السبت, أيار 4, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 4, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

علي ناصر الدين

عليّ ناصر الدّين غير المعروف كثيراً من قبل العديد من المفكّرين العرب ومجهول إلى حد كبير من قبل المؤمنين بوحدة البلاد العربية هو في الواقع كما قيل عنه: إنّه مؤسس «عصبة العمل القومي»، صاحب «قضيّة العرب»، والمجاهد في سبيل القضية العربية، والمناضل البارز في الجبهات العسكريّة… (1)

ولد علي ناصر الدين سنة 1888 في بلدة «بمريم»، من أعمال المتن الجنوبي، البلدة الصغيرة والمستظلّة حفافي السنديان والصنوبر في الوادي المتنيّ الجميل، تعانقها حمّانا والشبانيّة وبتخنيه ورأس المتن شرقاً وشمالاً وغرباً، ويربض في أفقها الشرقي جبل صنّين، رمزاً أبديّاً لعلوّ الهامة وصلابة الصّخر وبياض الثلج.

تأثّر علي الابن بالمُناخ الوطني للوالد محمود ناصر الدين، وللمنطقة في مقارعة الغازي الأجنبي والمحتل عبر تاريخ سواحل الشام منذ أيام الفتح العربي الإسلامي، وبالثقافة الوطنية والقومية التي حصّلها على أكثر من معلّم ومدرّس من بمريم ورأس المتن، وصولاً إلى الكلّيّة الأزهرية في بيروت التي أسسها الشيخ أحمد عبّاس الأزهري؛ ذات التربية الوطنية والقوميّة التي أنجبت كوكبة من رجالات العمل القومي والوطني الذين لمعوا في المعارك الوطنية والقومية أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. هذا بعضٌ ممّا شكّل أو جبَل هذا العود الصّلب في علي ناصر الدين الذي اغتنى بعد ذلك بثقافته، وخبرته وغنى تجربته الأصيلة والعميقة.
في بواكير القرن العشرين بين المناخ الوطني الصّاعد والرقابة العثمانية غادر علي بيروت إلى باريس فكان يستزيد من الثقافة الفرنسية كما بات أقرب إلى المناخ القومي الصرف الذي كان يبثه من باريس نفر من أوائل القوميين العرب لبنانيين وسوريين. وبُعيْد نشوب الحرب العالمية الأولى وإعلان ولسون، الرئيس الأمريكي، مبدأه الشهير في «حق الأمم في تقرير مصيرها»، التحق علي في شمال إفريقيا بالفرقة الأجنبيّة في جيش الشَّرق التابع للحلفاء الذي شكلته فرنسا، والذي توجه إلى الشّرق في سنة 1917 لمساعدة الإنكليز ضدّ الأتراك والألمان وهزيمتهم، من ثمة، متوهّماً أنَّه يجاهد في تحرير بلده وأمّته من النير العثماني، وفي إيصالها، بالتالي، برَّ الاستقلال والحرية، لكن أوهامه لم تَطُل، فقد اكتشف بالملموس، من تجربته ومن تطوّرات قضية الثورة العربية الأولى للشريف حسين، أنّ الحلفاء غير صادقين في وعودهم، وأن حلم العرب بالحريّة قَصِيُّ وبعيد، وعليه لم يَطُل المقام بعليّ في جيش الحلفاء، فغادره.

جهاد وعفّة نفس

كان عليّ يجاهد دونما ثمن من أجل العروبة، دون طمع بمكسب أو مغنم، ومن ذلك أنّه كان في عداد وفد لبناني ذهب لتهنئة الملك غازي ملك العراق إبّان تنصيبه على عرش الرافدين، وفي المساء اختفى عليّ من قصر الضيافة المُخصّص للضيوف؛ حيث كان الوفد. قضى ليلته عند رفيق له هو نقولا خير؛ الذي كان يسكن غرفة واحدة متواضعة. كان همّ علي توطيد عرى الصداقة مع رجال الحركة العربية. وقبل العودة من العراق أصرّ الملك أن يمنح كلّ فرد من أعضاء الوفد مبلغاً ماليّاً مُحترماً عربون صداقة؛ فاعتذر عليّ عن أخذ المال بتهذيب وشمم.

هذا الأجر المادي الذي لو كان لعلي طمعٌ فيه لدى الفرنسيين لنال فوق ما يستطيع منافسوه، لكنّه كان مشغولاً بما هو أكثر أهمّيّة وأبقى أثراً(2).

يروي لطف الله الخوري في جريدة الحياة، عدد 3966، أنّ محاكمات المهداوي بعد ثورة 14 تموز في العراق 1958 كشفت الكثير من الصّلات الماليّة لبعض رجالات تلك الحقبة، أمّا برقيات السفارة العراقية التي نُشرت فبيّنت أنّ عليّأً كان وكالعادة أكبر بكثير من كلّ المال، ويعلّق الخوري: فإذا كان ثمّة من حسنة أعترف بها لهذه المحكمة العسكريّة في العراق ففي أنّها خلال محاكماتها أوردت ـ مرغمة، طبعاً بالواقع والحقيقة ـ وثيقة أو مستمسكاً يصح أن تكون مثلاً يُحتذى للشباب العربي.
كما كتب محمّد علي الرّز وهو أحد رفاق علي البارزين يقول إنّه في أواخر الستينيّات بينما عليّ يصارع المرض الذي أنهكه، سمع جَلَبة في الشارع فقالت له زوجته: إنّ حاكم الكويت حلّ في المبنى المجاور. فأرسل له رسالة يتمنّى عليه أن تتبنّى دولة الكويت مشروع مؤسسة لعلماء الذرّة العرب في موازاة علماء إسرائيل، وعرّفه بنفسه بأنّه إنسان عربي يصارع الموت، ولا يبغي مغنماً؛ بل أهداه كذلك مجموعة من كتبه؛ أُعجب الأمير بالرسالة فأرسل له مُغلّفاً يحوي مبلغاً كبيراً من المال مع رسالة احترام، فكتب له علي ثانيةً يقول: اسمح لي يا سموَّ الأمير أن أقدّم هذا المبلغ مساهمة متواضعة منّي في سبيل تحقيق المشروع الذي اقترحته على سموّك. أعاد الأمير ثانية المبلغ فأصرّ عليّ على الرّفض مع التحيّة والشكر، هذا مع العلم أنّه كان لا يملك، آنذاك، ثمن الدواء الذي كان بأمسّ الحاجة إليه…»(3)

هذا بعضٌ من رهبنة علي ناصر الدين وسموّ نفسه، ولا حاجة لاستزادة أو استفاضة. يكفي أنّهم كانوا ينادونه بـ «الشهيد الحيّ»، إشارة إلى عظيم معاناته، وجميل صبره، وبالغ حزنه في غربته في محيط أصمّ.

المواجهة مع المحتلّين

 

بيروت سنة 1922

انقطع علي عن الفرنسيين، وانقلب إلى معاداتهم مطلع عام 1919، وقبل مبايعة فيصل ملكاً على سورية العربية المستقلة، وتلا ذلك اجتياح غورو لدمشق بعد إعاقة بطوليّة قصيرة في ميسلون في 24 تموز 1924، وثبت أنّ العرب خرجوا من الاحتلال التركي ليعلقوا في براثن احتلال آخر… عندها انصرف عليّ إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي كاتباً وخطيباً ومحاضراً، بل لعلّ بعض نشاطه التنظيمي القومي الأوّل يعود إلى عام 1921 في بيروت وفي حلقات أولى مع بعض المثقفين البيروتيين والعرب الذين كانوا يشاركونه إحباط سقوط الدولة العربية الاستقلالية الحديثة الأولى، وبواعث السعي إلى تجديد العمل العربي القومي وتجذيره وتنظيمه. وكان اعتقاله واستجوابه، وأطلق بعد ذلك وهو أشد إصراراً على مقاومة حكم الانتداب، والاستعمار عموماً، وعلى ضرورة تجديد العمل العربي القومي ونشره، فأسّس مطلع عام 1922 جريدته الأولى «المنبر»، فكانت بياناً قومياًّ عربياً في التاريخ والسياسة والأدب. كانت تتلقفها الناشئة القومية، في بيروت خصوصاً، في لهفة واهتمام، وكان لها دور في إطلاق الحلقات القومية الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت.

لكنّ «المنبر» لم تكمل عامها الأول فقد أغلقها الفرنسيون وجرى اعتقال علي ثانية فكُبّل بالحديد وأُخرج من لبنان ونُفي إلى حيفا في فلسطين، وفي حيفا تابع حملته الشعواء على المستعمر الفرنسي الذي مزّق البلاد السورية الواحدة، إلى دويلات، ونهب ثرواتها، فكانت صفحات صُحُف «الكرمل» و «اليرموك» و «الحقيقة» منبراً آخر لحملته تلك، وفي مطلع سنة 1925 عاد علي إلى بيروت بعد توسّط الأمير مصطفى أرسلان (دون طلب منه)، كانت آنذاك فترة تصاعد الثورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في أنحاء جبل الدروز، وضواحي دمشق، وفي الأقسام الشرقية والجنوبية من لبنان، وأجفل الفرنسيون وأعوانهم منه، وقد أوقع الثوار في صفوفهم الهزيمة تلو الهزيمة، فاتهموه وبعضاً من رفاقه بالاشتراك في الثورة السورية ومدّها بالتأييد الماديّ والمعنويّ، فاعتقلوه في 15 شباط 1926 ونفوه إلى أرواد ومنها إلى القدس.

