إنجازات كبيرة بقيت من بعده
دار الطائفة في فردان والمؤسسة الصحية في عين وزين وقرية المعروفية بين الشويفات وعين عنوب

دعا رجال الدين للتزوّد بالعلوم الزمنية كما الدينية وترك السياسة
ومنع عليهم ارتداء الزي أثناء القيام بأعمال لا تنسجم معه

لم يكن الشيخ محمد أبو شقرا، الذي تولّى منصب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز لمدى 42 عاماً، خرّيجاً للأزهر، ولا خرّيج جامعة روحية أو زمنية، لكنه عوّض عن كل ذلك بالثقافة الواسعة، والمطالعة المستمرة، والتعلّم من دروس الحياة وتجاربها، تساعده في ذلك ذاكرة قوية، وعقل متوقّد، وسرعة بديهة، وقوة شخصية وشجاعة ملفتة. فكان إذا ما حدّث يُصغى إليه، وإذا ما حاور يأخذ ويعطي ويتفّهم الآخرين ويتسع صدره لجميع الآراء، وإذا ما وقف خطيباً يلفت الانتباه بلهجته، وكلماته البليغة، وأسلوبه الجامع بين السلاسة وعمق المعاني، وإذا ما طرح أفكاراً وقدّم مقترحات اعتبرت جديرة بالمناقشة أو مؤهلة للاتفاق حولها، لأنها نتيجة دراسة وخبرة. وقد جاء الشيخ محمد إلى مقامه هذا في ظروف تأسيسية دقيقة كان يمر بها لبنان وسيعيش ليشهد أيضاً أزماته وحربه الأهلية، لكنه فوق كل تلك الظروف سيترك بصمات لا تمحى على تاريخ بني معروف، إذ نتجت عن حصافته وإقدامه وطاقته الهائلة على العمل جملة من الإنجازات التي أعلت من شأن الموحدين الدروز وعززت كيانهم وأطلقت مؤسساتهم ونظمت شؤونهم وصانت حقوقهم، كما حفظت كرامتهم من الافتراءات والدسائس.
فمن هو الشيخ محمد أبو شقرا، وما هي أبعاد الدور الكبير الذي لعبه في تاريخ المشيخة والموحدين ولبنان؟

الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) إمتداد تاريخي لفكرة الإمامة، ولها ألقاب عدة، هي الشيخ، والشيخ الأكبر أو الشيخ الكبير، وشيخ المشايخ، وشيخ العصر، وشيخ البلدان، ومنذ القرن الثامن عشر الميلادي بدأت ترد في المدوّنات بلقب “شيخ العقل” والأصح شيخ العقّال، على اعتبار أنها مشيخة للعقّال الذين هم الأجاويد. والعقّال، جمع عاقل، هم الذين عقلوا الأمور الدينية، أي فهموها. والأجاويد، جمع جويّد تصغير جيد، هم أجواد في الناس وأخيار.
من الرؤساء الروحيين شيوخ برزوا بالتقوى والتعبّد والتصوّف، وشيوخ برزوا بالمواقف، خصوصاً مع الحكام وولاة الأمور، وآخرون برزوا بالأدب والعلوم، والتفسير الديني. وأبرزهم جميعاً الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي الملقب بالسيّد (1417 – 1479)، الذي ترك تفسيرات دينية، وحدّد كيفية سياسة الأخيار (الأجاويد أو العقّال)، ودرّس مجموعة من الشيوخ غدا بعضهم رؤساء روحيين، وأحدث نهضة روحية، وتميّز، بالاضافة إلى ذلك، بأدبه وشعره ومعارفه الطبية والمعجمية، وبتقواه وتديّنه وصبره الذي أصبح مضرب مثل، وذلك عندما قضى ولده الوحيد الأمير عبد القادر من رفسة فرس في يوم عرسه. كل هذا جعله أشهر العلماء، والرؤساء الروحيّين، والأولياء عند الموحِّدين، وتحوّل ضريحه في بلدته عبيه إلى مقام، يُزار للتبرّك، وتقدّم له النذورات والتبرّعات.

تبدّل الأدوار
توالى بعد الأمير السيد مشايخ عقل عديدون، إذ لم تخلُ هذه الطائفة العريقة يوماً من عَلَم مستنير وعاقل يوجه أمورها ويعضد أفرادها في الملمات فيكون لهم ناصحاً ومرجعاً. لكن دور شيخ العقل تبدل مع تبدل ظروف الحياة والظروف السياسية، وعلى سبيل المثال فقد اجتمعت في الأمير السيد الزعامتان السياسية والدينية، وكان بذلك إستثناء لم يتكرر، إذ أن الدنيوي انفصل مع الوقت عن الديني وأدت قوة الزعامة السياسية إلى عودة شيخ العقل إلى دوره الروحي والعقيدي، ولهذا السبب ربما لا يعرف الجمهور الكثير عن سير مشايخ العقل السابقين.
إلا أنه ومع حصول لبنان على استقلاله وقيام البلد على أسس طائفية اكتسب موقع مشيخة العقل من جديد بعداً سياسياً لكنه بعدٌ رسمت له حدود واضحة تسهل تنظيم التوافق بين شيخ العقل وبين الزعامة السياسية في زمانه.
بهذا المعنى، فإن الشيخ محمد أبو شقرا كان مثالاً على الدور المستجد لمشيخة العقل في إطار الكيان السياسي الناشئ، إلا أنه كان مثالاً ناجحاً جداً بحيث أمكنه تكريس مكانة الموقع والدور الجديد بهمته العالية وجرأته والهيبة التي تمتع بها في علاقاته بالمراجع الروحية الأخرى أو بالمراجع السياسية. ونظراً للمدة الطويلة التي استغرقتها ولايته كشيخ عقل للطائفة (نحو 42 عاماً) فقد أتيح للشيخ محمد أن يعزز خبراته ومعرفته بالوضع اللبناني الذي عمل فيه، وأن يلعب دور المؤسس للكثير من المؤسسات والتشريعات والمرافق التي ارتبطت كلها بإسمه وبإسم الزعيم الراحل كمال جنبلاط، إذ عمل الرجلان دوماً بتنسيق تام وتفاهم كامل.

” وضع نظاماً لانتخاب شيخ العقل وأنشأ الهيئة الروحية العليا من شيوخ عقل لبنان وسوريا ووحّد الطقوس الدينية وأسس المجلـس الأعلى الروحي للموحدين في لبنان  “

انتخابه
بعد أربعمائة وسبعين سنة من وفاة الأمير السيد، جرى في مقامه في بلدة عبيه، وبتاريخ يوم الجمعة الواقع في 29 نيسان 1949، انتخاب الشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل خلفاً لشيخ العقل الجنبلاطي الشيخ حسين طليع. المكان مكان فضيل هو أول مقام عند الموحِّدين بعد مقامات الأنبياء. واليوم يوم فضيل، هو يوم الجمعة الذي يجتمع فيه العقَّال أسبوعياً لأداء الفروض الدينية. والذين اختاروا الشيخ محمد كانوا حوالي ألف رجل دين، بينهم الشيوخ الكبار والاتقياء، ولم يسبق أن اجتمع مثل هذا العدد في انتخاب شيخ العقل، إضافة إلى خمسمائة رجل من الزمنيين وفعّالياتهم، وعلى رأسهم الأمير عادل أرسلان والمعلم الشهيد كمال جنبلاط. وكان في علم الغيب يومذاك ما سيكون من الشيخ محمد، فإذا به ذو شأن ودور كبيرين، ومسيرة حافلة بالمآثر في تاريخ مشيخة العقل، وتاريخ الطائفة، وشخصية إستثنائية، وأحد الرموز الدينية، وأحد الأعلام اللبنانيين.

برنامج عمل
حين تسلّم الشيخ محمد مشيخة العقل ما كان عند الموحِّدين من تنظيمات لشؤونهم سوى قانون الأحوال الشخصية، الذي صدر في 24 شباط 1948. فشيخ العقل لا يوجد قانون ينظِّم انتخابه، ويحدّد صلاحياته، وإنما يجري انتخابه وفق أعراف “تفاهمية” مما قد يسبّب نشوء الأزمات. وهي لا مقرَّ لها (إذ كان مقرّها بيت الشيخ) ولا سجلات، وليس هناك مجلس ملّي يشرف على الأوقاف التي كثيراً ما عانت من الفوضى والإهمال والتسيّب، ولا مستشفى يهتم بمرضى الموحِّدين، ولا مأوى لعجزتهم وشيوخهم، ولا مقر عام يجتمعون فيه في المناسبات.
درس الشيخ محمد أوضاع الموحِّدين، وعرف متطلّباتهم، والنواحي التي يجب إصلاحها وتطويرها، فوضع في الأسابيع الأولى من عهده بالمشيخة برنامج عمل لترتيب شؤون البيت الداخلية، وتنظيم رجال الدين، وإحداث نهضة دينية، وإيجاد بعض المؤسسات الضرورية والحيوية، والقيام بكل ما يعزّز شأن الطائفة. كان يعلم أن صلاحياته المرسومة بالاعراف والتقاليد محدودة، لكن أي دور عام، دينياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً، مرهون بمقدرة صاحبه وكفاءاته ومؤهلاته. وعند الشيخ محمد كان الدور كبيراً لكبر طاقاته، وعظيم مؤهلاته، وقد تألق بجليل الأعمال وخالد المآثر والانجازات، وفي ما يلي بعض ذلك بإيجاز.

النهج
لم يكن الشيخ محمد يطمح إلى تولّي أي منصب، وقد رفض تولّي المناصب في سوريا التي أقام فيها بين العامين 1923 و 1949، وفضّل تعاطي العمل الخاص، وهو لم يطلب منصب مشيخة العقل في لبنان، وإنما طُلب إليه، وتسلّمه بتأييد أكثرية من بينها أكثرية رجال الدين التي تضم كبار الشيوخ وأتقياءَهم. وحدّد نهجه منذ البداية بأنه لن يكون لفئة دون أخرى، بل سيكون للجميع، وقال في أول خطاب له في لبنان وأول إطلالة على الموحِّدين، يوم إستقباله في دار المختارة بتاريخ 5 حزيران 1949 عند قدومه من سوريا، ما يلي:
“ما المركز السامي الذي قُدّر لي أن أنتسب إليه سوى مسؤولية تُلقى، لا منصب يُرقى، ووسيلة للخدمة والإصلاح، لا واسطة للزهو أو النفع الذاتي. انني لا أعتبر نفسي ممثلاً لحزب دون آخر، أو لفئة معينة، أو لعائلة، أو منطقة، بل اعتبر نفسي مسؤولاً لدى كل فرد من أبناء هذه الطائفة الكريمة، عمّا فيه خير المجموع، وعبداً مأموراً من الحق سبحانه للتوجيه نحو الخير حيثما وُجد، والحؤول دون الشر والإضرار بالغير أينما كان المصدر، والسعي إلى الإصلاح، والدعوة إلى الألفة، وتوحيد الكلمة في جميع الظروف”.

اتفاقه مع المعلم كمال جنبلاط
كان الشيخ محمد يعرف طبيعة منصبه، وهو كان لذلك متوافقاً مع الزعامة الدرزية لكنه كان ضد مظاهر الانقسام على أساس الغرضية، وهو عمل بذلك على لمّ شمل الموحدين الدروز حول قضاياهم، وكان في نهجه الإصلاحي متفقاً مع المعلم الشهيد كمال جنبلاط الذي قال له كل ما تقرّره من إصلاحات على الصعيد الدرزي نقرّه، لأنها جزء من الإصلاح الذي نعمل لأجله على الصعيد العام.

تنظيم شؤون الموحِّدين
بدأ الشيخ محمد، بالتعاون مع نظيره الشيخ محمد عبد الصمد، في تنظيم شؤون الموحِّدين، فتم إنشاء الهيئة الروحية العليا من شيوخ عقل لبنان وسوريا لتكون مرجعية لشؤون الموحِّدين في هذين البلدين، وجرى توحيد الطقوس الدينية لهم بتوحيد نصوص الصداق والوصية والصلاة على الميت. ثم أسّس المجلس الروحي الأعلى للموحِّدين في لبنان في سنة 1952، وهو شبيه إلى حدٍّ ما بمجلس ملّي، من صلاحياته، بموجب نظامه الداخلي، تنظيم الشؤون الدينية والإشراف على الأوقاف. ووضع نظام انتخاب شيخ العقل في سنة 1953، لتلافي أزمات مثل تلك التي حصلت في سنة 1946 عند انتخاب خلف للشيخ حسين حماده، وفي سنة 1949 عند انتخاب خلف للشيخ حسين طليع، وكما سيجري عند انتخاب خلف للشيخ محمد عبد الصمد في سنة 1954. وإن كان هذان النظامان لم يوفِّرا الحل المنشود بسبب معارضتهما من قبل البعض، فإن روحهما وأهدافهما وبعض موادهما دخلت في قانون إنشاء المجلس المذهبي، وقانون انتخاب شيخ العقل، الصادرين عن المجلس النيابي في 13 تموز 1962، وكان للشيخ محمد فضل كبير في صدورهما، مع الإشارة إلى أنهما لم يتضمّنا توحيد مشيخة العقل. وكان له دور بارز في تنظيم القضاء المذهبي واستكمال ملاكاته.
عمد الشيخ محمد إلى تنظيم شؤون مجالس الذكر، وشؤون أئمتها (السوّاس) ففضّل وجود مجلس واحد في كل قرية. وحدّد واجبات الإمام، وواجبات رجال الدين. وباشر بإحصاء رجال الدين، وتدوين أسمائهم في سجلات ليشاركوا في انتخاب شيخ العقل، بحسب النظام الذي وضعه، وطلب منهم التزوّد بالعلوم الزمنية كما الدينية، والإبتعاد عن السياسة. كما منع التزي بزي الدين أثناء القيام بأعمال لا تنسجم مع هذا الزي، وأفسح المجال أمام الموظفين والمهاجرين وأصحاب المهن ليصبحوا من رجال الدين من دون أن يتقيدوا بالزي الديني إلا عند أداء الفروض الدينية.

