الجمعة, آذار 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, آذار 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الحوار واحترام الآخر في ثقافة الموحدين الدروز

الحوار واحترام الآخر
في ثقافة الموحدين الدروز

دَخَلتْ في أحاديثنا الاجتماعيّة اليوميّة، السياسيّةُ منها والدينيّةُ، مُصطلحات مثل الحوار واحترام الآخر وقبول الآخر وغيرها، مُصطلحات عامّة تجري على ألسنة البعض دون أن يكون لها أيّ انعكاس أو مفعول في أدائهم الدّينيّ أو السياسيّ، فمنهم من يعتبرها مبادئ غير قابلة للحياة أو التّحقُّق في زمن التّعصّب والعنف والتّخندق المذهبيّ أو الدينيّ ممّا يجعلها مُجَمِّلات خطابيّة ليس أكثر، ومنهم من يعتبرها غطاء أو ممرّاً لتغطية استيراد المفاهيم الغريبة عن المجتمعات أو ذريعة لزيادة الآراء والاختلافات التي تساهم في تفتيت النّسيج الاجتماعيّ. أمّا عند البعض الآخر فقد تحوّلت هذه المُصطلحات إلى ما يوازي القضيّة من حيث الأهميّة باعتبارها دواء ناجعاً يساهم في نهضة المُجتمع دون الحاجة إلى إلغاء أو تهميش أي مُكوّن من مكوّناته.
وكتمهيد نظريّ للخوض في موضوع الحوار واحترام الآخر عند الموحّدين الدّروز، لا بدّ من توضيح أنّ كلّ اعتبار من الاعتبارات التي سبق ذكرها له من الأسباب ما يبرّره، وقد يكون تفضيل أيّ اعتبار على الآخر دون دِراية وفَهْم للطّبيعة البشريّة وتطوّرها تفضيلاً يخضع للمشاعر والمصالح، فالانفتاح والحوار يلزمه بعض الشّروط ليكون نافعاً ومُنتجاً:
֍ أوّلُها معرفة الإنسان لنفسه، وقد غاص الفلاسفة والمفكّرون منذ التاريخ القديم وصولاً إلى المفكّرين المُعاصرين في التّحليل والتّعليل حول ذلك، فقد تكون أَشهر حكمة وأقصرها وصلت إلينا عن أرسطو أحد أكبر الفلاسفة القدماء الذين بصموا حياة البشرية بفكرهم وأخلاقهم هي قوله: اِعرف نفسَك، وقد تُختَصر رائعة فريد الدين العطار التي جَسّدها في كتابه “منطق الطّير” وصف مشقّة الطّريق إلى الحقيقة والتي كلّفت طيور السّيمرغ كلّ أصناف الاحتمال والعذاب في طريقها إلى “جبل قاف”، تُختَصر في أنّهم وجدوا الحقيقة في انعكاس صورهم وحقيقتهم بوجهها الكماليّ. فمن لم يعرف نفسه سيبقى خائفاً من غيره لا مَحالة، وسيلجأ إلى تنمية العصبيّة الفرديّة والجماعيّة لفرض سياج حول نفسه لا يخترقه منطق أو حقيقة.
֍ ثانيها معرفة الإنسان لغيره، فلا حِوارَ دون احترام، ولا يُمكن واقعيّاً احترام الآخر دون معرفته ومعرفة حدود خصوصيّته، ولعلّ أحدث نصٍّ تشريعيّ صدر على نطاق عالميّ يكفل هذا الحق هو ما ورد في الفقرة الثّانية من المادة التّاسعة والعشرين من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
֍ ثالثها وليس آخرها قناعة الفرد أو الجماعة بأنّ التّنوُّع في كلّ أشكاله هو سرٌّ من أسرار الوجود، وهو حقيقة لا يستطيع عاقل أن يتجاهلها، ومن أكثر الآيات ترداداً قوله تعالى في كتابه العزيز: “يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا أنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. وفي الجانب الفلسفي والوجودي فإنّ الحركة هي ضدّ الجمود، ولذلك يقوم الكون من أصغر جزئياته إلى أكبرها على الثنائيّات أو الثلاثيّات أو غيرها، تتحرّك ضمن القوانين الفيزيائيّة ممّا يخلق التوازنات التي تكفل ديمومة الحياة وعدم جمودها.
أمّا تاريخيا، فقد طوّرت معظم المذاهب والأديان خطابها في القرون الأخيرة خصوصاً في القرن العشرين، الظاهريّ منه على الأقل، وانتقلت من المناداة بحصريّة الحقيقة عبر طُرُقها ومؤسّساتها إلى إمكانية خلاص الآخر بصلاح عمله ولو كان يحمل إيماناً مُختلفاً، نُلاحظ أنّ عديداً من العلماء ورجال الدّين المُعاصرين قد غيّروا من توجّهات وتقنيّات أبحاثهم وخطابهم، فبعد أن كان الأولون يبحثون في الفوارق مع الآخر في ما يُشبه السّعي الدّائم إلى تبرير وإثبات الهُوِّية المستقلّة لمذهبهم، وقد يكون ذلك خدمة للمسارات السياسيّة حينها، نرى أن توجّهات المعاصرين ركّزت على المساحات المشتركة بين المذاهب والأديان، وكذلك ركّزت على استنباط القيم الإنسانيّة المُشتركة المودوعة فيها، واقتنع معظم رجال الدّين المُتنورين أنّ خطابهم يعبّر عن إرادتهم هم وليس عن إرادة الدّين، فالكتب الدينيّة المُقدّسة لم تُكتب دفعة واحدة بل نزلت أو كُتبت بترتيب زمنيّ مُعَيّن مع تسلسل الأحداث، ويمكن لرجل الدّين أن يقرأ من الكتاب ما يتوافق مع إرادته ونيَّته، فإنْ شاء التقرُّب من الآخر المُخلتف وجد ما يسانده، وإن شاء إقصاءً ورفضًا وجد أيضا ما يسانده.
فيما يتعلّق بنهج طائفة المُوَحِّدين الدّروز تحتمل هذه المقالة أن أذكر ما فهمته واكتسبته من متابعة عُلَمائها وشيوخها تحت ثلاثة عناوين:
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين،
2- المسلك العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتّنوُّع،
3- اِحترامُ الخيارات الشخصيّة للأفراد.

مع التّوضيح أنَّ ما يَرِدُ في هذه المقالة، خصوصاً في الجانب الدينيّ، ليس بالضّرورة موضع إجماع إذ لا يوجد نصٌ أو مصدر مَرجعيّ يُلزم أبناء المذهب بدراسته والالتزام به، وأتحمّل شخصيّاً مسؤوليّة بعض الاجتهادات والاستنتاجات التي قد لا يستحسنُها أو يوافق عليها غيري من المُفكّرين والباحثين الذين يجهدون مشكورين ومقدّرين في توضيح الالتباس المُزْمِن الذي يُحيط بفَهْم مجتمع المُوَحّدين الدّروز، والذي نتج عنه الكثير من الافتراء والقذف والتَّجنّي بحقّ هذه الطائفة على مُستويات عدة.
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين: يميل علماء المَسلك وشيوخه في التاريخ القديم والمُعاصر إلى حَثِّ الفرد على إصلاح نفسه طَوعاً، فلا إكراه في الدّين، ولم يسجِّل التّاريخ أيّة محاولة لرجل دين من طائفة الموحِّدين سعى إلى فرض العقائد الدّينيّة عبر استعمال القوّة أو السّلطة على أفراد مجتمعه، ولم يَسْعَ حتى الدُّعاة الأوائل في المسلك إلى استخدام السّلطة لفرض المَسلك الجديد. وذلك عن قناعة بالثَّابت المُشترك بين كُلِّ المذاهب والأديان أنَّ وصايا الله هي الرّحمة والمَحبَّة، وليس القتل والإلغاء. وما أدلّ على سِعَة رحمة الله إلَّا قوله تعالى: “إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرُهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”، ورغم اعتبار بعض العلماء والمُفسّرين أنَّ هذه الآية قد نُسِخَت بغير آية، إلّا أنَّها تبقى نصّاً مقدّساً لا يُمكن تجاهُلُه، يكفل أنّ من يعمل خيراً وصالحاً ويؤمن بالحساب فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، خصوصاً أنّ العديد من الآيات أشارت إلى أنَّ العدل الإلهيَّ لا محالة يعكس أعمال المرء إليه، مع رحمةٍ وعفوٍ من الله لمن يشاء، كقوله تعالى: “وما أصابكم من مُصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”، وكذلك قوله: “فمن يعملْ مثقالَ ذرَّة خيراً يَرَهْ ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يَرَه”، أو قوله: “ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسِك”. وانطلاقاً من هذا الإيمان فقد صار لازماً على الموحد أن يسعى لإصلاح نفسه ولجم جموحها، وبصلاحها يصطلح المجتمع لأنّ صلاح الجزء يساهم في صلاح الكُلّ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر لا يُخوِّلان العبدَ أنْ يَحكُم على عبد آخر ويُصدر الأحكام عليه إلّا مَنْ كان قاضياً أو والياً يحكم بموجب القانون والشّرع على الأفعال لا على النيّات. وأقصى عقوبة دينيّة تحلّ بالمُلتزم دينيّاً إذا بَدَرَ منه ما يستوجب العقاب هو هجرانه دينيّاً وحِرمانه من حلقات الذّكر لفترة من الزَّمن، فيكون هذا دافعاً له على استشعار ذنبه وطلب التّوبة والاستغفار من ربِّ العالَمين.

2- المسلكُ العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتنوُّع: إنّ هذا المسلك يرتقي بالعقول والنّفوس لما له من دور في قمع الشّهوات، ومتى ما تهذّبت شهوة التسلُّط وما ينتج عنها من إلغاء معنوي ومادِّي للآخر فإن قَبُولَه سيصبح أمراً طبيعيّاً لا تَكلُّفَ فيه. كذلك فإنّ النظر إلى هذا الوجود كَتَجلٍّ لنور الحقيقة المُطلقة التي لا يخلو منها مكان ولا هي إلى مكان أقرب من مكان كما قال موسى عليه السلام، يُصبح مَحَبّةً وعِشْقا لأنَّه الكلمة التي تدلّ على المَعنى دون أن تكون هي هو. ويصبح النّظر إلى الإنسان الآخر كنظيرٍ في الخَلق كما قال الإمام علي (ع) أمراً إنسانيّاً طبيعيّاً، وتُصبح مُعاملة الناس بالتي هي أحسنُ سلوكاً دينيّاً وإنسانيّاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: “الخلقُ كلُّهم عيال الله وأحبُّ خَلْقه إليه أنفعهم لعياله”. اتِّباعا لهذا المسلك يرى الموحّدون الدّروز أنّ الوجود بأنظمته هو تنوُّعُهُ وألوانُه واختلافاتُه له معنًىً حقيقيٌّ واحدٌ لا يُمكن للعقل البشريّ أن يُحيطَ بكلِّيَّته، بل يُحيط بشيءٍ منه على مستوى العقل الطبيعيّ والغريزيّ، ويعرفُ من الماورائيّات على مستوى العقل المُكْتسَب والعقل الدّينيّ، فاللهُ “يُؤتي الحكمةَ من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خَيْراً كثيراً”، “وقَتَل داوودُ جالوتَ وآتاه الله المُلك والحكمة وعلَّمه ممّا يشاء”، وفي سورة آلِ عمرانَ خاطب الملاكُ مريمَ يُخبرُها عن عيسى: “ويعلِّمُه الكتابَ والحكمة والتّوراة والإنجيلَ”، وفي سورة لُقمانَ: “ولقد آتينا لقمان الحكمة أنِ اشكر الله”، وفي سورة الإسراء خاطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم: “ذلك ممّا أوحى إليك ربك من الحكمة”. يتجلّى معنى هذا الوجود للقلوب على مقدار صفائها وجلاء الرّان عنها وعلى مقدار ما تعقل من هذه الحكمة، والرّان هو حِجابٌ من الذنوب والمعاصي والانغماس بالماديّات تغلّف القلب فتَحُول بينه وبين استشعار الحقيقة، ويُصبح هذا القلب قاسياً لا يقبل اللّطائف ولا يزدجر عن النّواهي، وفي هذا المنحى قال تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه خاشعاً مُتَصدِّعا من خَشْية الله”، ومن لم يتخلّص من الرّان لا يصل إلى لبّ التّوحيد الذي هو الإحسان، وقد أجمع المسلمون أن الإسلام ثلاث مراتب: إسلام فإيمان فإحسان، والإحسان هو أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تَرَه فهو يراك. وبما أنّ رؤية الحقيقة الإلهيّة هي قِمّةُ النّعيم الذي وَعَدَنا تعالى بها، وجحيمه هو الحرمان من هذه الرُّؤية: “كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لَمحجوبون”، ممّا يدلُّ على أنَّ أهل الجنّة لن يكونوا عن ربّهم محجوبين، فصار نصيب الإنسان في الدّنيا هو رؤية انعكاسات الحكمة والتدبير الإلهيين في مخلوقاته، فيرى معنى الحقيقة في كلِّ ما يراه: “ولله المَشرق والمغرب فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله”.

أمّا على صعيد الأخلاق وكيفيّة انعكاس هذا المَسلك العِرفاني عليها، فبعد أن كَفل القرآن الكريم تنوّع واختلاف خَلقه مُحَدِّداً أنّ أقربهم إليه أتقاهم، اعتمد المُوَحّدون مبدأ اقتران حُسن النّتيجة بحُسن السّبب، وبهذا فإنّ حُسْنَ الإيمان وصدق العبادة لا بدَّ إلّا أنْ يُترجَم حُسناً في معاملة الآخرين، لذلك يُردِّد مشايخُنا وعلماؤنا قولاً مُختَصراً شدّد عليه الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد: “يُسْتدَلُّ على صِحّة دين المرء من صِحّة مُعاملته”، وهذا القول المُبَسّط يحمل روحيّة قول نبيِّنا الكريم “المُسلم مَن سَلِمَ الناس من يده ولسانه”، والتّديُّن والإيمان لا يتعارضان مع الأنظمة والقوانين الوضعيّة، فالدّين عند المسلمين كافّة هو شِقّان: عبادات ومُعاملات، أمّا العبادات فهي حقٌ لكلّ إنسان بموجب إيمانه وباعتبار أنَّ حرّية الإيمان مقدّسة، وكل طائفة تقوم بطقوسها كما تشاء. أمّا المُعاملات، وهي الشّقُّ الذي يتعلّق بالتّعامل مع الآخر، فهو يتوافق مع القوانين جملة وتفصيلاً خصوصاً لجهة حفظ الحقوق وعدم التعدِّي على حقوق الآخرين.

3- اِحترام الخيارات الشّخصيّة للأفراد:
وينطبق ذلك على أبناء المذهب وأبناء المذاهب الأُخرى:
֍ بالنّسبة لأبناء المذهب فقد اعتمد مَسلك التّوحيد في كثير من قضاياه مبادئ دون مسميّات، فالمُسَمّى قد يتغيَّر مع مرور الزّمن بينما المبدأ يبقى ثابتاً، فمن مبادئ التّحريم مثلاَ وقوع المُحَرّم تحت أحد هذه الخصائص الأربعة: إذهابُ العقل أو إذهابُ الصِحّة أو تبذير المال أو تبذير الوقت دون مردود أو منفعة، وتحت هذه الخصائص يقع التّدخين مثلاً، بكل أصنافه وأشكاله، لأنّه مُذهِبٌ للصحّة ومُذهِبٌ للمال ممّا يجعله مُحَرّماً عند المُوَحِّدين الدّروز حتى لو لم يوجد في القرآن الكريم والسنّة النبويّة ما يُحَرّمه، ومن اختراعات العصر الحديث مثلا المُفَرقعات الناريّة، ولا يوجد نصٌّ حولها لأنّه لم تكن موجودة، آن نزول النّص لكنّها تبذيرٌ للمال فجاز تحريمها.

أمّا في الأمور الحياتيّة فقد اعتمد المَسلك التّوحيديّ أيضاً في كثير من الجوانب التي تتعلّقُ بمرتبة وعلوّ درجة المُوَحّد مع ربّه في غير المطلوب ضمن دعائم الإسلام، اعتمد وضع قواعد مُثلى دون أن يحدّد التفاصيل وعتبة الاجتياز، فتكون درجة الموحّد وعلوّ شأنه أمام ربه على مقدار اقترابه من هذه القاعدة المُثلى، كعلاقة العقل بالشّهوة مثلا، فمن غَلَبَ عقلُه شهوتَه تقرّب وتشبَّه بالملائكة، ومن غلبَت شهوتُه عقلَه انحدر في إنسانيَّته نحو الغرائزيّة. انطلاقاً من هذه المبادئ وهذه القواعد يَحْترم رجال الدِّين خيارات الفرد الشّخصيّة لأنّه هو وحده من يحمل وِزْرَ أعماله من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الله عز وجلّ وحدَه يعلم أسباب ودوافع الفرد في خياراته، لذلك يكتفي رجل الدّين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر، باستثناء ما يُنظّمه قانون الأحوال الشّخصيّة كالزَّواج والميراث، وكذلك الدّور المعنويّ في التّوجيه الأخلاقيّ الاجتماعي والوطني العامّ. مع الإشارة إلى أنّ الكثير من العادات الاجتماعيّة المعروفيّة الموجودة حاليّاً بنسب متفاوتة بين مِنْطقة وأُخرى تختلط على الباحثين فيعتبرونَها دينيّة.
֍ بالنّسبة لأبناء المذاهب والأديان الأُخرى فالتّوجّه منذ البداية كان احترام عقائد الآخرين احتراماً تامّاً دون الدّخول في مُناظرات أو مُقارنات أو نقاشات، فكلّ ما يُشوّش إيمان الآخر أو يُوصِل إلى نزاعات يُعتَبرُ مكروهاً غير مرغوب فيه. ومن واجبات الموحّد أن يلتزم بمراتب الإسلام الثّلاث ولا يكتفي بالتزام المَسلك العِرفاني الذي نشأ متأثِّرا بمرتبة الإحسان، فالإحسانُ لا وصولَ إليه إلّا من الإيمان، والإيمان لا وصول إليه إلّا من الإسلام، فالإسلام هو جذع الشّجرة والإيمان أغصانُها والإحسان ثمارُها. ولا يجني الثّمرَ من أهمل الأغصان والجذع، وقد ذكّر وحسم بذلك الأمير السيّد جمال الدّين عبدالله التنّوخي وكذلك الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد وضوحاً وصراحةً، وتشدَّدا على من عاصرهما للالتزام التامّ في ذلك. والالتزام بهذه المراتب فعليّاً يعني الالتقاء مع الأمّة قِيَمِيّاً وروحيّاً دون أن تكون خصوصيّة أيّ مذهب أو دين سبباً للنّزاع أو التّفتّت.

وفي الختام يمكن أن أوجز انعكاس ما حاولت إيضاحه في هذا النّص عن مُجتمع الموحّدين الدّروز وأخلاقيّاتهم على سلوك أبرز القادة السّياسييِّن ونُصرة الموحّدين المعروفييِّن لهم في التّاريخ المُعاصر، فبعد أن امتلأت ذاكرة التّاريخ ببطولاتهم وتضحياتهم في الدّفاع عن ثغور بلاد الشّام، واستبسالهم في قطع طرق الإفرنج نحو القدس على مدى عقود، فقد تصدّر سلطان باشا الأطرش صفحات تاريخ جبل العرب في مطلع القرن العشرين في مواجهة الانتداب، ولُقِّبَ الأميرُ شكيب أرسلان بفتى الثَّورات العربيّة التي أوصلت الدّول العربيّة إلى استقلالها من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربيّة، ولا زال التقدّمي المُتَصَوِّف كمال جنبلاط أبرز شهيد للقضيّة الفلسطينيّة التي ما برحت تنزف مدى ستِّين عاماً. نعم كُلّهم يحملون من مبادئ مسلك التّوحيد وخِصاله، وتجري في عروقهم نخوة المعروفييِّن المجاهدين، يَدعون إلى التّعاضُد والتّعالي عن الانقسامات والحِسابات المذهبيَّة التي تُشكل أقوى سلاح يستعمله الأعداء والمتربِّصون، ولم تُشكلْ خصوصيّة مذهبهم حائلاً أمام انفتاحهم على الآخرين فكانوا رِيادييِّن في الدّفاع عن قضايا المِنطقة لا سبباً في تفتيت نسيجها كما يُرَوّج بعض المُتَشَدِّدين الإلغائييِّن الذين مازالوا يتوهّمون بأنّ ضَعفَ الأُمّة سببُه التنوُّع في مجتمعاتها.

اخلاقيات الاعلام في لبنان بين الممارسة و التنظيم

عندما تنوي الحديث عن واقع أخلاقيات الإعلام، أول ما يستوقفك مشهد الناس في المقاهي والتجمعات ووسائل النقل وصالات الانتظار والاماكن الاخرى، وهم منهمكون بحواسيبهم وهواتفهم النقّالة، غير آبه اي فرد منهم بمن وما يحيط به، وتصدمك من ناحية ثانية، اجابة “لا اعرف “على سؤال “ما هي الاخلاق؟” لبومهارت، أحد علماء الاجتماع، من قبل مجموعة وازنة من أبرز اصحاب المؤسسات المختلفة ورجال الاعمال المعاصرين (1).
يدفع هذا المشهد الاتصالي وهذه الاجابة عن الاخلاق الى مراجعة نقدية لمحدّدات وتعريفات ومبادئ الاخلاق والاعلام او ما يعرف بأخلاقيات الاعلام، ومقاربة هذه المفاهيم والمحدّدات مع الواقع الاعلامي في لبنان ومدى التزامه بالاخلاقيات المنصوص عنها او المتعارف عليها، والتعرّف على الاسباب الكامنة وراء الانتهاكات المفترضة لاخلاقيات الاعلام، ومحاولة تصويب وتوضيح بعض النقاط الملتبسة وايجاد بعض الافكار التي قد تفيد او تساهم على الاقل، في تخفيف حدة هذه الانتهاكات.
ان الغاية من اخلاقيات الاعلام في اي مكان، هي حماية المجتمع وكذلك المؤسسات الاعلامية والعاملين في المجال الاعلامي من الانحراف والممارسات غير الاخلاقية (تجاوز آداب الكلام والملابس)، وذلك من خلال وضع ضوابط وقواعد ومعايير اخلاقية لسلوك المؤسسات الاعلامية وشروط ممارسة اعمالها. وهذه الشروط والمعايير تشكل جزءا من الفكر والوعي الاخلاقي(2)، الذي تسترشد المؤسسات الاعلامية به اثناء قيامها بعملها وممارستها لدورها، ويقيّم السلوك الاخلاقي للمؤسسة الاعلامية بمقارنة وعيها الاخلاقي مع ادائها وواقعها العملي.

 يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان حوالي اربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني
يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان حوالي اربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني

الوعي الاخلاقي للاعلام اللبناني
( مبادئ وافكار ومواثيق اخلاقية)
ان اخلاقيات الاعلام هي مجموعة اخلاق اعلامية جامعة، متنوعة ومتفاعلة ضمن مكوّن الاخلاقيات، وتتضمن اخلاقا اعلامية عامة (النزاهة والصدق والامانة والاخلاص..) ومبادئ مهنية لا يمكن فصلها عن الاخلاقيات مثل الموضوعية، المسؤولية، الاستقلالية، الجرأة … وعدم التفريط بحق الاعلام كسلطة رابعة في مراقبة السلطات الاخرى ومواكبة المسائل والقضايا التي تهم الناس و”تعبر عن ميولهم وروحهم وعقليتهم واتجاهاتهم” (3).
وتضمنت اول شرعة لبنانية للاخلاق المهنية الصحفية (1974)” تتجنب المطبوعة نشر المواد التي من شانها تشجيع الرذيلة والجريمة…وتتجنب نشر الانباء غير الموثوق بصحتها…والتعصب واثارة النعرات وتتحاشى القدح والذم والتحقير… وتتجنّب عدم الافتراء والاتهام الباطل … والشتم والتهويل والابتزاز…وتعتبر المصلحة العامة قبل السبق الصحافي … ولا تلجأ الصحف الى وسائل غير مشروعة لاقتناص المعلومات، والحرص على عدم البوح بمصادر المعلومات ، و احترام خصوصيات الافراد والجماعات” … كما ركز اول ميثاق شرف تضعه وسائل الاعلام المرئية والمسموعة(1992) على “التزام الرقابة الذاتية وما يضمن عدم المس بالاخلاق والاداب العامة..”(4).
تشمل اخلاقيات الاعلام ايضا، أخلاقا اعلامية وطنية وسياسية او خطوطاً حمراء اعلامية (5) مثل (عدم بث او نشر ما يعكّر الاستقرار والسلامة العامة، عدم بث ونشر ما يثير النعرات الطائفية والعنصرية، عدم التعرض لكل ما يعرّض لبنان الدولة ووحدتها وسيادتها وحدودها، وما يعكر علاقات لبنان الخارجية، وكل ما يلحق الاذى بمعنويات القوى المسلحة ولا سيما خلال الحرب، وكل ما يمس بكرامة الرؤساء والمرجعيات…(6)
وهناك اخلاق اجتماعية وثقافية للإعلام، مثل: (المسؤولية الاجتماعية والاخلاقية عن كل ما يصدر من مواد وبرامج اعلامية، وعدم بث او نشر كل ما يمس او يتعلق بخصوصيات الافراد والامن العائلي، والمعتقدات والاديان) واخلاق اعلامية قانونية وادارية مثل: (الامتناع عن نشر وبث تحقيقات او قرارات سياسية وادارية وحكومية قبل ان تعلن رسميا، وعدم نشر او بث وقائع تحقيقات التفتيش المركزي المالي والعدلي السرية الطابع). (7)
مظاهر ازمة الاخلاقيات المتفاقمة: عندما ننتقل الى مرحلة المقارنة بين مستوى الفكر والوعي الاخلاقي للإعلام في لبنان، ومستوى السلوك الاخلاقي من جهة ثانية، يرتسم امامنا مشهد مقلق لأخلاقيات الاعلام بمختلف مكوناتها: فعلى مستوى الاداء السياسي للاعلام تكثر الحريات الاعلامية والصحفية، وتغيب الصحافة الحرة والمستقلة في ضؤ غياب التمويل الذاتي الذي دفع الاعلام الى موقع المرتهن للقوى السياسية والطائفية والمالية. وبدل ان ينقل الاعلام الى السياسة قيم الصدق والمكاشفة وقول الحقيقة، انتقلت امراض اهل السياسة الى الاعلام: اصطفافات طائفية … فسيفساء مذهبية، واصبحت وسائل الاعلام كجوقات الزجل او “كومبارس” لدى السياسيين في هذا الاتجاه او ذاك. (8)
وقد تحولت مقدمات الاخبار والبرامج السياسية الى صدى لقوى الامر الواقع، رعاة واصحاب المؤسسات الاعلامية، منتهكة بذلك مبادئ المسؤولية والموضوعية والاستقلالية وتجاوز الخطوط الحمراء، بتعرّض كثير من البرامج الاعلامية، الى سلامة البلاد وسيادتها ووحدتها، واثارة النعرات الطائفية (لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية في المحطات اللبنانية …) وأكثر من مرة اهتز الامن وانفلت الشارع وشارف على الانفجار بسبب برنامج تلفزيوني ساخر او فيديو الكتروني مسرب…
كما تأثّرت اخلاقيات الاعلام بتحوّل محطات التلفزة، الى منصّات متقابلة، متنافسة حينا ومتواجهة احيانا، تتقاذف الاتهامات والافتراءات من خلال البرامج السياسية العالية النبرة، و”الاسكتشات” الساخرة مثل (بسمات وطن، ما في متلو، كتير سلبي،…)، مع ما تستعمله هذه البرامج، من مفردات والفاظ وعبارات شارعيه، وصور ومشاهد وايحاءات بعيدة كل البعد، عن تقاليد الاعلام الرصين وتراث اللبنانيين واخلاقياتهم.
وعلى مستوى الاخلاق الاجتماعية والثقافية، هناك ظاهرة اعلامية تتجاوز الخطوط الحمراء ايضا، وتتمثل بتمادي الاعلام في لبنان، في “مسرحة” شاشات التلفزة، وذلك عن طريق نقل المسرحيات “الفاقعة” بإيحاءاتها الى البيوت والعائلات كما هي ومن دون اية مونتاج او “فلترة”. والامر ذاته يحصل مع بعض الفيديوهات التي تتداولها المواقع الالكترونية ويتلقفها الاعلام التلفزيوني من دون اية مراعاة للبعد الاخلاقي.

تحوّلت محطات التلفزة منصّات متقابلة، تتقاذف الاتهامات والافتراءات
تحوّلت محطات التلفزة منصّات متقابلة، تتقاذف الاتهامات والافتراءات

وتبيّن دراسة عن ثقافة المجتمع اللبناني الاستهلاكية (9)، انه مجتمع استهلاكي بامتياز، يعيش”هوس الاستهلاك” الذي تعود اسبابه الى تزايد دور سياسات الترويج والاعلان المعتمدة من قبل شركات الانتاج والتوزيع. فاللبناني بحسب هذه الدراسة يصرف الغالي والنفيس من اجل شراء تلفزيون وفيديو او جهاز خليوي، لكنه ضعيف في استهلاكه الثقافي الاساسي، وبالإمكان القول انه يعيش “تنبلة” ثقافية مزمنة.
وتبيّن الدراسة نفسها ان اغلب المستجوبين افادوا بان مستواهم التعليمي هو جامعي وان 93% منهم من محبي المطالعة، بينما تسجل المكتبات العامة ما يشبه الكساد وتشكو اسواق معارض الكتب من قلة المشترين. وهذا ما يفسر رواج “البرستيج” / المظهر/ الذي تساهم وسائل الاعلام والاعلان في ترسيخه وتنميطه، كأحد اهم دوافع الاستهلاك عند اللبنانيين.

ميثاق الشرف الإعلامي الذي أطلقته المواقع الالكترونية اللبنانية في 3 شباط/فبراير 2016 وتناول المبادئ العامة لعملها، فهل يُعمل به؟
ميثاق الشرف الإعلامي الذي أطلقته المواقع الالكترونية اللبنانية
في 3 شباط/فبراير 2016 وتناول المبادئ العامة لعملها، فهل يُعمل به؟

 

يبلغ عدد المستخدمين للانترنت في لبنان نحو أربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%

لقد أصبح الاعلان في الاعلام اللبناني صناعة همها فقط، الربح على حساب الضوابط الثقافية والاخلاقية. وزادت نسبة التلوث البصري الذي يسببه الاعلان (المعدل العالمي للاعلان 6 دقائق في الساعة وفي لبنان 14,5 د بالساعة) هذا بالإضافة الى فوضى الملصقات واللوحات الاعلانية المنتشرة في كل مكان. وبيّنت دراسة احصائية للإعلان على احدى محطات التلفزة اللبنانية: بث 123 اعلان بـ 58 د، خلال 4 ساعات بث تلفزيوني. وتضمنّت هذه الاعلانات خمور 5 %، سجائر 6%، ظهور المرأة 84% ومشاهد وايحاءات جنسية. كما اظهرت هذه الدراسة تعرض 89,6% من الاطفال بصفة منتظمة لمثل هذه الاعلانات.(10)
ولا يقل اهمية، عن التلوث البصري، التلوث اللغوي الذي يسببه الاعلان. فقد بينّ استطلاع ميداني تضمنته دراسة بعنوان: اللغة الرديئة للإعلان: اشكالية التعبير(11)، ان أكثر من 59 % من افراد العينة اعتبروا ان الثقافة هي المتضرر الاول من تدهور اللغة التي تعتبر روح الثقافة. و76% يعتقدون ان الفئة العمرية الاكثر تاثرا باللغة الاعلانية هي ما بين 10الى 20سنة. ووصف 79 % من العينة اللغة المستخدمة في الاعلان بالرديئة والمهجّنة للغة العربية.
ففي خضم الزخم الاعلاني، اجتاحت الاعلانات لغة بات من الصعب تسميتها بالعربية، هي لغة هجينة تمزج بين العامية التي يتدنى مستواها احيانا الى السوقية، وبين الكتابة الخطأ وبين المزج بين اللغة العربية والاجنبية. ومن نماذج هذه اللغة:
ـ وطنك …ألبك …. بالألب يا وطن (قلبك) (12)
وكان بالإمكان ببساطة ترك النص كما هو في العربية: وطنك قلبك، بالقلب يا وطن.

لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية
لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية

ويضاف الى الاعلام الاعلاني وملوثاته، تلك البرامج والافلام الكثيرة التي تبدو في مظهرها مسلية وهادفة اجتماعيا، ولكن في الواقع، تحمل في طياتها شحنات ومشاهد ومواقف وقيما هدّامة وبالأخص لجيل المراهقين والشباب. ومن بين هذه البرامج تلك التي لم تكتف بالقليل من المشاهد الموحية، فراحت تلجأ الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة مثل برنامج (نقشت) على شاشة ال د س. وغيره.
كما ان هناك من المسلسلات التي تمتعّت باعلى “رايتنغ” مشاهدة في الموسمين، مثل مسلسل “الهيبة” على الام ت ف، والذي تجاوز كل الخطوط الحمر في اسقاطه لهيبة المجتمع والدولة امام هيبة شيخ الجبل، شيخ الحصن المنيع لتجارة المخدرات. “جبل” الذي أبرزه المسلسل كرجل جبار، وفاتن وجذاب وقادر رغم كل ارتكاباته وجرائمه، ان يفلت من قبضة الدولة والعدالة ويستمر شيخاً للجبل يخشاه الجميع. ولقد تجلّى الانتهاك الصارخ لأخلاقيات الاعلام بإظهار شخصية “جبل”، تاجر المخدرات، على صورة فارس نبيل ومقدام يدغدغ احلام ومخيلة الكبار والصغار.

