الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العقل دينًا (الجزء الثاني)

  • العقل في اللّغة (1)

أشار الخطاب القرآني إلى أهميّة الاستفادة من خصائص اللغة العربيّة واصطلاحاتها في فهم معاني آيات الكتاب المنزل حيث قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). لذا، أجد من المفيد، قبل الخوض في تحليل الآيات القرآنية، تقديم بعض المعاني اللغوية للفظة “عقل” كما وردت في أمّهات المعاجم التراثية، لما يساعد ذلك في توضيح كثير من التفسيرات التي سَتَرِدُ لاحقًا في هذا البحث عن علاقة العقل بالدين والإيمان. عَرَّف الجوهري “العقل” في صِحَاحِه بأنَّه: “الحِجر والنُهى. ورجل عاقل وعقول. وقد عقل يعقل عقلًا ومعقولًا أيضًا، وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة(2)” . وفي تعريف الجوهري كما سيتبيّن لاحقًا دلالة على وظيفة العقل الخُلقيّة، بحيث هو القوة الداخلية الوازعة التي تَنْهَى النفس وتحبسها عن متابعة الشهوات الجسمانيّة والاندفاع وراء الغضب بغير رويّة ولا بصيرة.
أمّا الفيروزآبادي فقد عرَّف “العقل” في القاموس المحيط بأنّه:
العِلم بصفات الأشياء، من حسنها وقبحها، وكمالها ونُقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرّين، أو مطلق لأمور أو لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن ولمعانٍ مجتمعة في الذهن يكون بمقدِّمات يستتبّ بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه، والحقّ أنّه نور روحانيّ به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظريّة … يكْمُل عند البلوغ، ج: عُقُول، عَقَلَ يعقل عقلًا ومعقولًا وعقَّل، فهو عاقِل من عُقلاء وعُقَّال… والشيء فَهِمَه، فهو عَقُول(3).
ويشير تعريف الفيروزآبادي إلى وقوع العقل على فعل الإدراك للعلوم الضروريّة والنظريّة من جهة، وعلى القوّة الإدراكيّة التي تُمكِّن النَّفس من نَظَرِ هذه الأمور اللَّطيفة؛ ويقع أيضًا على قوة التمييز. غير أنَّه أشار أيضًا إلى وقوع العقل على “هيئة محمودة للإنسان في كلامه وحركاته”، أي مسلكه في الحياة، ما يجعل العقل صفة لطريقة محمودة في العيش.
وأمَّا ابن منظور فقد أورد في لسان العرب عن معاني العقل: [عن] ابن الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ وهو الـجامع لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعِيرَ إِذا جَمَعْتَ قوائمه، وقـيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسه ويَرُدُّها عن هواها، أُخِذَ من قولهم قد اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلامَ، والـمَعْقُول: ما تَعْقِله بقلبك… والعقل: التثبُّت في الأمور. والعقل: القلب… وسُمّي العقل عقلًا لأنّه يَعْقِل صاحبه عن التورُّط في المهالك أي يحبسه(4).
تتَّفق هذه المعاني مع ما ورد في الصحاح عن الوظيفة الخلقيّة للعقل، ولكن يضيف ابن منظور بُعدًا آخر مهمًّا، وهو أنَّ العقل صفة تطلق لا على قدرة المرء على ضبط مشاعره وأعماله على نظام الحقيقة وحسب بل وضبط فكره ، لأنَّ العاقل “هو الجامع لأمره ورأيه”. إذًا، وبحسب هذا المعنى، باكتساب العقل يتمكَّن الإنسان من جمع نفسه بكلّيتها على نظام الحقّ ومن منعها عن الباطل. وسيظهر لاحقًا أنَّ جميع هذه المعاني مفيدة في فهم الأبعاد المتعدّدة لمعنى العقل في الخطاب القرآني وعلاقته بالدين والإيمان.

  • العقلُ والهُويَّةُ الإنسانـيّةُ

يُخاطب القرآنُ الإنسانَ في مواضِعَ عدَّة بما هو نفسٌ عاقلةٌ، كما في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ (الأنفال/24). بالطبع، تلك الدعوة مُوجَّهة إلى بشرٍ أحياءٍ في أجسامهم؛ وهي بالتالي تشير إلى حياة غير الحياة الجسمانيَّة. كما أنَّ التعاليم الدينية هي معانٍ روحيةٌ لا تُـحيي أجسامًا طبيعية، بل تُؤثِّر في الإنسان من خلال طبيعته الـمُدركة للأشياء غير الحسيَّة، والتي هي النفس العاقلة. فوَحْدَهَا العُقُولُ تحيا بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام/122). مِنَ الواضح أنَّ الخطاب القرآني يربط بين الحياة والنور الذي هو العلم الحقُّ، ويجعلهما نقيضَي الموت والظلمة اللَّذَيْن هما على التوالي الكفر والجهل. وفي ذلك دلالةٌ واضحة على أنَّهُ قصد بالحياة حياة النفس العاقلة لا حياة الجسم.
وممَّا يُثبت أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قَصَدَ عند استخدامه عبارتي الحياة والموت حياةَ النفس العاقلة وموتَها إطلاقُه صفة الموت على الكُفّار في أكثر من موضع، مثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ… أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ (النحل/20-21). وهؤلاء أيضًا أحياءٌ في أجسامهم ولكنَّهم موتى في نفوسهم العاقلة، لأنَّ الإيمان والكفر كليهما من أعمال القلب، أي النفس العاقلة، كما في قوله عن الإيمان: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات/14)، ومثل قوله: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل/106)
وقوله عن الكفر: ﴿وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ (النحل/106)؛ وقال أيضًا: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ (النحل/22).
ثمَّ إنَّ الخطاب القرآني أوضح أنَّ القلوبَ لها أعمالٌ خاصة بها بمعزل عن الجوارح الجسمانيّة، بدليل قوله: ﴿وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة/225)، أي النفوس العاقلة. وبما أنَّ القلوب تكسب الأعمال يعني أنّها عاملة ومُتحركِّة، أي حيّة.
إذًا هناك نَسَقٌ واضحٌ في الخطاب القرآني يجعل النفس العاقلة هويةَ الإنسان وجوهرَهُ؛ ويجعل حياته حركةَ تلك النَّفسِ في النور والخير والحقّ، والفساد والموت حركتها في الظلمة والشرّ والباطل. ويستتبع من ذلك أنَّ الخطاب القرآني عندما يخاطب الإنسان إنّما يخاطبه بما هو تلك الهوية، وعندما يصف أحواله من حياةٍ وموت، وبصر وعمى، وطيب وخبث، وغيرها إنّما يصف أحوال تلك النفس العاقلة بالذات.

  • العَقْلُ هُوَ قُوَّةُ الإدراكِ المُخْتصّةُ بحَقائِقِ الوحْي

ولـمَّا جعل الخطاب القرآني النفسَ العاقلة للإنسان هويته الحقّة كان من الطبيعي أن يجعل للعقل دورًا رئيسًا في إدراك هذه النفس لحقائق الوحي. وقد أشار الخطاب القرآني إلى محوريَّة العقل من حيث هو قوة الإدراك المختصَّة بحقائق الوجود في غير آية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا… فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج/46)، أي العقل وهو البصيرة القلبية أو بصيرة النفس التي بها تُدْرِكُ حقائق الوجود. وتبيّن الآية أن بالعقل يحصل الاعتبار وإدراك الحقائق وبفساده يتعطَّلان. وكيف لا تكون حقائق الوحي معانيَ معقولة أيضًا وقد قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2). فهذه الآية تبيِّن بوضوح أنَّ السبب من وراء نزول الوحي بلغة العرب هو أن يتمكَّنوا من عَقْلِ معانيه، أي فهمها؛ ما يعني أنَّ حقائق الوحي هي معان معقولة. وقال كذلك: ﴿قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ 9 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10 فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾ (الملك/9-11). من الواضح أنَّ هذه الآيات تَربِط بين العَقْل بما هو فعل الإدراك للمعاني المعقولة وبين إدراك حقائق الوحي وتعلُّمها وذلك بجعلها علّة التكذيب بتعاليم “النذير”، أو النبي المرسل، عَدْمَ عَقْلِ الكفار لمعاني الوحي لقولهم “لو كنّا نسمع أو نعقل”. ودلالات هذا الربط واضحة أيضًا، فهي تشير إلى أنَّه لا يمكن الناسَ أن يَفهموا معاني الآيات وحقائق الوحي إلًّا بواسطة العقل. لذا، وبخلاف ما اعتقده الغزالي بأنَّ العقل عاجز عن إدراك حقائق الوحي، بأنَّه يمكن الناس فهم حَقائقه من دون الاعتماد على العقل، يوضّح الخطاب القرآني أنَّ العقل هو قوة (أو أداة) الإدراك المختصَّة بهذه الحقائق؛ وبالتالي، وحدهم أصحاب العقول السليمة يمكنهم تحقيق مثل هذا الإدراك.
كذلك، لا ينسجم الخطاب القرآني مع مقولة ابن رشد بأنَّه يمكن للناسَ الذين ينتمون إلى صنف الخطابيين والجدليين الوصول إلى معرفة الله والإيمان به من دون الحاجة إلى فهم الحقائق المعقولة للوحي، وبخاصة عندما يكون ظاهره مُنافيًا لأحكام العقل، لقوله: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ﴾ (يونس/32). وتشير هذه الآية بوضوح إلى أنَّه عند وجود اختلاف بين ظاهر الوحي وأحكام العقل أو المعاني المستنبطة من الآيات بواسطة العقل، يُضاف هذا الظاهر اللامعقول حكمًا إلى الباطل، ولا يمكن الباطل أن يكون طريقًا إلى معرفة الله وسبيلًا لنيل السعادة الأبدية لقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (العنكبوت/52). فبحسب هذه الآية، إنَّ من يؤمن بالباطل يكفر بالله ويخسر السعادة الأبدية. وكذلك، فإنَّ حقائقَ الوحي لا يمكن أن تختلف وتتناقض بعضها مع بعض كما يحدث عند اختلاف الظاهر اللامعقول مع المعنى المؤوّل المعقول، لأنَّ الخطاب القرآني قد أشار إلى استحالة وجود اختلاف بين معاني آيات الكتاب المنزل، لقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء/82). والتدبّر هو عمل عقلي إذ يعرّفه الفيروزآبادي في القاموس المحيط (1998) على أنَّه “النَّظَرُ في عاقِبةِ الأمرِ، … وتدبَّر الأمر رأى في عاقِبتهِ ما لم يرَ في صَدْرِهِ، وتدبَّر القول أي فهم غايته” (ص 390). وبالتّالي، تفيد هذه الآية أنَّ من يقارب الوحي بواسطة العقل لا بدَّ من أنْ يجد معانيه مُتّسقة ومتجانسة لا تحمل فيما بينها اختلافًا ولا تناقضًا، لأنَّ الحقّ الذي من عند الله متجانس المعنى لا اختلاف فيه.

