الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كمال جنبلاط قيادة تاريخية ورؤية مستقبلية

يقع الكتاب في 173 صفحة، ويضمن خمسة فصول:
“من هو كمال جنبلاط
كمال جنبلاط والفكر السياسي
كمال جنبلاط والإصلاح السياسي والاجتماعي
كمال جنبلاط العربي والأممي
كمال جنبلاط الآخر، بعيداً عن السياسة”
نقتطع من المقدمة تعريفاً بالكتاب، يقول فيه الوزير السابق عبّاس خلف، رئيس رابطة أصدقاء كمال جنبلاط،: “كمال جنبلاط الذي نقدّمه للقراء كان شخصية فريدة واستثنائية في التاريخ المعاصر للبنان والعالم العربي. جمع في ذاته مزايا وخصال قلّما اجتمعت في رجل واحد. فكان مفكراً وأديباً وشاعراً وفيلسوفاً ومتصوفاً، ومربياً، ومصلحاً اجتماعياً وبيئياً، دخل السياسة بمنطق جديد، فأعطاها عقلاً وفكراً ونهجاً لم يعهده رجال السياسة غي لبنان من قبل. كمال جنبلاط السياسي لم يمالئ حاكماً، ولم يساوم على منصب أو منفعة لنفسه، صادقاً ومطالباً المتعاونين معه بالمثل…في لبنان ومنذ بدايات تعاطيه السياسة والنيابة والوزارة في أربعينات القرن الماضي ثار كمال جنبلاط على الفساد والمفسدين، والمحسوبية والزبائنية….وعلى الصعيد العربي، صدمت نكبة فلسطين كمال جنبلاط فوقف إلى جانب الحق الفلسطيني قولاً وفكراً وعملاً نضالياً حتى تاريخ استشهاده..” ص9-10.

رحيل سمير أمين

رحل… المفكر المصري الماركسي سمير أمين، عن عمر ناهز 87 عاماً، في داكار/السنغال، حيث كان ترأس لفترة من الزمن معهد الأمم المتحدة للتنمية فيها.
ولد سمير أمين في بور سعيد سنة 1931، لأب مصرية وأم فرنسية، كان كلاهما طبيبين. أنجز سمير أمين دراسته للعلوم السياسية ثم الاقتصادية في السوربون، حيث غدا ماركسياً، فانتمى لبعض الوقت للحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن يغادره، بل ويغادر الفكر الشيوعي الكلاسيكي برمته، رغم أنه ظل وحسب توصيفه شخصياً لموقعه: ماركسياً مستقلاً.
تميز فكر سمير أمين بنقده البنيوي الشديد الذي لم يفارقه للرأسمالية، في أشكالها كافة، حتى في مزاعمها الليبرالية، وفي تحميلها المسؤولية، وبخاصة في مرحلة النهب الكولونيالي، عن كل التخلف والتأخر والتردي الاقتصادي والاجتماعي اللذين أصابا بلدان العالم الثالث، واتسّع أكثر في مرحلة الهيمنة الامبريالية، ثم في مرحلة العولمة الراهنة، حيث الولايات المتحدة هي التجسيد التام للرأسمالية المتوحشة الأخيرة، وفي تحولها الجامح نحو العسكرة – كخيار حتمي للرأسمالية في مرحلتها الامبريالية.
لكن نقد سمير أمين للرأسمالية ذاك لم يحجب، بالنسبة له، حقيقة أن الفكر الماركسي التقليدي، وبخاصة في نسخته الشيوعية (السوفياتية) الرسمية، كان قاصراً عن تقديم التحليل الصحيح لأزمة التطور في العالم الثالث والبلدان الطرفية خارج المركز الغربي وتبعيتها له. فأخفق لذلك في تلبية الحاجات النظرية والعملية التي كان يحتاجها التطور السياسي والاقتصادي للعالم الثالث، والمتصلة خصوصاً بتحديات التأخر والتبعية والطرفية الهوية والتنمية اللامتكافئة.
واستناداً إلى مقدمتيه، التوحش الرأسمالي، وعجز الفكر الشيوعي التقليدي، طوّر سمير أمين لاحقاً وفي أكثر من عمل له نظريته الخاصة حول “التطور اللامتكافئ”، بين بلدان المركز والبلدان الطرفية، وفيها نقد واضح للأطروحة الماركسية التقليدية أن بإمكان بلدان العالم الثالث والبلدان الطرفية المتأخرة تجاوز تخلفها واللحاق بتقدم المركز بمجرد الأخذ الآلي بالخيار الاشتراكي السياسي. ولا يقل عنها أيضاً نقده للأطروحة الليبرالية في أن الثورة التكنولوجية ممكنة في العالم الثالث من دون تغيير سياسي وأنها الطريق للحاق ببلدان المركز المتقدمة. كذلك يقدّم عمله المميّز “نحو نظرية للثقافة”، قراءته لصراع الأطراف مع المركز الغربي لانتزاع استقلاليتها وهويتها الثقافية، ومقدار التزييف والاستبعاد اللذين يمارسهما المركز الغربي على المستوى الثقافي.
استمر سمير أمين، وإلى آخر يوم من عمره، في نقده الشديد ل”الإمبريالية الأمريكية” التي أزدادت مع العولمة الراهنة قوة وهيمنة واستئثاراً عمّا قبل، حتى في وجه الحلفاء الأوروبيين. ويفضح أمين زيف التفوق الأمريكي الشامل، فيقول إن التفوق الأمريكي إنما هو في المجال المالي، لا الصناعي ولا الزراعي. فالنظام المالي الأمريكي “يمتص الجزء الأكبر من فائض الأموال في العالم”، وهي سبب سيطرته على أسواق المال الفرعية، وعلى السياسات الوطنية للبلدان الأخرى.
أما أفكار سمير أمين السياسية، ويخاصة ما اتصل منها بالعالم العربي، فنقتطع بعضها من مقابلة له مع جريدة قاهرية، وكان في الخامسة والسبعين من عمره، أي في مرحلة الاستقرار الأخير لأفكاره، فنجملها في هذه العجالة كما يلي.
يقول أمين “إن غياب الديمقراطية هي العيب الأساسي القاتل في التجربة الناصرية وقد حال دون بناء الاشتراكية، وهذا أيضاً ما حدث في الاتحاد السوفيياتي.”
ويقول: “أرفض الخطاب الفكري السائد الذي يتصور أن الثورة التكنولوجية ستؤدي إلى إنهاء الطابع الاستعماري للرأسمالية”.
وأيضاً، “عسكرة العولمة خيار استراتيجي أمريكي يسعى إلى تعويض التدهور في قدرتها على الاستمرار في المنافسة بالوسائل الاقتصادية.”
وحول الإسلام السياسي، لا يخفي سمير أمين نقدة الشديد لتيارات الإسلامي السياسي الحديثة، ومنها “الإخوان المسلمون”. فالتيارات تلك، وإلى كراهيتها العميقة، برأيه، للديمقراطية، على “صلة مباشرة بالرأسمالية العالمية”، وعليه فهي لا تملك الخيارات الحقيقية التي تحتاجها الشعوب العربية، وبخاصة لخلطها الواضح “بين الدولة والدين”.
هذه هي بعض أفكار سمير أمين نستذكرها كعناوين غداة وفاته في 14 آب 2018 في دكار/السنغال.
أعمال سمير أمين وفيرة وكثيرة، وربما بلغت في أشكالها المختلفة ما يزيد عن المئتين والخمسين عنواناً – بين كتاب وبحث ودراسة.
بين أهم أعماله تلك، والمتصلة خصوصاً بفكره الاقتصادي والسياسي، نذكر، وبالتدرج الزمني:
֍ التراكم على الصعيد العالمي
֍ التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة
֍ التطور اللامتكافئ
֍ الأمة العربية، “القومية وصراع الطبقات”
֍ الطبقة والأمة في التاريخ، وفي المرحلة الإمبريالية
֍ قانون القيمة والمادية التاريخية
֍ الاقتصاد العربي المعاصر
֍ أزمة الإمبريالية
֍ أزمة المجتمع العربي
֍ ما بعد الرأسمالية
֍ نحو نظرية للثقافة
֍ حوار الدولة والدين (مع برهان غليون)
֍ في نقد الخطاب العربي المعاصر”
أما أهم المراكز التي شغلها سمير أمين، إضافة للأستاذية في السوربون وجامعات أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فمنها:
عضو مركز البحوث العربية والإفريقية في القاهرة
مدير معهد الأمم المتحدة للتنمية في داكار/السنغال
أحد مؤسسي “المنتدى الاجتماعي العالمي”، كبديل ونقيض للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس/سويسرا.
وشخصياً، أسعدني الحظ أن استضيفه محاضراً في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت، وأن التقيه مرات عدة في باريس، وطرابلس الغرب، والقاهرة.
سمير أمين، المفكر الاقتصادي المصري العالمي، شخصية أكاديمية موسوعية منتمية وملتزمة قضايا الأكثرية الساحقة للناس، عمل على ترقية وعيها كي تمسك بزمام أقدارها بكل الوسائل الفكرية والنظرية والعملية، وظل كذلك حتى آخر سني حياته.

(نشرت في جريدة الأنباء الألكترونية غداة الوفاة)

الشيخ هاني باز رضوان (1903 – 1996)

ولد الشيخ هاني باز رضوان في مدينة “عاليه” في الثالث من شهر شباط، في سنة 1903. في تلك الفترة من الزمن كان الفقر والجوع يخيمان على معظم المناطق اللبنانية ومنها “عاليه” وكانت يومها مركز المحكمة التركية، وكانوا يسمونها بالعامية “العرفة” وفيها مشنقة لمن تراوده نفسه العصيان والتمرد على أوامر حكم الأتراك في الدولة التركية.
وكان معظم الناس يعيشون على الزراعة وخيرات الأرض. وقد نشأ الشيخ هاني في هذه البيئة وأحاطت به ظروف شظف العيش على هذا النمط. وما أن بلغ السادسة من عمره حتى التحق بالسنة الأولى الابتدائية في مدرسة الجامعة الوطنية في عاليه، وكانت في بداية تأسيسها إذ تأسست في سنة 1907م.
وكانت المدرسة كناية عن بضع غرف وعدد من المقاعد الخشبية البسيطة وكان العلم فيها هو المرتجى والمطلوب. وقد ظهرت على الشيخ هاني منذ حداثته علامات النجابة والذكاء فكان الأول في صفه طوال سنوات دراسته، وقد قال عنه رئيس الجامعة الوطنية الأستاذ إلياس شبل الخوري: «كان التلميذ هاني ينهي صفين في كل سنة ويفوز بالأولية في صفه».
وهكذا أنهى التلميذ هاني المرحلة الابتدائية ثم انتقل إلى المرحلة المتوسطة، فكان ينهي دراساته في كل سنة صفين. ثم اندلعت الحرب الكونية الأولى في سنة 1914 وازدادت حالة البلاد سوءاً فاضطر هاني إلى الرحيل عن بلدة “عاليه” تخلصاً من شبح الحرب والفقر والجوع متجهاً نحو السويداء في سوريا حيث كانت تقيم عائلة رضوان، حيث بقي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918، ليعود في نهايتها إلى موطنه لبنان.
التحق بعد عودته بمدرسة الجامعة الوطنية، وطلب من مدير المدرسة الأستاذ إلياس شبل الخوري العمل في أثناء العطل المدرسية لقاء قبوله في المدرسة، فكلّفه بمساعدة النجَّار الذي كان يصلح مقاعد المدرسة في خلال العطلة الصيفية. وأخذ هاني يعمل ويجتهد ويسهر الليالي الطوال منكبّاً على دروسه لا يضيِّع دقيقة من وقته، حتى أنهى الصفوف الثانوية ونال شهادتي البكالوريا القسم الأول والقسم الثاني بتفوق ملحوظ وبدرجة امتياز بين تلاميذ صفه.
انتقل بعدها إلى سوريا لإكمال دروسه الجامعية، فالتحق بجامعة الحقوق في دمشق مكمِّلاً دراسته العليا.
ولكن القدر الغاشم أبى أن يصبح الطالب الجامعي محامياً، إذ أصيب “بداء الجنب” بعد إتمام نصف المرحلة الجامعية وعاد إلى لبنان ليدخل المستشفى الألماني في بيروت ويبقى سنة كاملة طريح الفراش. وقد نصحه طبيبه المعالج عدم العودة إلى دمشق لإتمام دراسته، وكان طُلب منه التدريس في سوريا في السويداء، فنصحه الأستاذ إلياس شبل الخوري قائلاً له: “ما دمت تريد التدريس فمدرستك الجامعة الوطنية أولى بك من غيرها”. ونزولاً عند طلب الأستاذ إلياس بدأ هاني باز رسالته التعليمية في الجامعة الوطنية في “عاليه” حيث بقي يدرِّس ويعلِّم ويهدي ويرشد. وكان محباً مخلصاً لتلاميذه مقدراً محترماً من الأساتذة والطلاب.
وبالإضافة إلى تدريسه في الجامعة الوطنية أسس الأستاذ هاني باز مدرسة أسماها: “روضة التهذيب الخيرية”. تزوج الآنسة هنا سليمان عبيد من عاليه في العام 1930، وهي من بيت تقوى ودين، تربت على أخلاق فاضلة وتسامح لا يوصف، فكانت من الموحدات الطاهرات الدرزيات. وقد أُقيم لوالدتها مقام أو مزار للتبرك به بإمرٍ من المشايخ الأتقياء المعاصرين لها.
رزق الأستاذ هاني وزوجته هنا ثلاثة أولاد حليم وواصف وسامية، تربوا على أساس الصالح العام، وعلى التقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق، متأثرين بوالدهم ووالدتهم بسلوكهم الصراط المستقيم.
استمر الشيخ بالتدريس والتعليم في الجامعة الوطنية، فكان مثالاُ يُحتذى للمربي الفاضل والمرشد والمعلم والموجه. أسس في عام 1965 بالإضافة إلى تدريسه في رحاب الجامعة الوطنية مدرسة راقية أسماها “كلية عاليه الجديدة” مع أخوته، فأقبل عليها الطلاب من جميع أنحاء جبل لبنان، اتسعت رقعة المدرسة وكبرت نشاطاتها.
بعد مضي ثلاث سنوات على استلامه وإخوته الثلاثة مدرسة الجامعة الوطنية ولأسباب خاصة اتفقوا على إعادة مدرسة الجامعة الوطنية في “عاليه” إلى عهدة الأستاذ إلياس شبل الخوري.
سافر الشيخ هاني في العام 1965 مع ابنته سامية إلى الولايات المتحدة الأميركية لحضور حفل تخرج ولده واصف كمهندس في الكيمياء. وفي أمريكا التقى بجميع أفراد الجالية اللبنانية فأقيمت له ندوات تكريم وقف فيها واعظاً مرشداً وهادياً في أبناء طائفته الموحدين الدروز القاطنين في الولايات المتحدة الأمريكية والذين توافدوا للقائه والاجتماع به من مختلف الولايات، وقد أمضى عدة أشهر متنقلاً بضيافة هؤلاء ملبياً دعوة جميع الأصدقاء والمحبين.
بعد عودته من الاغتراب إلى أرض الوطن. عيِّن عضواً في المجلس الروحي الأعلى بعهدة الشيخ محمد عبد الصمد، وكان أميناً للسر في المجلس الروحي المذهبي.
وعندما أُنتُخب الشيخ محمد أبو شقرا شيخاً للعقل للطائفة الدرزية جيء به عضواً في المجلس المذهبي للطائفة الدرزية. كما أنه ترشح لمشيخة عقل عندما شغر مقام المشيخة اليزبكي. وقد أجمعت آراء نواب الدروز على انتخاب الشيخ هاني باز شيخ عقل عن المركز اليزبكي الشاغر، ولكن الانتخابات لم تتم في ذلك الحين لأن حالة البلاد كانت في وضع حرج.
مثَّل الطائفة الدرزية مع رفيقين له في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القاهرة والذي دعا إليه شيخ الأزهر الشريف في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
وقد أُقيمت لقاءات واحتفالات تكريم لهذا الوفد في هذه المناسبة. وكان للشيخ هاني قصيدة في مدح الرئيس جمال عبد الناصر، نالت إعجاب الحاضرين.

كتب ومخطوطات

انصرف الشيخ هاني في أواخر سنيّ حياته إلى الكتابة وتحبير المقالات والخطب والمحاضرات، وكان يقضي معظم أوقاته في البحث والتنقيب والتأليف. والكتاب الوحيد الذي طبع بعد وفاته في سنة 1999 كان لدار إشارات للطباعة والنشر والتوزيع لصاحبها المرحوم الشيخ سليمان تقي الدين الذي أسس هذه الدار وسعى إلى انتشارها في جميع الأقطار العربية وخاصة في لبنان، كان تحت عنوان: “المصير الإنساني”. وهنا، نترك الكلام لصاحب “التوطئة” د. أنور فؤاد أبي خزام، فماذا قال عن المؤلف وقد عرفه في حياته معرفة حقيقية:

«… ينتمي الشيخ هاني باز رضوان إلى جيل من المثقفين عرفه لبنان والبلاد في العقود الأولى للقرن العشرين، فهو أستاذ متمكِّن في اللغة العربية، وفكره مُنتسب إلى هذه الشريحة المثقفة التي كوَّنت مجموعة الأدباء والشعراء العرب في بدايات القرن المعاصر. إنَّ هاجس هؤلاء الأدباء كان هاجساً متعلقاً باللغة والأخلاق، فمن الزاوية اللغوية كان هنالك تشديد كبير على قيم أخلاقية سابقة للتطور السريع الذي حدث في القرن العشرين. أمّا الذي يجعل الأعمال الفكرية للشيخ هاني تأخذ منحىً فريداً ومستقلاً فهو أنه تمسك بالنظرة الدينية التوحيدية للكون والوجود واعتنقها بإيمانٍ خالص وتصديق تام وأضافها إلى رؤيته للقيم الروحانية والأخلاق. لقد كان صورة صادقة لأبناء عصره من حيث التقوى والورع من دون تقوقع وانطواء، وتأكيده على وجوب تسهيل السلوك الديني والتخفيف من وطأة التقاليد والعادات التي لا تتعارض مع جوهر الدين جعلته من روّاد النهضة الدينية الداعية إلى جعل الدين سلوكية جادَّة وعملاً فعلياً وأسلوباً للعيش، وليس شكليات وتقاليد».
أمضى الشيخ هاني في التدريس والتعليم فترة خمس وعشرين سنة متواصلة، ونستطيع القول بأنه أدّى رسالة تربوية تعليمية على أكمل وجه، بكل عناية ومحبة وإخلاص وجهاد. فأحبه الجميع من طلاّب وأساتذة وأهل واحترموه. وكان سبَّاقاً إلى المكرمات يقضي معظم أوقات فراغه متنقلاً في رحاب الجامعة الوطنية وردهاتها وغرفها وملعبها ناصحاً مصلحاً هادياً مرشداً في بيئته ومجتمعه، فأحبَّه الجميع وأخلصوا له كل الإخلاص. ولم يكن له عدوّ واحد وإنما كان له حاسدون وليس أعداء.
أما كتبه التي بقيت مخطوطة فإنها تشمل المؤلفات العلمية والأدبية والروحانية، وهي جاهزة للطبع:
1- ديوان شعري، احتوى على قصائد روحانية تحت إشراف ابنته سامية.
2- كتاب علمي رصين بعهدة ابنته سامية.
3- في سيرة الشيخ الفاضل.
4- في الأمير فخر الدين المعني الكبير.
5- مسرحية تحت عنوان: “نحن والتاريخ” قدِّمت في عاليه، عام 1964.
6- مخطوطات متفرقة.
7- عشرات الخطب والمقالات والمحاضرات في مواضيع مختلفة.
كتب الشيخ هاني باز رضوان موضوعاً شيِّقاً في جريدة “الصفاء” بعث به من “عاليه” بتاريخ 15 آب 1932، ونشر في الجريدة بتاريخ 28 آب سنة 1932، العدد رقم 1364 تحت عنوان: “الفوضى الطائفة بالطائفة”. ضمَّنه شعوره وما يحصل من تفرقة وانقسام وتباعد حول شؤون الطائفة الدرزية، وقضية المدرسة الداودية في “عبيه” ومشيخة العقل، إلى غيرها من القضايا التي كانت ولا تزال عالقة منذ زمن ولم تتخذ بشأنها تدابير معالجتها والحؤول دون وقوع ما لا تحمد عقباه حولها.
وكان الشيخ هاني يرسل مقالاته وكتاباته، بين الحين والحين، إلى الشاعر أمين آل ناصر الدين لنشرها في جريدة “الصفاء” لتكون الصوت الداوي عند بحث الأمور المستعصية وشؤون الطائفة العالقة، وما أكثرها في ذلك الوقت.