يبقى الأخطر في هذا المجال، تصاعد تاثير الاعلام الالكتروني والتفاعلي الحديث، والانتشار السريع والكثيف للمواقع الالكترونية المحلية والعالمية، ومن بينها مواقع لا حسيب ولا رقيب على اصحابها والقيمين عليها، ولا قدرة على الضبط الكامل لعمليات تلقيها، وبالمقابل، غياب الجهود الجدية لمواجهة اخطارها، لا سيما وان هذه الوسائل الحديثة تتميز بالتفاعلية والانتشار غير المحدود و”بالتفتيت والفردانية واللاّتزامنية وقابلية التحميل والتحويل والتوصيل”(13).
وتشير الارقام الى انتشار الاعلام الالكتروني في لبنان بوتائر سريعة، ففي عام 2007 بلغ عدد المستخدمين للإنترنت باللغة العربية 28 مليون ونصف المليون، ومن بينهم 600 ألف مستخدم في لبنان اي نسبة 15,4% من عدد السكان(14)، واليوم، اي بعد 11 سنة تقريبا، يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان نحو اربعة ملايين مستخدم، أي نسبة 89,9% (15)، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني، الامر الذي بات يتطلب جهودا حثيثة وسريعة لمواكبة هذه التطور.
ومن المظاهر المعبرة عن ازمة الاخلاق المتفاقمة على مستوى القيم، دور اعلام الإنترنت والفيديو الذي يعمل في ظل غبار المعارك السياسية، ويجري كالنعاس تحت قعر المجتمع، والذي يوشك ان يدمر الفئة العمرية الشابة. والخطير في الموضوع ان الطبق الرئيسي لإعلام الانترنت والفيديو، الترويج لأنواع من أنشطة الترفيه في لبنان، تسيء الى صورة لبنان والمرأة اللبنانية وقيم المجتمع اللبناني، والعدد المخيف لزوار هذه المواقع داخل لبنان وخارجه.(16)
ومن مظاهر ازمة الاخلاقيات ايضا، انكفاء الاعلام وعدم اضطلاعه بالمسؤولية الاخلاقية تجاه مسائل خطيرة كالمخدرات. وفي هذا السياق، تبيّن دراسة احصائية ان 25% من الشباب اللبناني، جربوا المخدرات مرة او اكثر(17). وينسحب الانكفاء الاعلامي على مسائل اخرى مهمة كعدم تطبيق المادة 30 من قانون المرئي والمسموع التي تلزم الاعلام بث برامج للمصلحة العامة والتقارب والتلاقي بين اللبنانيين (18).
وينبري هذا الاعلام بالمقابل، وفي معرض التنافس على “السكوب” الاعلامي، الى خرق خطوط حمراء قانونية وادارية، بنشر وثائق وقرارات ومحاضر تحقيقات لها طابع سري او قبل ان تعلن رسميا، وذلك بشكل مخالف للأصول المهنية والاخلاقية، ولعل فضيحة الفضائح في هذا المجال، في الفترة الاخيرة، طريقة تعامل الاعلام في لبنان مع قضية المسرحي زياد عيتاني.

التلاعب بالصورة يمكنه ان يظهر قصة مختلفة كلياً عن الحقيقة
التلاعب بالصورة يمكنه ان يظهر قصة مختلفة كلياً عن الحقيقة

اسباب تفاقم أزمة اخلاقيات الاعلام
هناك العديد من الاسباب التي جرى استخلاصها من خلال هذه الدراسة، وكان لها دورها في تراجع اخلاقيات الاعلام ويمكن ايجازها كما يلي:
֍ التناقض بين الطبيعة المستقرة نسبيا، للثقافة ” المقيمة” (العادات والتقاليد والمفاهيم والافكار واللغة)، والوتيرة المتسارعة لتطور التكنولوجيا “الوافدة” (تكنولوجيا الاتصال والمعلومات).
֍ انفجار ثورة المعلومات وطفرة التكنولوجيا وتجاوزها حدود الدول وتشريعاتها وثقافاتها ومعتقداتها وتأثيرها النوعي والكمي على شكل المادة الاعلامية ومحتواها.
֍ تأثّر الواقع الاعلامي بالواقع السياسي اللبناني وتبعية الاعلام مادياً وسياسياً للقوى السياسية النافذة.
֍ القمع السافر من خلال مسلسل اغتيال صحفيين وترهيبهم، والمقنّع من خلال امتناع بعض المحطات التوقيع على ميثاق شرف اعلامي لحماية الصحفيين، وقبول صحفيين تحويل الاعلام منصات طائفية، او لعب دور الامن في الاعلام او تسلل امنيين للعب دور اعلاميين..
֍ عدم وجود ضوابط قانونية واخلاقية وتقنية كافية للحد من التلوث الاعلامي والاعلاني البصري واللغوي، وتأثيرهما السلبي على ثقافة المجتمع من خلال التأثير على الاطفال والشباب.
֍ انكفاء الاعلام وعدم قيامه بمسؤوليته ودوره الطبيعي تجاه القضايا والأحداث التي لها اهميّتها وأولويّتها في حياة الناس.
֍ المعالجة الرقمية للصورة وما تعنيه من انقضاء لعهد الصورة “البريئة” والصادقة وبداية لعهد الصورة المعدّلة والمركّبة والمشكوك بصدقيّتها.
֍ طغيان تكنولوجيا الاتصال الوافدة وتحكمها المتزايد بالسلوك الإتصالي للأجيال الفتية والصاعدة في مجتمعاتنا، في حين تواكب دول المنشأ، التطور التكنولوجي باستخدام الضوابط القانونية (19) والتقنية اللازمة لحماية مجتمعاتها.

احد البرامج التي لجأت الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة لزيادة نسبة المشاهدة
احد البرامج التي لجأت الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة لزيادة نسبة المشاهدة

 

نتانج ومقترحات
يتبيّن بنتيجة هذه الدراسة، انه لا يوجد في لبنان ميثاق اعلامي واحد عصري ومتكامل، وبان هناك فجوة واسعة، تزداد اتساعا بين المواثيق، المبادئ، الضوابط والخطوط الحمراء الاعلامية الموجودة، وبين السلوك والاداء الاعلامي والاعلاني، وبان هناك مخاطر جديدة وجديّة تتمثل بالطفرة التكنولوجية الوافدة وبالاخص طفرة الاعلام الالكتروني، وتقابل بالتجاهل او التعامل الانفعالي غير الحرفي أو المدروس على جميع المستويات.
كما يتضح مما سبق، ان هناك لأساب مادية وغير مادية، ما يشبه التواطؤ من قبل الاعلام، مع المجتمع السياسي الطائفي ومجتمع الأعمال بأشكاله الظاهرة والخفية، وكذلك هناك شعور بغياب الحماية او الحصانة سببه وجود ملامح للقمع السافر او المقنّع بحق الاعلاميين.

تعبّر النتائج المذكورة عن وجود ازمة حقيقية في اخلاقيات الاعلام في لبنان، تستدعي معالجة لا تحتمل التأجيل، وتتطلّب متابعة مشتركة وحثيثة من قبل اصحاب الشأن الاعلامي، التقليدي والاتصالي الحديث، والمرجعيات الثقافية والتربوية والاجتماعية والعلمية، وبرعاية مباشرة وفاعلة من قبل الدولة والجهات الحكومية المعنية والمختصة. ويجب ان تكون اولوية العمل والجهد المشترك، ايجاد ميثاق اعلامي، اتصالي ـ تفاعلي حديث، يتيح الافادة من الطفرة التكنولوجية الوافدة بما لا يلحق الضرر بمقومات لبنان الثقافية والاجتماعية، وياخذ بعين الاعتبار الملاحظات الأخرى المهمة التي سبق ذكرها.

المسألة الدرزية في ضوء السياسات العثمانية في جــبـــل حــوران

دامَ حُكمُ العثمانيّين للعرب أربعة قرون ونَيِّف بين عامي 1516 و1918م، وعلى مدار هذه المدّة الطّويلة تغيّرت الامبراطوريّة، ومن ثم تغيّرت النّظَم. ففي أوّل قرن تلا الغزو لم تطالبهم القواعد التي وضعها العثمانيّون بالكثير، إذ لم يَكُن على العرب سوى الاعتراف بسلطة السّلطان، واحترام الشّريعة الإسلاميّة والسّلطنة، وسمح العثمانيّون للأقلِّيّات غير المُسلمة بتولّي شؤونها الخاصّة تحت إمرة قياداتها المحلِّيَّة وفقًا لقوانينها الدينيّة مقابل دفع جزية للدّولة. وبصفة عامة، بدا أنّ معظم العرب قد نظروا بعين الرّضى لوضعهم في ظل الامبراطوريّة العالميّة التي سادت في ذلك العصر على اعتبار أنّهم مسلمون في إمبراطوريّة إسلاميّة عُظمى. بيد أنّ تلك القواعد شهدت تَغَيُّراً جذريّاً في القرن الثّامنَ عشَر، بعد أن كانت الامبراطوريّة العثمانيّة قد وصلت إلى أوج عَظَمتها في القرن السابعَ عشَر. ففي عام 1699، فقدت لأوّل مرّة أرضاً تابعة لها في – كرواتيا والمجر وأوكرانيا – لصالح منافسيها الأوروبيين، ومن ثمّ بدأت تبيع بالمزاد المناصب الحكوميّة والأراضي الزراعيّة في الولايات التابعة لها كمزارعَ خاضعة للضّرائب حتى تولِّد الدَّخل. إذ كانت تعاني ضائقة مالية، وهذا مكّن ذوي النّفوذ في الولايات البعيدة من جمع الأراضي الشاسعة، مِمّا فتح لهم باب جمع ما يكفي من الثَّروة والسّلطة لتحدّي سلطة الحكومة العثمانيّة. حدث هذا في دول البلقان وشرق الأناضول، وفي أنحاء الولايات العربيّة وفي النّصف الثاني من القرن الثامنَ عشَر، مثّلت مجموعة من هؤلاء القادة المحلّيين تحدِّياً خطيراً للحكم العثماني في مصر وفلسطين ولبنان ودمشق والعراق وشبه الجزيرة العربية.

وبحلول القرن التّاسعَ عشَر بدأ العثمانيون عصر إصلاحات شاملة، بهدف القضاء على التحدّيات التي ظهرت داخل الامبراطوريّة وصدّ تهديدات جيرانهم الأوروبيين. أدّى هذا إلى ظهور مجموعة جديدة من القواعد، عكست أفكاراً جديدة بشأن مفهوم المواطنة، استعارتها من أوروبا. حاولت الإصلاحات العثمانيّة أن تضمن لجميع الرَّعايا العثمانيين – أتراكاً وعرباً على حدٍّ سواء – المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى الإدارة والخدمة العسكريّة ودفع الضّرائب، وروّجت لهُوِّيّةٍ جديدة، تسعى إلى السّمو فوق الاختلافات العرقيّة والانقسامات الدينيّة في المجتمع العُثماني وتقوم على الولاء للدولة العثمانيّة، لكنّ تلك الإصلاحات فشلت في حماية العثمانيين من التدخّل الأوروبي، غير أنّها مكّنت الامبراطورية من إحكام قبضتها على الولايات العربيّة(1).
وزادت أهميّة هذا التّغيير، مع تسبّب النّزعة القوميّة في إضعاف وضع العثمانيين في البلقان. غير أنّ الأفكار التي ألهمت الإصلاحات العثمانيّة هي نفسها التي أدّت إلى ظهور أفكار جديدة عن القوميّة والمجتمع جعلت بعض أفراد العالم العربي غير راضين عن وضعهم في الامبراطوريّة العثمانيّة، فأخذوا يواجهون القواعد العثمانية، ويحمّلونها أكثر فأكثر مسؤوليّة التخلّف النّسبيّ؛ الذي بدأت إرهاصاته تظهر وتزداد مع ارتفاع وتيرة التّغلغل الاقتصادي الأوروبي في الأسواق المحليّة، وتحديده أسعار السّلع، لاسيّما الحبوب عالية الجَوْدَة المُنتَجة داخل الامبراطوريّة. وقارن الكثير من العرب عَظَمَة ماضيهم بما يعانونه من خضوع في ظلّ الامبراطوريّة العثمانيّة التي أخذت تتراجع أمام جيرانها الأوروبييِّن الأكثر قوّة، فأخذوا يطالبون بإصلاح مُجتمعاتهم، وطَمحوا إلى نَيْل الاستقلال عن السّلطنة العثمانيّة(2).
لقد حدثت عدّة محاولات لتقسيم لواء حوران إلى عدّة أقضية في عهد الإصلاحات، حيث جرت العادة على إلحاق أقضية جبل الدّروز بمراكز إداريّة تقع خارجه لإضعاف مقاومة الدّروز لهيمنة السّلطة. ولم يبدأ دور وتأثير الدّولة العثمانيّة يظهر في جبل حوران، إلّا بعد صدور التّنظيمات والإصلاحات في منتصف القرن التاسع عشر. وفي إثرها قُسِّم الجبل عام 1864 إلى ثلاثة أقضية تابعة لمُتصرِّفيَّة حوران، حيث كانت خلفيّة كلّ تلك التّقسيمات تنطوي على مُواجهة الاضطرابات والثّورة المستمرّة في الجبل. فاختيرت في أوّل الأمر بلدة المزيريب مركزاً لِلِّواء، ثم نُقِل المركز بعدها إلى بلدة (الشّيخ سعد) نظراً لوجود سكّة حديد فيها، ولسهولة سَوْق العسكر منها لقمع الاضطرابات شبه الدائمة في الجبل، وبالتالي لم تكن الغاية من التّقسيم الإداري الإصلاح كما يتبادر إلى الذّهن لأوّل وهلة. وبذلك التقسيم الجديد، باتت المنطقة خاضعة لولاية سورية. وكان أوّل نظام إداري حكومي دخل الجبل في سنة 1878(3).

بحيرة مزيريب
بحيرة مزيريب

ولكن برغم ذلك بقي النّفوذ العثمانيّ ضعيفاً في الجبل بسبب وعورته وبُعْدِه عن طرق المواصلات الرئيسيّة، ورغبة سكانه في الاستقلال والعيش على نمط اتّسم بالمزج بين اقتصاد الرّعي والزراعة المُعتمدة على زراعة الحبوب. وهذه كانت حال معظم مناطق الأرياف وبخاصة المناطق المجاورة للبادية والواقعة على الحدّ الفاصل بين المعمورة والصّحراء.
وقد أصبح جبل الدّروز بفضل موقعة المُتَميّز وعصبيّة سكانه، وأخلاقهم، مأوى لكل هارب من ظلم السّلطات العثمانيّة(4) ومركزاً حصيناً لمقاومة بطش الجيش العثماني، الذي سِيق في أواخر القرن التاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين عبر سلسلة من الحملات لإخضاع الجبل، وسوق شبابه إلى الجندية، وتحصيل الضرائب، وفرض الإتاوات والغرامات المتنوّعة.
وتقبّل حكام الجبل من مشايخ آل الحَمدان السّياسات الإصلاحيّة الجديدة للسّلطنة العثمانيّة في القرنين الثامنَ والتاسعَ عشَر بمرونة عالية مكَّنتهم من إجراء الموازنة بين ضغوطها ومصالح سكّان الجبل الرّاغبين في التحرّر من دفع أيّة ضريبة أو تنزيل عبئها للحدود الدّنيا. وقد نجحوا في ذلك المسعى خلال قرن من الزّمن. الأمر الذي ساعدهم على مدِّ رقعة نفوذهم لتشمل السّهل والجبل معاً وتلبية طموحهم في تحصيل أكبر كمِّيَّة مُمكنة من الضّرائب والإتاوات من الفلّاحين .

وقد حافظ آل الحمدان على حكمهم للجبل حتى عام 1869، حيث خَلَفهم في المشيخة الأولى آل الأطرش، مُستغلِّين الأخطاء التي ارتكبها الشّيخ واكد الحمدان خلال سِنِيِّ حُكْمه(5)
وبالمُقارنة التاريخيّة نَجِد أنّ نظام المَشيخة في جبل الدّروز لا يشبه النّظام الإقطاعيّ الذي كان سائداً في جبل لبنان، حيث الإقطاعيّ هو مُجرّد أداةٍ تنفيذيّة أو شبه موظَّف، وغالباً ما يَسْتخدم العنف لينجو بنفسه من عقاب الوالي(6) أمّا الشيخ في الجبل فكثيراً ما تحالف مع الفلّاحين رافضاً دفع الضّرائب، كما أنّ نظام المشيخة في الجبل لا يشبه النّظام الإقطاعيّ المملوكيّ أو العثمانيّ في عهوده الأولى حيث كانت وظيفة صاحب الإقطاع تقتصر على حقّ جباية الضّرائب أمّا الشّيخ في الجبل فلم تكن جباية الضّرائب إلّا واحدة من صلاحيّاته وحقوقه المُتَعدّدة، فهو مالك ربع القرية ومتصرّفٌ بتوزيع الأرض على الفلّاحين، وهو فوق ذلك القائد الحربيُّ للقرية و يدافع عنها عند الخطر. وكثيراً ما لعب الشّيخ في جبل الدروز دور المُدافع الذي يجمع الفلّاحين وراءه من أجل الوقوف في وجه السّلطة العثمانية الغاشمة دفاعاً عن الأرض والعرض(7).

قوات عثمانية في سوريا
قوات عثمانية في سوريا

الانتفاضات الفلّاحية في جبل حوران
وكثيراً ما كان الشّيخ في جبل حورن يقف على رأس الانتفاضات الفلّاحيّة التي اندلعت في الجبل خلال القرن التاسعَ عشَرَ ومطلع القرن العشرين، ضدّ الاستغلال الإقطاعيّ العثمانيّ الذي كان يسعى جاهداً لفرض الضّرائب الباهظة وما يرافقها من غرامات وإتاوات مُتَخلّياً بالمقابل عن التزامه بحماية الإنتاج الزّراعي لفلّاحيّ الجبل بتسهيل أمور تسويق ونقل الحبوب المُنْتَجة داخل اللِّواء في السّوق العالميّة بسعرٍ مُجْزٍ. وكان ذلك الأمر غير مُتاحٍ بسبب ارتفاع أجور النّقل التقليديّة والتي لا يحلُّها عمليّاً سوى ربط المِنطَقة بأقرب منفذٍ بحريٍّ للتّصدير بواسطة سكّة القطار الحديديّة، وهذا هو جوهر المقاومة الفلّاحيّة في الجبل للّدولة العثمانية والتي تعود بالإضافة لِظُلمها وفسادها إلى كونها سلطنة مُتخلّفة وبطيئة الإصلاحات. أمّا الخلاف على حيازة الأرض ومُلْكيتها بين أهالي سهل حوران وجبله، وهو الخلاف الذي اتّخذته الدولة العثمانية ذريعة لتأديب العُصاة وجباية الضّرائب التي كانت تُنْفق على دوائر السّلطنة العثمانيّة فهو خلاف بين مِنطقتين مُتجاورتين نجد له شبيهاً في سائر مناطق بلاد الشام .
إنّ الانتفاضات الفلّاحيّة (1887 – 1890) التي حدثت في الجبل بعد تطبيق السّلطنة العثمانيّة سياساتها الإصلاحيّة تميّزت بوضوح الصّراع الطّبقي في حركتها حيث هناك طبقة فلّاحيّة تثور ضد سلطة طبقة المشايخ، أمّا الانتفاضات الفلّاحيّة قبل تلك الفترة وما بعدها والتي سنُعَدّد بعضها الآن، فقد اتّسمت بنضال الفلّاحين فقيرهم وميسورهم بمن فيهم المشايخ، ضدّ طبقة إقطاعيّة مُمَثّلة في أجهزة الدّولة العثمانيّة.

1- انتفاضة عام 1852
في ذلك العام سَيَّر والي دمشق حملة عسكريّة ضدّ الجبل (جبل الدروز) عُرِفت بحملة (صاري عسكر) في محاولة من جانب الدّولة لتجنيد شبّان الجبل ولجباية الخراج منهم بالقوة؛ فكان ردّ الفلّاحين عليها برفض دفع الضّريبة والذّهاب إلى الجنديّة أو الاشتراك في معارك لا تخدم إلّا الدّولة العثمانيّة وطبقتها الإقطاعيّة.وبالمحصّلة فشلت تلك الحملة في إجبار الثّائرين على الخضوع، وذلك بعد أن تمكّن الثائرون من دحرها وإبادتها في قرية إزرع الواقعة على هامش المشارف الشماليّة الغربيّة من الجبل وغنيمة كميَّة كبيرة من الأسلحة والذّخائر، مِمّا أجبر السّلطة العثمانيّة على التّراجع والقبول بالمفاوضة مع الثّائرين وبالتالي القبول بشروطهم(8).

مدينة شهبا في جبل العرب
مدينة شهبا في جبل العرب

الرُّؤية العُثمانيّة لإصلاح لواء حوران
قبل مجيء عهد الإصلاحات كانت الرّؤية العثمانيّة تنظر إلى الانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل على أنَّها عصيان أقلِّيّات مُتَمرّدة على سلطة الدَّولة تسعى لتوسيع مُلْكيّتها للأرض عن طريق الاستيلاء على أرض الدّولة الأميريّة. وبحلول العِقْد السّادس من القرن التّاسعَ عَشَر؛ أدركت السّلطنة عُقْمَ إخضاع التّمرّدات الفلّاحيّة في لواء حوران عن طريق تسيير الحملات العسكريّة ذات الطابع التّأديبي وبدأت تُقِرُّ بمُلكيّة العائلات الدُّرزيّة للأرض وتفرض عليها مقابل ذلك الضّريبة الأميريّة وقرّرت اتّباع سياسة جديدة أكثر موضوعيّة وحِكمة من السّابق تقوم على رؤية إصلاحيّة مُتكاملة حيث أدركت أنَّ السّبب العميق لتلك التّمرّدات الدّرزيّة هو الصّراع بين مجتمعٍ زراعيّ يحاول أن يطوّر أساليب حياته بحماية استقراره من تهديدات قبائل البدو القادمة من صحارى نجد والحجاز أي من جهات جنوب الجبل وقد حدّد الكتاب الهمايوني المُوَجَّه إلى ولاية سورية بتاريخ 18 آب لعام 1880 طبيعة هذه السّياسات الجديدة، وقد ظهر فيه لأوّل مرّة اعتراف رسميّ بتسمية جبل حوران بـ (جبل الدّروز) وكان هذا الاعتراف في الحقيقة ناتجاً عن التّغيير الدِّيموغرافي العميق في بنية الجبل السُّكّانيّة بسبب قيام الدّروز بنقل مساكنهم الموجودة في جبل لبنان ومن قراهم في جبل الشّيخ وأقاموا في جبل حوران حيث بقي مُصِرّاً على وصف ذلك التَّغيير بالاستيلاء. وهو التَّغيير الذي سعت السّلطنة لمنعه بالقوّة إمّا عن طريق الضّغط على رجال الإقطاع في لبنان لمنعه أو عن طريق تسيير قوّات تقطع طرق التّواصل بين تلك المناطق، ولكنها فشلت في كلّ التدابير المُتَّخذة من قِبَلها لوقفه .
وقد اعترفت السّلطنة أنه بسبب ذلك الانتقال ظهرت هناك مشكلة بدأت تواجه الدَّولة وسُكّان الجبل كمُجتمعٍ فلّاحيٍّ ناشئٍ يميل للتّحضُّر والتّمدُّن فتمنعهما معاً من استثمار أراضٍ شاسعة خِصبة لم يتمّ الاستفادة منها الاستفادة المطلوبة. والسبب في ذلك هو أنّ قبائل البادية الذين كانوا آنذاك يترحّلون في صحارى الحجاز ونجد يدخلون إلى المناطق المعمورة في بلاد الشام في موسم أواخر الرّبيع وأوان الصّيف وأنَّ الصِّراع كان ينشب بين الطّرفين عند مُحاولة الفلّاحين منع البدو من الدّخول بهدف حماية مزروعاتهم وليس لأيِّة أسباب أخرى، وقد وجدت السّلطنة الحلَّ باشتراط منع دخول هذه المناطق سوى بأذونات، وأن تقوم الدَّولة بواجبها في حماية الفلّاحين وبإجراءات رادعة ضد أولئك البدو.(9)
ولكن تلك الرّؤية بقيت قاصرةً عن معالجة جوهر المشكلة المتعلّق باستبداد وفساد جهازها الإداري واستغلاله المُفرط للفلّاحين ومحاولة الدّولة تحميل وِزْر الضغوطات الخارجية وتراجعها وهزائمها العسكريّة التي تتعرّض لها أمام تقدّم زحف القوى الأوروبيّة الطّامعة بالامبراطوريّة إلى السّكان المحلِّييّن سواءً عن طريق فرض المزيد من الضّرائب عليهم أو بِسَوق أبنائهم إلى الجنديّة وفرضها عليهم خوض حروب كانوا يرون أنّه لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
و منذ ذلك التاريخ؛ بات يُطرَح في الوثائق العُثمانيّة ما يُعَدُّ مُشكلة مُستعصية على الحلّ حملت اسم: (المسألة الدّرزيّة). ولكنّ تواصل الثّورات والانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل أوصل الدّولة العثمانيّة في عهديّ السّلطان عبد الحميد والاتِّحادييِّن إلى القناعة بفشل سياسات احتوائها عن طريق تجذير الإقطاع الشّرقي العثماني وإيقاع الفتنة بين الفلّاحين والمشايخ، فبدأت تتحيّن بهم الفُرص وتستعدُّ بالتوجّه مُجدّداً نحو حسم الخلاف مع فلّاحيّ الجبل ومشايخهم بتسيير الحملات العسكريّة ضدّهم.

المقاتلون الدروز في الثورات السورية
المقاتلون الدروز في الثورات السورية

ب- انتفاضة 1895
في هذا العام بدأت تصل إلى الباب العالي تقارير عدّة عن حدوث تعدّيات من قِبَل أهالي الجبل على العساكر السّلطانيّة المُرابطين في ثُكنة السّويداء على أثر قيام أحد خيول جنودهم بدهس طفل بتاريخ 29 تموز من عام 1895 فحدث بسبب ذلك نزاع وضرب بين الطّرفين، كما تحدّثت عن مُهاجمة خمسين مُسَلّحاً من الدّروز بَغته على العساكر السّلطانيّة والتي أُرسلت بتاريخ 26 آب للمحافظة على قرية براق، وبرقية ثالثة في 1 تشرين أول من العام نفسه تطالب قيادة الجيش بسحب طابور العسكر من ثُكنة السّويداء نحو بصرى الحرير أو الشّيخ مسكين أو تعزيز الثّكنة بطوابير جديدة خوفاً من حصار (عُصاة) الدّروز له واستغلال انشغال الدّروز بخلافهم مع الحوارنة.
وقد استغلّت السّلطات العثمانيّة فِعلاً النّزاع العشائري بين فلّاحي الجبل وجيرانهم من فلّاحي السّهل في مُحاولة مُتَعمَّدة من جانبها لإثارة فتنة طائفيّة بين الجانبين، حيث تمّ على أثرها تجهيز حملة عسكريّة عام 1895 بقيادة أدهم باشا لتأديب فلّاحي الجبل، ونزع سلاحهم وسوقهم إلى الجندية (10)، فاحتلّت الحملة السّويداء بعد معارك عدّة في قرّاصة ونجران والسّجن وأمّ العلق، ثمّ قامت السّلطات العثمانية بتثبيت أقدامها عن طريق تعداد الغَنم والبدء بتطويب الأرض لأخذ الضّرائب وشرعت بتجنيد الشّباب ولكنّها لم تتمكّن من سحق المقاومة الفلّاحيّة بالكامل، حيث قام العثمانيون بنفي عدد كبير من الزّعماء بينهم شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز.

ج- انتفاضة عُرْمان 1896
سَيَّرت الدّولة في هذا العام حملتين على الجبل: الأُولى بقيادة أدهم باشا، والثانية بقيادة ممدوح باشا من أجل إخضاع الجبل بالقوّة لِسُلطة الوالي العثماني، وكان ذلك تحوُّلاً واضحاً وخطيراً في السِّياسات الإصلاحيّة العثمانيّة بالإقلاع عن التوجُّهات السَّلميّة المُهادنة لسلطة الأمر الواقع في الجبل القابلة باستقلاله النِّسبي عن سُلطة والي دمشق، خصوصاً بعد وصول معلومات لقائد الحملة ممدوح باشا عن وجود مباحثات سِرِّيَّة في الجبل واجتماعات تُعْقد في عُرمان في منزل (محمود أبو خير) تناقش فكرة الثّورة للتخلُّص من إرهاب ممدوح باشا، فبادر الأخير بإرسال مَفْرَزة مُكوّنة من ثلاثين جنديّاً يرأسها ضابط لاعتقاله، وعلى أثرها تمّ قتل محمود أبو خير من قِبَل جنود المَفرزة، فكان مقتله سبباً مباشراً في انطلاق شرارة الثّورة في الجبل ضدّ السّلطة العثمانيّة حيث جاء ردُّ الدّروز على الجريمة بقتل كامل جنود المفرزة بمن فيهم الضابط الكبير الذي يقودهم. وردّاً على انتفاضة عرمان أرسل القائد العثماني ممدوح باشا من جديد في أيار 1896 حملة من الجُنْد المرابطين في السّويداء للقضاء على انتفاضة عرمان، فأبادها الثّائرون في معركة خراب عُرمان، ثم زحفوا باتّجاه السّويداء، وحاصروا قَلعتها مدّة 28 يوماً. (11)
بعدها حَشدت السّلطات العُثمانية في عام 1897 حملة كبيرة تقدمت باتّجاه السّويداء تمكنت بداية من الانتصار على الثّائرين في معركة تلّ الحديد. وظنَّ قائد الحملة طاهر باشا أنّه حقّق الانتصار الحاسم على الثائرين، فدخل السّويداء، وشرع بالتّقدُّم باتّجاه بلدة قنوات، وهناك باغته الثُّوّار فأبادوا مُعظمَ جنوده، وخوفاً من الانتقام العثماني انسحبوا إلى اللَّجاة ومنها عملوا مناوشات مع العُثمانييِّن في شهبا، وكان من رجالهم أبو طلال وهبة عامر وسعيد نصر، وهما من المشايخ الذين دعموا العامِّيَّة.(12)
وفي عام 1898 تمكّن عدد من زعماء الجبل المنفييِّن في الأناضول من الهرب والعودة إلى الجبل، وسرعان ما نظَّموا المقاومة بقيادة وهبة عامر، وقد تحالف ثوّار الجبل مع البدو وفلّاحي حوران بعد اجتماع كبير مُشْتَرك في اللَّجاة سنة 1900، طالبوا فيه بإطلاق سراح المنفيين ورفع التَّجنيد الإجباري، وعدم الاستمرار في بناء القلاع والاعتراف بالقانون العشائري في الجبل.
فما كان من السّلطان عبد الحميد الذي كان يشعر بوطأة المُعارضة السرِّية لحكمه سوى قبول الوساطات بإطلاق سراح المَنفيين، وسمح لِشبلي الأطرش وعدد من المَنفيين بالعودة للجبل.
– وعلق محمّد كُرْد علي صاحب كتاب خطط الشّام وهو الذي كان يمالىء العثمانيين حينها؛ على ذلك الحدث بالقول: (لقد نَفَتهم من الشام ثم أرجعتهم مُكَرّمين من الآستانة. فابتاعوا بالدّراهم التي نالوها من إحسان الدّولة سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا عُمَّالها(13)

السلطان عبد الحميد الثاني
السلطان عبد الحميد الثاني

ثَّورة الجبل عام 1910
– جاءت الأحداث المُمَهِّدة للثّورة على خلفيّة الخلاف الذي نشب في عام 1910 بين أهالي قرية ( بَكّا) وأهالي بُصرى المُجاورة لها وأدّى ذلك إلى قتل بعض الأفراد من الجانبين، ثم تبعها قتل أهل بصرى ثلاثة أشخاص من أهالي قرية الثَّعلة أثناء مرورهم فيها. هاجم الدّروز قرية بُصرى على أثرها ودخلوها بعد معركة عنيفة مع سكانها(14) وهذا الأمر يحدث عادة في أي مكان، ولكنّ الدّولة العثمانيّة اتَّخذت من هذا النّزاع وغيره ذريعة لإخضاع الجبل وجمع سلاحه. في تلك الأثناء كان حزب جمعيّة الاتَّحاد والتّرقَّي المُتَعصِّب للقوميّة الطورانيّة (التّركية) والمنتصر حديثاً على السّلطان عبد الحميد في ثورته سنة 1908 مايزال يحوز على ثقة معظم الأهالي الرّاغبين بالحُرّيَّة والتّقدم وبدعم الحركة القوميّة العربيّة النّاشئة التي خُدعت بتوجّهاته الإصلاحيّة من حيث ظاهر الأمر. لهذا لَقيت الحملة العثمانيَّة لإخضاع الجبل التَّرحيب من جانب مُختلف القوى السُّوريّة. ومعنى هذا أن ثوّار الجبل دخلوا معركة 1910 دون دعم أو مُسانده من محيطهم الاجتماعي العربي. وقد لاقى تجهيز الحملة تأييداً واسعاً في مُختلف المناطق، فعلى سبيل المثال: جريدة المُقْتَبَس الدِّمَشقية لصاحبها محمّد كُرْد علي؛ كتبت مقالاً ضد ثائري الجبل جاء فيه: “إنَّ هدفهم إيذاء من يخالفهم … اعتداؤهم على أبناء السبيل … يتعبّدون بإهلاك العباد والعبث بالفساد في البلاد”.(15)
ونتيجة هزيمة الثّورة في الجبل سنة 1910 تمّ شنق عدد من زعماء الدّروز وسوق الرّجال إلى التّجنيد، وكذلك تمّ إخضاع الدّروز للسّياسات المركزيّة التي سعى العثمانيُّون إلى تطبيقها على الجبل منذ منتصف القرن التّاسعَ عشَرَ وكانوا قبلها قد فشلوا في محاولاتهم المُتَكرِّرة تلك …
لقد كانت الحرب العالميّة الأولى بمثابة اختبار لنوايا الدّولة العثمانيّة ولِجبل حوران إذ إنّ المجاعة ومُتَطلّبات الحرب التّموينيّة جعلت لِقمح المنطقة قيمة عالية؛ توقّف العثمانيّون خلالها عن جمع الضّرائب، وتَخَلَّوْا عن التَّجنيد الإلزاميِّ في مِنطقة جبل حوران من أجل ضمان تعاون الدّروز، الأمر الذي شَكّل حافزاً إضافيّاً لأولئك الذين يعيشون في المناطق المجاورة للانتقال إلى المنطقة بحثاً عن الحماية من بطش الدّولة، وقد لفت وضع الجبل هذا اهتمام القوى الوطنيّة الشابّة في مدينة دمشق والمُتَطلِّعة إلى التّحرُّر من النَّيْر العثماني، والباحثة عن حلفاء لها في الرِّيف. لذلك كان من الطّبيعيّ قيام قيادة الثَّورة العربيَّة مُمَثَّلة بالأمير فيصل بن الحسين بالاتّصال بسلطان باشا الأطرش عن طريق الزّعيم الدِّمشقي نسيب البكري، حيث تمّ الاتِّفاق معه على إعلان الثِّورة في الجبل والمُشاركة في القوّة العربيّة التي حرَّرت دمشق من الحكم العثماني في خريف 1918.

سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد
سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد

دور جبل عامل في تشكيل دولة لبنان الكبير

لم تكن رؤى الفرنسييِّن واللّبنانييِّن مُتطابقةً حول توسيع «لبنان الكبير» إلى «حدوده التاريخية»؛ وذلك تبعاً للأوّليات السياسيّة والاقتصاديّة والديمغرافيّة لكلٍّ من الطّرفين. فَحَوْل ضمّ الأقضية الأربعة: حاصبيّا وراشيّا والبقاع وبَعْلبَكَّ في الشّرق، وسهول عكّار في الشّمال، إلى لبنان كان التّوافق بينهم كاملاً، بحُكم التقاء المصالح. كتب روبير دوكي إلى ميللران، يقول: إنّ امتداد حدود لبنان إلى أقضية راشيّا وحاصبيّا «أمر ضروري لأنّ الأمانيَّ اللُّبنانيَّة لا يمكن تلبيتها دون إلحاق البقاع بلبنان. ومن حسنات هذا الإلحاق أنّه، على الأقل، يطرد منها السّلطات الشريفيّة،(يقصد الحكومة العربيّة في دمشق عام 1919) فضلاً عن أنّه يسهّل لنا تقطيع أوصال الدّولة الشّريفيّة»؛ فجرى ضمُّ البقاع إلى «لبنان الكبير» في «إعلان زحلة» في 3 آب 1920.
كذلك كان التّوافق الفرنسيّ اللّبنانيّ تامّاً على فصل مدينتيْ طرابلس الشام وبيروت عن الدّاخل السوريّ، ولكنّ التّباين كان حول صلتهما بـ «لبنان الكبير»: أيكون إلحاقاً كُلِّيّاً أم استلحاقاً جزئيّاً يُحافظ لهما على بعض الاستقلاليّة البلديّة الموسّعة Municipe. وبعد مشاورات بين المسؤولين الفرنسييِّن في بيروت وباريس، قرّر ميللران ربطهما بـ «لبنان الكبير» ربطاً تامّاً، على أن تحتفظا، مرحليّاً، «باستقلال بلدي واسع… كمُستَلحَقَتيْن مستقلَّتَين Municipes».(1)

ضمّ جبل عامل إلى «لبنان الكبير»:
خيارات واحتمالات
أمّا التّناقض الأكبر بين المصالح الفرنسيّة واللّبنانيّة فكان جَلِيّاً حول موضوع ضمّ جبل عامل، بكلّيّته أو بجزء منه، إلى «لبنان الكبير». فالفرنسيّون كانوا يقدّمون المصالح السياسيّة ـ الاقتصاديّة على ما عداها، لذلك رغبوا بالبقاء على حدود خط سايكس ـ بيكو، شماليّ عكّا، محتفظين بكامل جبل عامل؛ كونه المورد الزّراعي، واليد العاملة الرّخيصة، والمصدر الضّريبي الهامّ. هذا فضلاً عن دوافع تنافسهم الاستعماريّ مع الإنكليز المُتعاطفين مع الصّهيونيّة وأطماعها في فِلِسطين، كوطن قوميّ يهوديّ يصل بحدوده الشّماليّة حتى نهر اللّيطاني.
أمّا سُكّان جبل لبنان فكانوا يَرَوْن الأمور بالمنظار الديموغرافيّ الطائفيّ، فاعتبروا جبل عامل، بأغلبيّته الإسلاميّة الشيعيّة، ثقلاً إسلاميّاً خطراً. وكان الإكليروس المارونيّ «مُعادياً لأيِّ إلحاقٍ يُدْخِل في لبنان الكبير عناصر سُكّانيّة تُشكّل ثِقلاً موازناً للأكثرية المارونيّة… وخصوصاً سنجق صيدا [جبل عامل] الذي يُدخل إلى لبنان نحو80 ـ 90 ألف متْوالي، يقطنون في بلاد صور وصيدون»(2). هذا ما يفسّر كَون المذكّرات اللّبنانيّة إلى مؤتمر الصّلح عام 1919كانت، جميعها، تصل بحدود لبنان الجنوبيّة حتّى مجرى اللّيطاني فقط، مع تطاول محدود في الزّاوية الجنوبيّة الشرقيّة، كي يشمل المسيحييِّن في قضاءيْ مرجعيون وحاصبيّا فحسب (3).
هذا المعيار الطّائفي لم يكن في حسبان الفرنسييِّن البتَّة، إذ ظهر تمسّكهم بمناطق جبل عامل والبقاع بمسلميهما، وتهاودهم بطرابلس وبعض عكّار بمسيحييّهما، ما دفع المطران عبدالله الخوري إلى أنْ يعبِّر للبطريرك الحْوَيِّك عن مخاوفه بقوله: «نخشى أن نُعطى جنوب لبنان الحالي مع البقاع الغربيّ فقط دون بَعْلَبَكَّ والبقاع الشرقيّ، وأن نُحْرَم طرابلس ونصارى عكّار. ألْفَتْنا [الفرنسييِّن] إلى عدم موافقة إلحاق نحو سبعين ألف متْوالي من الجنوب في لبنان، وترْك مسيحيّي البقاع وعكّار خارجين عنه، وقد بُلّغْنا أنَّ رأي غورو هو المُعَوَّل عليه هنا»(4).

البطريرك الماروني الياس الحْوَيِّك
البطريرك الماروني الياس الحْوَيِّك

ومهما يكن، فإنّ التّقارير المُتَبادلة بين باريس وبيروت تُبيِّن أنَّ المسؤولين الفرنسييّن كانوا أمام مُسَلّمة فرنسيّة ثابتة، وهي: الاحتفاظ بجبل عامل، بكامله، ضمن منطقة النفوذ الفرنسيّ في سوريا، مهما بلغت الأطماع الإنكليزيّة ـ الصهيونيّة فيه، والتحفّظات اللبنانيّة عليه. ففي رأى دوكي: إنّ سنجق صيدا (جبل عامل) «يجب أن يتبع في كلّ الحالات، كما لبنان وبيروت، للسّيادة الفرنسيّة نفسها. فهو بلاد ساحليّة، وإنها لَفُرصة مُؤاتية لضمّها إلى الدّاخل [السوريّ ـ اللّبنانيّ]»، مرّةً وإلى الأبد (5).

مع هذا الحرص الفرنسيّ، كان جبل عامل أمام احتمالين:
أ ــ ضمّ جبل عامل كُلّيّاً إلى لبنان. يقول دوكي، مهندس تجزئة سوريا: « يجب أن نتوق، بأكثر قدر مُمْكن، إلى ضمّ سنجق صيدا إلى لبنان». ولكنّ اعتراضات بعض اللبنانييِّن على جزء من هذا الضمّ، ومطالبتهم بالمناطق الواقعة شماليّ اللّيطانيّ فقط، جعلت جبل عامل أمام احتمال آخر، احتمال الضّمّ الجزئي إلى لبنان(6).
ب ــ ضَمّ جبل عامل جزئيّاً إلى لبنان، أي تقسيمه إلى منطقتين

الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي كان لاعباً أساسياً في تقسيم المنطقة
الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي كان لاعباً أساسياً في تقسيم المنطقة
الخيام ، محافظة النبطية
الخيام ، محافظة النبطية

وكيانين، الأمر الذي استبعده دوكي بقوله: «ليس بالإمكان توسيع لبنان حتى مجرى الليطاني الأدنى، كما يريد عدد من اللبنانييّن.حيث أنّ صعود الحدود الفلسطينيّة حتى اللّيطاني تقريباً، يقطع الاتّصال والتّواصل بين صيدا والدّاخل العامليّ، وبين شماليّ فِلِسطين وجنوبي لبنان»، وبذلك نقسم «البلاد المتْوالية إلى قسمين، فتقتصر هذه على قضاء صور فحسب»(7).
كذلك أكد الجنرال غورو للرّئيس ميللران على وحدة جبل عامل بقوله: «إن أحداث شهر أيار الأخير تُظهر بجلاء الوحدة السياسيّة والدينيّة لهذه الجماعة [العامليّة]». ويتابع: إنّ هذا المخطّط التقسيميّ لا يراعي لا الاعتبارات الدّينيّة الشيعيّة، ولا الأبعاد السياسيّة والإداريّة والجغرافيّة الخاصّة بالمِنطقة، ولا المصالح الفرنسيّة في البلاد. وموضوعيّاً، «إنّ هذا التّجمّع الشيعيّ في بلاد بشارة، الذي يشكّل كلاًّ سياسيّاً مُتجانساً ومُتَماسكاً مُرتبطاً بصور وصيدا، سيجد نفسه مقسوماً إلى قسـمين. إنّ هـذا التّخطيط يُقيم سَدّاً وسط هذا التجمّع السياسيّ والدينيّ ذي العادات والتّقاليد والمصالح المُشتركة».
ويتابع غورو القول: من الناحية الدينيّة، «إنّ مراكز الجذب الطبيعيّ للشّيعة هي صور [مركز الزّعيم الدينيّ السيد عبد الحُسَين شرف الدين] والنبطيّة [مركز احتفالات عاشوراء] (وهذه نقاط تبقى لنا) ـ يقول غورو ـ ثم إنّ هذه المِنطقة الأخيرة هي مـركز ديـني هام، حيث تُقام كلّ عام احتفالات العاشوراء التي تجذب السُّكّان من كلّ المناطق الشيعيّة». إنّ ردَّ الشّيعة على هذا التّقسيم «سيُعَرِّضنا نحن والإنكليز للصّعوبات، إذ سينتفضون علينا جميعاً». كذلك بالنّسبة إلى المسيحييِّن، فإنّ هذا المُخَطّط يقتطع «مناطق مسيحيّة من أبرشية صور».

وينتقل غورو إلى لُعبة المصالح والاقتصاد، فَيَرى أنّ هذا التّقسيم، فضلاً عن أنّه مُغاير لكلّ منطق، يخلق مشاكل سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة كثيرة، يطال بعضها المصالح الفرنسيّة نفسها. فمن النّاحيتين السياسيّة والاقتصاديّة، إنّ هذا المُخَطط يَبْتر دائرَتَيْ صور ومرجعيون، ويقتطع من منطقة النفوذ الفرنسي أراضيَ خصبة، ويجعل للملّاك العقاريين في جبل عامل: من بيروتييّن وصيداوييّن وصوريين ومرجعيونييّن علاقات متداخلة مع سوريا وفلسطين في آن، وستتبع السجلات العقارية والضريبية إلى دولتين؛ وبحكم القيود الجمركية فإنَّ محاصيل جبل عامل سَتَتّجه كُليّاً نحو فلسطين، وفي ذلك مكاسب للإنكليز وخسائر للفرنسييِّن.(8)
هذه المضاعفات السّلبيّة للتّقسيم فَرضت الإبقاء على «وحدة الأراضي العامليّة»، ضمن مِنطقة الانتداب الفرنسيّ، وجعلت جبل عامل ، من جديد، أمامَ احتمالاتٍ ثلاثة(9)
1- الاحتمال الأساس «بضمّ سنجق صيدا كلّه إلى لبنان»… خلافاً للتّحفًّظات اللّبنانيّة.
2- ضَمّ جبل عامل بكامله إلى الدّاخل السّوري، وهو مرفوض فرنسيّاً لأنّه يقوّيّ التيّار العروبيّ.
3- احتمال جديد، بِجَعْل جبل عامل «كياناً مستقلاًّ استقلالاً مُطلقاً»، أو «مستقلاً استقلالاً ذاتياً إلى جانب لبنان ومُفَدْرلاً معه»؛ ودائماً ضمن منطقة النّفوذ الفرنسيّ.
هذا الاحتمال الجديد لجبل عامل « بِكِيان ذاتيّ مستقل استقلالاً مُطْلقاً» كان حُلماً للعامليين. فمجلّة «العرفان» طالما تبنّت عراقة هذا الجبل بالاستقلال الذاتيّ، «واحتفاظه باستقلاله وإمارة أمرائه ردحاً طويلاً من الزمن، وعُرف سكانه بإباء الضيم والشجاعة»(10). وصحيفة «الحقيقة» تقول: «بَلَغَنا من مصدر ثقة أنَّ رؤساء وعقـلاء جبل عامل يطلبون المحافظة على بلادهم، وعدم انضمامها إلى بقعة أخرى، بل يرغبون في توسيعها»(11).

مقتطفات من تقرير غورو إلى ميلليران في 3 تموز 1920
مقتطفات من تقرير غورو
إلى ميلليران في 3 تموز 1920

ولكنّ العاملييّن، في نزعتهم الاستقلالية هذه، لم يكونوا مُدركين إلّا جانباً من المِشكِل، هو استقلالهم في جبلهم عن محيطهم، ولكنهم كانوا ساهين عن مصيرهم المحفوف بالمخاطر، إلى جوار الصهيونية الطامعة بضم بلدهم إلى فلسطين، الأمر الذي التفت إليه سكرتير المفوضية الفرنسية (روبير دو كي)، وإن يكن من باب الحفاظ على المصالح الفرنسيّة أكثر منه حفاظاً على سلامة جبل عامل. ففي تقـريره إلى ميللران في 17 تموز 1920، يقول ( دو كي):
«دون أي شك، يمكن تشكيل دويلة متْواليّة صغيرة في هذا البلد، بعد إعطاء ضمانات للأقلية المسيحية فيه، إنما يمكن أن يكون لذلك مساويء خطيرة، [منها]: ترْك هذه الجماعة الصغيرة الضعيفة (أو الهشَّة) وحيدة، ولو تحت سلطتنا، على تماسّ مع فلسطين الصّهيونية التي تبدو، حتى قبل أن تولد، متطلّعة إلى تـوسّع اقتصاديٍّ، وهي بشكلٍ عامٍّ ذات طابَع هُجومي توسّعي»(12).
ومُجدّداً، كان المفوَّض السّامي الجنرال غورو يلتقي مع رؤية السّكرتير دوكي، بإسقاط احتمال «الكيان الذاتي المستقلّ لجبل عامل»، حمايةً له من الصّهيونيّة، ويلحّ على الرّئيس ميللران «لتشكيل لبنان الكبير، إداريّاً، بأسرع وقت ممكن، بحدوده الأكثر توسّعاً، ضامّاً إليه سنجق صيدا، منقوصاً منه القسم [غير المحدد بعد] الذي سيُعطى إلى فِلسطين»(13).

مقتطفات من مجلة العرفان، تلحظ قيام دولة لبنان الكبير والتقسيمات التي طالت المنطقة - المجلد السادس سنة 1921
مقتطفات من مجلة العرفان، تلحظ قيام دولة لبنان الكبير والتقسيمات التي طالت المنطقة – المجلد السادس سنة 1921
لحظة إعلان قيام دولة لبنان الكبير
لحظة إعلان قيام دولة لبنان الكبير

بإسقاط احتمال الاستقلال التامّ المُطلق لجبل عامل، لم يبقَ له سوى إلحاقه، موحَّداً بالطّبع، بلبنان، سَواء أكان مُندمجاً فيه أم «مُفَدْرلاً» معه، ودائماً ضمن النّفوذ الفرنسيّ.
وبنتيجة المُشاورات والدّراسات، أخذ الرّئيس ميللران بحلٍّ وسط بين وجهتيْ نظر المفوّض السّامي وسكرتيره، والاعتراضات المارونيّة، والطُّموحات الاستقلاليّة العامليّة، فأشار باعتماد حلٍّ توفيقيٍّ بين الأطراف الثّلاثة، وكتب (في 6 آب 1920) إلى غورو يقول: «رغم اعتراضات الموارنة، يصعب عدم ضمّ سنجق صيدا إلى لبنان، ويصعب ترْك المَتـاوِلَة القاطـنين بلاد صور وصيدا معـزولين بين لبـنان والمستعمرات الصهـيونيّة التوسّعيّة في شمال فلسطين. وعند الاقتضاء، يمكن أن يُفَدْرَل سنجق صيدا [جبل عامل] بلبنان، مع احتفاظه بشيء من الاستقلال أو الحُكم الذاتيّ»(14). وأخيراً ترك ميللران «للمفوّض الساميّ أن يُحَدِّد الزّمان والظُّروف التي سيكون فيها ممكنٌ ضمّ هذه المِنطقة الجنوبيّة إلى لبنان»(15).
وسريعاً بدأت الإجراءات التنفيذيّة لإلحاق جبل عامل بلبنان، إذ حضَر المستشار ترابو، في أوائل آب 1920، إلى صور، وأبلغهم «جَعْلَ ولايات سوريا ولايات متّحدة تحت وصاية فرنسا. وبشّرنا ـ تقول «البشير» ـ بانضمام قضاء صور إلى لبنان الكبير، إذا كان للأهالي رغبة في ذلك [؟!]، فصفّق له الجميع، وكُتبت مضبطة مآلها طلب الانضمام إلى لبنان الكبير، فوقّعها رؤساء ووجوه القضاء،

وسلّموها إلى حضرة المُستشار» (16) بحسْم موضوع ضم جبل عامل إلى «لبنان الكبير»، وصلت المداولات الفرنسية إلى تحديد الخطوط الرئيسة لحدود «لبنان الكبير». فجاء بعضها على لسان غورو في إعلان زحلة في 3 آب، بضم «جميع البلاد الواصلة إلى قمم جبل الشيخ» إلى لبنان. واستكملها الرئيس ميللران في تصريحه في 24 آب للوفد اللبنانيّ في باريس برئاسة المطران عبدالله خوري، بأن «يحتوي لبنان سهول عكّار في الشّمال، وأن يمتدَّ إلى حدود فلسطين في الجنوب [غير المحددة بعد]، وأن ترتبط به مدينتا طرابلس وبيروت ارتباطاً تامّاً، شرط أن يكون لهما استقلال بلديّ واسع (Municipes)، مع مُراعاة الفُروقات الاقتصاديّة بين المدن والجبل» (17).
أخيراً، حقيقتان من «غائية التاريخ»(18) Téléologie ينبغي إبرازهما:
– الأولى: إنّ ضمّ جبل عامل بكلّيّته إلى «لبنان الكبير» يؤكّد أنّ فرنسا قدّمت مصلحتها الوطنيّة على مصلحة «اللبنانوييِّن»، وبالتالي لم تكن «أمّاً حنوناً» بالمُطلق أو بالمجان للبنان واللبنانييِّن، وبخاصّة للمسيحييِّن، وعلى الأخصِّ للموارنة.
– والثانية: إنّ تَمَسّك فرنسا بجبل عامل ضمن منطقة نفوذها، خدمةً لمصالحها، أنقذه من الأطماع الصّهيونيّة بترابه ومائه، حتى لَيُمكنَ القولُ: [فوائد] قوم عند قوم فوائد !!

خربة سلم، جبل عامل
خربة سلم، جبل عامل

العميد الركن عصام أبو زكي بطل من هذا الجبل (1941 – 2018)

غيَّبَ الموتُ واحداً من الرّجال الأَشِدّاء، وقائداً عسكريّاً امتاز بالشّجاعة، والجُرأة والإقدام، بكلّ معنى الكلمة، فكان شخصيّةً فذّةً ورجلاً حواريّاً مع جميع الأفرقاء، فرض احتراماً وتقديراً من الجميع، وكانت له ميزات مُختلفة، ومكانة مُمَيّزة رفيعة، بين زملائه الضبّاط، عَنَيْتُ به بكلِّ فخرٍ وإباء العميد الرّكن الممتاز عصام أبو زكي.
ترك الرّاحل بَصمات لا تُمحى وإرثاً كبيراً فهو القائد العسكريّ الفذّ، والرّجل الكبير الذي عرفناه معرفة جيّدة، وقضينا وقتاً طويلاً معه. كان طيّب القلب، هادئ الطبع، ذا نظرة ثاقبة، رَصيناً مُحترماً عزيزاً مُكرَّماً حيث حلَّ وأين ارتحل، وفي عدّة مناصب أمنيّة كانت له مواقف وبطولات يعجز عنها الرّجال كما يعجز عن وصفها القلم في مواقف البطولة والفداء.

رحل عنّا العميد الرّكن المتقاعد عصام أبو زكي، في ظرف عصيب وفي أزمة اقتصاديّة وأمنيّة غير مستقرّة. تدرَّج وبلغ أعلى المناصب فتبوَّأَ المراتب العسكريّة الرّفيعة وكان قائد الشّرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي، بقي فيها نحو تسع سنوات متواصلة، وهذا يدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّه كان قويَّ الشكيمة، بلا منازع.
هو أحد الضبّاط البواسل القلائل الذين تمرّسوا بالوظائف العسكريّة الخطيرة فكان لها وكانت تليق به. رجل من القلائل الذين حافظوا على مكانتهم العسكريّة، وكانت لهم الكلمة المسموعة في جميع الميادين السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والإنسانيّة.
جريءٌ – كما قلنا – لا يهاب الموت، كان يحمل دماءه على كفّيه ويمضي حيث معارك الموت والقتال ماثلة أمام ناظريه. تحمَّل مسؤوليّاتٍ مختلفةً ومهمّاتٍ صعبةً فكان الإنسان الفذّ السّاهر على الأمن في الوطن وعلى أمن المواطن وسلامته وصحّته.
اختارَه الله إلى جانبه مبكّراً فاختطفه الموت، وهو مبتسم يخالطه المرح رغم تعاقب الأيام والسنين التي تحدّثنا عن رجل اقتحم غمرات الموت مرّات كثيرة، ورأى الظّلام بسواد عينيه وضلوعه وفي جميع أنحاء جسمه، إنَّه أحد الجبابرة الذين كانوا في انتظار الموت يقترب منهم في كلّ لحظة، والموت حقٌّ، وإرادة الله وحكمته لا مهربَ ولا مناص منهما لأنّ القضاء والقدر محتوم علينا القبول بهما فمشيئة الله وإرادته لا رادَّ لهما.
كان كلّما سنحت له الظّروف يزور القيادات الرّوحية في الطّائفة الدرزيّة، ويأخذ منها البركة والدّعاء بالتّوفيق والنّجاح والرّضى والتّسليم والمشورة واتّباع الرّأي الحكيم السّليم. كان العميد الرّكن عصام أبو زكي من أوفى الأوفياء وأخلص الخُلصاء وأنبل النّبلاء. هكذا عرفته وهكذا أعطي شهادة فيه في ختام حياته أمام النّاس جميعاً بصورة صادقة.

يمكننا القول بكلِّ فخرٍ واعتزاز: لقد كان العميد الرّاحل ضابطاً عسكريّاً باسلاً من ضبّاط الجيش اللّبنانيّ، كما في قوى الأمن الداخلي، وهو بذلك ينضمّ إلى كوكبة من أبرز الضبّاط المعروفييِّن الذين تعاقبوا عُمراً أو زمناً أو رتبة في تولّي أدقّ المسؤوليّات في الجيش اللبنانيّ كما في قوى الأمن الداخليّ، فنهضوا بها على أحسن وجه، وكانوا مثالاً يُحتذى في القيادة والنّزاهة والشّجاعة والحِرص على الوطن.

ولادته وعلومه
هو عصام بن أنيس بن أمين بن علي أبو زكي. وُلِد في “عينبال” الشُّوف، في جبل لبنان في 22 حزيران عام 1941.
تلقّى علومه الابتدائيّة في بلدته “عَيْنبال” ثمَّ انتقل إلى مدرسة الأمريكان في طرابلس، ومنها انتقل إلى مدرسة “الفرير” في منطقة فرن الشبّاك في بيروت، ثم انتقل إلى مدرسة عينطوره، ثمَّ إلى الجامعة الوطنيّة في “عاليه” وبعدها أكمل دروسه الثانويّة في مدرسة طريق الجديدة الرسميّة في بيروت “مدرسة البرّ والإحسان”.

مع الشهيد كمال جنبلاط
مع الشهيد كمال جنبلاط

قيادات عسكرية تولاها
تولّى القيادات العسكرية التالية:
قيادة سَرِيّة بعلبك، قيادة سريّة مدينة طرابلس، قيادة سريّة المُساندة، قيادة سريّة الجنوب، قيادة سريّة الطّوارئ في الفرقة 16.
كما تسلّم قيادة الشّرطة القضائيّة من عام 1984 إلى عام 1993.

واشترك في دورات وبعثات ومؤتمرات هي التالية:
◄ انتُدِب لمتابعة دورة دراسيّة في حقل الأمن في فرنسا في عام 1964، وفي عام 1965.
◄ تخصّص في حقل مُكافحة المخدِّرات والجرائم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، من عام 1973 إلى عام 1985، كما انتُدِب لتمثيل لبنان في مؤتمر (الإنتربول) والمؤتمر الدّولي للشّرطة الجنائيّة في (لوكسمبورغ) في عام 1984، وترأَّس وفد لبنان إلى مؤتمر (الإنتربول) الذي عُقد في واشنطن في عام 1985، ثم ترأَّس وفد لبنان إلى مؤتمر الإنتربول الذي عُقد في يوغوسلافيا في عام 1986.

انتُدِب لمتابعة الأعمال الأمنيّة التالية:
◄ متابعة دورة دراسيّة في إيطاليا لمكافحة الإرهاب، ثم تابع دورة أمنيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عام 1988 عنوانها (كيفيّة معالجة الكوارث).
◄ تابع دورة في مكافحة الجرائم في ولاية فرجينيا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عام 1992.
◄ ترأَّس وفد لبنان في عدّة أمكنة دوليّة وجال في عدد من الدّول العربيّة والأجنبيّة..

مع الزعيم وليد بك جنبلاط والوزراء الدروز
مع الزعيم وليد بك جنبلاط والوزراء الدروز

الأوسمة والتنويهات
حاز على الأوسمة التقديريّة التالية:
◄ نال الوسام التَّذكاريَّ في عام 1965.
◄ ثمَّ نال وسام الاستحقاق الوطنيّ برتبة فارس في عام 1984، ووسام الأرز الوطنيّ برتبة فارس في عام 1981.
◄ وسام التّقدير من جمهورية هايتي في عام 1982.
◄ وسام الاستحقاق اللبنانيّ من الدّرجة الثانية في عام 1983.
◄ نال أيضاً وسام الحرب في عام 1983.
◄ ووسام الصّليب الأكبر من رئيس الجمهوريّة في هايتي في عام 1984.
◄ ثم ميداليّة الجدارة في عام 1985.
◄ شهادة تقدير من وزارة العدل في الولايات المتّحدة الأميركيّة في مكافحة المخدِّرات في آذار سنة 1986.
◄ ثم وسام الحرب في عام 1992.
◄ ونال عدداً من الأوسمة الأجنبيّة والكثير من شهادات التّقدير من مختلِف البلدانِ العربيّة والأجنبيّة، ووسام الاستحقاق اللبنانيّ من الدّرجة الأولى في عام 1996، ثم وسام الأرز الوطنيّ من رتبة ضابط في عام 1997.
أمّا المِنَحُ التي أُعطِيت له بمرسوم جمهوريّ فهي التّالية:
◄ صدر مرسوم جمهوريّ في عام 1974، بمنحه ترقية للأقدميّة، سنة واحدة لبلوغه رتبة أعلى لأعمالٍ عسكريَّة باهرة قام بها.

◄ صدر مرسوم جمهوريّ لترقيته حسب الأقدميّة في سنة واحدة لبلوغ رتبة أعلى لقيامه بأعمال أمنية دقيقة في ظروف صعبة في مدينة طرابلس.

مع-رجل-الاعتدال-و-الحوار-سماحة-المفتي-الشهيد-الشيخ-حسن-خالد
مع-رجل-الاعتدال-و-الحوار-سماحة-المفتي-الشهيد-الشيخ-حسن-خالد
مع المرحوم الشيخ الجليل أبو حسن عارف حلاوي
مع المرحوم الشيخ الجليل
أبو حسن عارف حلاوي

بطولات ومآثر
◄ تصدّى للقوّات الإسرائيليّة في أثناء تولّيه قيادة سَرِيّة الطوارئ (فرقة 16) وحال دون تمكُّن الإسرائيلييِّن من الدّخول إلى حَرَمِ الثُّكْنَةِ العسكريّة في (ثُكنة الحلو على كورنيش المزرعة).
◄ أماط اللّثام عن شبكة تجسّس وأوقف أحد عناصرها.
◄ كشف الكثير من الجرائم الخطيرة وأوقف مرتكبيها.
◄ انتُخِب رئيساً لرابطة آل أبي زكي الاجتماعيّة في بلدته “عينبال” الشُّوف، بتاريخ 10/1/1986، وساهم مساهمة فعَّالة لبناء دار العائلة مُقدِّماً الكثير من المساعدات والخدمات في مُختلِف الحقول الإنسانيّة والاجتماعيّة، كما انتخب عضواً في المجلس المذهبي بموجب عام 2006 وتولى رئاسة اللجنة الاجتماعية وكانت له مساهمة فاعلة على صعيد تقديم الخدمات الاجتماعية. ويُذكر أنَّ والده الضابط الشّجاع أيضاً العقيد المرحوم أنيس أبو زكي (1910 – 1989)، ووالدته هي نجلا محمّد أمين حسن من بلدة عترين الشُّوف، في جبل لبنان، وكان متزوِّجاً من مَيّ فؤاد الغريب من بلدة “كفر مَتّى” قضاء عاليه، وأنجب منها ولدين هما: أنيس وباسل.

وفاته
مَرِض مَرَضاً شديداً في أواخر أيّامه، وعلى الرغم من العلاجات المتكررة في الدَّاخل وفي الخارج، إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى فوق كلّ إرادة إذ اختاره وهو بين أفراد عائلته وأقربائه في “عينبال” الشُّوف مسقط رأسه.
رحل العميد عصام أبو زكي إلى الأبد، ولكنّ ذكراه باقية، فهي دعامة الخلود في الآخرة… ولن ينال منك النّسيان مهما كان طاغياً ولا من ذكرك وذكراك أيّها البطل.

توفِّي الرّاحل الكريم في 25 شباط سنة 2018 وكان الوداع الأخير للعميد الذي أعطى ما في وُسْعه من أعمالٍ ومآثرَ وبطولاتٍ يعجز فيها الكلام.

مع الشهيد رفيق الحريري
مع الشهيد رفيق الحريري
صور من التشييع
صور من التشييع

كان مأتمه حاشداً إذ سدَّت الوفود الطّرق المؤدِّية إلى “عينبال” الشُّوف، من الإقليم وبعقلين وغريفة ودَير القمر.
حضر حفل التشييع ممثلون عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء حيث قلّده ممثل رئيس الجمهورية وسام الأرز برتبة ضابط أكبر.
كما حضر المأتم أيضاً جمع غفير من مشايخ طائفة الموحدين الدروز وفي طليعتهم سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن.
ومن أبرز الوفود المشاركة كان وصول الرئيس وليد كمال جنبلاط يرافقه نواب اللقاء الديمقراطي ومسؤولون في الحزب التقدمي الاشتراكي وشخصيات أخرى.
كما حضر المأتم أيضاً قضاة المذهب الدرزي ووفد كبير من مؤسسة العرفان التوحيدية برئاسة الشيخ علي زين الدين وأركان المؤسسة وأساتذة العرفان. بالإضافة الى حضور مدير عام وضباط قوى الأمن الداخلي ورئيس أركان الجيش اللبناني اللواء حاتم ملاك.

وقد تقبّلت العائلة التّعازي أيضاً في دار الطائفة الدرزيّة في بيروت التي كانت مزدحمة بالمُعَزّين فضاقت عن استيعاب الحشود التي جاءت من جميع المناطق اللبنانيّة لتقديم التّعازي الحارّة والأسف الشّديد على فَقْدِ هذا الرّكن الرّكين في البلاد.
وقد قدّم واجب التعزية بالفقيد أيضاً عطوفة الأمير طلال أرسلان.
كان العميد عصام أبو زكي شجاعاً جريئاً ثابتاً في مواقفه بالرّغم من محاولات بعض السياسييِّن إقصاءه عن قيادة الشّرطة القضائية في سنة 1993 إذ كافح الاتجار بالحشيشة والفساد والرّشوة والجريمة، وتمكّن بفعل خبرته وشجاعته وشفافيّته من الإمساك بأصعب الملفّات والإيقاع بأخطر عصابات التجسّس والاتجار بالمخدِّرات. كانت قبضة العميد الرّكن أبو زكي قبضة وطنية من حديد، وبخاصة في اللحظات الحرجة، كما كان لا يُبارى في نزاهته وبشهادة جميع عارفيه وزملائه.

العميد الركن المرحوم عصام أبو زكي مدرسة في الوطنيّة والإخلاص والمحبّة والوفاء ورفعة الأخلاق، انتزع احترام النّاس بمواقفه وحرصه على تنفيذ القانون وتفانيه في خدمة مجتمعه وأهله، كما لقوى الأمن الساهرة على أمن المواطن والدّولة معاً.

