من ذاكرة الجبل
خلف الزّيد بطل الصّحراء وفارسها
تحدّى بني معروف الدّروز فأنقذوا حياتَه
حكايةٌ عن حروب القبائل وشِعرِها وتقاليدِها
وكيف اعترف أكبرُ فرسانها بفضل بني معروف
ينتمي خلف الزّيد إلى عائلة الزّيد من آل الشعلان أمراء قبيلة الرّوَلَة من قبيلة عَنَزَة الكبرى وكانت مواطنهم شتاءً في بَوادي الحماد وكانوا في تَرحالهم يعبرون الحدود العراقيّة والأردنيّة فيوغلون داخل الحدود السّعودية ليصلوا حدود الجَوف وصحراء النّفود ونجد وجنوب العراق، ولكنّهم كانوا يَفدون إلى بلاد الشّام في شهر أيّار من كلّ عام لترعى مواشيهم في السّهول التي يتمّ حصاد زروعها ولكي يحصلوا على مَؤونة الشّتاء من حبوب وغيرها، وفي ذلك الزّمن من العهد العثمانيّ لم يكن من حدود سياسيّة بين البدان العربيّة، إذ يكفي أنّ يرضى الباشا العثمانيّ في الشّام وتُدفع له الإتاوة لتدخل القبيلة إلى أيّة جهة شاءت.
يقول الرّحالة بركهاردت، المكلّف من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب والذي زار بلاد الشّام في مطلع القرن التّاسع عشر أنّ أرض حوران كانت تتغطّى “بأرجال من بدو الصّحراء ويظلّون هناك حتّى أيلول وهم على الإطلاق من قبيلة عَنَزة ( الرّوَلة)… وعندما تصل عَنَزة فإنّ البدو المقيمين (أي بدو البلاد) وقد يحدث أنّ يكونوا على خلاف مع عنزة فيلوذون بالنّواحي الغربيّة من الجبل (جبل حوران)، أو الصّفاه ( بادية حجريّة شمال شرق الجبل) أو يتراجعون إلى الصّنمين والمزيريب في غرب سهل حوران حيث كانت هناك قوّة عثمانية يحتمون بها.
كانت قبيلة خلف الزّيد مرهوبة الجانب وواحدة من أقوى القبائل البدويّة وأشدّها بأساً وكانت تفرض هيبتها في المناطق التي تحل بها فيضطرّ الفلّاحون وبدو الدّيرة لدفع الخوّات لشيوخها وفي حال المخالفة فهم عرضة للنّهب وقد يصل الأمر إلى سَبي النّساء، “يذكر ذلك أحمد وصفي زكريّا في كتابه “عشائر الشّام ص 247”…
كانت عائلة آل نايف من عشيرة الشّعلان هي عائلة الرّئاسة في الرّوَلة، أمّا عائلة أبناء عمّهم آل زيد التي منها خلف فتأتي بعدها مرتبة، لكنّ خلف كان يشعر بتميّزه في الفروسيّة وصواب الرّاي في حروب القبيلة في تلك السنين البعيدة من عشيّة القرن التّاسع عشر، حيث كانت الأرياف والبوادي البعيدة عن العواصم تعيش أسوأ أيامها لشيوع الغزو وتقاليد النّهب والسّلب يمارسها الأقوياء على الضّعفاء.
ذلك الشّعور بالتّميّز والإحساس بالقوّة دفع بخلف أكثر من مرّة إلى تحدّي أبناء عمّه أهل الإمارة الوراثيّة المُتعارف عليها في القبيلة، فقد غضب مرّة من شيخ القبيله ابن عمّه هزّاع الشعلان ــ وكنيته أبو فهد ــ لخلاف نشب بينهما فجاء إليه مُتَقلّداً سيفه مُمْتَطياً فرسه وعَيّره بعيب خلقي في شخصيّته وخاطبه (شعراً) بصلف دون أن يترجّل، فلم يجرؤ ابن عمّه الشّيخ هزّاع على تحدّيه وسكت على الإهانة.