روحانياته:

انصرف إلى كتابة القصائد الروحانية في أواخر حياته، إذ كان همَّه الأكبر أن ينظم الشعر، إلى جانب القيام بفرائض التوحيد عاملاً بمضامينها. عاش حياته بجدِّية وبجهد وتعب منذ نشأته حتى نهاية جيله. واجهته المصاعب فاستطاع بقوة إرادته وصبره وصلابة مواقفه وجرأته أن يطرد شبح الجوع والفقر والعوز وأن يردّ مظالم الحرب الكونية الأولى ما اضطره إلى الارتحال إلى جبل الدروز في عام 1914، معتمداً مسلك التوحيد منذ حداثته حتى أواخر أيامه.
وعندما استقر في لبنان، بعد عودته من “السويداء” حيث بقي فيها إلى العام 1991، بدأ يكتب أشعاره ويردد “روحانياته” بينه وبين خالقه.
وهذه القصائد، حسب ما نعلم، جُمعت في ديوان لا يزال مخطوطاً قامت بجمعه ابنته الست سامية التي نكنُّ لها احتراماً وتقديراً على جمع هذا التراث الغالي.
ونحاول هنا، أن نستشهد ببعض مقطعات روحانية، ذكرها الأخ الكبير الأستاذ عفيف سالم باز في كتابه: “ذكريات في حياتي”، عاليه، في سنة 2007. قال في قصيدة روحانية هذه الأبيات:

المسكيةُ في الحياةِ رسالةٌ

يحتاجُها الإنسانُ كلَّ زمانِ

فيها النجاةُ لكلِّ منْ يُعْنى بها

ويُقِرُّها في السِّرِّ والإعلان

عاليهُ إنْ عزَّتْ بفضلِ شُيوخِها

فَلَها الفَخارُ بهم بِكلِّ مكانِ

أبْقاهُمُ الرَّحمنُ أضواءً لنا

بِهِمُ نتوِّجُ التوحيدَ بِالعرفانِ

في الحكمةِ الفُضْلى خُلاصَةُ ما مَضى

إنْ كانَ في الإنجيلِ والقرآنِ

وعلَيْنا أن نُجْتني دَواني قُطوفِها

فالحِكمةُ الزَّهراءُ كالبستانِ

وقد قرض شيخنا الجليل البيتين السابقين بما يلي:

دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ

اعقِلْ ولا تَعْمَلْ فإنَّكَ فاني

العمرُ مَحدودٌ وعيشُكَ زائِلٌ

إنَّ الحياةَ دَقائِقٌ وثَواني

فاعْمَلْ لِنَفْسِكَ ما يُخلِّدُ ذِكرَها

نَهْجُ الخُلودِ عِبادَةُ الرَّحمانِ

إنَّ التقيَّ مُخَلَّدٌ في قَومِهِ

والذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثاني

وفاته:

ألمَّ به مرض شديد أقعده مدّة سنتين بعد عودته من “السويداء” في سنة 1991، لكنَّ الله منَّ عليه بعد ذلك بالصحة التامة والعافية الكاملة إلى يوم دنا فيه رحيله فانتقل إلى دنيا الآخرة، وذلك في العاشرة من صباح يوم السبت في الثالث من شهر آب في سنة 1996.
فارقتنا روحه الطاهرة في رحلة أبدية وإلى حياةٍ سرمدية. وقد أقيم له مأتم حافل مهيب في مسقط رأسه “عاليه” مشى فيه الأعيان ورجال الدين والسياسيون وأهل الفكر والأدب ووفود من قرى وبلدات “عاليه” وبلدات الجوار والشوف والمتن وبيروت.
هذا هو الشيخ الفاضل هاني باز رضوان، الذي سعى في حياته إلى توحيد الكلمة بما يملكه من قوة وإرادة وبأس، بحيث استطاع بكل محبة وإخلاص أن يجمع حوله مئات التلاميذ ممن أحبوا الهداية والوعظ والإرشاد وكانوا بأمس الحاجة إلى العلوم والدين والمعرفة والفضائل الأخلاقية في مجتمعاته، فكان أستاذاً ومعلماً وهادياً لم يبخل أبداً بالعطاء والخير والهداية والتقويم، واظب على مجالس الذكر يُهدي ويرشد ويصحح، منكباً على الكتب الدينية الدرزية يستخرج كنوزها وجواهرها ولآلئها.
ألم يعطِ الأديب الكبير والناقد الفذّ مارون عبود فيه شهادة صادقة في كتبه وأمام تلاميذه وأمام الأساتذة، وكان مارون عبُّود مدير الدروس في الجامعة الوطنية في عاليه، إذ قال: «كان هاني باز المؤسس الحقيقي للجامعة الوطنية، فكان نعم المؤسس وأنا الباني على مدماكه.
كان أبيّ النفس، تقياً، عفيفاً، ورعاً، يخاف الله. مندفعاً إلى مساعدة الغريب، محبّاً للفقير، ناصحاً للمحتاج، يكاد لا يرفض طلباً لأحد»
رحمك الله رحمةً واسعة أيُّها المربي الفاضل، أيُّها التقيّ الورع، وسلامٌ عليك يوم ولدت ويومَ دُفنتَ ويومَ تبعثُ حيّاً.

حُسن الخلُق

  • حسنُ الخُلُقِ في آية
شهد الله عزّ وجل للرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأنه على أكملِ الأخلاقِ وأتمّها وأرفعها وأفضلها، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم 4)، وهذا الخُلق الحسن العظيم، جسّد ما أمره به سبحانه
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف 199)
وليس في القرآن الكريم آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وقد تضمّنت قواعد الشّريعة في المأمورات والمَنهيّات، وجمعت أصول الفضائل الثلاث:
(أ) ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾: (صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرّفق بالمؤمنين وغير ذلك من أخلاق المطيعين) وقيل: هو الأخذ باليُسر والسماحة، ودفع الحَرَج والمشقّة عن الناس، بالأقوال والأفعال.
(ب) ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغَضّ الأبصار، والاستعداد لدار القرار، وقيل: هو المعروف والجميل من الأفعال.
(ج) ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ الحضّ على التخلّق بالحُلُم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزّه عن منازعة السّفهاء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرّشيدة، وقيل: عدم مقابلة السفهاء والجهّال بمثل فعلهم وعدم مماراتهم والحلم عنهم، والصبر على سوء أخلاقهم، والغضّ على ما يسوؤك منهم، ومقابلتهم بالعفو والصّفح.
  • المنبعُ الصَّافي للخُلق الحسَن
الأَخلاقُ في المَفهوم الدِّيني، ليست فقط مجموعة اصطلاحاتٍ ولِياقات، يَتَّفِقُ عليها النّاسُ في عصرٍ من العُصورِ بُغيةَ تنظيمِ حياتِهم الاجتماعيّة، وتيسيرِ أعمالِهم الدُّنيوِيّة، بل هي في الحقيقةِ ثمرةٌ فِعليّةٌ للعقيدةِ الدِّينيّة، فالعقيدةَ هي منبَعُها الصّافي الأصيل، وهي مِنه كالسَّواقِي المُتدفِّقة، والموحّدُ يَلتزِمُ الأخلاقَ الفاضلةَ مَسْلَكاً لأنّها مُرادُ الله تعالى، ولأنّها تعبِّرُ عن مَكنونِ صحّةِ العقيدة، وهومُلزَمٌ أن يُظهِرَها مَناقِبَ وخِلالاً، لِيكون القُدوةَ الحَسنة، ويُساهِمَ في بناءِ مُجتمع، قِوامُه الفضائلُ والآدابُ ومكارمُ الأخلاق.
ومن المُسْتَبعد جدّاً أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع النَّاس، محبّاً للحقّ، معطاء متواضعاً، صبوراً عليهم، رحيماً بهم، ودوداً لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا يكون ذا خلق كريم مع ربّه، فلا يؤمن بحق ربوبيّته، وألوهيّته، ويذعن له بذلك ولا يؤدي واجب العبادة له، كما أنّه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس، وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم.
ثمّ إنّ الإنسان مهما تخلّق بالأخلاق التوحيديّة فإنها ستبقى صورة بلا روح، إذا لم يَرِد بها وجه الله ورضاه، فليس الغرض من الأخلاق وجود صورتها الخارجية، التي لا تعدو أن تكون طلاء يسقط لأي حَكّة، وإنّما تهدف الأخلاق إلى أن تملك على الموحد قلبه، فيدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيماناً، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن، وما لم تكن الأخلاق خالصة فإنها ستظهر نفاقاً، ثم تزول ويظهر ما وراءها من سوء الخلق.
وإِنَّ دِيناً لا يُثمرُ الأخلاقَ لَجَدِيرٌ بأن يُترَك، وإِنَّ امْرَأً لا تُستفادُ المناقبُ مِنه قولاً وفِعلاً لَأَولَى أن يُهجَر، وكلُّ شجرةٍ لا تثمرُ ثِماراً زكيّةً تُقطَعُ وفي النّارِ تُلقَى.
  • تؤتي أُكُلَها كُلَّ حين
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم)
إذا كانت الكلمة الطيبة – التي تنبعث عن خُلق حَسن – تؤتي ثمارَها، فلا بدّ أن يكون هذا الأصل الذي صدرت عنه، ذا ثمار دانية، وكيف لا تكون كذلك وقد جُبل عليها أولياء الله، قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: “ما جُبل وليّ لله إلّا على السّخاء وحسن الخلق”.
وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (ع): “حسنُ الخُلُقٍ رأسُ كلِّ برّ”
وقال الأمير السيّد عبد الله التّنوخي قُدِّس سرّه: “إنّ في سعة الأخلاق كُنُوْز الأرْزَاقِ، وفي تصفية الأخلاق استشعار الخلاق”.
وكذلك ورد في شرح الخصال لسيّدنا الشيخ الفاضل عن حُسْن الأخلاق بأنّه “الخصلة المرضيَة والسجيّة المُنَجِّية، التي بها تُنَال خيرات الدنيا والآخرة، وبها تكون السعادة في الدارين إذا اقْتَرَنَتْ بالإيمان والدّين.”
من هنا يَسْتَشِفّ الإنسان معنى خَصلة تحدو بمالكها إلى السعادة في الدار الآخرة رضى عند الله، وفي الدار الدنيا محبّة وقبولاً عند الناس.
وما جمع من فضل حُسن الخلق يضيق المجال عن ذكره، ومن ثمرات هذه الخصلة:
البركة في الدّيار والأعمار: “صلة الرّحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجِوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”
المكارم تُثقِل الميزان يوم القيامة: عن أبي ذَرٍّ قال عليه السلام: “يا أبا ذر ألا أدلّك على خصلتين هما أخف على الظَّهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله قال: عليك بحسن الخُلُق وطول الصمت” قيل “ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخُلُق”
سببٌ لتألُّف القلوب: “الأرواح جنود مُجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”
كمال الإيمان: قيل “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً”.
محبوب لله: أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلُقاً.
يكون في درجة الصُّوَّام القّوَّام: “إن الرّجل ليُدرك بحسن خُلُقه درجات قائم الليل صائم النهار”.
  • الأخلاقُ قُوْتُ الأمم
يُمكننا القول باستحالة قيام مجتمعٍ دون قيمٍ أخلاقيّة؛ فالأخلاق هي ما يُحدّد معايير السلوك الإيجابي الخيّر، ويُرسّخ مفهوم الواجب لدى الأفراد، كما أنها تكبحُ أفعال الإنسان الشرّيرة فتقاومها وتهذّبها، وبعبارةٍ أخرى هي ما يُملي على الإنسان ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله.
وصدق أمير الشّعراء عندما قال: وإنّما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا. وإنّ المتعطش إلى السّعادة عليه أن يسترشد بقول أرسطوالذي يرى أنّ الأخلاق مُرتبطة بسعادة الإنسان التي هي غاية وجوده، فيعرّفها على أنها الأفعال الناتجة عن العقل، من أجل الخير الأسمى؛ السّعادة.
  • صبغة المشايخ الأجلّاء
إنّ لمشايخنا الأجلاء رصيداً وافراً من الخِصال الحميدة، التي حثت الكتّاب على أن ينشروا ما كان مطويّاً من فضلهم، وقد كان حسن الخلق صبغةً ظهرت آثارها في سَلكهم القويم، وتأدّبهم مع الله عزّ وجل، و مع النّاس.
ومن هؤلاء سيّدنا الشيخ الفاضل محمّد أبو هلال الذي كان ممّن وصفهم الكتاب العزيز: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 134)
وقد كان عندما يحدث ما يثير غضبه – وما كان ليغضب إلّا لِما يخالف شرع الله – تظهر علامات الغضب عليه فيتمثّل قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: “إذا غضبت فأمسك” وقول الصّحابي الجليل سلمان الفارسيّ عليه السّلام: “فإذا غضبت فأمسك لسانك ويدك” فيلوذ الشيخ بالصمت، ثمّ يتململ ويدخل يديه في طرفي كمّيه، ويسكن قليلا، حتى يسري عنه الغضب ويلين خاطره، ثمّ يتحدّث عن سبب غضبه بكلام موزون وبتمييز صحيح، فيصوّب الخطأ ويعالج الخلل، بحكمة ورويّة.
والحديث في سِيَر الأجلّاء وآدابهم يطول، فها هو سيّدنا الشيخ أبو حسين محمود فرج خير مقتدى لمن أراد أن يقتفي أثر ذوي الأخلاق الحميدة، والمسالك الحسنة الرشيدة، ويروى أنه – رضي الله عنه – سأل أحدهم “بتحب الحق أو الأفضل منه ؟” فتعجّب السامع، وما أفضل من الحق؟! فيشير سيّدنا الشيخ من له حق ويعفو عنه.
وكان يُسمع في أكثر من مناسبة يقول: “من لا يغاضي لا يراضي، وإنّ الرّضى من طبع العقل”.

ورُوِيَ أن شخصينِ اختلفا على أمر ما، وبعد مدّة قصد أحدهما سيّدَنا الشيخ ليوضح حقيقة ما حصل مع خصمه، فطلب سيّدنا الشيخ من هذا الأخ أن يقرأ بعض وصايا لقمان الحكيم سلام الله عليه، فما إن وصل في قراءته إلى القول: “يابني من عاملك بالقبيح فعامله بالمليح” حتى استقام سيّدنا الشيخ بعد أن كان متّكئا، وطلب منه إعادة القراءة، فأعادها، فقال رحمه الله “يا خيي ما قال من عاملك بالقبيح فاصبر عليه واكتفى، بل قال عامله بالمليح”.

وما صدر عن شيخنا الجليل مُجَسّدٌ لمكارم الأخلاق، دالٌّ على الشِّيمِ العربيّة في العفو والصّفح، مُوافق لتعاليم السّيد المسيح عليه السلام، حيث قال: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ، لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟

في الحقيقة إنّ النّاظر في قِصص هؤلاء المشايخ يجد البَون الكبير بين ماكانوا عليه، وما نحياه نحن في واقعنا اليوم، على الرّغم من أنّنا بحاجة للتمسّك بالفضائل في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، لأنّها تقوّي هذا الجسد الذي “إذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”.

وفاة الأديب المهجري سعيد أبو شاهين

غيّب الموت أواخر آب 2018 الأديب المهجري الأستاذ سعيد أبو شاهين. هو من مواليد بلدة بمريم في المتن الأعلى. ترك الراحل لقرائه عشرات الأعمال الأدبية التي تراوحت بين أدب الأقصوصة والشذرات والذكريات…والشعر. دارت أعماله كلها حول تجربته في الحياة، واتسمت برغبة شديدة في الحفاظ على التراث، وبالدفاع باسلوب أدبي أو شعري حار عن قضايا شعبه ووطنه وعروبته. كرّم الراحل غير مرّة في وطنه كما في المهجر. ومن الذين قدّموا لبعض كتبه: المرحوم الدكتور سامي مكارم، الدكتورة إلهام كلاّب البساط، ورئيس التحرير د. محمد شيا.

وداعاً حنّا مينا…

خسر قبل أيام عالم الرواية والأدب في العالم العربي الروائي السوري المبع حنّا مينا، عن عمر ناهز الرابعة والتسعين. ولد مينا في مدينة اللاذقية السورية الساحلية، وظل في معظم رواياته يعكس تجربة المدينة وبحارتها، وتجربته الشخصية، مع البحر. وكان مينا يقدّم من خلال ذلك رؤيته التقدمية لأحوال المجتمع وصراعاته وتناقضاته، ولأحزان شرائحه الفقيرة والمهمشة ولأحلامها وأخيلتها وخيبات أمالها ، وكل ذلك في أسلوب روائي أخّاذ جمع بين الواقعية والرمزية.

جائزة البحث

جائزة البحث
للعام 2018 من الأكاديمية الفرنسية للباحث الاقتصادي والاجتماعي اللبناني جورج قرم عن كتابه “المسألة الشرقية الجديدة” الصادر سنة 2017 عن دار “لاديكوفرت” يستعيد فيه القدر المأساوي للمجتمعات الشرقية في المتوسط والعالم العربي

31 عاما…على غياب ناجي العلي

في 29 آب 1978 أسلم الفنان والمناضل الفلسطيني ناجي العلي الروح بعد غيبوبة لشهر أو يزيد تلت إطلاق الرصاص عليه من مسدس كاتم للصوت في 22 تموز. أغتيال ناجي العلي كان الانتقام من رسام الكاريكاتير العالمي المبدع الذي قاوم بلوحاته الاحتلال الإسرائيلي لوطنه، والغزو الإسرائيلي للبنان، واحتج ب”المواطن العربي الفقير الحزين” الذي يدير ظهره في زاوية كل لوحة من لوحاته على حال الأكثرية الساحقة من أفراد الشعوب العربية.

مأثرة الشيخ سعيد هزّاع غانم

كان آل غانم من العائلات التي هجرت لبنان في أعقاب النّصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوطّنت في خربة المشنّف الواقعة على أقصى الكتف الشرقي من مرتفعات جبل حوران المطلة بشموخ إلى الشرق على سهوب بادية الشام المترامية قبالة قممها..
وفي ذات عام من ذلك الزمن الذي يعود إلى نحو مئة سنةٍ ونيِّف؛ كان الشيخ سعيد هزاع غانم وهو أحد أهالي تلك القرية ذات الشتاء القارس البرودة (على ارتفاع 1530 م فوق سطح البحر) يتجوّل في الاراضي الواقعة إلى الغرب من المشنّف، كان همّه جمع ما يمكنه من فروع الأشجار اليابسة والحطب يخزنها للتدفئة في فصل الشتاء.

عند مرور الشيخ هزّاع بجانب رسوم هي بقايا مخيّم ومَراح لبدو مُرتَحلين (موقع كان البدو ينصبون فيه خيامهم ويأوون مواشيهم فيه)، سمع الشيخ الدّرزي أنينًا وبكاءً لأطفال صغار، فأخذته الدّهشة إذ لا أثر ظاهرًا لسكان ما. فتوجّه نحو جهة الصوت، وهو يتلفّت حوله حذرًا، اقترب أكثر، شاهد أطمارًا من قماش رثٍّ ملقًى على ما يبدو أنه أجساد آدمية لأطفال صغار، كان البكاء والأنين الموجع يصدر من تحت الأطمار. ترجّل الرجل عن دابته، واقترب متوجّسًا يتحرّى المكان، رفع الغطاء وإذ بثلاثة أطفال شبه عراة، ولد وابنتان؛ كان ذووهم قد ترحّلوا إلى الحماد الاردنيّة جنوبًا وتركوهم في المراح المهجور.