مع المعلم كمال جنبلاط
مع المعلم كمال جنبلاط

الرعاية الشاملة
وجد الشيخ محمد أن الصلة بين مشيخة العقل ورجال الدين ضعيفة جرّاء ضعف التواصل، وقلة اللقاءات والإجتماعات، فكثّف من الاجتماعات والزيارات والسهرات، بحيث أصبحت أحياناً أسبوعية، تشمل بعض الزمنيين أيضاً. وبلغ ما قام به في هذا المجال مئات اللقاءات في المجالس والخلوات والمقامات والبيوت، حتى إنه زار بعض القرى حوالي عشر مرات بين جولة تفقدية، وسهرة دينية حاشدة، وزيارة لتلبية إحدى الدعوات، وإجراء مصالحة. وما كانت الزيارات والسهرات تقتصر على التعارف، والتعرّف على أحوال الموحِّدين ومواضيعهم، ولا على المذاكرة وفروض العبادة فقط، وإنما كان يتخلّلها وعظ وإرشاد ونصح، وإلقاء كلمة معدّة من الشيخ محمد، ضمن سياق كلمات هي سلسلة محاضرات تثقيفية أو من خلال النداءات والبيانات عبر مجلة “الضحى”، أو عبر غيرها من وسائل الإعلام.
شملت رعاية الشيخ محمد الجمعيات والنوادي والمؤسسات، كما شملت رعاية المقيمين والمغتربين أيضاً، إذ أوجد منذ سنة 1950 مركز وكيل مشيخة العقل في كل مدينة أو منطقة من بلدان العالم يتواجد فيها الدروز، وأذن له كتابة الصداق والصلاة على الميت حسب الطقوس المحدّدة. وكان على اتصال دائم بالوكلاء والجمعيات والمسؤولين عن البيوت الدرزية، كما رعى المؤتمرات التي أقامها المغتربون في بلدان الاغتراب، أو في لبنان، وأرسل الموفدين ليمثّلوه فيها، وكانت له في بعضها كلمات تُتلى نيابة عنه، أو بالصوت والصورة.
ساعد الشيخ محمد المنكوبين في الحوادث الطبيعية كما في زلزال سنة 1956، وساعد ايضاً المنكوبين في الحوادث الأمنية نذكر المساعدات التي قدمها لأبناء جبل العرب إبّان عدوان الشيشكلي على الجبل سنة 1954، وللمنكوبين إبّان الأحداث اللبنانية بين العامين 1975 و 1990، وكذلك المنكوبين في الإعتداءات الاسرائيلية على سوريا والأردن، وكانت هذه المساعدات تتأمن من خلال تشكيل اللجان وجمع التبرّعات.

من أقواله
“ليس للسنّي ولا للوهابي ولا للدرزي ولا للجعفري أية منّة أو أفضلية في إسلامه، وليس من حق أي مسلم أن يُكفِّر غيره. فالجميع مسلمون ما دام القرآن كتابهم وما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحسابهم جميعاً على الله”

الدفاع عن الحقوق
نصّت المادة 95 من الدستور اللبناني، الموضوعة بصورة موقتَّة، على تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة. لكن التوزيع لم يجرِ بعدالة بين الطوائف اللبنانية، فأخذت بعض الطوائف، ومنها طائفة الموحدين الدروز، أقل مما تستحق من النواب والوزراء والموظفين على اختلاف فئاتهم. لذلك ركّز الشيخ محمد على ضرورة تطبيق القواعد الميثاقية في تخصيص الوظائف والمناصب بصورة عادلة بما يحفظ حقوق الأقليات عموماً، وحقوق الموحدين الدروز الذين طالب بأداء حصتهم كاملة. وأدلى الشيخ محمد بالتصريحات وأرسل الرسائل والبرقيات إلى مختلف المسؤولين وقدّم إلى رؤساء الجمهورية ورؤساء مجلس النواب ورؤساء مجلس الوزراء المذكّرات المعزّزة بالأرقام، التي تظهر عدد الوظائف الإجمالي في الإدارات العامة، والمؤسسات التابعة للدولة والتابعة للقطاع الخاص، وعدد الوظائف المعطاة للموحدين الدروز، وما يعتيره من إجحاف. وقد اعتمد وزراء الدروز ونوابهم أحياناً، لا سيما الأمير مجيد أرسلان والمعلم كمال جنبلاط، الإحصاءات التي جمعها الشيخ محمد، وتبّنوا المطالب والمذكرات التي وضعها، وكثيراً ما قابلوا معه المسؤولين للمطالبة بهذا الشأن. وفي هذا السياق لم يكن الشيخ محمد ليسكت عن أي تدبير في الإستقبالات، أو في ترتيب الكلمات، يستشفُّ منه تقصير إزاء مشيخة العقل لأنه كان يعتبره تقصيراً في حق العشيرة وليس المنصب فقط. وهذا ما ألزم القيّمين على الأمور مراعاة الأصول. ما كان الشيخ محمد يسلّم بأن يتقدّمه أحد من رؤساء الطوائف اللبنانية، وهذا كان أحد أهم أسباب عدم ذهابه في الوفود إلى مؤتمرات خارج لبنان تقتضي إجراء ترتيبات بروتوكولية إزاء رؤساء هذه الوفود، وإيفاد من يمثّله.

رد الافتراءات
كان صوت الشيخ محمد قوياً في الرد على الإفتراءات والإساءات الصادرة عن عمد، أو عن جهل للحقائق سواء في مشهد من مسرحية، أو في كلام منشور في الصحف والمجلات والكتب، وكان غالباً ما يلزم المسيئين بتقديم الإعتذار عن إساءاتهم، أو يستصدر من الجهات المختصة القرارات بمنع الكتب المسيئة الصادرة في لبنان وخارجه.
ومما قام به الشيخ محمد في مجال التصدّي للإساءات إلى الدروز إرساله العرائض والرسائل إلى المسؤولين السوريين إحتجاجاً على التوقيف التعسّفي لبعض رجال مجدل شمس وللشيخ فرحان الشعلان، في سنة 1951، على أثر وشاية مغرضة، وإرساله الرسائل إلى زعماء جبل العرب ورؤسائه الروحيين طالباً تقديم المساعدة للموقوفين الذين يتعرّضون للضغط في السجون، وتكليفه أربعة محامين لبنانيين للدفاع عنهم.

صورة-جامعة-للمؤسسة-والأبنية-التابعة-لها-في-عين-وزين-2-copy
صورة-جامعة-للمؤسسة-والأبنية-التابعة-لها-في-عين-وزين-2

 

 

دار الطائفة في فردان أحد أهم إنجازات الشيخ محمد أبو شقرا
دار الطائفة في فردان أحد أهم إنجازات الشيخ محمد أبو شقرا

 

 

 

 

 

 

توحيد مشيخة العقل وازدياد شأنها
كان من أسباب تمنّع الشيخ محمد أولاً عن الترشّح لمنصب مشيخة العقل، إيمانه بضرورة توحيدها، ثم أنه أمل بذلك بعد تسلّمه المنصب، وكان يرى أن وجود شيخ عقل واحد، مؤيد من جمهور الدروز، مدعوم من زعمائهم الزمنيين، أكرم للطائفة، وفيه تعزيز لشأنها، وانسجام مع المفهوم التوحيدي.
وقد سنحت فرصة لتوحيد مشيخة العقل بالشيخ محمد بعد وفاة نظيريه، الشيخ رشيد حماده في 4 نيسان 1970، والشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970، وتم ذلك لأسباب عدة، منها صعوبة تطبيق قانون انتخاب شيخ العقل الصادر سنة 1962 وغير المرضي عنه، واتفاق الزعيمين الكبيرين، الأمير مجيد أرسلان والمعلم الشهيد كمال جنبلاط، على توحيد المشيخة. وبتوحيد مشيخة العقل بشخصه ظهر الموحِّدون موحَّدين على الصعيد الروحي طوال الفترة المتبقية من حياته، كما ظهروا موحَّدين على الصعيدين السياسي والنضالي، بقيادة الزعيم وليد بك جنبلاط بعد وفاة الأمير مجيد أرسلان في سنة 1983، وذلك في إحدى أصعب المراحل التاريخية التي مرّوا بها، ومرّ بها لبنان.

يتقبل تعازي الرئيس شارل حلو بالشيخ رشيد حماده في 17 نيسان سنة 1970 مع المعلم كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان
يتقبل تعازي الرئيس شارل حلو بالشيخ رشيد حماده في 17 نيسان سنة 1970 مع المعلم كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان

رجل البناء
اقترنت بإسم الشيخ محمد أبو شقرا ثلاثة إنجازات مهمة هي بناء دار الطائفة الدرزية، وقرية المعروفية، وإطلاق المؤسسة الصحية للطائفة الدرزية في عين وزين.
كان الموحدون الدروز يحتارون أين يقيمون مناسباتهم العامة، وأين يستقبلون ضيوفهم، فهذا مكان بعيد، وهذا في الساحل، وذاك في الجبل، ناهيك عن الانقسام، والصراع على النفوذ، والتنافس لكسب الوجاهة، وهذه أمور كانت تحول دون الاتفاق على مكان معين. لذا استقبلوا لجنة الاستفتاء الدولية (لجنة كنغ – كرين) في تموز 1919 في العراء في عيناب، واستقبلوا المفوّض السامي هنري دى جوﭬنيل في أواخر سنة 1925 في منزل قاضي المذهب ملحم حمدان، في بيروت، بعد استعراض الأمكنة والتشاور. وكان المفوّض السامي يريد مفاوضة زعمائهم حول عوامل الثورة السورية الكبرى، وحول كيفية إنهائها.
ظل مشروع إقامة دار عامة فكرة تُطرح من حين إلى آخر، وحلماً يراود الكثيرين، إلى أن جاء الشيخ محمد وجعل الحلم حقيقة، والفكرة مجسّدة في بناء ضخم في قلب العاصمة اللبنانية بيروت بفضل تبرّعات الدروز المقيمين والمغتربين، هو دار الطائفة التي وضع حجر أساسها في 16 كانون الثاني 1953 في احتفال حاشد، في حضور رئيس الجمهورية كميل شمعون، ودُشّنت في 4 نيسان 1965 في احتفال ضخم، تلاه بعد أيام استقبال رئيس الجمهورية شارل حلو الذي جاء يهنئ الدروز بعيد الأضحى المبارك، وبدارهم التي غدت مفخرة لهم، ومكان اجتماعاتهم المهمة واستقبالاتهم للضيوف.
وعند وضع حجر الأساس سأل الشيخ محمد من المولى تعالى أن تكون دار الموحدين الدروز جامعة للقلوب والشمل، معتبراً هذا الصرح “حاجة ماسة لحفظ كيانهم، ومصدراً لتمكينهم وعزتهم ورفعة شأنهم وكرامتهم، ودليلاً على تطوّرهم ومماشاتهم لركب الحضارة في القرن العشرين”.

حادثة الباروك

ثار الشيخ محمد عندما بلغه توقيف مجموعة من رجال الدين، بينهم شيوخ اتقياء، على حاجز لقوى الأمن، بعد مهرجان الباروك الذي أقامه المعلم كمال جنبلاط في آذار 1951 حين سقط بعض القتلى جرّاء تدخل السلطة واعتدائها على مناصريه بقصد إرهابهم.
هاجم الشيخ محمد السلطة بعنف ووصف مسؤوليها بالطغاة المارقين، المثيرين للفتن، والباعثين للفساد، والمهدّمين لكيان هذا الوطن. وهدّد بالدعوة إلى حمل السلاح لإخماد الباطل، وحفظ الكرامة، فما كان من رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري إلا أن أعطى التعليمات بعدم تفتيش رجال الدين الدروز، وعدم توقيفهم، وأرسل محافظ جبل لبنان فؤاد صوايا للإعتذار من المشايخ الذين كانوا مجتمعين في حضور الشيخ محمد في منزل المرحوم الشيخ أبي حسين محمود فرج في عبيه.