وعلى هذا فإنّ الآخرين من مشايخ آل شعلان الذين عاصرهم خلف توارثوا الحقد عليه على الرّغم من حاجتهم الماسّة إلى فروسيّته في معارك الرّوَلة، فأوامرهم التي تسري على عموم القبيلة لا يقدرون على تنفيذها عليه، إذ لا يجرؤ أحد منهم ولا من سواهم على تحدّيه، وهو على شجاعته يلتفّ حوله فريق من بني عمّه الأقربين آل زيد وهم فرسان أبطال يحبّونه ويذخرونه للملمّات، وكان من طبعه في معارك القبيلة وغزواتها أنّه لا يقتل إلاّ الفارس الذي له شهرة وموقع في قومه حتى قيل أنّه قتل تسعة شيوخ فرسان من أبرز شيوخ القبائل البدويّة التي اشتبكت مع قبيلته، ولهذا فإنّه إذا لُفظ اسمه في الدّواوين والمضافات أضافوا إليه “أبو الشيوخ”.


قَتْلُهُ تركي بن مْهيد شَيخ قبيلة الفِدْعان
كان تركي بن مهيد شيخ قبيلة الفدعان فارساً من أشجع الرّجال، شاعراً كريماً بلا حساب حتى لقّبه أهل عصره بـ “مْصَوِّت بالعَشا”، لأنّ له في كلّ مساء على موعد العشاء وليمة مفتوحة حيث يأمر أحد رجاله فيرقى مرتفعاً من الأرض ثمّ يرفع صوته مُنادياً :”من كان يريد العشاء فليتفضّل” وكان تركي قد أغار على إبل لآل الزّيد من الشّعلان ونهبها وهم غائبون عنها. كانت تلك الإبل الوُضْح التي تتّصف ببياض لونها في بلاد نجد تسمّى بـ “العُلِي” تمييزاً لها عما سواها.
تأثّرت قبيلة الرّوَلة لهذا الأمر، لكنّ زعيمها الشيخ سطّام الشّعلان لم يَرِد حسم الأمر بالقتال وكان يفضّل مفاوضة تركي بن مهيد وحلّ المسألة معه سلماً بلا قتال لكون تركي، أخاً لزوجته تركيّة بنت مهيد، غير أنّ تركي رفض عروض التّسوية التي قدّمها سطّام، وتصعّد التأزّم بين القبيلتين وأصرّ خلف وآل الزّيد على الثّأر من عدوان تركي على إبلهم وأيّدتهم أخيراً قبيلة الرّوَلَة وقبل سطّام على مضض أن يشارك في غزوة الثأر من تركي مخافة أن يقود القبيلة بدلاً منه ابن عمه النّوري بن شعلان المتربّص للوصول إلى رئاسة الرّوَلَة، وفي ذلك إنقاص من قدره كشيخ للقبيلة.
ويذكر محمّد بن أحمد السّديري كاتب سيرة خلف أنّه عندما حصل هجوم الشّعلان وقبائل الرّوَلة على قبيلة الفدعان وظهرت كراديس الخيل وفي مقدمتهم آل شعلان وأوّلهم النّوري بن هزّاع وخلف الزّيد أبو الشيوخ وحصلت المعركة وحمي الوطيس كانتركي يلبس درعاً وخوذة وقد وقف في الميدان موقف الأبطال وعجز الفرسان أن يتغلّبوا عليه. كان خلف قد تنحّى جانباً بجواده المسمّاة “خلفة” على تلّة مشرفة على المَيْدان يرقب، وما أن لاحظ عجز الفرسان عن قهر تركي حتى أغار عليه واختطفه من على ظهر جواده وترجّل به على الأرض وضربه بسيفه المسمّى (شامان) على أنفه فأطاره، وقيل أنه احتزّ رأسه بسكّينه، وروى آخرون أنه تركه مرميّاً وراح يطارد بقيّة الفرسان وقال لمن حوله من فرسان الرّوَلَة إنّ هذا تركي بن مهيد وقصْدُه أنْ يحرّض من كان حاقداً عليه على قتله، وتداعى فرسان الرّوَلَة على تركي وقتلوه وكان ذلك اليوم خسارة كبرى لقبيلة الفدعان إذ فقدوا جميع أرزاقهم واستردّ الرّوَلَة الإبل العُلِي.