  • العَقْلُ غايةٌ مِنْ غَايات الرِّسالَةِ النَّبَوِيَّةِ

وإذا ما تتبَّعنا في النصّ المنزل الآيات التي تُوضّح أغراض الوحي والرسالة النبويّة، نُلاحظ أنَّها تجعل تَيْقِيْظَ النفس العاقلة في الإنسان وتنميَتها أحد أبرز أغراضها. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ الغاية من التعاليم التي يحملها الوحي هي تنوير العقل الإنساني بقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ﴾ (الأنعام/104)؛ ومقصد الكلام بصيرة النفس، أي العقل. فقد دلَّ الخطاب القرآني على التعاليم الإلهيّة التي يحملها الوحي بالآلة التي تُدْرَكُ بها – أي بصيرة النفس – فأسماها بصائر لكونها تُمكّن هذه البصيرة، أي العقل، من نظر المعاني المعقولة كما يُمكِّن نور الشمس العين من نظر الأشياء المحسوسة، لأنَّ غرض الرسالة هو تعليم الناس الحق كما في قوله: ﴿أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/151). كذلك، أشار في غير موضع، وبطريقة مباشرة، أنَّ غاية الوحي بآياته وأمثاله وقَصَصِهِ هو إرشاد الإنسان إلى تحقيق فضيلة نفسه العاقلة من خلال تغذيَتِها بالعلم والحكمة، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/242)، أي كي تعقلوا. فجعل غاية الآيات وبيان معانيها اكتسابَ المؤمنين القدرةَ على عقل حقائق الوجود.
وأضاف الخطاب القرآني إلى هذه الغاية اكتسابَ المؤمنين القدرة على القيام بأنواعٍ أخرى من أعمال الطبيعة العاقلة وإتقانها من حُسن التفكُّر، كما في قوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة/266)، وقوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف/176)؛ واليقظة العقليَّة أو الذكر، كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، أي ليتذكر الحقائق أولو العقول (ص/29)؛ وحُسن الفهم، كما في قوله: ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونََ﴾ (الأنعام/65). ثمَّ جعل ذلك كلَّه، أي العقل وحسن التفكُّر والتذكُّر وحسن الفهم، شرطًا للإيمان لقوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ… لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام/154)، أي بعد عَقْلِهِم لمعانيه؛ ليصبح الإيمانُ هو التصديق بمعانٍ عقليَّة غائبة عن الحسّ، أي التصديق بالغيب المعقول وليس بالغيب اللامعقول. فقد ربط الخطاب القرآني بين الإيمان والعَقْل (الفعل) في غير موضع، كما في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس/100). وبحسب هذه الآية، فإنَّ من عَجَزَ عن العَقْل عَجَزَ عن الإيمان. فصار العقل شرطًا لتحقيق غاية من غايات الدين وهو الإيمان. لذا، من الواضح أنَّ الخطاب القرآني قصد بالإيمان التصديق بغيب معقول، أي الذي ينسجم مع أحكام العقل ولا يتناقض معه.

  • والعَقْلُ هُو نَظَرٌ سليمٌ للوجود

ولم يقتصر الخطاب القرآنيّ على جعل التفكُّر في آياتِ الكتابِ وأمثاله وقصصه وعقل حقائقها غذاءً للنفس العاقلة وسببًا لحياتها، بل نبَّه إلى أنّ الوجود الماديّ المحسوس كُلّه آيات حسيَّة ماثلة أمام نظر المؤمن لإيقاظ هذه النفس العاقلة وتنميتها وإحيائها بعد أن يُدرك بعقله دلالتها وممثولاتها من الحقائق. فقد أوضح الخطاب القرآني أنَّ كثيرًا من الظواهر الطبيعية المألوفة تحمل دلالات تساعد الإنسان على إدارك حقائق الوجود متى أعمل عقله في فهم معانيها وممثولاتها، كما في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ 10 يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 11 وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 12 وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (النحل/10-13).
فبحسب هذه الآيات فإنَّ جميع هذه الظواهر المألوفة في العالم المحسوس لها دلالات ومعانٍ، والناظر نظر الاعتبار يمكن أن يعلمها بواسطة العقل. ولنا في قصّة النبي إبراهيم الخليل مثال مفيد على كيفية درك حقائق الوجود من خلال الاعتبار بالظواهر الطبيعيَّة:
﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام/75-79)
فقد نظر إبراهيم إلى كوكب(5) منير في السماء وبعده إلى القمر والشمس معتقدًا فيها الألوهة واحدًا بعد الآخر، فلمَّا أفلت، أي غابت عن النظر، أدرك بعقله أنَّ الإله لا يمكن أن يكون من جنس الآفلين، فيلحقه عجز أو فناء، فنزّه الإله عنها وعلم أنَّه يجب أن يطلب الألوهة في الذي لا يلحق به عجز وفناء، أي الله. بالطبع، كان ظنُّ النبي إبراهيم أنَّ في الكوكب ألوهة وليد النظر الحسّي الذي رأى في علو مكانه في السماء شرفًا وفي أنواره فضلًا، ثمَّ اعتقد بالقمر لكونه أكبر وأشدّ نورًا منه، وانتهى إلى الاعتقاد بالشمس لأنّها أشدُّ من الاثنين نورًا وفضلًا. وأمَّا ما أدركه من معاني غيابها ووقوع التغيير في أحوالها ودلالات ذلك من عجز وضعف، وتنزيهه الخالق عنها فهو وليد النظر العقليّ. وكأنَّما أراد الخطاب القرآني أن يقول إنَّها جميعًا فُطرت على أحوالٍ ظاهرة تساعد الإنسان الناظر إليها بعقله على الاعتبار بها ومعرفة أنّها ليست الخالق.
ثمَّ أشار الخطاب القرآني إلى مثل آخر من الطبيعة له أهميّة كبيرة في الدين لكونه يوضّح للإنسان الناظر بعقله فناء الدنيا كي يعلم فضلَ الآخرة عليها فيطلبها، كما في قوله:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس/24).
والعبرة من وراء المثل المذكور أنَّ كلّ شيء ينمو في العالم الماديّ المحسوس، ومن ضمنه جسم الإنسان، وينجذب إليه الإنسان الناظر بعين حسه لحسنه وجماله، هو سائر إلى الفناء، وهو بالتالي أقلُّ فضلًا ممَّا هو باقٍ إذا ما نظر إليه الإنسان بالعقل. إذًا يساعد النظر العقلي إلى الظواهر الطبيعيَّة والاعتبار بها الإنسان على التمييز بين الفناء والبقاء ليعلم بعقله الناظر في العواقب والغايات فضل ما هو باقٍ فيختار طلب الآخرة اختيارًا عقليًّا، أي عن علم ودراية بخيرها وبقائه كما في قوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/32).

  • العُقَّال مقصد الرسالة النبويّة

ويلاحظ أيضًا أنَّ الخطاب القرآني قد جعل في غير آيةٍ أصحابِ العقول الحيّة المقصد الحقيقي للرسالة النبويَّة، فقد أشار إلى أن غرض آيات الكتاب المنزل هو تذكير القلوب الحيّة بالحقائق الإلهية، كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ أي في آيات الكتاب، ﴿لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ (ق/37) أي لمن كان له قلبٌ حيّ. ثمَّ أوضح معنى ذلك في قوله: ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا﴾، أي في قلبه أو نفسه العاقلة، ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (يس/70)، أي لتقوم حجّة البيان على الأموات في نفوسهم العاقلة. وهذان القولان يُفيدان التخصيص لأنّهما يشيران إلى أنَّ القلوب الحيَّة هي وحدها تتذكَّر معاني الآيات المنزلة وتنتذر بوعيدها كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص/29)، وقوله ﴿هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (إبراهيم/52)، أي أصحاب القلوب أو النفوس العاقلة الحيّة. وهذه الآية تشير أيضًا إلى أنَّ النفس العاقلة هي التي تحمل التوحيد معتقدًا بعد عقلها لحقائق الرسالة.
ثمَّ أوضح الخطاب القرآني أنَّ هذا التخصيصَ ليس من باب التَّمييز المسبق بين الناس، فيستحيل ضربًا من ضروب الظلم الناتج من عدم المساواة بينهم في التبليغ والبيان؛ بل هو لتبيان أنَّ من أهمل طبيعته العاقلة وأفسدها يحرُم نفسَهُ بنفسِهِ من القدرة على عَقْل الحقائق الإلهية والتصديق أو الإيمان بها، وبالتالي الانتفاع بها دليلًا للنَّجاة، كما في وصفه للكفّار بأنَّهم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171)، أي أنَّ كفرهم حرمهم القدرة على النظر العقلي فيه وفهم معانيه، بدليل قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ (6) (النساء/155).
إذًا، تَرِدُ الرسالة على جميع الناس من باب إقامة العدل فيهم؛ ولكن لن يقبلها وينتفع بها إلَّا ذوو العقول الحيّة، أو العقّال، فيصبح هؤلاء هم مقصدها الحقيقي لقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (الأنفال/22-23). وليس من الحكمة والعدل إطلاق الذمّ على من لم يتسبَّب لنفسه بما يوجب الذمّ؛ وبالتالي، لا بدَّ من أنَّ الخطاب القرآني قد قصد بـ”شرِّ الدواب” مَنْ أُعْطِيَ القدرة على عقل حقائق الوحي، أي الإنسان العاقل بالفطرة، ثمَّ أفسد هذه القدرة وعَدِمَها بما اكتسب من أعمال سيئة، كما في قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا 125… وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ﴾ (طه/123-127). تُثبت هذه الآيات أنّه قصد بِـ”شَرِّ الدواب” مَنْ كَفَر بحقائق الآيات المنزلة مع وجود القوة على عَقْلِها والتصديق بها، وأنَّ هؤلاء مسؤولون عمَّا وصلوا إليه من عجزهم عن عَقْلِ المعاني بسبَب إهمالهم لتغذيَة نفوسهم بحقائق الوحي. وإذا كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، يُصبح خير الدواب كل من سمع الحقّ ونظر معانيه بعقله فأدرك حقائقه المعقولة.

  • الطَّبيعَةُ العاقلةُ تنفَعِل بالأعمال

ثمَّ أوضح أيضًا أنَّ هذه البصيرة القلبيَّة التي هي العقل، تَنْفَعِل بأعمال الإنسان سلبًا أو إيجابًا ، فإمَّا أن تصفو وتزكو وتزداد بالأعمال الحسنة أو تتَّسخ وتضعف نتيجة للأعمال السيئة، وقد تبلغ درجة عالية من الفساد فتعمى، أي تعدم القدرة على نظر الحقائق المعقولة بدليل قوله: ﴿بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الإنفطار/14)، أي يكسبون من أعمال السّوء. والرَّانُ هو “الصدأُ الذي يعلُو الشيءَ الجَلِيّ كالسيف والمرآة ونحوهما، ورَانَ الذَّنْبُ على قلبه… غلب عليه وغطاه، كلّ ما غطى شيئاً فقد رانَ عليه” (إبن منظور، 1994/13، ص192)، فيحجبه؛ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 6 خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة/7).
وإذا كان للنفس العاقلة حياةٌ كما سبق أن ذُكر، فهي إمَّا تكتسب العافية أو تعرض لها الأمراض، أو يحلّ بها الموت. وقد أشار الخطاب القرآني في مواضع عدّة إلى مرض القلوب كما في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (البقرة/10). ثمَّ أوضح أنه يتحدَّث عن أمراض روحيّة وليس جسمانيّة، بوصفه مواعظ الكتاب بأنَّها: ﴿شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس/57)، أي شفاءٌ للقلوب أو للنفوس العاقلة من الأمراض المتَّصلة بطبيعتها الخاصة. وقد ربط الخطاب القرآني المرض بالنفس العاقلة والإيمان كما في قوله: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ﴾ (المدثر/74). وسؤالُ الكافرين والذين في قلوبهم مرض يُعبِّر عن عَجزهم عن فهم معاني الأمثال لكونها معاني معقولة بدليل قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت/43). وفي هذا دليل آخر على ما سبق أن ذكر بأنَّ النفس العاقلة هي هوية الإنسان الحقيقية، لأنَّ الخطاب القرآني أشار إلى فسادها (أو مرضها) عند حديثه عن فساد الإنسان. وقد ربط الخطاب القرآني بين كثير من مظاهر الفساد التي تحلُّ في الإنسان بفساد العقل وعدمه كما في قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران/58)، أي أنَّه جعل علّة اتخاذهم الصلاة هزوًا عجزهم عن إدراك المعاني المعقولة؛ وقوله أيضًا: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/171). ويظهر هذا التحليل بوضوح عدم انسجام الخطاب القرآني مع ما ذهب إليه الغزالي من فَصْل نفس الإنسان وأمراضها عن طبيعتها العاقلة.