بعد الوعود التي أُعطيت، وانتهاء العمل العسكري للثورة، ومناخ الحرية (النّسبي) الذي ساد لبرهة وجيزة أُطلق سراح علي؛ إلّا أنّه وكالعادة عاد سريعاً إلى جهاده وبيانه وتنظيمه فكان تأسيسه سنة 1927 لعصبة تكريم الشهداء مع صحب ميامين من بينهم صلاح الدين بيهم وقسطنطين يني وفهيم الخوري والشيخ أحمد عارف الزين ويوسف ابراهيم يزبك وجورج عقل وسواهم، وحظر الفرنسيون كالعادة عمل العصبة، واعتبروها غير قانونية ولاحقوا أعضاءها. لكن عليّأً وكثيراً من صحبه لم يأبهوا للأمر.. واستمر عليّ يُرسي عمل العصبة كمحاولة وطنية واسعة لاحتضان ذكرى الشهداء الوطنيين وتكريمهم من خلال تكريم قضيتهم وحفظها وتجديدها، فناصبهم الفرنسيون العداء وطاردوهم حتى عام 1936 حين تولّى ميشال زكّور وزارة الداخلية في لبنان، فأوقف المطاردة عن عصبة التكريم، واعتبرها هيئة وطنية ذات صفة رسميّة تتعاون الحكومة مع أعضائها في وضع منهاج الاحتفال، وكان عليّ رئيساً لتلك العصبة منذ تأسيسها حتى عام 1936.

في سنة 1928، يمّم شطر طرابلس وتولّى مع رفاق له تحرير صحيفة «اللواء» لكن سلطات الانتداب كانت له بالمرصاد، فطاردته وعاد إلى فلسطين…(4) غير أنّه لم ينقطع عن الكتابة في العديد من دوريّات تلك الفترة أمثال «البيرق» و«الأحرار» و«البلاغ» و«اليقظة» وعلى الموضوع عينه وفي الواقع ذاته من الصراحة والجرأة والحدّة في المواقف.

مؤتمر العصبة

وفي مأثرة عليّ الأبرز؛ تناديه ونخبة من رفاقه القوميين القدامى من لبنان وسورية وفلسطين إلى مؤتمر قومي للبحث في شؤون العمل العربي القومي، فانعقد المؤتمر بين 24 و 29 آب سنة 1933، فتمخض عن تأسيس «عصبة العمل القومي» وكان علي، بشهادة المؤتمرين، لولب الاجتماعات؛ وقلبها الحيّ النابض كتابة، وخطابة وتنظيماً وشرحاً دائباً لأهداف العصبة، والعمل المستمر على رعاية فروعها، كما كانت فرصة لاشتراك قومي عميق من جانب علي ابن الستين عاماً في أعمال الثّورة الفلسطينية عام 1936، إلى جانب آخرين من فتيان العصبة ورجالات العمل القومي في أكثر من قطر عربي.(5)

من الذين رافقوا أبا وائل (عليّ) في مؤتمر العصبة واشتركوا في تأسيسها نذكر: الشيخ عبد الله العلايلي والمحامي فهيم خوري والأستاذ ناظم القادري والشيخ قسطنطين يني والأستاذ أكرم زعيتر والدكتور محمّد خير نوري والمحامي شوقي الدندشلي والأستاذ محمّد علي الرز وآخرون، وبعد تأسيس العصبة ترأس علي فرع لبنان كما كان الدكتور محمّد علي الرز أمينها العام، وعلى هذا كانت العصبة سبباً في اصطدام علي مع الاحتلال الفرنسي فتمّ اعتقاله…

وقد تميزت العصبة عمّ سبقها من تنظيمات مثل جمعية العربية الفتاة وحزب الاستقلال والعهد (خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثماني)، هو أنّها ميّزت وللمرة الأولى وعلى نحو واضح وكامل بين القومية والدين، أو تحديداً بين العروبة والإسلام، لأنّ القومية غير الدين، والدين غير القوميّة والعروبة، وإن كانت (العروبة) كثيرة القربى والولاء لصعود البعثة المحمّديّة والدين الحنيف، فهي مستقلة تماماً عن الدين، وهي ليست بالتالي قضية إسلامية ــ وهو الموضوع الذي سيوضحه علي، مَلِيّاً، في مقالاته وخطبه ثم بإسهاب في كتابه «قضية العرب» الذي فرغ منه في أواخر الثلاثينيّات. وهكذا وإذا كان هناك الآن من عروبة علمانية ـ ليست ضد الدين إطلاقاً ولكنها في ميدان غير ديني ـ فإنّ الفضل فيها إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى عصبة العمل القومي، وإلى إسهام علي ورفاقه، وإن يكُ هو الأكثر قِدَماً بينهم والأكثر نتاجاً ووضوحاً في المسألة.

كان دور علي الأساسي والمركزي في مؤتمر قرنايل في تأسيس العصبة هو «موضع إجماع، على الدوام، بشهادة المُحدِثين؛ كما المعاصرين من أمثال أكرم زعيتر وعبد الله العلايلي، ومحمّد علي الرز وابراهيم يوسف يزبك، وسواهم، وهو موقع تبدّى كذلك في ترؤسه فرع لبنان للعصبة، الفرع الأكثر نشاطاً والأكثر ديمومة. لكنّ ما لا يشار إليه دائماً أو لا يشار إليه بالمقدار المناسب هو دوره الفكري التأسيسي للمشروع العربي القومي الحديث الذي يعود إلى نهاية الثلاثينيّات وإلى ثلاثة أو أربعة كتب تحديداً منها: «دستور العرب القومي» للشيخ عبد الله العلايلي الصادر سنة 1938، و «الوعي القومي» لقسطنطين زريق الصادر سنة 1939 ثمّ «قضية العرب» لعلي ناصر الدين الصادر عام 1946»(6).

إنّ الكثير من أسس برنامج عمل العصبة، كما المشروع العربي القومي الحديث عموماً، إنّما هو في الحقيقة نتاج اجتهاد علي وإبداعه وثقافته وتجربته، مع لحظ الأهميّة الكبرى لما أضافه غيره، إلى هذا الحد أو ذاك.

وفي ذلك كتب لطف الله الخوري عن علي: «كان أحد مؤسسي أول حزب عربي على أسس علميّة وقومية خالصة». أمّا محمّد علي الرز الذي كان أحد المشتركين في مؤتمر قرنايل والذي انتخب أميناً عاماً للعصبة فيقول في ذلك»كان علي القلب النابض لذلك المؤتمر الذي انبثق عنه حزب» عصبة العمل القومي» الحزب القومي الوطني الذي جسد بشكل علمي آمال الملايين من الخليج إلى المحيط والذي تتلخص أهدافه فيما يلي:

  1. العرب أمة واحدة…
  2. الأمة العربية جسم اجتماعي واحد…
  3. البلدان العربية بكليتها وطن عربي واحد.
  4. القومية العربية تنبذ كل ما عداها من العصبيات الطائفية والقبلية والأسريّة.
  5. الحركة العربية حركة تحرير وإنشاء.
  6. تعمل العصبة لإقامة نظام اقتصادي عادل شامل يظفر فيه كل مواطن بحقه المتناسب مع عمله وتحارب الجهل والفقر والمرض.

ثمّ تركز بقيّة الأهداف على الإنماء والمشاريع الاقتصادية والعدل والمساواة بين الرجل والمرأة وضرورة التركيز على التنظيم داخل الدولة. وهكذا،
فإنّ فضل علي الفكري في التأسيس المنهجي لفكرة العروبة العلمانية الحديثة لا يقل عن فضله في الجهاد لمشروعها السياسي والتاريخي، ولعل الرّيادة التي قصدها العلامة العلايلي في تأبينه لعلي ناصر الدين تقع في هذا المفصل بالتحديد.

أما ميزة العصبة الثانية ـ ولعلّ في ذلك بعضاً من تبتُّل علي ـ فهي طلاقها المطلق مع المستعمر طلاقاً يبدأ برفض أي مركز أو وظيفة أو تعاون معه، لينتهي في أشكال المقاومة كافة وصولاً إلى القتال. ويُروى أنّ طبيباً عضواً في العصبة قبل وظيفة ناظر صحيّة دمشق، فما كان من فرع العصبة في دمشق إلّا أن أقاله من عضوية العصبة، وهذا بعض من رهبنة العمل القومي كما فهمته العصبة وكما طبقه عليّ على نفسه وإلى أقصى درجات الاحتمال الإنساني.

في 3 أيلول 1939 مع بدء الحرب العالمية الثانية اعتقل الفرنسيون علي مع كامل أعضاء اللجنة المركزية للعصبة في معتقل «الميّة وميّة» في جنوب لبنان حيث بقي مدّة أربع سنوات (وقد نال الاعتقال من جسمه وصحّته الكثير) ليُفرَج عنه صبيحة يوم استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943…
ويعلق د. شيا: «ومن الطّريف حقّاً أن يخرج علي من معتقله صبيحة يوم الاستقلال كأي معتقل أو مجرم آخر، وكأنْ لا دور له في هذا الاستقلال، بل لكأنّ هذا الاستقلال الذي تحقّق غير ذاك الذي طلبه علي، وضحّى في سبيله بأغلى ما يملك. هذه المرارة هي التي أحسّها عليّ في صدره فقال: «وإنه لمن الغرابة والشذوذ، فعلاً، بحيث يكاد المرء يكفر بعدالة السماء، وصحة السّنن الطبيعية في التطور والتقدم أن تنكشف رواية الاستقلال عن أنّ سماسرة الاستعمار وعبيده صاروا من أبطال الاستقلال وأسياده ــ وما أدري كيف يكون السماسرة والعبيد أبطالاً وأسيادا ــ وعن أن هزل القدر، مضافاً إليه قلّة حياء البشر من كهول وشبان وصبيان، شقّ لأشخاص من مثل هؤلاء طريق التبجّح… وشرف النضال!!!»(7)

نعم لقد طبقت فرنسا بحق عصبة العمل القومي أشدَّ الإجراءات القمعيّة وصلت إلى الحكم بالإعدام، بينما أمر المفوّض السامي؛ غبريال بيو، بملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي واعتقال قادتهم، وبعدم التعرّض للكتلة الوطنية والشهبندريين على اعتبار أنهم لا يشكلون خطراً!

أعضاء المؤتمر الإسلامي العام، القدس 7 كانون أول 1931.