في اجتماع النبي أيوب عليه السلام عام 1974
في اجتماع النبي أيوب عليه السلام عام 1974

وفي 4 أيلول 1957 تناهت إلى سمع الشيخ محمد الذي كان مقيماً في محلّة المصيطبة في بيروت، أصوات رصاص منبعثة من محلّة وطى المصيطبة، تنبئ عن اشتباك بين نازحي جبل العرب المقيمين في أكواخ التنك، وبين شرطة بيروت، وذلك بسبب محاولة الشرطة إخلاءَهم بالقوة تمهيداً لتسليم الأرض التي يقيمون عليها إلى أصحابها.
سارع الشيخ محمد ونزل إلى محلة الوطى، وتوسّط الفريقين وسط إطلاق الرصاص من الشرطة، وفضّ الاشتباك الذي أسفر عن قتيلين درزيين وعدد من الجرحى، واتصل بالمسؤولين، واتفق وإياهم على حل يقضي بالتعويض العادل على النازحين، ثم عمد إلى شراء أرض بين الشويفات وعين عنوب سجّلها بإسمه وقسّمها إلى عقارات وهبها لهم لإقامة بيوتهم عليها، وبهذا نشأت قرية جديدة إسمها “المعروفية” نسبة إلى بني معروف.
المؤسسة الصحية
كان الشيخ محمد يتألم لسماع أخبار عذابات أبناء طائفته في الانتقال إلى بيروت وغيرها للطبابة، ويحزُّ في نفسه موت عجزتهم وشيوخهم في المستشفيات والمآوي. فدعم “جمعية مشروع الليرة” التي رعاها الزعيم كمال جنبلاط بهدف العمل لإقامة مستشفى عام. وقد اختلفت آراء الأطباء يومها حول مكان إقامة المستشفى المنشود بين خلدة وبيروت. لكن جاءت الأحداث اللبنانية سنة 1975 لتفرض بناء المستشفى في قلب الجبل بعد أن تردّى الوضع الأمني وقطعت الطرقات واقيمت خطوط التماس ولم يعد سهلاً الوصول إلى مستشفيات بيروت وضواحيها، وصيدا. فأخذ الشيخ محمد موضوع إنشاء المؤسسة الصحية على عاتقه، واعتمد في البداية على مبلغ قدّمه اليه المحسن الياس شربين في سنة 1976 لينفقه في سبيل الخير، ففضّل جعله نواة لإقامة المستشفى على تفريقه مساعدات اجتماعية لها فائدة وقتية. وعوّل على أصحاب الغيرة من خيار الموحّدين الذين كانوا دعموا بناء دار الطائفة فكانت البداية، وكان وهب الأرض من المحسنين، وتدفّقت التبرّعات من أبناء الطائفة، المقيمين والمغتربين، وأتت مساعدات من الخارج وأكبرها مساعدة من المملكة العربية السعودية.
وُضع حجر الأساس للمؤسسة الصحية في 7 تموز 1978، وافتتحت في 4 حزيران 1989، وبدأت بالعمل والتطوّر وبالتوسّع في البناء. وفي الاحتفال ببدء العمل فيها وصفها الزعيم وليد بك جنبلاط بأنها “مؤسسة جميع الوطنيين والعروبيين والمخلصين” ووجّه الكلام إلى الشيخ محمد قائلاً: بوركت أياديك يا سماحة الشيخ”، التي كانت على مدى أربعين عاماً وستبقى، لإعلاء شأن بني معروف في لبنان ووحدة بني معروف، وعزّة بني معروف، وليس بغريب عليك أنت الذي جاهدت فكنت المجاهد الأكبر في سبيل وحدة الشأن، شأن بني معروف، ووحدة الموقف العربي الوطني الشامل في لبنان.

مستقبلا البطريرك خريش في دار الطائفة
مستقبلا البطريرك خريش في دار الطائفة

التشديد على إسلام الموحِّدين
كان للشيخ محمد فضل كبير في نقض المقولة التي تميّز بين الموحِّدين وسائر المسلمين، وهي القول التالي: مسلمون ودروز، فيما الموحِّدون الدروز من المسلمين لا فئة مستقلة عنهم، فهو يقول عن إسلام الموحِّدين ما يلي: “نحن مسلمون موحِّدون”، ويستشهد بكلام الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الذي قال: “الدروز الموحِّدون مسلمون موحِّدون، والذين يشككون هم مفسدون”. والدروز بحسب رأي الشيخ محمد، الذي أوردته مجلة “الضحى”، في عدد تشرين الأول 1971 ص 18-19، ” تقبلوا الإسلام ديناً، واتخذوا الفاطمية مذهباً”. وهو لا يرى أفضليةً لمسلم على مسلم، ولا ضرورة لتمييز مسلم عن آخر، ومن الخطأ تكفير مسلم لآخر.
وفي رأيه الذي اوردته مجلّة “الضحى”، في عدد نيسان 1981 ص 14، هو أنه وقد حضر الشيخ محمد المؤتمرات والقمم الإسلامية وذكرى عيد المولد النبوي الشريف، لا بصفته واحداً من الفعاليات الروحية التي تحضر هذه المناسبات من قبيل المشاركة البروتوكولية، وإنما بصفته أحد رؤساء الطوائف الإسلامية الثلاث، الذين يحيونها لبحث شؤون المسلمين، والذين ارتفعت أيديهم في إحداها متشابكة مع بعضها بعضاً لتؤكد وحدة المسلمين. يومها ظهر المفتي حسن خالد رافعاً بيده اليمنى يد الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ورافعاً بيده اليسرى يد الشيخ محمد، وقد كُتب تحت صورتهم العبارة التالية: “الإسلام دين توحيد”، وفي هذا خير ما يؤكد إسلام الموحِّدين بالشكل كما بالجوهر.

حضور عام
منذ الخمسينيات من القرن العشرين بدأت تتغيّر علاقات رؤساء الطوائف إزاء بعضهم بعضاً، فزار مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد علايا الشيخ محمد، وهنأه بعيد الأضحى المبارك، فكان أول مفتٍ يهنّئ شيخ العقل بهذا العيد، وحضر الشيخ محمد أول مؤتمر اسلامي انعقد في 5 كانون الثاني 1952. وخرج البطريرك الماروني خريش عن التقاليد، وزار رؤساء الطوائف الإسلامية الذين هنّأوه بتسلّم منصب البطريركية خلفاً للبطريرك بولس المعوشي.
وشهدت المرحلة، وربما بسبب التوترات بين الطوائف والأزمة السياسية، محاولات حثيثة من الشيخ محمد ومن رؤساء الطوائف اللبنانية لتخفيف الإحتقان والتأكيد على الثوابت الوطنية ونبذ التعصب، فتعزز بذلك تقليد عقد القمم الروحية الإسلامية أو الإسلامية المسيحية، وكان حضور الشيخ محمد في تلك القمم لافتاً دوماً ومواقفه القوية والوطنية محط أنظار المشاركين والإعلام.

قتال الصهاينة فرض عين
كانت القضية الفلسطينية محور كلمات الشيخ محمد في معظم القمم والمؤتمرات والمناسبات الإسلامية، وهو بهذا يجسّد نهج قومه التاريخي في الدفاع عن العروبة والإسلام وأرض الإسلام. فكان يدعو إلى قتال الصهاينة، وإلى الجهاد من أجل تحرير فلسطين، واستعادة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، وقد قال في الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في أيار 1970 ما يلي: “إن مجاهدة الصهاينة ومقاتلتهم باتت فرض عين”، وفي كلمته له في زيارة النبي أيوب عام 1969 دعا إلى الجهاد قائلاً: “ليكن هناك جهاد مقدّس، ولتكن زكاة وعطاء، وبالنسبة إلى الدروز فإني كفيل التنفيذ”.

رحيله
رحل الشيخ محمد في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 1991 تاركاً ما يبقيه حيّاً في ذاكرة الموحِّدين، وما يشهد به وينطق عن أعماله ومآثره، ويجعل الناس يترحّمون عليه. وقد قيل الكثير عن الشيخ محمد في حياته، وبعد مماته، ورثاه الكثيرون ومنهم رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء والوزراء والنواب، والقادة، ومنهم رؤساء الطوائف الرئيسية في لبنان، والمفكرون. وكان هناك إجماع على أنه جسّد قيم طائفته ومبادئها، وأنه رجل السلام في زمن الحرب، ورجل الجهاد والمواقف التاريخية، ورجل بناء المؤسسات، والرمز في الوطنية والعروبة، والداعية إلى الوحدة الوطنية والاسلامية.

أميرة في مسيرة الجهاد

“الست مي”
علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً

انتقدت بشدة “مذهبة” الأحزاب والصراعات السياسية
وأسفت لإنزلاق العرب بإتجاه الإستهانة بكرامة الإنسان

وقفت إلى جانب نجلها وليد في أصعب المراحل السياسيّة والأزمات
ولم تبخل بالنصح وإبداء الرأي بمواقفه السياسيّة سلباً أو إيجاباً

إلتقت مع المعلم كمال جنبلاط في مسيرته الفكريّة
المرتكزة على الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة

إبتعدت عن الأضواء لتقترب أكثر من الناس وهمومهم
واهتمت كثيراً بالوضع الاقتصادي للمرأة وبتطورها

صعبة هي الكتابة عن سيدة دار المختارة التي تركت أثراً كبيراً في ثناياها، كما في ثنايا الحياة الوطنيّة اللبنانيّة. وصعبة هي الكتابة عن أميرةٍ ناضلت طوال عقودٍ في سبيل الحداثة وتحرر المرأة وخروجها من القيود المصطنعة والموروثات القديمة التي عطلت مسيرة تقدمها وإشتراكها بدور مكتمل العناصر في المجتمع.
مي أرسلان جنبلاط كانت علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً. كانت بعيدة عن الضوضاء والأضواء، إلا أنها كانت في صميم الأحداث السياسيّة لا سيّما أثناء الحقبات السوداء في الحرب الأهليّة القاسية، تقدّم النصح والمشورة لنجلها الأستاذ وليد جنبلاط في المنعطفات المفصليّة ومحطات التحوّل السياسي الكبير.
أن تكون سيدة كريمة أمير البيان شكيب أرسلان وقرينة المعلم كمال جنبلاط ووالدة الأستاذ وليد جنبلاط، فهي ثلاثيّة إستثنائيّة. وبقدر ما أتاحت هذه الثلاثيّة للراحلة أن تكون في قلب الحدث، كما أتاحت لها أن تكون مشاركة ولو عن بعد في صنعه في الكثير من الأحيان، بقدر ما فرضت عليها مصاعب وتحديات وصعوبات.
إمتلكت رؤية سياسيّة واضحة وثاقبة. رفضت الاعتراف بإسرائيل، وقالت حرفيّاً: “يستحيل أن أعترف بإسرائيل مطلقاً”. تمسكها بالقضيّة الفلسطينيّة كان واضحاً، وموقفها من عروبة لبنان لا تراجع عنه. ومع إدراكها إستحالة سلخ لبنان عن محيطه العربي، إلا أنها لم تخفِ قلقها يوماً من تراجع الحريات، لا بل إنعدامها، في الكثير من البلدان العربيّة، مع ما يعنيه ذلك من إنعكاساتٍ سلبيّة على لبنان الذي دفع دائماً، من وجهة نظرها، أثمان الصراعات الدوليّة والاقليميّة التي كانت من مصلحتها إستدامة الصراع فيه.
وملفتٌ جداً ذاك الموقف الشهير الذي إتخذته السيّدة مي أرسلان جنبلاط في مقابلة مع فرنسواز كولين في سنة 1988 عندما قالت: “العالم العربي في حالة تراجع تدريجي”، مشيرةً إلى ظاهرة تراجع التيارات الليبراليّة لصالح التيارات الظلاميّة، ومعتبرة أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أن يغيّر العالم العربي ويعيده إلى القرون الوسطى ما لم يتم تدارك ذلك. وفعلاً، لم يتم تدارك ذلك، وهذا ما نشهده اليوم من صراع مذهبي وطائفي متنقل بين الدول العربيّة ترافقه ثقافة التفجيرات الانتحاريّة التي لا تصبّ إلا في خدمة إسرائيل.
هي إبنة الأمير شكيب أرسلان، أحد أبرز المفكرين المتنورين الذين تتلمذوا على يدّ الامام محمد عبده، وعاصروا جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وكبار المفكرين والكتّاب العرب والمسلمين الذين رسموا بأقلامهم معالم النهضة العربيّة، بالاضافة إلى معاصرته لأعلام السياسة في تلك الحقبة من أمثال الحاج أمين الحسيني ورياض الصلح والحبيب بو رقيبة وسواهم. كان صديقاً للملك فيصل الأول وعضواً في وفد السلام بين المملكة العربيّة السعوديّة واليمن، واجه الاستعمار بكل أشكاله ورفض قيام وطن قومي صهيوني في فلسطين، كما كان عضو شرف في المجمع العلمي العربي في دمشق ونائباً عن حوران في مجلس المبعوثين العثماني، لقب بأنه “كاتب الشرق الأكبر”.
هذه هي الخلفيّة الفكريّة والعائليّة التي ترعرعت فيها مي أرسلان جنبلاط ما جعلها تتمسك بعروبة لبنان من حيث الارتباط الحتمي للعوامل التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والقوميّة، وأدركت أهميّة ذاك الترابط العضوي الذي جعل لبنان يتفاعل مع محيطه الاقليمي والعربي ويتأثر بموجاته السياسيّة المتلاطمة.

مع المعلم كمال جنبلاط
مع المعلم كمال جنبلاط

وكانت رؤيتها أيضاً ثاقبة في المقابلة الفرنسيّة إيّاها، عندما قالت إن الحروب تستخدم الدين كسلاح فعّال وقوي لتنمية وتغذية الصراعات المذهبيّة، وهو ما لم يكن قائماً في السابق. وكأنها بذلك تشير إلى تبدّل شكل الصراع في المنطقة العربيّة مبدية إمتعاضها الشديد مما وصفته بمذهبة الأحزاب والقوى السياسيّة للصراع، ما يجعله يأخذ أبعاداً دمويّة وقاسية.
هذا الموقف الرؤيوي أعلنته مي أرسلان جنبلاط سنة 1988، وقبيل رحيلها، قالت لنجلها الوحيد، وليد جنبلاط، إن “هذا العالم العربي والاسلامي بات مليئاً بالمجرمين والقتلة!”، ما عكس إشمئزازها من دمويّة المشهد في كل البلدان العربيّة التي شهدت تحولات غير مسبوقة ولّدتها الديكتاتوريّات التي لطالما إنتقدتها الراحلة بفعل قمع الحريّات وتفريغ المجتمعات السياسيّة من النخب الليبراليّة والديمقراطيّة بصورة منهجيّة.