  • العَقْلُ غرض التقوى

أشار الخطاب القرآني أيضًا إلى أنَّ الغرض من إلزام المؤمنين اجتناب النواهي، وهو فعل التقوى، الحفاظ على سلامة القلوب وحفظ حياتها، لأنَّ ما نُهِيَ عنه من أقوالٍ وأعمالٍ ومعتقداتٍ هو ما يُمرض الطبيعة العاقلة ويُفسدها، بدليل قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ… وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام/151)، أي كي تعقلوا. وتربط الآية بشكل واضح بين الإرادة الإلهيّة بتحريم المعتقدات الخاطئة والأعمال السيئة، والتي يطلق عليها شرعًا “النواهي”، والقدرة على العقل؛ ويتضح بالتالي أنَّ المقصد من الدعوة إلى اجتناب هذه النواهي هو صيانة العقل من أسباب الفساد. لذلك، كانت التقوى – وهي مُشتقَّة من وقاية – من أكثر الفرائض الدينية ذكرًا في النصّ المنزل، لأنّها تحفظ قلب الإنسان – وهو مركز الإيمان والعبادة – سليمًا ومعافًى بتجنيبه كلّ ما يضرّ بطبيعته العاقلة.
ولإثبات ارتباط فريضة التقوى بالحفاظ على حياة النفس العاقلة وسلامتها، أوْرِدُ أبرز ما أشار إليه الخطاب القرآني من أسباب فساد النفس العاقلة وهلاكها. فقد أوضح أنّ الظَنَّ السوء بالإله – أي المعتقد الخاطئ ومن ضمنه ما ذكر من الشرك – يُميت هذه النفس لقوله: ﴿وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ (المؤمنون/41). والرَّدى هو الهلاك والموت، والإنسان كما سبق أن ذكر هو نفسه العاقلة، فيصبح غاية هذه الآية الدلالة على سبب من أسباب موت النفس العاقلة. وقد فسّر الخطاب القرآني ماهيّة هذا الظن المردي بقوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ (آل عمران/154)؛ هو الظنُّ المبني على الجهل بخلاف ما هو المبني على العلم، أو الحقّ المعقول. ويوضّح هذا التحليل ما أشرتُ إليه في بداية البحث عن اعتباري أنَّ الفَصْل بين الدين والحقيقة وبين الإيمان والعقل يشكّل أخطرَ التحدّيات أمام الدين في العصر الحديث، لأنَّه بفَصْلِ الإيمان عن العقل وبنائه على الجهل بدل العلم هلاكٌ للنفس العاقلة التي هي هوية الإنسان.
ثمَّ ذكر أنَّ عدم التصديق واتباع الأهواء، أي النَّزْعات اللاعقلانيّة، هو أيضًا من أسباب هلاكها، كما في قوله: ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ﴾ (طه/16). وقد سبق أن ذكر من أنّ للعقل وظيفة أخرى خلقيّة تتمثَّل بكونه الوازع الداخلي الذي ينهى النفس عن متابعة الأهواء، ولأجل ذلك سُمي النُّهى كما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ﴾ (طه/54)، أي أولي العقول الحيّة. فهذا الوازع الداخلي يمنع مشاعر الإنسان اللاعقلانية من شهوات وغضب من السيطرة عليه وعلى أفعاله كيلا يعمل عمل الجاهلين، بدليل قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ (الفتح/26)، والحميّة الأنفة. وقد رَبَطَ الخطاب القرآني بين عجز بعض الذين يستمعون إلى الآيات المنزلة عن عَقْلِ معانيها وبين تعطّل العقل وغيابه واتّباع الأهواء في قوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (محمد/16). فبحسب الآية فإنَّ السبب وراء عجز هؤلاء عن حمل حقائق الوحي المعقولة هو مرض نفوسهم العاقلة نتيجة اتباع الأهواء. وكذلك، ذَكَر سببًا آخر وهو الظُّلم. فقد أشار إلى حال الظالمين في دار الآخرة بقوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾(إبراهيم/42-43)، أي قلوبهم أو نفوسهم العاقلة مَيْتَة بسبب خلوّها من العقل. ثمَّ إنَّ خلاف الظلم هو العدل، والعدل وليد الحق لقوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (آل عمران/159)، والحقّ معقول. هذا يعني أنَّ العقل وفق الخطاب القرآني هو أيضًا شرط للحياة المنسجمة مع حقائق الوحي، فلا تحفظ حياة للنفس العاقلة وتصحُّ ديانة ويُنال فَلَاح مع سيرة منفصلة عن العقل وقائمة على الجهل والظلم ومتابعة الأهواء. من هنا أيضًا يمكن فهم ما أورده الفيرزآبادي في قاموسه عن استخدام كلمة “العقل” في التعبير عن طريقة محمودة في العيش بقوله إنَّه يستعمل “لهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه”.

  • مَسْلكُ العقل

ويُظهر الخطاب القرآنيُّ أيضًا أهميّة إعمال العقل في فهم الدين والوجود فهمًا صحيحًا وفي حفظ النفوس العاقلة سليمة من أسباب الفساد عند وصفه المؤمنين الأحياء بالعُقَّال الذين يتثبَّتون من أمورهم – وما يختص منها بالرسالة تحديدًا – ويَنْقَدُوْنَها قبل القبول بها أو اختيارها لِئلَّا يتبعون ما هو باطل ويجلبون الشرّ والضّرر بدل الخير والنفع، فهم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر/18)، أي العقول الحيّة. ثمَّ نهى عن السلوك الجاهل والاتباع الأعمى، أي التقليد، بقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ﴾ (الإسراء/36)، أي لا تتَّبع أمرًا أو أثرًا إلَّا بعد عَقْلِه ومعرفة حقيقته والتأكُّد من خيره. لذلك، قال عن أصحاب العقول الحيّة: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام/122)، أي هم يعقلون حقائق الوحي فيسلكون في الحياة عن علم ودراية.
وأمَر الخطاب القرآني باتباع مسلك العقل لا مسلك التقليد في الإيمان، وذمَّ مسلك التقليد واتباع ما هو مألوف بين الناس ورَبَطَهُ بالجهل الناتج من عدم العقل بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة/170). وربما تُوفّر هذه الآية أحد أقوى الإثباتات على محوريّة العقل في فهم الوحي وبناء الإيمان والسلوك الديني؛ فتساؤل الخطاب القرآني عمَّا إذا كان هؤلاء قد تثبَّتوا أولًا من أنَّ آباءهم الذين يتبعونهم في دينهم أو معتقداتهم قد بنوا ما يعتقدونه عن عَقْلٍ، يعني ضمنًا أنَّه لا يجب على الإنسان أنْ يتَّبع إلَّا ما بُني على العقل السليم وتوافق مع أحكامه، أي الحق المعقول. ويتضمَّن هذا السؤال أيضًا استهجانًا من الجهالة التي يعبّر عنها سلوك هؤلاء. كما ويستتبع من هذا أنَّ الخطاب القرآني يدعو جميع الناس، بمعزل عن المكان والزمان، أن لا يكتفوا باتباع ما وجدوا آباءهم عليه من معتقدات وطرق عيش قبل التثبّت من صحتها أولًا كي لا ينتهي بهم الأمر باتباع ما هو مخالف للعقل، أي باطل، فيضلّون عن سبيل الحقّ والخير. وهو بالتالي يدعو الناس، وحتى من كان آباؤهم يتبعون معتقدات صحيحة أو ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، إلى أنّْ تكون مقاربتهم للوحي وقبولهم لتعاليمه من خلال العقل فعلًا مُتجدِّدًا جيلًا بعد جيل كي يصيبوا الهدى والرشاد ويجتنبوا الوقوع بالجهل والضلال.

  • العقل شرط للسعادة الأبدية

ثمَّ أنَّه أوضح لنا السبب وراء تركيزه على تزكية القلب وصيانته من الأمراض بالربط بين سلامته والفوز بالسعادة الأبدية في دار الآخرة بقوله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء/88-89)، أي إلَّا من أتى للقاء الله بنفسٍ عاقلةٍ حيَّةٍ سليمةٍ من الأمراض. فَمَنْ أفسد بصيرته القلبية بارتكاب السيئات في الحياة الدنيا حَضَر الآخرة وهو أعمى البصيرة فلا يقدر على أن ينظر وجه الله ويحقّق السعادة الأبدية كما في قوله: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الإسراء/72)، والعمى هنا في بصيرة القلب أي العقل. والمقصود بالسعادة هنا هي تلك التي عبّر عنها في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة/22-23)، أي إلى وجه ربها ناظرة؛ والشرط في تحقيق هذا النظر هو سلامة القلب، أي العقل. ومما يثبت أنَّ نظر وجه الله هو عنوان السعادة الأبديّة قوله عن عذاب المكذّبين بحقائق الوحي واليوم الآخر: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ 10 الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 11وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 13 كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14 كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين/10-15).
وتفيد هذه الآيات الخمس بأنَّ عاقبة من أفسد نفسه العاقلة وأهلكها باتباع سيرة ظالمة وعَجَزَ نتيجة لارتكابه الأعمال السيئة عن عَقْلِ حقائق الوحي والتصديق بها، فأنكر القيامة وظنّ الوحي وهمًا مضافًا إلى أساطير الأولين، هي الحجبة عن نظر وجه الله في الدار الآخرة. وبما أنَّ الدار الآخرة هي دار خلود، فالحُجبة فيها أبديّة أيضًا. ولا يمكن تعليل مثل هذا الحجبة إلَّا بفساد القوة المختصَّة بهذا النظر فسادًا كليًّا وهو ما تعبّر عنه بموت الطبيعة العاقلة للإنسان. وإذا كان العذاب الأليم الذي ينذر منه الخطاب القرآني هو الحجبة عن نظر وجه الله، فلا بدَّ من أن يكون النعيم هو نظر وجهه، وهو يشترط كما ذكر حياة النفس العاقلة وسلامتها من الأمراض. ومن المنطقي أن يكون هذا هو النعيم كونه عنوان البقاء الوحيد لقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن/26-27). غير أنَّ الخطاب القرآني لم يُبْق الأمر مشكلًا بل أوضح بشكل صريح وفي غير آية أنَّ الغاية من سعي الإنسان في فعل الخيرات والإحسان في دار الدنيَا هو تحقيق هذا النظر في الدار الآخرة، كما في قوله: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّ﴾ (البقرة/272)؛ أي طلبًا للفوز بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة نظر المُبصر المُغتبط.