كان الصغار قد أصيبوا بمرض الجُدَرِي، ومن عادة البدو في تلك الأيّام أن يتركوا المريض الميؤوس من شفائه أكان كبيرًا أم صغيراً في المراح ويهربون بعيدًا خوفًا من العدوى، بعد أن يضعوا لهم ماءً وزادًا، وقد يعهدون بالمريض إذا كان عزيزًا إلى إحدى العجائز لتعنى بأمره ريثما يشفى أو يموت.
كان الصغار بحال متردّية من المرض والهُزال. لم يتريّث الشيخ، بل ترك كلّ ما جمعه من حطب وشيح أرضًا، ولفّ الصّغار بالأطمار، حملهم في عينتي خُرْجْ على الدّابّة وعاد إلى القرية مُسرعًا قبل أن يدركه غروب الشمس في تلك البريّة الموحشة التي قارب أن يدهمها الليل الجبليّ القارس البرد.
وصل الشيخ إلى القرية عند الغروب، ولم يَخْفَ أمره على الجيران القلائل الذين سكنوا القرية حديثًا. لاقته زوجته قائلة: ما هذا، ومن أين أتيت بهم؟، فسرد لها القصة وطلب منها أن تؤمّن للصغار مكانًا مناسبًا في زاوية من الغرفة التي تؤويهم. بحيث لا يكونون على مقربة من ولديهما الصغيرين.
فرشت السيدة للصغار فراشًا مدّدتهم عليه بعدما استعانت بالجيران الذين قدّموا لها ما يلزم من ملابس من حاجات صغارهم لستر عريهم، وأوقدت نارًا لتدفئة الأجساد النّاحلة التي هدّها المرض الوبيل، لكنّ بعض الجيران تخوّفوا من العدوى بعد أن لاحظوا نوع المرض الذي كان يرعب الناس في ذلك الزّمن حيث لا أدوية ناجعة في تلك الفترة.

اصرّ الشيخ سعيد على رعاية الأطفال ومداواتهم ولم يكن هناك من علاج متوفّر سوى النظافة القصوى وغَلْيِ الملابس والقَطِران وزهر الكبريت ورُقى الكتاب الكريم، ولم يلبث الصّغار طويلا حتى رُدَّت العافية إليهم على الرّغم من قلّة الموارد التي كانت تحاصر حياة الناس في بيئة يغلب عليها طابع الحرب وتكاد تكون منقطعة عن الحضارة في ذلك الزمن. مرت أعوام على قصّة الصغار،
وكانوا قد كبروا؛ فالولد بلغ نحو الرابعة عشرة، (كان الشيخ سعيد قد أسماه “زعل”) وحمّله كنية العائلة (زعل غانم) وذلك لشدّة (زعله) من ذويه الذين تركوه والطفلتين فريسة للوحوش والموت لمحتّم لولا أن تداركهم الله برحمته على يده، (اسم “زعل” هو اسم بدوي شائع)، وأعمار البنتين ضحاء وغبون 12 و11 سنة.

مع كرور الأيام تناقلت الرّكبان أخبار قصّة الشيخ سعيد وإنقاذه صغار البدو عبر البوادي، فوصل ذووهم بعد أن علموا بذلك إلى المشنّف. استقبلهم الشيخ سعيد غانم وكانت الديار قد عُمّرَت، والقرية توسّعت، وصارت أكثر أمنا ومنعة، فأنزلهم في مضافته. وبعد مداولة، تمّ التأكّد من وقائع المكان يوم الرحيل عنه ومن علامات العرافة والتحقّق من صلة الصغار بنسب ذويهم، أدرك الشيخ مطلب ضيوفه، فدعا وجهاء أهل القرية ليشهدوا على الفصل في حادثة ندرت مثيلاتها بين بدو وحضر، وبعد مداولة مع أقاربه من آل غانم قال الشيخ سعيد لضيوفه: ” نحن قمنا بواجبنا بما يرضي وجه الله، وما تمليه علينا قيمنا الأخلاقيّة وديننا… بما يخصّ البنتين هما عرضكم، وهما لكم، ومن حقكم ويمكنكم أن تأخذونهما معكم.

أمّا الولد “زعل”، فقد أصبح غُلامًا لديه قدر من الوعي، لذا فله حرّيّة الاختيار، إن أراد الذهاب معكم فبرعاية الله وله الحق بذلك، وإن أراد البقاء بيننا فهو مرحّبٌ به إذ أصبح من أهل البيت”.
وبعد سؤال زعل رأيه في الذهاب مع قومه أو البقاء بين الغوانم قال موجّهًا كلامه الى أهله: ” إنّكم تركتمونا للوحوش في العراء شبه عُراة، أمّا أبي؛ وأشار إلى الشيخ سعيد، فهو الذي أنقذنا وكسانا وأطعمنا وربّانا…”.
بموقفه هذا قرر زعل البقاء بين الأهل في المشنّف، ورضي آل البصيبص ذووه بقراره، ورحلوا حاملين الفتاتين، وبقي زعل في القرية والقليل من ناسها يعرف أنّه زعل البصيبص، بل هو عندهم “زعل غانم”، وعاش عمرًا مديدًا بلغ ستّة وثمانين عامًا، قضاها مع أبناء القرية التي نمت وتوسّعت حتّى أصبحت بلدة ومركز ناحية، وكان مُكَرّمًا كأيّ فرد من أهاليها، وتوفِّي في أوائل سبعينيّات القرن الماضي حيث كان في زيارة لعشيرته.

وعند وفاته ذهب الشيخ المرحوم حسن بن سعيد غانم ابن الشيخ سعيد هزاع غانم إلى عشيرة زعل (البصيبص) برفقة فريق من آل غانم، عزّاهم وشهد بما كان لزعل من صفات ومزايا طيّبة حيث كان مثالًا في حسن المسلك. أمّا ذووه فقد أجابوا بأن صفات زعل ومزاياه هي من زرع آل غانم وطيبهم… وشكروا لهم إنقاذهم للصغار في الماضي، وقد نظم أحد شعراء الجبل هذه القصيدة يصف الحالة كما تخيّلها، يقول:

قــــال الذي بِمْشاهَدِ الحال محــــزونْ

سَعيد بــــنْ هـــزاع المْكنَّـــا بِغانـمْ

بالبرّ رُحنـــا نِقطعِ السّهلْ وحْزونْ(1)

غَــــرْبِ المشنـفْ مَنْبت الشيحْ دايم

أَمْـــــرٍ جرى لَيْعَوّمِ القلب بِغبـُونْ(2)

 لــولا العزيمــة مـا اسْعَفتني القَوايمْ

عَيِّل(3) مْلَـوَّع بالحيــــاة شبه مدفون

 مَـــرمي مــع بنتيـن شبـه الحطايــم

ثـــلاثـةٍ للــرّيـــحْ والـبـــردْ يبـــكـون

 بديـــرةٍ قَـفْرة بـــها الـوحشْ حـــايم

يــــــابُعْد اَهَلْهم يـوم راحوايصرَخون

 فَرْش وغَطا أرض وسما مع سَقايم

وياويل أُمْ وْلادهـــا ما ينـــامـــــــون للطّيــر ويَّا الـــذّيب يغدوا غنـــــايم
حَمّـــــلْتهم بـالحال والدّمــــع مَـهتون  وْضَــمّيتـهم بـالقلـب ضمّ الحمــايـم
واَنـــــا لَحُبِّ الخيـر فاعـــل وممنون

 واَنـا لَــزِيم الحـــق عنـــد اللّزايـــم

 بــــالدار نــحمي كل قاصد ومغبون  نْعَذِّي الدَّخيل اِنْ كان بالـــدَّم عايــم
يـــوم الجمع ما بين طاعن ومطعـون إنْ مـــا حميتي الجـــار كوني هدايم
سَــــــوَّيتهم بَاهْلي وْوِلْـدي والعيـــون بايّام قَشْرَهْ، جُوعْ حَـــربٍ عظايـــم
عاشوا، شفـــاهم ربِّيْ حـــاكم الكــون واْكْسوا خَــوافـي رِيْشْهُـم والقـوايـم
مـــاهمَّني رفــــاقٍ عـليَّ يـــلومــــون رَبّيتـهم مــن خيــر رب الـعــوالـــم
مـــــن بعد مَـــرِّ سنين جونا يطلبـون قُــوْم البْصِيبِـص وِلْــدْهم للتّــــمايـم
اَعطيتهم بنتيـــن وضحا مـــع غْبـون وقلت لْـزَعَل خَلَّك علــى ما يـلايــم
قال زَعلْ والقــــول مــا يقبلْ ظْنــُون ما انتـم هَلِـيْ، أهلي دروز الغوانــم
سعيد غانم والدي يَا اللي تْنبُّـون (4) البْصيبص رماني رمي مثل السوايم
حُبّ الوفا أدعا زعل شبه مَرهــــون

للـــدّار وَاهْل الــدار ســيفٍ يْــقـاوم

وهكذا لم تزل هذه الحادثة أقصوصة خالدة في تراث الجبل الاجتماعي يتداولها الناس في مضافاتهم وبيوتهم …


(1) الحزون: المرتفعات.
(2) الغبون: الخسائر وما يترتب عليها من أحزان.
(3) عَيِّل: الطفل الصغير في لهجة البدو.
(4) تنبُّون: تخاطبون، لهجة بدويّة من نًبّأ، وهي لهجة يتقنها دروز الجبل.

الشيخ حسين الهجري

  • ثورة الموحّدين (الدروز) على إبراهيم باشا

بدأت هذه الثورة في جبل حوران، وامتدّت إلى جهات جبل الشيخ الشرقيّة والغربيّة، وكادت تمتدّ إلى دمشق والغوطة. كان جبل حوران يُعرف، آنذاك، باسمه هذا، ثم صار يُعرف باسم “جبل الدروز”، لأنه أخذ اسم “الدروز” الذين تكاثَروا فيه منذ توَطُّنهم له سنة 1685، ثم صار يُعرف منذ ثلاثينيَّات القرن العشرين باسم “جبل العرب”، وهو حاليًّا يُعرف باسم “محافظة السُّوَيداء” في الجمهورية العربية السورية. لكنّنا سنذكره باسمه الذي عُرف به في المرحلة التي نتكلّم عنها، أي جبل حوران.
بعد أن أعفَى محمد عليّ دروز جبل حوران من التجنيد الإجباري في جيشه، وأبقى لهم سلاحهم ليدافعوا عن أنفسهم كونهم مُقيمين على أطراف البادية ومعرَّضين لغارات البدو واعتداءاتهم على المراعي والحقول والسكان، عاد وطلب من ابنه إبراهيم تجريدهم من السلاح، وأخذ شبابهم إلى الخدمة الإجبارية أسوةً بسائر السكّان بمن فيهم دروز وادي التَّيم وجبل لبنان الذين نفَّذوا المطلوب منهم بعد رفض واحتجاج.
استدعى الوالي شريف باشا (حكمدار الشام) شيوخ دروز جبل حوران إلى دمشق فحضروا إليه وعلى رأسهم كبيرهم وشيخهم يحيى الحمدان، وطلب منهم تسليم السلاح وتقديم 170 شابًّا إلى الخدمة الإجباريّة، فرجَوهُ أن يُبقي لهم سلاحهم وألاّ يجنِّد شبابهم كي لا تضعف مقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم من هجمات البدو. وكان الشيخ يحيى الحمدان أكثرهم إلحاحًا عليه وترجِّيًا له، لكن شريف باشا ازداد إصرارًا على تنفيذ المطلوب، وغضب من الشيخ لإلحاحه، وتقدّم منه وصفعه، وطلب منه ومن سائر الشيوخ العودة إلى الجبل والمباشرة فورًا بتنفيذ ما طلب منهم.
كان ما جرى لشيخ مشايخ دروز جبل حوران، بالإضافة إلى صعوبة تسليمهم لسلاحهم، وتجنيد شبابهم في الخدمة الإجباريَّة، أبرز أسباب ثورتهم على الحُكم المصري، وقد بدأوها بالهجوم على القائد عليّ آغا البصيلي وإبادة حملته. وفيما كان والي الشام يستعدّ لإرسال حملة تأديبيّة بقيادة مفتّش الجيش المصري، محمد باشا، كان دروز الجبل قد لجأوا إلى ما يسمُّونه “الهجيج” أي الرحيل عن قراهم والاحتماء بوعرة “اللّجاه” المنيعة التي يعرفون مسالكها الصعبة ومغاورها، ويجهلها الأعداء ويتيهون في مجاهلها. وقد استطاعوا أن يقضوا على الحملة الثانية التي قادها محمد باشا، وأن يشتِّتوا الحملة الثالثة الكبيرة التي قادها شريف باشا وأحمد منيكلي باشا (وزير الحربيّة المصريّ).
إن هذه الهزائم الثلاث للجيش المصري الذي أخضع الثورات في سورية، وأخضع من قَبل الثائرين في اليونان وفي الجزيرة العربيّة، وقهر الجيوش العثمانيّة مرّات عدّة، اضطرّت القائدَ إبراهيم باشا أن يقود الحملة الرابعة بنفسه، ممهِّدًا لإخضاع الثّوّار في جبل حوران بإخضاع إخوانهم الذين ثاروا لنصرتهم في وادي التَّيم بقيادة شبلي العريان، والذين انضمَّ إليهم مناصروهم من دروز جبل لبنان. وهو لم يستطع وقف تمرُّد الثوّار في جبل حوران إلاّ بعد ردمه للينابيع وتسميمه للمياه، لكنه قنع بإعادة السِّلاح الذي غنموه، مقابل إبقاء سلاحهم بأيديهم وبعدم تجنيدهم، وذلك لكي يتفرَّغ لقتال الجيش العثماني الذي تجمَّع عند حدود سورية الشمالية، فلقد انتصر عليهم عسكريًّا، ولكنه لم يستطع فرض تدابيره التي كانت سبب ثورتهم.

  • المصادر التاريخية المعاصرة للحملة المصريّة ولثورة الموحِّدين (الدروز)

إن المصادر التاريخيّة المُعاصرة للحملة المصريّة على سوريّة، ولثورة الموحِّدين (الدروز) كثيرة، ومنها ما يتناولهما بتوسُّع، ومنها ما يتناولهما باختصار، وأبرزها ما يلي:
֍ وثائق سراي عابدين التي تبلغ أكثر من خمسة عشر ألف وثيقة “إضافة إلى عدد لا يُستهان به من الأوراق السِّرّيّة التي تتعلّق بأخبار الثورة الدرزية”(1).
֍ تقارير سُفراء وقناصل الدول الأوروبية ورسائلهم.
֍ الأرشيف العثماني.
֍ مخطوط الشيخ حسين إبراهيم الهجري المعروف بـ”قصة اللجاه”، وهو الذي سنتكلَّم عنه لاحقًا بتوسُّع، لأنه موضوع هذه الدراسة، ولأنه أهم وثيقة محلّيّة سورية تتكلّم عن أهم ثورة على الحُكم المصريّ لبلاد الشّام.
֍ كتاب “مذكَّرات تاريخيّة عن حملة إبراهيم باشا على سورية” لمؤلِّف مجهول(2)، هو أحد موظَّفِي الإدارة المصرية بدمشق إبَّان سيطرة إبراهيم باشا على سورية، وهو كان بعيدًا عن أماكن مجريات الحوادث العسكريّة فجاءت معلوماته عنها غير موسَّعة، إلا أنها تعبِّر عن وجهة نظر القادة والمسؤولين من خلال ما يَطّلع عليه من الرسائل والتقارير.
֍ قصيدتان للشيخ أبي عليّ قسّام الحنّاوي، أحد الرّؤساء الرُّوحيّين للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. كان أحد قادة الثورة في هذا الجبل، وقد وصفها شِعرًا في قصيدتَين له، طويلتَين، أُولاهُما مؤلَّفة من 111 بيتًا تتضمّن 22 بيتًا فيها أسماء القادة الدروز والمصريِّين وأسماء المعارك، ووصْف هذه المعارك وبطولات الدروز فيها. وثانيتهما مؤلَّفة من 85 بيتًا(3)، وتتضمَّن 14 بيتًا شبيهًا بأبيات القصيدة الأولى. ومع أن عدد الأبيات التي تتناول ثورة الدروز على المصريِّين قليلة في القصيدتَين، إلا أنها ذات أهمّية كونها صادرة عن شاهِد عِيان.

  • الشيخ حسين الهجري

الشيخ حسين الهجري (1821-1880) هو ابن الشيخ إبراهيم بن محمود بن سلمان زين الدين، من بلدة الخريبة في قضاء الشُّوف. نزح محمود إلى جبل حوران، وغدَا كاتبًا عند الشيخ الحمداني (شيخ مشايخ الجبل)، واستقرَّ في قنوات. وبالرغم من قِصَر سنِّه (1804-1840) اكتسب شهرة دينيّة واسعة نظرًا لتَقواهُ وأدبيَّاته الدينية، ولكونه أول رئيس روحي للموحِّدين (الدروز) في جبل حوران، ومن قادة ثورتهم على إبراهيم باشا. أما شهرة “الهجري” فقد اكتسبها نسبةً إلى هجر في الجزيرة العربية لكثرة ما تغنَّى بها وأنشد فيها من قصائد نظرًا لدلالتها الدينية.
حين نشبت الثورة في جبل حوران على المصريِّين كان الفتى، الشيخ حسين، برفقة والده الشيخ إبراهيم، لذا كان شاهِدَ عِيان لفصولها، وقاتَل في بعض معاركها. وقد تسلَّم الرِّئاسة الرُّوحيّة في الجبل بعد وفاة والده، وكان لا يزال فتًى في حدود التاسعة عشرة من عمره كحدٍّ أقصى، هذا إذا اعتبرنا أن والده تزوَّج في سن السادسة عشرة، على عادة الكثيرين من أبناء زمانه، وأنه -أي الشيخ حسين- وُلد بعد سنة من زواج والده. عاونه في شؤون الرِّئاسة الرُّوحيّة الشيوخ الثلاثة: الشيخ أحمد جربوع، والشيخ شهاب أبو فخر، والشيخ أبو عليّ قسَّام الحنّاوي الذي وردت الإشارة إليه.
لم يكن للشيخ حسين الهجري الشهرة التي أخذها والده، بالرغم من أن مدته في الرِّئاسة الرُّوحية كانت أطول من مدّة والده، وبالرغم من أنه كان العضو الثاني في مجلس قائمقاميّة جبل حوران، ويلي القائمقام التركي. إلاّ أنه ذو أهميّة –وإن تكن محدودة- في مجال التاريخ كونه أول رائد في الكتابة عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) في جبل حوران. فهو مع مدوِّن كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب “الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، ومؤلِّف كتاب “عمدة العارفين” الشيخ محمد الأشرفاني، الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، من الأدلّة على تثقف رجال الدين الدروز، واهتمامهم بتدوين التاريخ وإدراكهم لأهمّيّته.