الأخت تحاول الثّأر لأخيها
كان قتل تركي بن مهيد بتلك الصّورة المُهينة شديد الوقع على قلب شقيقته تركيّة زوجة سطّام الشعلان شيخ القبيلة الكبرى؛ الرّوَلة، قبيلة خلف، فأخذت تتحيّن الفرص لقتله، وجاءها من نصحها بقتله خِفْية بالسّم، لكنّها أبت واعتبرت أنّ الكرام ينأون بأنفسهم عن مثل ذلك الفعل، غير أنّها صمّمت على أمر لا يقدم عليه إلّا أشدّ الرّجال عزيمة. كانت تعرف كراهية آل شعلان المُضْمَرة لابن عمهم خلف، فهو صلف، وكثيراً ما يعصى أوامرهم مع أنّهم رؤساء القبيلة، وقد سوّلت لها نفسها معتمدة على هذا الإحساس أن تقرّر قتله مواجهة.
في ضحوة أحد الأيّام قَدِم خلف لتناول القهوة في ديوان الشّيخ سطام حيث مُلتقى نخبة القوم، فما كان من تركيّة التي حشت بَكَرة مسدّسها بالرّصاص إلّا أن برزت من المَحرم وتوجهّت إلى حيث يجتمع الرّجال في ديوان الشّيخ ونهرت العبد قبل أن يسكب القهوة لخلف فتنحّى جانباً، ووجّهت فوّهة مسدّسها إلى وجه خلف قائلة له:”أخَلَف، ما تذكر دم تركي اللّي ببطنك؟ خُذْ” وأطلقت الرّصاصة الأولى نحوه، فلم تُصبه أمّا هو فلم يرفَّ له جَفن بل قال لها بعدم اكتراث:
تْخَسِينْ.
فكالت له رصاصة ثانية أخطأته.
فقال لها :تْخَسِين. وهكذا إلى أن أفرغت رصاصات مسدّسها.
بعدها رمت المسدّس بوجهه وارتدّت باكية.
أما خلف فنهض من مجلس شيخه وركب فرسه عائداً إلى فريقه يغتلي غيظاً من تواطؤ ابن عمه الشيخ سطّام الذي لم يحرّك ساكنا بوجه زوجته…
حلف دروز الجبل مع قبائل جنوب سورية
ولمّا كانت قبيلة الرّْوَلَة الصّحراوية واحدة من أقوى القبائل البدويّة في شمال شبه الجزيرة العربية، فقد كانت وهي في سبيلها للمَقيظ في سهل حوران وجنوب دمشق تخلق حالة من الاضطراب والتشوّش في الدّيار التي تحل فيها ويصفون زحفها على أنّه “كالجراد المنتشر انتشاراً رائعاً يستحق النظر والتصوير…”.
وكان البدو من أبناء الصّحراء لا يعبأون بممتلكات الفلّاح أو بمزروعاته، وغالباً ما كانت تحدث مواجهات بينهم وبين الفلاحين وبدو الدّيرة الأقل قوة منهم فيعتدون عليهم وعلى الممتلكات والحرمات. في ذلك الوقت كان شبلي الأطرش شيخ مشايخ بني معروف في عصره قد أسكن أخاه سعيد القوي الشّكيمة والمهاب في قرية ذيبين قرب بصرى ، تلك القرية التي تقع في أقصى جنوب غرب جبل الدروز كما كان يدعى آنذاك ممّا يلي منطقة دخول الرّوَلة إلى سهل حوران وجنوب دمشق لمنع أذاهم عن الموحّدين، ومن جانب آخر عقد شبلي حلفاً مع قبائل منطقة بادية الأردن تلك المنطقة التي تمتد من جنوب سهل حوران إلى شمال الحجاز، ومن قبائلها بني صخر والسّردية والعيسى وغيرهم.