عصام ابو زكي
عصام ابو زكي

وادي لامارتين

الموقع
ملتوّياً كالرّقطاء تحفُّ به أسوقُ الصنوبر والدّلب والعفص، والزيزفون، يمتدّ وادي لامارتين من مشارف قناطر زبيدة صعوداً حتى أعتاب شاغور حمّانا ، مارّاً بمزارع عِدَّة، منها ما هو قائم حتى اليوم، ومنها الدّارس بفعل عوادي الزمان من مثل: دار قنات، ودار صيّا، ودير خونة، ودير الرُّغم التابع لبطريركية السّريان الكاثوليك…

أمّا حكاية هذا الدير فتعود إلى العام 1650 حين وفد جماعة من المسيحيين العراقيين إلى لبنان هرباً من الاضطهاد، حيث إستوطنوا بادِءَ الأمر مدينة طرابلس، وهناك ألتقوا أشخاصاً من آل رعد من بلدة الشبانية الذين نصحوهم بالإنتقال إلى الشبانية، حيث قدّم لهم الوقف الماروني قطعة أرضٍ لتشييد ديرٍ عليها شرط تغيير هويتهم من روم إلى كاثوليك.. وهكذا كان .” سريان كاثوليك”.
وأنت تمرُّ في حنايا الوادي وثناياه وتعرّجاته،إذا بالدّهر يسترجع ضجيج مواكب خطرت ذات زمنٍ، فإذا الدروب بوح خُزامى، ونفح صعتر، ووزّال ونُعناع، وشدو بلابلَ، وتراتيل غدرانٍ، وهاكه النسيم أيضاً يحمل على أجنحته ترجيع صدىً لنوح ناياتٍ، وغُصَّةِ أوتارٍ، وبُحة نغمٍ شرودٍ …أمّا على الأديم فيستوقفك التياعٌ وآهاتٍ، وحطام قيثارةٍ خنقها الشجا، إذ إنّ الوادي كان مأهولاً حتى مطالع القرن الثامن عشر…
على هذا الوادي المترامي الأطراف تنتشر عدّة قرىً وضياع: الهلالية، شويت، العبادية، رويسة البلوط، بعلشمية، عين موفق، رأس الحرف، قتالة، القرّية، قبيع، الشبانية، حمّانا، بمريم، الحصيحص، القلعة، الخريبة، بتبيات، دير الحرف، بتخنية، ورأس المتن.. كما تُطلُ عليه من علٍ بلدات: بحمدون المحطة، صوفر، فالوغا وقرنايل..

القارىء العزيز إذا خطر لك أن تقرأ الوادي كلمةً كلمة، بل وحرفاً حرفاً، فإني أشيرُ عليك أن تُشرف عليه بعيني صقر، من هناكَ من فوق، من باب البقعة- المغيثة- من حيث يتدلّى الشلال بحبال بيضاءَ حاكها من حبيبات ثلج علٍ و نوله، ليفترشها النّهر تحته بساطاً متموجاً من الكوثرعلى طول قامته المديدة..

وادي لامارتين الثروة
الوادي غنيٌّ بالمياه، فهو الرافدُ الرئيس لنهر بيروت، فعلى امتداد الوادي هناك أكثر من نبعِ وبئر أرتوازي يُغذي العديد من المناطق بمياه الشفة، لعلَّ أبرز هذه الينابيع وأقدمها استخداماً، نبع الدّلبة الذي يُغذي أجزاء كبيرة من العاصمة بيروت…
وحديثاً تم حفر بئرين واحد في بلدة بمريم، وآخر في بلدة القلعة، حيث يغذيان عدة قرى متنيّة..

إضافةً إلى الثروة المائية، هناك الثروة الحرجية، فعلى امتداد الوادي تقوم غابات الصنوبر – ذهب الجبليين الأسود- إضافة إلى كروم الزيتون، التين، والعنب، والصبّار، وصنوفٍ أُخرى من الأشجار المثمرة..

كما تقوم على ضفاف الوادي الغنّاء بضعة مقاصف ومطاعم ومنتجعات سياحية يقصدها الرّواد من كل حدب وصوب..
وتجدر الإشارة إلى أنه كانت تقوم على هذا الوادي مجموعة من معامل الحرير والمطاحن التي كانت تعمل أحجار رحاها على الماء..

البيئة
تعيش في الوادي بعض الحيوانات البرّية، فإلى الذئب تجد الضبع والثعلب وابن آوى والقنفذ .. كما يعجُّ الوادي بصنوف الطير، فلثغة الشحرور المتناسقة مع خرير المياه تكاد تسمعها على امتداد الوادي، من أخمص قدميه حتى مفرق مشيبه، فوق عند مرمى الثلج.. إضافة إلى البلابل والدوري، وأجواق الحساسين المقيمة عندنا سعيدة، والتي يعكّر صفوها بعض هواة القنص.

ألفونس دي لامارتين
ألفونس دي لامارتين

من أين جاءت تسمية الوادي ؟!
ألفونس دي لامارتين 1790-1869
أثناء زيارة الفونس دي لامارتين النائب في البرلمان الفرنسي، وزعيم الحركة الرومنطقية، وأحد كبارالشعراء الفرنسيين لبنان العام 1833 نزلَ ضيفاً في دارة آل مزهر في حمّانا والواقعة على ضهر شقيفٍ صخري مُطلٍّ على الوادي حيث دامت إقامته واحداً وعشرين يوماً .. شُغف بسحر الوادي وجماليته، ومناظره التي تخلُبُ الأبصار، ما حفّزه على التغنّي بهذه التحفة الطبيعية التي خصَّ الله بها المتن الأعلى، ومما قاله في هذا الوادي:” إن أحد أجمل أعمال الله التي تقع عليه عين الأنسان هو – وادي حمّانا- “.
قرظ لامارتين الوادي بضعة قصائد ضمّنها ديوانيه ” التأملات”و “جوسلين” إضافة إلى مقطوعاتٍ نثرية في مؤلّفه ” رحلة إلى الشرق”.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ لامارتين إنتقل من حمّانا إلى دير القمر حيث مكث فيها واحداً وعشرين يوماً أيضاً، دوّن فيها مشاهداته عن لبنان ضمّنها أيضاً كتابه ” رحلة إلى الشرق” الذي صدر العام 1838..

فُجع لآمارتين في أثناء إقامته في لبنان بوفاة أبنته البالغة من العمر ثماني سنوات فدُفنت في بيروت..
ولمناسبة مرور مئة عام على زيارة ” لامارتين” لبنان وإقامته في حمّانا .. أحيت السفارة الفرنسية العام 1933 إحتفالاً في دارة المقدّم كامل مزهر، وخصّت الدار بمنحوتةٍ لوجه الشاعر لامارتين كعربون تقدير وعرفانٍ بالجميل للدّار المضيفة..


ترغب الضحى بالإبقاء على النص الإنجليزي كما هو ليتمكن مسؤولو بلديات المتن الأعلى (ومن خلفهم المسؤولون في الوزارات المختلفة، وبخاصة وزارة السياحة) أن يتعرّفوا بدقة على أحدث السيناريوهات الممكنة للسياحة في وادي لامارتين والقرى المتنية المحيطة. يقترح تقرير خبير التنمية السياحية د. سموري أن يجري التركيز على أنماط السياحة البيئية الممكنة في وادي لامارتين والقرى المحيطة، ويتجنب الحديث على أنماط السياحة التقليدية mass tourism، التي صارت عبئاً على البيئة كما على المجتمعات المضيفة. الغاية من ذلك واضحة، وهي التطابق مع المعايير الدولية المعتمدة للتطوير السياحي اليوم، Quality tourism ، البيئية، التاريخية، الثقافية، الفولكلورية، وما شابه، أي بما لا يدمّر أو يؤذي البيئة بأنواعها المختلفة (الإيكولوجية والثقافية والاجتماعية وغيرها).
هذا هو العنوان للأفكار والمقترحات التفصيلية التي يسهم بها التقرير في خدمة التطوير السياحي المستقبلي لمنطقة وادي لامارتين في المتن الأعلى والقرى المحيطة.

LEBANON’S LAMARTINE VALLEY
Touristic Survey

By Dr. Jaque Sammouri

< Salima Village

architecture.

Ras el-Matn is located on the western steep slopes of Mount Lebanon in the upper section of Lamartine Valley.
This town is known for its panoramic views and pine trees, giving a splendid view across the valley to the towns of Dhour Chweir, Baabdat, Broumana and Beit Mery.
All roads leading to the town, whether from Monteverdi and Qortada or from Araya and Abadieh or via Baalishmeih, Chbeniyeh, Hamana and Deir el-Harf; traverse unspoiled landscape of pine-clad hills and rivers such as the Jaramani river along the Monteverdi road.
The most notable building inside the town is the historical Serail of the Abillama Princes built in 1775. Visitors can still appreciate the serail’s elegant courtyard and bell tower. (This building requires restoration to safeguard the heritage of this important town.)
The village is remarkable for its natural water spring with an impressive arched façade built in 1472 (Nabaa Ein el Marj).
Much older, are the ancient tombs carved into the rocky cliffs and headlands of Ras el-Matn, while just below the village the refuge of a holy woman, Sitt Sarah can be found in a rock-scattered field. According to the legend, a rock miraculously opened into a cave to shelter Sitt Sarah as she fled from danger. Finally carved from living stone, the site is an ancient tomb chamber.
Many grottos are located in the steep pine-clad slopes above the town, giving visitors and hikers superb views. The umbrella pines that surround the village are a source of pine nuts; while olives, grapes, figs, apricots and other fruits are cultivated here as well.

Deir el Harf is a small village above Ras el-Matn. The Greek Orthodox Monastery of St. George stands in a pine forest, built around an

Lamartine Valley is one of the most panoramic areas of Mount Lebanon; commanding a stunning view of the majestic green mountains of Lebanon, the clear blue sky and the azure Mediterranean Sea. It offers a wonderfully rich environment that is calling out to be explored.
Pine-covered, Higher Matn villages (Ras El Matn, Btikhnieh, Hammana, Shbanieh, Falouga, Qirnayel, Salima, Arsoun, Kobieh, Bzibdine, Bmariam, Baalshmaieh, and others) could be the center of tourist attraction of the area: typical Lebanese Villages nestled in the heart of Lamartine Valley, from 600 to 1200 meters above sea level. Higher Matn district is of the country’s most popular mountain resorts with orchards, red-tiled stone houses, old nostalgic souks and historic palaces. It is famous for its numerous water springs and imposing waterfall known as Shaghour Hammana in Mount Lebanon.
Mezher Palace, in Hammana, a striking Matn monument standing proudly on a cliff overlooking the valley once hosted Lamartine, his wife and daughter Julia during their expedition to the Orient in 1932. Enchanted by the magic of the place, Lamartine wrote (commemorative plaque): “One of the most beautiful views that men have ever beheld, an opportunity to paint the creation of God, is the Valley of Hammana. Painting or words can describe only one detail of the fairylike treasure with which the Creator endowed, going down in succession and filling the valley with their riches”.
Both, Ras El Matn and Salima, hold two big historic monuments: Remains of Lameiin Saray سرايا اللمعيين (governed Matn Region for two centureies).
Qirnayel, Falougha, Shbanieh, and others, have a lot of historic hotels which hosted for decades numerous Arab visitors in addition to special historic events.

Mezher Palace also called Lamartine Palace
Mezher Palace also called Lamartine Palace

THE PROMINENT TOURIST ATTRACTIONS OF THE MAIN villages SURROUNDING LAMARTINE VALLEY

Salima is reached via Baabdat on a road that winds down through an unspoiled valley then up to the opposite hillside.
The main attraction is Salima Palace, a Druze Fortress of the Abillama Dynasty built in 1721 by Emir Hussein, the first Abillama Prince. The main portal of this prominent building is enclosed in an ornate arabesque molding with two lions flanking the central arch. Above the portal is the old diwan which leads you to the
A tour around the town will reveal several old churches the oldest of which was built in 1684 as well as a number of ancient houses contemporary with the castle.
All these old structures still stand, but unfortunately, most of them are in an advanced state of ruin. Salima has in spite of all a feudal architecture.

Ras el-Matn is located on the western steep slopes of Mount Lebanon in the upper section of Lamartine Valley.
This town is known for its panoramic views and pine trees, giving a splendid view across the valley to the towns of Dhour Chweir, Baabdat, Broumana and Beit Mery.
All roads leading to the town, whether from Monteverdi and Qortada or from Araya and Abadieh or via Baalishmeih, Chbeniyeh, Hamana and Deir el-Harf; traverse unspoiled landscape of pine-clad hills and rivers such as the Jaramani river along the Monteverdi road.
The most notable building inside the town is the historical Serail of the Abillama Princes built in 1775. Visitors can still appreciate the serail’s elegant courtyard and bell tower. (This building requires restoration to safeguard the heritage of this important town.)
The village is remarkable for its natural water spring with an impressive arched façade built in 1472 (Nabaa Ein el Marj).
Much older, are the ancient tombs carved into the rocky cliffs and headlands of Ras el-Matn, while just below the village the refuge of a holy woman, Sitt Sarah can be found in a rock-scattered field. According to the legend, a rock miraculously opened into a cave to shelter Sitt Sarah as she fled from danger. Finally carved from living stone, the site is an ancient tomb chamber.
Many grottos are located in the steep pine-clad slopes above the town, giving visitors and hikers superb views. The umbrella pines that surround the village are a source of pine nuts; while olives, grapes, figs, apricots and other fruits are cultivated here as well.

Deir el Harf is a small village above Ras el-Matn. The Greek Orthodox Monastery of St. George stands in a pine forest, built around an open courtyard. It has a rust- colored stone church and communal buildings around. The monastery’s known history begins sometimes in 18th Century and the church itself dates to 1790. It possesses and iconostasis of wood as well as a collection of beautiful icons, mostly from the 19th Century. The frescos covering the walls and vaults were completed in 1972 by Romanian painters.
Visitors can spend a whole day in this monastery as a religious pilgrimage.

Chbaniye like most villages in Lamartine Valley area Chbaniye is covered by trees and orchards. It is located amidst a beautiful vast valley which dazzled the French Poet Lamartine.
Chbaniye extends from Damascus Road, at Mdeirej station on the east, to Delbeh Spring Valley on the west which bursts from the last plot in the village and irrigates the last suburbs of Beirut.
Chbaniye has a large pine forest and is a remarkable summer resort which attracts a noticeable number of visitors for vacation and relaxation.
Apart from Hammana which is the core tourist attraction of Lamartine Valley and a hub station in the area; many spoke destinations rotate around.

Organized
Sightseeing
Package Tours

A series of organized package tours could be arranged in the area as the core center of attraction. These package tours can extend from one to three-days, with a stay of one or two nights in conventional hotels, tourist resorts, family guesthouses or eco-lodges. Such tours could be themed as scenic drives, nostalgic trails or romantic tracks; visiting panoramic natural sites, historical monuments and different cultural attractions in the surroundings of Hammana, Ras El Matn, Qarneyel, Btekhnie and other Matn villages.
The different itineraries of these package tours could include visits to different villages located on both banks of the valley, namely Hammana heights, Falougha and Kornayel – Bzebdine Woodlands, Hasbaya, Salima and Baabdat – Mtein, Bois de Bologne and Mrouj – Mdeirej, Sofar, Bhamdoun and Chbaniyeh…
Tourists can enjoy as well pleasant drives along scenic routes passing through peaceful villages, farmlands and fruit orchards overlooking fascinating views of the pine-covered Lamartine Valley:
֍ Aabadiyeh > Roueissat el Ballout > Ras el Metn > up to Hammana
֍ Baaleshmay > Ras el Harf ascending to Falougha and Hammana.
֍ Ras El Matn > Qirnayel > Btekhnai > Hammana or Bzibdine > North Matn ditinct


Diverse Ecotourism Activities (Natural and Cultural) in the region

On both banks of the river that runs through one of the deepest valleys of Lebanon, it offers an ideal environment for outdoor activities built on ecotourism. Such non-polluting and low-impact activities include hiking, trail biking, canyon rappelling, abseiling over the waterfall, trekking through a cedar forest that is 100-years old or snowshoeing in winter. These activities will delight both experienced nature lovers and amateurs alike, enjoying the nature, the mountains, forests and woodlands.
During their visit to the district, tourists can appreciate as well some cultural attractions and historical monuments such as:
֍A walk through the old souk of Hammana, Ras El Matn, Qirnayel, for example, where small shops area located around a well-preserved traditional fountain or historic monuments, etc, which draw back to the old days of Lebanon, and sell various handicrafts, fresh produces and mouneh agro-food products.
֍The 300-years old Mezher Palace, old residence of the Druze governors of the higher Metn district.
֍Ras El Matn Lamii Saray
֍Hammana Artist House dedicated to the performance of visual arts.
֍Various old churches pertaining to different Christian rites.
֍The Religious sites.
֍The annual Cherry Festival which is a 50-years old tradition and one of the main attractions of Hammana famous for its wide variety of cherry orchards. It is held yearly in the month of June. During this festival, visitors coming from all surrounding villages in Lamartine Valley district can enjoy picking their own cherries and partake in different rural activities.

Different Types of Tourist Lodgings with multiple Activities

A wide range of tourist accommodation types and lodgings are offered in the region. Individuals, couples, groups and families can find their preferred levels of comfort according to length of stay, purpose of visit, budget and activities performed. The different categories of accommodation can be classified as follows:
֍Country Clubs with lots of outdoor adventures and leisure activities for groups and friends such as camping, picnicking, archery, climbing, rappelling and abseiling.
֍Village-Vacances where students and families enjoy hiking, biking, sightseeing, treasure hunts and neighborhood explorations.
֍Ranch Houses offering numerous adventures such as horseback riding, skeet/trap shooting, animal feeding, vegetable picking, campfires, knots and ropes.
֍Eco-tourist resorts and lodges providing educational activities relative to organic food and agriculture, traditional nutrition practices and activities related to ecology and natural conservation, as well as responsible camping and practical guidance.
֍Guesthouses owned by rural families where visitors can share the customs and traditions of rural communities, taste their local food recipes and partake in their agricultural and farming activities.
֍Eco-lodges built with local materials, often with clay or thatched roofs in a local style complying with its natural environment and respecting strict environmental regulations regarding energy supply, water usage and waste disposal.
֍Obviously, classical tourists can spend their overnights in two or three conventional hotels in Hammana offering regular tourist services.

Innovative Projects

Some new projects are worth to be considered as they contribute to the development of the area, promote the tourism sector and generate more income to the region.
֍An observatory platform with a telescope situated on a commanding cliff at the summit of Hammana village enabling visitors to contemplate the splendor of Lamartine Valley and discerning the gorgeous view of the canyon. A revolving café restaurant at the top with a parking area on the platform would further valorize this project.
֍A cable-ride (teleferique) over Al Shaghour Waterfall crossing the distance between two platforms in the mountain and overlooking the Cedar Forest and/or a funicular or cable railway ascending Al Shaghour Canyon, in which an ascending car counter balances a descending car.
֍Encouraging twinships between Matn Villages and European villages (Hammana twinship with Macon in France is a good example). Similar arrangement could be done at other Matn villages, a way to exhibit the rich cultural activities and tourist attraction held in Higher Matn distinct.

الجريمة الاقتصادية وطابعها العابر للحدود في ظل العولمة والجريمة المعلوماتية

الجريمة الاقتصادية: مفاهيم متعددة وتعريف موحد غائب.
يقصد بالاجرام الاقتصادي والمالي في شكل عام كل وجه للاجرام غير العنفي الذي تكون نتيجته التسبب بخسارة مالية. وهو يغطي ويشمل شريحة واسعة من النشاطات غير القانونية ولا المشروعة بما فيها الغش، التهرب الضريبي وتبييض الاموال.] وهي تشمل الاعمال التالية:
1- الممارسات الاحتيالية القائمة على الغش والتدليس واستغلال الحالة الاقتصادية من قبل الشركات المتعددة الجنسيات.
2- اختلاس الاموال الممنوحة من قبل المنظمات الدولية.
3- جرائم المعلوماتية.
4- المنافسة او المزاحمة غير المشروعة.
5- الجرائم الجمركية.
6- الجرائم الماسة بالعملة والصرف.
7- الجرائم المصرفية والمتصلة بالبورصة.
الطبيعة الجديدة للجريمة الاقتصادية في عصر العولمة:
العولمة ظاهرة متميزة وهي لحظة جديدة في التاريخ البشري. ومن العوامل التي انجبت العولمة، الطفرة في تقنية الاتصالات والمعلومات ووسائل النقل وشبكة الانترنت والتغيرات الجذرية في بنية العلاقات الدولية خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الامر الذي ادى الى تفرد الولايات المتحدة الاميركية بقيادة العالم. هذا بالاضافة الى التركز الشديد لرأس المال في ايدي شركات عملاقة هي الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية، فضلاً عن قيام منظمة التجارة العالمية التي حررت بقواعدها النشاطات الاقتصادية وفتحت الاسواق والغت الحواجز على مستوى العالم. ومن أبرز الجرائم التي انتجتها العولمة جرائم الحساب الآلي الاقتصادية او “جرائم المعلوماتية”.

جرائم الحاسب الآلي الاقتصادية:
يلغ التوسع الكبير باستخدام الكمبيوتر حد أصبحت هذه الادمغة الالكترونية – مع ما تتصل به من اجهزة اتصالات- موجودة في كل المجالات، ويرجح ذلك الى عاملي السرعة والدقة اللذين توفرهما هذه الحاسبات.
لكن سرعة انتشار الكمبيوتر والانترنت واستخدامهما وفر للجناة وسيلة هامة لارتكاب العديد من الجرائم الحديثة التي يطلق عليها تسمية “جرائم المعلوماتية”، وهي تتصل بتقدم المجتمعات، فكلما ازداد اعتماد المجتمع بمؤسساته المختلفة على الحسابات الألية كان ذلك ايذاناً بزيادة معدل هذه الجرائم.
يمكننا الاستنتاج ان جريمة المعلوماتية هي:[كل تلاعب بالحساب الآلي ونظامه من اجل الحصول بطريقة غير مشروعة على مكسب او الحاق الضرر والخسارة بالمجني عليه. وهي النشاط الذي يؤدي فيه نظام الحاسب الآلي دوراً مهماً لإتمامه].
بماذا تتميز الجريمة المعلوماتية عن الجريمة التقليدية؟!
تختلف الجريمة المعلوماتية بصفة عامة عن الجريمة التقليدية بعدة نواح، منها: ارتفاع الفارق بين الحجم الحقيقي للجريمة وما هو مسجل في الاحصائيات، وذلك بسبب عدم تعريفها بالاضافة الى عدم ابلاغ المجني عليه عن الجريمة التي وقعت عليه اما لنقص الخبرة واما حرصه على سمعة مؤسسته المالية.
كما يتمثل الاختلاف بين الجريمة المعلوماتية وتلك التقليدية لناحية الخسائر بحيث تكون نسبتها مرتفعة بصورة كبيرة في الجريمة المعلوماتية بالمقارنة مع غيرها من الجرائم.
اخيراً تتميز الجريمة المعلوماتية بكونها غير عنفية كما تتسم بالسرعة الهائلة التي يتم من خلالها تنفيذها وحجم الاموال والمعلومات المستهدفة والمسافة التي تفصل بين الجاني والمجني عليه.
يرمز إلى المجرم المعلوماتي وفق PARKER، وهو احد اهم الباحثين في الجريمة المعلوماتية، بكلمة SKARM وهي:
(S) وتعني (SKILLS) أي المهارة العالية التي يتطلبها تنفيذ النشاط الاجرامي والتي يكتسبها الجاني عن طريق الدراسة المتخصصة في مجال الكمبيوتر او عن طريق الخبرة المكتسبة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
(K) وتعني (Knowledge) أي المعرفة في التعرف على كافة الظروف التي تحيط بالجريمة المراد تنفيذها وامكانيات نجاحها بحيث يستطيع الجاني ان يكون تصوراً كاملاً لجريمته اذ ان مسرح الجريمة هو الكمبيوتر. فيستطيع ان يطبق جريمته قبل تنفيذها.
(R) وتعني ((Resources أي الوسيلة والامكانيات التي يتزود بها المجرم المعلوماتي لاتمام جريمته.
(A) وتعني (Authority) أي السلطة، والمقصود بها الحقوق والمزايا التي يتمتع بها المجرم المعلوماتي وتتمثل بالشيفرة الخاصة بالدخول الى النظام الذي يحتوي على المعلومات او في الحق باستعمال الكمبيوتر.
(M) وتعني (Motive) أي الباعث وراء ارتكاب الجريمة ونجد ان البواعث الرئيسية لارتكاب جريمة المعلوماتية هي ثلاثة:
– الباعث الاول يتمثل في تحقيق الربح المادي. والمجرم الذي يحركه هذا الدافع ينتمي لطائفة (Career Criminal).
– الباعث الثاني يتمثل في الرغبة في اثبات الخبرة التقنية وينتمي هذا المجرم الى طائفة (Pranksters).
– الباعث الثالث يتمثل في الرغبة بالضرار بانظمة الحسابات الآلية وينتمي الى طائفة (Malicious (Hackers.
وفي النهاية، نجد ان المجتمع الدولي قطع اشواطاً لا يستهان بها من اجل وضع الاتفاقيات الدولية لمكافحة هذه الظاهرة، لكن لا يمكنه التكلم عن تعريف موحد للجرم الاقتصادي ولا عن قضاء دولي في هذا المجال.
لذا على المشترع اللبناني، الى جانب الدور الرائد الذي يلعبه مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية والملكية الفكرية في الحد من هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، الاسراع في التنظيم من خلال اقرار تشريعات خاصة متكاملة من شأنها ان تؤمن للبنان الجهوزية الكاملة للعب دور محوري رائد في محيطه، لا سيما في مجال التسويق لكافة انواع التكنولوجيا وفي مجال التجارة الالكترونية ونقل وتبادل المعلومات عبر الشبكات الدولية.

لينا رعد الحمره – باحثة القانونية

حمَد صعب

حمَد صعب
أسطورة جهاد معروفيّة

المجاهد المعروفي في ثورات المشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين

خُلِق حَمد صعب لِيخوضَ غِمار الثّورات التي نشبت في زَمَنِهِ في المشرق العربي الذي شهد أفول شمس الدّولة العُثمانيّة عام 1918، فمن أين جاء هذا الرجل الذي انخرط منذ بواكير شبابه في ميادين الكفاح باحثاً عن تجسيد للحُلُم العربيّ يتجاوز ذلك الخمول الذي ران على الأمّة طيلة قرون مديدة سيطر فيها التخلّف على العرب والمسلمين؟.

نعم؛ لم يَزَل الرّجل حاضراً في ذاكرة النُّخبة من المؤرّخين والمثقّفين العرب الذين يقرّون بحقائق التاريخ. وكذلك هو الحال في أوساط أبناء المجاهدين وأحفادهم في جبل العرب.
كتب المجاهد الأستاذ الصحافي أكرم زعيتر مُشيداً بنضال بني معروف وانتمائهم إلى تراث العروبة يقول: ” تتردّد في ذاكرتي أسماءُ الشّهداء الأبطال من بني معروف كرشيد طليع والقائد العبقري فؤاد سليم وعادل نكد وحمد صعب من دروز لبنان وأمّا الشهداء من جبل العرب فلا يحصيهم عَدٌّ…”(1).

من هو حمد صعب!
وُلِدَ حَمَد بن محمود بن حسين بن محمود بن مرشان صعب عام 1891 في قرية الكحلونيّة في الشّوف وقد تلقّى علومه الأولى في المدارس المحلّيّة. التحق بالجندية العثمانيّة عام 1913، وتركها عام 1918 ليلتحق بالحكومة الفيصلية العربيّة في دمشق واشترك في معركة ميسلون في 22 تموز 1920 وكان أحد الأبطال الوطنيين الذين شنّوا حرب العصابات بقيادة فؤاد بك سليم ضد قوّات الاحتلال الفرنسي عند دخولها البلاد فشغلوا الجيش الفرنسي من جبل عامل حتى جبال العلوييِّن مدّة من الزّمن، وكان من رفاقه حسيب ذبيان وسعيد ملحم بشير ونجيب حمادة وكامل حمادة وناصيف ذبيان وحمد الحسنية وسلمان الحسنية، ثم نزح مع بعض المجاهدين إلى إلى الأردن حيث بقي فيها إلى أن اندلعت الثورة السوريّة الكبرى سنة 1925 فالتحق بها..(2)
كان حمد صعب من خاصّة الرّجال المقرّبين من الرّئيس ــ رتبة عسكريّة آنذاك ــ فؤاد سليم، الذي كان قائد الفوج المؤلّف من سلاح الفرسان والمشاة في جيش الثورة العربيّة الذي دخل إلى الشام مع الملك فيصل بن الحسين، وعندما انسحب فيصل من سورية بعد معركة ميسلون أرسل فؤاد سليم إلى حيفا بمهمّة لدى الإنكليز، ثم عهد إليه بأن يذهب إلى الأردن لتمهيد الأمر مع رؤساء العشائر العربية والإعداد لثورة شاملة ضدّ الفرنسييِّن تشترك فيها سوريا والأردن وجبل الدروز وتكون عمّان مركزها …”(3)
واستمر حمد صعب إلى جانب فؤاد سليم يجمعهما هدف عروبي جهادي واحد، فأولئك النّخبة من رجال الحلم العربي الذين كافحوا ضد العثمانييِّن وكانوا إلى جانب فيصل في دمشق قد انتقل غالبيّتهم إلى الأردنّ، ولكنّ بعضهم، وبعد أن تبيّن لهم أنّ عبد الله بن الحسين أمير دولة شرق الأردن ينفّذ سياسة الإنكليز خِفيَةً عنهم ومنهم رشيد طليع وعادل أرسلان وحمد صعب ورفقاؤهم فقد انتقلوا تباعاً إلى جبل الدروز (كما كان يُدعى حينها) للانضمام إلى القتال في معارك الثّورة السورية الكبرى بعد انتصاراتها الأولى التي حقّقتها على القوّات الفرنسيّة. ومن الثابت أنّ حمد صعب ورد اسمه مراراً في مذكّرات سلطان باشا الأطرش (4) وكان من بين أولئك الرّجال الذين لم يتنازلوا عن الحلم بالدّولة العربية الذي قاتلوا العثمانييِّن من أجله، ومن ثمّ قاتلوا الفرنسييِّن، وتناقضوا مع الإنكليز من أجل تحقيقه أيضاً.

بلدة الكحلونية حيث ولد حمد صعب
بلدة الكحلونية حيث ولد حمد صعب

الملك فيصل بن الحسين، وعندما انسحب فيصل من سورية بعد معركة ميسلون أرسل فؤاد سليم إلى حيفا بمهمّة لدى الإنكليز، ثم عهد إليه بأن يذهب إلى الأردن لتمهيد الأمر مع رؤساء العشائر العربية والإعداد لثورة شاملة ضدّ الفرنسييِّن تشترك فيها سوريا والأردن وجبل الدروز وتكون عمّان مركزها …”(3)
واستمر حمد صعب إلى جانب فؤاد سليم يجمعهما هدف عروبي جهادي واحد، فأولئك النّخبة من رجال الحلم العربي الذين كافحوا ضد العثمانييِّن وكانوا إلى جانب فيصل في دمشق قد انتقل غالبيّتهم إلى الأردنّ، ولكنّ بعضهم، وبعد أن تبيّن لهم أنّ عبد الله بن الحسين أمير دولة شرق الأردن ينفّذ سياسة الإنكليز خِفيَةً عنهم ومنهم رشيد طليع وعادل أرسلان وحمد صعب ورفقاؤهم فقد انتقلوا تباعاً إلى جبل الدروز (كما كان يُدعى حينها) للانضمام إلى القتال في معارك الثّورة السورية الكبرى بعد انتصاراتها الأولى التي حقّقتها على القوّات الفرنسيّة. ومن الثابت أنّ حمد صعب ورد اسمه مراراً في مذكّرات سلطان باشا الأطرش (4) وكان من بين أولئك الرّجال الذين لم يتنازلوا عن الحلم بالدّولة العربية الذي قاتلوا العثمانييِّن من أجله، ومن ثمّ قاتلوا الفرنسييِّن، وتناقضوا مع الإنكليز من أجل تحقيقه أيضاً.