علي في معترك الحق الفلسطيني

تعود علاقة علي بفلسطين إلى عام 1924 فقد عرفها منفيّاً عام 1924 ومجاهداً سنتي 1933 و 1936، ومشتركاً على أرضها في أوّل مؤتمر إسلامي حديث في القدس سنة 1931، المؤتمر الإسلامي العالمي الذي ضمّ وفوداً لامعة من الدول الإسلاميّة. كان ما قدّمه علي ناصر الدين عامي 1947 ــ 1948 هو نبراس آخر مضيء في الطريق القومي الصعب الذي اختاره أبو وائل.

في تلك الفترة، تحوّل علي مع نهاية سنة 1946 وسحابة سنتي 1947 ــ 1948 إلى داعية لا يلين لعروبة فلسطين، وضرورة شحذ الهمم وتعبئة الطاقات وتوحيد الصفوف، دفاعاً عنها، أرضاً وسكّاناً، فاستصرخ في العرب كلّ ما فيهم أن «احفظوا فلسطين» التي تكاد تضيع، وما ترك وسيلة شريفة إلاّ ولجأ إليها، ولم يخاطب العرب فريقاً دون فريق بل رأى، لتفاؤل فيه، أنّ كل العرب سواسية في مسؤولية حفظ عروبة فلسطين ونجدة المجاهدين من أبنائها. وعشية الدخول إلى القتال في فلسطين، وجّه علي إلى رفاقه في «عصبة العمل القومي» نداء قوميّاً حارّاً وفي ما يلي بعض منه: «أيّها العصبويون.. أيُّها العرب، من كان يستطيع القتال ولا يقاتل فهو جبان، ومن كان يستطيع القتال ولا يقاتل خائن وجبان! أدعوكم للقتال، وأبدؤه بنفسي، وملتقانا في بطاح فلسطين…»

ودخل علي فلسطين، مجدّداً، برفقة القاوقجي الذي كان قد ساهم معه في تكوين جيش الإنقاذ لمحاربة الصهيونيين، وكان في قيادة الجيش المذكور، وسهّل مرور أوّل كتيبة عبر الأراضي اللبنانية إلى الجليل في فلسطين بعد أن اجتمع، ومعه أحد رفاقه، الفريق عفيف البزري، مع صديقه قائد الجيش اللبناني، في تلك الفترة، اللواء فؤاد شهاب؛ الذي قدّم المساعدة لهما، وقد شارك علي في استطلاع طريق جيش الإنقاذ، وفي جميع المعارك التي خاضها هذا الجيش في فلسطين وتولّى إدارة قسم الإعلام فيه وإدارة إذاعة فلسطين العربية من رام الله.(8)

كان نداؤه: القتال والإقدام، وهو الشيخ ابن الستين عاماً، وكان لا يخلد إلى راحة متنقّلاً بين موقع وموقع، ومن خندق إلى خندق، وكان إذا حضر موضع حفاوة من قبل المتطوّعين، كما يروي الفريق عفيف البزري شريك بعض مراحل تلك الحملة، هذا إلى اشتراكه الفعلي في القتال والمعارك كما في حصار القدس واللطرون. عاد أبو وائل من فلسطين ـ كما يروي الصحافي المجاهد أكرم زعيتر ـ فارساً مهزوماً جريحاً مكسور الخاطر والقلب(9).

عليّ بعد نكبة فلسطين

اعتزل عليّ في بيته، لا يخرج منه، لا يكتب، لا يحاضر، لا يعتلي منبراً إلّا في النادر النادر وفي موضوع واحد، وهو كيفيّة محو العار، أو الثأر للنّكبة في فلسطين.

وكان عليّ على علاقة وطيدة بحركة القوميين العرب، التي تأسست في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1951، كان تأثيره السياسي في تطوّرها أهم ما تأثّرت به الحركة من خارجها… ويُعْتَقد أنّه كان وراء حملة المقاطعة التي قادتها الحركة في بيروت(10). كما أسّس منشورات دار الحكمة، عام 1955، مع محمود عبد الصمد وعلي أبي حيدر، ليعيد كتابة التاريخ العربي بشكل علمي وصحيح لبعث التراث العربي الفكري، لأنه يؤمن بأن الحضارة العربية حضارة إنسانية تستطيع مواكبة التطور في العالم(11). وألّف عدة كتب أهمها قضية العرب الذي عبر فيه عن مفهومه الحضاري للقومية، وردّ على الذين يخلطون بين العروبة والإسلام، واعتبر أنّ العمل السياسي يجب أن يؤدي إلى المساواة والعدالة لكل أفراد المجتمع، وقد أنجز تأليف جزء من الكتاب المذكور وهو في سجن «الميّة وميّة».

كان للهزيمة في نفسه ثمن يجب دفعه، فقد أدّى اعتكافه وخيبته وحزنه وحدّته العصبية البالغة إلى تأزّم تدريجيّ في وظائف جسمه الحيويّة وفي تصلّب شرايين القلب، خصوصاً، فانحطّت قواه، تدريجيّاً، في نهاية الخمسينيات وسحابة الستينيات وما بعدها، ليجد أخيرا،ً راحته الأبديّة في رضوان ربّه، في 29 نيسان سنة 1974، عن عمر ناهز السادسة والثمانين(12). وكانت كلمته الأخيرة حيث وُجِدت بين أوراقه مُدَوّنة قبل ساعات من وفاته: «سأبقى منقطعاً عن كتابة مذكّراتي ما دامت هذه الأمّة التي من أجلها كدت أموت، ويا ليتني متُّ قبل أن يدركها الذلّ والعار، مُتضرّعاً إلى الله أن ينقذها ولو بأسبوع قبل أن أموت رغم ما أتألّم منه من مرض النشاف»(13).

رؤية شاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده

هي رؤية صائبة، ما كان يلحّ عليه عليٌّ، في إعلانه وشرحه والتفصيل فيه، منذ أولى كتاباته في العشرينيات، عبر مجموعة كتابات، في أجزاء منها: «هكذا كنا نكتب» وغيرها…

وفي ذلك، تبلور مشروعه العربي القومي النهضوي والوحدوي، مذ هُزِمت أوّل تجربة عربية استقلالية حديثة، سنة 1920، على يد الفرنسيين بعد احتلالهم دمشق…» وليبلغ ذروته – حسب اعتقادي – في تأسيس عصبة العمل القوميّ، سنة 1933، أعظم إنجازاته على الإطلاق(14).

نظر عليّ ناصر الدين للأمة العربية في تاريخها الإجماليّ، فكتب في تاريخ العرب قبل الإسلام «سلسلة الثائرون العرب في التاريخ»، وصدر منها «أذينة والزبّاء» و»الملك سيف بن ذي يزن»…

كان له همٌّ واحدٌ وقضية واحدة هي «قضية العرب»، وهو كتاب صدر في طبعات ثلاث، الأولى عام 1946، والثالثة والأخيرة صدرت عام 1963. والكتابُ نظريٌّ رئيسيٌّ بالغ الدقّة رغم شموليّته؛ فالعروبة، عنده، قوميّةٌ، ترتكز على بعث الأمجاد السالفة، بهدف إقامة دولة عربية واحدة. ويحدّد علي هوّيّته، فيقول: «نعم، أنا قوميٌّ، ومعنى ذلك أنّني عربي مؤمن بعبقريّة أمّتي وحقها في الحياة حُرّة مستقلَّة مُوَحّدة، ومؤمن بمستقبلها العظيم وبأنني وأخواني القوميّين العرب بُناة هذا المستقبل»(15).

العروبة لدى عليّ تشمل كلّ العرب بِغَضِّ النَّظر عن الانتماء الدينيّ

يقول عليّ: «إنّني أعتبر كلّ عربي – مهما يكن منشؤه، ومهما تكن عقيدته الدينيّة – أخاً لي مُتَمِّماً لِقَومي… وإنّني حارس العروبة؛ أحميها بأخلاقي وأقوالي وأعمالي ودمي… رسالة القوميين العرب هي رسالة القوّة والحق والخير إلى العرب ثمّ إلى الناس، كافة، ويريد القوميون من وراء ذلك أن يخلقوا من الناشئة العربية، ذكوراً وإناثا،ً جيلاً قويّاً صالحاً جريئاً خَيِّراً عاملاً مؤمناً… يعمل لإنشاء كيان قومي عربي موحّد قوي: أي دولة عربية اتحادية كبرى، تستند إلى القومية الخالصة، وتحارب الفَقر والجهل والمرض والظلم وكلَّ عصبيّة إلّا العصبية القوميّة(16). وإلى اللبنانيين يتوجّه علي ناصر الدين بخطابه، فيقول: «لا قوميّة لنا إلّا القومية العربية، فنحن عربٌ، نعمل، ونجاهد في إيمان وإخلاص للوحدة العربية، ونريد أن نقنع اللبنانيين، كافة، بهذا؛ ولا يتيسر لنا ذلك ما نوقّعنّ في نفوس الذين من اللبنانيين ربّتهم الإرساليات السيّارة والمعاهد الأجنبيّة الثابتة تربية غربية، وأشربتهم روح النفور من العرب والعروبة… لا يتيسر لنا ذلك ما لم نوقظ في نفوس هؤلاء، جميعاً، الشعورَ بالقومية العربية المرتكزة على التاريخ واللغة والأدب والتقاليد والسلالة الغالبة والمصلحة المشتركة…»(17).
ومن قبل، كان عليٌّ يقول بهذا في نهاية العشرينيّات، في وقت كانت فيه الأوساط الثقافية المحلّية في سورية واقعة تحت تأثير الأب لامنس (الفرنسي) اليسوعي ونظريته حول سورية السورية غير العربية. وإلى هذا يشير د. محمّد شيا: «أرسى علي ناصر الدين، منذ نهاية العشرينيات، الخط العربي الخالص الصّراح، والذي لا تشوبه شائبة، ولا يدخل فيه غير العامل القومي دون سواه، لذلك يجب أن نضيف – ومن باب الأمانة العلمية – أنّ عليّاً يستبق، زمنيّا،ً في ذلك غالبية القوميين العرب ومنظّريهم ومفكّريهم، وأنَّ هؤلاء سيجدون، بالتالي، في كتابات عليّ، كما تثبت كل قراءة مقارنة، بذورَ كثير من أفكارهم وأصولاً غير نظرية من نظرياتهم، بل وقدراً لا بأس به من تفاصيل شكل خطابهم القومي وأدواته وصياغاته»(18).