وقد تسبب هذا الحلف بمضايقة للرّوَلة الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مقاومة تحدّ من حركتهم في رحلة الصّيف التي تعوّدوها إلى الشام من قبل. كان الولاة العثمانيّون يتّخذون من الخلاف بين أبناء جبل حوران وسهله ذريعة لشنّ سلسلة من الحملات العسكريّة على الجبل فكانوا بذلك يشغلون بني معروف الموحّدين بتلك الحملات ويستنزفونهم فتطمع بهم وبديارهم القبائل البدويّة الآتية من الصحراء كالرّوَلة وغيرهم من الغُزاة …
وقد وجد شيخ قبيلة الرّوَلة سَطّام بن شعلان في انشغال بني معروف بحرب العثمانيّين فرصة مناسبة للزّحف بقبيلته على بني صخر ومن والاهم في منطقة البلقاء في شمال الأردن جنوبي سهل حوران بحجة نهبهم جِمالاً تعود لأحد عبيد الشّيخ الشّعلاني يُدعى (النّيص)، ورغم الجفوة الموروثة ما بين خلف وأبناء عمّه المشايخ من آل شعلان فإنّه أظهر تعطّشاً للحرب باعتبارها فرصة له للتّعبير عن فروسيته في تلك الغزوة الانتقامية على بني صخر وحلفهم والذين كان يكنّ لهم العداوة. ويذكر محمّد أحمد السّديري في ص 210 من كتابه “أبطال من الصّحراء”، أنّه حصلت معركة هُزم فيها بنو صخر وشُرّدوا عن بلادهم وبعضهم هرب إلى جهات غَوْر الأردنّ وفي تلك المعركة قَتَل خلف الزّيد (الملقّب بالأذن) عدداً من مشايخ بني صخر ومنهم الشّيخ طَه والشّيخ مناور والشّيخ سَطعان وقد امتدح في تلك القصيدة ابن عمّه اللّدود الشّيخ سطّام “رغم ما كان بينهما من الجفوة، ولكنّه كان راضياً عنه، لأنّه شفى غليله من أعدائه آل فايز وآل زبن رؤساء بني صخر” وفي تلك القصيدة يصف المعركة ويعرّض بالحلف بين شبلي الأطرش وبين طراد بن زبن شيخ بني صخر فيقول:
عيّـــا الفَـهد ما كلّ الأشـــوارْ طاعَهْ
قَصّــــار مـــــــــــــن شــارب خَصيمه ليا زاد
مــــــــن صـــافي البالود فيه القَطاعــــــه
مِفـــــــــــــــراص بــولاد الدّول هــم والاكــــــــــراد
ســَمْحــــــان زاع وْســَمّحَ اللهْ مَزاعــه
قـــوطر يِـــــــــــــهِزِّ الرّيـــــــــــش مــن غير قَوَّاد
بين الفْدِيْنْ وبينْ بُصــــرى مِزاعَــــهْ
غَصْبٍ على شِــْبلي وعَنْفٍ عن طْراد
وقطعانهم صارت لِربعــــــي طماعـهْ
وقـــمْنـا نْـــــــــــعزّل بـــــــــــيننا شُــقْح الاذْواد
كم سابــــقٍ جــــتنا بــــــــالأيدي قْلاعـــه
وكمْ راسْ شيخٍ طــــــــــاح بسيوف الاولاد
