الحوار واحترام الآخر
في ثقافة الموحدين الدروز
دَخَلتْ في أحاديثنا الاجتماعيّة اليوميّة، السياسيّةُ منها والدينيّةُ، مُصطلحات مثل الحوار واحترام الآخر وقبول الآخر وغيرها، مُصطلحات عامّة تجري على ألسنة البعض دون أن يكون لها أيّ انعكاس أو مفعول في أدائهم الدّينيّ أو السياسيّ، فمنهم من يعتبرها مبادئ غير قابلة للحياة أو التّحقُّق في زمن التّعصّب والعنف والتّخندق المذهبيّ أو الدينيّ ممّا يجعلها مُجَمِّلات خطابيّة ليس أكثر، ومنهم من يعتبرها غطاء أو ممرّاً لتغطية استيراد المفاهيم الغريبة عن المجتمعات أو ذريعة لزيادة الآراء والاختلافات التي تساهم في تفتيت النّسيج الاجتماعيّ. أمّا عند البعض الآخر فقد تحوّلت هذه المُصطلحات إلى ما يوازي القضيّة من حيث الأهميّة باعتبارها دواء ناجعاً يساهم في نهضة المُجتمع دون الحاجة إلى إلغاء أو تهميش أي مُكوّن من مكوّناته.
وكتمهيد نظريّ للخوض في موضوع الحوار واحترام الآخر عند الموحّدين الدّروز، لا بدّ من توضيح أنّ كلّ اعتبار من الاعتبارات التي سبق ذكرها له من الأسباب ما يبرّره، وقد يكون تفضيل أيّ اعتبار على الآخر دون دِراية وفَهْم للطّبيعة البشريّة وتطوّرها تفضيلاً يخضع للمشاعر والمصالح، فالانفتاح والحوار يلزمه بعض الشّروط ليكون نافعاً ومُنتجاً:
֍ أوّلُها معرفة الإنسان لنفسه، وقد غاص الفلاسفة والمفكّرون منذ التاريخ القديم وصولاً إلى المفكّرين المُعاصرين في التّحليل والتّعليل حول ذلك، فقد تكون أَشهر حكمة وأقصرها وصلت إلينا عن أرسطو أحد أكبر الفلاسفة القدماء الذين بصموا حياة البشرية بفكرهم وأخلاقهم هي قوله: اِعرف نفسَك، وقد تُختَصر رائعة فريد الدين العطار التي جَسّدها في كتابه “منطق الطّير” وصف مشقّة الطّريق إلى الحقيقة والتي كلّفت طيور السّيمرغ كلّ أصناف الاحتمال والعذاب في طريقها إلى “جبل قاف”، تُختَصر في أنّهم وجدوا الحقيقة في انعكاس صورهم وحقيقتهم بوجهها الكماليّ. فمن لم يعرف نفسه سيبقى خائفاً من غيره لا مَحالة، وسيلجأ إلى تنمية العصبيّة الفرديّة والجماعيّة لفرض سياج حول نفسه لا يخترقه منطق أو حقيقة.
֍ ثانيها معرفة الإنسان لغيره، فلا حِوارَ دون احترام، ولا يُمكن واقعيّاً احترام الآخر دون معرفته ومعرفة حدود خصوصيّته، ولعلّ أحدث نصٍّ تشريعيّ صدر على نطاق عالميّ يكفل هذا الحق هو ما ورد في الفقرة الثّانية من المادة التّاسعة والعشرين من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
֍ ثالثها وليس آخرها قناعة الفرد أو الجماعة بأنّ التّنوُّع في كلّ أشكاله هو سرٌّ من أسرار الوجود، وهو حقيقة لا يستطيع عاقل أن يتجاهلها، ومن أكثر الآيات ترداداً قوله تعالى في كتابه العزيز: “يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا أنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. وفي الجانب الفلسفي والوجودي فإنّ الحركة هي ضدّ الجمود، ولذلك يقوم الكون من أصغر جزئياته إلى أكبرها على الثنائيّات أو الثلاثيّات أو غيرها، تتحرّك ضمن القوانين الفيزيائيّة ممّا يخلق التوازنات التي تكفل ديمومة الحياة وعدم جمودها.