عندما كتب الشيخ حسين الهجري مخطوطته المسمّاة “قصة اللجاه” كان عمره في حدود الواحدة والعشرين سنة، إذ ذكر في نهايتها ما يلي: “كان الفراغ منها يوم الاثنين في شهر ذي الحجّة في العشر المبارك سنة ألف ومايتين وسبعة وخمسين”. وهذا التاريخ يوافق كانون الثاني 1842م. وذكر أن الفترة الزمنيّة التي استغرقتها كتابة مخطوطته، هي أربعة أيام. وهذه المدة تبدو قصيرة للغاية في تأليف أي كتاب، وقد تُوحي بحُكم سلبيّ عليه، لكن هذا الحكم لا يعود يخطر بالبال عند قراءة مخطوطته، ومعرفة أنها مكتوبة بشكل رواية أو قصة، وأنه ممّن عاش حوادثها وساهم فيها. يُضاف إلى ذلك أن الفاصل الزمنيّ بين انتهاء معارك اللجاه وكتابة الشيخ حسين عنها قصير هو دون الأربع سنوات، وأن مجريات الحوادث بالتالي لا تزال بعناوينها وتفاصيلها عالقة في ذهنه مما سهَّل له كتابتها في أربعة أيّام.

  • تَداوُل مخطوط الشيخ حسين الهجري وتحقيقه

كان العِلم بمخطوط الشيخ حسين الهجري محصورًا في دائرة ضيِّقة جدًّا، هي آل الهجري، وأقرباؤهم بالمصاهرة (آل أبو فخر)، ولم يكن تَداوله يتعدَّاهم إلاّ للقلائل جدًّا حتى أواخر القرن العشرين، حتى أن من احتفظوا بالأصل أو بنسخة منقولة عنه، ومن قُدِّر لهم الاطِّلاع عليه، لم يعطوه الأهمية التي يستحقّها، ممّا أضعف موضوع تعميمه، وأخّر تحقيقه ونشره .
حين كان المؤرِّخ حنّا أبي راشد يقوم في سنة 1925 بجولات ميدانيّة في جبل الدروز (جبل حوران)، لإعداد كتابه “جبل الدروز” الذي صدر في السنة نفسها، ثم أُعيد طبعه في سنة 1961، وصل في تجواله إلى قرية “تل اللّوز” في “المقرن الشرقي” من الجبل. وهناك قُدِّم له مخطوط قال عنه: “إنه لم يستفد منه بشيء سوى نقط تاريخية فقط، وذلك لأنه منسوخ بعبارة سمجة”(4). وفي الحقيقة أن كلامه هذا صحيح عن بعض عبارات المخطوط، خاطئ بالنسبة إلى الاستفادة منه.
إن التاريخ الذي أشار إليه حنّا أبي راشد هو نسخة عن مخطوط الشيخ حسين الهجري معنونة باسم “قصة اللجاه وما جرى فيها”. ونرجِّح أنها هي ذاتها التي وصلت إلينا، ذلك أن أحد رجال الدين الدروز من قرية “تل اللوز” أهدى كرّاسًا (كُتيِّبًا) إلى الشيخ حسين يوسف شبلي البعيني يشتمل – فيما يشتمل- على قصة اللجاه، فأخذنا صورة عنه، واعتمدنا عليه في حديثنا عن ثورة الموحِّدين (الدروز) على المصريِّين في كتابنا الصادر سنة 1985، بعنوان “جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين (الدروز)(5). مع الإشارة إلى أنه حصلت إضافات على الكرّاس بعد اطِّلاع المؤرِّخ حنا أبي راشد عليه في سنة 1925، وإلى أنه لا يتضمّن اسم المؤلف، فاعتبرناه في سنة 1985 مجهولاً لأننا لم نتأكّد في حينه أنه الشيخ حسين الهجري.
إن الكرّاس (الكُتيِّب) الذي وصل إلينا صغير الحجم، من النوع الذي يعتمده رجال الدين عند الموحِّدين الدروز لكتابة أدبيّاتهم. وهو يشتمل على منشور مرسل من الرئيس الرُّوحي الشيخ حسين الهجري، ونظيره الشيخ أبي علي قسّام الحنّاوي، إلى رجال الدين في السُّويداء بتاريخ 16 صفر 1289هـ (نيسان 1872م) حول إجرائهم عقد زواج غير مطابق كلّيًّا للأحكام الشرعية، وتليه “قصة اللجاه”، فجَدولٌ بتواريخ وفَيَات شيوخ آل الهجري وصولاً إلى الشيخ أحمد الهجري الأول المتوفَّى في سنة 1372هـ (سنة 1953م)، فجدولٌ بتواريخ أحداث جبل حوران (جبل العرب) ومعاركه، وصولاً إلى انتفاضته ضد رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي في سنة 1954، ويليه أخيرًا أشعار دينية.
تقع “قصة اللجاه وما جرى فيها” في 128 صفحة من الكرّاس، يتراوح عدد الأسطر فيها بين 11 و12 سطرًا في الصفحة الواحدة، وعدد الكلمات بين 6 و7 كلمات في السطر الواحد. باشرْنا بتحقيقها من أجل المساهمة في كتابتنا بالتاريخ العامّ من جهة، وبتاريخ جبل العرب من جهة أخرى. واتصلْنا بالدكتور فندي أبو فخر الذي أشار إلى “قصة اللجاه” في كتابه “انتفاضات الشام”(6)، وذلك من أجل مقارنة النسخة التي نمتلكها مع النسخة الموجودة عنده لكي يأتي التحقيق متكاملاً، ومستوفيًا جميع الشروط، وجميع عوامل النجاح. لكننا عدَلْنا عن متابعة العمل بعد تحقيق الدكتور فندي للمخطوط بعنوان “حروب اللجاه”(7). ثم إن الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) في سورية، الشيخ حكمت سلمان الهجري، نشره بعنوان “قصة حروب اللجاه”(8) مُدرجًا صورة عن كل صفحة من النص الأصل، تقابلها صفحة مطبوعة تشتمل على بعض التعليقات والتوضيحات. والشيخ حكمت هو ابن أحمد بن سلمان بن أحمد بن حسن بن حسين الهجري الذي هو مدوِّن المخطوط.
قارنَّا بين صفحةٍ مخطوطةٍ نشرها المؤرِّخ فندي أبو فخر، والصفحة التي تقابلها في ما نشره الشيخ حكمت الهجري، فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا، ممّا يعني أنهما اعتمدا على نفس النسخة التي نرجِّح أنها الأصل. وقارَنَّا بين النصَّين اللَّذَين نشراهما، ونص النسخة الموجودة لدينا فوجدناهما متطابقتَين كلّيًّا معها، ممّا يدلّ على النقل الأمين عند كاتب هذه النسخة. وإذا كنّا قد عدَلْنا عن تحقيق المخطوط، بعد أن قام بذلك غيرُنا، فإنه من الضروري، ومن المفيد، الحديث عن مؤلِّفه، والحديث عنه لأنه أهمُّ مصدر محلّيّ معاصِر للثورة التي قام بها الموحّدون (الدروز) ضد إبراهيم باشا.

  • مميِّزات كتابة الشيخ حسين الهجري

كَتب الشيخ حسين الهجري بلغة تتضمّن العديد من الكلمات العامّيّة، والعديد من الأخطاء في اللغة والقواعد. وكتب بأسلوب السرد المتواصل دون ذِكر أيّ عنوان بحيث يصعب على القارئ معرفة نهاية الفكرة أو الفقرة، إلاّ عند ذكر الأبيات الشِّعرية التي يستشهد بها، كما عند وصفِه حصار إبراهيم باشا لِعكَّا، ومعاركِه مع الجيش العثماني، ومعارك حملاته مع الدروز الثائرين عليه. وإذا كان هذا ممَّا يميّز كتابته في الشكل، فإن مضمونها يتميَّز بِنَواحٍ عدة أبرزها المصداقيَّة، والطابع الديني، والأسلوب الرِّوائي والسجع.

المصداقيّة

كان الشيخ حسين الهجري صادقًا في تدوينه للوقائع، شأنه في ذلك شأن إخوانه رجال الدين من الموحِّدين (الدروز)، الذين يعتمدون الأمانة الكلية في القول والكتابة، اعتمادًا على مبدأ الصدق(9) الذي هو مرتكِز عقيدتهم (التوحيد). ومن الدلائل على مصداقيَّته تطابُق ما جاء عنده عن سَير المعارك مع ما جاء في تقارير قناصل الدول الأوروبية وتقارير ورسائل الموظَّفين والقادة المصريِّين، وغير ذلك من المصادر. وما ورد عنده عن الأعداد مبالَغًا فيه كان على ذمّة القائلين به، لا على ذمّته، كمجموع أعداد القتلى من الجنود المصريين التي قال عنها ما يلي: “الذي فُقِد من القوم الخاسرين الأرذال نحو اثنين وثلاثين ألفًا ومنهم من يقول أربعين ألفًا على هذا المنوال ومنهم من يقول إنه أكثر من ذلك فالله أعلم وأخبر بالحال”.
دَوَّن الشيخ حسين عباراته بصفة المتكلِّم، وبالضمير “نحن”، وعبّر عن مشاعره ومشاعر قومه وآلامهم ومعاناتهم خلال هجيجهم، رجالاً ونساء وكبارًا وصغارًا، وتنقُّلهم باستمرار من مكان مهدَّد باقتحام الجند المصري، إلى مكان أكثر أمانًا. وعبّر عنه نقمته ونقمة قومه على إبراهيم باشا الذي دفعهم بظلمه واستبداده إلى الثورة، والذي تمادَى في أساليب قمعه لثورتهم فعمد إلى ردم الينابيع وتسميم المياه لإجبارهم على التسليم، لكن مصداقيّته هذه في التعبير عن المشاعر كانت مشوبة أحيانًا بالهوى. فالجنود المصريون عنده هم: “الفراعنة الأغتام، والخوارج ذات الجور والعدوان، والقوم الطغاة البغاة، والمشركون الأضداد الكثيرون البلس والنجس والنفاق والفساد”.
إن الأوصاف المُعطاة للجنود المصريِّين تنطبق بالطبع على قائدهم إبراهيم باشا، الذي وجَّهَهم لقتال الدروز الثائرين طالبًا منهم تنفيذ تدابيره، إلا أن الشيخ حسين يذكره بدولة إبراهيم باشا وبالملِك، ويصفه فقط بالعلج، وبالغشوم الكشور الغضبان الذي لم يرحم بجوره الشيوخ والأطفال والنسوان. وبشاعة صورة ابراهيم باشا في نظر الشيخ حسين وسائر الدروز، تخففّها مأثرته التي يذكرونها”، وهي عدم سماحه لأي جندي بالاعتداء على نسائهم.

الطابع الديني

من الطبيعي أن يظهر الطابع الديني في كتابة الشيخ حسين الهجري، وخصوصًا أنه ليس رجل دين عادي، بل هو رئيس روحي، نشأ في كنف والده الشيخ إبراهيم، وتتَلْمَذ على يده، وقد اشتهر والده بتديّنه وبأدبه الديني. وهذا الطابع الديني ظهر في كتابة الشيخ حسين ابتداء بمقدمة مخطوطه وانتهاء بخاتمته مرورًا بمعظم صفحاته ومواضيعه. ومن وجوه ذلك إكثاره عبارات شكر الله وحمده، ووصفه عظيم جبروته وقدرته، واعتباره كل ما جرى خلال حملة إبراهيم باشا على سورية وحُكمه لها وثورات أهلها عليه، وكل ما يجري في هذا العالم، مقدَّرًا وسائرًا بالإرادة الإلهية، واعتباره النصر الذي حققه الثوّار الدروز القليلو العدد على الحملات المصرية الأكثر عددًا وتسليحًا، نصرًا من الله.

الأسلوب الروائي والسجع

كَتب الشيخ حسين الهجري بأسلوب روائي ملحميّ، شبيه بأسلوب روايات عنترة والزِّير وبني هلال وسواها. ولعلّ ذلك هو السبب الذي حمله على تسمية مؤلِّفه قصة مقرونة بِاسم المكان الذي جرت فيه معظم حوادثها، أي اللجاه. وقد كثرت عنده عبارات السجع، وكان كَكُلّ من اعتمد هذا الأسلوب يفتش غالبًا عن الألفاظ الملائمة.
وأسلوب السجع هذا هو الأسلوب الشائع في عصره، والأسلوب الذي اعتمده في كتاباته بعد ذلك، بدليل أن الرسالة التي أرسلها ونظيره الشيخ قسّام الحنّاوي، والتي وردت الإشارة إليها، تحفل بعبارات السجع. إذ جاء مثلا في مقدمتها ما يلي:
“بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وبه في كل الأمور نستعين فهو المنجا والملتجا يوم الفزع الأكبر المهول العظيم. فبجلالك اللهم يا عالي الشان ويا عظيم المجد والكبرياء والسلطان يا غيور عند وقوع الموهفات وتغلب المخترصين على الأديان يا من بقدرتك وعظمتك استقامت البسيطة والسموات بلا عمد ولا أركان يا عون المستعين ومظهر دين الحق على الأديان يا غوث المستغيثين يا شديد الأركان يا من لا يشغله شان عن شان يا حفيظ عبادك الطايعين ويا نصير المستضعفين من غلبات تحامل المبدعين بلا حقيقة ولا برهان…”.

موجز عن مخطوط الشيخ حسين الهجري

كان الشيخ حسين الهجري، بالرغم من صغر سنّه عند تدوينه مخطوطه، مطّلعًا على معظم الحقائق والوقائع التاريخية المتصلة بحملة إبراهيم باشا على سورية، إذ ذكر خروجه من مصر وحصاره الطويل لعكا، وموقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى في جبل لبنان منه، ومعاركه، وانتصاراته على العساكر العثمانية، وإصلاحات والده محمد عليّ وتدابيره في بلاد الشام، وأوضاع السكّان في مرحلة تحوّلهم من الخضوع للحكم العثماني إلى الخضوع للحكم المصري، وأسباب الثورات على هذا الحكم وصولاً إلى ثورة دروز حوران المسمّاة “قصة حروب اللجاه”.
ذَكر الشيخ حسين الهجري مُجريات المواقع التي جرت بين ثوّار جبل حوران وبين العساكر المصرية الموجّهة إليهم، وأوضح كيفية انتصارات الثوّار في أكثريّتها، والخطط التي اعتمدوها في المواجهة والانسحاب. وذكر موقف قبيلة السلوط المقيمة في اللجاه منهم، واكتفاء أبنائها بإعلامهم عن قدوم العساكر المصرية، وبمشاركتهم فقط في تقاسُم المغانم. كما ذكر الاجتماعات التي عقدها الثوّار، وكيف أن الدِّفاع عن أعراض النساء كان سبب استماتتهم، وانتصارهم على الأعداد الأكثر منهم عددًا وعدّة. وتكلَّم عن انتقال شبلي آغا العريان من اللجاه إلى منطقة وادي التَّيم لإشعال الثورة فيه وللتخفيف عن ثوّار الجبل. وتكلم عما جرى في هذه المنطقة من معارك. وقد خصّ بالذِّكر بعض القادة إضافة إلى شبلي آغا العريان، كالشيخ يحيى الحمدان (شيخ مشايخ دروز حوران) والشيخ إبراهيم الهجري، وبعض القادة الأبطال، كإبراهيم الأطرش وحسين عسّاف وحسين درويش، وأعرض عن ذِكر الكثيرين غيرهم تجنّبًا للإطالة. وأنهى كتابه بالحديث عن نهاية الثورة والسبب الرئيس في ذلك.
لم يُسمِّ الشيخ حسين الهجري أسماء المواقع التي جرت بين الثوّار والحملات المصرية، لذا لا يستطيع التعرّف عليها إلاّ القُرّاء المثقّفون، وخصوصًا المهتمِّين بتاريخ بلاد الشام عمومًا وتاريخ جبل حوران تحديدًا. وهذه المعارك التي لم يسمِّها معروفة عند أبناء الجبل باسم “الذبحة” كذبحة البصيلي، وبأسماء الأيام كيوم بصرى ويوم براق ويوم القسطل ويوم لاهثة ويوم الصورة ويوم صميد ويوم جب النعام.
وبما أن المجال لا يتّسع للحديث، وإنْ بإيجاز، عن جميع المحطّات التاريخية والمواقع الحربية التي تناولها الشيخ حسين، نكتفي بذكر بعض النصوص من مؤلَّفه، نوردها كنماذج مع بعض التوضيحات، لفهمها ولوضعها في إطارها التاريخي.

  • موقف الأمير بشير الشِّهابي الثاني والدروز والنصارى من الحملة المصرية

استطاع الأمير بشير الشِّهابي الثاني، بمساعدة محمد علي باشا التخلّص من منافسه الشيخ بشير جنبلاط الذي هو أكبر زعماء الدروز آنذاك. لذا كان حليفه إبَّان حملته على بلاد الشام وحكمه لها، وأيّده في ذلك فريق من اللبنانيِّين جلُّه من النصارى فيما عارضه فريق آخَر جُلّه من الدروز الذين نكبهم الأمير بشير وحليفه محمد عليّ بالقضاء على زعيمهم، وانضم بعضهم الى العساكر العثمانية وعن موقف الأمير بشير والدروز جاء عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ثم ان ابراهيم باشا أرسل منه المكاتبات إلى والي جبل معن الأمير بشير الشهابي يدعوه بضمها إلى الطاعة له والاذعان والانقياد إلى دولته بالأمن والاطمئنان. فلما وصلت كتابته إلى المذكور بالتهديد وبها يحذر من سطوته بالتخويف والتشديد فعند ذلك بادَر هذا الأمير العميد وجميع مناصب بلاده من عقل سديد وراي مصوب حميد من أكابر الدروز والنصارى يخبرهم بأمر هذا الملك العنيد ولسبب المخابرة بينهم بهذا الشان الوطيد. ثم انه من بعد المفاوضة بهذه الحال عوّلوا الجميع على محاربة هذا العنيد واعتمدوا الجميع على حربه والقتال وتعاطوا بينهم بالعلي المتعال وانصرفوا الجميع من عند هذا على هذا المنوال، ثم انه بعدما رجعوا الجميع لمحلاتهم أرسل الامير المذكور استدعى كبار النصارى وارادوا أن يجعلوا لهم حالاً بذاتهم مع ابراهيم باشا المذكور يكون سببًا لاصلاح شأنهم بغبا(10) علم مناصب الدروز وارادوا انهم يوقّعوا الدروز بالمكر والخديعة والصوج عند الدولة القادمة. ثم انه الأمير بشير أرسل إلى الملك القادم ابراهيم باشا كتابات منه ومن النصارى يعلن فحواها ان الأمير المذكور وجميع النصارى طائعين مسلمين مذعنين للدولة القادمة سوى ان طائفة الدروز لم يمكنهم التسليم بل انهم جميعًا قد عوّلوا على الحرب والقتال والعصاوة إلى الدولة المصرية القادمة… ثم انه بعد هذا الحال ارسل ولده بمكاتبه على هذا المنوال ومعه جماعة من أكابر النصارى قد جهروا لملاقاته والدخول تحت طاعته فعند ذلك تباشر بملك البلاد وإيلاء ما بها من الخلق والعباد. ولما علموا مناصب الدروز بهذه الروية وتحقق عندهم من الامير خبث الطويه لم يمكنهم التسليم إلى دولة هذا الملك ذو الرهط والصولة والأمر الجسيم بل انهم صاروا طالبين الدولة العلية إلى أرض الشام”.

  • مظالم إبراهيم باشا

تَشدَّد إبراهيم باشا في جمع الضرائب المفروضة على دروز حوران أسوةً بسائر سكّان بلاد الشام، لكنه تساهَل في جمع السلاح منهم، ولم يلجأ في البداية إلى تجنيدهم الإلزامي. وعن هذه الأمور يرد عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ثم ان ابراهيم باشا المذكور قد أنشا المظالم الذي لا طاقة للعباد بحملها وهي محاليه(11) مثل زيادة أموال ميرية ومثل زيادة فدن على الرعية ومثل زيادة أعداد أنفار مجازًا لا حقيقية. ولم يكن بقلبه رحمة ولا للعدل في ذاته بقية خصوصًا محل بلادنا الذي هو جبل دروز حوران فإنه أذاقنا أنواع البلايا والنكال في زيادة الأموال وظلم الأهالي والولدان حتى شتّت من الأهالي كثيرًا بالأقطار والبلدان وناءهم عن الديار والأوطان لكونهم عاجزين عن تأدية المطلوب بالتمام ولم يقبل بذلك عذر ولا بقلبه لأحد ارتحام حتى كثيرًا من الناس اخذوا في التخفي والهرب من عظيم ازدياد الشدائد والبلايا والكروب، وبالغوا بإهانة النسا والاولاد مع كسر الحرم وصدع القلوب، وليس لنا مشتكى سوى لعلاّم الغيوب. ثم انه لم يزل بهذا وبمثله بالتبيين من سنة 1247 سبعة واربعين إلى تاريخ مستهل سنة 1252 اثنين وخمسين. ولكن مع اصناف هذه التعاديل العظيمة والمظالم والأفعال الجسيمة لم يكن يأخذ من السلاح بالمراد لكون اننا ملتقيين(12) بأطراف البلاد ولسبب أن علينا خصايم من العربان والبواد”.