  • خاتمة

يُظهر هذا البحث الموجز وجود ترابط وثيق بين الطبيعة العاقلة للإنسان بأبعادها كافّة وبين حقائق الوحي والإيمان والسيرة الإنسانيّة ومصير البشر الروحي. فقد تبيّن من خلال دراسة الروابط التي أقامها الخطاب القرآني بين المفردات والمفاهيم المتعلّقة بالعقل وبين تلك المتعلّقة بالذات الإنسانيّة وأحوالها أنَّ النفس العاقلة هي جوهر الإنسان وهويته الحقيقية، فحياته حياة هذه النفس وحركته حركتها وموته موتها. وتبيّن أنَّ العقل هو قوة الإدراك التي تبصر فيها هذه النفس حقائق الوحي ومعاني الوجود لأنَّ هذه المعاني والحقائق هي صورٌ معقولة لا صورٌ محسوسة. ثمَّ بيَّن ارتباط قدرة البصيرة القلبية، التي هي العقل، على درك المعاني المعقولة بالسيرة الإنسانيّة لأنَّها تنفعل بأعمال الإنسان فتحيا بطلب العلم والحكمة والأعمال الحسنة وتنمو، وتحفظ سلامتها وتزكو باجتناب الكفر والشرك والأعمال السيئة واتباع الأهواء، فتقوى على العقل، أو تمرض وتموت بالاسترسال بالجهل والسيرة القائمة على الإسراف والظلم، فتضعف عن العقل أو تعدمه. وأظهر أيضًا أنَّ إحياء هذه النفس العاقلة وتزكيتها وتنميتها وحفظها من الأمراض والهلاك هو غرض الرسالة النبوية والغاية من الأوامر والنواهي التي اشتملت عليها، وهو ما يجعل الكتاب المنزل دليلًا علميًّا وخلقيًّا ومسلكيًّا للعيش العقلي الموصل للسعادة الأبديّة التي هي فعل تلك الطبيعة العاقلة – أي نظر وجه الله. وعلى هذه الخلفيّة، يمكن القول إنَّ الدينَ عقلٌ، فالنفس العاقلة هي حاملة التوحيد والإيمان بعد إدراكها لمعاني الوحي وفهمها لحقائق الوجود بالنظر العقليّ. والعقل أيضًا هو الوازع الداخلي الذي يحبس النفس عن متابعة الأهواء التي تمنعها عن إدراك هذه الحقائق. وبالعقل أيضًا يحقِّق الإنسان غاية الإيمان وهي السعادة الناتجة من النظر إلى وجه الله.
ومن شأن نتائج هذا البحث أن تُعيد الاعتبار إلى المنهج العقلي في تفسير النَّصّ المنزل وتأويله لما يُظهر الخطاب القرآني من شرعيّة منهج كهذا وأصالته، الأمر الذي يفتح الباب أمام مقاربة جديدة للنصّ محرّرة من قيود التراث ومألوفاته. ومن شأن نتائجه أيضًا أن تساعد الباحثين على دراسة النصّ المنزل مجالًا معرفيًّا لاستكشاف الذات الإنسانيّة وعلاقتها بالله وفهم طبيعتها العاقلة وقواها الإدراكيّة والعمليّة والأحوال المختلفة التي تعرض لها واختباراتها وانفعالاتها والمؤثّرات التي تفعل فيها والمصير الذي ينتظرها، الأمر الذي يجعل المعرفة الدينيّة ودراسة النصّ الـمُنزل مطلبًا أشدّ التصاقًا بحياة الإنسان العمليّة واهتماماته العلميّة وهواجسه الوجوديّة. ومن شأنه أيضًا أن يوفّر الأدوات المعرفيّة التي يحتاج إليها الباحثون للقيام بقراءات فلسفية للنصّ المنزل لما يتضمّنه من خلاصات تتَّصل بالطبيعة الإنسانيّة ونظرية المعرفة ونظرية الأخلاق ومفهوم السعادة الإنسانية وغيرها من أغراض المباحث الفلسفيَّة. ولا شكَّ في أنَّ مثل هذه البحوث والقراءات تغني الدّراسات الإسلاميّة خاصّةً والدينيّة عامةً وتوسع أفق البحث فيها ومجالاته.


المراجع:

(1)- وهنا لا بدّ لي من الإشارة إلى مسألة منهجيّة تتّصل بتقديم عرض مقاربة ابن رشد على مقاربة الغزالي. فمع أنَّ الغزالي تقدّم زمنيًّا على ابن رشد، غير أنّي فضّلت البدء بابن رشد لكونه الأقرب إلى المنحى العقلي من الغزالي. وأجزت لنفسي ذلك لأنّي لا أقدّم دراسة تاريخيّة عن تطوّر نظرة علماء المسلمين لعلاقة العقل بالدّين، بل أعرض فقط نموذجَيْن بارزين لمقاربة الموضوع في التراث الإسلامي.
(2)- أبو الوليد محمد بن أحمد إبن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق ألبير نصري نادر (بيروت: دار المشرق، 1991)، ص 128. التسويد في الاقتباسات من كاتب المقال.
(3)- المصدر نفسه، ص 34.
(4)- المصدر نفسه، ص 35.
(5)- المصدر نفسه، ص 36.
(6)- المصدر نفسه، ص 52.
(7)- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، توثيق أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006)، ج 7: ص 66.
(8)- المصدر نفسه، ص 66.
(9)- المصدر نفسه، ص 71.
(10)- المصدر نفسه، ص 72.
(11)- المصدر نفسه، ص ص 66-67.
(12)- المصدر نفسه، ص 72.
(13)- المصدر نفسه، ص 72.
(14)- المصدر نفسه، ص 67.

خصال المرأة الموّحدة

شرف لي الغوص، في هذا البحر المتألق من صفاتهن، بموضوعية أتكلم، هي وقفة فخر أقفها مع اللواتي كرّمهن الله، بالعزة والسؤدد واعطاهن نفحة من روحه، وقد حملنَ جذور الأصالة الدينية، حملة رسالة، هي ثمرة أجيال تتكرر، متجذرة في معراج الترقي وتوهج الحق… وقد تنادين لحفظ التراث، تراث روحي، تعمقت جذوره مع أبناء التوحيد، وتفاعل مع نفوس فاضت أعماقها بقدسية التوحيد… تسلسل مجدٍ واكليل غار، نستنشق عطر أريجه، طمأنينة في القلب واستنهاضٌ لمآثر روحية، زرعت في النفوس، لتتوارثها الأجيال المتعطشة دوماً وأبداً، إلى معرفة الخالق جلّ وعلا. وان كان الطابع التوحيدي، هو الغالب في المعطيات، فلننطلق منه، مستكملين البحث، لتكون لنا صورة متكاملة، تظهر هذا الجانب الروحي التوحيدي، فأنا أريد أن أروي وأرتوي عبر رحلة، تتواصل مع الماضي، وتراكم العطاء وتكامل مع حاضر مشرق، ومعكم جميعاً.

المرأة الموحدة الدرزية بشكل عام وباختصار كلي: ماذا أقول فيك أيها الرسول المبارك، يا سرّ استمرارية الوجود، يا عهداً من الله لبني البشر، أطليت على الدنيا، لتجسدي الهوية الانسانية كاملة. الموحدة الدرزية انسان عظيم، باركها الانجيل، باركها الأنبياء والرسل، باركها النبي محمد (ص) انها العنصر الفعال في المجتمع.

فما التأنيث لاســـم الشمس عــارٌ                   ولا التذكيــــــر فخـــر للهــــــلال

فحضن الموحدة مهد تربية نساء ورجال عظام، ان التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها. إن صلاح وفساد أي مجتمع تابع من صلاح وفساد النساء فيه.

الفساد هو في الجهل والصلاح هو في العلم
فالجهل يخفض أمةّ ويذلها والعلم يرفعها أجل مقاماً
أعطني أماً صالحة أعطيك وطناً صالحاً.
والمثل يقول: إذا علّمت رجلاً، علّمت انساناً منفرداً، ولكن إذا علمت امرأة، علّمت أسرة ومجتمعاً ووطناً، يسير في منعرجات الرقي والتقدم والحضارة، يا من هديت العقل بوعيك، وأظهرت صراط الحق بنور هدايتك، انت تصنعين الانسان وتعمرين الأوطان انت مبدأ جميع الخيرات، والتاريخ يشهد على عظمتك ودورك الريادي، والقيام بالمهمة الشاقة التي اؤتمنت عليها، انت الأس المتين والركن الركين في عملية بناء الأوطاد المبنية على التقوى والشرف الرفيع وتقدمها في مجال المعرفة والعلم والحضارة، وعلى عاتقك تقوم العملية التربوية التثقيفية الدينية. الموحدة الدرزية تواقة إلى العلم والمعرفة والعمل: أقانيم ثلاثة تقريباً مرفوعة إلى الله عزّ وجل “تقربوا إليه بالعلم والمعرفة والعمل”؛ جبارة في صبرها، متعاونة مع العائلة إلى أقصى الحدود “الزوج يجني وهي تبني” هي للأبناء المرشد والموجّه، هي فكر وقلب ووفاء، وهي أم الموحدين والموحّدات.
لا يمكن للمرأة الموحدة الدرزية تطبيق مفهوم التوحيد والقيام بواجباتها الدينية، كما يريدها الله والأنبياء والرسل والأمير السيد عبد الله التنوخي(ق)، الا بالترافق مع واجباتها نحو عائلتها والمجتمع. فقد نظر الأمير السيّد(ق) إلى المرأة الموحّدة نظرة رفيعة، لا تقل شأناً عن نظرته إلى الرجل الموحّد، أكان لجهة الإمكانيات والاستعدادات، أم لجهة التكليف. لكن التقدير ذاك، أكان للرجل، أم للمرأة، مرهون باتباعهما للمسلكيات الأخلاقية الدقيقة التي لطالما أشار إليها الأمير السيّد(ق) في كتبه ومراسلاته ووصاياه. والمسؤولية هنا متساوية، لا يقل شأن المرأة فيها عن شأن الرجل، وكذا الحقوق والواجبات. فحقوق المرأة هي في المبدأ حقوق الرجل بالمعنى الإنساني الشامل، لأن حقوق الإنسان واحدة، هكذا في الدين، منذ البدء، وكذلك في شرائع حقوق الإنسان المتعاقبة. وأي افتئات على حقوق المرأة، التي كفلتها الأديان والشرائع السماوية والدنيوية، افتئات على حقوق الرجل بالمقدار نفسه، وتعد على كرامة الإنسان كإنسان، والتي لطالما صانها الدين، ولم يميّز في ذلك بين رجل وامرأة، إلا بمقدار النجاح (أو التقصير) في القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية، وفي ذلك يتساوى أيضاً الرجل والمرأة – ويمكن هنا العودة تفصيلاً للأبحاث التي تناولت المكانة الخاصة التي احتلتها المرأة في وصايا الأمير السيّد(ق).

وأولى الوصايا للمرأة الموحّدة التعالي في جميع الأمور، والرضى بإرادة الله تعالى، وتقديس مشيئته، والقبول بجميع أحكامه، سارة كانت أم ضارّة، والله لا يطيق الضرر أو الشرّ للإنسان، فإذا صادف شيئاً من ذلك، فمن سوء تقديره أو سوء أعماله، وامتحان في الآن نفسه ليعود إلى جادة الإيمان والعقل والصواب.
ولا غنى للموحّدة عن الإيمان: فالله سبحانه وتعالى خلق الكون، وأحسن الخلق، وجعل العدل قسطاطاً في الكون. وعلى ذلك فنحن قادمون على حساب عادل على جميع أفعالنا لنتناول الثواب والعقاب: أنها انكار الذات قرباناً لله وتوسلاً إليه وعملاً بمشيئته. لا تعارض بين العقل والإيمان، وما يصوننا من المصائب سوى الإيمان والوعي والتوكل على الله بالعودة إلى الإيمان بالروحانيات والقيم الأخلاقية وبالمثاليات الإنسانية يحيا الإنسان.
ولا بديل عن الصلاة للموحدة. فالصلاة تطهّر القلب وتزكي النفس وتقوّي الإيمان وتغذي الروح وتقرّب إلى الله وتحبب الخير لجميع الناس اخواتنا في الإنسانية.
وعلى الموحّد الحث على تحصيل العلم، العلم الصحيح قبل سواه. وأن يتحول طلب العلم مثالاً لأبنائها ولعائلتها. وقد قدّم الله تعالى في كتابه العزيز العلماء على سواهم، واعتبر العلم (الصحيح) طريقاً من طرق معرفة الله. فالعلماء ورثة الأنبياء، وأيضاً “تقربوا إليه بالعلم والمعرفة والعمل”، انهم حملة الكتاب وقد خصهم الله تعالى بشرف المقام والعلم الشريف.