أمّا تاريخيا، فقد طوّرت معظم المذاهب والأديان خطابها في القرون الأخيرة خصوصاً في القرن العشرين، الظاهريّ منه على الأقل، وانتقلت من المناداة بحصريّة الحقيقة عبر طُرُقها ومؤسّساتها إلى إمكانية خلاص الآخر بصلاح عمله ولو كان يحمل إيماناً مُختلفاً، نُلاحظ أنّ عديداً من العلماء ورجال الدّين المُعاصرين قد غيّروا من توجّهات وتقنيّات أبحاثهم وخطابهم، فبعد أن كان الأولون يبحثون في الفوارق مع الآخر في ما يُشبه السّعي الدّائم إلى تبرير وإثبات الهُوِّية المستقلّة لمذهبهم، وقد يكون ذلك خدمة للمسارات السياسيّة حينها، نرى أن توجّهات المعاصرين ركّزت على المساحات المشتركة بين المذاهب والأديان، وكذلك ركّزت على استنباط القيم الإنسانيّة المُشتركة المودوعة فيها، واقتنع معظم رجال الدّين المُتنورين أنّ خطابهم يعبّر عن إرادتهم هم وليس عن إرادة الدّين، فالكتب الدينيّة المُقدّسة لم تُكتب دفعة واحدة بل نزلت أو كُتبت بترتيب زمنيّ مُعَيّن مع تسلسل الأحداث، ويمكن لرجل الدّين أن يقرأ من الكتاب ما يتوافق مع إرادته ونيَّته، فإنْ شاء التقرُّب من الآخر المُخلتف وجد ما يسانده، وإن شاء إقصاءً ورفضًا وجد أيضا ما يسانده.
فيما يتعلّق بنهج طائفة المُوَحِّدين الدّروز تحتمل هذه المقالة أن أذكر ما فهمته واكتسبته من متابعة عُلَمائها وشيوخها تحت ثلاثة عناوين:
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين،
2- المسلك العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتّنوُّع،
3- اِحترامُ الخيارات الشخصيّة للأفراد.
مع التّوضيح أنَّ ما يَرِدُ في هذه المقالة، خصوصاً في الجانب الدينيّ، ليس بالضّرورة موضع إجماع إذ لا يوجد نصٌ أو مصدر مَرجعيّ يُلزم أبناء المذهب بدراسته والالتزام به، وأتحمّل شخصيّاً مسؤوليّة بعض الاجتهادات والاستنتاجات التي قد لا يستحسنُها أو يوافق عليها غيري من المُفكّرين والباحثين الذين يجهدون مشكورين ومقدّرين في توضيح الالتباس المُزْمِن الذي يُحيط بفَهْم مجتمع المُوَحّدين الدّروز، والذي نتج عنه الكثير من الافتراء والقذف والتَّجنّي بحقّ هذه الطائفة على مُستويات عدة.
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين: يميل علماء المَسلك وشيوخه في التاريخ القديم والمُعاصر إلى حَثِّ الفرد على إصلاح نفسه طَوعاً، فلا إكراه في الدّين، ولم يسجِّل التّاريخ أيّة محاولة لرجل دين من طائفة الموحِّدين سعى إلى فرض العقائد الدّينيّة عبر استعمال القوّة أو السّلطة على أفراد مجتمعه، ولم يَسْعَ حتى الدُّعاة الأوائل في المسلك إلى استخدام السّلطة لفرض المَسلك الجديد. وذلك عن قناعة بالثَّابت المُشترك بين كُلِّ المذاهب والأديان أنَّ وصايا الله هي الرّحمة والمَحبَّة، وليس القتل والإلغاء. وما أدلّ على سِعَة رحمة الله إلَّا قوله تعالى: “إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرُهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”، ورغم اعتبار بعض العلماء والمُفسّرين أنَّ هذه الآية قد نُسِخَت بغير آية، إلّا أنَّها تبقى نصّاً مقدّساً لا يُمكن تجاهُلُه، يكفل أنّ من يعمل خيراً وصالحاً ويؤمن بالحساب فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، خصوصاً أنّ العديد من الآيات أشارت إلى أنَّ العدل الإلهيَّ لا محالة يعكس أعمال المرء إليه، مع رحمةٍ وعفوٍ من الله لمن يشاء، كقوله تعالى: “وما أصابكم من مُصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”، وكذلك قوله: “فمن يعملْ مثقالَ ذرَّة خيراً يَرَهْ ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يَرَه”، أو قوله: “ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسِك”. وانطلاقاً من هذا الإيمان فقد صار لازماً على الموحد أن يسعى لإصلاح نفسه ولجم جموحها، وبصلاحها يصطلح المجتمع لأنّ صلاح الجزء يساهم في صلاح الكُلّ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر لا يُخوِّلان العبدَ أنْ يَحكُم على عبد آخر ويُصدر الأحكام عليه إلّا مَنْ كان قاضياً أو والياً يحكم بموجب القانون والشّرع على الأفعال لا على النيّات. وأقصى عقوبة دينيّة تحلّ بالمُلتزم دينيّاً إذا بَدَرَ منه ما يستوجب العقاب هو هجرانه دينيّاً وحِرمانه من حلقات الذّكر لفترة من الزَّمن، فيكون هذا دافعاً له على استشعار ذنبه وطلب التّوبة والاستغفار من ربِّ العالَمين.