علي ناصر الدين والثورة السورية الكبرى

يقول د. محمّد شيا إن العاصفة الهادرة التي أطلقها سلطان باشا الأطرش بإعلان الثورة السورية الكبرى عام 1925، كانت الرافعة القوميّة الضخمة التي قلبت مسار الأحداث «أطلقت من جديد التيار القومي العربي التوحيدي، وكسرت حاجز الخوف، وألزمت الفرنسيين في تنازل غير مباشر على التخلّي عن سياسة تفتيت سورية إلى دويلات مصطنعة وإلى اعتراف متزايد بالحكم الذاتي؛ مع قدر من الحرية تجلّى في تنظيم الأحزاب والانتخابات وما إليهما..» في تلك الآونة غدا علي ناصر الدين صوت الثورة في الصحافة البيروتية والعربية، إلى رفاق آخرين له، وَرَدّ الفرنسيون على الفور باعتقاله وسوقه موثوقاً إلى سجن القلعة بتهمة مراسلة زعماء الثورة في سورية، والعمل على تأمين المدد لها(19).

كتب علي في تلك الفترة «إنّ دمشق واسطة العقد في جيد هذا الشرق العربي الذي يستيقظ استيقاظ الجبار الكريم… دمشق معلّمة بلاد العرب الغضب للكرامة… فنحن نصرّح باقتناع أننا دمشقيّون شاميّون وعراقيّون وحجازيّون ونجديون ويمنيون ولبنانيون وأيّة غرابة في ذلك» ويقول أيضاً «لقد كنّا نقول: إننا عرب سوريون أصحاب عقيدة قومية.. وإننا نريد أن نكون أسياداً في بلادنا أحراراً نقول ذلك ونعمل له في صراحة وإخلاص وروية وإننا نريد وحدة سورية فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم ونعمل لذلك في إخلاص وصراحة ورويّة».

وفي رؤية حضارية غير عرقية ولا عنصرية للقومية يقول علي»العربي هو من كانت لغته العربية»(20). في شباط 1930 كتب أيضاً «إنّنا عُصَبٌ تدعو إلى تشييد الكيان السياسي على أسس القومية الخالصة وإنّ قسطا وغسان العربيّين لأقرب إلينا وأحَبُ من محمّد خان العجمي وعصمت قره بكير التركي. وأن يلحد أحدُنا بالدين لا يعنينا في شيء مثل أن يُلحد بالعروبة»(21).

آمن علي بأولويّة العروبة ولزوم تفعيل الدين الإسلامي في مواجهة الاستعمار الغربي وكان المستعمر الإنكليزي يتوجّس من نشاطه في هذا المجال، وفي هذا يقول د. محمّد شيّا «وليس من المصادفة في شيء أنّ المستعمر الإنكليزي في فلسطين يقبل علي ناصر الدين عضواً في المؤتمر الإسلامي لسنة 1931، بينما يتّهمه أنّه يسعى من وراء ذلك إلى مؤتمر عربي قومي ممنوع»(22).

علي ناصر الدين والحق الفلسطيني

حذّر علي أهل فلسطين منذ 1924 بقوله «يا أبناء فلسطين، لا تضيّعوا فلسطين» وهم لم يسمعوا همسه العاقل «أيّها العرب الفلسطينيون… ألا أن تجمعوا كلمتكم وتنظموا صفوفكم وتعملوا جادّين مخلصين وتعدّوا لهم في علم ما استطعتم حتى ترهبوا عدوّكم وتحفظوا فلسطين». بهذا، منح أبو وائل القضية روحه وعقله وجهاده، فدقّ النفير قبل الكارثة بزمن، إذ حذّر وأنذر وألمح وأفصح، وشرح بالحجّة والبرهان طبيعة الخطر الداهم في أحاديث وخطب ومؤتمرات واتصالات ومؤلّفات… وحَمَل جسده النّحيل إلى فلسطين وهو في الستين من عمره مجاهداً في جيش الإنقاذ… وبعد الكارثة كتب يقول: عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور ومنها أن لا أحاضر ولا أخطب ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً إلا أن يكون الغرض منه البحث الجدي في محو العار الذي ألصقه بالعرب، فريق من العرب أنفسهم، قبل الإنكليز، وقبل الأمريكان وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب ويترتَّب عليهم أن يتقيَّدوا بها ويسيروا عليها. وليس غريباً أن يكون عدد من المنظمات القومية التي حاولت الردّ على النكبة إنّما قامت تحت تأثير مباشر من أفكار علي ناصر الدين، وربما بهديه وتوجيهه، من منظمة «شباب الثأر» إلى حركة القوميين العرب «وغيرهما من ردّات الفعل التي ظهرت بعيد 1948.

ويقول علي بثقة «كانت فلسطين وما برحت جزءاً من بلاد الشام… وستظل كذلك ما دام في العالم لغة عربيّة وقومية عربية وأخلاق عربية وأنَّ الفلسطينيين كانوا وما زالوا عرباً شاميين … وسيظلون كذلك ما دامت الأرض لا تبدّل غير الأرض والسماء لا تبدّل غير السماء»(23).

علي في مواجهة الصهاينة

القائد فوزي القاوقجي
في قرية جبع سنة ١٩٤٨

ويدرك علي مدى تقصير قومه العرب في البذل دون حقّهم المُهدد في فلسطين فيقول: «التقصير من أهل الحق أحال الحقيقة إلى حلم وذكرى، هو ذا الفارق بين ما فعله اليهود وما لم يفعله العرب يقول علي ناصر الدين من على صفحات جريدة الكرمل في حيفا 1924 «عرف الصهيونيون فصرفوا معارفهم وجهودهم في المُنصَرف الذي تَصرف فيه الجماعات الحيّة معارفها وجهودها فأنشأوا الجمعيّات وألّفوا النّقابات صناعية وزراعية وتجارية وأسسوا المعاهد وأقبلوا على العلم زرافات فإذا منهم جيوش مُتعلّمة عاملة منظّمة وإذا هم يسيرون في الاقتصاد والاجتماع والسياسة في سبل قويمة وعلى خطط مدروسة مقرّرة ثابتة سيبلغون بواسطتها إلى ما يريدون إذا هم لم يُصدموا صدمة عنيفة وإذا هم لم يحارَبوا بسلاحهم من علم وعمل…»(24). وبالإضافة إلى ما سلف يقترح علي في مواجهة الصهاينة سلاح المقاطعة الشاملة اقتصادياً واجتماعياً وعلى هذا فليس غريباً أن ينعقد أوّل مؤتمر عربي قومي في فلسطين أواخر سنة 1931 في القدس وعلى هامش المؤتمر الإسلامي العالمي في حينه حيث اختير الأمير شكيب أرسلان أميناً عاماً للمؤتمر وكان عملاء الإنكليز يستريبون بنهج عليّ القومي العروبي في المؤتمرين ويعملون ضدّه في الخفاء(25)

لقد اجتمعت المذاهب الإسلامية كافة لرد الغزوة الغربية المُتمثلة في الأطماع الصهيونية في فلسطين بغضّ النظر عن التباين والتمايز، بل أمَّ المصلّين في الأقصى ولأوّل مرة إمام من الشيعة وأشاد المؤتمر في مقرراته بمواقف النّصارى الشجاعة، وانصهارهم التام مع الحركة الوطنية الفلسطينيّة، كما يقرّ علي بذلك. وتطور موقف علي من الكلام والتحذير إلى العمل والتنظيم المتمثل في تأسيس عصبة العمل القومي إثر مؤتمر قرنايل 1933 وكانت القضية الفلسطينية الحاضر الأكبر في المؤتمر، وإلى هذا يشير محمّد شيّا، أنّ العصبة « رفعت الردّ على الغزوة الغربية الصهيونية من مستوى الردّ القطري إلى مستوى الردّ القومي..». وكان بين المؤتمرين شبّان من فلسطين وسورية ولبنان… ويذكر الدكتور محمّد علي الرز أمين عام العصبة أنّ علي ناصر الدين طلب من الحاضرين وقد اتّجهوا جميعاً صوب قبلة فلسطين أن يُقسموا على الدفاع المستميت عن عروبتها.

ولهذا الموقف المبدئي من الحقّ الفلسطيني ومساعدة علي للمجاهدين والثوار وبالوسائل كافة اعتقله الفرنسيون في الفترة بين عامي 1939 و1943
غير أنّه «وبعد خروجه من السجن عاد أبو وائل إلى ديدنه في لجوئه إلى كل وسيلة ومناسبة، في الصحافة ومحطّة الإذاعة واللِّجان، وسواها، داعياً إلى تكثيف العمل والجهد في ردّ الخطر الصهيوني، وعلى هذا فقد أنهى حديثه الإذاعي من محطة بيروت في الثاني من تشرين الثاني عام 1946 بندائه: «أقول لمن يشاء منكم إلى اللقاء في ساحات الشّرف ولا أذكّركم بخضاب الرجال، فإنكم في ما أظن لذاكرون. وبين تشرين الثاني 1946 و1948، تاريخ دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين كان اشتراك علي حاسماً في التحضيرات والاستعدادات ومَدّ المقاومة في الداخل بما تحتاجه من مال وسلاح… كانت استعدادات مشتركة مع القائد فوزي القاوقجي الذي محضه علي تقديراً يستحقّه، وتولّى عليّ محطته الإذاعية التي واكبت الحملة… وفي أكثر من حالة كان علي وقد جاوز الستّين وهو في مرضه وهُزاله يرافق الوحدات العسكريّة… وكما يروي الفريق عفيف البزري أنّه كان مرافقاً لأوّل كتيبة عسكرية دخلت عبر الأراضي اللبنانية …

وفي داخل فلسطين كان علي لا يهدأ من موقع إلى آخر، وكان حيثما حل بين المتطوعين أو الأهالي موضع انتظار وترحيب(26)… وبعد الكارثة، أو النكبة، كما يعبّر علي، صُدِمَ الرّجل. يروي محمّد علي الرز حيث كان مع بعض العصبويين في حديقة منزل أبي وائل؛ المقرّ الفعلي للعصبة، بعد سنتين من النكبة، وعلا صوتهم قليلا في مرح خفيف، فما كان من علي إلّا أن خرج من مكتبه يصرخ فيهم، فانصرف هؤلاء، ولما فاتحوه بعد يومين عن سرّ غضبه، أجاب ببساطة: كيف تستطيعون المرح والضحك وعار النكبة ما زال في الأعناق! وفي هذا يقول علي: كنت قد عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور منها: أن لا أحاضر ولا أخطب، ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً، إلّا أن يكون الغرض من هذا كله البحث الجدّي في محو العار الذي ألصقه بالعرب فريق من العرب أنفسهم؛ قبل الإنكليز والأمريكان، وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب أن يتقيدوا بها، ويسيروا عليها(27).