وعلى المرأة الموحّدة معرفة الدين. فالدين طريق إلى الله يسلكه الناس على اختلاف درجاتهم، وهو الطاعة والعبادة: انه باب الإيمان والإيمان باب التوحيد. أما العبادة فلله وحده: تقديس، تنزيه، توحيد. الدين هو الحق.
وعليها أيضاً معرفة الحلال والحرام، والخير والشر. هي الفطرة السليمة التي برى الخالق الناس عليها، فمن حاد عنها هلك: اعمل/لا تعمل: الحلال هو خير ونفع وطاعة وصدق، والحرام شر ومعصية وكذب. والأعمال كلها بين هاتين الحالتين والله تعالى أمر الموحّد والموحدة بالحلال ونهى عن الحرام وعاقب من فعله. فان فعلت الموحدة بأمر الله وانتهت عما نهاها عنه، سلكت السبيل إلى الطريق والاتصال بالله تعالى.

كذلك، عليها معرفة الدنيا وأحوالها ان تُجني نفعها وتميز بين الخير والشر. وقد سميّت بالدار لأنها دار ممر لا دار مقر ويكون طلب الموحدة من الدنيا ما هي بحاجة إليه من صلاح الأعمال ورحم الله من أتى من الأعمال أحسنه واتبع من الحق أبيانه.
والمرأة الموحدة تدرك أن لا بد من يوم يحاسب فيه الناس على الحسنات والسيئات واليوم الاخير يسأل كل واحد عن عمره كيف أفناه وعن جسده كيف ابلاه، وعن عمله وما عمل فيه، وعن ماله كيف اكتسبه وأنفقه، وأنه أهوال لمن عصى أو عصت ونعيم سرمدي لمن أطاع أو أطاعت، يوم لا ينفع مال ولا بنون وانما ينفع البعد عن المعاصي والمحرمات، وكلمة حق نطقتها المرأة الموحّدة وخير أدّته ومعروف أثبتته والويل للغافلين. فيه عظمة الخالق القهّار، فتخر الخلائق لعظمة الهيبة والجلال وتخشى منادية: المُلك والقدرة اليوم وفي كل يوم لله الواحد الجبار. أن تلقى الموحّدة وجه ربها الكريم بغبطة واطمئنان وفي هذا لذة اللذات وغاية الغايات. طلب الدنيا ذل النفوس وطلب الآخرة عزّها – واستغفري رب العزة والمنّة تفلحين وتخلدين في سعادة أبدية.

والمرأة الموحدة تدرك أن الاخلاص في العمل سبيل إلى الثواب: يقول الرسول (صلعم) “ان الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” والعمل لا يكون إلا لله خالصاً لوجهه طالباً مرضاته وعليها بالأعمال المجيدة والإخلاص لها والأعمال الخالصة هي البغية والمراد بها الفوز يوم المعاد والله لا يرضى بالتقصير عن الطاعة وإهمال صالح الأعمال.

انطلاقاً من هذه المرتكزات وغناها، ومن تمسكها بقيم العقل (وذروته توحيد الخالق)، والأخلاق المثلى، وذروتها القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية والعائلية، سواء بسواء، تستطيع المرأة الموحدة أن تقوم بنجاح بمهام التوعية الدينية والأخلاقية التربوية لأسرتها ومحيطها وكما يريدها المؤمنون: يا من استلهمت الأخلاق الرفيعة والدعوة السماوية الخالدة واستوحيتها بمهداة العقل النيّر والفكر الثاقب الرزين وبنيت على أساسها مجدك وتقربك إلى الله تعالى وعظمتك الخالدة إلى الأبد.

ماذا عن الموحدات المثاليات؟؟ لجّوا معي قلاع التاريخ والحصون واقرعوا أبواب نسب التنوخية والدة الأمير فخر الدين المعني الثاني اخشعوا في رحاب مزارات الوليات وفاءً لعهد العرض والدين: الست ساره السلام عليها والتي تكون اسطورة في عزمها وقوة شخصيتها وتحمل المشقات: انجاز عجز عنه كبار رجل عصرها، حملت مشعل الدعوة من مصر إلى وادي التيم بالقرن 12 يتبعها جمهور من الشقيقات الملتزمات برأيها، مؤدية الأمانة، ملتزمة بالرسالة، والثقة الكبيرة جداً، شعارها: “ان الله لن يترك عبده أكرم منه” … وكل موحدة لها راية بيضاء مرتفعة، وهل من بين نساء الأرض من يتجاوزهن حكمة وعطاء؟ بهذه المفاهيم تستطيع الموحدة الدرزية أن تسير بأولادها نحو طريق الخير في معارج الرقى الروحي لأنها مظهر من مظاهر العفاف والطهر والقداسة. الموحدة هي الكائن الوحيد الذي بمقدوره أن يهيّئ الجيل الجديد لتحقيق آمال المستقبل المرتكز على الأخلاق والصفات النبيلة. ابتدعها الله نصف المجتمع وشريكة الحياة وأنسها وبهجتها: “جعلنا من أنفسكم أزواجاً تأتون إليها تسكنون”.

الموحدة هي من دعاة التقوى والعلم والشرف الرفيع، مسؤولة عن تربية أجيال فتمسكن بالتوحيد والأخلاق والدين. الموحدة مصدر الوحي والإلهام ومآثر التضحية والوفاء سمت قداسة من الله عز وجل. مستمدة قولها وعملها من الأمير السيد (ق) الذي حث على العلم وجعله فريضة وواجباً لها، فهي مع زوجها في السراء والضراء. كذلك دعاها إلى الاهتمام بالعائلة أولاً فتلك هي مسؤوليتها الأولى. العائلة هي رمز الوطن، فإلى تفاهم وتعاون مع شريك العمر ليتكامل الدور مع الرجل نضالاً وتوحداً وإنسانية. انها العبادة المرتكزة على التربية الدينية الصحيحة. التربية الدينية والوعي الخلاق هما النعم الوافرة وصاحبة الخلق الرفيع لا تهمل العلم الروحاني ساعة واحدة تعمل على مرضاة خالقها بحسن أخلاقها لبيتها بين عائلتها وأقرانها هو نور البصيرة وبدونها تستوي الظلمة على القلوب تتقن وتتمم واجباتها الدينية وشعارها الكد أمام العائلة عبادة ثانية. الاثنان معاً الموحد والموحدة يتبعان تعاليم الأمير السيد في تنشئة الأولاد والتربية الدينية والأدب والمساحة الزمنية بين الولد والولد. فالدين لا يتعارض مع الدنيا ضمن الضوابط الأخلاقية:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

إنها خير موحدة خصّها الله بالمكرمات.
كم نحن بحاجة ماسة لرفع الوعي الاجتماعي ونشر وتفسير مفاهيم التوحيد السامية من أجل إنارة الدرب إلى طريق المعرفة الحقة خاصة للجيل الصاعد. كم نحن بحاجة ماسة إلى ثقافة دينية روحية. هذه الجوهرة الثمينة التي أرسلها الله لنا عن طريق الرسل والأنبياء حرام أن تبقى قابعة في الأدراج، هي الأس المتين والركن الركين في عملية بناء الأوطان المبنية على الأسس المتينة من الأخلاق والتربية الدينية والثقافة. يجب تعليمها في المدارس في المؤسسات. لقد طغت المادة على الأخلاق، وتكالب الناس على المادة وعلى الانحطاط الخلقي والثقافي. يجب الابتعاد عن المفاسد والأخلاق السيئة للسير على السراط المستقيم الذي رسمه لنا الله تعالى. وبالتفاعل والتكامل والتواصل مع جميع الأديان نصل إلى ثقافة دينية موحدة لأن كل الأديان تصب في أناء واحد إلا وهي معرفة الله والوطن (ومحبة الوطن من الإيمان) وهو انتماؤنا إلى الوطن الواحد، إلى المواطنية الصالحة، لا إلى الانتماءات الطائفية البغيضة وذلك يعود إلى التربية الدينية وإلى الوعي الثقافي. التربية والوعي الخلاق يحققان وجوديتنا كاملة متوجهين نحو الحق ويبقى نصراً للحقيقة ومثالاً للتربية. “تاريخنا الديني الحافل بالمآثر والمكرمات صورته قائمة جداً فالحاجة كبيرة جداً لإعادة إحياء هذا التراث خاصة مع الجيل الجديد والذين لا يفقهون أشياء عن تراثهم الإسلامي التوحيدي. يجب تقريب الجيل الجديد من مسلكه. نحن بحاجة ماسة اليوم إلى تعريف هؤلاء الأعلام في سياق معهد أو جامعة تعني بالدراسات التوحيدية فتشكل مركزاً لإعداد رجال الدين على قاعدة العلم الحقيقي والمعرفة الروحانية وإلى إحياء السلف الصالح. يجب المساهمة في نشأتهم ومصالحتهم مع الحداثة. علينا بتربية منفتحة لأن التقوقع والانغلاق مرض فتاك، والتعصب قتّال، والانفتاح على الثقافات والحضارات والتفاعل الخلاق دون إنكار الجذور الصلبة والانتماءات الأولية والتخلي عن الثوابت الدينية والثقافية الفقهية والتاريخية والسياسية والثقافية. يجب إبراز دور الموحدين الدروز كعنصر هام لوحدة لبنان واستقلاله وسيادته طوال ثمانية قرون. يجب تنشيط ودعم التوحيد لكي يؤدي دوره بفاعلية حتى لا يبقى مهمشاً. نحن بحاجة لإبراز تراثنا التاريخي والوطني ومن المفترض أن تقوم به النخبة المثقفة ويجب على الجيل الجديد أخذ زمام المبادرة وعدم نسيان الجذور والأصول التي نفخر بها ونعتز والعمل لمصلحة وطنهم دون إغفال الطوائف التي ينتمون إليها” (عباس الحلبي في كتابه “الموحدون الدروز ثقافة وتاريخ ورسالة” الصادر عن دار النهار).

وأخيراً، أتوجه إلى الأمهات آملة إدراك مخاطر الطلاق (مرض العصر في أجزاء واسعة من هذا العالم، وغير بعيد عن قيم حضارته المادية السطحية والمتسرعة) وانعكاساته الخطيرة على العائلة ثم على المجتمع بأسره. ونقيض ذلك، الاهتمام الكلي من الأب والأم في سبيل وحدتهما، أولاً، للحصول على عائلة متماسكة ملتزمة بقدسية الأمومة والأبوة وهذا يعود إلى التربية الأسرية الأصيلة المبنية على الدين والأخلاق. فالدين والأخلاق هما وجهان لعملة واحدة، هما متلازمان لزوم الرياح للفضاء، والروح للجسد والمعنى للفظ. هما التركيز على المبادئ السامية والأخلاق والصفات والنبل والتضامن المعادات والتقاليد الموروثة للموحدين إلى يوم الدين. ولا أغالي ان اعترفت بأنني فهمت دين التوحيد أكثر عبر رسالتي. فهمت نبل الرسالة، الرسالة التي لحظت الاحترام والالتزام بمفاهيم الأديان السماوية وعقائدها جميعها. من هذه المنطلق الأساس، وقد جعلته رسالة لي أيضاً، رسالة كل مؤمن ومؤمنة، كل موحّد وموحّدة، في تجاوز القوقعة الطائفية، واعتبار الدين بما هو معرفة للخالق، وتمجيد له، وعبادة له، وعمل في الدنيا في ضوء ذلك، أسمى بكثير مما تطرحه الطائفية، كل طائفية، فهي غريبة عن الدين. الدين دعوة إلى إعمال الفكر، فمن فكّر على نحو سليم لا بد أن يبلغ الإيمان. العقل والمعرفة طريق للإيمان. من عرف آمن، ومن آمن جعل حياته سبيلاً للعبادة والعمل الاجتماعي والعائلي الصالح. ومسؤولية المرأة في ذلك خطيرة جداً، وأهميتها هنا تتساوى، أو ربما، تفوق ما للرجل من دور. فناصية التربية في يد المرأة الأم، وفي ضوء نجاحها أو فشلها (لا سمح الله) يتقرر مستقبل أمور كثيرة.