مي-أثناء-سكنها-مع-والدها-الأمير-شكيب-في-جنيف
مي-أثناء-سكنها-مع-والدها-الأمير-شكيب-في-جنيف

تمسُك السيدة جنبلاط بالحريّة كان غير قابل للمساومة أو التجزئة. وحرية المرأة بالنسبة إليها أيضاً كانت ركناً من أركان ثقافتها السياسيّة والفكريّة. رأت أن الحريّة هي بمثابة فعل إيمان داخلي، تتطلب قناعةً داخليّةً حاسمةً، وأن على المرأة أن تمتلك أولاً حريّة التفكير. وشغلت مسألة الحريّة الاقتصاديّة للمرأة جانباً واسعاً من إهتمامها، إذ إعتبرت أن العوائق الاقتصاديّة للأسر يجب ألا تقف في طريق حريّة الأفراد ومن ضمنها المرأة التي دعتها لتكسير القيود التي قد يفرضها الخضوع لصاحب القرار الاقتصادي.
هذا النمط الفكري التحرري الذي تميّزت به مي أرسلان جنبلاط هو ما يفسّر شغفها السابق في أن تكون صحافيّة، مبررة رغبتها العارمة في خوض غمار هذا الخيار بأن فيه الكثير من الحريّة مرتبطة بشيء من الخطر على حد سواء. وهذا يعكس شخصيّتها الفذة والقويّة وإرادتها بأن تشجع الآخرين على ممارسة الحريّة، حتى لو جانبت شيئاً من الخطورة. وفي معرض تمسكها العميق بالحريّة، عبّرت عن خوفها من الواقع العربي الأليم واصفة إياه

بأنه بمثابة الخروج من سجن للدخول في آخر، ومنه إلى سجن ثالث

الأمير شكيب أرسلان
الأمير شكيب أرسلان

وبذلك، إلتقت مع المعلم كمال جنبلاط، الذي رفض دخول “السجن العربي الكبير” ودفع حياته ثمناً لتمسكه بمبادئه ورفضاً للإستسلام لتلك التيارات الظلاميّة التي تحدثت عنها “الست مي”. صحيحٌ أن السنوات المشتركة التي جمعت المعلم والست لم تكن مديدة، ولكنهما إلتقيا في مسيرتهما الفكريّة المرتكزة على الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. كانت تبتعد عن الأضواء لتقترب أكثر من الناس وهمومهم، تشاركهم فيها، وتساعدهم على تخطيها، وتبذل الجهد في كل الاتجاهات لتخفيف الألم عنهم، على طريقتها الخاصة، بهدوء وثبات، بعيداً عن الضوضاء والصخب. بإستقبالها اللبق، ودماثة الخلق، والابتسامة الساحرة، إستقبلت زوار دار المختارة حيث أشعلت ثورات وأطفئت ثورات، وحيث صنع رؤساء وأسقط رؤساء، وحيث تشكلت حكومات وأسقطت حكومات.
بعيد إستشهاد المعلم كمال جنبلاط في السادس عشر من آذار 1977، تلقت “الست مي” إتصالاً من نجلها وليد، طلب منها العودة إلى المختارة التي كانت غادرتها منذ سنواتٍ، وهكذا كان. فكان وقوفها إلى جانبه في أصعب المراحل السياسيّة والعسكريّة له الأثر الكبير في نفسه. لم تبخل عليه بالنصح والمشورة، وحرصت على إبداء رأيها الصريح والواضح بمواقفه السياسيّة سلباً أو إيجاباً.
بقي نجلها الوحيد إلى جانبها طوال فترة مرضها، ذهاباً وإياباً من كليمنصو إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، تجمعهما علاقة متميزة، كرساها من خلال سنواتٍ طويلة من المحبة والاحترام. يفهم وليد جنبلاط معنى الأمومة التي جسدتها “الست مي”، وفهمت هي أيضاً معنى البنوّة التي مثلها نجلها وليد.
رحم الله “الست مي”.

الأميرة-مي-أرسلان-جنبلاطa
الأميرة-مي-أرسلان-جنبلاط

ابنة الأمير شكيب أرسلان، وزوجة كمال جنبلاط، ووالدة وليد جنبلاط. ثلاثة أسماء – قامات، اجتمعت لتؤلف كنية سيدة اشتهرت بـ “الست مي”.
لم تشأ هذه الأميرة بالحسن، والثقافة، والذكاء، واللباقة، والأناقة، وبالحضور الخفيف الظل، أن تأخذ مكانها المتقدم في إعلام المجتمع اللبناني، والعربي، والأوروبي.
كأنها كانت ملأى بالمجد الذي جمعته من أطرافه، وهي مُعرضة عنه.
ظلت قانعة بذاتها، وبما تختاره، هي، لملء حياتها، التي ما كانت تتسع لمزاجها الراقي، وذوقها الرفيع، وحسها المرهف النقي.
تلك الأريستوقراطية، المنحنية على كبرياء التواضع، والاحترام، أمام كل ما يدعو إلى الافتخار بالعلم، والإبداع، والتميز، ملكت من الشجاعة ما كان يؤهلها لمواجهة الأخطر من الصعاب وتحمل العواقب.
دخلت الست مي دار المختارة في سنة 1948، متأبطة ذراع كمال جنبلاط، وهو في مطلع صعوده
إلى عتبة الإطلالة على عالم الشهرة بأبعادها الثلاثة: الزعامة، والخُلق، والقضية.
وإلى دار المختارة حملت العروس الست مي إلى عريسها كمال جنبلاط، هدية من تراث والدها، عنوانها: العروبة المنبثقة من الإسلام المُشرق من عصر النهضة على عصر الصراع بين قوى التقدم وجحافل التخلف.
وفي دار المختارة، حيث حار الأهل، والمقربون، في مناداة العروس بلقب الأميرة، أو الست، حسمت هي الأمر ببلاغة، فقالت: لا أميرة بوجود الست نظيرة…
عاشت الست الأميرة النبيلة عمرها ببساطة الغنى، وطمأنينة الرضى.
ويوم رحلت في العاشر من شهر آب 2013 أضافت شمعة إلى زاوية الفراغ المليء بنور شهادات من سبقها، لتستمر دار المختارة عامرة بالحياة والشجاعة وبالشهادة، مع الصبر والرجاء بقيامة الحق.

عزت صافي

الحَدّ ضرورة لازمة لكمالٍ إنسانيّ

“الحَدّ”: ضرورة لازمة لكمالٍ إنسانيّ

الفيلسوف-أرسطو-اهتم-بتفسير-ظاهرة-الوجود
الفيلسوف-أرسطو-اهتم-بتفسير-ظاهرة-الوجود

ليس “الحدُّ” (Limit) بمسألةٍ بسيطةٍ على الإطلاق. وإنَّها لَمعضِلة فكريَّة وروحيَّة (بل وجوديَّة أيضاً) أن يستغربَ المرءُ (شابّ عصريّ مثلاً)، في حال الحديث عن “لزوم الحدِّ” وأهميّته المسلكيَّة لتحقيق توازن يحملُ الشخصيَّة الإنسانيَّة فوق محمَل سويّ كفيل بمساعدتها للوصول إلى غاياتٍ نبيلةٍ لوجودها، فيردُّ متسائلاً عن “الطُّموح” و”ضرورات العصر” ومتطلّباته.
إنّها ردَّة فعل واقعيَّة تتناغمُ تماماً مع ما يسمونه “روح العصر” بصيغة بدايات الألف الثالثة، ولا تبدو نشازاً في الإيقاع المتسارع جدّاً لصورة العالم المتدفِّقة على حواسنا من دون انقطاع. المشكلة هي في العمق معرفيَّة، متعلّقة بنهج المقاربة ومدى مساعدتها إيّانا لنقترب من الحقيقة، صوناً لنا من التعثّر في درب وعِر نُخدع فيه من ذات أنفسِنا.
إنَّ استسهال مفهوم “الحدّ” من دون أدنى محاولة لفهم أبعاد مضامينه اللغويَّة والفلسفيَّة والرّوحيَّة والمسلكيَّة لهُو أمرٌ يُسهمُ إسهاماً أساسيّاً في تعميق حال “الغربة الرّوحيّة” التي هي، ويا للأسف، حالٌ سائدٌ ومقيم، بل وفعّال في مفاقمة هذه الإشكاليَّة التي لا تقلّ شأناً في مستواها عن مسألة التضادّ وآفاته المدمِّرة في سياق حياتنا المعاصرة. وقديماً، رأى كبار حكماء اليونان أنَّ في “الحدّ” كلّ خير، وفي “اللاحدِّ”
(Unlimited) منزَلقٌ إلى كلِّ شرّ.
إلامَ تنجذبُ فكرة “الطّموح” العصريّة من هذا المنظور؟ لقد تميَّز “الميْلُ الحداثيّ” – فكريّاً- بهيمنة النّزوع إلى “المزاج” بأكثر ممّا هو ارتباطٌ بعمق الفكر وتراثه المتراكم من الإرث اليوناني – على الأقل– إلى يومنا هذا. بالإجمال، تسودُ أجواءَ التفلسُف في الجامعات الكبرى في العالم اليوم نوازع شرهة إلى إهمال القول بأنَّ للإنسان “ماهيّة” أو “هويّة” روحيّة (Identity). وقد تأتّى هذا الاعتقاد نتيجة سياق طويل، زمنيّاً، استُهلّ بشكل واضح منذ “عصر النّهضة” في أوروبا، وبروز مذاهب فلسفيَّة “وضعيَّة” و”تاريخانيَّة” و”نفعيّة” توّجها نيتشه في نهايات القرن التاسع عشر برفضٍ “سوبرمانيّ” للمقاربة الأخلاقيّة الموروثة عن الأفلاطونيّة والمسيحيَّة، لصالح مفهوم “إرادة القوّة” ونبذ المثاليّة المترتّبة عن القول بماهيَّةٍ ذات جوهر معنويّ.
لقد عزا أرسطو علل وجود ما هو موجود إلى أربعة: المادّيّة والصّوَريّة والفاعلة والغائيّة، وارتبط هذا النظر بمبحث استقراء المحسوس (الطبيعي) ارتقاءً إلى المعقول و(ما بعد الطبيعي أي الميتافيزيقي). وبإستثناء التوماويّة، وهي الفلسفة التي تشبه ما فعله علم الكلام في الفلسفة الإسلاميّة، أي الدّفاع عن العقيدة الإيمانيّة بالنهج العقلاني الموروث عن اليونان ومؤثراته، فقد أهملت الفلسفة الحديثة هذه المقاربة، خصوصاً بنبذها ربط المُعطى الوجودي بعلَّةٍ غائيَّة لا يمكن التطرّق إليها في العمق إلا بالميتافيزيقا. والتوماويّة (فلسفة توما الأكويني) هي أحد الأعمدة التي تدعو إليها إحدى رسائل البابا بولس الثاني في الدعوة إلى إعادة مصالحة العقل والإيمان مجدَّداً.
طبعاً، يخدم هذا التوجُّه عقليَّة “التحرُّر” من قيود ما سمَّوه “الغيبيّات”، وكلّ حقول المعرفة التي هي خارج ما سُمِّي “العلوم البحتة أو الصلبة”. واختصاراً، أدَّى ذلك إلى “نسبيَّة” جارفة، وإلى طغيان المقاربة الاحتماليّة التي جرفت بقوَّة دلالتها المنظورة كلّ يقين قائم على “اللامنظور”. كانت النتيجة على الصّعيد الإنسانيّ هتـك مفهوم “مركزيَّة الإنسان الكونيَّة”، وبالتالي، بات الحديث عن توازن داخلي يحاكي أسرار “الكون المعقول” باللوغوس (Logos) ضرباً من ضروب نزعةٍ مثاليَّة قديمة ورجعيَّة. وكان لا بُدَّ لمفهوم “الطّموح” أو “تحقيق الذات” أن يرتدي عباءةً مذهَّبة بحيث صار مفهوماً مادّياً حالماً بثروةٍ سهلة، وموقع نافذ، وجاهٍ مشهود. وعدمت وسيلةُ الوصول لتحقيق الهدف معايير الأخلاق والفضيلة التي باتت إلى حدٍّ كبير في نظر “الطامحين” (بهذا المعنى) معوّقات شخصيّة ونفسيّة حائلة دون الفرد ومطامحه. هنا بالضبط، يصيرُ الحديثُ عن الأبعاد “النّظريّة” لمفهوم “الحدّ” وكأنّه يسير في الوجهة المعكوسةِ لمزاج الوقت. ولكن، كيف السّبيل لإهماله وهو يشكِّلُ قاعدةً ضروريّةً من قواعد “معرفة النّفس”، وبالتالي، معرفة الحقيقة؟
بالمعنى الفلسفي (بتعريف الفلسفة القديم الأصيل: محبَّة الحكمة)، فإنّ لزوم الحدّ هو الثابتُ الأساسيّ لتحقيق العدل، سواء في المستوى النّفسيّ الخاص، أو في المستوى الاجتماعيّ العام. و”الجمهوريّة”، كتاب أفلاطون الجميل، يرينا أن العدالة هي نتيجة توازن القوى في الذات لتحقيق إنسان عادل، كما هي تماماً نتيجة توازن المعطيات الاجتماعيّة لتحقيق مدينة عادلة. خارج هذا التوازن، يبدأ الانحطاط، وصولاً إلى تفشّي الفساد المسبِّب لوباء الظّلم القائد بدوره إلى خرابٍ مقيت.
إنّ أي باحث في تاريخ الفكر، لا بدّ أنه واقف على المجابهةِ الحيويّة بين سقراط وسفسطائيّي عصره. إنَّ أهمّ ما بدأ به الحكيمُ في مواجهة ألاعيب الخطاب والكلام هو الدّفع نحو “تحديد” المصطلح مدخلاً إلى حوار يُمكن الوصول به إلى مغزى ما، وإلا ينزلق الكلامُ في متاهٍ مغلوط، يذهل العقل عن حقائق الموضوع، ويوقعُ المدَّعي في أوهام المعرفة التي لا طائل منها سوى التّمويه والخداع. مذّاك، صاد “الحدُّ” نهجاً راسخاً في كلّ بحثٍ رصين. و”الحدّ” هنا هو ما أوضحه الجرجاني في “التعريفات” بقوله: “هو قولٌ دالّ على ماهيَّة الشّيء”، أي “تعريف” المصطلح كي تكون قاعدة الحوار واضحة، وهذا يدخل في المعنى العلميّ المنطقي.
أمّا في المعنى الشَّرعيّ فهو قواعد الأمر والنَّهي، وهو يقاربُ هنا المعنى اللغوي الّذي هو “المنع”، لذلك، يأتي في معنى إقامة الحدّ شرعاً ما استحقَّه المخالفُ من عقوبةٍ معنويَّة أو غيرها تأديباً للنّفس وتهذيباً لها وفق مقتضيات الأدب والصّيانة. قال تعالى في كتابه الكريم
﴿تلكَ حُدودُ الله فلا تَعتَدُوها ومَن يتَعدَّ حُدودَ الله فأولئكَ هُمُ الظّالِمُون﴾(البقرة 229).
فإذا أتى حديثُ المعنى الأخلاقي، فإنّه يتبيَّن مدى حيويَّة مفهوم “الحَدّ” وأهمّيته القصوى في صحّة المسالِك والتّصرّفات. واختصاراً، يُمكن الوقوف عند آيةٍ كريمة ومقاصدها الجليلة إذ هي موجَّهة مباشرة إلى النبيّ (ص) في أمر الله القاطع ﴿فَاستقِم كمَا أمِرت﴾(هود 112)، وجاء في تفسيرها في “روح البيان” ما يلي: “هذا أمر بالدّوام على الاستقامة، وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسِّط بين الإفراط والتَّفريط. بحيث لا يكون ميْلٌ إلى أحد الجانبيْن قيْد عرض شعرة ممّا لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى، ونفي الحوْل والقوَّة بالكلِّيَّة” لذلك قيل: “رحمَ اللُه امرءاً عرفَ حدَّه فوقف عنده”، فساوَت الحكمةُ الثابتة بين لزوم الحدّ ورحمة الله، لأنَّه بالاستقامة يصون المرءُ نفسَه كي تتمكَّن من ارتقاء مدارج السّلوك العاقل نحو كمالها الأخصّ بها، وهذا السبيل هو أشرف الغايات الإنسانيَّة.