حمد صعب يواجه منفرداً فصيل المداهمة الفرنسي في بيته في الكحلونية
يقول نبيه فيصل: ولعلّ أبرز شخصية في تاريخ الكحلونية هو المغفور له حمد بك صعب، وقد كان قائداً فذّاً شارك في الثّورات العربيّة الثلاث المشهورة: ثورة الشريف حسين (أي: الثورة العربيّة الكبرى على العثمانيين عام 1916)، وثورة سلطان باشا الأطرش (أيّ: الثّورة السورية الكبرى عام 1925ــ 1927)، وثورة فوزي القاوقجي؛(أي: الثورة الفلسطينية عام 1936)، وقد استشهد في العراق عام 1941(على أثر قصف الطائرات البريطانية لقافلة سيّارات من بينها السيّارة التي كانت تُقِلُّه إلى جانب فوزي القاوقجي على أثر مشاركتهما مع العديد من الثُّوار السورييِّن والفلسطينييِّن واللبنانييِّن في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضدّ الإنكليز وعملائهم) حين رمى بنفسه على القاوقجي فنجا (أي: القاوقجي) وأصِيب حمد يومها إصابة قاتلة…
ويذكر نبيه فيصل لحمد صعب حادثة بطولة فريدة بقوله: جاءت ” كَبْسة فرنسيّة”، (أي: جماعة من عناصر الدّرك الفرنسي) بُعَيْدَ طلوع الفجر تطرق بابه للقبض عليه في قريته الكحلونيّة، كان قائد المجموعة برتبة ضابط. فتح حمد بك الباب بنفسه إذ لم يكن من رجل غيره في البيت، وكان لا يزال في ثياب النوم، فالمداهمات تكون عادة عند طلوع الفجر، سألوه عن حمد صعب، فقال: ” تفضّلوا بالدّخول وسوف يحضر حمد حالاً بعد أن تكونوا قد شربتم القهوة، وتركهم يشربون القهوة في بهو منزله الأثري الذي لم يزلْ قائماً، ويسمّى الآن ” الخلوة” وهو منزل جميل فعلاً وفسيح يقيم فيه ذووه. دخل إلى غرفته وارتدى الزّيّ العسكريّ الذي يرتديه أثناء خوض المعارك وامتشق سلاحه وجُعَبَ رَصاصِه ودخل إليهم قائلاً: “تفضّلوا؛ أنا حمد صعب بتصرِّفكم”!.
ويُحكى أنّ الضابط وقف احتراماً لهيبته، ثمّ قال: “يبدو أنّي لست بالحجم والمستوى المناسبين للقبض على حمد صعب، وسوف أعتبر نفسي لم أحضر حتّى الساعة، فجوادك مُسْرَج وقد رأيناه، يمكنك امتطاؤه والذّهاب حيث تريد…”(5)
ويذكر أدهم الجندي وعلى أثره يسير الدكتور الباشا أنّ حمد صعب التحق بالثّورة(الدّرزيّة)، وحقيقة الأمر أنّ ما يدعوه كلّ منهما بـ (الثورة الدرزيّة) ما هو إلاّ الثّورة السوريّة الكبرى؛ لأنّ بني معروف؛ المُوَحّدين الدّروز لم يقوموا بثورة طائفيّة تنحصر حدودها في حدود تواجدهم الطائفي، ولو كان هذا هدفهم لقبلوا بالدّولة الدّرزيّة التي منحتهم إيّاها فرنسا واعترفت لهم بها، وقد كانت حدود تلك الدّولة المعترف بها من سلطات الانتداب آنذاك تتجاوز ضعف مساحة محافظة السّويداء الحاليّة، إذ إنّ كافة الحكومات الوطنيّة التي تعاقبت على السّلطة منذ استقلال سورية بدون استثناء؛ قد قامت بتقليص مساحة المحافظة إلى نحو نصف ما كانت عليه في عهد الانتداب.
ما يهمّنا هنا أنّ حمد صعب وأقرانه من مجاهدي بني معروف لم يقاتلوا لأغراض درزيّة طائفيّة؛ بل قاتلوا من أجل دولة عربيّة مستقلّة؛ حدودها من عدن إلى جبال طوروس…

حمد صعب كاتباً لدى الشيخ يحيى الأطرش في دار إمارة الموحدين الدروز في بلدة عِرى
من خلال البحث الميداني في التاريخ الشّخصي للمجاهد حمد صعب يبدو لنا أنَّ هناك فترة منسيّة لم يُشر إليها أحد ممّن أرّخوا لحياة هذا المجاهد الكبير، وهي الفترة التي تلت انتهائه من مدرسة بعقلين، أي فترة شبابه الباكر، وهي أنّ حمد صعب عمل كاتباً عند شيخ مشايخ الدّروز يحيى بيك الأطرش في بلدة ” عِرى”(6)، وكان على صلة حسنة به، ومن المعروف أنّ يحيى الأطرش توفّي عام 1914، وأنّه أي يحيى بيك كان على صلة بالحركات العربيّة السرّيّة المناهضة للعثمانيين، وأنّ الوالي العثماني على الشام آنذاك جمال باشا السفّاح قد أرسل قوّة من الجنود العثمانيين لاعتقاله بدعوى انتمائه لـ “الجمعيّة العربية الفتاة “التي يقوم العثمانيون بملاحقتها؛ غير أنّه عندما وصل هؤلاء إلى قرية “عِرى” كان أمامهم حشود من الموحّدين الدّروز يحضرون جنازة زعيمهم المتوفّى يحيى بيك الأطرش…
والسؤال هنا؛ لئن كان يحيى الأطرش عضواً في الجمعيّة العربيّة الفتاة، فهل يُسْتَبْعَدُ أن يكون كاتبه والمقرّب منه، الدّرزي اللّبناني حمد صعب بعيداً عن التأثّر بفكرة العربيّة الفتاة ودعوتها العروبيّة للتحرّر من النّير العثماني؟ وعلينا ألّا ننسى أنّ عدداً غير قليل من اللّبنانييِّن؛ ومنهم الدّروز لم يكونوا بعيدين عن المشاركة في الحركة الاستقلاليّة عن الحكم العثماني، وقد أثبتت ممارسات حمد صعب طيلة حياته أنّه قد وضع حياته رهناً لفكرة العروبة النّبيلة إلى جانب من رافقه في النّضال من أجل تحقيق ذلك الحلم الذي مازال متعثّراً إلى يومنا هذا.
وبالاستناد إلى رواية الدكتور ملاعب نستنتج أنّ الشّاب حمد صعب مارس عمله كاتباً في دار إمارة الدّروز قُبيل انتسابه إلى الجيش العثماني في عام 1913 حسب ما يذكره المؤرّخون الذين سبق لهم أن تناولوا سيرة حياة الرّجل بشكل مُختصَر لفقدان مذكّراته يوم استشهاده، وهذا التقصير في التأخّر في جمع المعلومات حول سيرته يرتّب على الباحث أن يُنَقّب في مذكّرات وسيَر معاصريه لكشف صورة واضحة تجلو ما أحاط جهاد ذلك المناضل من غموض.

المجاهد حمد صعب
المجاهد حمد صعب

حمد صعب، ومحاولة اغتيال الأميرال مورني في بعقلين عام 1919
في شهر آب من العام 1919 كان قائد الأسطول الفرنسي الأميرال مورني يصحبه الدبلوماسيّ الفرنسيّ جورج بيكو ويرافقهما ضباط كبار وموظفون تابعون، وكانوا بصدد زيارة سماحة شيخ العقل؛ الشّيخ حسين حمادة. في تلك الأثناء أُطْلِق رصاص غزير على مورني ومن يرافقه، فأصيب وصدرت الأوامر بالرّد، وعلى أثر هذه الحادثة حَمَّل الفرنسيون مسؤوليّة ما جرى إلى كلّ من مجموعة شكيب وهّاب ومجموعة حمد صعب(7)، لذا فقد بعثوا بحملة عسكرية إلى الشوف قامت بمداهمة القرى الشّوفيّة، فَدَمّرت البيوت وأَحرقت القرى، وبطبيعة الحال كان لبعقلين بصفتها مكان عمليّة محاولة الاغتيال، وغريفة بلدة شكيب وهّاب؛ ومزرعة الشوف والكحلونية بلدة حمد صعب نصيبٌ وافرٌ من الدَّهْمِ بقصد ملاحقة شكيب وهّاب وحمد صعب وغيرهم من الثوّار، أمثال فندي أبو ياغي زهر الدّين، وسعيد ملاعب وكان لكلّ من حمد وشكيب مجموعة يقومان بقيادتها في مقاومة الفرنسيين، ومن بين المطلوبين أيضاً كان المجاهدان فارس سَرِيّ الدّين، وأحمد عبد الباقي…
إن عبئاً غير قليل يقع على كاهل من يبحث في حياة حمد صعب هذا المجاهد البارز الذي لم يقيّض له من يبحث بتوسّع في موضوع كفاحه الوطني لظروف عديدة، ولكن أخباره تنتشر متفرّقة في بطون الكتب التي تناولت بطولات المجاهدين وثوراتهم وأخبارهم في سنوات العقد الثاني من القرن العشرين وحتى سنة استشهاده عام 1941م، ومِمّا يذكره نديم الدبيسي أنّه ” في عهد الانتداب الفرنسي كان الثّوار يلجأون إلى قرية مْرستي للاختباء في منازلها وفي جبلها هرباً من العساكر التي كانت تلاحقهم، أو للاستراحة من عناء السّير عند ذهابهم إلى البقاع وسوريا والأردن وفلسطين، وأثناء عودتهم منها. وقد شارك في الثورة ضد الانتداب الفرنسي عدد من الثوّار والمجاهدين…” وفي معرض أسماء المجاهدين الذين يذكرهم الدّبيسي(8) ممّن كانوا من روّاد مرستي تلك الأيام العصيبة يرد اسم المجاهد حمد صعب، وتقتضي منّا الأمانة ألاّ نكتفي بذكر المجاهد صعب لكونه موضوع البحث الرّئيس هنا، بل علينا أن نذكر أسماء رفاقه لكي يبقى ذكرهم مثلاً يقتدى به للأجيال، ومن أولئك الأبطال:” شامل نجم عزام من قرية معاصر الشوف، وفؤاد علامة من بعذران، وصالح العسل من بكّيفا، واسماعيل عبد الحق من عين عطا، وحسن ثابت من باتر، وأحمد سليمان هاني من بعذران، وزين الدّين شاذبك من بعذران، وخطار أبو هرموش من السمقانية وفارس سريّ الدين من عترين، وسعيد وشاهين ملاعب وشفيق سليمان الحلبي من بيصور، وسليم وغضبان الدّبيسي من عرمان (جبل العرب)، وقاسم زهر الدين وفندي أبو ياغي زهر الدين من كفر فاقود، وهاني الدّلغان من كفر نبرخ وسعد نجم الغصيني من بعقلين ويوسف حسين الحلواني من مرستي، وهاني زحلان من عاليه، وأحمد البتلوني وعمار الخفاجي وعلي شرف من جباع الشوف”. كان أهالي قرية مرستي بنتيجة إيوائِهم ومساعدتهم للثوّار يعانون أشد أنواع القهر والعذاب من قبل رجال الجندرمة الفرنسييِّن الذين كانوا يداهمون القرية على شكل مجموعات من ثلاثين أو أربعين عسكريّاً مع خيولهم؛ حيث يقومون بتفتيش المنازل وتوقيف الأشخاص والتحقيق معهم، ويفرضون على الأهالي غرامات ماليّة، وتقديم الطعام لهم والعلف لخيولهم.

حمد صعب؛ الناشط ضد
الاحتلال الفرنسي
ولعلّ ما يؤكّد صلة حمد صعب بالنشاط السرّي في الجمعيّات العربيّة صلته الوطيدة بالعقيد فؤاد سليم وهذا هو أحد الضباط الأحرار في جيش الثّورة العربيّة الذي شارك في دحر العثمانييِّن من الحجاز والشام. وعلى أثر فضح الشّيوعيين البلاشفة عام 1917 خداع الإنكليز والفرنسيين للعرب ونشرهم معاهدة سايكس بيكو التي كانوا قد أبرموها سرّاً عام 1916، وردّاً على الغدر الأ نكلو فرنسي بأماني العرب الوطنية؛ أقدم الضبّاط الأحرار في الجيش العربي آنذاك على عقد اجتماع سِرّيّ واختاروا العقيد فؤاد سليم رئيساً لِتَجمّعهم باسم ” تجمّع الضبّاط الأحرار”.
كان هذا قبل أن يتمَّ تحرير بلاد الشام من الاحتلال العثماني عام 1918، وكان حمد صعب قد التحق في أواخر تلك السنة بقوّات الثّورة العربيّة التي كان يقودها الأمير فيصل بن الحسين. وعندما تمّ تشكيل الحكومة العربيّة الأولى برئاسة رضا باشا الرِّكابي في دمشق بعد طرد العثمانييِّن منها كُلّف العقيد فؤاد يوسف سليم بقيادة فوج المشاة السيّار، وكان هذا الرّجل، ولبعد نظره، ولإحساسه بالمخاطر التي تتهدّد البلاد قد بادر باختيار فريق من الرّجال الشّجعان الموثوق بإخلاصهم الوطنيّ، ومن هؤلاء الرّجال المختارين كان المجاهد حمد صعب؛ الذي كانت رتبته في الجيش العثماني؛ نائب وكيل، وبهذا يكون حمد صعب قد كرّس انشقاقه عن الجيش العثمانيّ ليلتحق مقاتلاً في جيش الثّورة العربيّة الذي كان يقاتل للتخلّص من النّير العثماني الذي خيّم على العرب طيلة ما يربو على أربعة قرون…
كان العقيد فؤاد سليم قد اختار رجاله فرداً فرداً من مختلف الطوائف والفئات الاجتماعية في البلاد وأطلق عليهم اسم ” فرقة المغاوير الفدائية “، وكان حمد صعب واحداً من أولئك النّخبة الذين كافحوا ضد آلة الاستعمار الفرنسية العاتية؛ أقوى دولة على البر الأوربي آنذاك، وقد عملت هذه الفرقة المُنْتقاة من المجاهدين على تنفيذ عمليّات مقاومة وقتال شاغلت فيها الجيش الفرنسيّ في مواقع عديدة في سهل البقاع وعلى الحدود اللبنانيّة والسوريّة…
حمد صعب وعشرات من الدّروز يقاتلون في معركة ميسلون
في مقابلة شخصية أجراها الدكتور حسن أمين البعيني مع النائب شبلي العريان بتاريخ 23 آب 1986، ذكر العريان أن الأمير زيد بن الحسين، أخا الملك فيصل أرسل حمد صعب، وسعيد محمود وأخاه مصطفى، من دروز الشّوف إلى توفيق العريان،والده؛ ليستنفر المقاتلين من أجل الذهاب إلى ميسلون(التي هي عبارة عن ممرّ إجباري للجيوش على الطريق إلى دمشق)، والتصدّي للفرنسييّن. فحضر والده إلى ميسلون مع الرسل الثلاثة (أي: حمد صعب والأخوان محمود)، وعشرات المجاهدين واشتركوا في القتال، وأبرز المقاتلين الذين يتذكّرهم شبلي العريان هم علي أسعد العريان، وسليمان سيّور، وفؤاد الحلبي، وملحم سلّوم وسعيد ملاعب(9)
و ” ابتداء من نيسان 1919شرعت الحكومة العربيّة (أي الحكومة الفيصليّة في دمشق) بتشجيع العصابات الوطنية في “المنطقة الغربيّة”،(أي الساحل السوري اللّبناني) …
ومن بين تلك المجموعات الوطنيّة مجموعة من المجاهدين ” مؤلّفة من 103 مجاهدين من مناطق متعدّدة سوريّة ولبنانيّة، بينهم الكثير من الدّروز اللُّبنانييِّن الذين يأتي في طليعتهم القائد فؤاد سليم ومعاونه الملازم حسيب ذبيان”(10) كما أنّ “الحكومة العربيّة أرسلت عصابَتَيّ سعيد محمود وسعيد ملاعب الدرزيّتين للقيام بعمليات إخلال الأمن في جهات الجُرد والشحّار وجبل الباروك. ولم تتصدّيا ومثيلاتهما للفرنسييِّن فقط، بل تصدّتا أيضاً أيضاً للعصابات المسيحيّة التي شكّلوها (أي: الفرنسييِّن) لمساعدتهم…”.
كان الفرنسيّون وحتى الإنكليز من ورائهم يستعجلون الإجهاز على الدّولة التي تجرّأ السوريّون من سائر بلاد الشام على إعلانها واعتبارها تشمل سورية بحدودها الطبيعيّة”، فالفرنسيون يريدون سورية ولبنان(11)، والإنكليز يريدون فلسطين والأردن، وهم معاً كغرب استعماري؛ لا يريدون أن يَرَوْا في العرب دولة قويّة قد تُفْشل خططهم التي حبكوها مع اليهود الصّهاينة لتمزيق المنطقة العربيّة وسلب فلسطين من شعبها، لذلك كان يوم ميسلون يوماً فرضته مصالح أوروبيّة، وكان غورو يعتبر نفسه سليل إفرنج القرون الوسطى الذين غزوا بلاد العرب باسم الصّليب، وهو بهذه الرّؤية يمثّل المصالح الفرنسيّة في الشرق.
كان الحضور الدّرزي في ميسلون بارزاً سواء على صعيد المجنّدين النّظامييِّن، أو على صعيد المتطوعين. طلبت قيادة الفرقة السوريّة ضابطين يتطوّعان لكشف مواقع العدو في المؤخِّرة فلم يتقدم لتلك المهمّة الخطرة إلاّ سعيد عمّون (هو مسيحي عروبي من دير القمر، وابن اسكندر عمّون وقد كان هذا وزيراً في الحكومة العربيّة في الشام، وكان يرى أن استقلال لبنان تَضمنُه حماية عربيّة لا أجنبيّة)وحسيب ذبيان (درزي من مزرعة الشُّوف كان ضابطاً في الجيش العثماني، ومن ثمّ التحق بالحكومة العربيّة). وقد اشترك فؤاد سليم في ميسلون مع المناضلين الذين قادهم في حرب العصابات، ومن بينهم العديد من الدّروز”، (12)
وثبت فؤاد في ميسلون ساعة التقهقر، وكاد يؤسر ونجا بأعجوبة(13). كما يشير البعيني إلى اشتراك اشتراك عشرات المجاهدين من دروز راشيا في معركة ميسلون.(14)

فؤاد سليم
فؤاد سليم

حمد صعب في ميادين الثّورة السّوريّة الكُبرى عام 1925م
كتب الدِّيبلوماسي اللّبناني حليم أبو عز الدين أنَّ حمد صعب كان من رفاق سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وحمد البربور ونسيب الأطرش ومحمّد عز الدين الحلبي وفوزي القاوقجي وأحمد مريود وزيد الأطرش وغيرهم.
يقول القاضي أمين طليع: “سمع رشيد طليع صوت النّفير يعلنه صديقه سلطان باشا فأخذ لفوره يدبّر ما يمكن تدبيره للمساعدة والاشتراك ويمَّم وجهه شطر فلسطين من حيث أرسل الرّسل إلى الرّفاق فكان أول الوافدين العقيد فؤاد سليم الذي كان ذاهباً إلى اليمن (بدعوة من قبل الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن لتنظيم الجيش اليمني، وبانتمائه للثّورة السوريّة فقد عمل فؤاد سليم بمبدأ (الأقربون أولى بالمعروف )، ثم حضر البطل أحمد مريود من العراق؛ (كانت السّلطات الفرنسيّة تلاحقه بدعوى اشتراكه في محاولة قتل الجنرال غورو)، وسبقه إلى الجبل نبيه العظمة وتمّت المراسلة بينه وبين صديقه ابراهيم هنانو ثم جاء شكري القوتلي والقائد محمّد اسماعيل والمجاهد حمد صعب وكثيرون غيرهم…”.(15)
ومن متابعتنا لمرويّات الثّورة السورية الكبرى والأدوار التي لعبها قادتها والرّجال المسهمون فيها نلاحظ أن الدّور الذي لعبه حمد صعب كان دوراً قياديّاً وتنفيذيّاً فهو قائد فعّال حيث يتطلّب الأمر، “كان حمد صعب يقود جماعة من الثوّارمؤلّفة من ثلاثين مجاهداً هاجمت القرية (كفر مشكي) من الجنوب، فيما تقدّمت مجموعة أحمد سلمان هاني من الشمال، وفيها خمسة وعشرون مجاهدًا، ومجموعة شكيب وهّاب من الغرب وفيها خمسون مجاهداً، وقد احتلّ أولئك المجاهدون مخفر بلدة كفر مشكي الحصين بعد معركة ضارية، وأسروا عدداً من عناصر المخفر، واقتصُّوا من بعض المتعاونين مع السّلطة الفرنسيّة”(16)، وبعد تلك المعركة تقدّم الثوّار إلى بلدة ” حَلْوَة حيث أفلحوا في طرد القوات التابعة للفرنسييِّن منها، وإصابة نحو العشرين من عناصرها بين قتيل وجريح.
بعد تلك المعركة اتّجه المجاهدون نحو بلدتي البيرة والرفيد، وهناك اصطدموا بالقوّات الفرنسيّة التي سيّرها الفرنسيون لمواجهتهم بقيادة الكولونيل لوفو بتاريخ السّادس عشر من شباط 1926، كانت قوات المجاهدين بقيادة كلٍّ من شكيب وهّاب وحمد صعب، وخطار أبو هرموش وأحمد هاني. وفي تلك المعركة الضّارية تمكّن المجاهدون من السّيطرة على مُجرَيات القتال، فانهزمت القوّات الفرنسيّة، وتقهقر الكولونيل “لوفو” مع حملته الجريحة نحو راشيّا في الثامن عشر من شباط وقد خسر الفرنسيون في تلك المعركة أكثر من مئتي قتيل وجريح، كما غنم المجاهدون الكثير من الأسلحة والذّخائر والخيول(17)…

حمد صعب في معركة ينطا
في ينطا كان الثوّار مُوَزّعين على شكل مجموعات من المجاهدين يقودهم كلّ من شكيب وهّاب وحمد صعب وأحمد هاني، وخطار أبو هرموش، وإلى جانب تلك المجموعات شارك أهالي المنطقة بقيادة آل الداود وآل العريان، وأبدى المجاهدون بسالة في مقاومة الجيش الفرنسيّ، وقد انسحب الثوّار تجنّباً لوقوعهم في طَوْق القوّات المُعادية، بعدما ألحقوا بالقوّات الفرنسيّة “مئة إصابة بين قتيل وجريح، في حين سقط للمجاهدين عشرين إصابة”، ويؤكّد الدكتور حسن أمين البعيني أن حمد صعب كان قائداً لإحدى مجموعات المجاهدين في الثّورة السورية الكبرى.(18)
كانت مواجهات مجموعات الثوّار ضد القوّات الفرنسيَّة قد جعلت قيادتها تتخوّف من سيطرة قوّات المجاهدين على البقاع، وذلك خوفاً من ضرب الحصار على قوّاتهم في جنوب سوريا، وكان المجاهدون يصدرون في تحرّكاتهم الحربيّة عن تكتيك واستراتيجيّة صحيحين، لكنّ مُشكلتهم كانت تكمن في نقص الإمداد بالأسلحة، فهم يحاربون دولة أوربيّة كبرى ولديها الأسلحة الثقيلة من الطيران والمدفعية والدّبابات والعربات وما إلى ذلك، أمّا هم فأسلحتهم لا تتعدّى البنادق وبعض الرشّاشات والأسلحة الفرديّة الخفيفة والسّيوف، وهم يتنقّلون على ظهور الخيول أومشاة ومع ذلك فهم يحاربون مدفوعين بإيمانهم بحرّيّة الوطن واستقلاله.

حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها
حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها

حمد صعب قائد مجموعة في معركة راشيّا واقتحام قلعتها
كان لهيب الثّورة السوريّة الكبرى عام 1925 قد انتشر معظم أنحاء سورية كما امتدت إلى مناطق عديدة من لبنان. ويقول الدكتور محمّد الباشا أنّ حمد صعب “حضر كلّ معارك الثّورة في وادي التيم، وكان من الأبطال وهو واحد من أولئك المجاهدين الذين اقتحموا باب قلعة راشيّا، ودخلوها في 25 تشرين الثاني 1925م، ومنهم شكيب وهّاب وحمزة درويش وغيرهم”، وفي الاستيلاء على كفرمشكي كان يقود مجموعة من 30 مجاهداً سيطروا مع المجموعات الأُخرى المجاهدة على البلدة ومخفرها الحصين بعد معركة ضارية، صحيح أنّهم كانوا دروزاً، ولكنّ أهدافهم كانت تتجاوز أفق الطّوائفية الضّيّقة إلى فضاء الحُلُم الأوسع بوطن كبير قصَّرت عن تحقيقه الأجيال اللّاحقة؛ وإلى يومنا هذا…

وفي معارك مجدل شمس، كان حمد صعب من القادة الأبطال البازين، وخاض معركة الرَّشيدية الرّهيبة، إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وجرح فيها، وهذا قليل من كثير من المعارك التي خاضها حمد صعب بشجاعة فائقة ورجولة نادرة(19).

حمد صعب يحتضن فؤاد سليم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة
كان حمد صعب يقاتل قريباً من فؤاد سليم في معركة مجدل شمس تلك البلدة التي أصبحت قاعدة للثّوار السّورييِّن بعد خروجهم من حاصبيّا وراشيّا، لكنَّ الفرنسييِّن قاموا بقصف المجدل بالطّيران والمدفعيّة، ولمّا وصلت قوّات الثوّار إلى مشارف البلدة جرت معارك حامية مع الفرنسييِّن الذين أعجزتهم قوّات المجاهدين من التقدّم لاحتلال المجدل، فاضطرّوا إلى الانسحاب، فما كان من الثوّار إلاّ أن قاموا بملاحقتهم إلى قرية “سحيتا”.

في تلك المعركة يوم 20 كانون الأوّل 1925م كان الطّيران الفرنسي يعمل على إسناد قوّاته المُنْسَحبة أمام ضغط المجاهدين الذين يدفعون بها بعيداً عن مجدل شمس”وبعد أن أمّن فؤدا سليم على رفاقه وأحسّ بطعم النصر في هذه المعركة المهمّة وفيما كان يحاول أن يمتطي صهوة جواده ليتقدّم نحو التلال ويتابع مطاردة الفرنسيين وإذ بقذيفة مدفعيّة تسقط بالقرب منه فتطايرت شظاياها فأصابت منه مقتلاً في بطنه فارتمى على الأرض يصارع الموت فاقترب منه رفيقه في النضال والجهاد حمد صعب فحمله على ذراعيه وأبلغ الثوّار فتمّ نقله إلى قرية قريبة في التلّ الأسود في سحيتا أُطلق عليها فيما بعد تلّة “فؤاد” وقام بدفنه رفاقه في الحملة زيد وصياح الأطرش (20)
سلطان باشا الأطرش يشهد:
“حمد صعب من صناديد المجاهدين في معركة “بقع جمرة”
كتب سلامة عبيد “وإلى اللّجاة انتقل قادة الثّورة الكبار سلطان باشا والأمير عادل أرسلان ومحمّد عز الدين والشّهيد حمد صعب وغيرهم تؤازرهم مجموعات باسلة مُتَمرّسة وخبيرة…”(21) وإلى هناك وصل النازحون من الثوّار وأُسرُهم من راشيّا وإقليم جبل الشّيخ إثر ضغط القوّات الفرنسية عليهم على حدود مِنطَقة اللَّجاة. كان الوقت عصراً، وفي موقع هو بين قَرْيَتَي خَبَب وجَدْل، كانوا يستعينون بأَدِلّاء من قبيلة السّلوط؛ لكنّ هؤلاء ضَلّلوهم وغدروا بهم، إذ ساروا بِهم وسط ضباب كثيف شمال غرب قرية “جَدْل”، إلى مستنقع موحل في منطقة تُدعى “بَقْع جَمْرة”. كانوا نحو عشرة آلاف نازح (22)
هناك، وجد النّازحون أنفسهم في حالة حصار من قبل عشائر السّلوط وبعض المتآمرين من أهالي المنطقة المتعاونين مع الفرنسييِّن الذين شجّعوهم ليعترضوا طريقهم وَيَنْهَبوا ما يمكنهم نهبه من مواشٍ وأمتعة ومال لإرباك الثّوار الدّروز…
في ذلك الطّقس البارد، والوحول المُغْرِقة، وتحت سماء ماطرة، كان مأزق النازحين الذين يرافقهم عدد من المجاهدين بقيادة فضل الله النجم الأطرش وأسعد كنج أبو صالح ومحمود كيوان وسواهم…

تمكّن الثوّار مِنَ الصّمود في المعركة إلى أن وصلت إليهم النَّجدات من قيادة الثورة ، وكان سلطان باشا والأمير عادل يرافقهم بعض المجاهدين مُتمركزين في قرية جَدْل وسط اللجاة. يقول سلطان باشا: “عهدت بقيادة القافلة إلى محمود كيوان لينقل إلينا فوراً تلك الأخبار، وسَيّرت معه من صناديد المجاهدين: حمد صعب، سعيد الحلبي، يوسف الشوفاني، خليل مريود، يوسف عبّود الشعراني، فوصل هؤلاء إلى حيث كنّا بقرية جدل الواقعة في قلب اللّجاة مع بعض أركان القيادة وكبار المجاهدين أمثال الأمير عادل أرسلان، فضل الله هنيدي، علي عبيد، صيّاح الأطرش”(23)
ولمّا كان عدد المجاهدين الذين يتّخذون من قرية جدل مركزاً لهم، فقد أرسل سلطان باشا إلى السّويداء برسالة إلى قائد الدّرك الوطني حُسني صخر، ورسالة أُخرى إلى عبد الغفّار الأطرش شيخ مدينة السُّويداء، يطلب منهما المبادرة إلى إرسال قوّات من الثّوار في الجبل للمساندة السّريعة…
لم ينتظر سلطان ومرافقوه من الثّوار وصول نَجدات المجاهدين من الجبل بل بادروا مع الصّباح إلى موقع المعركة، لكنَّ الأمير عادل برؤيته الاستراتيجيّة الحكيمة للأحداث اعترض على مشاركة سلطان باشا في تلك المعركة وحاول أن يثنيه عن عزمه في الرّكوب إلى ميدان المعركة، ذلك لأنّ المعركة ليست معركة مواجهة مع الفرنسييِّن، ويجب الحرص على سلامته كقائد للثورة، وتَحَسُّبَاً من أن يُصابَ على أيدي مُرتزقة عملاء فيتباهَوْنَ بفعلتهم على الثوّار، وهم بذلك يحققون هدف الفرنسييِّن. حقّاً لقد كان الأمير الأرسلاني مُصيباً في ما ذهب إليه من بُعد نظر وتبصّر في عواقب الأمور، فالمعركة تدور في موقع شديد الحَرَجِ، والطّقس قاسٍ…
يقول سلطان في هذا الشّأن: ” لم تَعُدْ نفوسنا الثائرة القَلِقَة تطيق الانتظار، وإنّما انطلقنا من جَدْل صبيحة يوم 11نيسان، نحن والأمير عادل أرسلان وفضل الله هنيدي وصياح الأطرش وعلي عبيد وحمد عزّام وشاهين المحيثاوي وشبيب القنطار وحسّان أبو سرحان وعبّاس أبو حسّون ومسعود مرشد والمفازيع الذين جاؤوا مع محمود كيوان من جهة كناكر العجم، وقد حاول الأمير عادل أن يثنيني عن الرّكوب(24) في تلك اللحظة قائلاً: إنك القائد العام لهذه الثّورة، ولا نريد أن تُصاب بخدش بسيط على يد هؤلاء المُرتزقة المتآمرين،فيغدو ذلك موضع فخرهم ومباهاتهم على مدى الأيّام، فكيف إذا أُصِبت لا سمح الله إصابة خطرة ومعركتنا معهم ستكون خطرة وفريدة من نوعها في ذلك المكان. وقد وافقه على ذلك فضل الله هنيدي وشاهين المحيثاوي ومحمود كيوان، وقالوا: نرجو أن تبقى هنا يا باشا إذ إنّنا سنعود عمّا قليل بإذن الله، ونحن نحمل إليك البُشرى السارّة بِدَحْر المُرتزقة وخروج إخواننا من أبناء الإقليم سالمين من الشّرَك الذي نصبوه لهم…
لكنّ سلطان لم يُطق البقاء بعيداً عن المُشاركة في معركة إنقاذ المُحاصَرِين في بَقْع جمرة، فشكر لرفاقه المجاهدين مشاعرهم، وتوجّه بخطابه للأمير عادل قائلاً: “كيف أطيق البقاء هنا ولو لساعة واحدة، وإخواننا في محنة عظيمة، وعِرْضُنا يُستباح هناك؟!، فَلْنَسِرْ في طريقنا واللهُ الموفِّق على كلِّ حال”.
على أرض المعركة كان القائد العامّ سلطان باشا والأمير عادل وسط صفوف المقاتلين، فارتفعت معنويّات المجاهدين، وفعلت السُّيوف فعلها، ووقع الخوف والرّعب في نفوس المُعتدين، كانت المشاهد مُرِيعة فى ذلك المُسْتَنقع، الشَّرَك،واستمرّت المعركة ساعاتٍ كَدَهر مَديد. كانت أصوات النَّخوات المُنْطَلِقة من حَرَس النّازحين تُشبه زئير الأسود، وقد انتشروا حولهم يذبّون عنهم ويحمونهم، كان حمد صعب واحداً من أولئك الصناديد الذين سبق لسلطان باشا أن اختارهم لحماية تلك القافلة التي أراد بها الأدلاّء وعملاء الفرنسييِّن شَرّاً ولكن إرادة الله، وبطولة المجاهدين خيّبت ما إراده الأعداء.

مؤتمر بلودان ايلول عام ١٩٣٧وقد تمثل فيه من الدروز الاول من اليمين في مقدمة الصورة حمد بك صعب والثالث علي بك عبيد والسابع محمد باشا عز الدين الحلبي. الثاني من اليمين من العراق سعيد الحاج ثابت الرابع رياض الصلح رئيس وزراء لبنان يليه احسان بك الجابري (سورية) يليه محمد علي الطاهر وقادة وشخصيات عربية آخرون..
مؤتمر بلودان ايلول عام ١٩٣٧وقد تمثل فيه من الدروز الاول من اليمين في مقدمة الصورة حمد بك صعب والثالث علي بك عبيد والسابع محمد باشا عز الدين الحلبي.
الثاني من اليمين من العراق سعيد الحاج ثابت الرابع رياض الصلح رئيس وزراء لبنان يليه احسان بك الجابري (سورية) يليه محمد علي الطاهر وقادة وشخصيات عربية آخرون..