وقد أسكره ذلك النّصر المؤزّر على بني صخر مع أنّه لم يُنكر عليهم شجاعتهم ولكنّه عيَّرَهم بالبَوق والغدر وسَخِر من جَدَّيْهم الوَلِيَّيْن : فرج وأسعد، اللّذين كانوا يتباركون بهما ويعقرون الذّبائح والنّذور على قبريهما ومع ذلك فلم يحمياهم من بطش خلف وقبيلته على الرّغم من استنصارهم بهما. يقول خلف:
يــا رْميــحْ لولا البـوق ما انتــمْ رَديّـين بـــْذبـــحِ الـعديـــــــم وصـــبّـــــــــــكم للإدامِ
بِـنْيِت بيـــوت الحــــــــــــــرب حدِّ اللّبـــابين وشُـــقْحٍ تنـازى بالمشـاتي مَظـــــامي
يـا ذيب صوّت للنّســـور المْجيــعيــن اِرْعَ الشّـــــــيوخ مْجَدّعَـــة بالكــــــــــــــــَزامِ
وْفَــرج مع اَسعد لايَعُوْهم شـــياطين ويــارْميح حـــظّ اجدودكم بانْـخدامِ
جــــــــــــوْكــم هَــلِ العليا عْيــال الشَّــعالين فوق المَهارى مْثَـــوْرات العَسامي


الحَرب تَلِدُ الحَرب
كانت هذه الواقعة فاتحة عراك متواصل بين الرّوَلة وقبائل بادية الأردن وفي طليعتهم بنو صخر، وأخذ الشّيخ طراد بن زبن وشيوخ حِلْفِه يترصّدون خَلف وقبيلته ليأخذوا بثأرهم منهم وكان من عادة الشّعلان إذا ارتحلوا رحلتهم الصّيفية إلى الدّيار السّورية لا يسيرون مجتمعين لكثرتهم الكاثرة إذ كان أهل عصرهم يلقّبونهم بـ “دود الكَرْش” لكثافة جموعهم، بل كلّ عائلة منهم يكون معهم فريق من قبيلة الرّوَلَة وكان من عاداتهم أنّ أوّل من يتقدّم بالمسيرة فيهم آل مِجْوَل ومعهم فريق، ثمّ عائلة المشهور ومعهم فريق، ثمّ عائلة آل نايف الرّؤساء ومعهم فريق ثمّ عائلة آل زيد عائلة خلف ومعهم فريق، وكان شيوخ بني صخر وكبيرهم الشّيخ طراد بن زبن لايكفّون في كلّ عام عن ترقّب عبور الرْوَلَة لديارهم باتّجاه الشّام لأخذ الثّأر من خلف وقومه.
موقعة ميقوع
في موقع يقال له آبار ميقوع في منطقة وادي السّرحان على طريق الرّوَلَة إلى سوريّة كَمَنَ الشّيخ طراد بن زبن ومعه عدد من شيوخ بني صخر وفرسانهم ومنهم شلاش بن فايز الشّيخ الشّجاع المقدام الملقّب بالضّمّان لأنّه كان يضمن إبل ومواشي قبيلته من أنْ ينالها عدوّ لهم وقد استنجد طراد حينها بفرسان قبيلة السّرديّة يقودهم شيخهم الجنق.
عندما اقتربت الرّوَلة من الماء المذكور وكانت الإبل قد سبقتهم لتشرب وكان الشّيخ خلف على أثرها بالظّعينة حماية للنّساء يرافقه أبناء عمّه آل زيد ومن يتبعهم من القبيلة وكان كلّ واحد منهم راكباً على هجينه مُسْتجْنِباً جواده وهذا تقليد عربي قديم لكي لا يتعب الجواد في مسير الصّحراء الطّويل وكي يظلّ جاهزاً لساعة القتال الذي قد يكون كامناً وراء الكثبان.