أناكسيمندرa
أناكسيمندرa

” اللامحدود ”
قبل أكثر من خمسة قرون من بدء التاريخ الميلادي، عاش أنكسيمندر، وكان صديقاً لطاليس، والاثنان قدَّما أفكاراً اعتُبرت خروجاً من أجواء الاعتقادات الخرافيّة (الميثولوجيّة)، وبدايةً لنمط تفكير يرنو إلى محاولات تفسير عقلانيّة للطبيعةِ واكتشاف العلل التي تحكمها، وبالتالي، فإنّ الفلسفة – بما تعنيه في الأصل اليوناني من محبّة الحكمة والمعرفة – قد وجدت سبيلها إلى العقول. وقد شهد أرسطو بأنّ طاليس، القائل بأن أصل الأشياء كلّها هو الماء، كان بمثابة مؤسِّس لهذا النوع من الفلسفة (الطبيعيَّة). وقد خالفه صديقُه أنكسيمندر الذي نقل عنه ثيوفراسطس الشذرة التالية: “إنَّ العنصر الأوَّل للأشياء هو اللانهائي، وهذه العلَّة ليست ماءً ولا شيئاً من العناصر المعروفة، بل مادّة مختلفة عنها لا نهاية لها، وعنها تنشأ جميع السموات والعالم”.
فكرة “اللانهائي” هذه (باليونانيّة Apeiron، ويمكن تفصيلها كالتالي: a – peiron وتعني لا – حدّ) اعتبرها البعضُ من أكثر الأفكار الفلسفيّة التي خضعت للنقاش ومحاولات التفسير منذ ذلك الوقت وحتّى يومنا هذا. ولا غرو في ذلك، فهي شكّلت “بداية لعمليّة التفكير المجرَّد نحو تكوين مفهوم لموجود عقلي حائز بذاته على الصّفة الجوهريَّة. تلمّس الفيلسوف عبرها، وبشكل أوّلي غامض نوعين من الوجود: الموجود الحسِّي المتغيِّر، والموجود كوحدةٍ فكريَّة لتفسير الوجود فيزيقياً وميتافيزيقياً. (د. الضاهر).
وخلُص عدد من الباحثين إلى أنّ مصطلح (Apeiron) أي “اللامحدود” أو كما تُرجمَ أيضًا “اللامُتَعيّن” هو ليس مفهوماً
(concept) بالمعنى الدّقيق لأنّه لا يشيرُ إلى أيّ شيء يمكن الإشارة إليه، ولا إلى أيّ شيء يُمكن تعريفه، ولا أيّ شيء يُمكن معارضته أو مقابلته بأيّ حقيقة أُخرى. “الأبيرون” يحيط بكلّ شيء، ولا شرط يقيّده. وهو ضروري لشرح وجود كلّ ما ندركه، ولا يمكن استيعابه بطريقة محدَّدة، ولا يمكن الإشارة إليه إلا سلباً. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى:11)
تناول أرسطو المسألة واضعاً إيّاها تحت مجهر التحليل المنطقي الصّارم في كتاب “الطبيعة”، مستهلاً البحث بالتساؤل الأساسي: “قد يلزم مَن جعل نظره في أمر الطّبيعة أن ينظر في “لا نهاية”: هل هو موجود، أو لا؟ وإن كان موجوداً، فما هو؟” (Physics, B. IV, 208a, 27. Hussey). وبعد أن حاصر السؤال بمقدّمات عقليّة، اعتبر أنّ هذا الموضوع يدخل في نطاق “مواضع الشّك”، حيث أنّ نفيه يسبِّب أموراً من المحال التسليم بها، وإثباته يطرح إشكاليّات في مقاربة صفات وجوده في غاية الصّعوبة.
طبعاً، القضيَّة هي من المواضيع الشائكة في الفلسفة، ويتطلّب بحثها عرضاً مسهباً. المهمّ، أن أرسطو يثبت مدخلاً مُهمّاً يُمكن اعتباره “حدّاً” يسهِّل المقاربة في سبُل واضحة. يقول في استنتاج لافت، من دون وضع نقطة نهائية للبحث، ما يلي: “ظاهرٌ أنّ “لا نهاية” (اللامحدود) بمنزلة هيولى، وأنَّ ماهيّـته عدم، وأنَّ الموضوع بذاته هو المتَّصل المحسوس. وقد نجد سائر من تكلَّم في “لا نهاية” إنّما يستعملونه جميعاً بمنزلة الهيولى، ولذلك قد يقبح أن نجعل منه محيطاً لا مُحاطاً به” .
إذاً، وجد أرسطو أنّه من غير المستحب الظّنّ بأن “اللامحدود
Unlimited” هو من دون إحاطة، طبعاً في مبحث الطبيعة كما تبيّن. وسوف “يطوِّق” هذه الفجوة الفكريَّة لاحقاً بعلَّةٍ في الوجود عاقلة، هي بمثابة علَّة أولى. ومن السُّهولة بمكان أن تُفهم هذه العلَّة بأنَّها “حَدٌّ” لا بدّ منه لكي يتبدَّى الوجود في نظامه البديع. وهنا عودٌ على بدء للوقوف على الأهميَّة القصوى، بل الضروريَّة، لمفهوم الحدّ.

آلام الظهر مرض الحضارة المعاصرة

آلام الظهر مرض الحضارة المعاصرة
أعراضها وأسبابها وعلاجها وسبل الوقاِِية منها

المسكنات ومرخيات الأعصاب ليست علاجاً
وقد تؤثر على غشاء المعدة والكبد والكـــلى

حالة فقط من كل 2000 يحتاج علاجها لجراحة

الكايروبراكتك علاج يتبع ثلاثة مستويات تناسب
الطبيعة الثلاثية للجهاز العظمي والعضلي والعصبي

لا أكون مبالغاً اذا قلت بأن آلام الظهر أو العمود الفقري(Spine) غدت من أكثر الأمراض شيوعاً. ففي أي وقت من الأوقات يشكو حوالي 40 الى 50 في المئة من السكان في العالم من آلام في الظهر، كما أن هناك حوالي 80 الى 90 في المئة من البقية سيعانون من هذه الآلام في فترة ما من حياتهم. وتصيب الأعراض كلا الجنسين وجميع الأعمار إلا أنها منتشرة بالدرجة الأولى بين المتوسطين في العمر. بذلك لا يتجاوز الإنسان الأربعين من عمره إلا وتصبح آلام الظهر (العمود الفقري) أمراً مألوفاً له سواء كحالة عابرة أو كحالة مزمنة وشديدة الوطأة، بحيث قد تطرحه في الفراش أو تعطله عن مواصلة أعماله وحياته الطبيعية لأيام أو لأسابيع، وبعض هذه الحالات قد يتأصل فيمتد أحياناً وإن بتفاوت لأشهر أو سنوات.
قبل أن نشرح أسباب تلك الأعراض ومواضعها والعلاجات الملائمة، دعونا نبدأ أولاً بالتعرف على أصل المسألة، وهو: العمود الفقري.
يتكون العمود الفقري من 33 فقرة تربطها غضاريف ومفاصل وتغلفها أربطة وعضلات دقيقة. هناك 7 فقرات في الرقبة (الفقرات العنقية )Cervical spine، و12 فقرة في منطقة الجذع مرتبطة بالقفص الصدري (الفقرات الجذعية ) Thoracic spine، و5 فقرات في أسفل الظهر (الفقرات القطنية) Lumbar spine ، و5 فقرات في منطقة العجز متصلة ببعضها مكونة فقرة واحدة (الفقرات العجزية ) Sacrum، وهناك أخيراً 4 فقرات صغيرة في منطقة العصعوص أو المقعد Coccyx.
تتصل الفقرات ببعضها بعضاً بواسطة أربطة أمامية وأربطة خلفية ومفاصل يصل عددها إلى 139 مفصلاً. ويفصل كل فقرتين (ويجمع بينهما) غضروف (Disc)، كما تشدّ العمود الفقري على بعضه من الخلف عضلات قوية تمتد من الرقبة وحتى أسفل الظهر.
والعمود الفقري هو المحور المركزي للجسم، وهو الذي يعطي الجسم شكله في حالة إنتصاب القامة، ويحمل ثقل الجسم وينقل ذلك الثقل إلى الطرفين الأسفلين، وهو يحيط إحاطة كاملة بالنخاع الشوكي ويمنحه الحماية الكافية من أي عوارض خارجية. ويختلف طول العمود الفقري بين الرجال والنساء وبحسب الأعمار والأجناس، لكن معدل طوله عند البالغين من الرجال 70 سم، بينما يقارب معدّل طوله عند النساء الـ 60 سم. وتتشابه الفقرات مع بعضها بعضاً بأشكالها وأوصافها العامة، وتختلف اختلافات جزئية من منطفة الى أخرى. أما الأقراص الغضروفية (Disc) التي تفصل بين الفقرات فهي مكونة من طبقتين، طبقة خارجية ليفية تدعى الحلقة الليفية، وطبقة هلامية تدعى النواة الوسيطة، ووظيفة هذه الاقراص هي امتصاص الصدمات أثناء حركات الجسم وخاصة عند الإنحناء أو حمل الأشياء الثقيلة، حيث تتحرك النواة بشكل نسبي إلى الجهة المقابلة لجهة الإنحناء.
رغم قوته النسبية ومرونته، فإن العمود الفقري حساس ويمكن لأي جزء منه من الاعلى الى الاسفل أن يتعرض للإصابة أو لأمراض تسبب الآلام الحادة المقعدة أو البسيطة، التي على الرغم من بساطتها فإنها كافية لتعكير الحياة اليومية وإضعاف التركيز على أعمالنا.

تصحيح وضعية الفقرات بالتقويم العلاجي
تصحيح وضعية الفقرات بالتقويم العلاجي

ما هي أبرز أسباب آلام الظهر
الأسباب الرئيسية والأكثر شيوعاً لآلام الظهر يمكن إيجازها بالتالي:
1. أسباب ناتجة عن خلل ميكانيكي Mechanical Low Back pain
وهي الأكثر شيوعاً، وتكون ناتجة عن سوء استعمال عضلات ومفاصل العمود الفقري، مثل الوزن الزائد، والجلوس بطريقة خاطئة لساعات طويلة، وعدم ممارسة أي نشاط رياضي والإنحناء الخاطئ المتكرر لرفع أغراض قد تكون ثقيلة عن الارض ووضعية النوم الخاطئة وارتداء الكعب العالي عند النساء، والجلوس الخاطئ وراء مقود السيارة وقيادة السيارة لمسافات طويلة. هذه بعض الأسباب التي تؤدي مع الوقت الى آلام حادة في الصباح الباكر وعادة تتحسن خلال ساعة أو بعد بضع ساعات بعد النهوض.