(جزء من محاضرة أطول ألقتها الباحثة في الولايات المتحدة الأميركية)

الأعضاء الدائمون والمنتخبون في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز للعام 2018 (الولاية الثالثة)

الأعضاء الدائمون في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز للعام 2018

عضو مجلس القضاء الأعلى عضو المجلس الدستوري النواب السابقون قضاة المذهب النواب والوزراء الحاليون
الرئيس منذر ذبيان  الرئيس سهيل عبد الصمد الأستاذ وليد بك جنبلاط الشيخ فيصل ناصر الدين الأستاذ تيمور بك جنبلاط
الأستاذ غازي العريضي الشيخ سليم العيسمي الأمير طلال ارسلان
الأستاذ خالد صعب الشيخ سليمان غانم الأستاذ أنور الخليل
الدكتور عصام نعمان الشيخ غاندي مكارم الأستاذ مروان حماده
الأستاذ فيصل الداوود الشيخ فؤاد البعيني الأستاذ فيصل الصايغ
الأستاذ فادي الأعور الشيخ فؤاد حمدان الأستاذ وائل أبو فاعور
الأستاذ أيمن شقير الشيخ فؤاد يونس الأستاذ أكرم شهيب
الشيخ منير رزق الأستاذ هادي ابو الحسن
الشيخ نزيه أبو إبراهيم
الشيخ نصوح حيدر

الأعضاء المنتخبون في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز للعام 2018

الهيئة الدينية – قضاء الشوف الهيئة الدينية – قضاء عاليه الهيئة الدينية – قضاء راشيا الهيئة الدينية – قضاء حاصبيا
الشيخ سلمان عودة الشيخ حسام نعيم الشيخ اسعد سرحال الشيخ عاطف ابو دهن
الشيخ سمير حماده الشيخ حسين عبد الخالق الشيخ يوسف أبو إبراهيم الشيخ وسام سليقا
الشيخ فادي العطار الشيخ نزار بو غنام
الشيخ محمد غنام الشيخ هادي العريضي
الهيئة الدينية – قضاء بعبدا الهيئة الدينية – بيروت وباقي المناطق
الشيخ عماد فرج الشيخ سامي عبد الخالق
الشيخ هاني غزال الشيخ شاهين هاني
ممثلو المناطق – قضاء الشوف ممثلو المناطق –  قضاء راشيا  ممثلو المناطق – بيروت وضواحيها
الأستاذ أسامه ذبيان الأستاذ أكرم عربي اللواء شوقي المصري
الأستاذ حماده حماده الأستاذ شوقي ابو غوش الأستاذ نادر فخر
الأستاذ زياد خطار الأستاذ علي فايق
الدكتور عماد الغصيني الأستاذ مروان شروف
الأستاذة غادة جنبلاط الأستاذ نيضال أبو حجيلي
الأستاذ منير بركات
الأستاذ نبيل بو ضرغم
الأستاذ وليد ضو
ممثلو المناطق – حاصبيا ممثلو المناطق – قضاء عاليه ممثلو المناطق – قضاء المتن, بعبدا
الأستاذ حكمات نوفل الأستاذ أيوب الجردي العميد بسام أبو الحسن
الأستاذ رمزي جماز الأستاذ جمال الجوهري الأستاذ حسان صالحه
الأستاذ عامر صياغه الأستاذ رامي الريس الأستاذ زاهر الأعور
الأستاذ غازي الخطيب الدكتور ربيع غريزي الأستاذ مروان الحلبي
الأستاذ لبيب الحمرا الأستاذ رياض عطا الله الأستاذ ميسر سري الدين
الدكتور طلال جابر
الأستاذ عصام حيدر
الأستاذ غسان رافع

 

المهندسون أساتذة الجامعات – حملة الدكتوراه أطباء الأسنان أطباء الصحة
الأستاذ جهاد شيا الدكتور سامي أبي المنى الدكتور نصر ضو الدكتور زهير عمر
الأستاذة دنيا بو خزام الدكتورة منى رسلان الدكتور شوقي الدنف
الأستاذ وائل هرموش الدكتور نبيل عماشه الدكتور غسان صعب

 

حملة الشهادات الجامعية الصيادلة خبراء المحاسبة المحامون
الدكتور رامي عز الدين الدكتورة فريال زهر الدين الأستاذ حسن غازي الأستاذة ندى تلحوق
الأستاذ طلال ابو زكي الأستاذ ناجي صعب الأستاذ نزار البراضعي
الأستاذ فراس زيدان الأستاذ نشأت هلال

 

كلمة سماحة شيخ العقل في الاحتفال المركزي لمدارس العرفان التوحيدية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالَمِين، والصَّلاةُ والسَّلام على خاتم النبيين محمد سيِّدِ الـمُرسَلِين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين.
هنا قلبُ جبلٍ أشمّ، أي هو جبلٌ ذو أنَـفَةٍ وعِزَّة. رجالُهُ ذوو حَمِيَّة أي أنَّ كلَّ رجُلٍ منهُم يأْنَف أن يُضَام. والحكايةُ لديْنا التي يسمعُها أطفالُنا منذ الصِّغَر هي أنَّ في أرضِنا لا يتجذَّرُ السّنديانُ والأرزُ والزَّيتونُ العتيق وحسْب، بل تمتدُّ في شرايين التُّربةِ والمياهِ وقلوبِ النَّاس سجايا الفضيلةِ والمروءةِ والشَّهامةِ والشَّجاعةِ والأخلاقِ.
إنّ رجال هذه الطائفة لا تعرف خريفاً بوجود قائدٍ كبيرٍ هو وليد بك جنبلاط.
هذا الجبَل بكلِّ تراثِه كان نواةَ لبنان، أي الوطن العزيز الأبيّ الَّذي يجمعُ كلَّ أبنائه. ولم يأنسْ سكَّانُه عبر التَّاريخ بالتقوْقُعِ الطّائفيّ، أو بعُنصريَّةٍ بغِيضَة، أو بنُزوعٍ مرفُوض نحو الفئويَّة الضيِّـقة. تراثنا هو السعي الى الوحدة الوطنيّة، وحدةُ المسلك المؤدي الى العزّةِ الوطنية، وعبثاً نُنشدها بدون وحدة الثقافة ووحدة التوجيه في المدرسة ويتوجّب توحيد الكتاب المدرسي، وبهذه الثقافة تألّقت العرفان.
وأوّد ان أتوجّه اليوم الى الطلاب الناجحين وأنتم مقبلون على معترك الحياة في مجتمعٍ تتراكم فيه الصعوبات وتختلط فيه مفاهيم التحرر لأقول: للتحررِ طريقٌ اساسيٌّ يجب ان يبدأ من دائرةِ النفس.


علينا ان نتحرر من الحقد ومن الطمع وهما طريق المهالك والرذائل، علينا ان نتحرر من الغرور فهو شرٌ ومنقصة وإضرارٌ بالعقل.
وقال بعضهم: الأَنَانِيَّةُ تُوَلِّدُ الحَسَدَ، والحاسد لا ينعم ولا تطيب نفسُه الّا بزوالِ النعمةِ عن الآخرين، والحَسَدُ يُوَلِّدُ البَغْضاءَ، والبَغْضاءُ تُوَلِّدُ الاخْتِلافَ، والاخْتِلافُ يُوَلِّدُ الفُرْقَةَ.
علينا ان نتجنّب معشر السوء وثقافة الكتب والمجلات البعيدة عن الاخلاق. كذلك نحذّر من استخدام وسائل الاتصال الحديثة بخلاف قواعد الدِّين والأخلاق وخارج الضرورة الواجبة. وإنّ استخدامها للتعبير وحريّة الرأي يجب ان يبقى ضمن الآداب والحرية المسؤولة.
علينا ان نعلم ان العلمَ نورٌ ونار وقيل في ذلك:

إنمــا العِلمُ للنُـفوسِ مَحَـكٌ              فهو يُبدِي لِكُلِ نَفسٍ وَسْـمَا

هو في الأنفسِ الكبيرةِ نـورٌ               مُشرقٌ قد أزالَ عنها الظَلْـما

وهو في الأنفسِ الصغيرةِ نارٌ              جَعَلَتها عندَ التلامُسِ فَحْمَا

وبهذه المناسبة وامام استحقاق انتخابات المجلس المذهبي نرى ان المجلس المذهبي ومشيخة العقل وبموجب التنظيم الصادر بتاريخ 12/6/2006 هما مظلةٍ جامعةٍ للموحدين الدروز وإذ نهنئ الفائزين بالتزكية ونكرر ما قلناه في بداية مهمتنا فإن دار طائفة الموحدين الدروز ستبقى مفتوحة أمام الطامحين إلى جمع الشمل وحفظ الإخوان، ورايتها خافقة بالمحبة والتسامح وحفظ الكرامة والإيمان.
واهالينا اليوم يحتفلون بتفوّق أولادهم، وفي محافظة السويداء عائلات تنتظر عودة اطفالها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفك أزرهم، وأن تُضفي المساعي في عودة المخطوفين الى ديارهم، كما نسأله الأمن والاستقرار لوطننا وللشعوب العربية.
ومَا التَّوفِيق إلَّا بالله، ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾.

سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي مستقبلاً أمين عام رابطة العالم الاسلامي

استقبل سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في دار الطائفة في فردان، أمين عام “رابطة العالم الاسلامي” الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، يرافقه السفير السعودي في لبنان الوزير المفوض وليد البخاري والوفد المرافق، بحضور قاضي المذهب الدرزي الشيخ غاندي مكارم، ومستشار مشيخة العقل الشيخ غسان الحلبي. وجرى خلال اللقاء “التشديد على ما يجمع ابناء العالم العربي والإسلامي من أواصر محبة وتعاضد وأخوة للوقوف صفاً واحداً بوجه الأزمات والفتن التي تضرب دولنا وتهز استقرارها الأمني والاجتماعي والاقتصادي”، ونوه سماحته “بالدور الذي تلعبه الرابطة في خلق مساحة حوار مستمر من أجل وحدة العالم الإسلامي، وللرعاية والدعم اللذين تقدمهما المملكة العربية السعودية، انطلاقاً من موقعها ودورها التاريخيين ونظرتها إلى مستقبل أفضل للعالم الإسلامي.

سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي مستقبلاً السفير الروسي في لبنان

استقبل سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في دار الطائفة اليوم، السفير الروسي ألكسندر زاسبيكين بحضور مستشار مشيخة العقل الشيخ غسان الحلبي والاستاذ مروان الزهيري.
وكانت مناسبة جدد فيها الشيخ حسن “دعوة روسيا إلى لعب دورها في حماية وحدة سوريا وكل مكوناتها الوطنية وتقديم الهدف الإنساني الذي يخدم الشعب السوري على كل حساب آخر، منعاً لمزيد من الإرهاب والظلم وسفك الدماء السورية، وبما يؤدي إلى تحقيق تطلعات السوريين بالحرية والعيش الكريم”.
وشدد سماحته على “ضرورة ان تبذل الحكومة الروسية الجهود الحثيثة والفاعلة من أجل تأمين إطلاق سراح النساء المخطوفات في محافظة السويداء في سوريا”.