مقترحات علي ناصر الدين لترسيخ الوحدة الوطنيّة اللبنانية

من أجل لبنان العربي السيد الواحد المستقل يقترح علي جملة من الوسائل لم تزل حالة ضرورية يلزم العمل عليها إلى يومنا هذا وأبرزها: تذكرة الهويّة بدون ذكر لدين المواطن، وتطبيق التجنيد الإجباري كواجب مقدّس، وتوحيد منهاج التربية والتعليم توحيداً مُطلقاً كركيزة أساسية لتحقيق الوحدة الوطنيّة وألّا ينحصر تمثيل النواب بمناطقهم فقط لأنّهم يمثّلون الشعب بجميع فئاته، وتجريم كل من يسعى بالفعل أو بالقول إلى التفرقة بين اللبنانيين باسم الدين أو المذهب(28).

خاتمة

يتساءل د. شيا في خاتمة كتابه: ماذا تبقّى من علي ناصر الدين؟ ويجيب بقوله: لقد استقلّت بلاد العرب فعلاً، ولكن ما الذي يُثبت أنّ بلاد العرب للعرب وحدهم، دون سواهم، كما حلم أبو وائل ورفاقه، القوميون الأوائل؟ فالكثير من مقوّمات الاستقلال هي في يد القومية الاستعماريّة الكبرى التي ما خرجت من الباب السياسي والعسكري إلّا لتدخل من النافذة الاقتصاديّة، والثقافية والتقنية، وسواها.

استشعر العرب مكامن الوحدة القائمة في ما بينهم في كلّ منحى من مناحي حياتهم، فقضية العرب هي دائماً قضية الوحدة، من وجهة نظر علي ناصر الدين، وكانت الجامعة العربية عام 1945 على عيوبها وعجزها وإخفاقاتها؛ خطوة نحو الوحدة العربية(29). ولا يشذّ عن هذا مجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي وغيره من المحاولات الوحدويّة، وهذا يؤكّد صدق ما دعا إليه وجاهد من أجله علي ناصر الدين، كما تحقَّق للعرب مقدار غير قليل من التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي… غير أنّ «عنق اقتصاديّات العرب، ومواردهم الاستراتيجية هي في الدول الاستعمارية العظمى وشركاتها العملاقة المتعددة الجنسيّة…»(30).
نعم تحققت نجاحات، وفي المقابل حدثت خيبات، لكنّ «أشدّ ما أدمى قلب علي، ومزّق روحه وجسده هو الجرح الفلسطيني، أو نكبة فلسطين. لقد خلخلت النكبة كيانه كلّه لكأنّه عليّ بعد النكبة غير علي قبلها، كيف لا وهو العائد مهزوماً من حرب ١٩٤٨ في شهادة أكرم زعيتر الذي يقول: «بدا فارسنا وهو عائد من المعركة أشعث أغبر كسير الخاطر، جريح الفؤاد… وكأنّي به وقد توارى عن المجتمع المهزوم إنّه استُشهد قبل أن يُستَشهد، ورأيت فيه وهو زاهد في دنياه، فارس الملحمة الذي صُرع يوم صرعت فلسطين»(31).

توقيع ميثاق تأسيس جامعة الدول العربية سنة ١٩٤٥.

إنّ أعظم مآثره لا تكمن في ما كتب أو حاضر فقط وإنّما في ما فعل ومارس، بل في شكل فعله وممارسته. يقول فيه العلامة عبد الله العلايلي يوم تأبينه: «… ثمّ عرفته من قريب فعرفت فيه إيمان الأنبياء يوم تجسّد، وبراءة قلب القديسين، ومُنْعَقَدَ عزم الأبطال وتألّق وصبح الحرّية في مقلة الأحرار». وفيه يقول معاصره عارف النكدي في تقديمه كتابه «هكذا كنا نكتب «ملّت دوائر الانتداب على قوّتها المادية عداءه، وما ملّ، على ضعفه المادي عداءها». ولعلّ العالم الجليل الشيخ أحمد رضا يفيه حقه حين يقول: «… إذا قيل من هو المجاهد الحرّ الصابر على حرّ الجهاد الماضي على سُنَّته في نُصرة العرب والعروبة، الصادق في جهاده، الذي لا يبالي بالآلام والشدائد مهما عظُمت… لقلت لهم: ذاك علي ناصر الدين». أمّا فخري البارودي من الرعيل القومي الأوّل فحين سُئل في أواخر أيّامه من هم العشرة من رجالات العرب في القرن العشرين دون أن يصيبوا مغنماً ودون أن يخدعوا قومهم وظلّوا أوفياء لعروبتهم رغم النّكران والجحود حتّى وافته المنيّة فأطرق قليلا ثمّ قال: «هم ليسوا عشرة بل لا يتجاوزون الأربعة، ثمّ عدّ أربعة كان علي في طليعتهم».

وفي حفل تأبين علي في 18 أيّار 1974 قال يوسف إبراهيم يزبك رفيقه ردحاً من الزمن: تسألون ماذا بقي من علي ناصر الدين؟، وأجيب: سياسيّاً يبقى المناضل الشجاع واللّحن الصريح في أنشودة الاستقلال والعروبة… يبقى علي ناصر الدّين في القمّة. ساعة وارَوْه في ترابه دنا منه أخوه، ورفيق جهاده الذي سُجِن معه وكُبِّلا بقيد واحد قبل خمسين سنة، دنا منه وقال: يا أبا وائل، لأجل تحطيم سلطانهم، ومنع استغلالهم ستتابع القافلة سيرها… وأبشر يا أبا وائل، فالمحطمون يكثرون والحمد لله».

وفي حفل تأبينه كذلك كانت شهادة نصري المعلوف رسالة اعتذار لهذا الذي مات وحيداً مريضاً منسيّاً… فيقول: «الثمانون بما حفلت وبما حملت؛ هل كانت إلّا وقفاً على رسالة بدت في طفولتها ضرباً من الخيال… ولكنها في تصوّرك وإيمانك هي الحقيقة المحتومة الآتية لا ريب فيها؛ ولكن دعوت لها وعلّمت بالقلم واللسان والقدوة المثلى… إنّ سبيلك إلى غايتك إنّما كانت مجاهدة وجهاداً وصبراً وحرماناً… ويشير المعلوف إلى أولئك الذين كانوا يعتبرون نضال علي من أجل قضية العروبة خيالاً ومحالاً، وكفراً وضلالاً، ومجلبة للقهر والحرمان، عرفوا كيف يمتطونها وهي بوابة العز والسلطان بينما علي يقف «في الموضع النائي العالي ينظر من بعيد إلى المتزاحمين المتصارعين المتهالكين على الغنائم والأسلاب والسبايا…» ثم يضيف: «حنانيك يا أبا وائل، وكم أحبّت أذناك هذا النداء أنت في بني قومك قدوة نادرة وذكرى عاطرة ومشكاة هدًى غائبة حاضرة، أيّها القويّ في حَوْبائه، الفتيّ في هيجائه، الأبيّ في بأسائه، الوفيُّ في أصدقائه، سلامٌ عليك في الخالدين».

ويختم شيا في خاتمته: «لقد آمن علي أن الوحدة لأمّته هي الحياة والوجود والمستقبل، أمّا دونها فلا شيء يبقى أو يدوم. إنّ الأيام لتثبت أنّ عليّاً كان على حق، وأن الهدف الذي سعى إليه ومنحه عمره كان يستحق ذلك العناء رغم جحد الجاحدين وإنكار الجامدين. لقد نجح علي العليل الضعيف المُتَوحّد في كَسْرِ القيود كلّها، وشق الطريق الصحيح… فهل نخفق اليوم ونحن كثر أقوياء أصحّاء! أبا وائل؛ في ذكرى مولدك المئة، سلام عليك!


المراجع:

  1. بدران، أحمد، الاتجاه الوحدوي في فكر علي ناصر الدين، الدار التقدمية، ط 1، 2010، ص 9.
  2. بوسعيد، خطار، عصبة العمل القومي ودورها في لبنان وسورية، 1933ـ 1939، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص 127.
  3. الكبيسي باسل، حركة القوميين العرب، بيروت دار العودة، ط 2، ص 134.
  4. بوسعيد، خطار، م س، ص 129.
  5. إسماعيل، فايز، البدايات، منشورات حزب البعث العربي الاشتراكي، 1980، ص 5.
  6. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، صفحات من الفكر القومي العربي، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء، 1993، ص 28.
  7. م، ذاته، ص 29.
  8. شيّا، محمّد، م، س، شهدة من عارف النكدي، هامش ص19.
  9. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 14.
  10. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، م، س، ص46.
  11. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 367
  12. شيّا، محمّد، م، س، ص 49.
  13. شيّا، محمّد، ص 37.
  14. شيّا، محمّد،م، س، ص 37.
  15. شيّا، محمّد، م، س، ص24.
  16. نفسه، ص 23.
  17. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 5.
  18. بو سعيد، خطار، عصبة العمل القومي..، ص 71.
  19. ناصر الدين، علي، قضيّة العرب، ص 34.
  20. نفسه، ص 91ـ 92.
  21. “المجاهد علي ناصر الدين”، ص8.
  22. شيّا، محمّد، م، س، ص 56.
  23. ناصر الدين، علي، قضية العرب، ص 83.
  24. شيّا، محمّد، م، س، ص 57.
  25. ناصر الدين، هكذا كنا نكتب، ص 54.
  26. شيّا، محمّد، م، س، ص 69.
  27. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 15
  28. شيّا، محمّد، ص 79.
  29. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 18.
  30. شيّا، محمّد، ص84.
  31. . ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 278.