2. أمراض الديسك أو الإنزلاق الغضروفي Bulged, Herniated disc
للأقراص الغضروفية (Discs) مواقع محددة وصحيحة بين فقرات العمود الفقري. ومن مسببات إنزلاق الغضروف أو ”انبعاجه” القيام بحركة مفاجئة لرفع جسم ثقيل من على الارض أو الانحناء المفاجئ للظهر أو التعرض لنوبة سعال شديد أو حوادث السيارات أو حوادث العمل وعدم ممارسة الرياضة وغياب التغذية السليمة، وأخيراً وليس آخراً التدخين. ولا بدّ هنا من الاشارة الى أن التوتر أو القلق النفسي الشديد (Stress)، فضلاً عن المشكلات الشخصية المالية أو العاطفية والتقلبات السياسية، جميعها تلعب دوراً في نشوء الأمراض العضوية، ومنها الديسك تحديداً.
هناك نقطة مهمة يجب البدء بها، وهي أن أي ديسك غضروفي ينزلق أو ينبعج لا بدّ أن يكون قد تعرض في وقت سابق للتغييرات الفيزيولوجية التي تحدث تمزقاً في الحلقات الليفية، عندها، فإن أي جهد بسيط مثل نوبة سعال أو حركة مغلوطة قد تولّد المشكلة، وهنا فإن الجهد المباشر لا يكون هو السبب بل “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”.
إن المادة الهلامية التي تضغط على الحلقات الليفية تسبب بدورها ضغطاً على العصب المار قرب القرص مما يسبب ألماً مبرحاً في الظهر لا يلبث أن يمتد الى اليد أو الساق ويصل أحياناً الى القدم، وقد تصبح بعض عضلات العمود الفقري ضعيفة وتفقد الإحساس، كما تضعف قوتها.

3. ضيق القناة الشوكية(Spinal Stenosis)
قد تكون القناة الفقرية ضيقة ولادياً من غير حدوث خلل آخر. ويكون هذا سبباً في حدوث آلام الظهر، أو نتيجة حدوث إلتهاب في مفاصل العمود الفقري وتنتج عنها زوائد عظمية تسبب ضغطاً على الحبل الشوكي والأعصاب الناشئة منه، تزداد الآلام أثناء الوقوف لمدة طويلة أو السير خطوات قليلة وتختفي أثناء الاضطجاع أو الانحناء قليلاً الى الأمام أو التوقف عن السير لمدة بسيطة ثم متابعة السير.

4. التهاب المفاصل العظمية بالعمود الفقري (Arthrosis)
ينتج هذا الالتهاب من الأضرار التي تحدث لمفاصل العمود الفقري نتيجة التآكل بسبب تقدم العمر أو الحركات الخاطئة أو زيادة الوزن وعدم الحركة، وقد تحدث في مفصل أو أكثر، ويجد الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض أن ألمهم وتيبسهم يتفاقمان بالراحة وينفرجان بالتمرين البدني، وكثيراً ما يتقلبون في الفراش ويستيقظون في الصباح مع أوجاع وتيبس. وينهض العديد منهم في الليل ويقومون ببعض التمارين البدنية للحصول على بعض الراحة.

5. انزلاق الفقرات (Spondylolisthesis)
قد تكون هذه الحالة موجودة منذ الولادة، أو نتيجة إصابات وكدمات للعمود الفقري، إن تلك الحالة هي عبارة عن إنزلاق إحدى الفقرات للأمام فوق الفقرة التي تليها وتحدث أيضاً نتيجة إلتهاب في الغضروف بين المفاصل.

6. ألم النسيج العضلي (Fibromyalgia )
إن العديد من الذين يشكون من هذا الألم العضلي الليفي يعانون من إنزعاج وإكتئاب شديدين. فهم يشعرون بالتعب وقلة النشاط وقلة النوم ويصحون في الصباح الباكر غير مرتاحين، مع تيبس وأوجاع. وهذه الحالة تحدث آلاماً منتشرة بالعضلات وإرهاقاً مع وجود مناطق تؤلم عند الضغط عليها، إنها حالة شائعة وتحدث ألماً قد يستمر سنوات، وتشخيص هذه الحالة يكون بشعور بآلام في العضلات اجمالاً ومع وجود 11 – 18 نقطة تؤلم إذا تم الضغط عليها.

7. إلتواء العمود الفقري (Scoliosis)
من الحالات التي نلاحظها كثيراً كسبب مباشر أو غير مباشر لآلام العمود الفقري إنحراف أو إلتواء الفقرات. وأسباب هذا الإلتواء كثيرة ومتعددة بعضها خطأ في القوام وبعضها لتغييرات تكوينية في الفقرات. ومنها أسباب وراثية أو إختلال في النمو ومنها مفتعلة كالجلوس لمدة طويلة بوضعية خاطئة وتكون بإنحناء الرأس إلى الأمام عند استعمال الكمبيوتر أو الخليوي لمدة طويلة أو حمل الشنطة المدرسية بالطريقة الخطأ أيضاً ولبس الكعب العالي لمدة طويلة.

انزلاق الديسك الواقي بين فقرتين
انزلاق الديسك الواقي بين فقرتين

8. أسباب أخرى لألم العمود الفقري
الاضطرابات العظمية: بما أن الهيكل العظمي يشكل السقالة التي تحمل أنسجة الجسم وعضلاته، فإنه مادة حية وتجدد نفسها بشكل متواصل. وهناك أمراض عدة تؤدي إلى إضعاف العظم عامة وفقرات ومفاصل العمود الفقري تحديداً وتجعلها عرضة للكسور والتشوهات منها ترقق العظام (Osteoporosis) وهشاشتها. فالعظم دائماً في عملية فقدان وبناء لأنسجته، وعندما تصبح عملية الفقدان اكثر من عملية البناء تضعف كثافة العظم وتفقد صلابتها وتتعرض لمخاطر التكسر. وتحدث الكسور عند التعرض لأي إصابة مهما كانت بسيطة كالوقوع على الأرض نتيجة التعثر أثناء المشي، وأهم جزء يخشى عليه من الكسر هو عنق عظمة الفخذ خصوصاً في السنين المتقدمة. والموضع الآخر المعرض للكسور هو فقرات العمود الفقري (الفقرات الجذعية وأسفل الظهر)، حتى أن مجرد ضغط الفقرات الهشة على بعضها من دون أي عامل آخر كفيل بانخساف فقرة أو أكثر ليزداد تقوس العمود الفقري ويعطيه شكل انحناء امامي وقصر القامة وتزداد تباعاً آلام الظهر.
تلين العظام (Osteomalacia)، وهنا يفتقر الاشخاص الذين يعانون من هذه الحالة إلى مادتي الكلسيوم والفيتامين د Calcium Vitamin D .
أورام العمود الفقري، قد ينتج ألم الظهر أحياناً عن نمو ورم في الظهر أو امتداده إلى الظهر من مكان آخر. على الرغم من أن الورم سبب نادر لألم الظهر لكن من المهم الخضوع لفحص طبي دقيق لهذه الغاية.
عندما تظهر الآلام ويكثر التوتر والضيق والإحباط يضطر المريض للبحث عن علاج مناسب فعال وسريع، ولهذا، فإن الكثيرين من المرضى يستشيرون أطباءَهم حول آلام الظهر ونجدهم قد وضعوا في أذهانهم تشخيص مرضهم – سواء كان ذلك التشخيص صحيحاً أم خاطئاً – وربما جربوا العديد من العلاجات التي سمعوها من معارفهم أو قرأوها في الإعلانات – بل إن الكثير منهم جربوا مختلف الوصفات الشعبية وجذور بعض النباتات أو الكي أو الوخز أو التنويم وغيرها .
إن علاج آلام الظهر ليس سهلاً ويتطلب مقاربة تركز على تحري جميع الإحتمالات، وفحصاً جسدياً متكاملاً يأخذ في الإعتبار جميع الاحتمالات المرضية، وإلا فإن النتيجة ستكون أقرب إلى الإخفاق سواء كان ذلك في التشخيص أم العلاج.
هناك مجموعة من طرق العلاج لكل حالة من الحالات التي شرحتها سابقاً، وينقسم العلاج من البسيط البدائي الى المركب والمعقد وآخرها الجراحة. إن الفحص المتأني والتشخيص الصحيح هما المدخل الصحيح لأي علاج يقترحه الطبيب.
إن أحد العلاجات الأولية المهمة هو العلاج بالبرودة والحرارة، فخلال الساعات الـ 48 الأولى بعد الأصابة أو الشعور بالألم يجب إستعمال كيس من الثلج على موضع الوجع لمدة 10 دقائق كل ساعة أو ساعتين ليقلل من حدوث إلتهاب ويخفف الألم، وإذا إستمر الألم اكثر من 48 ساعة بعدها تستخدم الحرارة كوضع منشفة دافئة لمدة 20 دقيقة كل ساعتين أو ثلاث. العلاج الطبيعي له فوائد كثيرة ويهدف إلى تخفيف الألم وتقوية العضلات ومرونتها – والعلاج بالتنبيه الكهربائي للأعصاب يساعد أيضاً في تخفيف الألم . وهناك أيضاً تقنية الشدّ، وذلك بإستخدام أدوات خاصة لشدّ عضلات الظهر لتخفيف الضغط على الاعصاب وشدّ العضلات الملتصقة بالظهر.
في بعض الحالات الشديدة، يلجأ الطبيب أيضاً إلى حقن الكورتيزون بهدف تخفيف الورم والألم ويتم أيضاً استخدام الكثير من الأدوية والعقاقير لتسكين ألم الظهر، ومنها : الباراسيتمول والاسبرين وفولتارينوكاتافلام وبروفين وكيتوبروفين ونابروكسين، والأدوية المرخية للعضلات مثل روباكسين وأيبيوبروفين و بروفين وغيرها. لكن هذه المسكنات ومرخيات الأعصاب ليست علاجاً، كما أن من الضروري عند تناولها مراقبة صحة غشاء المعدة، والكبد، والكلى، وغيرها لأن لهذه العقاقير مضاعفات جانبية سلبية على الجسم وأعضائه.

رياضة المشي هواية مزدهرة في لبنان وهي وقاية مهمة للعمود الفقري وبقية المفاصل
رياضة المشي هواية مزدهرة في لبنان وهي وقاية مهمة للعمود الفقري وبقية المفاصل

المعالجة الجراحية
الرأي السائد في الوسط الطبي أن واحدة فقط من كل 2000 نوبة من ألم الظهر قد يكون علاجها بالجراحة. وفي أي حال لا يجب اعتبار الجراحة خياراً علاجياً إلا إذا لم تستجب الأعراض والآلام لأي علاج آخر. ولا يجوز الإقدام على عملية جراحية بعد النوبات الأولى، وقبل اللجوء إلى الراحة والعلاجات المكملة. وفي معظم الحالات، يلجأ الجراح إلى إخضاع المريض للتصوير بالرنين المغناطيسي، وذلك بهدف دراسة الأعصاب والأربطة والاقراص داخل البنية الفقرية. وتشير الدراسات إلى أن 47 الى 50 % من تشخيص عادي لم يشعروا بأي ألم في ظهرهم تبين أنهم يشكون من إنزلاق غضروفي بعد خضوعهم للرنين المغناطيسي. وفي نظرنا، فإنه يجب عدم اللجوء إلى العلاج الجراحي إلا بعد تقييم دقيق وشفاف وبعد ظهور بوادر شلل أو ضعف في العضلات.

وضعية-النوم-الصحيحة-مع-إسناد-الرقبة-
وضعية-النوم-الصحيحة-مع-إسناد-الرقبة-
من المهم جدا استخدام مسند للظهر عند القيادة خصوصا لمسافات طويلة
من المهم جدا استخدام مسند للظهر عند القيادة خصوصا لمسافات طويلة

المعالجة اليدوية
من العلاجات المعروفة والمستقرة لأوجاع المفاصل وآلام العمود الفقري ما يُعرف بإسم الكايروبراكتك (Chiropractic) (المعالجة اليدوية / المنابلة وتقويم المفاصل) التي أثبتت مقدرة وفاعلية في معالجة مختلف الحالات المرضية المستعصية.
ويتم تطبيق علاج الكايروبراكتك على ثلاثة مستويات تناسب الطبيعة الثلاثية للجهاز العظمي العضلي والعصبي. وبحسب هذه التقنية، يقوم الطبيب بالضغط بتأنٍ على موضع المشكلة مع الأخذ في الحسبان قوة الضغط والسرعة في أدائه لتحريك المفاصل والفقرات . فيتركز العلاج على مبدأ تحريك أو تقويم الفقرات
(Manipulation) بطريقة فنية وخبيرة تتعدى التحريك الذاتي. ويتصف هذا العلاج بالدقة والحساسية، وهو يأخذ في الاعتبار وضعية المفصل وقوته ويقوم بحركة سريعة فيسمع صوتاً هو من تأثير إزالة الالتصاق بين المفاصل. وبهذا، تزال التشنجات العضلية والضغوطات على الأعصاب ويخف الألم ويشعر المريض بتحسن جسدي كلي وقوام جيد.
مع هذه العلاجات لا بدّ من التنويه بأهمية الوقاية لكل هذه العوارض المرضية، وذلك باتباع الإرشادات التالية:
إذا حاولت إلتقاط أي شيء من على الأرض (حتى ولو كان خفيفاً) حاول أن تثني ركبتيك وأن ترفع هذا الشيء عندما يصبح قريباً من جسمك
يجب أن يكون إختيار السرير مناسباً بحيث يكون صلباً يؤمن للعمود الفقري السند والدعم اللازمين، فالجسم يجب أن يكون مسترخياً تمام الاسترخاء.
يجب وضع وسادة مطوية تحت الرقبة وتفادي النوم من دون وسادة لأن ذلك يجعل فقرات الرقبة في وضعية سيئة وملتوية ويعرضها لإجهاد غير ضروري.
النوم الصحيح هو على الظهر مع وضع وسادة تحت الركبتين – أو على أحد الجانبين مع وضع وسادة بين الركبتين بعد طيهما.
تخفيف الوزن لأن البدانة تلقي عبئاً إضافياً على المفاصل وخصوصاً مفاصل أسفل الظهر ولا بدّ لتأثير هذا الإجهاد أن يظهر عاجلاً أم آجلاً في آلام الظهر ومشاكل في العمود الفقري.