  • موقعة الثعلة وبداية ثورة الدروز على إبراهيم باشا

أرسل حاكم دمشق (شريف باشا) عليّ آغا البصيلي على رأس أكثر من أربعمائة فارس إلى جبل حوران ليجمع السلاح منه وليأخذ العدد المطلوب من شبابه الى الجندية. فنزل هذا القائد في قرية “الثعلة”، وكاتَب أعيان الدروز، وطلب منهم في كتابَيْه أداء المطلوب منهم. وحين أصرَّ على تنفيذ أوامر إبراهيم باشا ولم يَلِنْ لاسترحامهم وتلطُّفهم، قرَّروا الهجوم عليه، وفاجأوه بكبسة عند الفجر وقضوا على الأكثريّة الساحقة من جنوده. وعن هذه الموقعة، المعروفة بـ”ذبحة البصيلي”، التي كانت بداية الثورة، جاء عند الشيخ حسين الهجري ما يلي:
“ولمّا علموا (دروز الجبل) ان لا بد للقوم اللئام من تنفيذ المرام فعند ذلك تحزّبوا وتحرّضوا على الحرب والشدايد والأهوال وجعلوا يشدّدوا بعضهم بعضًا للمعارك والقتال وتجمّعوا ومشوا على توفيق العلي المتعال وقصدوا لمحق هذا القتّال الضليل المحتال ليسقوه ولجنوده كاس البلية والويل والنكال. ثم انهم زمجروا كأنهم سباع ضاريات وأسود غضنفرية كاسرات أو ليوث قسورية عاديات وقصدوا ذلك القايد وجنوده الطغاة واستعانوا عليه بجبّار الأرض والسموات، وأتوا للبلد المذكورة فيا ويلها من بين البلدات. ثم انهم لبثوا حولها إلى أن برق الصباح وأضا بنوره ولاح فعندها هجمت عليهم السباع بالقتل والجراح وقد اسقوا الاعادي كؤوس البلا والويل والذباح… فما استقامت هذه الأهوال والعبر الا ساعة حتى اتى النصر والظفر وحلت بالقوم الزلازل والأرجاف والغير وأيقنوا بالخسف والحتف من خلاق البرية والبشر… ولم ينجى سوى قايدهم بنحو ثلاثين من الفرسان فتبعهم الأسد الهمام والشبل الباسل الضرغام ذو الغيرة على العيال والولدان اعني به جناب شبلي آغا العريان والشيخ فندي عامر والشيخ ابراهيم الأطرش الكواسر الفتيان وقد أردوا منهم كثيرًا في البراري والقيعان وشتتوهم من تيك الأماكن والديار والأوطان. وقد فقد بذلك النهار الشيخ ابراهيم الأطرش وثلاث عشر نفرًا غيره”.

  • هزيمة الحملة المصرية الثالثة

بعد إنزال الثوّار الهزيمة الساحقة بحملة عليّ آغا البصيلي، أنزلوا هزيمة كبرى بالحملة التي أرسلها حاكم الشام، شريف باشا، بقيادة محمد باشا. وحين بلغت محمد علي باشا (والي مصر) أخبار هاتَين الهزيمتَين أرسل وزير الحربيَّة أحمد منيكلي باشا على رأس حملة كبيرة أمدّها إبراهيم باشا بقوات إضافية فبلغ مجموعها أربعة وعشرين ألفًا بحسب ما جاء في كتاب الشيخ حسين الهجري.
أَعلَمَ بدْوُ السلوط الثوّارَ بوصول هذه الحملة إلى حدود جبل حوران، فاجتمعوا في محلّ الشيخ يحيى الحمدان ومعهم الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري، وقرَّروا التصدِّي للحملة. فسار شبلي آغا العريان على رأس ما يقارب الخمسمائة مقاتل، وقسَّمهم إلى ثلاث فرق، لكنهم اضطرُّوا إلى الانسحاب أمام ضغط الحملة المصرية إلى حيث تركوا نساءهم وأطفالهم. ولما تبعهم العسكر إلى هناك استبسلوا واستماتوا في الدِّفاع عن أعراضهم وأطفالهم وشيوخهم، وهزموه شرَّ هزيمة بفضل بطولاتهم، وبفضل نجدة نصيرهم أبي إبراهيم الذي رآه البعض، بحسب مايروى، يقاتل معهم في هذه الموقعة كما في المواقع التي تصدَّوا فيها للحملة الثانية، فاعتُبر نصرهم نصرًا من الله، كالنصر الذي حقَّقه ثوَّار الجبل على الفرنسيِّين يومَي الأول والثاني من آب 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، والذي قال عنه بعض مَن كتبُوا عن الثورة السورية الكبرى (1925-1927) كمُنِير الريِّس، إنه نصر من الله. وكالنصر الذي حقَّقَته المقاومة الإسلامية في صيف 2006 على العدوان الإسرائيلي، واعتبرَته نصرًا إلهيًّا. ولقد أشار السيخ أبو علي قسّام الحنّاوي، الذي كان أحد قادة الثوار، الى نصرة أبي ابراهيم للثوار بالبيت الشعري الأتي:

جانا أبو ابراهيم فازع بعزمه            وسيفــو بشـوف العين يلهب نار

إن هذا النصر الكبير تَحقَّق في رأي الشيخَين: حسين الهجري وقسَّام الحنّاويّ، بفضل سيف أبي إبراهيم، كما تحقق بفضل سيوف المقاتلين الأشدّاء الذين قال عنهم السائح الأميركي رسل ريزنع ما يلي: “متى سُلّت السيوف من الأغماد كان الضّارب بها أصلب قوم في غربي آسيا “الدروز” حتى إن زهرة الجيش المصري انكمشت وانهزمت من وجه تلك السواعد التي لا تُلوَى”.

جاء عند الشيخ حسين الهجري عن الحملة الثالثة ما يلي:

“وفرّينا امامهم إلى أن دنينا من الأهالي والعيال ونحن نقاسي بالشدايد على مثل ذلك الحال. فعند ذلك تصارخت النساء والأطفال والبنات والشبان والرجال مستغيثين بالعلي المتعال وبرسوله النبي الكامل ذي المجد والأفضال أن يوقّينا من هذه البلايا والأهوال ويمنع عنا كيد المارقين الفجرة الباغيين الضلال. فعند ذلك انقلب مع العساكر المصرية هذا الحال وحلّت بهم العواصف والصواعق والزلزال والسحق والمحق والهول والوبال وحضرت بهم البلايا والرزايا والنكال وصار يمرح بينهم أبو ابراهيم وهو بهم كنار زادت اشتعال حتى شاهدوه بعيونهم كبرق تدانى بالقيعان والجبال وقد اشفق علينا وأجاب دعانا بحضوره مع السؤال. فعند ذلك زمجرت منا الأبطال والشجعان وتطاحمت خلفهم الاسود الكواسر الفتيان وصاحت بحربهم فرود الرجال والشبان وتسابقت عليهم السباع الضواري بشده الباس والأركان وغنّى بهم السيف مع طعن السنان وعود الزان.
ثم اننا لم نزل بهذه الأفعال وهم بين أيدينا كأغنام للذبح تنادى عليها بسوق الدلاّل وقد أذاقوا شدة البلا والفوادح والأهوال بما حلَّ بهم من الخسف والحتف والنكال حتى صار رجل منا يجوز منهم مئة ويسلبهم الأرواح والأموال، وأملت جثاثهم ذلك الأماكن من سهلها والجبال. وقد نزل بهم الرواجف والبلايا والوبال. فلم نزل بطلبهم بهذا الحال نحو ساعتين ثم بعد ذلك وصلوا إلى الذخاير والمدافع والحمال وجميع زهابهم وجباخاناتهم المنقولة على عوالي الجمال وزمجروا على بعضهم بالحرب والقتال وطمعوا أن المدافع تدفع عنهم هذه البواعث والأحوال ولبثوا نحو ساعة على هذا المنوال وظنوا أن المنارة توقيهم من أسودنا والأبطال. ثم ان بعد هذه الساعة تجمّعت رجالنا وصاحت بهم أبطالنا وظهرنا فيهم شدايد أفعالنا. فعند ذلك ولّوا هاربين وللسلامة والنجاة طالبين وعلى أعقابهم ناكصين خايبين منعكفين وأرموا سلاحهم وفاتوا ذخايرهم وأموالهم وقد ذبحت روساهم واستوسرت أبطالهم. فعند ذلك استغنمنا جميع سلاحهم ومدافعهم والجباخانات واخذنا نوباتهم مع عزهم وبوقاتهم والنايات وفزنا ببيارقهم وذخايرهم مع لباسهم والرايات وتتبعناهم على هذا الحال حتى غدو ما بين أشتات وأموات ومنهم كثيرًا من التعب والنصب به الفوت فات لأننا قد رأينا منهم نحو خمسماية في جحيف واحد ما بين تلافًا وأموات من غير حرب ولا ضرب بل من شدة الزلازل والصيحات… واما هذه العساكر العظيمة قد بالغوا انه لم رجع الا نحو ثلثها إلى العرضي أو يزيد عن ذلك وعدم منها نحو ثلتينها ما بين قتيل وجريح وشتات في البراري وأسير”(13).

  • ردم إبراهيم باشا للينابيع وتسميمه لمياهها

لم يستطع إبراهيم باشا إخضاع دروز حوران وإخماد ثورتهم إلاّ بردمه للينابيع وتسميمه للمياه التي يشربون منها وتشرب حيواناتهم، بالرغم من احتجاج الطبيب كلوت بك ومعارضته لهذا العمل اللاإنساني. وهذا ما جاء عن ذلك عند الشيخ حسين الهجري:
“ثم انه هذا الظالم مشى على جميع قرايا اللوا(14) وهدم مناهلها وعدم ابيارها(15) كل قرية بقرية وكل منهل بمنهل وكل بلد يصير بيننا وبينه مجرا(16) عظيم وأمر جسيم ولله بذلك إرادة وتحكيم. ثم انه سار قاصدًا بعساكره إلى قرية لاهثة وكان ذلك الوقت منها ورودنا ونزل بجحفله عليها وجعل يهدم مناهلها فالتقينا وصار بيننا وبينه حرب شديد وفقد منه ذلك اليوم خلق عظيم ولم يفقد منا سوى رجل واحد فلما هدم مناهل البلد المذكورة وأهال عليها الجدران وقد وضع بالماء الجاز والسموم والجيف والدواب الزايدة القذار والانتان وانصرف خارجًا بعساكره من هذا المكان…

ثم انه بعد ذلك اتى إلى جميع القرايا المستديرة بجانب اللجاه وفعل بهم هذه الأفعال حتى كادت تهلك جميع الناس من هذا الحال وقد مات كثير من الظمأ وعدم الماء الزلال ولولا ذلك وعدم الماء لم يكن له علينا بعون الله سلطان ولا مجال… ثم انه بعدما هدم مناهل هذا البلد لم يكن هدم مناهل ام الزيتون ثم اننا لم نزل بالورد اليها فلما علم الظالم الغشوم بذلك فجهّز عساكره ومدافعه على جاري معتاده وقصد البلد ام الزيتون والقرى الذي لم يكون دمّر مناهلها وصار يفعل بهم الأفعال كما فعل بغيرهم من المناهل”.


المراجع

(1) أسد رستم: بلاد الشام في عهد محمد علي باشا، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1995، ص214-215. وأسد رستم: آراء وأبحاث، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1967، ص64.
(2) مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سورية لمؤلف مجهول، نشرها قسطنطين باشا المخلصي، وأعاد نشرها أحمد غسان سبانو، دار قتيبة، دمشق 1981.
(3) معظم أبيات القصيدتين واردٌ في كتاب زيد سلمان النجم: أبو علي قسّام الحنّاوي شيخ مجاهد وبطل قائد، دار العراب، دمشق 2013، ص 179-186.
(4) حنا أبي راشد: جبل الدروز، مكتبة الفكر العربي، الطبعة الثانية، بيروت 1961، ص46.
(5) انظر كتابنا: جبل العرب. صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، دار النهار، دار عويدات، بيروت 1985، ص180-183.
(6) فندي أبو فخر: انتفاضات الشام على مظالم محمد عليّ باشا (1831-1840) دار الينابيع، دمشق 2004، ص129-147.
(7) فندي أبو فخر: الشيخ حسين إبراهيم الهجري، حروب اللجاه 1837-1838، دار كتب للنشر، بيروت2013.
(8) صدَر الكتاب عن دار الرّيّان في السويداء (سوريا) في أواخر سنة 2017.
(9) تَرِدُ في أدبيّات الموحّدين (الدروز) الدينية كلمة “الصدق” بحرف “السِّين” لا بحرف “الصاد”. ولحرف “السِّين” تفسير في حساب الجمّل الذي يعتمدون عليه، مختلف عن تفسير حرف “الصاد”.
(10) بغبا: بغير.
(11) محاليه: من كلمة “المحال” بمعنى أنها صعبة جدًّا.
(12) ملتقيين: موجودين بالصدفة أو بناءً على تفاهُم.
(13) يذكر عمر طوسون أن الحملة المصرية الثالثة بقيادة أحمد منيكلي باشا فقدت أكثر من أربعة آلاف جندي وستة آلاف بندقية ومدفعين وخمسين جملا محمّلًا بأزواد وكل متاع الضبّاط. انظر صفحات من تاريخ مصر. ذكرى مئوية البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948، ص366. وللمزيد من المعلومات انظر مقالتنا في مجلة “الضحى” العدد 10 (تشرين أول 2014)، ص28-37. وعنوانها “ثورة الموحِّدين (الدروز) على الحكم المصري”.
(14) اللوا: اللواء. وهو القسم الشمالي من جبل العرب، وقاعدته الرئيسة شهباء.
(15) أبيارها: آبارها.
(16) مجرا: قتال.

إتحاد بلديات السويجاني يواكب تطوير معمل فرز النفايات والاستاد الرياضي

عندما تنعطف بك طريق الصلّيب بإتجاه ظهور الكحلونية – مزرعة الشوف، ينتابك شعور وكأنك في روض غناء معلق بين السماء والأرض تمتع ناظريك بما تراه من سحر فاتن، وطبيعة خلابة حباها الله لهذه البقعة الجميلة من شوفنا الحبيب. لذا فإنك ترى كل شيىء جميلاً من حولك. فتطالعك من جهة الشرق محمية أرزالشوف الفائقة الروعة والجمال والآخذة في التمدد على طول المحيط الحيوي لجبل الباروك المشهور بغابات أرزه الأربع المنتشرة في المعاصر والباروك وعين زحلتا وبمهريه مظللة قرى الشوف الأعلى المنتشرة في سفوحه، وهو ما كان يطلق عليه في الماضي القريب “الشوف الحيطي”، حيث يتكىء بعضها على كتف وادي مرج بسري الخلاب قبل أن تغمره مياه السّد المنوي إنشاؤه لتأمين مياه الشفة لبيروت وضواحيها. فيقابلها لجهة الغرب عدد من قرى وبلدات “الشوف السويجاني”، وتقف المختارة بين هذين الشوفين العزيزين شاهداً على تطورهما ونموهما.
هناك، على تلك الهضاب المشرفة على كل ما حولها، يلفتك مشروعان كبيران هما في غاية الأهمية، جرى تنفيذهما منذ فترة وجيزة، ستاد السويجاني الرياضي، والمعمل المخصص لفرز النفايات في المنطقة قد تظن للوهلة الأولى ان الدولة هي المبادرة إلى تنفيذهما، نظراً للتكلفة المادية التي تستوجب إنشاء هكذا مشاريع. لكن سرعان ما تظهر لك الحقيقة جلية، فتستدرك بأن الدولة التي كانت ولا زالت غائبة او مغيبة ومنذ عقود من الزمن عن كل ما تحتاجه هذه المنطقة من مشاريع إنمائية وتنموية لا ناقة لها ولاجمل بكل ما يجري في منطقة الجبل بشكل عام والشوف بشكل خاص وهو بأمس الحاجة لها، وبخاصة في المجالات الصحية، والبيئية، والإقتصادية، والإجتماعية، والتربوية، والإنسانية.
بين أولئك الذين تعاقبوا على العمل الطوعي في منطقة الشوف السويجاني وكان لهم الفضل في ما أنجز من مشاريع إنمائية، وبالأخص المشروعان المشار اليهما، ثلاثة من كبار المهندسين المشهود لهم بالخبرة والكفاءة الذين تعاقبوا على رئاسة اتحاد بلديات الشوف السويجاني. المهندس سمير الفطايري الذي يعود له الفضل الأول في شراء العقار الذي بني عليه معمل فرز النفايات وستاد السويجاني. الدكتورة نهى الغصيني التي أشرفت على البناء والتشغيل. المهندس يحي أبو كروم الذي يواكب عملية التطوير والتشغيل في آن حتى أصبح يستوعب حوالي مئة طن من النفايات الصلبة. ويتولى حالياً استكمال البناء في الملعب من مدرجات ومضمار للركض وغيرها من الأقسام التي يسعى الإتحاد لتنفيذها، بالإضافة الى جهود رئيس بلدية بعقلين الأستاذ عبدالله الغصيني.

الغصيني: كان همنا تطوير مهارات الشباب وقدراتهم

الدكتورة نهى الغصيني الرئيسة السابقة لبلدية بعقلين ولإتحاد بلديات الشوف السويجاني تحدثت لـ عن دورها في إنشاء المجمع الرياضي في منطقة السويجاني، فقالت: نحن كإتحاد كنا نتطلع الى شبابنا الشوفي، فنرى وجوهاً تشع بالطموح والأمل، متسلحين بما تزودوا به من علم ومعرفة .. انهم شباب مدرك متفوق وطموح.. بهم نسمو الى غد واعد ونتطلع الى أفق منير. بهم نفخر ونكبر. بهم نتحدى ونطمئن الى مستقبل سعيد يوفر لمجتمعنا الشوفي الحياة الفضلى. ولفتت بأن اتحاد بلديات السويجاني يسعى الى تحصين حيوية الشباب الشوفي وحمايتها، وتحويل طاقاتهم الشبابية الى مصدر ابداع وتفوق. يقيناً منه أن الأمم الناجحة هي تلك التي تستمد قوتها من دفق الشباب الذي لا تعيقه المصاعب ومن ارادته التي لا تقهر. وانطلاقاً من ايماننا بدور الشباب الحيوي في مجتمعنا، وأهمية ممارسة الرياضة على مختلف أنواعها في تطوير مهارات الشباب وتعزيز قدراتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم سعينا الى إنشاء مجمع رياضي ضمن نطاقه الجغرافي يكون مفتوحاً أمام جميع الشباب الشوفي واللبناني. ولتفعيل هذه المشاريع ووضعه قيد التداول. وضعت له البرنامج العملي وقدمت التصاميم المعمارية اللازمة له، آملة أن يتحمس المستثمرون لتنفيذ هذا المشروع الحيوي في منطقتنا مما ينعكس ايجاباً على شبابنا وشاباتنا، امل مستقبلنا. ولفتت بأن المجمع بوشر بتنفيذه على العقارات 1341و1343و1344 ذات المساحة الإجمالية البالغة 38180 م م من منطقة الكحلونية العقارية، ويسمح تصميم هذا المجمع الرياضي بتنفيذه على مراحل متعددة نظراً لكلفته العالية التي تصل الى مليون وثمانماية ألأف دولار اميركي.
وذكرّت الغصيني أن شبابنا في الناديين المصنفين إتحادياً، نادي شعلة الكمال الرياضي – بعقلين، ونادي التعاضد مزرعة الشوف، يتكبدان مشقات مادية جمة لمتابعة تدريباتهم الرياضية خارج منطقة الشوف السويجاني نظراً لعدم وجود ملاعب رياضية تسهل عليهم متابعتهم للتدريبات الرياضية في منطقتنا.