 

 

السَّعَادةُ عِند أفلاطون

بين «السَّعَادة» و»الحِكْمَة» و»الأخلاق» عُرْوَةٌ وُثْقَى وتناغُمٌ مُتكَامِل في الفكر الأفلاطوني.يتوقُ جميعُ البشرِ إلى السَّعَادة في الحياة، إنّما بالحِكْمَةِ المُسْتَمدَّة من العقلِ يُدرِكُ المَرْءُ القِيَمَ الأخلاقيّة ومِنْ ثمّ يُطبِّقُها في حياتِه اليومية مُنتهِجاً حياةً صالحة، وبذلك يكون قد اختار دربَ الحِكْمَةِ والشجاعة والعِفَّة والعدل وهي أسبابُ السَّعَادة الفعليّة. ويستندُ مَفهومُ أفلاطون في «الأخلاقيّات» (ēthikós, ἠθικός) إلى أنّ «السَّعَادة» (eudaimonia, εὐδαιμονία) هي الهدفُ الأسمى للتّفكيرِ والمَسْلِك الأخلاقيَين ووسيلةُ تحقيقها هي «الحِكْمَة» (sophía, σοφία) و»الفضَائلُ الأخلاقية» (arête, ἀρετή).

ويتردَّد ذلك المفهومُ الحِكْمَوي الخُلُقي للسَّعَادة في العديد من مُحاوَرات أفلاطون التي تبدو كقِطَعٍ متناغمة في لوحة فسيفساء بديعة ومتكاملة تُمثِّل نظرةً موحَّدة في جوهرها، بدءاً من المُحاوَرات الأولى وصولاً إلى آخرها عند بلوغه سنَّاً متقدِّماً، وهي كاللؤلؤ المنضود في تطوُّرٍ مفاهيمي يتبلور من مُحاوَرة إلى أخرى ليتبدَّى بوضوح أمام عينَي القارئ الحصيف القادر على ربط الأفكار المطروحة في مختلف المُحاوَرات على ضوء تعمُّقه بالفكر الأفلاطوني، ويُدرِك أخيراً مغزى ما أَلمحَ إليه أفلاطون، على لسان سقراط، في مُحاوَرة «أبولوجي» (Apology) عن «مُهمّته المُقدَّسة».
ففي مُحاوَرة «الجمهورية» (The Republic) تبدو السَّعَادةُ كحالةٍ من الرُّقي الخُلُقي تستند إلى قناعاتٍ ميتافيزيقية تتّصل بالحقيقة العُليا ومعرفة مِثال «الخير الأسمى» مبدأ كلّ الخيريّة. وكذلك شأن مُحاوَرتَي «المائدة» (Symposium) و «فايدروس» (Phaedrus) اللّتَين تتمحوران حول النفس البشرية وسُبُل الارتقاء بها وصَقْل فضائلها، في حين تتَّخِذ مُحاوَرةُ «فيدون» (Phaedo) البُعدَ الصوفي الأُخروي، ويؤكّد أفلاطون فيها جميعاً أنّ البشر ينشدون السَّعادةَ لذا يسعَوْن إلى الخير بقدر ما أمكنهم، ذلك الخير الذي يكمن في صميم أخلاقياته كما في عمق ماورائيّاته، فالحياة الخَيِّرة المستندة إلى الحِكْمَة هي مصدر السَّعادة للفرد والجماعة.

في هذا السَّعِي الأخلاقي لتحقيق السعادة، يتردَّد قولُ أفلاطون بأنّ هدفَ البشر وجبَ أنْ يكون «التشبُّه بما هو إِلَهِي» (Homoiôsis Theôi) (مُحاوَرة «ثياتيتوس» (Theaetetus))، أي اكتساب الفضائل والأخلاقيات العُليا من العلوم الإِلَهيّة على طريق معرفة «الحقيقة» أو «الحَق» (aletheia, ἀλήθεια) بأبهى تجلّياته!

فلسفة الأخلاق الأفلاطونيّة

تتجذَّر «أخلاقيّات» أفلاطون في صميم فلسفته، فهي السبيلُ كما يقول إلى «العيش على نحو أمثل». فمنذ أعماله الأولى على غرار مُحاوَرة «بروتاغوراس» (Protagoras) وصولاً إلى ثراء الفترة الوسطى لإنتاجه الفلسفي مع «المائدة» (Symposium) و «غورجياس» (Gorgias) و «الجمهورية» (The Republic) ترتقي مفاهيمُ نظريّته الأخلاقية لتبلغ ذروتها في هذه المُحاوَرة الأخيرة ولا سيّما «الكتاب الرابع» منها.

فمع نظريّته في المُثُل يخلُص أفلاطون إلى أنّه ثمّة حقائق أوّليّة / صُور عُليا فوق الأشياء المحسوسة نتوقُ إلى إدراكها فتمنَحنا فَهْماً عقلانيّاً مطلقاً لقِيَمها وظِلالها في العالم المحسوس، وبالتالي فهي تمدُّنا بمعرفة ما هو الأفضل والأمثل. ومن ثمّ فإنّ هذا التفكُّر العقلاني والتَّوق الرّوحاني يقودان بنا تحت أنوار الحِكْمَة وهُدَاها على طريق السَّعادة. فالإنسان يسعى دائماً إلى السَّعادة كحقيقةٍ واضحة يُدرِك أين تكمن بالعقل والمَسلك الأخلاقي، كما يقول أفلاطون في مُحاوَرة «غورجياس»، فما نتوقُ إليه حقّاً هو»السَّعادة» ولا شيءَ غير السَّعادة التي نكتسبها مِن الحِكْمَة والفضيلة والأخلاق. وأيُّ تقصيرٍ في تحقيق هذا الهدف هو فشلٌ في الغاية من وراء وجودنا.الحِكْمَة والعقل والفضيلة

يؤكّد أفلاطون منذ مُحاوَراته الأولى أنّ الفضائل الأخلاقية، وأوّلها الحِكْمَة وحُسْن الخُلُق والعدل والتقوى والشجاعة، هي في حالةٍ وحدة وتناغُم، وسرّ ترابُطها هو الحِكْمَة بكلّ أبعادها. فالإنسانُ الحكيمُ الحصيفُ الفاضلُ يُدرِك ما هو حقٌّ وصائب وما هو باطلٌ وخاطئ، فيسعى إلى القيام بما هو حقٌّ، ويبغض ما هو باطلٌ، فيكون بالتالي سعيداً بحكمته، إنّها مهارة تحقيق الفضائل، حيث يُشدِّد أفلاطون في ذلك على دور العقل، فلا يكتسب الفضيلة الحقَّة فحسب إلَّا مَنْ أخضع نفسَه لحِكْمَة العقل، وبذلك يتردد صدى قول سقراط الشهير «الفضيلة معرفة».

وفي الفترة المتوسطة من إبداعه الفلسفي، يؤكّد أفلاطون في مُحاوَراته الإبداعية أيضاً أنّ الفضائلَ الأخلاقية هي الوسيلةُ التي تَحدو بنا إلى عالَم السَّعادة. ويُشدِّد على النفس الفاضلة وما تنعم به من تناغُمٍ في قواها إنّما يُفضِي إلى السَّعادة بُهدى العقل، وهذا تماماً ما نستخلصه من مُحاوَرة «فيدون» (Phaedo).
وقد تطرَّق أفلاطون إلى مفهوم السَّعادة بشكلٍ خاص في ثلاث مُحاوَرات هي «المائدة» (Symposium)، و «الجمهورية» (The Republic) و «أوثيديموس» (Euthydemus).

«سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يَرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارِمِ الأخلاق». أفلاطون

«المائدة»: السَّعادة رؤية جَمال الحَق

في «المائدة» يضع أفلاطون حديث السَّعادة على لسان الطبيب الأثيني إريكسيماخوس (Eryximachus) الذي يؤكّد أنّ حُبّ «الحِكْمَة» هو الأكثر قدرة على تحقيق السَّعادة، ويوافقه الرأي الكاتب المسرحي أريستوفان (Aristophanes) مؤكِّداً أنّه «يساعد البشرية على تبديد الشرور ويستجلب أقصى سعادة للجنس البشري». ومن ثم يرقى سقراط بهذه الفكرة إلى الحُبّ المَحض لمِثال الجَمال بحدّ ذاته في وَجْدٍ صوفيّ عَبَّر عنه فيما بعد الفيلسوف توما الأكويني (Thomas Aquinas) بروحيّة أفلاطونية حيث اعتبرَ أنّ أقصى سَعَادة هي الرؤية الجليّة للحَق.

«الجمهورية»: السَّعادة تناغُم نفساني

يُماثِل أفلاطون في مُحاوَرة «الجمهورية» أولاً بين صحّة الجسد وصحة النفس،فكما تتبدَّى صحةُ الجسد بنظامٍ بدنيٍّ بديع، كذلك صحة النفس تتجلَّى تناغُماً نفسانياً وسلاماً داخلياً هو سرّ السَّعادة المنشودة، في حين أنّ اعتلال النفس هو نوعٌ من «حربٍ داخلية» بين قِواها حيث يطغى ذلك الجزء الشَّهَوي فيها على قوة العقل. وهنا يُقارِن أفلاطون بين النفس والدولة ويتحدَّث عن وجه التشابُه في نظامهما أَلا وهو العدل، فالنفسُ المتناغِمة هي نفسٌ عادلة، أي مُتَّسِمة بفضيلة العدل، حينما يحكُمها العقل وبالتالي «تصبح النفس حصينة ومنيعة عن غزوات الحظ».