الجلوس الصحي الذي يؤمن للظهر وضعية مستقيمة مريحة ومن دون انحناء. لأن الجلوس الخاطئ يزيد الثقل على الفقرات بمعدل 40 الى 50 % عمّا هو عليه الحال في وضعية الوقوف.
اختيار الكرسي المناسب والطاولة المناسبة وخاصة عند استعمال الكمبيوتر.
حين الوقوف لمدة طويلة ( أو قصيرة ) ضع قدمك على كرسي أو مقعد صغير لتخفيف الضغط على الظهر . . وإذا استحال ذلك غيّر في وضعية وقفتك من وقت الى آخر كي توزّع وزنك على كامل جسمك.
السيارة هي العدو الأول للعمود الفقري. إنها تخلف أوضاعاً مهلكة ومؤثرة عليه، فيجب أن تؤمن للظهر وضعاً صحياً ومريحاً، ويجب إستعمال وسادة تسند أسفل الظهر، وعند القيادة لمدة طويلة يجب التوقف كل ساعتين بالنزول من السيارة ومحاولة المشي لبضع دقائق تسمح بالإرتخاء وازالة التشنج الناتج عن وضعية الجلوس الطويل.
إن العدو الأول للصحة وخصوصاً صحة العمود الفقري هو الكسل والخمول وقلة الحركة. عدا هذا، فإن الأوضاع السيئة للجسم (مثل البقاء مسترخياً على كرسي لمشاهدة التلفزيون عدة ساعات والحركات الصغيرة الضارة التي تتكدس يومياً، كل هذه الامور تترك العمود الفقري في حالة يرثى لها.
إن تخصيص 45 دقيقة يومياً لإجراء تمارين رياضية منتظمة يساعد في الحفاظ على صحة الظهر خاصة والصحة الكلية عامة.
تعتبر السباحة من أكثر أنواع الرياضة فائدة لتقليص آلام الظهر. وفي حال عدم توافر امكانية السباحة (مثل عدم وجود مسبح قريب)، فإن المشي له نتائج طيبة على الظهر، ويقي من الإصابة بترقق العظام، ويجب ممارسته يومياً لمدة لا تقل عن 20 دقيقة (ولا تعوض بالمشي ساعتين يوم الأحد فقط)، ولا ننسى أن التمارين السويدية مهمة جداً.
إن الغوص في متاهات آلام العمود الفقري أمر شاق وصعب، وذلك يعود الى التغييرات الميكانيكية والفيزيولوجية الدائمة في هذا العضو الفريد من نوعه هندسياً وعلمياً. فالأعراض والتشخيص والعلاج كلها مختلفة لكنها مترابطة في ما بينها. ولكن يبقى خير العلاج في الحركة الدائمة وتخفيف الوزن والرياضة الملائمة والاقلاع عن التدخين والتفاؤل بالحياة أي اجتناب كل أسباب التوتر التي تجلبها الحياة المعاصرة.

أبو وسيم يوسف أبو كروم

الشيخ أبو وسيم يوسف أبو كروم
فرّ من عمل الحقل إلى أهوال الحرب العالمية الثانية
فكرّمه الفرنسيون وعاد إلى بلاده بأوسمة وذكريات

{رفضنا أوامر القيادة بمساعدة الطاهي في تحضير الطعام
لأننا جئنا فدائيين للحرب وليس لـ «تقشير البطاطا»

بقيت 15 سنة محروماً من الأعراس بسبب ثياب النساء
وجيل اليوم ضائع لغياب التربية الصحيحة في البيت

سجَّل يومياته وقصائد كثيرة في مفكرة علاها الاصفرار
وكَتب على غلافها: «إذا أردت أن تُذكر فأكتب ما يُذكر»}

يجلب كرسياً ويقربه الى الأريكة حيث تجلس.. ينظر اليك بعينين فيهما الكثير من المحبة والحنان، كالجد الذي فرح بمجيء أحد أحفاده ليخبرهم عن تاريخه، كيف لا وهو رجل يختزن في ذاكرته الكثير ليروى.
إنه الشيخ أبو وسيم يوسف أبو كروم، أكبر معمّر في بلدة مزرعة الشوف، الرجل الذي تعلّم تحت السنديانة مقابل صحن من الزيتون أو حطبة كان يعطيها للأستاذ، أحب العلم الذي حرمه منه أهله في سن مبكّرة وعلّم نفسه بنفسه، ووصل ليدوّن اسمه بين المحاربين القدامى في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية.
قبل أن يبدأ الحديث يدخل الى غرفة مجاورة ويخرج منها وبين يديه صندوق، يضعه على الأريكة ويبدأ بإخراج الأوراق والصور منه، ويفندها بترتيب على مقربة منك قبل أن يجلس ويستهل كلامه بأنه يكمل الـ 94 في 10 شباط بشكل رسمي بحسب تسجيل والده، فهو حسب بطاقة الهوية من مواليد 1920.
يروي لمحة عن خلفيته: «بكل فخر أنا ابن قرية ومن بيت فلاحين، وكنت أذهب مع والدي الى الحقل مذ كنت في الرابعة من عمري. سنة 1942، خلال الحرب العالمية الثانية، كانت الحرب بين الفرنسيين والانكليز على بعد 100 متر بينهم، الإنكليز في جبلنا والفرنسيون في جبل الكحلونية، انتهت الحرب على هذه الحال، وقبل نهايتها بسنة ذهبت الى العسكرية».
يتوقف قليلاً، ينهض من كرسيه ويتوجه مجدداً الى الغرفة المجاورة ويعود ومعه نظارته ومفكرة علا أوراقها الاصفرار، ويزين غلافها الخارجي عنوان بخط نسخي }فإذا أردت أن تُذكر فاكتب ما يُذكَر{. يعدّل جلسته، يضع نظارته ويبدأ بقراءة بعض السطور، يتوقف ينظر اليك ليخبرك أن هذه الأبيات الشعرية كانت لأحد أقاربه، وهي من بين القصائد والنصوص الأدبية التي كتبها عندما كان في فرنسا، وقد سجّلها في مفكرته ليحفظها.. تقرأ اللهفة في عينيه عندما يحدثك عن الكتابة والشعر، وتتحول الى حسرة مع حديثه عن أن أهله أجبروه على ترك المدرسة في عمر الـ 10 سنوات، وبين الحزن والفخر يبتسم قائلاً: «كنت كل ما أرى ورقة على الأرض ألتقطها وأقرأها».
جذبتني تجربة الجندية
يبدأ الكلام عن تجربة الحرب الثانية وسلك الجندية، وهو الذي حزن لوقف تعليمه، كما سئم بعدها من عمل الأرض وجذبته الجندية بكل ما ترمز إليه من قيم – في تلك الأيام- واخصها الشجاعة والإقدام. وبيئة الجبل التي لا يفارقها السلاح ولا الحديث عنه ولا قصص الرجولة في المعارك. كانت الحرب العالمية في سنواتها الأخيرة لكن المواجهات كانت محتدمة في أكثر من مكان. وكان الجنرال ديغول قد شكل قوات فرنسا الحرة وبدأ في تدعيم صفوفها بمتطوعين من المستعمرات أو البلدان الخاضعة للنفوذ الفرنسي ومنها لبنان آنذاك. لم يكن التطوع في الجيش الفرنسي نزهة، فالحرب شرسة والآلاف كانوا يسقطون على الجبهات. لا يعرف أبو وسيم مع ذلك كيف اندفع بجرأة غريبة لخوض غمار تلك المخاطرة. ما يعرفه أنه كان على يقين بأن عليه أن يخفي نيته عن أهله في بلدة المزرعة الشوفية، ولا سيما أن الإشاعات كانت أن القوات التي تتم تعبئتها سترسل فوراً إلى الجبهات. في تلك الفترة، كان الانكليز فتحوا طريقاً نحو حاصبيا والبقاع وأخذ الناس يقصدون البقاع للعمل، وكانت تلك فرصة جاهزة تمكّنه من التطوع في العسكرية تحت ستار العمل في البقاع. وبالفعل اتفق على ذلك مع اثنين من أصدقائه، اللذين جذبتهما أيضاً مغامرة الجندية. وهكذا حصل، وللتمويه وضع الشيخ ثياب العمل بين أغراضه.

بنو معروف «ما بيتفتشوا»

يروي الشيخ أبو وسيم أن الفرنسيين كانوا يظهرون احتراماً خاصاً للمجندين الدروز لأنهم رغم الصدام الذي حصل في جبل الدروز في سوريا وجدوا في هذا الشعب الجبلي من الخصال والشيم الرفيعة ما جعل بعض قادتهم يكتبون بإعجاب شديد عن هؤلاء الخصوم الأشداء.
من الأمور الغربية التي اختبرها بسبب تلك النظرة المعاملة الخاصة التي كان مع عدد من المجندين الدروز يلقونها من الجيش الفرنسي، لقد كان نظام الثكنة الفرنسية يفرض على حراس البوابات تفتيش كل جندي يغادر الثكنة خوفاً من تهريب الأغراض أو الذخيرة أو السلاح أو غيره، وكانت الفرقة الأجنبية في الجيش مؤلفة من جنسيات مختلفة من أفريقيا ومن بلاد المغرب العربي وغيرها من المستعمرات. لكن بسبب السمعة الرفيعة التي كانت للموحدين الدروز بين الفرنسيين فقد كان هناك تعميم من قيادة القوات الفرنسية بعدم تفتيش الدروز لدى خروجهم من الثكنات، وكان استثناء الجنود الدروز وحدهم من التفتيش يعكس ثقة الفرنسيين بأن من المستحيل أن يرتكب الدروز سرقة أو إساءة أمانة، كما كان يعبّر عن قلق الفرنسيين من شعور الإهانة الذي قد يسببه إجراء التفتيش للجنود الدروز، وهم الذين كانوا يرفضون معاملتهم كالآخرين ممن ضمتهم الفرقة الأجنبية من بلدان كثيرة.

مزرعة الشوق مرتع صبا الشيخ أبو وسيم
مزرعة الشوق مرتع صبا الشيخ أبو وسيم

“في الجيش الفرنسي كرّموني لمجرد خدمة سنتين وفي لبنان انتظرت عشر سنوات لترقيتي إلى رقيب!”

آخر مرة رأيت فيها جدي
يبدو التأثر على وجهه، وهو يستذكر كيف ودّع جدّه الذي وافته المنية في تمام اليوم الثلاثين لالتحاقه بالعسكرية: «كنت على وشك مغادرة البيت مع أغراضي عندما قالت لي والدتي: ألا تريد أن تودّع جدّك ووالدك؟ قلت بالطبع، وبدأت بتوديع جدي الذي سألني: ما وراءك؟ قلت له سوف أذهب للعمل في البقاع. سألني «خلّصت الحصيدة في البيدر»، قلت له: «خلصنا الحصيدة ولم نترك حتى القش» (قلتها لكي أطمئنه). تبسّم جدي وانفرجت أساريره ودعا لي بالتوفيق بالقول: «الله يوفقك كيف ما أدرت وجهك».
وصل عدد العسكريين الملتحقين في صيدا الى الألف، وكان هناك البعض في بيروت، وطلب اليهم التحضّر للانتقال الى فرنسا. الا أن البطريرك عريضة اعترض يومها على ذلك رافضاً نقل العسكريين للمحاربة في فرنسا قائلاً: «الجندي اللبناني يحارب على أرضه». عندها سأل ديغول (الذي كان يشرف شخصياً على عمليات التجنيد في الشرق) حشد المتطوعين: من يحب أن يذهب فدائياً؟ تزعزع كثيرون لهذا الطلب، وقد اكتشفوا أن الحرب ليست مشوار «شم هوا». وبدأ كثيرون يجرون وساطات كي لا يذهبوا الى فرنسا، وتقلّص عدد الحشد الى 104 أشخاص على رأسهم جول البستاني، كان جيشاً مشتركاً من اللبنانيين والسوريين، وعندما حان وقت نقلهم، أقيم لهم اجتماع في ثكنة صيدا واجتمع الشعب الصيداوي حولهم. أبلغهم المقدّم أنهم ذاهبون للحرب في فرنسا وسيلتحقون بالفرقة الأولى التي فنيت 4 مرات وسيؤلفونها للمرة الخامسة وقد يموتون، وعندها استولى الخوف على المجندين وبكى بعضهم فعلاً وبكى بعض الناس – ربما من أهاليهم- لبكائهم. استفز بكاء العسكر رجولة الشيخ الذي كان مؤمناً تماماً بما يردده الموحدون الدروز في المعارك، وهو «ابن عشرة لا يموت ابن تسعة»، فكان على العكس ينتظر بفارغ الصبر ساعة الرحيل.