2- المسلكُ العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتنوُّع: إنّ هذا المسلك يرتقي بالعقول والنّفوس لما له من دور في قمع الشّهوات، ومتى ما تهذّبت شهوة التسلُّط وما ينتج عنها من إلغاء معنوي ومادِّي للآخر فإن قَبُولَه سيصبح أمراً طبيعيّاً لا تَكلُّفَ فيه. كذلك فإنّ النظر إلى هذا الوجود كَتَجلٍّ لنور الحقيقة المُطلقة التي لا يخلو منها مكان ولا هي إلى مكان أقرب من مكان كما قال موسى عليه السلام، يُصبح مَحَبّةً وعِشْقا لأنَّه الكلمة التي تدلّ على المَعنى دون أن تكون هي هو. ويصبح النّظر إلى الإنسان الآخر كنظيرٍ في الخَلق كما قال الإمام علي (ع) أمراً إنسانيّاً طبيعيّاً، وتُصبح مُعاملة الناس بالتي هي أحسنُ سلوكاً دينيّاً وإنسانيّاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: “الخلقُ كلُّهم عيال الله وأحبُّ خَلْقه إليه أنفعهم لعياله”. اتِّباعا لهذا المسلك يرى الموحّدون الدّروز أنّ الوجود بأنظمته هو تنوُّعُهُ وألوانُه واختلافاتُه له معنًىً حقيقيٌّ واحدٌ لا يُمكن للعقل البشريّ أن يُحيطَ بكلِّيَّته، بل يُحيط بشيءٍ منه على مستوى العقل الطبيعيّ والغريزيّ، ويعرفُ من الماورائيّات على مستوى العقل المُكْتسَب والعقل الدّينيّ، فاللهُ “يُؤتي الحكمةَ من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خَيْراً كثيراً”، “وقَتَل داوودُ جالوتَ وآتاه الله المُلك والحكمة وعلَّمه ممّا يشاء”، وفي سورة آلِ عمرانَ خاطب الملاكُ مريمَ يُخبرُها عن عيسى: “ويعلِّمُه الكتابَ والحكمة والتّوراة والإنجيلَ”، وفي سورة لُقمانَ: “ولقد آتينا لقمان الحكمة أنِ اشكر الله”، وفي سورة الإسراء خاطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم: “ذلك ممّا أوحى إليك ربك من الحكمة”. يتجلّى معنى هذا الوجود للقلوب على مقدار صفائها وجلاء الرّان عنها وعلى مقدار ما تعقل من هذه الحكمة، والرّان هو حِجابٌ من الذنوب والمعاصي والانغماس بالماديّات تغلّف القلب فتَحُول بينه وبين استشعار الحقيقة، ويُصبح هذا القلب قاسياً لا يقبل اللّطائف ولا يزدجر عن النّواهي، وفي هذا المنحى قال تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه خاشعاً مُتَصدِّعا من خَشْية الله”، ومن لم يتخلّص من الرّان لا يصل إلى لبّ التّوحيد الذي هو الإحسان، وقد أجمع المسلمون أن الإسلام ثلاث مراتب: إسلام فإيمان فإحسان، والإحسان هو أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تَرَه فهو يراك. وبما أنّ رؤية الحقيقة الإلهيّة هي قِمّةُ النّعيم الذي وَعَدَنا تعالى بها، وجحيمه هو الحرمان من هذه الرُّؤية: “كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لَمحجوبون”، ممّا يدلُّ على أنَّ أهل الجنّة لن يكونوا عن ربّهم محجوبين، فصار نصيب الإنسان في الدّنيا هو رؤية انعكاسات الحكمة والتدبير الإلهيين في مخلوقاته، فيرى معنى الحقيقة في كلِّ ما يراه: “ولله المَشرق والمغرب فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله”.