عشاء خيري للجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي

أقامت اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز عشاءها الخيري السنوي؛ في فندق فينيسيا، بحضور ممثل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عضو اللقاء الديمقراطي النائب هادي ابو الحسن، وممثل سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ كميل سري الدين؛ وزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة؛ والنائبين هنري حلو ووائل ابو فاعور، والنواب السابقين أنطوان سعد امين وهبي ناصر نصرالله، والوزراء السابقين عباس خلف وعصام نعمان، ورئيس أركان الجيش اللبناني اللواء حاتم ملاك، قائد الامن القومي العميد وائل ابو شقرا، قائد الشرطة القضائية العميد اسامة عبد الملك، وروساء أركان وقادة الشرطة القضائية السابقين، وعدد من رجال الدين واللقاء الروحي بالجبل، أمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي ظافر ناصر، رئيس الاتحاد العمالي بشارة الاسمر وعدد من رؤساء النقابات والنقابيين والمصرفيين، رئيسة تجمع الجمعيات النسائية في الجبل السيدة فريدة الريس وعدد من رئيسات الجمعيات؛ ورؤساء اتحادات بلدية وبلديات ومخاتير ووجوه اجتماعية وإعلامية وحزبية واغترابية واقتصادية وأعضاء المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز.
قدمت الحفل الإعلامية ريما خداج التي أكدت ان التكامل الاجتماعي ينبع من أصل العقيدة لكي يعيش الفرد بكفالة الجماعة والجماعة بمؤازرة الفرد. وقالت: “فيما الوطن يعبر أزمة اقتصادية واجتماعية وإنسانية وثقافية خانقة؛ نذرت اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي نفسها للعمل الاجتماعي المتواصل عبر المساعدات التعليمية والطبية والاجتماعية وعبر ورش عمل وندوات توعية، حتى أصبحت اليوم علامة فارقة في تحقيق الأهداف”.
وشددت خداج على الدور الريادي لطائفة الموحدين الدروز في البعد الوطني كما في البعدين العربي والإسلامي، وهي التي ساهمت في حفظ استقرار لبنان وتمسكت بالقضايا العربية المحقة وعلى رأسها فلسطين؛ وعملت لبناء مداميك الحضارة والثقافة والعلم.


جنبلاط
ثم تحدثت رئيسة اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي المحامية غادة جنبلاط لافتةً إلى أنه مذ بَدَء عمل المجلس المذهبي في ولايته الحالية منذ ست سنوات “وظروف البلاد عينها”؛ وقالت: “كما اليوم كما الأمس؛ التردي الاقتصادي مستمر. الصرخات في الصحة والتعليم، في الامن والسياسةْ… واللائحةُ بعد تطول. وفي ظلِ الظروفِ هذه عمِلْنَا وَفْقَ خطةٍ مبرمجة، بأهداف واضحة. فَعّلنا برامجَ الولاية الاولى. وَسّعنا شريحةَ المستفيدين. أعددْنَا برامجَ، وأقمْنَا نشاطات جديدةً: صحية، تربوية، اجتماعية، وتوعوية بعثتِ الأملَ، وأعْلَتِ الرعايةَ الاجتماعية”.
وأشارت جنبلاط إلى أن أرقام المساعدات ازدادت كل عمّا سبقه، وصولاً الى (15،091) مساعدة، وأضافت: “نسجنا الشراكاتِ في ميدانِ العمل الانساني. يداً بيد سِرنَا نحو الشبابِ والاسرة. تلاقينا وتجمّع الجمعيات النسائية في الجبل، والصناديقَ الصحيةَ الضامنة في المناطق، لنجسّد معا الصورةَ المثلى لمجتمع مُتعاون متضامن”.


وأكدت جنبلاط أن “النهوض بالمجتمع نقطة ارتكاز جامعة، وهي التي شغِلَت أولى اهتماماتِ المجلسِ المذهبي”؛ موجهةً الشكر لسماحة رئيس المجلس الشيخ نعيم حسن على حسنِ الرعاية، وللهيئتين الادارية والعامة على دعمِهم المقدّر. كما توجهت بالتحية الى روح العميد عصام ابو زكي الذي “أرسى قواعدَ معظمِ برامج اللجنة. والى روحِ الزملاء الذين فقدناهم خلال ولايتِنا، وبخاصة الزميل المرحوم فاروق الجردي، الذي كان داعماً دائماً لمسيرة لجنتنا”.
وتابعت جنبلاط: “لمن لم يساوم يوماً على اهمية العمل الانساني. لمن تتلاشى- بثبات حضوره الداعم- الصعوبات وتتقلص معه العقباتْ… الشكرُ، وألف شكر، لمعالي الاستاذ وليد جنبلاط وسعادة الاستاذ تيمور جنبلاط… معكما نتكىء بطمأنينة الى الماضي، نُحصّن الحاضر، وننطلق نحوَ المستقبل. وشكر مفعم بالامتنان لمعالي الاستاذ مروان حمادة على مساندته لنا منذ بدء مسيرتنا’. كما شكرت جنبلاط أعضاء اللجنة الاجتماعية فردا فردا على كل الجهود؛ وموظفي المصلحةِ الاجتماعيةِ والادارية ولكلِ من لم يدخر جهداً لبلوغ ما نحن عليه اليوم. وحيت الحضور والداعمين والمتبرعين “على كل ما لاقيناه منكُم خلالَ السنوات الست من تواصل روحيٍ وسخاء مادي وتشجيعٍ معنويٍ
وختمت جنبلاط: “نطوي الآن صفحة… لتفتح اخرى. نأمل أن نكونَ قد كتبنا فيها ما سيذكر يوما بالخير”.


سري الدين
ثم تحدث رئيس لجنة الاغتراب في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين باسم سماحة شيخ العقل؛ فقال: “اسمحوا لي في البداية أن أُشيرَ إلى أنَّ المجلسَ قد حقّقَ إنجازاتٍ ملحوظة على مدى سنواتِ تأسيسِه، ولعلَّ أهمَّها تنظيمُ الأوقاف وزيادةُ مداخيلِها، وترميمُ دارِ الطائفة في بيروت، وافتتاحُ المعهدِ التوحيدي في عبيه، ومشروع سكني في الشويفات. وآخرُ الإنجازات كان افتتاحَ المستوصف الخيري في عاليه منذ شهرين، بهمّة اللجنة الاجتماعية، وبالرغم من هذه الإنجازات إلَّا أننا نشعرُ بأنّ ما تحقّقَ يظلُّ أقلَّ بكثير من تطلعاتِنا وأحلامِ مجتمعِنا، ومن حاجةِ أهلِنا للمساعدة في ظلِّ هذه الأيامِ الصعبة التي تَمرُّ بها البلاد”.


وتابع سري الدين: “لقد تحمّلت اللجنةُ الاجتماعية المسؤوليةَ العبءَ الأكبرَ والأثقلَ من خلال الوقوف إلى جانب الناس لأنها على تماسٍّ دائمٍ معَ همومِهم، ولكنها واجهتْ حاجاتٍ إنسانيةً تفوقُ إمكانياتِ المجلس، وتمكنت من إثباتِ أهليَّتِها وحضورِها إلى جانبِ أهلِنا وتخفيفِ معاناتِهم، ولا يَسعُني في هذا المجال إلا أن أُثمّنَ الدورَ الإيجابيَّ البنّاء الذي لعبته اللجنةُ ممثّلةً برئيستها النشيطة وصاحبةِ الحسّ الإنسانيِّ المرهَف الأُستاذة غادة جنبلاط، وبمقرّر اللجنة الأخ الأستاذ أكرم عربي وجميع أعضائها المندفعين، لِما يبذلونه من جهدٍ وتضحية لتأمين حاجة الناس الصحيةِ والتعليميةِ قدرَ المُستطاع”.
وأضاف: “إننا نتطلعُ دائماً إلى دورٍ فاعلٍ للمجتمع الأهلي الذي يجب أن يتضاعفَ يوماً بعد يوم، في ظلِّ انخفاضِ تقديمات الدولة، والحاجة إلى تأمين الحياة اللائقة للفقراء والمحتاجين، وهم فئةٌ كبيرةٌ من اللبنانيين، وهذا ما تفرضُه علينا وصيةُ التوحيد بأن نتكاتفَ ونعملَ ما بوسعِنا لحفظ الإخوان ورعايتِهم، والوقوفِ إلى جانب الضعفاءِ من أهلِنا وإخوانِنا”.
وأوضح أنه “من أحدٍ إلَّا ويُدركُ مدى صعوبةِ الأوضاع التي نعيشُها، وقد انتظرنا الانتخاباتِ النيابية، وما زِلنا ننتظرُ تأليفَ الحكومةِ العتيدة، لكي تدورَ عجَلةُ الدولةِ من جديد، ولكن حتى الآن، القطارُ متوقِّف، والأمورُ ما زالت تدورُ في حلَقةٍ مُفرَغة، دون الشعورِ بأوجاعِ الناس ومطالبِهم الإنسانيةِ والاجتماعية، ومن هذا الموقعِ والواقعِ المرير، فإننا نناشدُ أهلَ السلطةِ والقرار، الاعتصامَ بحبلِ الله، والابتعادَ عن النكايات والعنجهياتِ والمصالحِ الشخصية، للخروجِ من هذا النفقِ المظلمِ الطويل، علَّ الشعبَ يتنفَّسُ الصُعَداءَ من جديد.
لقد نفذَ صبرُ الناسِ، وازدادتِ الأوضاعُ سوءاً، فإلى متى المماطلة أيُّها السادة؟ كفانا تباطؤاً وإهمالاً وفساداً حرماناً، كفانا تلهّياً بالبحث عن جنسِ الملائكة وتقاسُمِ الحصص، نريدُ الانتقالَ من دولةِ المزرعة إلى دولة الإنسان، نريدُ وطناً يحترمُ المواطنَ ويساوي بين أطيافِه، وطناً لا فضلَ فيه للبنانيٍّ على الآخرَ إلَّا بعطائه وتضحياتِه ومدى احترامِه لأرضِه ومجتمعِه”.

وختم سري الدين بالقول: “نرجو للمجلس المذهبي القادمِ أن يكونَ على مستوى الآمالِ والتمنيات، وأن يَتمَّ انتخابُ أعضائِه بهدوءٍ وانتظام، لتكوين مجلسٍ متجانسٍ ومنتجٍ، مجلسٍ يعملُ لمصلحة الطائفةِ والوطن، آملينَ ممّن يريدُ الترشُّحَ والمشاركة أن يكونَ على كاملِ الاستعدادِ للعمل، وأن يكونَ لديه الوقتُ الكافي والإمكانياتُ العمليةُ للتفاعلِ والتضحية، فالغايةُ هي خدمة الناس والطائفة، والعُضويَّةُ هي تكليفٌ لا تشريف”.

سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي مستقبلاً وفدًا من منتدى «الشباب العربي للحوار بين أتباع الاديان والثقافات»

استقبل سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في دار الطائفة في بيروت، وفدًا من منتدى “الشباب العربي للحوار بين أتباع الاديان والثقافات” التابع لمركز الملك عبدلله بن عزيز للحوار، ضم شخصيات من معظم الدول العربية، بمشاركة مدير برامج الزمالة في المنطقة العربية وسيم حداد وحضور مستشار مشيخة العقل الشيخ غسان الحلبي.
وقد شكر حداد الشيخ حسن على “لفتته الكريمة واستقبال الوفد مقدرا مواقف سماحته الداعية الى التواصل والحوار والكلمة الجامعة”. وكانت مناسبة أكد فيها الشيخ حسن “ضرورة عدم التخلي عن طرق كل أبواب الحوار بين المذاهب والأديان لمنع كل أشكال التطرف والعصبية العمياء، ومواجهة كل محاولات إثارة الفتن عبر تعميم لغة التواصل والانفتاح والتعامل الإيجابي والتقريب بين الناس، وترسيخ مفاهيم المواطنة والقيم الإنسانية والتعاليم السمحاء التي على أساسها نشأت جميع الأديان”. وختم، “ان هذا التواصل هو حبات الخير ولابد ان تثمر خيرا”.
والقى ممثلو الدول المشاركة كلمات عبرت فيها عن الاحترام والتقدير لمواقف وشخص سماحة شيخ العقل وحكمته، ونقلوا تحيات المرجعيات الدينية التي يمثلون.
كما استقبل سماحته ممثل مشيخة العقل في استراليا الشيخ منير غرز الدين، وكان بحث في شؤون وشجون الاغتراب.