مزرعة الشوق مرتع صبا الشيخ أبو وسيم
مزرعة الشوق مرتع صبا الشيخ أبو وسيم

“الفرنسيون أوفياء لمن قاتل في صفوفهم ومازلت أتلقى الهدايا منهم والمعايدات والزيارات من موظفي السفارة للإطمئنان على صحتي”

من طولون إلى فريول – مارسيليا
كانت المحطة الأولى في بلدة على شاطىء تونس كان يرسو فيها الاسطول الفرنسي، ومكثوا هناك 4 – 5 أيام قبل أن يكملوا رحلتهم الى تولون Toulon (إحدى المدن الكبرى في فرنسا)، وهناك نشب خلاف طريف عندما طلب من المجندين مساعدة الطاهي الذي كان عليه إعداد الطعام لعدد كبير من الجنود. لكنّ المجندين رفضوا على اعتبار «أنهم جاؤوا الى فرنسا ليخوضوا حرباً وليس لتقشير البطاطا». طبعاً كان في الأمر عصيان للأوامر فرأت القيادة نفي هؤلاء المتمردين وتفريقهم الى ثلاث مجموعات. وأرسلت فرقة الشيخ الى مارسيليا، وكان على رأسها جول البستاني، ثم نقلوا الى جزيرة فريول (Frioul) المقابلة لمرسيليا، وهي عبارة عن قمة في البحر تبعد 7 كلم عن شاطىء مرسيليا ومساحتها نحو 7 كلم من اليابسة، وكان الفرنسيون يضعون فيها مدافع لحماية الاسطول الفرنسي (البواخر في مرسيليا). ظن العسكريون أنه تم نفيهم الى هناك، ولكن الحقيقة هي أن الفرنسيين كانوا يأسرون فرقة ألمانية في تلك الجزيرة، وقد أخذوهم الى هناك لحراستها.
يستذكر الشيخ مشاق الحرب، وكيف تنزع من الناس مشاعر الرحمة أحياناً، فيروي حادثة ذات دلالة حصلت معه في تلك الجزيرة: «في أحد الأيام وفي ما كنت أتمشى التقيت بصديق لبناني، كانت المعركة قد توقفت منذ أسبوع، لكنه قال كمن يريد أن يُسرَّ لي شيئاً مهماً: تعالَ نتقاسم الغلّة! لم تكن «الغلّة» في الحقيقة سوى أموال مبللة مصدرها رواتب عسكريين قتلوا في المعركة، وبطبيعة تواجدهم في الحرب كانوا يضعون رواتبهم في جيوبهم. وكان ذلك الشاب يسحب الجثث من المياه ويأخذ الرواتب. أثار ذلك العمل المشين حفيظة الشيخ الذي قال له: عندما أتينا الى فرنسا أتينا الى الفرقة الأولى لنقاتل كفدائيين، وأنا لست مستعداً أن أحول جيبي الى صندوق، فاذا متّ فليأخذوا راتبي أما أنا فلن أضع يدي على رواتب الموتى».
كان يرسل لأهله كل ما يتقاضاه من عمله في الجندية ومع المال، وكان يرسل «المكاتيب» أكثر من مرة في الشهر يطمئن أهله ويضمّن كل مكتوب قصيدة، وكانوا ينتظرون تلك الرسائل بفارغ الصبر، ولأنه كان شغوفاً بالكتابة فقد دوّن قسماً من تلك الرسائل في مفكرته.
يتصفّح المفكرة، يتوقف عند إحدى القصائد: «هذه القصيدة لخالي حسين». ويبدأ بالقراءة، وفيما تسمع صوته واضحاً جلياً ترى تلك الرجفة في يديه المتجعدتين، لكن الرجل ثابت واثق في قراءته فيأخذك الإعجاب بصموده ومغالبته الشجاعة للسنين.
من ضمن المواقع التي خدم فيها، بلدة صغيرة على شاطىء بحر المانش على حدود انكلترا. كانت هناك فرقة ألمانية كبيرة حاصرتها قوات الحلفاء في إحدى جزر بحر المانش، ولكنهم أبوا أن يستسلموا، وكانت لبحر المانش أقنية كثيرة متفرعة تحيط بالجزيرة، فلم يكن ممكناً الوصول إليهم، الا من خلال الزوارق، وبطبيعة الحال، لأنهم في جزيرة محاصرة لم تكن تصلهم الإمدادات الغذائية، وعندما كانوا يشعرون بالجوع كانوا يتسللون إلى تلك البلدة فيهاجمون الحرس الفرنسي ويسطون على المؤن، بالاضافة الى المواشي. ولكنهم لم ينجحوا في المواقع التي كانت فيها فرقة الشيخ. وفي إحدى المرات، قرر جول البستاني مهاجمتهم لتسجيل مأثرة لفرقته، وطلب بإلحاح من رئيسه إذناً للقيام بالعملية، الا أن رئيسه رفض في البداية وما لبث أن وافق. ويروي الشيخ أبو وسيم: «من كثرة فرحي بالمهمة شعرت كأنني أسير على المياه»، الا أن المهمة لم تكتمل اذ أن الدليل الذي كان سيرشدهم إلى مواقع الألمان كان يملك قارباً وعندما ذهب لإحضاره وجده محطماً، «فعدنا أدراجنا».
يستذكر هنا أن التجربة في فرنسا «لم تكن بحجم التوقعات» التي ذهب بها، وهي أن تكون تجربة حرب وقتال وأعمال بطولية. لقد التحق بفرقة فنيت أربع مرات وأعيد تشكيلها عندما انضم إليها على هذا الأمل، لكن كلما كانت فرقته تذهب إلى موقع استعدادًا للحرب كان يجد أن الحرب انتهت فيه، وقد بقوا على هذه الحال قرابة السنة.

جزر--الفريول،-قبالة-مارسيليا-التي-خدم-فيها-أبو-وسيم-وقد-أصبحت-اليوم-معلما-سياحيا،-وتبدو-القلعة-العسكرية
جزر–الفريول،-قبالة-مارسيليا-التي-خدم-فيها-أبو-وسيم-وقد-أصبحت-اليوم-معلما-سياحيا،-وتبدو-القلعة-العسكرية

صندوق الذكريات

يحتوي صندوق الشيخ أبو وسيم على جملة من التذكارات من رحلته الى فرنسا مثل الأوسمة وميدالية ذهبية وصورة لديغول. وعندما تسأله عن سبب احتفاظه بصورة ديغول، يجيبك بعفوية: “إنه رئيسي، وصورته رمز”. وعن الأوسمة، يقول إنه حاصل على 7 أوسمة. بالاضافة الى هذه القطع، يحتوي الصندوق جملة من الأوراق المرتبة في ملفات، أحد هذه الملفات كتب عليه “وصيته”، وهناك ايضاً نسخ من مقال له يتحسّر فيه على فقد تقاليد المحبة والعيش المشترك في لبنان خصوصاً بين الدروز والموارنة تحت عنوان: “حلم هل يتحقق”، نشر في جريدة البيرق نهار الأربعاء في 1 شباط 1999، وبعث به إلى البطريرك مارنصرالله بطرس صفير.

صندوق-الأمجاد-الخالية---ميداليات-فرنسة-ولبنانية-وتنويهات-وصورة-الجنرال-ديغول
صندوق-الأمجاد-الخالية—ميداليات-فرنسة-ولبنانية-وتنويهات-وصورة-الجنرال-ديغول

وفي تلك الفترة أشرفت الحرب على نهايتها، وأخذوا ينقلون العسكر من مكان الى الآخر، وفي كل مكان كان الناس يستقبلونهم بالتهليل والترحاب فرحاً بانتهاء الحرب، وكانوا يقيمون لهم سهرة كل ليلة.
ويقول الشيخ أبو وسيم إنه في الوقت الذي كان الجيش الفرنسي يعامل المجندين الأجانب بكثير من التعالي، فإنه لم يلتقِ بألطف وألبق من الشعب الفرنسي في تعامله معهم. ويعيد هذه المحبة الى الشعور بنوع من الامتنان على الفرج الذي جلبه لهم الجيش بإنهاء الحرب التي تسببت بالجوع الشديد للناس لدرجة أنهم كانوا يأكلون قشر الليمون، اذ كان الألمان يأخذون المؤن وبقيت المواد الغذائية مقطوعة لأكثر من شهر، ولم يكن هناك سوى المعكرونة والبطاطا، «حتى نحن الجيش أصابنا الجوع».
بعد انتهاء الحرب سنة 1945، طالبت الحكومة اللبنانية بعودة أبنائها من فرنسا، فعرض الفرنسيون على العسكريين الجنسية الفرنسية شريطة أن يبقوا هناك، ولكنهم رفضوا، وعاد الشيخ الى لبنان في 10 آب 1945، ونال عدداً من الأوسمة لخدمته في الجيش الفرنسي الا أنه لا يعرف ما هي أسماء أو طبيعة تلك الأوسمة، وكل ما يعرفه أنه حصل عليها لأنه ترك بلده وذهب الى فرنسا ليحارب مع الفرنسيين. ويلفت الى أنه لا يزال يتلقى هدايا ومعايدات من الدولة الفرنسية على رأس السنة، وبين الحين والآخر يزوره أشخاص من السفارة الفرنسية في بيروت للإطمئنان على صحته.
عندما عاد المحاربون الى لبنان عُرض عليهم إما الانضمام الى الجيش اللبناني أو ترك الخدمة، فطلب الشيخ البقاء في الجيش وهكذا حصل. الا أنه يبدو أن التجربة العسكرية في الوطن لم تكن كالتي كانت في فرنسا بسبب «مناخات التمييز» التي كانت نهجاً عاماً في تلك الفترة، فكان بعض الجنود تلقى عليهم مهمات مرهقة ولا يحصلون على ترقيات إلا متأخرين كثيراً عن رفاقهم. وقد بقي الشيخ أبو وسيم مثلاً 10 سنوات حتى ترقّى من عريف الى رتبة رقيب أول.
الا أن هذه الحال لم تدم وتمّ نقله الى فوج المدفعية وأوكلت اليه مهام في لجنة التغذية للمناطق. وأدى سلوكه الحسن الى تقليده 5 أوسمة من الجيش اللبناني، منها وسام فلسطين ناله سنة 1948 عندما كان ضمن فرقة من الجيش اللبناني ذهبت الى حدود فلسطين في الوقت الذي دخلت فيه فرقة بقيادة الأمير مجيد ارسلان الى المالكية لمحاربة اسرائيل، اضافة الى وسام الاستحقاق اللبناني فضلاً عن وسام ناله على حسن سلوكه. ونظراً لشجاعته حصل في 14 حزيران سنة 1958 على تنويه من وزير الدفاع الوطني في ذلك الوقت سامي الصلح.
بعد انتهاء خدمته في الجيش اللبناني في 1 تموز 1967 بنحو سنة أو سنتين عمل الشيخ أبو وسيم لثلاث سنوات كمدقق للكتب في أحد المكاتب، ومن بعدها تفرّغ للدين والعبادة.

الحياة الحرة
في أية ساعة تستيقظ؟
أستيقظ بين الرابعة والخامسة فجراً، أقصد الحديقة الملحقة بالمنزل كي أحرّك جسدي. لا أريد أن يحصل بي ما حصل مع والدي الذي لم يكن يتحرك فأصابه العجز، وأنا أتحرك كي أحافظ على صحتي فلا أعجز. يسرد حادثة حصلت مع شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الأسبق المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا. كان الشيخ ينكش الأرض وصادف أن رآه أحد الشباب فهب لمعاونته فوراً قائلاً: ماذا تفعل أنا سأتولى ذلك عنك! الا أن الشيخ محمد رحمه الله رفض المساعدة قائلاً له: أنا أفعل ذلك كي أحافظ على صحتي.
ما الفرق بين اليوم والماضي؟
فقدت المروءة. تركنا فضيلة الصدق ونزعنا الحشمة التي هي أهم صفات الموحدين. بقيت 15 سنة محروماً من حضور الأعراس لأن الكثير من النساء يتركن ملابسهن في المنزل ويأتين الى المناسبات «كاسيات عاريات».
ما رأيك بجيل هذه الأيام؟
الله يساعدنا على جيلكم، والله يساعد أبناء هذا الجيل لأنهم لم يحصلوا على التربية بشكل صحيح لذلك ضاعوا. أين التربية الدينية، وهي الأساس في بناء جيل صالح؟. الناس مشغولون بالتلفزيون واللهو. لم يعد أحد يفكر بزيارة جاره القريب. التلفزيون سرق الإلفة من الناس.

صورته وهو يتلقى الوسام الفرنسي على الصفحة الأولى من النهار
صورته وهو يتلقى الوسام الفرنسي على الصفحة الأولى من النهار

على الصفحة الأولى من “النهار”

هذه الصورة نشرت للشيخ أبو وسيم في الصفحة الأولى من صحيفة “النهار” اللبنانية في عددها الصادر في 12 تشرين الثاني 2003، ويبدو فيها يتقلّد وساماً من ضابط فرنسي، يشير الشيخ إلى أن هذه الصورة أخذت في السفارة الفرنسية في لبنان، حيث دعي لينال التكريم ويتقلد وسامين فرنسيين تقديراً لذهابه الى فرنسا ومحاربته مع الجيش الفرنسي. ويلفت الى أن زي الدين الذي يرتديه لفت نظر المصوّر، وأخذت هذه الصورة صدى في أوساطه، اذا أنها تزامنت مع عيد الأضحى حيث كان المسيحيون من أبناء البلدة يعايدون الدروز، وأخذ صديقان مسيحيان العدد وزاراه في منزله لاعطائه اياه، فضلاً عن تلقيه الصورة المنشورة في اطار من رجل مجهول من عاليه.

 

 

العدد 9