يصف سلطان باشا تلك المعركة بقوله” كانت جثث الآدَمييِّن والحيوانات التي تساقطت في المعركة غائصة في الأوحال، أطفالاً يختلط صُراخهم باستغاثات النِّساء، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، وثُغاء الماعز والأغنام.. جرحى خارت قواهم فتلوّثت جراحهم بمياه المخاضة الآسنة، وعجزوا عن النّهوض فاستسلموا للقدر، أمٌّ نجت بطفلها الرّضيع فانتحت به جانباً محاولة تهدّئة روعه بقَطَرات نَضَحَتْها بِراحَة يدها مِنْ مَسيلِ ـ ماءـ هناك، فأصابوها برصاصة في صدرها، ولمّا ذهب قريبٌ لها لإسعافها وإنقاذ طفلها، وجدها تلفظُ أنفاسَها الأخيرة والطّفل مشدودٌ بذراعيها إلى صدرها، يرضع لبناً ممزوجاً بالدّم!..”.
في تلك المعركة؛ لم تفعل السّيوف في تمزيق قوى المُرتزقة وتحقيق النّصر بالشّكل الذي أحدثه حضور سلطان باشا والأمير عادل أرسلان ومن معهما إذ ما كاد قدومهم يُلْحَظ من قِبَل حُماة القافلة ومن بينهم أسعد كنج أبو صالح وحسيب ذبيان ومحمود الطّويل وغيرهم حتى سَرَت في نفوسهم موجة من الحماسة ضاعفت من معنويّاتهم وشدّدت من عزائمهم في القتال.
لقد تراءى لِحُماة القافلة عندما رأَوْا القادة بينهم أنّ بيارق الجبل قد ملأت وَعرَة اللّجاة من خلفهم، أمّا المرتزقة الأعداء فقد اعتقدوا أنّه أُحيط بهم، فأخذ كلٌّ منهم يلتمس طريقاً ليهرب، وكان حمد صعب مجاهداً في تلك المعركة وأحد أبطالها…

حمد صعب؛ من الثورة السورية إلى ثَورة فلسطين 1936 ــ 1939
لقد كان نزوع المجاهد حمد صعب أكبر من أن تَحِدَّه الحُدود التي رسمتها معاهدة سايكس بيكو لتقسيم المشرق العربي، فهو أكثرُ أصالةً من أن يقبل بما أقرّه وعد بلفور البريطاني بإقامة دولة صهيونيّة عدوانيّة في فلسطين، ومن هنا فإنَّه لم يتوانَ عن الالتحاق بالثّورة الفلسطينيّة ضدّ البريطانييِّن والصّهاينة عندما أخذت نُذُر التَّنفيذ العَمَلِيِّ لِوَعْد بَلفور تلوح في الأفق الفلسطينيّ، إذ غادر منافي الثّوار السّورييِّن في بَوادي السّعودية والأردن إلى ميادين القتال ليجاهد في الثّورة الفلسطينيّة وكان المسؤول عن مفرزة الشّباب الدّرزي إلى جانب القائد فوزي القاوقجي في معاركها عام 1936م.
كانت مقاومة الفلسطينيين مُتَعَثِّرة قبل عام 1936م،(قبل قُدوم القاوقجي ورفاقه وفي طليعتهم حمد صعب)، فالثّورة المُسَلّحة التي قادها أحمد طافش عام 1929 (وهو العربي الدّرزي اللُّبناني الأصل من آل أبو شقرا في عمّاطور) من سكّان قرية قدس المُهَجَّرة والتي تقع في الجليل الغربي شمال صفد، وبالرّغم من شنّه الهجمات على مواقع لليهود، وتصدّيه لدوريات البوليس البريطانيّ فإنّ ثورته حوصرت نشاطاتها من قبل الأعداء، فلجأ إلى إمارة الأردنّ، لكنّ حكومة الأردن سلّمته إلى حكومة فلسطين المُصَنّعة من جانب البَريطانييِّن، وحُكم عليه بالسّجن 15 سنة في محكمة الجنايات في مدينة حيفا!.
تجدّدت الثّورة في فلسطين عام 1935 ضدّ اليهود الصّهاينة وأرباب مشروعهم البَريطانييِّن، وقد امتدَّت الفترة الزّمنية لنشاط تلك الثّورة إلى ما تلاها من الأعوام حتى عام 1939، وفي تلك الثّورة قاد حمد صعب المفرزة الدّرزيّة في قوّات الثّورة التي قادها القاوقجي، وعن دور تلك المفرزة يذكر فوزي القاوقجي في مذكّراته: “أعترف أن المفرزة الدّرزية اللّبنانيّة كانت نموذجاً عظيماً للمجاهدين في تحمّلهم وصبرهم وقلّة مَشاكلهم. وكان قائدها حمد بك صعب مثال النّخوة والإقدام…”(25).
وعلى أرض فلسطين في معركة بَلعا الثانية، وَزّع القاوقجي القوّات على الأرض: المفرزة العراقيّة بقيادة جاسم الحسين، والمفرزة الدّرزيّة بقيادة حمد صعب ويعاونه محمود أبو يحيى (من بلدة شَقَّا في جبل العرب)، والمفرزة الحَمويّة ــ الحِمصيّة بقيادة منير الرَّيّس، والمفرزة الشّامية الأردنيّة بقيادة محمّد الأشمر، فالمفرزة الفلسطينيّة بقيادة فخري عبد الهادي وعبد الرّحيم حاج محمّد والشّيخ توفيق من عَلار، إضافة إلى الشّيخ فرحان السّعدي والعريف يونس ومحمّد الصالح (أبو خالد)، والشّيخ عطيّة أحمد عوض ويوسف الحمدان، وأُنيطت بالمَفرزة الفلسطينيّة حراسة جبل المنطار.
ويذكر الفلسطينيّ وجدي جميل حسن في دراسة جامعيّة له عن مُذكرات القاوقجي أنّ القاوقجي تَقصَّد ألّا يجعلَ المجاهدين الفلسطينييِّن في خطّ النَّار كي لا يواجهوا صدمة عنيفة ويُجْبَروا على مُجابهة الأسلحة الميكانيكيّة الفتّاكة طيلة النّهار، وكان مُبرّر القاوقجي في تصرّفه هذا اعتقاده بِعَدَم اعتياد المُجاهدين الفلسطينييّن على هذا النّوع من الدّفاع”.
كان القاوقجي بعد وصوله ورفاقه إلى فلسطين في الخامس والعشرين من آب عام 1936، وتسلّمه قيادة الثورة الفلسطينيَّة وهذا عائد لخبرته وتجاربه في الثَّورات التي سبق وشارك بها؛ قد أصدر بلاغات إلى الأمّة العربيَّة والإسلاميّة كي تذيع أخبار المعارك التي تخوضها قوّاته. كانت بلاغاته تحثُّ على حمل السِّلاح والجهاد من أجل إنقاذ فِلسطين من الظُّلم والاعتساف والمستقبل الذي يتهدّدها. كما أسّس محكمة ثوريّة، كان يرأسها المجاهد منير الرَّيِّس وحمد صعب وآخرون(26) ولجاناً خاصة للإعاشة والتّموين مرتبطة به…

فوزي قهوجي
فوزي قهوجي

بطولة حمد صعب في معركة بَلعا
بدأت المعركة صباح 3/ 9 / 1936م، ولم يكن الإنكليز يتوقّعون مثل تلك المُفاجأة، ممّا أوقعَ إصابات في صفوفهم منذ اللَّحظات الأولى للقتال، فدفعوا بسلاح الطّيران إلى المعركة، وقد تمكّن الثوّار من إسقاط ثلاث طائرات، وقَتْل مئةٍ وخمسين قتيلاً. كانت معركة عنيفة خاضها الثّوار في مواجهة القوّات البريطانيّة استبسل فيها القادة الشّيخ محمّد الأشمر والمُجاهد الدّرزي حمد صعب قائد المفرزة الدّرزيّة ــ وقادة المفرزة العراقيّة إضافة لاستبسال المفرزة الفلسطينيّة بقيادة الشّيخ فرحان السّعدي.. (27) وقد انتهت المعركة “بِفَوْز المُجاهدين على المُستعمرين، وبفوز الإيمان والإرادة على الظّلم وعلى قوّة الميكانيك فوزاً باهراً لاتُقَدِّرُ قيمتَه ولا تأثيرَه ونتائجه إلّا الأجيال المُقبلة” حَسَب أقوال القاوقجي. وعن خسائر المفرزة الدّرزيّة جاء في مذكّرات القاوقجي بخصوص استشهاد المجاهد محمود أبو يحيى الذي استُشهِدَ في معركة” بلعا” يقول: “كان له الفضل في الصّمود والمحافظة على خطّ دفاعنا المركزيّ، وقد أبدى شأنه في كل معركة عرفته فيها في معارك الثَّورة السّوريّة (كان الرّجلان، محمود أبو يحيى وفوزي القاوقجي من مجاهديّ الثّورة السوريّة الكبرى عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش)، من الجرأة والشّجاعة ما يعجز عن وصفها القلم”.
ويشير المجاهد أكرم زعيتر في مذكّراته إلى استشهاد عدد من المجاهدين الدروز ومنهم حسين البنّا من بلدة شارون وهي إحدى بلدات قضاء عاليه ــ وكان قد استشهد في معركة “بلعا”ــ واستشهاد ملحم سعيد سلّوم حمادة من بعقلين إحدى بلدات الشوف، في معركة كفر صور في الثامن من تشرين الأوّل 1936، بعد أن أردى ضابطاً بريطانياً من ثقب الدبّابة، ولقد تحاشى أهله في بعقلين الإجابة عن أسئلة السّلطة المتكرّرة عن سبب مَوْته، وإقامة عزائه من دون جثّة، نظراً لما كان يتعرّض له أهل المجاهدين من ملاحقات ومضايقات وعمليّات دَهْمٍ في وقت ساعدت فيه السّلطة الفرنسيّة المنتدبة على سورية ولبنان السلطة البريطانية المنتدبة على فلسطين، بهدف قمع الثّورة الفلسطينيّة ومنع وصول المُساعدات إليها والتحاق المجاهدين من سوريّة ولبنان بها.

حمد صعب يلتحق بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق “نهاية بطل”
التحق حمد صعب بالثّورة العراقيّة إلى جانب القاوقجي في عهد رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، كان القاوقجي يعرف حمد صعب حق المعرفة، “ويثق به ويدّخره للمُستقبل…” على حد ما صرّح به أكرم زعيتر الذي كان يعرف الرّجلين حقَّ المعرفة. في تلك الآونة كان الدّعم المُقدّم للقاوقجي من الحكومة العراقيّة غير المتجانسة حينها أقلّ من المطلوب للدّفاع عن الثّورة في مواجهة البَريطانييِّن، كما كان للحاج أمين الحُسَيني مفتي فلسطين الذي لم يَكُن على وفاق معه تأثير في التقليل من تقديم الدّعم اللّازم لنشاطاته الثّوريّة. وفي مجال التّنازع بين المفتي الحسيني وبين القاوقجي فإنَّ حمد صعب أخذ الجانب القتالي ــ الجِهادي البَحت في نِضاله من أجل أُمّته وقضاياها الوطنيّة ولم ينخرط في مسائل التَّنازع على المناصب بين المتنازعين؛ ذلك التّنازع بين القادة الذي أضرّ ولم يزل يضرّ بقضايا العرب فآلت إلى ما نرى…
في تلك الفترة كان الإنكليز قد احتلُّوا دمشق وطردوا الفرنسييِّن الفيشييِّن الموالين للألمان منها في حزيران 1941، ثم زحفوا باتّجاه تدمر، وكان همّهم يتمثل بالإجهاز على أيّة قوة حليفة لِثَورة الكيلاني المناوئِة لمشاريعهم في العراق وهم يخشَوْن من امتداد تأثيرها إلى سائر المَشْرِق العربي، ومن خطّتهم أن تتقدّم قوّاتهم من تدمر إلى دير الزّور، وأن تتوَجّه بكامل قُواها باتّجاه مدينة حمص.
أمّا الفرنسيّون من جماعة فيشي الموالين للألمان والمؤيِّدين لِثورة الكيلاني فكانوا على اتّصال مستمرّ بالقاوقجي لتلاقي المصالح في ما بينهما، فَفَوزي ومن في فريقه ومنهم حمد صعب يَرَوْن في ثورة الكيلاني بارِقة أمل للأمّة العربيَّة التي خَيّب الغربيُّون آمالَها منذ الحرب العالميّة الأولى. والألمان وحلفاؤهم من الفرنسييِّن الفيشييِّن يعتبرون من مصلحتهم الإفادة من سائر القُوى المناوِئة للإنكليز والحلفاء في المِنطقة، ولهذا فإنَّ فرنسيِّي فيشي اتّفقوا على أن يستعينوا بِفَوزي وفريقه في صدّ هجمات الإنكليز من جهة تدمر، وعلى هذا تعاون معهم، وكان عليه أن يرشدهم إلى الطريق بنفسه، فمضى بسيارته “وإلى يمينه حمد صعب وكان بجانب السائق حميد (خادم) فوزي. انطلقت سيارة فوزي في مُقَدّمة سيَّارات الفرنسييِّن، ولمّا غادرت السيَّارات مدينة دير الزُّور، وبعد مُدّة من ذلك، فاجأتهم ثماني طائرات بريطانيّة في سماء البادية الصافيّة إذ حامت الطّائرات حول القافلة التي فوجئت، ولم تلبث إحدى تلك الطائرات أن اقتربت من السيَّارة التي تُقِلُّ فوزي وحمد، ورشقتها بوابل من رشّاشاتها، فأصابت حمد الجالس مِنْ عن يمين فوزي بِعدَّة رصاصات وكان حمد قد ارتمى على فوزي لِيَقِيه الإصابة، فأدى ذلك إلى استشهاده في الحال في 25 تمّوز سنة 1941. وفي رواية أُخرى أنّ حمد كان في سيارة القيادة إلى جانب القاوقجي عندما وقع على المجاهدين هجوم بالطّائرات وسقطت قذيفة قرب السّيارة ارتمى حمد على القاوقجي يحميه بجسده فقتل هو ونجا فوزي، ويقول الدّكتور محمّد خليل الباشا أنّ القاوقجي قد أخبره بذلك شخصيّاً(28).
كما أصيب فوزي بعدّة رصاصات في رأسه وساعِدِه وَرَقَبته، فَقَد على أثرها وَعْيَه، ونَزَف كثيراً من دمه، واستُشْهد سائقُه وهو عراقي من الموصل، وأُصيب حميد برصاصة جرحته في كتفه جرحاً غير مميت.
على أثر تلك الحادثة، نُقل القاوقجي إلى المستشفى العسكريّ الفرنسيّ في مدينة حلب، أمّا حمد صعب فقد دُفِنَ قرب مدينة دير الزور (قرية الحصيبة)، وانطوَت باستشهاده أروعُ صفحة في التّضحية والمفاداة في ميدان الجهاد في سلسلة الثورات العربيّة.
وعلى أثر استشهاده ” احتفلت دير الزُّور بدفن حمد صعب ورفيقه السّائق احتفالاً مهيباً، وقد خطب في المقبرة الكولونيل الفرنسيّ مؤبّناً الشهيد، وكذلك فعل بعض شباب دير الزور”(29)

شكيب وهاب
شكيب وهاب

حمد صعب في حياة وذاكرة فوزي القاوقجي وأكرم زعيتر وعادل أرسلان
ومِمّا يدلّ على علوِّ مكانة حمد صعب في ذاكرة القاوقجي أنّه استذكره ربطاً بحدث موت ابنه الشّابّ مجدي القاوقجي عندما تُوفِّي في ألمانيا نتيجة حادثة تسمُّم مُرِيبة، إذ لمّا علم فوزي بما حدث لابنه قال”لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، ما مجدي بأوّل ضَحِيّة، فلقد فقدت كثيراً من أعزّائي، وهم على مقربة مِنِّي في مُختلف ميادين الجهاد، وبالأمس استُشْهِد حمد صعب، وهو قريب مني، وهذا مجدي واحد منهم”(30)
وهكذا نجد فوزي القاوقجي رغم ماله وما عليه عظيماً في تعاطيه مع الأحداث، وهو هنا في ذروة مأساته بفقده ولده العزيز لا ينسى رفيق جهاده الذي كان الأقرب إليه؛ حمد صعب.
لقد وضع فوزي خسارته بفقدانه ابنه بمرتبة فقدانه حمد صعب الذي كان يقاسمه المسكن في العراق، ويشاركه الهدف الوطني المُشْتَرَك في ساحات الجهاد التي خاضاها معاً…
أمّا أكرم زعيتر فيذكر واقعة جرت في بيت فوزي القاوقجي في بغداد وكان هو الشاهد عليها، يقول:
“جاءت إخباريَّة إلى السّفارة البَريطانيّة من بغداد أنَّ فوزي يخبّئ أسلحة وعتاداً جَمّاً، في البيت الفُلاني (وقد كان ذلك صحيحاً) وكانت الحكومة الإنكليزيّة تطالب الحكومة العراقيّة أن يجري تفتيش البيت المذكور للاستيلاء على أسلحته ومعاقبة فوزي (كان القاوقجي وحمد صعب وأكرم زعيتر ورفاقهم من السورييِّن والفلسطينييِّن اللّاجئين إلى العراق موضع شُبهة من البريطانييِّن وذلك عائد لنشاطاتهم في الثّورة الفلسطينيّة سابقاً، ولِتَخَوُّف الإنكليز من تسريبهم السّلاح إلى فِلِسطين، ولتأييدهم ثورة رشيد عالي الكيلاني في سياستها المناوئة للاستعمار في البلاد العربيّة)، وقد سارع السيّد طه الهاشمي وكان وزيراً للدّفاع في عهد الوزارة الكيلانيّة إلى إخبار فوزي وعادل(العظمة) بالأمر، وشرح لهما خطورة الأمر، لا سيّما وأنّ السّلاح المذكور هو عراقيّ، وهو من طه نفسه؛ قُدِّم ليكون نواةً لمشروع الثّورة في سورية وإنقاذها من الفرنسييِّن حينها. على أثر ذلك نُقِلَ السّلاح كلّه والعتاد ليلاً إلى بيت فوزي نفسه، بطريقة لم يشعر بها أحد، وقد حُفِرَت في أرض بيت فوزي هُوَّات (الهوّة حفرة عميقة)، وأُخفِيَ ذلك السّلاح بالكامل، وغُطّي بالتّراب، ولم تَكَد تُشرق شمس اليوم التالي حتى كان السّلاح مُغّيَّباً تحت الأرض، و سارع عادل وفوزي إلى إخبار طه باشا (الهاشمي) بأنّ السّلاح قد تمّ تهريبه إلى سورية، وهو الآن في الأرض السّوريّة على الحدود، وفي مأمن من العيون والأرصاد، فَسُرَّ طه باشا طبعاً، لا سيّما وهو يحمل نصيباً من المسؤوليّة، وقد فهمت من عادل العظمة أنّهما آثرا أن يُخْبرا طه بأن السّلاح قد أُخرج من البلاد ولم يشاءا أن يبوحا له بأن السّلاح مطمور في الدّار خَشْية أن يطالبهما يوماً بهذا السّلاح، وأن يحملهما على ردّه إذا ما طرأ طارئ. واحتفالاً بنجاة السّلاح وإنجاز العمليّة أقام فوزي ليلة ساهرة، وقد زعم وعادل إثر ذاك أنّ السّلاح وصل إلى سورية، وكانت الحفلة السّاهرة في بيت فوزي نفسه، حضرها كما أذكر عادل وفوزي وسعيد فتّاح الإمام، وعبد الكريم العائدي وعثمان الحوراني وشفيق سليمان وأبو الهدى اليافي وصبحي العمري وواصف كمال وعز الدين الشوّا وسعيد الكاتب على ما أظن، وحمد صعب، وحميد، وكانت من أمتع وأبهج السّهرات، وقد كان فوزي يصيح ونحن نُرَدّد:” يادار حقّك علينا، ويعني بالدّار الوطن، ثمَّ كان فوزي وصبحي العُمَري لا يفتأان ينشدان: آن الأوان يالله يالله! (وهي شطر من أنشودة يا اللي تحب البُرتقال)، أي أنَّ أوان الثَّورة وإنقاذ البلاد قد آن. ولقد رقص في تلك السَّهرة سعيد الإمام وعزِّ الدّين الشوّا وعثمان الحَوراني فرحين … حقّاً لقد كانت سَهْرة ماتعة لذيذة، استمرّت إلى ما بعد منتصف اللَّيل”(31).
يصف أكرم زعيتر حمد صعب بقوله:” وحمد صعب هذا عربيٌّ شُجاع من شوف لبنان، قويّ البُنْية، مُكتنز العضل، مؤمن العقيدة، شجاع القلب، اشترك في ميسلون دفاعاً عن دمشق، ثمّ التحق بالثّورة السوريّة سنة 1925، وعمل فيها مع الأمير عادل أرسلان، وتجلّت فيها شجاعته وصبره، وقد رافقها إلى أن انتهت، وحين نشبت ثورة فلسطين سنة 1936،كان حمد صعب في طليعة المُتطوعين في تلك الثّورة، وعمل مع فوزي فأبلى فيها أَيَّ بلاء، الأمر الذي جعل فوزي يعتمد عليه ويثق به يدّخره للمستقبل، وحين انتهت الثورة لجأ إلى سورية، ولمّا فكّر باستئناف الثّورة أعدّ حمد نفسه للاصطلاء بنارها ، ولكنّ تأخير فوزي ثم عدوله عن الذّهاب لأسبابٍ حال دون ذهاب حمد إلى فلسطين، ثم جاء إلى العراق وعاش في بيت فوزي في بغداد لا يفارقه، وهناك عاهده أن يبقى إلى جانبه، وحين نشبت حركة العراق الأخيرة، (يقصد ثورة رشيدعالي الكيلاني)، وهبّ فوزي للقيام بواجبه فيها، كان حمد صعب في مُقَدّمة المتطوّعين في حملة فوزي، وقد حارب في الحملة المذكورة وأبلى بلاء حسناً ثم رافق فوزي إلى سورية إلى أن لَقِيَ مصرعه على الشكل الآنف الذِّكر رحمه الله، وإنَّه لَيَعِزُّ علينا أن يموت حمد هذه الميتة وأن يَظِنّ ظانٌّ أنَّه مات دفاعاً عن الفيشييِّن ضدّ الإنكليز، أو أنَّه مات في سبيل فرنسا.

الجنود السوريون في معركة ميسلون
الجنود السوريون في معركة ميسلون

كلاّ إنّما مات حمد في سبيل المثل الأعلى، في سبيل الفكرة التي آمن بها وخاض غمرات الثورات من أجلها، إنَّ الفرنسييِّن في سورية؛ الفرنسييِّن الذين أذاقوا البلاد نِكالاً وسلبوها حُرّيتها، وحاربهم حمد مرات لا يستحقُّون أن يُضحّي حمد من أجلهم بِقُلامة ظِفره(32).
ويعتب الأمير عادل أرسلان على المُفتي الحُسَيني لأنّه بعد مرور سنة على استشهاد حمد صعب أُقيمت حفلة في ألمانيا لم يحضرها المفتي الحُسيني وأنصاره، وكان ذلك ناشئاً من موقفه الشّخصي من فوزي القاوقجي الذي يخوض وإياه منافسة على الزّعامة، إلّا أنّه وهو الزّعيم الفلسطينيّ الأوّل (حينذاك) كان الأولى به المبادرة بتكريم الشَّهيد حمد صعب الذي قاتل من أجل فِلسطين، بل والسّعي بنكران ذات، وخلاص نِيّة لتوحيد كلّ القوى المُكافحة من أجل فِلسطين والقضايا العربيّة والإسلاميّة التي كان يجهر بالعمل من أجلها؛ عملاً بالحِكمة القائلة “لتكن نيّتكم خلاص أرواحكم تُقْضَ حوائجُكم”. هكذا كانت العلاقات بين أولئك القادة من العرب الذين يمثّلون القضية الفلسطينيّة والقضايا العربيّة لدى دول المِحور؛ علاقات مشوّشة ومتوتّرة، وقد انعكست علاقاتهم تلك بصورة سلبيّة عليهم، وعلى علاقاتهم ببعضهم البعض في بلاد الغربة، وعلى أُمّتهم بشكل عام، فخابوا، ولم يكن نظراؤهم على المَقلب الثاني ممَّن كانوا مَسحوبين في دولاب الحلفاء بأوفر حظّاً منهم، ذلك لأنّهم لم يكونوا ذوي قرار، وعندما استلموا بلدانهم بعد الاستقلالات الشّكليّة لم يقدّموا نماذج لقادة ناجحين في مستوى العصر الحديث، وبذلك لم تزل الأُمَّة في ضياعها، وخابت المُثُل العروبيّة التي قاتل من أجلها حمد صعب وأمثاله من المجاهدين الرُّوَّاد …
يكتب الدبلوماسي اللُّبناني حليم أبو عز الدّين يصف لقاءه بحمد صعب في العراق عام 1939، فيقول:” قبلاً كنت أسمع كثيراً عن القائد فوزي القاوقجي، ولم أكن بعد قد اجتمعت به، فذهبت لزيارته في بغداد فاستقبلني عنده مجاهد لبنانيّ كنت قد سمعت به ولكنَّني لم أحظَ بمعرفته هو: السيّد حمد صعب، وسرّني كثيراً أن أتعرّف إليه، وأن أُوَثّق صِلتي به بالنّسبة إلى مناقبيّته الوطنيّة الكبيرة وتاريخ جهاده في الحقل القوميّ العربيّ…
وهكذا فإنّ حمد صعب كان شخصيّة عروبيّة المَنْزِع، سعى لتحقيق أمانيِّه عبر مواقفه الميدانيّة في ساحات الجهاد الوطني، ومن هنا فليس غريباً أن يصفه اليبلوماسي اللبناني حليم أبو عز الدين بقوله:” كان حمد صعب من رفاق سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وحمد البربور ونسيب الأطرش ومحمّد عز الدّين الحلبي وفوزي القاوقجي وغيرهم…”.
كان مجيء حمد صعب إلى فلسطين برفقة القاوقجي يهدف لتحريرها من الاحتلال البريطاني وقطع الطريق على المشروع الصّهيوني فيها ولكنَّ هذه المهمّة لم يُتَحْ لها أن تبلغ هدفها؛ وفي ذلك يقول عجاج نويهض “عندما اسْتَشْرَت الثّورة والإضراب، والنّسف للقُرى والبيوت أتى فوزي القاوقجي رحمه الله من العراق بقوّة متطوّعة ورابط في أعالي الجبال في قضاء نابلس وطولكرم، ونازل القوّات الإنكليزية المُسلّحة في عدّة معارك ضارية. لكنّه اضطُرَّ إلى العودة مع القوّة التي جاء بها عندما قبلت اللَّجنة العربيّة وقف الإضراب، هذا الإضراب الطّويل الشّهير تجاوز الستّة أشهر، ثم انْحَلّ بعد وساطة فريق من ملوك العرب وأمرائهم. طُلِبَ من عرب فِلسطين فكُّ الإضراب، فاستجابت اللّجنة العربيّة العليا برئاسة المُفتي أمين الحسيني لهذا؛ إذ أكّد الإنكليز للملوك والأمراء والحكّام العرب أنّهم سَيُجرون العدل في هذه القضيّة”(33) ويُعقِّب عجاج نويهض على هذا الموقف غير المتبصّر من الملوك والأمراء العرب ومن الفلسطينيين فيقول
“وإذا كان الإنكليز قد خَدعوا أوّل مرّة الملك حُسين بن علي، ملك الحجاز، في أثناء الحرب العامَّة الأولى بشأن الوطن القوميّ اليهوديّ في فِلسطين، ففي سنة 1936 خَدعوا ثاني مرّة مجموعة من الملوك والأمراء بشأن فِلسطين”.
إنّ سيرة المجاهد حمد صعب من حيث جانبها النّضالي المَيْدانيّ ضدّ العدوان الأوربيّ ــ الصّهيونيّ على الأمّة العربيّة والإسلامية تتشابه إلى حد كبير مع سيرة المجاهد القاوقجي، ذلك “أنّ فوزي القاوقجي كان هاوياً للجهاد. لا يكاد يسمع بحركة نضال في بلد عربيّ حتى يشدَّ رحاله إلى ذلك البلد،.عمل في لبنان وسورية وفلسطين والأردن والجزيرة والعراق. نعم كان القاوقجي يعتبر نفسه، وعن حقٍّ مواطناً في كلّ بلد عربي يقيم أو يعمل فيه… وهكذا كان حمد صعب رفيقه في الجهاد، ومفتديه بحياته يومَ قصفِ الطائرات البريطانيّة لهما…
كما يذكر حليم أبو عزّ الدّين أنّه ما أن بدأت الحركات في العراق في نيسان وأيّار 1941 أيام وزارة رشيد عالي الكيلاني حتى ذهب القاوقجي على رأس قوّة من المجاهدين إلى البادية لقطع خطوط التّموين البريطانيّة عن قاعدة الحبّانيّة.
كانت هذه القاعدة من أهمِّ قواعد الطَّيران البريطانيّة في المشرق العربيّ في مواجهة الطّيران الألمانيّ وقوّات المحور في الحرب العالميّة الثانية وقد استخدمها الإنكليز للقضاء على ثورة رشيد عالي الكيلاني في ما بعد.
ويشير أبو عزّ الدين إلى أنّ القاوقجي ورفاقه في الجهاد قد اشتبكوا مع القوات البريطانيّة ومع القوّات التابعة لهم؛ القادمة من الأردنّ؛ تلك القوّات التي أرسلها الأمير عبدالله والمندوب السّامي البريطاني “أبو حنيك” (غلوب باشا)، وأنّه قد اسْتُشهد عدد من رفاق القاوقجي في تلك المعارك، وكان في مُقَدَّمة أولئك الشّهداء الشّهيد حمد صعب.
كما يكتب القاوقجي في يوميّاته في ما يخصّ استشهاد حمد صعب فيقول: “كنت قد عاودت الاتّصال برجال القبائل على الحدود، ولكنِّي علمت وقبل أن أُتمِّم الإعداد بأنَّ قوّة بريطانيّة تتقدّم نحو تدمر لتطويقها، وتوجّهت مع جماعة صغيرة لإنقاذ تدمر، وخَشية أن تطول المسافة وجّهت نداءً خاصّاً دعوتُ فيه القبائل للانضمام وطلبتُ من أكرم زعيتر أن يذيعَه بعد انطلاقي واتَّجَهْتُ من الحُصَيبة إلى البوكمال في رتلٍ من السيّارات، وبعد استراحة قصيرة في الطّريق سبقتني خلالها مخابرات قائد المنطقة الفرنسيّ الكولونيل ريو دو كرو وكان مقرّه في” دير الزُّور” وقامت طائرات بريطانيّة بقصف سيارتي، وكنت أستقلّها مع ثلاثة آخرين بينهم حمد صعب. ولم أَسمع سوى أصواتٍ مُدَوّية ودماء ساخنة تسيل على جسمي، ما حدث فعلاً ، إنّه أثر القصف قُتِل حمد صعب والسائق وجُرِحْت مع مرافقي الآخر…”.
نعم ” إنّ حَمد صعب هو أثمن رجل عرفه القاوقجي، وبغيابه فُقِدَتْ إحدى ركائز القتال المُهِمَّة. كما أشاد القاوقجي ببطولة قاسم زهر الدين”(34).
وقد كتب حافظ أبو مصلح وهو مترجم كتاب ” ثورة الدّروز وتمرّد دمشق” لمؤلّفه الجنرال الفرنسي أندريا يُعرّف فيه بـ حمد صعب ص 329 يقول: كان ” حمد صعب ، رفيق شكيب وهّاب. كان شجاعاً بطلاً، لا يهاب الموت، قُتِلَ في طريق العراق مع فوزي القاوقجي،. كان يكتب مُذَكّراته يوماً بعد يوم، لكنّه مات (استُشْهِد) وماتت (فُقِدَتْ) معه مذكّراتُه.
وباستشهاد حمد صعب طُوِيَت صفحة بطولة عربيّة معروفية يعتزُّ بها كلُّ عروبيّ أصيل.