السويداء شوكة في حلق الإرهاب والإرهابيين!

كانت السويداء كذلك في تاريخها الطويل، وستبقى:
شوكة في حلق الإرهاب، كل إرهاب،
الصخرة التي تتكسر عليها كل مؤامرات أعداء سوريا، والعرب…والخونة الحاقدين على الطائفة العربية المعروفية الإسلامية المقدامة،
طائفة سلطان، وشكيب، وكمال، وسائر السادة والأبطال الذين رفعوا راية الإسلام والعروبة والاستقلال والعزّة والتقدم لأوطاننا وشعوبنا:
طائفة الموحدين (الدروز) في المشرق العربي.
هنيئاً للسويداء شهداؤك!
ليست جديدة المؤامرات على أرضك وشعبك،
وليس جديداً شلال الدمّ الذي أجريتيه دائماً دفاعاً عن الأرضْ والعِرضْ، عن أنَفة أبنائك وهاماتهم المرفوعة، و”عقالات” العزّة والشرف… حتى درجة القداسة والمستحيل؛
ودفاعاً عن وحدة تراب سوريا العربية، واستقلالها، وعن كرامة شعبها في وجه محتل أجنبي مغترٍ حيناً، وعدوان إسرائيلي غاشمٍ حيناً ثانياً.


اعتادت السويداء وكذلك بنو معروف، في تاريخهم الطويل، أن لا يسألا ثمناً لموقف بطولي اتخذوه فقلب مخططات المستعمرين رأساً على عقب – كما فعلوا غير مرّة، وباللحم الحيّ:
في تصديهم للحكم المملوكي وعقله الضيّق المتعصّب،
في تصديهم لبدايا الاختراق الاقتصادي والسياسي الغربي للشرق، 1840-1860،
في تصديهم للحكم التركي حين أظهر قوميته الطورانية النافرة، بدءا من سنة 1908،
في تحولهم كتيبة متقدمة للثورة العربية سنة 1916، ودخول بطلهم التاريخي سلطان باشا إلى دمشق ورفعه مع سعيد الجزائري أول علم عربي فيها منذ مئات السنين،
في إشعالهم ثورتهم الوطنية الكبرى سنة 1925-1927، بقيادة سلطان باشا الأطرش، التي أرست على نحو نهائي وحدة الدولة السورية الحديثة بحدودها السياسية الراهنة، رافضين – رغم الثمن الغالي الذي دفعوه – “الكيان الدرزي” الذي قدمه المنتدب لهم على طبق من فضة،
في دورهم البارز في تحقيق استقلال الكيان اللبناني سنة 1943، واحتضان مناطقهم – بلدة بشامون ومحيطها – لتمرد عسكري انتهى بإعلان استقلال لبنان الحديث،
بتضحياتهم في صفوف الثوار الوطنيين الفلسطينيين، منذ سنة 1922 إلى مشاركة كتيبة درزية صريحة في جيش الانقاذ سنة 1948،
إلى تصديهم أخيراً – وليس آخراً – سنة 1983 لاتفاقية 17 آيار التي وقّعت لفترة قصيرة مع الاحتلال الاسرائيلي، قبل أن يسقطها ما اصطلح على تسميتها “حرب الجبل، 1983-1985″، وانتهت بسقوط الاتفاقية وإلغائها في مجلس النواب اللبناني، ثم اكتمل الانتصار – مع تضحيات المقاومة الوطنية اللبنانية وتضحيات الجيش العربي السوري – بانسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان، وقيام الجمهورية الثانية في لبنان،

تلكم بعض تضحيات جمهور بني معروف الوطني العروبي طوال ما يكاد يصبح قرنين من الزمان، دفاعاً عن العروبة والإسلام، ناهيل بالعمل السياسي والفكري والأدبي والتربوي التأسيسي والرائد، في غير باب ومجال وقطر.


هؤلاء هم بنو معروف، وتلك هي السويداء الصامدة الصلبة كحجر البازلت فيها. ولكن ألا يحق لنا التساؤل:
أهكذا يكافأ بنو معروف، وتكافأ السويداء حصن سلطان باشا، بل عنوان كل الوطنيين السوريين والعرب حتى الاستقلال!
أما من أحد قال للقتلة الإرهابيين الذين غدروا بأهل محافظة السويداء أنها كانت الرئة التي تنفسّ منها كل وطني ومظلوم ومهجّر ومحتاج من أرجاء سوريا كافة، هكذا في التاريخ كما في الأحداث الأليمة الأخيرة.

أما من مرجعية كبرى تقول للقتلة الإرهابيين الذي غدروا بقرى المقرن الشرقي فقتلوا رجاله المطمئنين، وخطفوا النساء والأطفال، أن بني معروف، كانوا لمئات السنين سيف الإسلام وحرّاس العروبة وطليعة المدافعين عن أوطانهم!

وأنكم تغدرون بمسلمين آمنين لم تجدوا منهم إلا السلام وحق الجيرة، ولم يرتفع من خلواتهم غير صدى الشهادتين: أن لا إله ألاّ الله، وأن محمداً رسول الله، فبأي حق شرعي غدرتم بالآمنين عندهم، شيوخاً ورجالاً عزّلاً وهم نيام؟ وبأي حق شرعي اختطفتم نساء وأطفالاً من بيوتهن؟ وهل في ذلك شيء من الإسلام الذي تزعمون زوراً الانتساب لضلاله السمحاء المباركة!

أما من مرجعية كبرى تقول لهم بالقلم العريض والصوت الشرعي الصارخ: ألا تبّت أيديكم! إذ ليس مسلماً من يغدر بالآمنين، وليس مسلماً من يقتل الناطق بالشهادتين، وليس مسلماً، بل ليس إنساناً، من يختطف غيلة ومنتصف الليلة نساء وأطفالاً كانوا قد أمِنوا للجيرة فناموا مطمئنين!

ويبقى الأكثر استغراباً أن يجري الغدر بالموحدين الدروز في محافظة السويداء في سوريا فيما أخوانهم في فلسطين يتصدون مع سائر مكونات الشعب الفلسطيني لقانون الهوية الإسرائيلي العنصري الأخير الذي كشف عياناً عن الوجه القومي العنصري للكيان الصهيوني ودفن إلى الأبد حلّ الدولتين.


أخيراً، لن يقتل السويداء حدوث ما حدث – على قسوته – وهي ليست آخر الدنيا لبني معروف ولجمهورهم الواسع في المشرق العربي: فهم تعوّدوا التحديات والصعوبات والتضحيات، بل تعوّدوا في الكثير من الحالات نكران الجميل ومبادلة مودتهم بالكراهية، وتضحياتهم بالتجاهل، وتفانيهم في سبيل أوطانهم بالنسيان!
وعليه، فسيبقى المعروفيون على عهدهم، وكما سلفهم الصالح دائماً، دعاة الإسلام المضيء السمح وسيفه القاطع، حرّاس فكرة العروبة الحديثة، روّاد استقلال أوطانهم ودعاة وحدتها وتقدمها وسؤددها بين الأمم.
ولن ينجح الإرهابيون في جرّ الموحدين الدروز إلى أي موقع أو سياسة تتعارض وتمسكهم بوحدة أوطانهم، وانتمائهم الإسلامي الصريح ديناً، والعروبة الحضارية التعددية الديمقراطية نهجاً سياسياً واجتماعياً.
الخزي والعار للإرهابيين، المجد والخلود لأرواح شهداء مدينة السويداء وبلدات المقرن الشرقي، والحرية لنسائها وأطفالها المخطوفين ظلماً.

الضحى ….. حزينة جداً

كان بودّنا أن يكون في العدد هذا، العدد 25، مُتّسعٌ كبيرٌ لأبوابٍ ومقالاتٍ وتحقيقاتٍ ملأى بنخبةٍ ممّا تعوّده قُرَّاء الضّحى: من مكارم الأخلاق والنفس عند أفلاطون، إلى اللغوي والصحافي الذائع الصيت لفترة طويلة، الأمير نديم آل نصرالدين، إلى شكيب أرسلان وبدايات التقدّم في اليمن، إلى التربوي الرائد الشيخ الجليل هاني باز، وسواها من فقرّات تستجيب لمطالب القرّاء في معرفة أكبر لتراثهم التّوحيديّ والأخلاقيّ والتاريخيّ والأدبيّ.
كان بودّنا ذلك، وأكثر، لكن الحدث الإرهابي الغادر الذي تعرض له أهالي محافظة السويداء في سوريا فجر الأربعاء 25 تموز 2018، وبخاصة السويداء المدينة وقرى المقرن الشرقي، وأودى غيلةً بعشرات الضّحايا، وببضع عشرات من المخطوفين الأبرياء المظلومين، نساءً وأطفالاً، قلب لدينا الترتيبات والأولويات. لقد ذهب بنا دفعة واحدة، ودونما مُقَدَّمات، من ذروة الفرح (بتنوّع مقالات العدد) إلى ذروة الغضب والحزن (الهجوم الإرهابي الغادر).
ولأنّ الضّحى هي رفيقة جمهورها ومرآته، وهي وعيه الجمعي وذاكرته، لم نستطع إلّا المواكبة اللّصيقة الدقيقة لما جرى في السويداء، ولم تُختَتَم فصوله بعد مع الأسف. وما شارة الحداد على زاوية الغلاف الأمامي الخارجي، حداداً لأرواح الضحايا وغضَباً للمخطوفات على أيدي الإرهابيين ظلماً وعداواناً صارخين، غير المدخل الرّمزي لملفٍّ واسع خصّصناه لما حدث فجر وصباح 25 تموز 2018، في السويداء المدينة والقرى الصغيرة المُعتدى عليها ناحية المقرن الشرقي، لِحَجم الاعتداء الغادر، وهمجيّته، من جهة، ولبطولة المشايخ والشبّان والنساء الذين تصدَّوْا بما تيّسر للإرهابيين المُدَجَّجين بأحدث الأسلحة، إلى ردّات الفعل والاعتصامات والمواقف الشاجبة للاعتداء الغادر الجبان ولمُنَفذيه من مُحترفيّ الإرهاب شُذّاد الآفاق.
أما وقد وردنا، فيما الضحى على ابواب المطبعة، خبر قتل الارهابيين للمخطوفة المظلومة ثريا أبو عمّار، بعد قتل والديها من قبل، والتهديد بقتل سائر المخطوفات، فقد حقّ لنا السؤال: أما من دولة أو جهة كبرى تضع حداً لجريمة العصر المتمادية هذه!
إلى جوار ربك ورحمته، راضية مرضية، أيتها الشهيدة المظلومة، ولا نملك في الضّحى إلا الدعاء بفك أسْرِ سائرِ النساء والأطفال المخطوفين، والقول لأهلنا في جبل العرب: نحن معكم في مصابكم الجلل، ولن نقصّر، ما وسعنا، في كل ما يعين على سرعة زوال هذه المحنة. كان الله في عونكم.

العدد 25