ففي «الكتاب الأول» من المُحاوَرة حينما ينجح سقراط في تفنيد آراء مُحاوِره السفسطائي ثراسيماخوس (Thrasymachus) يؤكِّد له أنّ «العيش بسَعادة يعني العيش باستقامة أي بمنتهَى الخُلُق».وبذلك يُعيد تعريف المفهوم التقليدي للسَعادة عند اليونان ما قبل سقراط، فهي لا تتحقق من المُتَع الحسّية الخارجية بل من المُتَع العقلية والنفسيّة والرُّوحيّة المتأتية من نور الحِكْمَة وتهذيب الأخلاق.

مُحبِّو الحِكْمَة… سعداء!

تَتَبدَّى النظريةُ الأخلاقية لدى أفلاطون بكاملِ مفاهيمها في الكتابِ الرابع من «الجمهورية»، وتشتمل على عناصر من مقاربته في الإثبات الأنطولوجي «للموجود» ونظريتَي المُثُل والمعرفة بالتّشديد على القِيَم الحقيقيّة التي هي قِيَم المُثُل العُليا، وهي لا تنجلي إلّا للعارفين، والعارفون هم الأفاضل الذين يُحقِّقون الفضيلة، والأفاضلُ هم مُحبِّو الحِكْمَة السُّعَداء، سُعَداء في حياتهم المتَّسِمة بالتفكُّر العقلاني والتحلِّي بالفضائل الأخلاقية والسَّعي إلى معرفة «الحقيقة» بأقدس تجلّياتها (وبالتالي هم الحُكَّام الصالحون للدولة المثالية، الذين يُحقِّقون سعادة الدولة وسعادة الجماعة بضمان سعادة الفرد، ولا يكون ذلك إلَّا بالمبادئ الأخلاقية العادلة وقِيَمُ الحِكْمَة العقلانية، وهذاموضوعٌ آخر!)، فإذا ما تسنَّت لنا معرفة ذلك نختارُ العملَ الصالح القويم لإدراكنا أنّ الفضيلة والمَسلك الأخلاقيين سَعادةٌ ما بعدها سَعادة.

سَعَادة العقل!

لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.

ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.

ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.

«أوثيديموس»: السَّعادة كفاية الحِكْمَة!

لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.

ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.

ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.

لا سَعَادة من دون الحِكْمَة!

ما مِن طرحٍ فلسفي يستأثرُ بموقعٍ مِحْوَري في فلسفة أفلاطون مثل القول إنّ «الحِكْمَة كافيةٌ» لتحقيق السَّعادة، فمَنْ اكتسبَ الحِكْمَةَ كان سعيداً أيّاً تكن تقلُّبات الحياة التي تواجهه. وأكثر ما تبدّى ذلك في مُحاوَرة «أوثيديموس» المذكورة حيث يؤكّد أفلاطون أيضاً الأهميّة المحورية لكفاية الحِكْمَة في تحقيق السَّعادة. فبشكلٍ عام يُحقِّق المرءُ السَّعادة باكتساب العديد من «الخيرات» لكنّ الخير الوحيد الذي نحتاجه ويكفينا هو الحِكْمَة. فالحِكْمَةُ فيها الكفاية أيّاً تكن الظروف. و»الخيرات» الأُخرى إذا ما استُخدِمَت من دون حِكْمَة فلا خيرَ فيها لتحقيق السَّعادة.

ففي هذه المُحاوَرة يوضح أفلاطون على لسان سقراط: «الحِكْمَة هي حتماً حظٌ جيد «توفيق»، حتى الطّفل يعلم ذلك». ويقول سقراط إلى مُحاورِه الشاب كلينياس (Clinias): «إذاً، إنّ الحِكْمَة تجعل الناس محظوظين. فالحِكْمَةُ حتماً لا تُخطئ، بل هي بالضرورة صائبةٌ وتتيح النجاح». ويستدركُ قائلاً: «حينما تكون الحِكْمَة حاضرة، في مَنْ هي حاضرة، لا حاجة للحظّ الجيد».

فالحِكْمَةُ مثلاً لدى عازف الناي البارع، والنّحويّ المتميِّز، والربّان الماهر، هي التي تجعلهم محظوظين في عملهم وبالتالي سعداء. ويوافق سقراط وكلينياس على افتراضٍ أساسي: الجميع يرغب في أنْ يكون سعيداً، والسعادةُ تتأتَّى من الحصول على الخيرات «الدنيويّة»، كالصحّة والمجد والحُسن، وتنطوي السعادة على الاستخدام الصالح لتلك الخيرات. ويستنتج سقراط هنا أيضاً أنّ المعرفة الحكيمة هي السرّ وراء الاستخدام الصالح لتلك الخيرات.

  ويقول لِمُحاوِره:
سقراط: «إذاً، في ما يختصّ باستخدام أُولى الخيرات التي تحدّثنا عنها، أي الثروة والصحة والجَمال، أليست المعرفة هي التي تُوجِّه أفعالَنا وتجعلها صحيحة من ناحية استخدام تلك الخيرات على نحو صحيح، أو هناك شيءٌ آخر؟».
كلينياس: بلى، المعرفة.
سقراط: إذاً، هل من فائدةٍ لامتلاكنا أيّ خيراتٍ من دون حِكْمَة؟

ومن ثمّ ينتقل إلى المرحلة الثالثة من المحاوَرة التي يؤكّد فيها «كفاية» و«ضرورة» الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة، وأنّ كلّ الخيرات ليست كذلك طبعاً في حدّ ذاتها بل ما إذا كانت الحِكْمَة تقودها، وإلَّا انقلبت شروراً إذا ما كان الجهلُ قائدَها، بل الخيِّريّة فيها هي في استخدامها الحكيم المُفضِي إلى السَّعادة، ليخلُص استنتاجاً إلى أنّ الحِكْمَة هي وحدها الخير بحدّ ذاته، والجهل هو الشر بعينه. وبذلك يُثبت طرح كفاية وضرورة الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة.

ويستدرك سقراط قائلاً: «إذاً، دعنا نتمعَّن في ما توصّلنا إليه. فإذا كُنّا جميعاً ننشدُ السَّعادة، وإنّما نُحقِّقها باستخدام الخيرات على نحو صحيح، وبما أنّ الحِكْمَة هي التي تدلّنا على الصِرَاط القَويم وسُبُل النجاح، فباتَ من الضروري لجميع البشر أنْ يُهيِّئوا أنفسَهم بشتَّى السُّبُل لأنْ يتَحلَّوْا بالحِكْمَة ما أمكنَ لهم»، أي يقصد ليغدوا سُعداء!

ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير. لذا فإنّ السَّعادةَ تُكتَسب بالتحكُّم العقلي برغباتنا وأهوائنا وخَلْق تناغُمٍ في قوى النفس، بما يستحدث سلاماً داخلياً مُباركاً.وطالما بَقي عقلٌ يتوق بشدّة لاستكشاف وفَهْم العالَم، طالما بَقي هناك فرصٌ لتوسيع نطاق الوعي وتحقيق حالةٍ من السَّعادة العقلية المتزايدة.

وكان الفيلسوفُ الروماني شيشرو (Cicero) يقول إنّ سقراط «أنزلَ الفلسفةَ من السّماء وأحضرها إلى الأرض»، ذلك إنّه قد أكَّد لنا: إنّ بوسعنا تحقيق المعرفة وإدراك الحقيقة ونَيل السَّعادة هنا على الأرض بالحِكْمَة والأخلاق والفضيلة.

ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير.

أرسطو: سَعَادةٌ من وحي أفلاطون!

جديرٌ بالذكر أنّ الفيلسوف أرسطو تحدَّث من وحي معلِّمه أفلاطون عن السَّعادة بكونها ممارسةً للفضيلة واتِّسَاماً بالخُلُق الكريم، أو ما يدعوه الفضيلة الكاملة، فالسَّعادة بالتالي هي الغايةُ القصوى والهدفُ الأمثل لكل سعي في حياة البشر، وذلك كلّه يعتمد على العقل والأخلاق والحِكْمَة.

خاتَمَة

إذاً، بالمفهوم الأفلاطوني، سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارمِ الأخلاق، وحُبِّ الفلسفة بل حُبّ الحِكْمَة، وانتهاجِ الحياة الفاضِلة المُتَّسِمة بأرقى الفضائلِ والعِفَّةِ وحُسْنِ الخُلُق،والسَّعي إلى معرفةِ «الحَق».. تلك هي السَّعادةُ الحَقَّة، بل غايةُ وجودِ الإنسان!


المراجع

  1. Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press.An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
  2. Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
  3. Irwin, T. 1995. Plato’s Ethics. Oxford: Oxford University Press.Plato’s Moral Theory [1974] Plato’s Gorgias (1979).
  4. Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press. ‘Two Conceptions of Happiness’, Philos. (1979).
  5. Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
  6. Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press.Platonic Studies 2 (1981).
  7. Aristotle. Nichomachean ethics: Book VII.
  8. E. R. Dodds. The Greeks and the irrational. 1966. Berkeley: University of California Press.
  9. Ackrill, J., Aristotle the Philosopher, Oxford: Oxford University Press, 1981.
  10. Ross, Sir David (1995). Aristotle (6th ed).
  11. Dodds, E. R., Plato’s GORGIAS (1959).
  12. Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
  13. Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
  14. Hume, D., Enquiry concerning the Principles of Morals (1977),
  15. Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).

فضائل من سورة يوسف

المُقَدَّمَة

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، سبحانه لا إله إلَّا هو، أحمده وأشكره، وأصلِّي على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه الطَّيِّبين.

أمّا بعد فإنَّ الله / خلق الإنسان وميَّزه بالعقل ليختار طريق الفضيلة لتوصله إلى برِّ الأمان. ولمّا كانت معرفة الفضائل والعمل بها هما الحجر الأساس في نجاح الفرد والمجتمع، والطَّريق الموصل إلى الفردوس الأعلى، كان لا بدَّ من تسليط الضّوء على الفضائل لبيان أهمِّيَّتها وتأثيراتها.