أمّا على صعيد الأخلاق وكيفيّة انعكاس هذا المَسلك العِرفاني عليها، فبعد أن كَفل القرآن الكريم تنوّع واختلاف خَلقه مُحَدِّداً أنّ أقربهم إليه أتقاهم، اعتمد المُوَحّدون مبدأ اقتران حُسن النّتيجة بحُسن السّبب، وبهذا فإنّ حُسْنَ الإيمان وصدق العبادة لا بدَّ إلّا أنْ يُترجَم حُسناً في معاملة الآخرين، لذلك يُردِّد مشايخُنا وعلماؤنا قولاً مُختَصراً شدّد عليه الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد: “يُسْتدَلُّ على صِحّة دين المرء من صِحّة مُعاملته”، وهذا القول المُبَسّط يحمل روحيّة قول نبيِّنا الكريم “المُسلم مَن سَلِمَ الناس من يده ولسانه”، والتّديُّن والإيمان لا يتعارضان مع الأنظمة والقوانين الوضعيّة، فالدّين عند المسلمين كافّة هو شِقّان: عبادات ومُعاملات، أمّا العبادات فهي حقٌ لكلّ إنسان بموجب إيمانه وباعتبار أنَّ حرّية الإيمان مقدّسة، وكل طائفة تقوم بطقوسها كما تشاء. أمّا المُعاملات، وهي الشّقُّ الذي يتعلّق بالتّعامل مع الآخر، فهو يتوافق مع القوانين جملة وتفصيلاً خصوصاً لجهة حفظ الحقوق وعدم التعدِّي على حقوق الآخرين.
3- اِحترام الخيارات الشّخصيّة للأفراد:
وينطبق ذلك على أبناء المذهب وأبناء المذاهب الأُخرى:
֍ بالنّسبة لأبناء المذهب فقد اعتمد مَسلك التّوحيد في كثير من قضاياه مبادئ دون مسميّات، فالمُسَمّى قد يتغيَّر مع مرور الزّمن بينما المبدأ يبقى ثابتاً، فمن مبادئ التّحريم مثلاَ وقوع المُحَرّم تحت أحد هذه الخصائص الأربعة: إذهابُ العقل أو إذهابُ الصِحّة أو تبذير المال أو تبذير الوقت دون مردود أو منفعة، وتحت هذه الخصائص يقع التّدخين مثلاً، بكل أصنافه وأشكاله، لأنّه مُذهِبٌ للصحّة ومُذهِبٌ للمال ممّا يجعله مُحَرّماً عند المُوَحِّدين الدّروز حتى لو لم يوجد في القرآن الكريم والسنّة النبويّة ما يُحَرّمه، ومن اختراعات العصر الحديث مثلا المُفَرقعات الناريّة، ولا يوجد نصٌّ حولها لأنّه لم تكن موجودة، آن نزول النّص لكنّها تبذيرٌ للمال فجاز تحريمها.