سقط سهواً
– سقط سهواً اسم كاتب مقالَي “سعيد ابو الحسن” و”رشيد طليع” في العدد 23 وهو الأستاذ ابراهيم العاقل.
– سقط سهواً ذكر اسماء الشهداء “الشيخ علي درغام، قاسم عسل درغام، عباس دهام، صالح أبو بركه” من قرية بكيفا في موضوع “شهداء وادي التيم”

العقل دينًا

المقدِّمة

كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة
كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة

تعاني ظاهرة الدين في يومنا هذا من مشاكلَ شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، باتت علاقة الدين بحياة الإنسان اليوميَّة وبالسياسة غير واضحة المعالم بعد انتشار مفاهيم العلمنة والأنظمة السياسيَّة القائمة على القوانين الوضعيّة، الأمر الذي فرض على الفرد المؤمن والدولة على حد سواء تحدّيات كثيرة خاصةً بعد أن سادت أنماط حياة عصرية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي دعت إليها التعاليم الأساسيّة لكثير من الأديان التوحيدية الرئيسة؛ وجَعَلَ، تاليًا، التوفيق بين الاثنين أمرًا صَعْبًا، وأحيانًا مستحيلًا. وهناك أيضًا إشكاليَّة علاقة الدين بالعنف الممارس تحت راية المعتقدات الدينية المختلفة. ثمَّ هناك إشكاليّة علاقة الدين بالعلم وعلاقة الإيمان بالعقل، والشرع بالفلسفة، وهي جبهة حرب مُشتعلة منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا.
وفي حقبة الحداثة، نجح رُوَّادُ الثورة العلمية ومفكِّرو التنوير في إرساء معادلة تقول إنَّ الإيمان والعقل هما شيئان متناقضان لا يلتقيان: فحيثُ يحضر أحدُهما يَغيب الآخر. ونجحوا في حَصْرِ عمل العقل بالعلوم الطبيعية وأعطوها وحدها القدرة على كشف حقيقة الوجود المادي، وفي حَصْرِ الإيمان بمجال الظنون والآراء الخاصة التي يرتبط بها الناس من خلال مشاعرهم اللاعقلانيَّة. ونرى اليوم أنَّ كثيرًا من القيِّمين على الأديان أنفسهم قد قبلوا هذه المعادلة بعد أن ترسَّخت بمرور الوقت من خلال المناهج التعليمية الحديثة والتقدُّم الـمُطَّرد للاكتشافات العلميَّة والتقنية التي لم تزل تبهر العالم بإنجازاتها الكبيرة. غير أنَّ القبول بهذه المقولة يطرح بنظري الإشكاليَّة الأخطر والتحدي الأكبر أمام الدين، لأنَّ الكتب المنزلة جعلت الحقيقة مقصد الأديان التوحيديّة الرئيس. وبالتالي، فإنّ مثل هذا الفصل لا يضرب فرعًا من فروع الدين بل أصلًا من أصوله.
بالطبع، ليس ههنا المكان للخوض في أسباب نشوء هذه الإشكاليَّة ونتائجها وأبعادها. فغرض هذا البحث هو إظهار أصالة العلاقة الموجودة بين الجانب الإنساني للدين (أي المعرفي والإيماني والمسلكي) وطبيعته العاقلة بوجهٍ عام، وليس بالجانب المعرفي أو الإدراكي منها حصرًا؛ وذلك من خلال تقديم تحليل مُركَّز للخطاب القرآني الذي جعل هذه الطبيعة مَرْكَزًا للهويّة الإنسانيّة ولأهمّ الأعمال الروحيّة المتَّصلة بجوهر التحقيق الديني، وأقصد المعرفة الإلهيّة والإيمان والأعمال الصالحة. وكيف أنَّ الخطاب القرآني، وانسجامًا مع هذا الاتجاه، جعل الدين دليلًا فعَّالًا لتحقيق الكمال الخاص بهذه الطبيعة الإنسانيَّة العاقلة بما يتضمَّنه من إرشاد معرفيّ ومسلكيّ يهدف إلى حفظها وتنميتها.
غرض كهذا يفترض إظهار مقاربة الخطاب القرآني للذات الإنسانية والحالة الوجودية المختصة بها: طبيعتها الخاصة وعلاقتها بالخالق وعلاقتها بالرسالة الإلهيّة المتمثّلة بالنص الموحى، وعلاقتها بالإرادة الإلهيّة والتي يفترض أن تتمظهر في السيرة الموافقة (أو “الطائعة” بالمصطلح الديني)، ولدور العقل من حيث هو القوة الإدراكيّة الخاصة بفهم حقائق الوجود وغيرها من الموضوعات التي تتفرع عنها أو تتصل بها. ولضيق المجال، سأعمد إلى الاقتصار على تقديم الأفكارِ الرئيسة التي تُبرز العلاقة الوثيقة بين الدين والعلم وبين الإيمان والعقل، واستحالة الفصل بينهما، وإظهار الحجج التي أستند إليها في تحقيق هذا الغرض.
وقد تقصَّدت باختيار عبارة “الخطاب القرآني” في العنوان إبراز المنهج الذي سأتّبعه في إظهار ما يقوله الكتاب المنزل عن مفهوم العقل وعلاقته بالدين والإيمان. ويقوم هذا المنهج على تتبُّع المفردات التي تتصل بـ”العقل” بما هو قوة إدراكيّة بوجه خاص وتلك المتّصلة بالطبيعة العاقلة للإنسان بوجه عام ودراسة الروابط المعنويّة (من معنى) والوظيفيّة التي يبنيها الخطاب القرآني فيما بين هذه المفاهيم والمفردات نفسها وفيما بينها وبين مفاهيم ومفردات أخرى تتصل بالعلم والمعرفة والإيمان وغيرها. ويندرج هذا المنهج ضمن التفسير العقلي للنص القرآني لكونه يقاربه باعتباره نصًّا يُقدِّم مفاهيم واضحة ومُتّسقة عن الموضوعات التي تندرج فيه، ومن ضمنها العقل وعلاقته بالدين والإيمان، ويتقصَّى معاني الآيات وغاياتها لا من خلال المأثور والخبر (أي النقل) بل بتحليل النصّ تحليلًا عقليًّا ممنهجًا.
سأبدأ البحث بعرض موجز لنموذجَين بارزَين لمقاربة هذا الموضوع من التراث الإسلامي، وهما ابن رشد والغزالي، وإظهار أهمّ أبعاد نظرتهما إلى المسألة. ثمَّ أقدِّم عرضًا مُركّزًا ومختصرًا لأهمّ ما تفسّره المعاجم التراثية الرئيسة عن معاني العقل لأنتقل بعدها إلى الغرض الرئيس للبحث فأعرض أولًا لعلاقة العقلِ بالهُوية الإنسانيّة، ثمَّ علاقته بالنص المنزل من حيث هو قوة الإدراك المختصّة بالحق الذي هو غاية الوحي، ومن ثمَّ علاقة الرسالة النبوية بالعقل والطبيعة العاقلة، وعلاقة الطبيعة العاقلة بالسيرة الإنسانيّة والمصير الروحي الموعود للمؤمنين.
ويهدف هذا البحث إلى تقديم صورة مختلفة، وربما مناقضة، لتلك المألوفة في أيامنا هذه عن الموضوع. وأعتقد أنَّه من المفيد للدراسات الإسلاميّة خاصةً والدينيّة عامةً إعادة الإضاءة على العلاقة العضويّة بين الاختبار الدينيّ والحالة الإنسانيّة بطبيعتها العاقلة بالعودة إلى النص الديني الأصل ودراسته بمعزلٍ عن الأطر المألوفة في التراث الإسلامي والقيود المنهجيّة والمفاهيميّة التي يشتمل عليها لما قد يساهم ذلك في فتح آفاق جديدة للأبحاث المرتبطة بالموضوع ذاته بوجه خاص والدراسات الدينيّة والقرآنيّة بوجه عام. ومن شأن دراسة كهذه أيضًا أن تقدِّم منظورًا مختلفًا للإنسان المعاصر الذي يبحث عن أطر عقليّة لفهم حقيقة العلاقة القائمة بين العلم والدين والعقل والإيمان بعيدًا عن الخطاب الديني التقليدي من جهة والمقاربات الحديثة، التصالحية منها أو الصدامية، من جهة أخرى، وذلك بتقديم مادة علميّة متّسقة ومفهومة للتفكُّر بالموضوع بأبعاده المتعدّدة في وقت بات يُشكل فيه تطوُّر العلوم الطبيعية والمناهج الاختباريّة على أنقاض المعتقدات الدينية الموروثة أحد أبرز التحديات التي تواجه استمرارية الدين في المجتمعات المدنيّة الحديثة، وينحو العالم فيه أكثر فأكثر إلى التفريق بين الدين والعقلانية وإلى مقاربة التجربة الدينية بافتراضها حالة عرضيّة على السيرة الإنسانيّة بعمقها التاريخي المديد.

نموذجان بارزان من التراث الإسلامي
درج الباحثون في العصر الحديث على مقاربة علاقة العقل بالدين والإيمان في التراث الإسلامي من خلال ما كتب مُفكران إسلاميان معروفان من العصر الوسيط عن الموضوع، وهما القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد (ت. 595هـ/1198م) والإمام حجّة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت. 505/ 1111م). ويُقَدَّم الأول على أنَّه يُمثِّلُ المنحى العقلي في التفسير والتشريع الديني وصديق للفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية، ويُقَدَّم الثاني على أنَّه النقيض الذي يُمثِّل المنحى التقليدي ومناهض للعقل والفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية عامةً. وسأقدّم في ما يلي عرضًا مختصرًا لمقاربتي ابن رشد والغزالي لإظهار أهم معالمهما والإشكاليّة الرئيسة التي تصدَّيا لها كنموذجين لما هو مألوف عن الموضوع في التراث الإسلامي، بهدف توضيح الخلفيّة الجدليّة للموضوع من جهة، ولبيان جدّة المقاربة التي يتضمنها هذا البحث من جهة أخرى.

مقاربة ابن رشد
خصَّص ابن رشد كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال لتوضيح أنَّ الشرع الإسلامي وخاصةً النَّص المنزل لم يُجِز استخدام المناهج العقليّة في تفسير الكتاب والعلوم الدينيّة وحسب، بل دعا إلى إعمال العقل في فهم الدين والوجود عامةً، وأوجب ذلك على المسلمين في كثير من آيات الكتاب المنزل. وقد بيّن ذلك في مقدمة كتابه المذكور، حيث قال:
فأمَّا أنَّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلّب معرفتها به، فذلك بَيِّن في غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر/2). وهذا نصّ على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا. ومثل قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ (الأعراف/185). وهذا نص بالحثّ على النظر [العقلي] في جميع الموجودات (2).
غير أنَّه عاد وحَصَر جواز استخدام النظر العقلي سواء أكان في تفسير الكتاب أم في دراسة العلوم الدينيّة الأخرى بنوع خاص من الناس، وهم الذين يصلون إلى التصديق بالحقائق عن طريق البرهان، أي بواسطة العقل. فقد استنتج ابن رشد أن النصَّ القرآني قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام وفق طرق التصديق التي توافق طباعهم:
إنَّ شريعتنا هذه الإلهية حقّ وإنّها التي نبّهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله ومخلوقاته، فإنَّ ذلك مقرّر عند كلّ مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلّته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدّق بالبرهان، ومنهم من يصدّق بالأقاويل الجدليّة… ومنهم من يصدّق بالأقاويل الخطابيّة (3).
وقد بنى ابن رشد استنتاجه هذا على “تضمُّن شريعته طرق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/125)” (4). ووفقًا لتفسيره للآية المذكورة، فإنَّ كل طريقة من طرق الدعوة المذكورة فيها – أي الحكمة والجدل والوعظ – توافق طبعًا من طباع الناس في طرقهم في التصديق؛ وإنَّ الحكمة هي الطريقة الموافقة لطبع من يصلون إلى التصديق بالبرهان من دون غيرهم. ويحقّ لهؤلاء فقط، بل هو واجبٌ عليهم، أن يعتمدوا المنهج العقلي في تفسير الكتاب المنزل وتأويل الظاهر اللامعقول منه وفي فهمهم للوجود.
ثمَّ أشار ابن رشد إلى أنَّ تناقض ظاهر الآيات مع أحكام العقل هو دليل لأصحاب طريقة البرهان على وجوب تأويل تلك الآيات للوصول إلى المعنى الموافق للعقل (5) . من هنا، يظهر لنا أمران: الأول، أنَّ العقل وأحكامه يشكلان مرجع الحقيقة الأوّل لأصحاب طريقة البرهان، أي أنّ حُكم العقل عندهم يعلو حكم الشَّرع لأنَّ الدليل على وجوب استعمال منهج التَّأويل لفهم معاني الآيات هو تعارض ظاهرها مع أحكام العقل. فعند وقوفهم في الكتاب المنزل على معنى ظاهر يتعارض مع أحكام العقل يجب على أصحاب طريقة البرهان تأويل الآية بحثًا عن معنى خفيّ معقول يكون سبيلًا لهم إلى إصابة المعرفة والتصديق بحقائق الوحي. أمَّا الأمر الثاني فهو أن بقيّة الناس، وهم الأكثرية، يجب عليهم الأخذ بالظاهر اللامعقول كما هو، بالرغم من تناقضه مع أحكام العقل.
إذًا، حصر ابن رشد مقاربته للموضوع بتبيان إجازة الشرع لاستخدام النظر العقلي والمناهج العقلية في دراسة العلوم الشرعيّة وفهم حقائق الوجود، وإظهار وجوبه لقلّة من الناس؛ ولكنّه لم ينفِ وجود سبل أخرى لا تشترط إعمال العقل وتطبيق أحكامه لتحقيق هذا الغَرَض. فابن رشد لم ينف قدرة الناس الذين ينتمون إلى النوعَيْن الآخرين – أي الجدليّين والخطابيّين – على الوصول إلى معرفة الله والإيمان والتصديق به، وتاليًا تحقيق شروط نيل السعادة الأبديّة بالرغم من عَجْزهم عن فهم المعاني المعقولة التي يصل إليها أهل البرهان من خلال تأويل الظاهر اللامعقول. وقد جزم ابن رشد بأنَّه يُمكن للجدليّين والخطابيّين الوصول إلى الإيمان من خلال التصديق بالظاهر ولو كان لاعقلانيًّا عندما أوجب منعهم من قراءة التأويلات البرهانية للظاهر اللامعقول وإلزامهم الوقوف عليه والتصديق به، لأنّ هدمه لهم عبر التأويل يؤدّي بهم إلى الكفر:
وهذا التأويل ليس ينبغي أن يُصرَّح به لأهل الجدل فضلًا عن الجمهور (أي الخطابيين). ومتى صرّح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، وبخاصّة التأويلات البرهانية لبُعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر. والسبب في ذلك أنَّ مقصوده إبطال الظاهر وإثبات المؤول، فإذا بَطَلَ الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤوَّل عنده، أدَّاه ذلك إلى الكفر، إن كان في أصول الشريعة (6).
كلام ابن رشد هذا في غاية الوضوح، فهو يقول إنَّ المعنى العقليّ الناتج من التأويل يُبطل المعنى الظاهر المنافي لأحكام العقل، وإنَّ الجدليين والخطابيين يعجزون عن إدراكه لعجزهم عن إدراك المعاني المعقولة. وإنَّ حفظ إيمانهم وحقّهم بالسعادة الأبدية يشترط منعهم من التعرُّض للمعنى المؤوَّل لأنَّه معنى عقليّ يبطل المعنى الظاهر. فإذا هُدِم لهم الظاهر بتأويله أنكروه، وبعجزهم عن المعنى العقليّ لا يصلون إلى الحقيقة فيخرجون إلى الكفر. وهذه نقطة إشكاليّة في مقاربة ابن رشد. فكيف يمكن أصحاب طريقة البرهان أنفسهم القبول بهذه المقولة، وفي رأيهم أنَّ ما ينافي أحكام العقل هو باطل؛ فكيف يجوز أن يكون التصديق بالباطل سبيلًا إلى معرفة الله ونيل السعادة الأبديّة؟ للأسف، لا يجد الباحث في كتاب فصل المقال جوابًا عن هذا السؤال المشروع. وسيظهر لاحقًا في سياق هذا البحث أنَّ الخطاب القرآنيّ لم يُشر إلى سبيل آخر غير العقل طريقًا لفهم حقائق الوحي وتحقيق الإيمان والوصول إلى النجاة والفوز بالسعادة الأبديّة.

مقاربة الغزالي
بالرغم من التباين الموجود بين موقف ابن رشد تجاه علاقة العقل بالشرع وموقف الغزالي، فإنَّ الأخير قارب هذه المسألة أيضًا من باب الحُكْم ما إذا كان العقل هو الأداة المعرفيّة أو القوّة الإدراكيّة التي تُدرَك بها حقائق الشَّرع والوجود، أم تلك الحقائق تُدرك بأداة أخرى غير العقل وأعلى منه. وقد قسَّم الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أطوار الإدراك التي يدرك الإنسان فيها أنواع الموجودات إلى أربعة: الحسّ والتمييز والعقل وعين النبوّة (7) . وفيما يكتسب عموم الناس الحواسّ في سنّ مبكّرة، ثمّ يكتسبون بعدها التمييز في سنّ السابعة ومن ثمَّ العقل عند البلوغ، لا يقدر على أن يكتسب عين النبوّة إلَّا القليل منهم، وهم الذين يسلكون مسالك الزهد وتنقيَة القلب من كلّ ما هو سوى الله. ويشرح الغزالي عن طور العقل وعين النبوّة، فيقول:
ثمّ يرتقي إلى طور آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورًا لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر فيها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأمورًا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوّة التمييز عن إدراك المعقولات (8).
إذًا، عين النبوّة هذه هي بحسب الغزالي أداة المعرفة التي تُدرك الحقائق المخفيّة عن الوجود، والتي يسمّيها خواصّ الأشياء. ويضيف الغزالي العبادات الدينيّة بفروعها الإيمانيّة والمعرفيّة والمسلكيّة – وبالتالي حقائق الوحي – إلى نوع الموجودات الغيبيّة التي لا تُدرك إلَّا بعين النبوة ويعجز العقل تاليًا عن إدراكها. ثمَّ إنَّه جعل هذه العبادات أدوية للأرواح اللطيفة وحياة لها. غير أنَّه لم يربط بين صحّة هذه الأرواح وسلامتها وبين الطبيعة العاقلة، بل ربطها بمعرفة الله والطاعة له والرغبة في طلبه. وبما أنَّ الله من الغيب، فإنَّ معرفته هي فعل عين النبوة بالأصالة، وفعل العقل بالمداورة وذلك بتعلّمها عن الأنبياء والأولياء والتصديق بها. لذا، فإنَّ العقل لا يقدر على الوصول إلى معرفة الله بقدرته الذاتيّة، بل يصل إلى هذه المعرفة باقتباس المعارف الدينية التي يصل إليها الأنبياء والأولياء بقدرة عين النبوة التي تنفتح لهم كما ذكر أعلاه نتيجة الزهد والإخلاص بمحبة الله ومخالفة الأهواء وتصفية القلوب، وبقبول هذه المعارف كما هي. ويقول الغزالي في هذا معنى:
وكما أنَّ أدوية البدن تؤثّر في كسب الصحّة بخاصيّة فيها لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل (9)، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء الذين اطّلعوا بخاصيّة النبوة على خواصّ الأشياء، فكذلك بان لي، على الضرورة، أنَّ أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدّرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواصّ بنور النبوة لا ببضاعة العقل.
ويعتبر الغزالي أنَّ أيّ محاولة لفهم خواصّ العبادات ومقاديرها وحدودها بعين العقل هي ضرب من ضروب الحمق والجهل لأنَّ العقل أعمى عن تلك الخواصّ ويعجز عن فهمها لأنّها من اختصاص عين النبوة:
فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب، مركّبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إنَّ السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ، ولا يخلو عن سرّ من الأسرار، هو من قبيل الخواصّ التي لا يطّلع عليها إلّا بنور النبوّة. ولقد تحامق وتجاهل جدًّا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة، أو ظنَّ أنّها ذكرت على سبيل الاتّفاق لا عن سرّ إلهيّ فيها يقتضيها بطريق الخاصيّة (10).
إذًا، من يحاول إدراك خواصّ العبادات بالعقل عن جهل منه بعجز العقل عن إدراكها، سيقوده ذلك الجهل إلى استهجان تلك العبادات وإنكار وجود خواصّ فيها تشفي القلوب من الأمراض الدينيّة. فلجهله السبب الحقيقيّ لعجز عقله عن إدراك خواصّ العبادات، يظنّ أنَّ ذلك دليل على عدم وجود تلك الخواصّ (11). ولكن، وبما إنَّ خواصّ العبادات وحدودها ومقاديرها تُدرك فقط بعين النبوة لا بنور العقل، لا يبقى للعقل بنظر الغزالي خاصيّة ولا فائدة إلَّا تمكين المؤمنين من فهم صورة العبادات – أي التعاليم والأعمال والشعائر إلخ – وشروطها، وإدراك عجزه عن معرفة خواصّها، ومن ثمَّ تفسير سبب عجزه عن إدراكها للمؤمنين؛ وهو أنَّها تقع خارج دائرة نظره. ويوضّح الغزالي خاصيّة أخرى للعقل وهي إقناع المؤمنين بضرورة التسليم للأنبياء والأولياء فيما يعلّمونه للناس عن تلك العبادات لكون هؤلاء قادرين على إدراك خواصّها بعين النبوّة. ويصل الغزالي إلى غاية احتجاجه هذا ليقول إنَّ وظيفة العقل هي أن يهدي المؤمنين إلى ضرورة الاتّباع والتقليد الأعمى للأنبياء والأولياء في أمور الدين والعبادات:
وعلى الجملة فالأنبياء أطبّاء أمراض القلوب، وإنّما فائدة العقل وتصرّفه إن عرّفنا ذلك، ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة، وأخَذَ بأيدينا وسلّمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيّرين إلى الأطبّاء المشفقين، وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عمَّا بعد ذلك، إلّا عن تفهّم ما يلقيه الطبيب إليه (12).
ويبدو أنَّ الغزالي حرص على الانسجام بتفكيره مع مقولته هذه، فذكر مباشرة بعدها أنَّه وصل إلى هذه النتائج عن خواصّ العقل بواسطة عين النبوة وليس بالنظر العقليّ، حيث قال: “فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة، في مدّة الخلوة والعزلة” (13) ؛ والمشاهدة المذكورة هي فعل عين النبوّة.
إذًا، وكما سبق أن ذُكر، يتبيّن من التحليل المدرج أعلاه أنَّ الغزالي قد حصر علاقة العقل بالدين والشرع في المجال المعرفيّ والإدراكي، وجعله خادمًا للتقليد والاتّباع الأعمى للأنبياء والأولياء، يعجز عن إدراك خواصّ الموجودات جميعًا، سؤاء أكانت روحيّة، مثل النفس وأمراضها وأدويتها من العبادات، أم طبيعيّة، مثل أحوال البدن وأمراضه وأدويته ومثل الأفلاك. وبالتالي، عزل الغزالي الدين والشرع عن أحكام العقل وجرّده من أهليّته للحكم على مسائل الشرع، وأعطاه دور التابع الأعمى لعين النبوّة.
وإذا ما قارنَّا بين غاية ابن رشد من كتابه فصل المقال وغاية الغزالي من المنقذ من الضّلال نرى فارقًا مهمًّا يمكن تفسيره على النحو التالي: حاول ابن رشد أن يجد للعقل من حيث هو قوة إدراك الحقّ مكانًا أصيلًا وشرعيًّا في الدِّين، وجعل تعارض ظاهر الشرع مع العقل إرادة إلهية مقصودة تهدف إلى تنبيه أصحاب الطباع العقليّة التي تبني التصديق على البرهان إلى ضرورة تأويل هذا الظاهر اللاعقلاني سبيلًا للوصول إلى الحقائق العقلية الخفيّة. أمَّا الغزالي فلم يكن يرى من ضرورة للتوفيق بين العقل والشرع، كما لم يرَ إشكالية في تعارض ظاهر الشرع مع العقل، ولم يعتبر أنّ ذلك يضرب مصداقية الشرع؛ بل على العكس، رأى فيه تفوُّق الشرع وعجز العقل عن معرفة الحقائق. ويشرح الغزالي فهمه لموقف بعض العقلاء من الآيات ذات الظاهر اللاعقلاني في الشرع على النحو التالي: “وكما أنَّ المميّز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها، فكذلك بعض العقلاء أبى مدركات النبوة واستبعدها؛ وذلك عين الجهل، إذ لا مستند له إلَّا أنَّه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه فظنَّ أنَّه غير موجود في نفسه”(14) . قَبِلَ الغزالي إذًا احتمال أن يكون بعض الشرع مناقضًا لأحكام العقل من دون أن يجعل لذلك التناقض فائدة عقليّة كما ذكر ابن رشد، وتفهّم استهجان العقلاء منه وإنكارهم إياه؛ غير أنَّه رأى في ذلك كلّه إثباتًا لعجز العقل ومحدوديّة قدرته! وسيتبيّن لاحقًا عدم انسجام مقولات الغزالي هذه مع الخطاب القرآني عن العقل ودوره في الدين والعبادة الروحيّة.

(يتبع لاحقاً جزءٌ ثانٍ)

نشاطات

[su_accordion]
[su_spoiler title=”خطبة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن
بمناسبة عيد الفطر السعيد 2018″ open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحمد لله ربّ العالَمين، والصَّلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وسيِّد المرسَلين، وآله وصَحبه أجمعين وعلى كافة الانبياء والمرسلين.
يقفُ المؤمنُ، وقد أهَلَّ هلالُ الفِطر، يقف بين يدَيّ ربِّـه مستذكراً الآية الكريمة ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة 185). والتَّكبيرُ في ليلةِ العيدِ وصبيحتِه لهُ معنى التمجيد لاسْمِ الله وعظمتِه بالتَّوحيدِ والإقرار مقروناً بالحمْدِ لهُ على نِعمة الهُدى التي بها أُضيئت القلوبُ وتمَّ إحياؤها بالذِّكْر والاستشعار. ولا انتهاءَ لحمدِ الله ما دامَتْ عروقُ المرء نابضةً بالحياة. وأجلّ الحمد الصّدق فيه إذ يُدركُ المؤمنُ بكلِّ كيانه أنَّ الصَّومَ والجهادَ فيه بالطاعةِ والتَّقوى وأعمالِ البِـرّ كان رحـمةً و﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الحُجُرات 8).
وفرحُ العيدِ في الإسلامِ هو فرحٌ بثمراتِ الطَّاعةِ التي هي مِن رضَى الله العليّ القدير. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس 58). ﴿ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أيْ مـمَّا يقْتـنُون من حُطام الدُّنيا “وما فيها من الزَّهرة الفانية الذَّاهبة”. هو فرحُ الصِّلةِ بالأُنْس الأعظَم، وهوَ استشعارُ الخلَّاق بحضورِ المعنى الشَّريف في القلب والكيان، وامْتـثالِه في الخاطر والوجدان، والعـزمِ على السُّلوك بموجبِه في ظاهر الأعمال وباطنِها ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾ (مريم 76).


إنَّ من شأنِ هذه النِّعمة العظيمة والتَّحَلّي بمآثرها في الرُّوح والذَّات أن تهَبَ الفردَ مكانةً عزيزةً في رحابِ الإنسانيَّة الفسيح، بمعنى أنَّها لا تعزلُه عن الآخرين، أهلِه ومجتمعِه ومواطنيه في بلدِه بل وفي العالَم، ذلك أنَّ القيَمَ الإنسانيَّة الساميَة هي جامعٌ مُشتَرَك لكلِّ البشَر، طبعاً لمَن يأنف بمعنويَّتِه وتصرّفاته من الطبائع المضادَّة لتلك القيَم ومنها طباعُ العدوانيَّةِ والعنصريَّةِ ونسبيَّةِ الرؤية المتمحْورة حول صراع الأنا مع كلِّ آخَر. والقرآنُ الكريمُ أورد سمةَ من يأخذون بخِيار رذْل القيَم في ضمائرهم، قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (الفتح 26)، والإسلامُ، في سياقِه الابراهيميّ عبر تاريخ التَّوحيد، علَّم الإنسانَ أن يقولَ في حقيقةِ ذاتِه: أعاذنا الله تعالى من كلِّ جهلٍ يُعمي البصيرةَ عن الخيْر الخير الَّذي أراده اللهُ الكريمُ الحليمُ لخَلقِه أجمعِين.
ونحنُ نتطلَّعُ، بقوَّةِ هذا الإيمان، إلى بلدِنا نُريدُ لهُ السَلامةَ، بكيانِه وشعبِه ورسالتِه التي يتغنَّى بها الجميع. نريدُ لهُ أن يَسلمَ من كلِّ الأخطار المُحدِقة به، فإننا ننتظر من المسؤولين المعنيين أن يبادروا إلى الاستثمار في عامل الوقت وتأليف الحكومة الجديدة، فاللبنانيون الذين حدّدوا خياراتهم في الاستحقاق الانتخابي، يتطلعون اليوم إلى حكومةٍ متجانسة، تمثلُ تلكَ الخيارات وتعبّرُ عن تطلعاتِهم في النهوض بالبلاد ممّا تعانيه من أزماتٍ في قطاعاتٍ شتى، على قاعدة الجدوى الحقيقيّة لفكرة النظام الديمقراطي شراكةٌ وعدالة في التمثيل وإرادة في العمل، وانصرافٌ إلى مقاربة قضايا الناس وشؤون المواطن. اننا نطالب ونشدد على مكافحة الفساد والهدر. ومعيبٌ ان تتعثر الحلول الناجعة لملفات مهمة كالنفايات والكهرباء.
من جهتنا إننا نفهمُ تقاطعَ المصالح أنه يجب ان يكونَ بمثابةِ شعورٍ عام بأولويِّة المصلحةِ العليا على كلِّ ما عداها. ولا فضلَ لمواطن على اخيه في المواطنيّة إلّا بمقدار التزامها وامتثالها وجعلها مسلكاً حياتياً ذاتياً واجتماعياً وكذلك ادارياً لمن يتحمل مسؤولية الادارة.
ومن حرصنا،ندعو إلى التقاطِ الفعاليَّات الإيجابيَّة التي ترتَّبت نتيجة الاستحقاقات الوطنية، ونحذِّرُ من أي قرارات تُغرق الأداءَ السياسيّ بانعكاساتٍ سلبيَّة. إنَّ بلدنا يقفُ على حدود مخاطر أمنيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة كبيرة ،وعلى كلِّ صاحبِ موقعٍ أن يكون مسؤولاً عن آدائه أمام ناخبيه وأمام وطنه وأمام ضميره ومصداقيّته السياسيَّة.
بالأمس القريب كانت مناسبة تأسيس قوى الامن الداخلي، فلهم ولكلّ الاجهزة الامنية والجيش قيادةً وافراداً الشكر والتقدير على تضحياتهم وسهرهم في خدمة الوطن والمواطن.
وأملنا في عيد الفطر السعيد أن تستعيد الشعوب العربية والإسلامية، التي تتعرض في أكثر من مكان إلى حصار وتضييق وعنف وتهجير وقتل، ان تستعيد استقرارها وعافيتها وتكتسب حرياتها وحقوقها، وتحديداً في فلسطين المحتلة. إننا نتضامن مع شعبها الذي يكابد منذ عقود من أجل حقّه في الحياة على أرضه وصيانة المقدسات، ودعوتنا في هذا السياق إلى حركة عربية وإسلامية تساعد على وقف هذا النزف الفلسطيني وصدّ كل المحاولات الجارية لتغيير هوية القدس الشريف كعاصمة لدولة فلسطين.
إنَّنا إذ نتقدَّم من شعبنا وشعوب أمَّتنا بسؤال البركة لها في هذا العيد المبارك من ربٍّ غفور رحيم، نسأله تعالى السَّلام لها والعزَّة والكرامة، وأن ينصرها على كلِّ متربِّصٍ غاصب، وأن يمنّ عليها بالفرَج والظفر، وأن ينعم بظلال نعمتِه ورحمته وكرمه علينا جميعاً، إنه هو الكريم الحليم، السميع المجيب.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”بيان المجلس المذهبي.” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تاريخ 15/5/2018
تاريخ 15/5/2018

عقد مجلس إدارة المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز اجتماعاً برئاسة سماحة رئيس المجلس المذهبي شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، وناقش قضايا تخص المجلس وأمور وطنية. وأصدر بياناً تلاه أمين سر المجلس المذهبي المحامي نزار البراضعي، جاء فيه:
أولاً: يأسف المجلس لاستشهاد الشاب علاء أبي فرج في الشويفات، ويتوجه بالتعازي من ذويه ومحبيه ورفاقه، ويدين بشدة هذه الحادثة الاجرامية المستنكرة الغريبة تماماً عن عادات وقيم الموحدين الدروز ومجتمعهم، ويؤكد مجدداً على الموقف الذي أطلقه سماحة شيخ العقل عقب الحادثة ومواقف مشايخ ومرجعيات الهيئة الروحية لناحية التمسك التام بالتعقل والحكمة ورفع الغطاء عن المرتكبين، ويشيد المجلس بالروحية العالية والحكمة التي تعامل بها الاستاذ وليد جنبلاط لمنع تفاقم الأمر، ويناشد جميع القيادات بوأد الفتنة ويطالب القوى الأمنية بملاحقة كل المتورطين أياً كانوا وأينما كانوا وتسليمهم للقضاء لكي تأخذ العدالة مجراها، بعيدا عن اي شحن او توتير.
ثانياً: يعبّر المجلس عن ارتياحه لعودة المسار الديمقراطي إلى البلاد المتمثل بإجراء الانتخابات النيابية وانبثاق مجلس نيابي جديد، ما يفتح الباب أمام مزيد من التفعيل لعمل المؤسسات الدستورية والحياة العامة، على ان تكون الجهود منصبّة على تشكيل حكومة وطنية جديدة على قاعدة التوازنات السياسية لمعالجة القضايا الاقتصادية والامنية والمعيشية والاجتماعية بما يؤمن الاستقرار العام في البلاد والاطمئنان للبنانيين الى غدهم لحياة كريمة وحرة.
ثالثاً: يدين المجلس تنفيذ الادارة الاميركية قرار نقل السفارة الى القدس ضاربة عرض الحائط بكل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وبالقدس، وبالمضي في تنفيذ قرار نقل السفارة الأميركية الى القدس تزامنا مع ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني بقيام الكيان الاسرائيلي المغتصب والمحتل على ارض فلسطين التاريخية، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة على مستوى المسار السلمي برمّته، ويستدعي لمواجهته وحدةً فلسطينية متماسكة وقراراً عربيًا وإسلاميًا لحماية القدس عاصمةً أبدية لدولة فلسطين وحماية الاماكن المقدسة للمسيحيين والمسلمين العرب ويوجه تحية الى الشعب الفلسطيني. مجدداً وقوفه الى جانبه في انتفاضته الشعبية المتجددة لاستعادة الحقوق المسلوبة مستنكراً الارهاب الاسرائيلي الذي طاول المدنيين الفلسطينيين بطريقة همجية وأدى الى سقوط عشرات الشهداء الأبرياء.
رابعاً: يتقدم المجلس من المسلمين جميعاً واللبنانيين بخالص التهاني والتبريكات بمناسبة بدء شهر رمضان المبارك، راجياً ان يكون في صيامه وفي ما يؤثى فيه من زكاة وعبادة وما يوصيه من أجواء الالفة والخير وحفظ الاخوان سبيلاً للتقرب من الخالق تعالى والتقارب بين أبناء الوطن الواحد والانسانية جمعاء.

صدور مرسوم
ترخيص باستحداث
كليّة الأمير السيّد عبد الله التنوخي الجامعية للعلوم التوحيدية

المعهد
المعهد

نبارك للجميع صدور مرسوم ترخيص باستحداث كلّيّة الأمير السيّد عبد الله التنوخي الجامعية للعلوم التوحيدية، حدثٌ تاريخي غير مسبوق نأمل أن يكون خطوة مهمة في طريق التحصيل الجامعي العالي للمهتمين بالعلوم الإسلامية والتوحيدية.
ونحن نأمل بالحصول على الإذن بمباشرة التدريس قريبا، ليكون مطلع شهر أيلول المقبل بداية للتسجيل في الكلّيّة.
علما أنّ الكلية تمنح إجازة جامعية في العلوم التوحيدية.
و تبارك بهذا الإنجاز، وتضم صوتها إلى الذين ينتظرون الخير العميم من إنشاء الكلية الجامعية أعلاه.