كان الرجال آمنين وهم يتقدّمون الظّعائن فشاهدوا نَسراً قَشعماً (هرماً) وقد حطّ على الأرض، وعندما قربوا منه راح يدرج مُتعَباً وكان في حاله تلك لا يقوى على الطّيران لشدّة جوعه، فالتفت إليه خلف وقال كم أتمنّى لو تكون معركة قرب هذا النَّسر المُنهك ليعتاش من القتلى وليطير. ضحك رفاقه لأمنيته تلك … لم تمضِ دقائق على أمنية خلف المشؤومة وقد أشرفوا على آبار ميقوع وإذ بِخَيْل طراد وحِلْفِه تلتفّ على إبلهم وتسوقها غنيمة، فما كان منهم إلّا أن تَرَجَّلوا عن هِجْنِهِم ولبسوا دروعهم وركبوا سراعاً على خيولهم ولحقوا بالفرسان الذين نهبوا الإبل واتّضح لهم أنّ غرماءهم هم أعداؤهم بالأمس؛ حِلْفُ بني صخر والسّرديّة والعيسى المشهورين بعداوتهم لهم…
كانت موقعة قاسية حَميَ وطيسُها، وبعد عَناء طويل خلّص الشّعلان إبلهم من خصومهم، ومَضَوا يطاردونهم، فقتل خلف الشّيخ شلاش ثمّ قتل الشَّيخ الجنق أما الشّيخ طراد فقد نجا لأنّ جواده كان سريعاً جدّاً فلاذ بالفرار، وعجز الشّعلان عن اللّحاق به وقد غنموا خيولاً كثيرة وانتصروا على بني صخر وأعوانهم.
هزيمة الرّْوَلة في موقعة المناخ
ظلّ الشيخ طراد بن زبن مُصِرّاً على موقفه العدائي من الرّْوَلة إذ هم لم يتمكّنوا من سحق مقاومته التي لم تَهُنْ ضدّهم؛ وفي هذه الموقعة نجح طراد في ضمّ قبيلة الشرارات إلى حلفه الواسع، ويذكر أحمد وصفي زكريّا في كتابه عشائر الشّام ص 371 أنّ الزّبن من بني صخر كالوا الصّاع لسطّام الشّعلان “ وغنموا منه غنائم جمّة “. ففي تلك المعركة الحامية أناخ المتقاتلون جمالهم وتفرّغوا لقتال مستميت مميت، ومن هنا لاتزال تلك البقعة من الأرض التي تقع جنوب قرية ذيبين بعدّة كيلومترات تحمل اسم “المناخ” إلى يومنا هذا، ووفي ذلك اليوم المشؤوم على الرّوَلة كَثُر القتلى من الفريقين على أديم الأرض، وسقط خلف الزّيد، فارس الشّعلان بل الرّْوَلة بأسرهم من على جواده وقد أصيب بكسر في فخذه. وفيها تمكن ذلك الحلف الواسع من القبائل البدوية المتضرّرة بصولات الرّوَلَة من إلحاق الهزيمة بتلك القبيلة الباطشة التي طالما أرهبت الحواضر والبوادي في بلاد الشام.
هرب الرجال من حول خلف وتركوه كسيراً على أرض المعركة، ولو لم يتيسّر رجال من بني معروف الدروز نقلوه إلى قرية عنز إحدى قرى الموحّدين الذين سبق له أن تحدّى شيخهم شبلي الأطرش لأكلته الضّبعة العرجاء التي سبق له أن جعل من غريمه الجَنق شيخ السّرديّة عشاء لها…
كانت قرية عنز وشيخها آنذاك الأمير حسين الأطرش المعروف بكرمه وسعة اطّلاعه على أحوال مجتمع المنطقة المحيطة بالجبل وأنساب القبائل والعشائر وله علاقات واسعة بأهل البداوة بحكم شخصيته الاجتماعية المرموقة وموقع قريته على تخوم البادية التي تفضي إلى الصحراء العربية. هناك في حمى الأمير حسين عولج كسر خلف الزّيد وبدأ يتماثل للشّفاء تدريجاً وكانت مضافة الأمير في ذلك العصر مقصداً يؤمه الوجهاء وأهل الرّأي في القرية وسائر حواضر الجبل، والضّيوف والتّجّار من كلّ حدب وصوب لقضاء حوائجهم أو حلّ مشاكلهم؛ إذ ما من فنادق في تلك الدّيار آنذاك وإلى يومنا هذا. وفي المساء يحلو السّمَر وأحاديث سوالف الزّمن الماضي وحكاياته وكان في ذلك تسلية ومتعة للفارس الذي بدأ يملّ الثّواء على فراش الكسير.