وفي تفاصيل المشروع أوضحت الغصيني أن مشروع الـ ستاد الرياضي يتشكل من عدة أقسام:

أقسام المجمع

القسم الأول: ملعب لكرة القدم وهو ما تم إنجازه مع حارات للجري حوله ومدرج يستوعب حوالي الألفي مشاهد. تبلغ مساحة هذا القسم حوالي 1500م.م
القسم الثاني: وهو ناد رياضي يأخذ شكل عصفورين ذي جناحين خافقين نحو العلى، يستريحان لفترة عند تلة الصلّيب. يحتوي هذا النادي على صالتين مقفلتين، واحدة لملعب كرة السلة والأخرى لرياضة السباحة. وفي الفسحات الخارجية للنادي تم تصميم مسبح خارجي للكبار وآخر للأطفال مع شرفة واسعة تشكل امتداداً خارجياً للمطعم والمقهى الملحوظين داخل المبنى.
القسم الثالث: حديقة عامة فيها مساحات لممارسة رياضة المشي وركوب الدراجات الهوائية مع مواقف للسيارات تخدم جميع اقسام المجمع. تبلغ مساحتها ستة آلاف م.م
بالإختصار يحتوي النادي الرياضي على الوظائف التالية:
صالة مقفلة لملعب كرة السلة مساحتها837م.م
صالة مقفلة للمسبح مساحتها837م.م
صالات رياضية عديدة مساحتها 611م.م
مطعم ومقهى داخل المبنى مساحته488م.م
مسبح مكشوف للكبار مع مسبح للصغار مساحتهم372م.م
شرفات حول المسابح الخارجية مساحتها 1730 م.م
مشالح وأدواش ووظائف أخرىمساحتها 405م.م
الإدارة مع قسم العناية التمريضية ومدخل المشروع 379م.م
مستودعات مساحتها 140م.م
المساحة الاجمالية للطابق السفلي مستوى المسبح الخارجي 1480م.م
المساحة الإجمالية لباقي المبنى مستوى المدخل وما فوق2700م.م
ويبقى الباب مفتوحاً للأيادي الخيرة التي بإمكانها مساعدة الإتحاد في تحقيق هذا الحلم، بحيث يتجلى الإتحاد بأسمى معانيه بفعل ارادتنا وإيماننا جميعاً بضرورة العمل سوياً من أجل تشجيع جيل جديد يشكل قوام شخصية الشوف الوطني، شباب منفتح على كل ما هو حق وحقيقة، شباب مؤمن بالقدرة الكبيرة على التغيير والتطوير.ابو كروم: نعمل على مشروع متكامل يكون عبارة عن أكاديمية تضم كل المؤسسات الرياضية.

المهندس يحي أبو كروم رئيس بلدية مزرعة الشوف ورئيس اتحاد بلديات الشوف السويجاني الحالي يقوم بجهود جبارة لتشغيل معمل فرز النفايات وتحديث وتطوير ستاد السويجاني، اشار في حديث لـ الى أبرز المحطات التي رافقت تطوير هذين المرفقين الحيويين. وهذا نص الحوار:

متى بدأت فكرة إنشاء ستاد السويجاني؟

إن فكرة إنشاء المجمع الرياضي تعود الى ما قبل العام 2000 منذ أيام الرئيس السابق لإتحاد بلديات الشوف السويجاني المهندس سمير الفطايري، هذا المشروع أكبر إنجاز تم تحقيقه لغاية اليوم من قبل الإتحاد، وذلك بعد أن تم شراء العقار البلغ مساحته قرابة 40 الف م م.

هل تعتبر فكرة إنجاز الـ ستاد الرياضي بالإستراتيجية؟

نعم يمكن وصف هذه الخطوة بالإستراتيجية، بالنظر الى الإرتفاع الجنوني في أسعار العقارات اليوم، ولو لم يتم شراء الأرض في تلك الفترة لتعذر علينا تنفيذ مشروع بهذا الحجم. كيف بوشر العمل بتنفيذ هذا المشروع؟
الجزء الأول من المشروع أنجز من قبل اتحاد البلديات السابق، وبإشراف شخصي من رئيسته الدكتورة نهى الغصيني، وبدعم مباشر من وليد جنبلاط. وإن نادي التعاضد – مزرعة الشوف، فالخطوة الأولى بدأت بزيارة المختارة لطلب المساعدة على إنشاء ملعب للرياضة، فأبدى استعداده للتعاون واعداً بمناقشة الموضوع مع الدكتورة الغصيني بعد ذلك اتفقنا على إقامة عشاء ريعي في فندق المير أمين تمكنا من جمع مبلغاً لا بأس به من المال، وتكفل وليد بيك بتقديم ما أمكنه للمساعدة. بعد انجاز الرخصة باشر الإتحاد بالعمل وتم أنجاز القسم الأول منه وقد تمكنت الدكتورة الغصيني من الحصول على دعم مالي لا بأس به من قبل الإتحاد الأوروبي استطاعت من خلاله تغليف الملعب بالموكيت الأخضر كما هو معتمد في المدينة الرياضية والملاعب الكبرى. بالإضافة الى تامين الإنارة الكاملة له. وهذه تعتبر خطوة هامة على طريق استكمال هذا المشروع الذي يتوقع أن تصل كلفته الإجمالية الى حدود 8 مليون دولار.

الملعب في حالته الحاضرة مصمم لكرة القدم هل لديكم نية لتطويره؟

الآن اصبح لدينا تصميم متكامل للمشروع كمركز رياضي بمواصفات عالمية، تؤهله ليكون من الملاعب الحديثة، يضم ملعباً لكرة القدم مع مدرجاته الخاصة به ، ومضماراً للجري، هذا المضمار سيتم تنفيذه بمساعدة من وزارة الشؤون الإجتماعية، بعد أن تم تلزيمه لشركة خاصة، ولقد أصبح في مراحله الأخيرة. ونكون بذلك قد انتقلنا الى المرحلة الثانية ضمن دراسة شاملة لـ ستاد رياضي يضم ملاعب مسقوفة ومسرحاً مكشوفاً. ولن يكون المشروع مجرد ملعب للرياضة فقط، بقدر ما نريده نقطة جذب لجميع محبي الرياضة على كافة انواعها. على ان يضم نادياً للثقافة، وقاعات للإجتماعات، ومجموعة مكاتب، أحدها للشؤون الإجتماعية، ومعهد الكونسرفتوار الوطني. وفي هذا المجال يهمني لفت النظر إلى أن معظم المكاتب المستأجرة والمستخدمة كفروع للإدارات العامة والمستقلة هي على عاتق الإتحاد، لذلك من الضروري تجميعها في مبنى واحد. كما يضم ايضاً مكاتب للشباب وللنشاطات المتعددة. مع إمكانية تحويل المجمع الى مركز حيوي يضم مطعماً وكافتيريا، ومدرجاً يتسع لعشرة آلاف متفرج.

هل تلقيتم مساعدات من وزارة الشباب والرياضة والمنظمات المانحة؟

وزارة الشباب والرياضة وعدت بالمساعدة ولكنها لم تحدد قيمة المساعدة. المهم أننا سنباشر ببناء إحدى جهات المدرج بدعم من تيمور بك.

هل لديكم فكرة عن الكلفة الإجمالية للمشروع؟

كلفة المشروع الإجمالية قد تصل الى 8 مليون دولار، ولا يمكن تنفيذه إلا على مراحل. علماً إن الملعب بدأ استقبال اللاعبين والفرق الرياضية والأندية من العام الماضي. وهذا الصيف شهد العديد من الدورات الرياضية كان آخرها دورة رياضية كبيرة بمشاركة معظم أندية الشوف العامة والخاصة. وهناك فرق رياضية تستخدم الملعب للتدريب بشكل يومي، ونحن كإتحاد نتحمل كلفة المدربين وبدل إنتقالهم من والى الملعب. لأن هدفنا جمع كل الفرق ضمن مؤسسة رياضية تكون مميزة في هذا الجبل، وهذه المؤسسة من شأنها أن تتولى توفير الدعم لكل الأندية الرياضية، وبالأخص المتوقفة منها. كل ذلك ضمن الإمكانيات المتوفرة على أمل أن نصل الى اختيار منتخب للشوف بعد إنتقال الفرق الناشطة الى الدرجتين الأولى والثانية، مع السعي المستمر لإيجاد الحوافز المشجعة على الرياضة وصولاً الى إنشاء المدرسة الرياضية مع تامين الجوائز المعنوية للمبدعين منهم.

ما هي الأهداف التي ترومونها من وجود ملعب بهذا الحجم في منطقة السويجاني؟

هدفنا كإتحاد بلديات الإهتمام بجيل الشباب لأنه أمل المستقبل في هذا الجيل ، لذا يجب تاطيره في بوثقة رياضية صرفة، تجعله يبتعد إرادياً عن الآفات المسيئة لشخصه ولسمعته، كالمخدرات وما يتفرع عنها. فمن خلال الرياضة يستطيع الشاب أن يجد نفسه ولا يعود يكترث بالمسائل الأخرى.

ألا ترى وجود صعوبة لتحقيق ذلك؟

إن العمل على تنمية بشرية نظيفة يتطلب التحرك على عدة اتجاهات، ولذلك أطلقنا حملة ( شوف خال من المخدرات) وضرورة تطوير هذه الحالة لمكافحة الإدمان ليس فقط على المخدرات فحسب وقد يكون الإدمان على الأجهزة الخلوية مسيئاً للشباب مثل المخدرات وأكثر. لذلك كان من الضروري ايجاد البديل والمكان الذي يستطيع الشاب ان يعبر عن ذاته رياضياً وجسدياً ونفسياً. فالعنوان الأساسي الذي نعمل عليه يتلخص بإنجاز هذا المشروع الذي هو مركز متكامل للشباب يضم بالإضافة الى ما تمت الإشارة اليه معهداً للموسيقى والغناء والدروس الجامعية، وغرف مطالعة ومكتبة عامة . وهذا كله يتماشى مع الرياضة التي نحن بصددها. وقد أعددنا لهذا المشروع دراسة متكاملة على أمل التمكن من تنفيذه في السنوات المقبلة، وإن لم ينفذ على أيامنا فقد ينفذ على يد غيرنا. المهم أننا انطلقنا والتوفيق على الله.

معمل فرز النفايات:

في القسم الثاني من هذا الحوار شرح أبو كروم المراحل التي قطعها مشروع تشغيل معمل فرز النفايات على الشكل التالي:

متى باشرتم العمل في معمل فرز النفايات؟

بعد إقفال مطمر الناعمة الذي كان لوليد بك الكلمة الفصل في ذلك، إنشغل المعنيون بالبحث عن أماكن بديلة لطمر النفايات فتضاربت الآراء وتشابكت الإقتراحات ولكن من دون أية نتيجة. ومع تكدس النفايات في الشوارع وأمام عجز وزارة البيئة المعنية المباشرة بهذا الملف دخل المجتمع المدني على خط الضغط على الحكومة لمعالجة المشكلة وإيجاد الحل المناسب لها ما أدى الى تفاقمها بدلاً من حلها. فكانت توجيهات وليد بيك جنبلاط تتمحور حول أمرين: الطلب الى وزير الزراعة أكرم شهيب بمساعدة رئيس الحكومة تمام سلام لإيجاد حل لمشكلة النفايات في العاصمة، ومعالجة أزمة النفايات بشكل آني وسريع في منطقة الجبل وعلى الفور أصدر أوامره بضرورة تشغيل معمل الفرز الكائن في منطقة الصليب التابع ادارياً لإتحاد بلديات السويجاني. يومها لم يكن هذا المعمل مجهزاً للعمل والمباشرة بعملية الفرز، على اعتبار أن شركة سوكلين كانت المعنية بجمع النفايات، وبالتالي ليس هناك من حاجة للتشغيل لما يرتب على اتحاد البلديات من تكاليف مادية كان بغنىً عنها. ومع نشوء الأزمة ونزولاً عند رغبة وإلحاح وليد بيك استنفرت القوى المعنية بتشغيل المعمل أقصى درجات الإستنفار وعقدت لهذه الغاية عدة لقاءات شاركت فيها يومذاك رئيسة الإتحاد المهندسة نهى الغصيني بالتعاون مع البلديات المعنية ووكالة الداخلية في الشوف، لكنها إصطدمت بعدم جهوزيته للعمل، وبدأ إتحاد بلديات السويجاني البحث عن الطرق الآيلة للتشغيل، الى أن تمكن من ذلك بعد جهد جهيد. وذلك بعد تلقيه الدعم المادي والمعنوي من قبل الأستاذ جنبلاط. لكن عملية استيعاب المعمل للنفايات بقيت محدودة جداً. وبدلاً من أن يستوعب المعمل ما بين 40 الى50 طناً وهو المعدل التي تفرزه المنطقة بشكل يومي، لم يستوعب سوى 15 طناً في اليوم. فتكدست النفايات في محيطه بطريقة عشوائية، كما لم تكن عملية الفرز تتم وفق الأصول المتبعة علمياً وفنياً، ما جعل الشكاوى من طريقة التجميع والتكديس والفرز تتفاقم، مع ما رافق ذلك من ملاحظات وإنتقادات بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منه.

أبو كروم يتصدى للمشكلة ويستبدل الشركة المشغلة بفريق عمل دربه لهذه الغاية

متى بدأت بالإشراف شخصياً على تطوير عملية الفرز في المعمل؟

منذ اليوم الأول لإنتخابي رئيساً لبلدية مزرعة الشوف، وقبل أن أصبح رئيساً لإتحاد بلديات الشوف السويجاني. عكفت على دراسسة مكامن الخلل التي تعيق تشغيل معمل فرز النفايات بالطريقة المطلوبة. خاصة وإنني كمهندس قبل أن أتعاطى بالشأن العام كنت أعرف الكثير عن هذا المعمل وظروف إنشائه، والمشاكل التي تعيق تشغيله فور تسلمي رئاسة الإتحاد وعملاً بتوجيهات وليد بيك ومتابعة شبه يومية بعد ذلك من الأستاذ تيمور بعد تسلمه عباءة الزعامة من والده، قدمت بإسم الإتحاد كل التسهيلات والإمكانيات والتعاون بتصرف الشركة المشغلة المدمجة ( بريدي – ابومصلح ) لكن العمل في معمل الفرز لم يتطور ما أدى الى تفاقم المشكلة بدلاً من حلها.
وفي 10 – 9 – 2016 الموعد المقرر لتركيب المعدات المطلوبة بموجب دفتر الشروط الموقع من قبل الشركة المذكورة من أجل تطور العمل، توقف عمال المعمل عن تشغيله من دون سابق إنذار بهدف إرباك الإتحاد والضغط عليه. وبنتيجة هذا التصرف غير المبرر وتجنباً لوقوع أزمة في المعمل شكل الإتحاد فريق طوارىء وبدأنا تشغيل المعمل، مع كل المعدات التي تمنعت الشركة المذكورة عن تركيبها فزادت كمية الفرز وتبيّن الفرق. وبعد خلاف استمر لأكثر من شهرين فضّينا العقد حبياً مع الشركة المشغلة، فيما تولى الإتحاد تأمين كل المعدات المطلوبة بالتعاون مع وكالة التنمية البريطانية عبر مشروع انتاج بالتعاون مع جمعية (مرسيكورت) التي قدمت لنا (بيك آب – بوب كات – جرافة – مكبس). وأن كل هذه الخطوات التي تمت كانت بدعم من حضرة الرئيس لتأمين النقص الذي يحتاجه المعمل ومنها: (مولد كهرباء) فيما تولى الإتحاد شراء وتأمين كل المعدات الباقية، مع الإستمرار بتنظيم وتدريب فريق العمل، وتأمين الألبسة الخاصة ل، إضافة الى حل مؤقت لمشكلة العوادم وتجميعها مؤقتاً في المطمر وعزلها الى حين إيجاد الحل النهائي لها مع المؤسسات المعنية.

كم تبلغ كمية النفايات التي ترسل الى المعمل كل يوم؟

في البداية كانت كميات النفايات المرسلة الى المعمل يومياً تتراوح ما بين 23 طن الى 40 طن فيكون المعدل اليومي 33 طن. وبناء عليه تكون نسبة الفرز بمعدل 95 في المئة. أما عدد العمال في المعمل حالياً فهو 25 عامل بالإضافة الى مراقب عام. أما اليوم فأصبحت الكمية تناهز المئة طن، خاصة وإن إتحاد البلديات يضم القرى والبلدات: بعقلين – مزرعة الشوف – جديدة الشوف – عين وزين – الكحلونية – غريفة – عينبال – عترين – السمقانية. ويتم نقل جميع نفايات هذه القرى الى معمل الفرز، بالإضافة الى نفايات دير القمر وموقع قيادة الجيش في بيت الدين. كما يتم تنظيف المعمل بصورة مستمرة مع الباحات الخارجية. أما الطرق المؤدية اليه فهي شبه خالية من النفايات على عكس الفترة الماضية. كذلك تم تصريف المواد المفرزة مما ساهم بنظافة المعمل وتحسين مظهره.

كيف تتم عملية الفرز؟

عملية فرز النفابات تتم بشكل يومي، ولا يوجد تراكم للنفايات على الإطلاق لأن عملية التشغيل لاتتوقف طوال الإسبوع بما فيها أيام الأعياد.
بعد عملية الفرز تتحول النفايات الى أسمدة عضوية، وتتم عملية تسبيخ المواد العضوية. ويعمل الإتحاد حالياً على تطوير المعمل لتصبح عملية الإستيعاب فيه افضل. كما يتم نقل العوادم بواسطة شاحنة مخصصة لهذه الغاية بدلاً من الجرافة. ويوجد صيانة دائمة للآليات المستخدمة والمقدمة من قبل الإتحاد، مع تركيب كاميرات مراقبة لمنع السرقات إضافة الى وجود مطافئ ضد الحرائق، وإنترنت للتواصل السريع.

تنويه من قبل دي فريج على دورالإتحاد في عملية التشغيل

ماذا كان دور الدولة بعد تشغيل المعمل وزيادة كمية الفرز؟

في الماضي إقتصر دور الدولة على التنويه بما قمنا به، واليوم نحن نسأل أين هي الدولة. فلقد وجه لنا وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية في حكومة الرئيس تمام سلام نبيل دي فريج كتابين:
الأول بتاريخ 4 – 7 – 2016 طالبنا بموجبه بتحسين الأداء في المعمل بأسرع وقت ممكن. ثم أرفقه بكتاب تنويه جديد وقعه بتاريخ 9 – 12 – 2016 أي بعد اقل من خمسة أشهر على كتابه الأول، جاء فيه نشكر لكم جهودكم المتعلقة بتشغيل المعمل ونؤكد على أهمية التقيد بالتوصيات الواردة في التقرير المرفق من أجل تحسين الأداء وعلى ضرورة الإلتزام بالشروط الفنية المشار اليها في المرجع أعلاه.