أمّا في الأمور الحياتيّة فقد اعتمد المَسلك التّوحيديّ أيضاً في كثير من الجوانب التي تتعلّقُ بمرتبة وعلوّ درجة المُوَحّد مع ربّه في غير المطلوب ضمن دعائم الإسلام، اعتمد وضع قواعد مُثلى دون أن يحدّد التفاصيل وعتبة الاجتياز، فتكون درجة الموحّد وعلوّ شأنه أمام ربه على مقدار اقترابه من هذه القاعدة المُثلى، كعلاقة العقل بالشّهوة مثلا، فمن غَلَبَ عقلُه شهوتَه تقرّب وتشبَّه بالملائكة، ومن غلبَت شهوتُه عقلَه انحدر في إنسانيَّته نحو الغرائزيّة. انطلاقاً من هذه المبادئ وهذه القواعد يَحْترم رجال الدِّين خيارات الفرد الشّخصيّة لأنّه هو وحده من يحمل وِزْرَ أعماله من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الله عز وجلّ وحدَه يعلم أسباب ودوافع الفرد في خياراته، لذلك يكتفي رجل الدّين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر، باستثناء ما يُنظّمه قانون الأحوال الشّخصيّة كالزَّواج والميراث، وكذلك الدّور المعنويّ في التّوجيه الأخلاقيّ الاجتماعي والوطني العامّ. مع الإشارة إلى أنّ الكثير من العادات الاجتماعيّة المعروفيّة الموجودة حاليّاً بنسب متفاوتة بين مِنْطقة وأُخرى تختلط على الباحثين فيعتبرونَها دينيّة.
֍ بالنّسبة لأبناء المذاهب والأديان الأُخرى فالتّوجّه منذ البداية كان احترام عقائد الآخرين احتراماً تامّاً دون الدّخول في مُناظرات أو مُقارنات أو نقاشات، فكلّ ما يُشوّش إيمان الآخر أو يُوصِل إلى نزاعات يُعتَبرُ مكروهاً غير مرغوب فيه. ومن واجبات الموحّد أن يلتزم بمراتب الإسلام الثّلاث ولا يكتفي بالتزام المَسلك العِرفاني الذي نشأ متأثِّرا بمرتبة الإحسان، فالإحسانُ لا وصولَ إليه إلّا من الإيمان، والإيمان لا وصول إليه إلّا من الإسلام، فالإسلام هو جذع الشّجرة والإيمان أغصانُها والإحسان ثمارُها. ولا يجني الثّمرَ من أهمل الأغصان والجذع، وقد ذكّر وحسم بذلك الأمير السيّد جمال الدّين عبدالله التنّوخي وكذلك الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد وضوحاً وصراحةً، وتشدَّدا على من عاصرهما للالتزام التامّ في ذلك. والالتزام بهذه المراتب فعليّاً يعني الالتقاء مع الأمّة قِيَمِيّاً وروحيّاً دون أن تكون خصوصيّة أيّ مذهب أو دين سبباً للنّزاع أو التّفتّت.
وفي الختام يمكن أن أوجز انعكاس ما حاولت إيضاحه في هذا النّص عن مُجتمع الموحّدين الدّروز وأخلاقيّاتهم على سلوك أبرز القادة السّياسييِّن ونُصرة الموحّدين المعروفييِّن لهم في التّاريخ المُعاصر، فبعد أن امتلأت ذاكرة التّاريخ ببطولاتهم وتضحياتهم في الدّفاع عن ثغور بلاد الشّام، واستبسالهم في قطع طرق الإفرنج نحو القدس على مدى عقود، فقد تصدّر سلطان باشا الأطرش صفحات تاريخ جبل العرب في مطلع القرن العشرين في مواجهة الانتداب، ولُقِّبَ الأميرُ شكيب أرسلان بفتى الثَّورات العربيّة التي أوصلت الدّول العربيّة إلى استقلالها من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربيّة، ولا زال التقدّمي المُتَصَوِّف كمال جنبلاط أبرز شهيد للقضيّة الفلسطينيّة التي ما برحت تنزف مدى ستِّين عاماً. نعم كُلّهم يحملون من مبادئ مسلك التّوحيد وخِصاله، وتجري في عروقهم نخوة المعروفييِّن المجاهدين، يَدعون إلى التّعاضُد والتّعالي عن الانقسامات والحِسابات المذهبيَّة التي تُشكل أقوى سلاح يستعمله الأعداء والمتربِّصون، ولم تُشكلْ خصوصيّة مذهبهم حائلاً أمام انفتاحهم على الآخرين فكانوا رِيادييِّن في الدّفاع عن قضايا المِنطقة لا سبباً في تفتيت نسيجها كما يُرَوّج بعض المُتَشَدِّدين الإلغائييِّن الذين مازالوا يتوهّمون بأنّ ضَعفَ الأُمّة سببُه التنوُّع في مجتمعاتها.