خلف الزّيد ضَيفُ أمّ الرّمّان
ذات يوم من أيام إقامة خلف في كنف الأمير أبو نايف حسين الأطرش سمع حديثاً يُطري بكرم وأفعال أهالي وفرسان قرية أمّ الرّمان التي تقع غرب قرية عنز، وهم الذين كلّفوا ستين فارساً منهم يتناوبون على حماية الجهة الجنوبيّة للجبل ممّا يلي قريتهم باتجاه بادية الأردنّ حيث جعلوا من قمّة تلّ الشيح موقع رصد لمنع أيّ غزو أو اعتداء ينال من حمى الجبل من جانب قريتهم الأكثر قرباً للبادية، وعلى أثر ذلك الحديث قال خلف “يا هَنُو من كان مع ها السّرْبة” ــ أي تمنّى لو كان واحداً من بين أولئك الجماعة ــ وجاء من نَقَل كلام خلف ذاك من مضافة الأمير حسين لأهل أمّ الرمّان، فقام وفد من وجهائهم وبضعة شبّان استصحبوهم معهم لغرض العَوْنة، بزيارة للأمير الأطرش في عنز وطلبوا منه إذناً باستضافة ضيفه خلف أيّاماً في قريتهم أمّ الرّمان، فقبل، وهكذا كيّفوا سُلّما خشبياً ومدّوا عليه فراشاً ثم مددوا خلفاً عليه، ونقله الشبّان على أكتافهم مسافة سبعة كيلو مترات إلى دار الشيخ حمد الأطرش في أمّ الرّمان، وهناك على بيدر قريب من دارة شيخ القرية نصبوا للشّيخ خلف بيتاً من الشَّعر وعملوا ما أمكنهم على العناية به والاهتمام بكسره ليجبر سريعاً وكانوا يقدمون له أحسن المذخور المتوفّر لديهم من الطّعام، وإلى هذا يشير بقصائده التي مدحهم بها بعد مغادرته الجبل، حيث هم أطعموه البطّيخ المذخور من أيام الصيف في فصل الشتاء وفي هذا يقول:
من دار أبو دنيـــــــــــــــــــــــا لَـ مقعـــــــــــــــــــد هلال مَنْ لَهْ ذخيرة جابها وما جحدهــــــــــــــــــا
وقد تناقلت الرّكبان في صحارى العرب قصائده في تخليد استقباله كسيراً في جبل بني معروف وضراعته لله أن يشفيه مما ألمّ به على الرّغم من أنّه كان واحداً من أعتى جبابرة الصّحراء…
وفيما بعد أذيع بعضُ ذلك القصيد مُغَنًّى على الرّباب في إذاعة المملكة العربيّة السّعوديّة وإذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، ولكن مما يؤسف له أنّ محمّد بن أحمد السّديري مؤلّف كتاب “أبطال من الصّحراء” في معرض سرده سيرة حياة خلف الزّيد لم يأتِ على ذكر سقوط خلف كسيراً في موقعة المَناخ، ولم يُشر إلى محاولة قتله الفاشلة مواجهة بالمسدّس من قبل تركيّة زوجة ابن عمّه الشّيخ سطّام بن شعلان طلباً لثأر أخيها تركي بن مهيد الذي سبق لخلف أن قتله (في رواية ذبحاً)، ولا إلى إنقاذ حياته من قبل بني معروف الدّروز وعلاج كسره وشفائه منه واستضافته في حمى الموحّدين في قريتي عنز وأمّ الرمّان!.