مرسوم-المعهد
مرسوم-المعهد

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز يفتتح المركز الصحي في عاليه تاريخ 23/4/2018″ open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز يفتتح المركز الصحي في عاليه
المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز يفتتح المركز الصحي في عاليه

في إطار خطواته المتلاحقة لتعزيز الخدمات الاجتماعية، افتتح المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في مدينة عاليه مركزاً صحياً، الذي أقيم برعاية نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة العامة غسان حاصباني.
وشارك في حفل الافتتاح فضيلة القاضي الشيخ غاندي مكارم ممثلاً سماحة شيخ العقل نعيم حسن، النائب أكرم شهيب ممثلاً رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط ورئيس لائحة المصالحة تيمور جنبلاط، ممثل وزير الصحة العامة فادي مسلم، ممثلة وزير التربية الدكتورة جنان شعبان، ممثل وزير الاشغال العامة المهندس خالد شميط، ممثل وزير الشؤون الاجتماعية زاهي الهيبي، النائب هنري حلو، المرشح أنيس نصار، مفوض الاعلام في الحرب التقدمي الاشتراكي رامي الريس، القيادي الدكتور ناصر زيدان، أمين سر المجلس المذهبي المحامي نزار البراضعي، رئيس اللجنة القانونية المحامي نشأت هلال، ورئيس اللجنة المالية الدكتور عماد الغصيني، رئيس الحركة اليسارية اللبنانية منير بركات، وكيل داخلية عاليه خضر الغضبان وأعضاء المجلس المذهبي، ومديره العام مازن فياض، مدير الأوقاف المهندس نزيه زيعور، رئيسة المصلحة الاجتماعية رانيا الريس ورؤساء المصالح والأقسام في المجلس المذهبي.
كما حضر رئيس جمعية الشيخ أبو حسن عارف حلاوي الشيخ حسان حلاوي، رئيس جمعية تجار عاليه سمير شهيب، ممثلة بلدية عاليه منى عقل، رئيسة تجمع الجمعيات النسائية في الجبل فريدة الريس، مدير العلاقات العامة في جامعة البلمند – سوق الغرب الدكتور سهيل مطر وعدد كبير من الشخصيات والفاعليات ورجال الدين.

جنبلاط
بعد ترحيب من الاعلامية نوال الأشقر، تحدثت رئيسة اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي المحامية غادة جنبلاط التي قالت: “أرحب بكم في هذا اللقاء الانساني الجامع الذي نجسّد فيه صورة الوطن الحقيقية، صورة التآخي والتكافل والتعاضد الاجتماعي، صورة التلاقي على القيم الانسانية التي جمعتنا وما زالت ولم تهتز يوماً بالرغم من بشاعة وقسوة الاحداث المأساوية التي مررنا بها”.
اضافت: “ما يحتاج اليه المواطن اللبناني في هذه المرحلة هو هذا الفعل الانساني الذي يهدف الى ضمان حقه في الصحة والتعليم والامن وفرص العمل والانماء المتوازن ما ينعكس ايجاباً على تعزيز ثقة اللبنانيين بدولتهم ومؤسساتهم”.
وتابعت: “من هنا كان هدفنا الأسمى في اللجنة الاجتماعية احتضان الانسان والتخفيف عنه ولو بالحد الادنى بما نقدمه له من متطلبات يفتقدها من سبل العيش الكريم عبر برامج صحية، تربوية، وتوعوية كي يبقى حراً في ارضه ويعيش بكرامتهن ويكون مواطناً صالحاً في مجتمعه”.
وأكدت “ان الصحة حق لكل انسان، وتأمين الرعاية الصحية واجب على كل مسؤول من هنا جاءت انطلاقتنا في اللجنة الاجتماعية من خلال برامج صحية توفر الحد الادنى من العناية فكان برنامج الاستشفاء للمرضى الذين يدخلون للمعالجة على نفقة وزارة الصحة العامة ويعجزون عن تسديد فروقات الوزارة، جددنا العقود مع المستشفيات التي كنا نتعاون معها، وابرمنا عقوداً جديدة مع مستشفيات في مناطق عدة، بحيث بلغ عدد المستشفيات الخاصة والحكومية المتعاقدة معنا 13 (ثلاثة عشرة) مستشفى ما سهّل للمريض الانتقال الى اقرب مستشفى، والاستفادة من تقديمات اللجنة. وقد بلغ مجموع الحالات المرضية التي غطت عنها اللجنة جزء او كامل فروقات الوزارة من العام 2013 حتى شباط 2018، 6528 حالة.
أضافت: “ولا يسعنا في هذه المناسبة إلا التوجه بالشكر للنائب وليد جنبلاط ونجله تيمور جنبلاط لدعمها المتواصل للجنة الاجتماعية، ومساندتهما لنا لبلوغ اهدافنا المرجوة وترسيخ صورة المجتمع الذي نربو اليه جميعاً”.
وختمت قائلة: “نحن في اللجنة الاجتماعية للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، على عهدنا باقون، وبمبادئنا متمسكون، وفي خدمة المواطن اللبناني مثابرون”.

الحلبي
ثم تحدث رئيس لجنة الأوقاف القاضي عباس الحلبي، فقال: “نجتمع اليوم للإعلان عن انطلاق إنجاز جديد حققه المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بتعاون خلاّق بين اللجنة الاجتماعية ولجنة الأوقاف لخدمة أبنائنا واخواننا وأخواتنا في مدينة عاليه والجوار”.
أضاف: “إنّ اختيارنا لعاليه عروسة المصايف وقلعة الجبل التي تصدّت في ماضيها لكل أنواع التعديات وكانت من أوائل البلدات والقرى التي فتحت ذراعيها للمصالحة والعودة لا تزال تعاني من بعض الإهمال في تأمين الخدمات الضرورية لعيش أبنائها مع التقدير الكبير للجهود التي بذلت وذلك لكي تستعيد دورها الذي لم ينازعها فيه أحـد في الماضي بالرغم من كل الإغراءات فاحتلّت في قلوب المصطافين لبنانيين وعرباً مكانة خاصة تتطلّع إلى أن تستعيد هذا المجد الغابر بعزم أبنائها والقيّمين عليها من سلطات بلدية ومحلية ونواب وممثلين لها الذين نوجّه إليهم التحية على النهوض بهذه المدينة العريقة”.
تابع: “وها إننا نحن اليوم نضيف حجراً في البناء لسد حاجات اجتماعية ورعائية وصحية عن طريق إفتاح هذا المركز الذي صمّمته لجنة الأوقاف بواسطة المهندس بشير أبي عكر ومدير الأوقاف المهندس نزيه زيعور وفريق عمل الإدارة الذين نوجّه إليهم التحية لإنجازهم هذا المكان اللائق بالمهمة المحدّدة له من قبل اللجنة الاجتماعية وعلى رأسها رئيستها المحامية القديرة المتفانية في سبيل خدمة مجتمعها لا سيّما الشريحة المحتاجة منه الاستاذة غادة جنبلاط وأعضاء اللجة الكرام وفريق العمل الإداري المساعد الذين أتوجّه إليه أيضا” بالتحية”.

وختم قائلاً: “فمبروك لعاليه افتتاح المركز الجديد الذي سيصبح مركزاً رعائياً صحياً واجتماعياً ان شاء الله بدعمكم جميعا ونحن واللجنة الاجتماعية سنتابع عن كثب ما يعزز هذا المرفق الخدماتي وما يحتاج إليه من متطلبات في المستقبل لكي يؤدّي دوره كاملاً في خدمة ناس هذه المنطقة والجوار بجودة عالية وبكلفة متدنية تحقيقا” لخدمة أبنائها”.

مسلم
كما القى كلمة وزير الصحة ممثله المحامي فادي مسلم، قال فيها: “إن وزرارة الصحة هي المؤتمنة على أغلى ما لدى الانسان. من هنا سعى وزير الصحة غسان حاصباني وبوقت قصير جدا لم يتجاوز 500 يوم عمل الى تعزيز الرعاية الصحية الأولية بكل ما يمكن أن توفره من برامج وقائية وتشخيص وعلاج ومتابعة.
أضاف: “اذ أصبح لدينا في لبنان (220) مركزاً صحياً يشكلون الشبكة الوطنية للرعايا الصحية الأولية”.

ولفت الى ان “لضمان جودة الخدمات وسلامة المريض والعاملين في القطاع الصحي شدّد وزير الصحة في تطبيق نظام الاعتماد Accreditation للمؤسسات الرعائية وأصبح في القسم الأكبر من المراكز الصحية معتمد، وسيخضع مركزكم مستقبلاً لذات النظام”.
وقال: “عملنا الكثير لتعزيز نظام الرعاية الصحية الأولية وبتعاون وثيق مع المؤسسات الأهلية والبلديات نوفر المساعدات لهذه المراكز أهمها الأدوية الأساسية وأدوية الأمراض المزمنة وهو برنامج مهم ويمكن أن يوفر حاجات مئات المرضى في عاليه ومحيطها المصابين بأمراض مزمنة”.
ثم أزيحت الستارة عن لوحة المشروع، وجال المشاركون على أقسامه التي ستوضع في خدمة المواطنين بدءاً من مطلع حزيران المقبل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”وزارة التربية الفرنسية تقلد
الشيخ علي زين الدين وسام
السعفة الاكاديمية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كرّمت وزارة التربية الفرنسية، رئيس مؤسسات العرفان التوحيدية في لبنان، الشيخ علي زين الدين، في احتفال أقيم في بلدة السمقانية الشوفية برعاية وحضور رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط، والسفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه.
وحضر الاحتفال سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، تيمور جنبلاط، ونائب المستشار الثقافي في السفارة، لوسيانو ريزبولي، ومدير المعهد الثقافي الفرنسي سيد رويس، ومسؤولة البروتوكول في المعهد اندريا واكيم. وزير التربية، مروان حمادة، ونائب رئيس حزب القوات اللبنانية، جورج عدوان، المفتش العام المساعد للأوقاف الإسلامية في لبنان، الشيخ حسن مرعب، راعي أبرشية صيدا للموارنة المطران مارون عمار، ممثلون النواب نعمة طعمة، ومحمد الحجار، والمرشحين للانتخابات النيابية انيس نصار والوزير السابق ناجي البستاني، قائد الشرطة القضائية العميد أسامة عبد الملك، قضاة المذهب الدرزي فيصل ناصر الدين وسليمان غانم وغاندي مكارم ورؤساء لجان واعضاء من المجلس المذهبي وامين سر واعضاء من جمعية اصدقاء العرفان، قائمقام الشوف ومدراء عامين وشخصيات ثقافية وتربوية واجتماعية ورجال دين.
وبعد كلمة لنائب المستشار ريبولي الذي اثنى على دور الشيخ زين الدين التربوي، والصداقة المميزة بين لبنان وفرنسا، تلاها تقليد رئيس مؤسسات العرفان التوحيدية وسام السعفة الاكاديمية، تحدث الشيخ زين الدين حيث قال، “يُسعدُني أن أرحِّبَ بكم في العرفان،

وأن تكون المناسبةُ محطةً من محطات العلاقة اللبنانية الفرنسية في إطارها الثقافي والتربوي، متوجِّهاً بالشكر الجزيل إلى المستشارية الثقافية والتربوية في السفارة الفرنسية في لبنان لتقديم السعفة الأكاديمية لي، كرئيسٍ لمؤسسة العرفان التوحيدية، وفي ذلك تأكيدٌ على التعاون الوثيق بيننا وبين جمهورية فرنسا على أكثرَ من صعيد، وخصوصاً على الصعيد التربوي والثقافي، وقد عمِلنا مع المركز الثقافي في دير القمر، منذ تأسيسه في العام 1993، على رفع مستوى اللغة الفرنسية في مدارسِنا، حيث عقدنا اتفاقاتٍ ثنائية لتطوير هذه اللغة، إيماناً بأهميتِها كوجهٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ بارز، وتأكيداً منَّا على أهمية الانفتاح اللبناني على الثقافات العالمية”.

وتابع “لقد أردنا هذه المناسبة، بالإضافة إلى طابَعِها التربوي، محطةً ثقافيةً وطنيةً جامعة، برعاية معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط وحضور الأصدقاء الكرام، للتأكيد على رسالة الانفتاح والحداثة التي تحملُها العرفانُ ويتميَّزُ بها الموحدونَ الدروز، بما في ذلك من تأكيدٍ على نهج المصالحة والأخوَّة الذي تبنَّيناه بقناعةٍ راسخة، وما وجودُكم الكريمُ اليوم إلَّا تأكيدٌ على ما يُجسِّدُه الجبلُ من وحدةٍ، وما يمثِّلُه من نموذجٍ أرقى للعيش الواحد المشترَك، وهو ما نُكرِّسُه يومياً وعند كلِّ استحقاقٍ ومفترَق، يقيناً منَ الجميع بأنَّ الجبلَ هو قلبُ لبنانَ، وبأنَّ سلامتَه لا يمكنُ أن تكونَ إلَّا بالمصالحة والتعاون والتكامل. وتلك هي رسالةُ التربية الأولى، وهذه هي رسالةُ العرفان”.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”تكـريـم
في أبو ظبي ودبي والسويداء ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تكـريـم في أبو ظبي ودبي والسويداء

تكريم في السويداء
تكريم في السويداء

آلت على نفسها منذ زمن أن لا تتحدث كثيراً عمّا يعنيها كمطبوعة، وأن تفسح في المقابل أوسع مساحة ممكنة لإبراز القضايا والشخصيات والمشكلات التي تعني جمهورها وتسهم بشكل من الأشكال في تحقيق الغاية المرجوة منها وهي تعزيز التمسك باالأرض والقيم التوحيدية والتاريخ المضيء لأعلامنا الذين كانوا لأكثر من مئة سنة العصب النابض في كل قضية عربية إسلامية، وفي كل قضية إنسانية، من قضية فلسطين المركزية إلى قضايا وحدة الأمة العربية وتقدمها وازدهار مجتمعاتها وتعزيز قيم المواطنة في كل بلد عربي.
لكن تخرج عن عادتها هذا العدد فتبرز بعض ما جاءها من شهادات، وتحت إصرار أصحابها، الذين تبادلهم التقدير نفسه وتعدهم أن تبقى أمينة على القيم الواحدة الجامعة.
تتوقف عن حدثي تكريم أحدهما في دولة الإمارات العربية المتحدة والثاني في محافظة السويداء في الجمهورية العربية السورية.
فقد التقى في 2 حزيران 2018 في مضافة آل عامر الكرام في بلدة “المتونة” في محافظة السويداء جمع من المشايخ الأجلاء والشخصيات العامة في المحافظة، نواباً وعمداء سابقين، واقتصاديين، وأدباء، وأساتذة جامعيين، وآخرين، بحضور ممثلي المجلة في السويداء الأستاذ ابراهيم العاقل والأستاذ ناصر العبدالله. تحدث في اللقاء عدد كبير من الحاضرين فأشادوا بالدور الأخلاقي والثقافي والوطني والقومي الذي تلعبه مجلة .
كذلك استضاف مجلس أمناء رئيس التحرير في أبو ظبي ودبي ، فكانت لقاءات مع السفير اللبناني في دولة الإمارات الأستاذ فؤاد دندن، الذي أشاد بالتشديد الذي تمارسه المجلة في الموضوع الأخلاقي وحرصها على الكلمة الجامعة. كما عقد لقاء آخر في فنددق رافييل في دبي شارك فيه عدد من أعضاء مجلس الأمناء (الشيخ كميل أبو غانم، الأستاذ أنور أبو الحسن، الأستاذ رافع أبو الحسن، الأستاذ توفيق الشعّار) وعدد آخر من أصدقاء المجلة الموجودين في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت إشادة بالجهود المبذولة لإبقاء رسالة الإنسانية والعروبية والإسلامية التوحيدية مقروءة وفاعلة ومستقطبة لاهتمام جمهور واسع من الأصدقاء والمهتمين وتأكيد على الاستعداد للمزيد من الدعم المعنوي والمادي للمجلة.
لا تملك إدارة إلا التأكيد لأصدقائها أنها مستمرة بتوجيه من سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان القاضي الشيخ نعيم حسن، والمجلس المذهبي، ومجلس الأمناء، في خطها القيمي الوحدوي الجامع ما يعزز القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع، وقيم المواطنة في كل قطر عربي.

أ.د. محمد شيّا رئيس تحرير مجلة ملقياً كلمة المناسبة
أ.د. محمد شيّا رئيس تحرير مجلة ملقياً كلمة المناسبة
تكريم في الإمارات العربية المتحدة
تكريم في الإمارات العربية المتحدة

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”مشاركة مشيخة العقل في
المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مشاركة مشيخة العقل في المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة
مشاركة مشيخة العقل في
المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة

عُقِد المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة بعنوان “الفرص والتحديات” برعاية معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح بدولة الامارات العربية المتحدة وذلك يومي 8 و 9 أيار في العاصمة أبو ظبي. وقد شارك في هذا المؤتمر أكثر من خمسمائة وخمسين شخصية علمية وسياسية وممثلين عن المؤسسات الاسلامية وفدوا من أكثر من مائة وأربعين دولة حول العالم. وبدعوةٍ كريمة من الجهة المنظِّمة إلى مشيخة العقل في لبنان، تمَّ إيفاد فضيلة القاضي غاندي مكارم للمشاركة في فعاليَّات المؤتمر.
تناولت الأبحاث العلمية محاور عدّة في وضع الوجود الاسلامي في الدول غير الاسلامية في السياق العالمي، والتوجُّه نحو خطوات تأسيسيَّة لفقه التعارُف من فقه الضرورة إلى فقه المواطنة، وبحث تنامي ظاهرتي التطرُّف الديني والاسلاموفوبيا ودورهما في تقويض استراتيجيات الاندماج المجتمعي للمجتمعات المسلمة وأثرهما على السلم المجتمعي، ودور المجتمعات المسلمة في تعزيز أشكال التعددية الثقافية في الدول غير الاسلامية، كما تمّ التطرُّق إلى موضوع النظام العالمي الجديد ومستقبل المسلمين في المجتمعات غير الاسلاميَّة.
وقد أشارت الورقة المقدّمة من قبَل مشيخة العقل إلى المؤتمر إلى ” أنَّ المفاهيم والمقاربات والمصطلحات الـمُعتمَدة كلُّها تُحاكي عالـمَنا الـمُعاصر، وتُقاربُهُ بالرؤية الحضاريَّة التي هي حتْماً معبِّرة عن جوهر الإسلام. إنَّ دعوةَ الأقليَّات الـمُسلمة في العالم إلى الانخراط في بناء مجتمعاتها والمشاركة في نهضتها المدنيَّة والحضاريَّة، وتصحيح الصورة النمَطيَّة عن الإسلام، وتعزيز قيَم المواطَنة والتعدُّديَّة الثقافيَّة وما إلى ذلك، هي الردّ الأنسب والأصلح والأعقل والأكثر إخلاصاً لهويّتنا الإنسانيَّة الرُّوحيَّة التي يمكن أن نجابه بها التحدّيات الخطيرة التي يسعى أعداءُ السَّلام إلى فرضها على البيئة الإسلاميَّة الكونيَّة وصولًا إلى تلويثها ووصمِها بالعنف والتطرُّف.”
وصدر في نهاية أعمال المؤتمر توصيات عديدة قاربت المفاهيم بمنهجيَّة نظريَّة وموضوعيَّة هي بمثابة خطط عمليَّة للمراحل المقبلة. كما طُرح في المؤتمر مشروع “الميثاق العالمي للمجتمعات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة” انسجاماً مع مبادئ العدل و حقوق الانسان ومع المقاربات المتأصّلة التي جرى توثيقها مرارا في المؤتمرات الاسلامية سابقا خصوصا في الأزهر الشريف وفي “مركز الحوار بين الأديان” في فيينا (مبادرة الملك عبد الله) وهي مؤتمرات شاركت في فعالياتها مشيخة العقل.

المؤتمر العالمي
المؤتمر العالمي

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

 

 

افتتاحية رئيس التحرير

ألم ترتوِ إسرائيلُ بعدُ مِنْ دماءِ شَعْبِنا الفِلسطينيّ؟

“لقد باتَ اسمُ غزّةَ يبعثُ على الألمِ هذهِ الأيام”.
هذا هو التّعليق الحزين للبابا فرَنْسيسِ الأوّل، بابا روما، على أعمالِ القتل الإسرائيليّة الجماعيّة الجارية بحقّ المُتظاهرين الفِلسطينييّن العُزَّل من أبناء قطاع غزّة.
لا حدودَ، كما يبدو، لِشَهيّة القتل الإسرائيليّة حيال الفلسطينييّن العُزَّل على حدود قطاع غزّة، والتي حصدت في يوم واحد، “الاثنين الأسود”، 14 أيّار 2018، أكثر من ستّين شهيداً وألفي جريحٍ وإصابات بعضهم فوق المُتوسّطة!
لم يرفَّ للقيادة الإسرائيليّة جَفْنٌ، ولم تردعها القوانين الدوليّة الصّريحة، وهي تنشر مئة قنّاص على حدود غزة فيقتلون الفلسطينييّن المدنييّن العُزّل في الداخل بعيداً عن حدود القطاع شيوخاً ونساء وأطفالاً ومُعوّقين وصحافييّن، وهو أمر لا يحدث حتى في حالة إعلان الحرب الصّريحة الشّاملة بين دولتين.
ولِفَهم ما يجري نقول: إنّ القتلَ الجماعيَّ المُتَعَمّد هذا من جيش نظاميّ بحقّ مدنييّن عُزّل يرفعون شعارات سياسيّة تتناول حقوقهم الوطنيّة الشرعيّة في عاصمة بلادهم لألفيِّ سنة، وفي مواجهة قرار الرّئيس الأميركي نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس والاعتراف بها، على نقيض كلِّ القرارات الدوليّة، عاصمة لدولة إسرائيل، لا يجد تفسيره التّام إلّا في ضوء حقيقتين ساطعتين مُتكاملتين:
الحقيقة الأولى: عُزلة إسرائيلَ المُتعاظمة. إذ لم تَعُدْ إسرائيل قادرة يوماً بعد يوم على تحمّل الكلفة السياسيّة العالية للاحتجاجات الفلسطينيّة السَّلميّة أمام شعبها والعالم معاً، فهي لم تعد تملك في مواجهة ذلك غير إظهار وجهها الحقيقيّ، وجه القوّة العمياء المُتَوحّشة. لقد كان استخدامها لهذا القدر غير المسبوق من العنف والقتل العشوائيّ للمدنييّن ردّاَ منها على عزلتها السياسيّة عالميّاً، كما كان بياناً علنيّاً بفقدانها للشرعيّة القانونيّة والأخلاقيّة.
أمّا الحقيقةُ الثانية السّاطعة فهي الصّمود الأسطوريّ للشّعب الفلسطينيّ. فما من شعبٍ آخرَ على وجه الأرض تحمّل أكثر من تسعين عاماً (1922-2018) من الحرب المستمرّة دفاعاً عن حقّه البديهيّ في ترابه الوطنيّ، وفي مُواجهة مشروع صهيونيّ غاصبٍ دعمته القوى الكبرى كافّة وهدف إلى اقتلاعه بالقوّة من أرضه، وتغيير هُوِّيَّة الأرضِ والأمكنة، ومُحاولة مَحْوٍ ذاكرةٍ تعود إلى ألفي سنة على الأقل، كما استثمر الصّهاينة والغرب في مشروعهما الاستعماريّ كلَّ ما يملكون من ثروات اقتصاديّة وماديّة، وقدرات سياسيّة وديبلوماسيّة، ومن تفوّق عسكريّ وعلميّ وتكنولوجيّ في محاولة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً لتغيير هُويّة أرض فلسطين واقتلاع شعبها ورميه لاجئاً باتّجاه المنافي وإخضاع من صمد وبقي في أرضه بالقوة. لكنّ المشروع المجنون بقي كما اتّضح مشروعاً يائساً ومستحيل التّحقُّق. فإذا هو اليوم، بعد مئة عام من إطلاقه، وبعد سبعين عاماً من تسليم المُنتدب البريطاني “دولة” فلسطين للعصابات الصهيونيّة، أكثر صعوبة بل استحالة ممّا كان في أيّ يومٍ مضى، فالأجيال الفلسطينيّة الجديدة تفاجئ العالم اليوم، وهي تبدو وبالممارسة شديدة المِراس، وأكثر تصميماً حتى من آبائهم وأجدادهم على منع تحقيق الحُلُم الصّهيوني وعدم السّماح بخَسارة الأرض وفقدان هُوِّيَّتها، وإذا هم، وهو ما أذهل الإسرائيليَّ، أكثر استعداداً للتضحية بكل شيء، حتى بالدماء، دفاعاً عن حقِّهم التّاريخيّ في كلّ شبرٍ من الأرض الفلسطينيّة المُقدّسة – وما الانتفاضاتُ الفلسطينيّةُ الثلاث الأخيرة غيرَ دليل واحد من بين أدلّة أُخرى كثيرة على الدّور المركزيّ الحاسم الذي لعبه الشّباب، بل الفتيان، في منع تكريس اغتصاب الكيان الصهيوني للأرض الفلسطينيّة.
هذا الصّمود الأسطوريّ حملَ أكثر من كاتب يهوديّ، في الدّاخل أو الخارج، على التّعبير علانيّة عن الخلاصة التي انتهوا إليها وهي ألّا مستقبل لدولة إسرائيل على أرض فلسطين، وأنه لو كان للفلسطينييّن أن يخسروا حربهم الوطنيّة – كما يحلم الاستراتيجيّون الصّهاينة – لكانوا خسروها من قبلُ، وغير مرّة، وهو ما لم يحدث.
ومع ذلك، فاللّافت، بل المُسْتَهْجَنُ، حقّاً هو سكوت العالم على الجريمة الإسرائيليّة المُتمادية بحقّ شعب قطاع غزّة، والشّعب الفلسطينيّ عموماً. فما كان في وسع “دولة” إسرائيل أن تمارس تكراراً هذا المقدار من أعمال القتل والقوّة الغاشمة بحقّ المدنييّن الفلسطينييّن لو لم تتلقَّ الدّعم، أو غضّ النّظر على الأقلّ، من قوى العالم “المتمدّن”، ما سمح لها أن تُطلِق آلتها العسكريّة العاتية، وصولاً إلى استخدام المُقاتلات، ضدّ مدنيّي قطاع غزّة. وقد عبّرت الصّحافة العالميّة المحايدة، نسبيّاً عن هذه الحقيقة في مواجهة الانحياز الأميركيّ الذي لم يسبِق له مثيل، كما أدانت السّكوت، الذي يشبه الموافقة، من دول كُبرى مثل استراليا وكندا وروسيا وغيرها. أمّا الأمم المتّحدة ووكالاتها فلا تَسَلْ عن مقدار عجزها وسخافة مصطلحاتها، من مثل عدم “التّناسب” في استخدام القوّة بين إسرائيل والفلسطينييِّن، وقد عبّرت صحيفة Irish Times الإيرلنديّة عن الخُبث الكامن في المُصطلح ذاك الذي يتردد في أدبيّات الأمم المتّحدة والدّول الغربيّة، فاعتبرته “تبريراً لأعمال القتل الإسرائيليّة بحقِّ الفلسطينييِّن”.

Palestine_flag_stock
Palestine_flag_stock

إنّ استخدام إسرائيل للأساليب النازيّة كاملة، كما عبّر عن ذلك الرَّئيس التُّركيُّ أردوغان، لا يجب أن يبقى دون مواجهة أو عقاب، ولا يجب ترك الشعب “الغزّاويَّ” والفلسطينيَّ عموماً يجرّ صليب آلامه وحيداً في جُلجُلةٍ لم يسبِق لها مثيل. وعليه فالتّحرّك الكُوَيْتيّ في مجلس الأمن، والسّعوديّ في جامعة الدّول العربيّة، والإسلاميّ في منظّمة العالم الإسلاميّ، هو أبسط واجبات العرب والمسلمين حيال القدس وفلسطين وحماية مقدّساتها. ويجب الانطلاق من موقف قداسة البابا فرنسيس الأوّل لبناء موقف مسيحيّ – إسلاميّ عالميّ يُلقي بثِقله خلف الشّعب الفلسطينيّ ويعطيه الأمل في أنَّ العالم لم يخلُ من القِيَم، وأن مُمَثّليّ الأديان الرّئيسيّة في العالم لا يزالون حريصين على ما تُمثّله القدس للدّيانات كافّة، وباعتبارها عاصمة روحيّة للعالم أجمع – وللقِمم الرّوحيّة اللُّبنانيّة دور بارز في هذا المجال.
أمّا من دون مواقف الحقّ الأدنى تلك، فسيوغلُ الكيان الصهيونيّ في غِيّه وباطله وسيزداد شراسة في استخدام عنفه الأعمى بحقِّ المدنييِّن الفلسطينييِّن– وقد أشار بيان المجلس المذهبيّ لطائفة الموحِّدين الدُّروز، الذي سنورد نصّه الكامل في الفقرة التّالية، إلى ذلك بوضوح.
ونختم بالقول: إنّه آنَ أوانُ الانتقال من الإدانة اللّفظية لمواقف الرّئيس الأميركيّ ترامب، التي بلغت ذروتها في قراره المُتَعسّف بتاريخ 15 كانون الأوّل 2017 بنقل سفارة بلاده إلى القدس، على نقيض كلِّ القرارات الدوليّة ذات الصّلة، إلى مواقف عمليّة تذكّره – وهو البراغماتيكي – أنّ للولايات المتّحدة من المصالح مع البلدان العربيّة أضعاف ما لديها مع إسرائيل.
كما يجب الارتقاء بمواقف ممثّلي الدّيانات الكبرى في العالم، وبخاصّة الإسلاميّة والمسيحيّة، إلى مستوى تقدير هَوْل “المذبحة” الجارية بحقِّ الفلسطينييِّن، والجريمة التاريخيّة التي تتفتح فصولاً بحق فلسطين، والقدس على وجه الخصوص.
إنّ للقدس ربّاً يحميها، من دون أدنى شكٍّ، ومهما طال زمن العدوان الصهيونيّ بحقِّها، إلّا أنَّ الدّعم المعنوي والمادي لشعب القدس وغزّة وفلسطين، بعامّة، هو أيضاً مهمّة عاجلة لا تحتمل التّسويف أو التّأخير، ومن غير العدل أنْ يُترَكَ الأخوةُ هؤلاء وحيدين في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة العمياء.
ولأهلِنا في فِلسطين نقول: “…صبراً على الغضب”، فأشدُّ ساعاتِ اللَّيل عتمةً هي تلك التي تسبق انبلاج الفجر. وفجرُ الحقوق الوطنيّة للشّعب الفلسطينيّ آتٍ، بلا رَيْب؛ فدولةُ الباطلِ ساعةٌ، أمّا دولةُ الحقِّ فإلى قيام السّاعة.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

هذا العدد

تستمر الضّحى في عددها الجديد (العدد 24، تمّوز 2018) في ترسيخ التوجّهات التي أرستها منذ بضعة أعداد ومحورها الجمعُ بين الأصالة والحداثة في آنٍ معاً. وجرت ترجمة الاستراتيجية تلك، عملياً، في مروحةٍ من الأبواب والموضوعات قطبُها الأساس الإسهامُ المباشر في نشر نماذج حيّة من “الأخلاق التوحيدية” و”تراث العقل” وآيات من الإسهامات الاستثنائية لرجالٍ عظامٍ أو لِسيَرٍ لا تُنسى في تاريخ الموحدين الدروز، الروحي أو السياسي والتاريخي والاجتماعي.
في هذا الجانب الأساس، تضمّن العدد الجديد من الضّحى إسهامات عميقة بدأت بكلمة سماحة “شيخ العقل” التوجيهية، ثم “خطاب العقل”، ف “ثقافة الحوار وقبول الآخر عند الموحدين الدروز”، إلى سلسلة من الإضاءات على شخصيات موحّدة نادرة المثال في الإخلاص للقضايا الوطنية والعربية وفي الإقدام والوصول بفضيلة الشجاعة إلى ذروتها (الشهيد حمد صعب، والعميد عصام أبو زكي).
لكن الجانب الأساس هذا لا يُعفي الضّحى من واجب المقاربة اللصيقة، أيضاً، للمسائل الملحّة الراهنة والماثلة بقوة أمام قراء يومياً وفي كل مكان. وستكون الضّحى كثيرة التجريد وغريبة جداً عن مجتمعها ومشكلات قرّائها وأصدقائها وهمومهم إن لم تفتتح بين صفحاتها مساحات مناسبة للهموم الراهنة تلك والتي أسميناها “مشكلات ومسائل اجتماعية”. في الجانب اليومي الراهن هذا تضمّن العدد إضاءات تفصيلية على مشكلات الشباب الأكثر ألحاحاً والتي أسميناها “الشباب على مفترق خطير”، كما أضأنا تفصيلاً (ولعله سبْقٌ صحافي لمجلة فصلية) على أعمال وتوصيات “مؤتمر جودة الدواء والغذاء والماء” المنعقد في الجامعة اللبنانية قبل بضعة أسابيع وبمشاركة علماء وبحّاثة من جامعات ومراكز أبحاث عدة، ولحظنا التوصيات التفصيلية التي انتهى إليها المؤتمر. ولن تفوت القرّاء أيضاً أهمية مقالة “ترشيد استخدام المياه في الريّ” التي تضمنها العدد الجديد.
وفي بابي “ثقافة وآداب”، و”تحقيقات”، سيجد القارئ أعمالاً أصيلة، قيّمة جداً، لا يفيد معها الاختصار، بل نترك أمر اكتشافها وتقدير أهميتها للقارئ نفسه.
وأخيراً، سيجد قارىء العدد 24 باباً جديداُ أسميناه “مساهمات حرّة” تضمّن مساهمتين كتابيتين مهمتين من الأصدقاء القراء، وتأمل الضّحى أن تتحوّل التجربة هذه إلى تقليد يتعزز عدداً بعد آخر.
هذه هي الضّحى في عددها الجديد (24)، وتبقى غايتها، أولاً وأخيراً، الإسهام ما وسِعها الأمر في نشر تراث العقل وقيم الأخلاق واستذكار الاسهامات المعروفية الوطنية والقومية مع مساحة واسعة لهموم الحداثة والشأن الحياتي لدى قرّائها.

واللّه الموفّق

العدد 24