معركة حطّين

مثلما يبزغُ ضوء النّهار من عتمة اللّيل الحالك، هكذا بزغ نجم صلاح الدّين الأيوبيّ من عتمة الحقبة التاريخيّة السالفة بكلّ آلامها وسوداويّتها، فكانت «معركة حطين» (في 4 تموز 1187) لؤلؤة انتصاراته، و«بداية النّهاية» للوجود الفَرنجي (الصّليبي) في هذه المنطقة.
إذ إنّ المكان الجغرافي يبقى مجرّد جغرافيا فقط إذا لم يكن هناك إنسان يُدخله التاريخ، هكذا هو الحال مع «حطين» التي كان للقائد صلاح الدين شرف إدخالها التاريخ من بابه العريض، فغدت بذلك «جغرافيا تاريخيّة» و«تاريخاً جغرافيّاً» بامتياز، وعلى هذا الأساس تبقى حِطّين دائماً أكبر من كلّ ما كُتب وما سيكتب عنها.
فلا تاريخ بلا جغرافيا، ولا جغرافيا بلا تاريخ، ولا تاريخ وجغرافيا بلا إنسان يعطي الجغرافيا أهميّتها التاريخيّة، ويعطي التاريخ أهميّته الجغرافيّة؛ بمعنى التّلازم الوثيق بين المكان والزّمان والإنسان. هكذا هي «حِطِّين» (كموقع جغرافي)، و4 تموز 1187 (كزمن تاريخيّ) وصلاح الدين (كإنسان قائد كبير).
ولعلّ المُستشرق البارز هاميلتون جيب كان مُصيباً في قوله: إنَّ «صلاح الدين الأيوبيّ نجح في كلّ ما نجح فيه ليس لأنّه استراتيجيّ عسكريّ باهر، أو سياسيّ تكتيكيّ ماهر، فقط، بل لأنّه تمسّك أولاً وأخيراً بالمُثُل الأخلاقيّة، وبضرورة لمّ الشمل وتوحيد الكَلِمة».
فماذا عن معركة حِطّين وقائدها صلاح الدّين؟ وماذا عن البُعد الاستراتيجي لها؟ وما الدروس والعِبَر المُستخْلَصَةُ منها على الصعيد الغربيّ، وعلى الصعيد العربيّ، وعلى الصعيد الإسرائيليّ الصهيونيّ؟
تُعْتَبر معركة حِطّين من أهمّ المعارك في التّاريخ التي أثارت اهتمام العالم الغربيّ والعربيّ والإسلاميّ، ولا تزال دروسها ومآثرُها جديرة بكلّ اهتمام.
فعندما تتفرّق الكلمة، تضعف المواقف، وتنهار القوى، وتتزعزع الإرادات، وتضيع الأوطان، وتُهان الهوية. وإذا توحدت، يحصل النقيض، وتحتفظ أيّة أمّة بكيانها وهيبتها وهويّتها، ولقد عرفت بلادنا العربية وأمتنا هذين النقيضين في القرن الحادي عشر للميلاد، لمّا كان كلّ حاكم عربي يغنّي على ليلاه، ولا يفكّر إلا بشخصه ومُلكه ونفوذه، بعيداً عن مصلحة الجماعة، في الوقت الذي توحّدت فيه قوى الغرب لشنّ حربها على الشرق بغية «انتزاع الأماكن المقدّسة من أيدي المسلمين».
لقد خيّم على بلادنا، في ظل أولئك الحكّام، جوٌّ من التّفرقة والتمزّق، بينما كان جوّ الوحدة يخيم على الغرب رغم كثير من الخلافات والعداوات بين ملوكه وأُمرائه، الذين أوجدوا قاسماً مشتركاً فيما بينهم ضدّ المسلمين والشرق.
تذرّع الفرنجة – الذين أُطلق عليهم اسم الصّليبييّن – بحججٍ وذرائعَ شتّى في سبيل الاستيلاء على بيت المقدس وانتزاعه من أيدي المسلمين. ولمّا كان للعامل الدينيّ أثره الأوّل والأساس في ذلك العصر، فقد كان لكلمة البابا أوربانوس الثاني ودعوته إلى تجنيد الجيوش لهذا الغرض، إضافة إلى دور الرّهبان والقساوسة ورجال الدّين المسيحيين، فقد كان لكلّ ذلك تأثيره المهمّ على سير الحملات التي عُرفت بـ «الصليبية» بدءاً من سنة 1096 ميلادي، مع أن العوامل الأخرى – غير الدينيّة – كانت لها أهميتّها الأولى غير الظاهرة. فوق كلّ ذلك، ورغم هذا الخطر الذي كان يهدد الأقطار العربية والإسلامية، إذ كانت هذه الأقطار موزّعة بين خلافتين: الخلافة الفاطميّة في مصر، والخلافة العباسيّة في بغداد…، أمّا الأندلس فقد كانت تتعيش حالة من التمزّق والانحدار نحو السقوط المتدرّج في عصر ملوك الطوائف وعموماً فقد كانت خلافة بغداد والقاهرة كلتاهما تعانيان من الوهن وتردّي السلطة وشيوع الفرقة ما يغري بالإغارة عليهما واستباحة حماهما، ولقد جاءت الغزوة الصليبيّة الأولى على الشرق العربي/الإسلامي سنة 1096، ونجحت في تكوين مملكة لاتينيّة في القدس بقيادة «غودفروا دي بويون» ابن كونت بولونيا، كما نجح الفرنجة فيما بعد بتأسيس عدد من الإمارات كإنطاكية والرّها وطرابلس.
انتشى الصليبيّون بنشوة النّصر، وتتالت غزواتهم، وما أن كانت الحملة الثالثة التي قادها ريتشارد الأول ملك إنكلترا، والملقّب «بقلب الأسد»، والى جانبه ملك فرنسا فيليب أوغست، حتى كانت الأمّة العربيّة والإسلامية تعيش وضعاً أفضل من زمن الغزو الأوّل (عام 1096) في ظلّ قائد شجاع، تمكّن من إدراك مكامن الضّعف والقوّة فوحّدها وانتشلها من الحضيض، وأعاد لها هيبتها الزاهية، ذلك هو صلاح الدين الأيوبيّ، الذي وجّه للصليبييِّن ضربة قاضية في معركة من أكبر معارك التاريخ الفاصلة؛ هي معركة حطين في 4 تموز 1187.

ولد يوسف بن نجم الدين أيوب (الذي حمل لقب صلاح الدين فيما بعد) في قلعة تكريت التي كان والده حاكماً عليها، وقد انتقل مع والده إلى الموصل على أثر خلاف بين الوالد وبين «بهروز» حاكم بغداد الفعلي تحت اسم خلافة عباسيّة صُوَرِيّة لادور لها، ودخل وأخوه شيركوه في خدمة عماد الدين زنكي حاكم الموصل، ولما شبَّ صلاح الدين انخرط أيضاً في خدمة هذا الحاكم العظيم.
كان صلاح الدين من القادة الموهوبين عسكريّاً، ذا شخصية فذّة، وإرادة قويّة، ومعرفة في فنون الحرب والسياسة، وكان ذا خُلق متين، يتميّز بإنسانيّة ونبل، قلَّ أن وُجدت في تلك الفترة التي عاش فيها، وقد نال إعجاب خصومه وأعدائه وتقديرهم قبل أصدقائه، وإنّ أفضل حُكْمٍ ما نطقت به الأعداء قبل الأصدقاء – كما يقولون-.
كان صلاح الدين الأيوبي يصحب عمّه في غزواته ويتولّى قيادة قسم من الجيش، ويُبلي البلاء الحسن. وكانت له وقائع مشهورة في تلك السنّ المبكرة، وخاصة بما وُفِّق فيه من دفع الصليبييّن عن الاسكندرية في إحدى غاراتهم البحرية.
ولم تكن ناحية القيادة وحدها هي التي لفتت الأنظار إلى صلاح الدين، بل إنّ شجاعته وإقدامه وآدابه وحسن معاملته للأهالي قد جعلت له منزلة محمودة، فقال في ذلك أحد المؤرخين:
«والذي أدهش المسيحييّن من أمر صلاح الدين هو مروءتُه وشهامته وكرامته وكرمه وحلمه ومحافظته على العهود» ففي تلك الفترة كانت مصر تتخبّط في حالة من الفوضى والاضطراب لا توصف، فدفع إليها نور الدين زنكي جيشاً لإنقاذها بقيادة أسد الدّين شيركوه، وكان صلاح الدين في عداده، وقد اشتبك هذا الجيش عدّة اشتباكات مع الصليبييّن في غزوتين، أمّا في الغزوة الثالثة فقد استولى شيركوه على مصر بدون دماء، وخلع عليه العاضد، آخر خليفة فاطمي (وكان هذا في حالة من الضعف والمرض لاحول له ولا طول)؛ بالوزارةَ لمباشرة مهام الأمور فيها.
وعلى أثر موت شيركوه، لم يعد يصلح للوزارة في مصر غير صلاح الدين، فصدر إليه أمر الخليفة الفاطمي في 23 آذار / مارس / سنة 1169، وقد جاء فيه: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجة عند الله لديك، فأوفِ بعهدك وخذ كتاب أمير المؤمنين بيدك». وكان اللقب الذي عُرف به صلاح الدّين: «الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدّنيا والدين يوسف بن أيوب».
ولم يكن صلاح الدّين حين قُلِّد الوزارة أربى على الثانية والعشرين من عمره، ولكنه عمرٌ حافلٌ بخبرة الحرب والقيادة والإدارة، وقد استطاع بحنكته أن يظفر بحبّ المصريين، وألّا يفقد ثقة سيّده في الشام والعراق نور الدين زنكي.رغم دبيب الرّيب بينهما.
ولعب القَدَرُ دوره إلى جانب صلاح الدين، عندما تُوفّي نور الدين زنكي والخليفة الفاطمي العاضد وآموري ملك القدس، فخلا له الجو وأصبح السيّد المطلق في مصر، والقائد الأقوى بين جميع قادة المسلمين آنذاك، فراح يجمع الصفوف ويحشد القوى ويستعدّ للذّود عن حياض العروبة والإسلام. وكان أمله الكبير يتمثّل في توحيد مصر وسورية وفلسطين. وبذلك وحده يمكن إنقاذ البلاد ودفع الخطر الصليبيّ عنها.
بلغت قوة صلاح الدين ذروتها، مما دفع الصليبيين إلى أن يعقدوا معه هدنة مدّتها أربع سنوات بدءاً من عام 1185. إلا أن سياسة «أرناط» الصّليبيّ صاحب حصن الكرك وانقضاضه على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق، عام 1187م كانت سبباً مباشراً في خرق الهدنة وإعلان الحرب،فكانت «معركة حِطّين» هي الفاصل الرّئيس بين استمراريّة التهديد بالتوسّع الصليبيّ في المنطقة ، وبين حياة التخلّص من ذلك الكابوس المُذل…
والحقيقة أنّ صلاح الدين كان قد فرغ من إحياء الجبهة الإسلامية المتّحدة بعد أن دانت له الموصل بالطاعة، واستطاع توحيد مصر والشام والعراق والجزيرة، الأمر الذي جعل الفرنجة في فلسطين مطوّقين من الشمال والجنوب والشرق، وزاد من سوء وضع مملكة الفرنجة في بيت المقدس، اضطراب أوضاعها الداخلية نتيجة لوفاة ملكها المريض «بغدوين الرابع»، وقيام ملك قاصر هو «بغدوين الخامس» الذي لم يلبث أن توفي هو الآخر ممّا أدى إلى سلسلة من المؤامرات الداخليّة بين الفرنجة انتهت بتنصيب «غي لوسينيان» على عرش المملكة الصليبيّة سنة 1186 م، وكان غي هذا رجلاً ضعيفاً لم يستطع أن يحظى باحترام أمراء دولته وعلى رأسهم «أرناط» صاحب حصن الكرك، ‎الذي لم يشأ أن يترك الفرنجة في فلسطين ينعمون بفرصة الهدنة لتصفية خلافاتهم الداخليّة، واختار أن ينقضّ على قافلة المسلمين تلك التي أُشير إليها، فعجّل بالمعركة الحتمية بين صلاح الدين والفرنجة برفضه إطلاق سراح أسرى رجال هذه القافلة، ولما اتضح لصلاح الدين عجز الملك «غي لوسينيان» عن ردع «أرناط» وإجباره على ردّ الأسرى لم يعد أمامه إلا القتال؛ فقام بحركة تعبئة شاملة لقواته التي أخذت تتوافد عليه من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر، ولمّا اكتملت قواته خرج على رأسها من دمشق في آذار 1187 ليهاجم حِصْنَيِّ الكرك والشّوبك، فاصطدم بالفرنجة عند صفوريّة في موقعة سقط فيها معظم أفراد جيشهم بين قتلى وأسرى، في حين عَدّ المسلمون هذا النصر «باكورة البركات».

أمّا الصليبيون فقد ثابوا إلى رشدهم بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، فوحّدوا صفوفهم، وحاولوا أن يتناسَوْا خلافاتهم، وحشدوا قواتهم عند صفوريّة، وهنا ظهرت براعة صلاح الدّين العسكريّة مستفيداً من دروس أسلافه القادة العرب، فقرّر ألّا يتقدم نحو الصليبييِّن لمنازلتهم، واختار أن يستدرجهم ليسيروا نحوه فيصلوا إليه مُنْهَكين من طول الطريق وحرارة الجوّ وقلّة الماء، ولذلك بادر صلاح الدين بمهاجمة مدينة طبريّة وإحراقها – وكانت في أيدي الفرنجة – الأمر الذي استثارهم فزحفوا لتخليصها في ظروف قاسية. وكان صلاح الدين ورجاله ينتظرونهم قرب طبريّة ناعمين بالماء الوفير والظلّ المديد، مدّخرين قواهم لساعة الصفر، وعندما سمع صلاح الدين بأن الصّليبييِّن شرعوا في الزّحف إليه، تقدّم على رأس رجاله نحواً من خمسة أميال ليرابط غربيّ طبرية عند قرية حطّين، الواقعة في منطقة غنيّة بالمرعى وفيرة الماء، بها قبر النبي شُعَيب، وكان ذلك في تمّوز 1187، في يوم راكد الهواء، شديد الحرارة، بلغ فيه الفرنجة «سطح جبل طبرية» المشرف على سهل حطّين، وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300 مترٍ ولها قِمّتان أشبه بالقرنين، ممّا جعل العرب يُطلقون عليها اسم «قرون حِطين». وقد حرص صلاح الدين على أن يقف رجاله بحيث يحولون بين الفرنجة والوصول إلى ماء بحيرة طبرية في وقت «اشتد بهم العطش»، ثم أمر صلاح الدين بإشعال النار والأعشاب والأشواك التي تكسو الهضبة، وكانت الرّيح تهبُّ باتجاه الفرنجة، فحملت حرّ النار والدّخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش، وحرّ الزّمان، وحرّ النار، والدّخان وحرّ القتال» على حد قول ابن الأثير.
وعندما أشرقت شمس يوم السبت، الرّابع من تموز 1187، اكتشف الفرنجة أنَّ صلاح الدين استغلَّ ستار الليل ليضرب نطاقاً حولهم حتى أحاطت بهم قواته «إحاطة الدائرة بقطرها». وبذلك بدأ الهجوم الشّامل على الفرنجة وهم في أسوأ الظروف فأخذتهم سهام المسلمين، وكَثُر فيهم الجراح وقوي الحرّ وسامهم العطش الفرار» حسب قول المؤرخ ابن واصل.
وقاتل الجيش الفرنجي ببسالة لا نظير لها متحمّلاً عطشه ونار خصمه، لكنّ هجمات المسلمين ظلت تتكرّر دون أن تترك للعدو مجالاً لالتقاط أنفاسه فانهزم مشاتُه، أمَّا فرسانه فقد لاذ قسم منهم بالفرار مُخترقاً صفوف المسلمين بقيادة «ريموند» أمير طرابلس، وارتدّ قسم آخر نحو تلّ حطين حيث نُصبت خيمة الملك «غي» والتفّ حولها نحو ماية وخمسين فارساً يدفعون المسلمين عنها، وأدرك صلاح الدّين أنّ هزيمة الصليبيين تتم ساعة تُدَكّ خيمة مليكهم، فأرسل إلى تلك الخيمة وحاميتها موجة من الجند المهاجم إثر موجة، حتى رآها تُدَكّ، ويقع الملك «غي» وسائر الأمراء والفرسان الصليبييِّن، وفي مقدمتهم «رينو دي شاتيّون» المعروف عند العرب بـ«أرناط» (صاحب حصن الكرك)، كلّهم وقعوا أسرى بين أيدي الجنود المسلمين، وقد سيقوا مع غيرهم من أكابر الفرنجة (خاصة جيرار مقدّم فرسان الدّاوية) الى صلاح الدين في مخيّمه، فأحسن استقبالَهم وأمر لهم بالماء المثلّج ليرووا ظمأهم، لكنّه قطع رأس «أرناط» بسيفه تنفيذاً لوعد قطعه على نفسه إذا وقع هذا الأميرُ في قبضته، وذلك لخيانته الميثاق الذي كان قد سبق وارتبط به معه، ولجرائمه السابقة في قتل الأسرى، وكان صلاح الدين قد ذكّر ‎أرناط بجرائمه وقرَّعه بذنوبه وعدّد عليه غَدراته.

ويختلف المؤرّخون في تقدير عدد قتلى الصليبييِّن وأسراهم في هذه الوقعة حيث ذكر بعضهم «إنَّ عدد قتلاهم كان اثنين وعشرين ألفاً، وذكر آخرون أنّه كان خمسين ألفاً». كما ذكر أنّ المسلمين قتلوا ثلاثين ألفاً وأسروا مثلها، لكنّ أدقّ وصف يمكن اعتماده في هذا المجال هو قول المؤرخ ابن الأثير: «وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحداً، وكذلك قال المؤرخ «أبو شامة» في كتابه «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين».
في الواقع، لقد أثبت صلاح الدين الأيوبيّ أنّه ليس هناك سلام بغير قوّة، وأن احتلال الأراضي لا يقضي على الأمم، ولكن الذي يقضي عليها هو احتلال إرادتها، وليس بعدد السنوات يُقاس عمر الشعوب والأوطان… (وقد استردّ صلاح الدين بيت المقدس بعد نحو 90 سنة على احتلال الصليبييّن لها). ولكن، ماذا أدخل صلاح الدين في القاموس العسكريّ من مصطلحات جديدة من خلال معركة حطين؟ وما الأهمية الكامنة فيها؟

أولاً: كرّس بما لا يقبل الشّكَّ تأثير العوامل الجغرافيّة وتضاريس الأرض على سير المعارك والحروب، والرَّبط والدمج بين الجغرافيا والحرب في العلم العسكريّ.

ثانياً: استخدم استراتيجيّات جديدة سبق الغرب الأوروبيُّ (والأميركي فيما بعد) فيها بأكثر من 800 سنة (كاستراتيجية الحرب الاستباقيّة (أو الوقائيّة) + واستراتيجيّة الأرض المحروقة، قبل الروس والألمان (والأميركييّن فيما بعد) + واستراتيجيّة «السلاح الكيماوي» البدائي الممثل بحرائق الأشجار والأعشاب الجافّة + استخدام «سلاح التعطيش» ضد الصليبييِّن و«طمر الينابيع» وتدمير صهاريج المياه وتلويث الآبار فأصبح أعداؤه بين حرَّين، وهم عطشى: حرّ النار وحرّ الصيف. يضاف إلى ذلك «سلاح الاستدراج» الذي استخدمه صلاح الدين ضد أعدائه، إلى المكان الذي اختاره هو، وفق استراتيجيّة السيطرة على الموارد المائيّة والزراعيّة)… وصولاً إلى توصية هامّة تقول: وكم من أرض قتلت جاهلها فعلاً.