وفي قصيدته في أم الرمان يقول خلف:
يا الله يـــــا اللّــي للمـــــــــــوازيـــن عـَــدّال
تِفْـــرجْ لَــرِجلٍ غاب عنــها ســَعَدهــــــــا
يامِفْرِّج الشِّــــــدَّات يا شـــايف الحــال
يا عـــالم النّــفْس الخَفيّـــه بوجـــدهـــــــــــا
هم اتـرَكوني واودعــــوني على جـــــال
وانا كســـير وهان كســري عَضدهــــــا
واللي احسنوا بي ترثة الجود وافضال
شـــدوا لي حُصْرة وانهضوا بِعَمَدها
من عَنـــز عَ كْتـــوف ماضين الافعال
لامّ الــرمّان اللــي ســـريعٍ نَجَــــدْهـــــــــــــا
لو تنشـــدون الطّيــــب ما بين الرّجــــال
الطّيـــب واجــــد ميــر هذي وحَدهـــــــــا
عاداتهم وليـــــــــــــــــــــــا اعتــلوا فـــوق مِشْــــــوال
كم مـــــــــــــــــــن عـــجوزٍ احــرموها ولـدهـــــــــــا
يــــاعلّها مـــــع طـــول الايّـــــــــــام بِغْلال
القـــــرية اللي تعزّ كل من قصدهــــا
هَلِّــــــنْ هلاليـــنْ وَاَنـــا اليـوم بِهْــــــلال
والنّفــــس مـــا ســمعت كلامٍ لَهَدْهــــــــا
يْقلْطـــون الـــزّاد من كلّ الاشــــــكال
مــن الــدَّرّ والإِدام واللّي يجـــدهـــــــا
مـــن دار أخــــو دنيـا لَمقعد هلال
مَـــنْ لـو ذَخيرهْ جابها وما جَحَدهــــــا
يـــا الله يــا اْللّي عَ المخاليق مِتْعال
سُـــــرْبِة اْمّ الرُّمّان تِظْـهِر سَـــعدهـــــــا
تبني لهم بِيْضٍ على روس الاجْبال
وقَبْلي بفــعل الطّيـــب كلٍّ حَمـــــَدْهـــا
وعندما تعافى خلف أقيمت له ولائم التَّكريم في مضافات أمّ الرمّان، حيث لكلّ عائلة مضافة أو أكثر، ومن ثمّ قَدِم ذووه من الصّحراء وَمَضَوا وإياه معاً إلى عنز لوداع الأمير حسين الأطرش مُضيفه الأوّل ومن بعدها لحق خلف بقبيلته في نجد.


نهاية بطل
رجع خلف إلى قبيلته، ولكنّ العداوة القديمة الموروثة بينه وبين أولاد عمّه من مشايخ آل الشّعلان رؤساء القبيلة ظلّت مُسْتَعرة تنتظر عودته، واستمرّت الكراهية لخلف في قبيلته تتعاظم إلى أن اضطرّ إلى الرّحيل مع أبناء عمّه آل زيد على مَضض بعيداً عن القبيلة إلى نجد عند آل الرشيد أمراء حائل، ولكن رحلته تلك لم ينلها التّوفيق.
ويروي محمّد أحمد السّديري أنّه بعد مدّة غير طويلة من عودة خلف من لَدُن آل الرّشيد وكان نازلاً في أطراف الحَرَّة بين الحماد ووادي السّرحان هاجمهم غُزاة من عشيرة التّومان من قبيلة شمّر في منتصف اللّيل وقبل أن يُعْلموا أطلقوا عدداً من العيارات النّارية على خلف في فراشه داخل بيته فقُتل هو وزوجته وهما نائمان وكان مريضاً وقد طعن بالسّن…
وعلى أثر مقتل خلف شنّت قبيلة الرّْوَلة غارة على التّومان قَتَلَتِة وأخذت بثأرها منهم
وبهذا طويت صفحة حياة أحد أبرز أبطال الصّحراء العربيّة في العصر الحديث، حياة ذهبت ضحيّة حروب القبائل العبثيّة فيما كان العالم المعاصر يتقدّم بلا هوادة في عصر الصناعة وبناء الحضارة الحديثة.