ثالثاً: لم يتفرّد صلاح الدين برأيه وموقفه الشّخصيّ في معاركه – ومن بينها معركة حطين بالطبع-، بل كانت استشارته لمعاونيه ومساعديه (المستشارين) ذوي الخبرة في الشؤون الجغرافيّة والمسالك والبحر من أهم العوامل المساهمة في الانتصار أيضاً … ولعلّ أشهرهم كان القاضي الفاضل…

رابعاً: إنّ هذه السياسة العسكريّة التي اتبعها القائد صلاح الدين كانت نتيجة «المدرسة العسكرية الصلاحيّة النوريّة» حيث من هذه المدرسة تخرّج أيضاً العادل والكامل والمظفّر الذين انتهجوا «استراتيجية المياه» (التعطيش + طمر الآبار + تلويثها وتسميمها + إغراق الأراضي بالمياه لتصبح مستنقعات موحلة تعيق تحركات العدوّ العسكرية). بالإضافة إلى «استراتيجيّة الاستدراج» + وسلاح طوبوغرافية الأرض + والمناخ والأمطار والحرارة + واستراتيجية تخريب وتدمير (وفق سياسة «الأرض المحروقة» المعروفة اليوم) + وحرق الأعشاب والغابات لإنتاج الدّخان الخانق (كسلاح كيماوي طبيعي…)…


في ضوء ذلك، نتساءل: ماذا أفرزت معركة حطّين من نتائج ذات طابع استراتيجي غربياً وعربياً وإسرائيلياً؟ وما هي العبرة المركزية منها على مختلف الصّعد؟

على الصعيد الغربي:

أولاً: إدراك القوى الغربيّة ذات الطابع الاستعماري العنصري لأهمية الموقع الجغرافي (الجيو-سياسي والاستراتيجي) للمنطقة العربية بين القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا، فضلاً عمّا تزخر به من طاقات بشريّة وطبيعيّة دفينة تشكل خطراً داهماً في وجه القوى الدولية إذا امتلكها شعب هذه المنطقة وتحكّم بها، إضافة إلى ما تتميّز به على صعيد الممرّات المائية والبحار والمضائق كعصب مهم جداً مستقبلاً.

ثانياً: شكلت «حروب الفرنجة» (المعروفة بالحروب الصليبيّة) رأس الحربة للغرب ضد هذه المنطقة تحت حجج وذرائع شتّى. وهذه الحروب هي ذاتها التي أفرزت أخطر وأقدم وصيّة لضرب العرب والمسلمين منذ نحو ثمانية قرون، ولا تزال تُدَرَّس في الغرب، وهي المتمثّلة بوصيّة الملك الفرنسي لويس التاسع (قائد الحملة الصليبيّة إلى مصر وقد اعتُقِل على أثرها وسجن بين جدران دار ابن لقمان لمدّة شهر كامل في جزيرة الورد عام 1250)، حيث قال فيها – بعد تأمّل وتفكير عميقين – موجّهاً كلامه إلى الغربيين: «إذا أردتم أن تهزموا العرب والمسلمين فلا تقاتلوهم بالسّلاح وحده. فقد هُزِمتم أمامهم في معركة السّلاح. ولكن حاربوهم في عقيدتهم ووحدتهم، فهي مكمن القوّة فيهم»…
هذا، وقد شكّلت هذه الوصيّة أخطر وثيقة في هذا الاتجاه (وهي محفوظة في دار الوثائق القوميّة في باريس)، وهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عمليّة التبشير والاستشراق.
كما أوصى في نهايتها بضرورة «العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً، وأنطاكيا شمالاً، ثمّ تتجه شرقاً وتمتد حتى تصل إلى الغرب»…

ثالثاً: على أساس وصيّة الملك لويس التاسع وأهميّة المنطقة العربيّة في مشروع الشرق الأوسط، كان مؤتمر «كامبل بنرمان» (رئيس الوزراء البريطاني) عام 1905، الذي دعا إليه كبار المفكّرين والاستراتيجيين الغربييّن، طارحاً عليهم السؤال الوحيد وهو: «ما هي الوسائل الكفيلة بتأخير سقوط الامبراطوريات الاستعماريّة، كي لا تنهار مثلما انهارت امبراطوريتا الإغريق والرومان؟». وبعد عامين على هذا المؤتمر صدر التقرير الذي عُرف فيما بعد بـ «تقرير كامبل بنرمان» (عام 1907) حيث جاء فيه إنّ من يسيطر على منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسّط، يستطيع التحكّم في العالم. حيث في هذه المنطقة يتواجد شعب واحد، تتوفر عنده كلّ مقومات الأمّة والقومية، وفي أرضه ثروات هائلة تشكّل عصب حياة الغرب والغربييِّن، وهي بالنّسبة لهذا الشعب بمثابة «روحه»، ويجب على الغرب التحكّم بهذه الروح والسيطرة عليها. كما يجب العمل على إبقاء هذا الشعب بحالة من التمزّق والتّفرقة والتقسيم والقتال الدّاخلي.. وكانت التّوصية الأخيرة في تقرير بنرمان هذا شبيهة تماماً لوصيّة الملك لويس التاسع، حيث تقول: «يجب العمل بكل الإمكانات لخلق حاجز بشري قوي وغريب، يفصل الجزء الآسيويّ عن الجزء الأفريقيّ في المنطقة العربيّة، عدوّ لسكان المنطقة، وحليف للغرب»… وبعد أربعين عاماً كانت ولادة «إسرائيل» في هذه المنطقة المحدّدة بالضبط، وحقيقة الأمر أنه على أساس ذلك، كانت اتّفاقية سايكس -بيكو (1916)، ووعد بلفور(1917)، ومؤتمر فرساي (1919)، ومؤتمر سان ريمو (في إيطاليا 1920) الذي وزّع الانتدابات على الدّول العربيّة وكانت فلسطين من حصّة بريطانيا تمهيداً لقيام «الوطن القومي اليهودي» فيها. والغرابة «أنّ قلّة بسيطة في الوطن العربي تعرف بأن اتفاقية سايكس-بيكو كانت صهيونية مئة بالمئة» ولو كانت الواجهة لها بريطانيّة فرنسيّة.. وكذلك الحال بالنسبة لوعد بلفور البريطاني عام 1917، حيث يجهل الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين, أنّ وعداً فرنسيّاً أعطي لليهود الصهيونييّن في باريس (هو وعد جولز كامبو) قبل خمسة أشهر من وعد بلفور البريطانيّ (وتحديداً في حزيران 1917) رفعه كامبو ‎إلى سوكولوف بعد اجتماعات عدّة حضرها رئيس الوزراء الفرنسي يومها (ريبو)، حيث كان كامبو يومها السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة، في الوقت الذي كان فيه ناحوم سوكولوف، ممثّل الحركة الصهيونيّة في فرنسا…

وهكذا، في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 1917، نشرت الحكومة الفرنسية الرّسالة- الوعد التي أرسلتها إلى ممثل الحركة الصهيونيّة في فرنسا، وفيها إعلان صريح من جانب الحكومة الفرنسيّة عن عطفها على المخطط الصهيونيّ، والرسالة موقّعة من قبل السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة كامبو، جاء فيها:
«لقد تفضّلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم له، والذي يهدف إلى تنمية الاستعمار اليهودي في فلسطين. إنّكم ترَوْن أنّه إذا سمحت الظّروف من ناحية، وإذا توافر ضمان استقلال الأماكن المقدّسة من ناحية أخرى، فإنَّ المساعدة التي تقدّمها الدّول المتحالفة من أجل بعث القوميّة اليهوديّة في تلك البلاد التي نُفِيَ منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة، ستكون عملاً ينطوي على العدالة والتعويض».
وتضيف الرّسالة: «إنّ الحكومة الفرنسيّة التي دخلت هذه الحرب الحاليّة، للدفاع عن شعب هوجم ظلماً والتي لا تزال تواصل النّضال لضمان انتصار الحقّ على القوة، لا يسعُها إلّا أن تشعر بالعطف على قضيَّتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء، إنَّني سعيد لإعطائك مثل هذا التأكيد».
وقليلون جداً في الوطن العربي هم الذين أدركوا صهيونيّة مارك سايكس وجورج بيكو، كما يعترف كريستوفر (ابن مارك سايكس) بصراحة في كتابه الذي صدر عام 1953، ويتناول فيه ريتشارد سبثورب أحد رجال الكنيسة في القرن الماضي، كما تتناول دارسته الأخرى حياة والده مارك (وعنوان كتابه هذا: دارسة مأثرتين) حيث يقول عن والده في جهوده نحو الصهيونيَّة «كان قد اعتنق الصهيونيّة سنة 1915» (أي قبل توقيع المعاهدة بسنة واحدة) اعتناقاً لم يَدْرِ به العرب، وكانت مساعيه من أقوى العوامل في حصول اليهود على وعد بلفور.
كذلك الحال بالنسبة للرَّئيس ويلسون الأميركي صاحب المبادئ الأربعة عشر المتضمِّنة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، فإنّه لعب دوره الخطير إلى جانب الوطن القومي اليهودي من خلال وعد بلفور وهو الذي قال عن اتفاق سايكس بيكو إنّه ظاهرة من ظواهر الاستعمار وعمل مناقض لحقِّ الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وعن طريق المفاوضات التي جرت بين بريطانيا وأميركا بصدد وعد بلفور والنص الذي يجب أن يصدر به كان للرئيس ويلسون دوره الأول في اختيار الكلمات التي تضمّنها هذا التصريح حيث انتقاها كلمة كلمة، فأتت بما هو معروف اليوم بوعد بلفور وبشكل كتاب رسمي موجّه من بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد الصهيوني، وقد تلقّى ويلسون رئيس الولايات المتحدة من لويد جورج ومن وايزمن نصَّ ما اتُّفق عليه من عبارات وعد بلفور فوافق على ذلك وباركه قبل أن يصدر الوعد رسميّاً في 2 ت2 سنة 1917. وعلى هذا الأساس، كانت أميركا الدّولة الأولى التي اعترفت «بقيام إسرائيل» فور إعلان دافيد بن غوريون عن قيامها 1948. وكذلك كان حال أوّل مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين عام 1920، الصهيوني هربرت صموئيل، تمهيداً لقيام هذه الدولة على أرض فلسطين العربيّة تنفيذاً لوصيّة الملك الصليبي لويس التاسع عام 1250، وتقرير كامبل بنرمان 1907… ولقد قال حاييم وايزمن عن هربرت صموئيل: إنه صموئيلنا. نحن عيّنَّاه في هذا المنصب…

رابعاً: أَلَمْ يقُل الجنرال غورو الفرنسيّ أمام قبر صلاح الدّين الأيوبي في دمشق (بعد معركة ميسلون) عام 1925: ها نحن عدنا يا صلاح الدين؟ وكذلك فعل الجنرال اللّنبي حين دخل فلسطين والقدس بعد الحرب العالميّة الأولى ومطلع عهد الإنتداب؟
خامساً: أَلَيْسَ مشروع المستشرق الأميركي برنارد لويس اليوم حول تقسيم الشرق الأوسط بموافقة الكونغرس الأميركي بالإجماع، الدليل الحيّ للحفاظ على أمن وسلامة إسرائيل في المنطقة، والانتقام من معركة حطين وقائدها صلاح الدين الأيوبي في القدس وتهويدها؟

على الصعيد العربي:

أولاً: كان قيام دولة الاحتلال الصهيونيّ على أرض فلسطين العربيّة سنة 1948، ردّاً صليبيّاً جديداً على معركة حطِّين وقائدها الأيوبيّ، واستمراراً للحروب الصليبيّة ومُكَمّلاً لها…
ثانياً: العمل بكلّ الجهود الغربيّة والصهيونيّة على جعل فلسطين «دولة يهوديّة» وتهويد القدس ردَّاً على «مملكة القدس الصليبيّة»… والإبقاء على الشعب العربي والدّول العربيّة في حالة انقسام وتمزّق وتفتيت وخلاف، ليسهل على «إسرائيل» التحكّم بمقاليد الأمور.
ثالثاً: أعادت حرب تشرين الأول 1973 الرّوح إلى معركة حطين… وكان توحيد الجبهة السوريّة المصريّة بقيادة الرئيس حافظ الأسد والرّئيس أنور السادات هو التَّجسيد الحيّ للوحدة السوريّة المصريّة التي أفرزت الانتصار في معركة حطّين… وهذا هو الدرس الهامُّ من «الوحدة السياسيّة والعسكريّة» حيث يستبسل الجنديُّ العربي عندما يتوفّر له القرار السياسيّ بالقتال… وكان من الممكن أن يلاقي الإسرائيليّون نفس الهزيمة الصليبيّة في حطّين، وقد عاشوا حالة الهزيمة هذه بتفاصيلها الدقيقة لولا الجسر الجوّي الأميركي الذي أنقذ أسرائيل من نهاية قاسية… وبدأت التفكير باستخدام السلاح النّووي…
رابعاً: هذا، وفي ذكرى مرور ثمانية قرون على معركة حطين احتفلت القاهرة بهذه الذكرى عبر ندوة فكريّة مهمّة بدعوة من منظّمة تضامن الشعوب الآسيويّة والأفريقيّة تحت عنوان «حطين صلاح الدين ومستقبل العمل العربيّ الموحّد»، شارك فيها عدد كبير من الباحثين والمفكّرين العرب والأجانب، وقد أشرف على التحضير لها أحمد حمروش رئيس اللجنة المصريّة للتضامن من الآسيوي الأفريقي، وعبد المجيد فريد رئيس مركز الدّراسات العربيّة في لندن (شارك فيها: شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وبابا الاسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسيّة البابا شنودة الثالث والكاتب الكبير محمّد حسنين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوي وأحمد شوقي ود. عبد العال الصكبان ود. محمّد حسن الزيّات ود. قاسم عبده قاسم…).

على الصعيد الإسرائيلي الصهيوني:

من هذا المنطلق، ليس صدفةً أبداً أن تعمد القيادات الإسرائيلية وبمناسبة مرور 800 عام على معركة حطين، إلى إعداد احتفال أقامته أكاديميّة العلوم التاريخية في تل أبيب: دعت إليه عدداً كبيراً من المؤرخين والأساتذة والباحثين من شتى أنحاء العالم. وهذا نموذج يدلّ على مدى الوعي الصهيوني بأهميّة استخدام التاريخ ضمن أسلحة الصّراع ضد العرب. كذلك كان طبيعيّاً أن يطرح الصهاينة سؤالهم عن الأسباب التي دفعت الصّليبييِّن إلى الجلاء عن بيت المقدس بعد حوالي قرنين من الزمن، كي يتلافَوْا هم، نفس المصير الذي لاقاه الصليبيّون في ذات البلاد التي اغتصبوها باسمهم ضمن عملية الثأر التاريخي. حيث إنّ المكوّنات الأساسيّة بين الحركة الصليبيّة والحركة الصهيونيّة متشابهة.
وقد اكتشف الإسرائيليّون أنّ الصليبييِّن هُزموا وجَلَوْا عن هذه البلاد بسبب الخلافات بين أُمرائهم من جهة، وانقطاع الروابط بينهم وبين القوى التي تزوّدهم بالمال والسلاح وأسباب البقاء، لذلك تعلّمت إسرائيل الدرس وعملت – وتعمل – على إبقاء الروابط الخارجيّة وتدعيمها، ولهذا تشترك في برنامج حرب النجوم الأميركي واتفاقيّة منظَّمة التجارة الحُرّة وتسعى للانضمام إلى الحلف الأطلسيّ… كما يقوم الكيان الصهيونيّ بدرس المستوطنات الصليبيّة بمنظور معاصر ليحاول من خلالها فهم المشكلات التي أدّت إلى فشل الكيان الصليبيّ باعتباره كياناً دخيلاً…

خلاصة عامّة:

في الواقع، إنّ معركة حطّين بالنّسبة إلى الفرنجة كانت أضخم من كارثة حربيّة لأنّه لم ينتج عنها أسر ملكهم وضياع هيبة مملكتهم وسلطتها الفعليّة في فلسطين وحسب، وإنّما نتج عنها نقص واضح في الفرسان المحاربين، بعد أن سقط زهرة فرسانهم بين قتيل وأسير، وهكذا غدت فلسطين عقب معركة حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبيَّة واحداً بعد آخر، حتى توّج جهاده بتحرير بيت المقدس في سنة 1187، وتابع فتوحاته نحو بيروت حيث كان التنوخيّون الموحّدون في إمارتهم إلى جانبه بقيادة الأمير حِجى وبعد فتحها لمس صلاح الدين رأس حجى قائلاً له «ها نحن أخذنا بثأر آبائك فاطمئِنّ»، ثمّ أقطعه المقاطعات التي كانت لآبائه باستثناء بيروت.
هذا، ولا بدَّ من الإشارة إلى أهمّيّة بيت المقدس في نظر صلاح الدين الأيوبيّ والمسلمين قاطبة، عندما ردّ على الملك الإنكليزي، ريتشارد قلب الأسد أثناء المفاوضات بينهما قائلاً له بشكل قاطع: «أمّا القدس فهو لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم ممّا عندكم. ففيه مسرى نبيِّنا ومجمعُ الملائكة… فلا تتصوّر أنّنا ننزل عنه! أمّا البلاد فهي لنا في الأصل، واستيلاؤكم عليها كان طارئاً لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الحين».
فهذه هي رسالة صلاح الدين الأيوبيّ، قبل ثمانمئة وثلاثين عاماً تقريباً. وهي رسالة صالحة لأيّامنا هذه رغم مرور هذه المدّة من‎ الزّمن… ونقول: ما أشبه اللّيلةَ بالبارحة… بمعنى: أنَّ بلاد العرب للعرب وحدَهم وأنّ وجود الصهيونييِّن ظاهرة شاذَّة كوجود الصليبييِّن بالأمس.
وهدف الرسالة هو توحيد الصّفوف وجمع كلمة العرب لكي نفوّت الفرصة على الصهيونيّة ومن ورائها الاستعمار، ويُقضى على كلّ نفوذ أجنبي القضاء النهائي.
ويبقى أخيراً سؤالُنا الكبير: متى يستفيق العرب، ومتى يتعلّمون الدّرس والعِبرة من معركة حطِّين، وصلاح الدين الأيوبيّ ويجسّدونها عملياً على الجغرافيا نفسها لتخدم التاريخ نفسه؟ مع إيماننا العميق بأنّ الأمّة التي أنجبت صلاح الدّين الأيوبيّ قادرة على أن تأتي بأمثاله… ونحن شعب محكومٌ بالأمل شرط ألّا يدبّ اليأس والإحباط إلى القلوب والإرادات…


المراجع:

1- ابن الأثير «الكامل في التاريخ»، القاهرة 1303هـ. ‎
2- أبو شامة «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين»، القاهرة 1287 هـ.
3- الموسوعة العسكريّة. الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 1981، ص 821-822.
4- الموسوعة الفلسطينية / أنيس صايغ / دمشق 1984، ص 249-250.
5- صبحي عبد الحميد «معارك العرب الحاسمة»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، طبعة ثانية 1980، ص 112-130.
6- السيد فرج «أدهى رجال الحرب في الشرق والغرب»، مطبوعات دار الشعب، القاهرة، 1970، ص 119-131.
7- خالد الفيشاوي «800 عام على حطّين، صلاح الدين الأيوبي والعمل العربي الموحد» مجلّة «الفكر الاستراتيجي العربي»، العددان 21-22 تموز – تشرين الأول 1987، ص 295-204.
8- مجلّة «المنابر» البيروتية.
9- مجلّة «الجيل» (قبرص)، العدد 9 أيلول 1987. ص 90-97. وهاميلتون جيب «التيارات الحديثة في الإسلام» (Modern Frends of Islam) («الجيل»، المرجع السابق، ص 72).
10- قدري قلعجي «صلاح الدين الأيوبي»، دار الكاتب العربي، بيروت، 1966.
11- السير هاملتون جيب «صلاح الدين الأيوبي»، دراسات في التاريخ الإسلامي»، حرّرها يوسف إيبش، المؤسسة العربية ‎ ‏للدراسات والنشر، بيروت، 1966.
12- إرنست باركر «الحروب الصليبيّة» تعريب الدكتور السيد الباز العريني، بيروت، دار النهضة العربية 1967، ص 180 -182.‎ ‏ ‎

العدد 25