فالمَيْدان الأوسع لاقتباس هذه الفضائل وتَعلُّمِها هو القصص الواردة في الذّكر الحكيم،المعقودة بالفضائل، الزاخرة بالحِكَم والمواعظ، وفي مقدّمة ذلك ما وصفه تعالى بأحسن القَصص، فكانت كذلك، إذ احتوت على آيات بيّنات وحِكَم ومواعظ واضحات، أظهرت الفضيلة بأشكال مختلفة وظروف مُنوّعة، فكانت (الفضيلة) سيّدة الموقف في حلّ ألغاز القصّة وإعادة شمل العائلة والإخوة، والوصول بذلك المجتمع المصري القديم إلى برّ الأمان في الدّنيا والدّين.

في هذا البحث سنقوم بسرد مُختصر لقصّة نبيّ الله يوسف بن يعقوب، ثمّ نجمع ما تيسّر من فضائل وحِكم وعِبَر وردت في آيات السّورة الكريمة، فنعرّفها ونحلِّل نتائجها، مُستخلصين منها دروساً نستفيد منها في حياتنا ومجتمعنا، والله وليُّ التوفيق.

مختصر قصّة نبيّ اللّه يوسف(ع)

في أرض فلسطين عاش يوسف(ع) وأخوته الأحد عشر في كَنَف والدهم النبي يعقوب حفيد إبراهيم الخليل، وذات ليلة قصّ يوسف(ع) على أبيه رؤياه الغريبة قائلا: ﴿… يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف، 4)، نصح الأب ولده ألّا يُخْبر أخوته برؤياه خوفاً من كيدهم، ولعلمهم بمحبَّة والدهم العظيمة ليوسف(ع). إلّا أنّ الحسد الْمُكمِن في نفوس الإخوة جعلهم يتآمرون على يوسف(ع) ويأخذونه بعيداً عن أبيه ويرمونه وسط الجبِّ ويرجعون إلى أبيهم قائلين إنَّ ذئباً قد افترسه. لم تنطوِ الحيلة على الوالد المفجوع، لكنّه سلّم أمره إلى الله /صابراً خاشعا متوكّلاً.

من وحشة الجبّ إلى قصر عزيز مصر، مُكرَّماً مُعزّزاً إلى أن صار فتيَّاً حيث أنعم الله عليه بالحكمة والعلم وجمال الخلقة ما جعله فريد أهل زمانه. كانت إحدى هذه الإنعام سببا لابتلاء كبير امتحنه الله به، إذ أُعجبت امرأة العزيز ببهائه وحسن صورته، فلجأت إلى أساليب مختلفة لإغوائه والإيقاع به، لكنّه أعرض عنها مُعتصماً بالله، فكان مصيره السّجن لسنوات عديدة.

في السّجن أخذ يوسف(ع) يدعو إلى توحيد الله /، ويذمُّ عبادة ما سواه ويُصَغِّر أمر الأصنام والأوثان، فاكتسب ثقة المساجين خصوصاً بعد تفسير رؤياهم وتحقُّقها. جاءه طلبٌ من الملك بتأويل رؤيا له، فأُعجِب بما قاله يوسف(ع) وما قدّمه من خطط لتفادي كارثة طبيعيّة تَنبَّأ بوقوعها من خلال تلك الرؤيا. عندها أمر الملك بخروج يوسف(ع) من السِّجن معلنا براءته ممّا نُسب إليه، مُسَلّماً إيّاه زمام الأمور ليكون كما قال أميناً حكيماً.

أصبح يوسف(ع) ذا مكانة عالية عند الملك بعد ما رأى من براعته ونزاهته، فجعله أميناً على خزائنه مُتصرِّفاً في أمواله، ومرّت السّنون السَّبع الخِصاب وبدأت سنوات الجدْب، وعمَّ القحطُ ووصلَ بلاد كنعان (فلسطين) حيث النَّبي يعقوب(ع) وأولاده. وجاء إخوَةُ يوسف(ع) إلى الدِّيار المصرية يمتارون طعامًا، فَدخلوا عليه فَعرَفَهم وهم لَه منكِرون،فأعطاهم حِصَّتهم من الْمُؤَن واشترط عليهم أن يأتوا في المرّة القادمة مع أخيهم الصّغير. وهكذا عادوا إلى مصر مرّةً أُخرى هم وأخوهم بعد أن عاهدوا أباهم على رعايته، فأخذوا نصيبهم من الكيل وشرعوا بالعودة إلى ديارهم، فأوقفهم المأذون مُتَّهِما إيّاهم بِسَرِقة صَاع الملك، وعند تفتيش أوعيتهم وُجِد الصَّاع في مَتاع أخيهم، فبقي في مصر مُحتَجزاً.

لم يكن النبي يعقوب(ع) قد نسي ولده يوسف(ع) أو سلاه، وعندما جاء أبناؤه بخبر احتجاز أخيهم ازدادت حرقته واشتعل قلبه حزناً، وطلب من أولاده العودة إلى مصر لاقتفاء أثر ابنيه المفقودَيْن. وفور دخولهم على يوسف(ع)، بادرهم بالسؤال عن فعلتهم بأخيهم يوسف، فأدركوا على الفور أنّ الذي يخاطبهم هو يوسف، فاعترفوا بذنبهم وأقرُّوا بأنَّهم أساؤوا إليه وأخطؤوا، فغفر ذنبهم وسامحهم على فعلتهم،وأرسل في طلب أبَوَيه وأجلسهم على العرش حيث سجدوا له جميعا. وهكذا اجتمع شمل آل يعقوب بعد فراق طويل وتحقَّقت رؤيا يوسف التي رآها في البداية، إذ إنّ الأحدَ عشر كوكبا هم أخوته والشّمس والقمر هما أبواه.

إنّ الناظر في تفاصيل أحداث القصة يجد فيها الكثير من الخيرات البارزة من تصرّفات النّبيَّين الكريمَين يعقوب وابنه يوسف(ع)، ومن هنا كان لا بدّ من الإضاءة على هذه الفضائل الكريمة والسّعي إلى العمل بها، لتكون معراجاً لنا في الوصول إلى رضا الله/. وسنعتمد اسم الفضيلة ليكون عنوانا لكلّ قسم من هذا البحث، فنقوم بتعريف الفضيلة أولاً ثم نذكرها كما وردت في الآيات الكريمة، ثم نشرحها ونحلّلها مستخرجين منها ما استطعنا من دروس وعِبَر.

التَّوحيد

قال عزَّ وجل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة،163). فالتَّوحيد هو: «هو اعتقاد الوحدة لله تعالى والإقرار بها»(١)، وقيل هو: «إفراد الموحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحَدِيَّته إنَّه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل»(٢).

إنَّ التوحيد أفضل عطيّة يمنُّ بها الله تعالى على عباده الصّالحين، لأنَّ من اعتقد بوجود الله تعالى ونزّهه عن صفات الخلق والعبيد، وعمل بمواجب الأوامر والنواهي، فاز بالثّواب الأبديّ. وقد رأينا نبيَّنا يوسف موحِّداً مُصدِّقا بالله الواحد الأحد، على خُطى آبائه وأجداده، كيف لا وهو المسمّى صِدّيقاً.

تنتشر معاني التّوحيد في سورة يوسف في مواضع كثيرة منها:

 توحيد الأسماء والصّفات، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف، 6) ، وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (يوسف، 53)، و ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، 92). فهذه الأسماء والصفات التي ذكرها تعالى، هي بعض ممّا اثبته لنفسه ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا …﴾ (الأعراف،180)، وهو بالحقيقة منزَّهٌ عن الأسماء والصِّفات.

توحيد الالوهية: كانت دعوة يوسف إلى توحيد الإله الواحد الحقّ، وخلْع عبادة الأوثان المتعدِّدة، دلالةً على إقراره بألوهيّة الباري تعالى وأنّه واحد في ذاته لا شريك له. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40)، وكذلك قوله بعد اجتماع شمل آل يعقوب: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف، 108).

توحيد الرّبوبيّة: قال تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فكان توحيد يوسف جليَّا بأنَّه أَفْرَدَ الله سبحانه بأفعاله فهو وحده الخالق الفاطر وهو المحيي المميت.

إنّ هذه الفضيلة التي سار عليها نبي الله يوسف(ع) كانت سببا لنجاته في كلّ المواقف العصيبة، بل كان توحيده يغذِّي في نفسه الفضائل وينمّيها فتنشط به ويقوى بها. فالتّوحيد هو أصل الفضائل وجوهرها، وهو الدَّافع القويُّ الّذي عصمَ يوسف من رذيلة الفاحشة، والبلسم الشّافي له عند دخوله السّجن، حيث استأنس بخالقه تعالى، وكان سجنه فرصة استغلَّها في الدّعوة إلى التّوحيد. وباختصار يمكن القول: إنّ سورة يوسف تدور حول قضية جوهرية هي التوحيد، إذ استطاع هذا النبي المرسَل أن ينقل أهل مصر من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام إلى نور التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد.

الصِّدق

لعلّ أكثر الفضائل ارتباطاً بالنّبي يوسف هي فضيلة الصِّدق، ولأجل صدقه في جميع أقواله وأفعاله وأحواله تسمَّى صدّيقا. وفي مضمون سورة يوسف الكثير من الأحداث والعبارات التي تدلُّ على ذلك. فالصّدق هو «الإخبار عن الشّيء على ما هو عليه»(٣). وقيل هو: «استواء السّر والعلانية»، والصِّدِّيق «مَنْ صدَقَ في جميع أقواله وأفعاله وأحواله»، وعرّف بعض العلماءُ الصّدقَ بأنّه: «صحَّة التّوحيد مع القصد»، وقيل: «حقيقة الصِّدق أن تَصْدق في موطن لا ينجِّيك منه إلَّا الكذب»(٤).
فيوسف الصّدّيق، إضافة إلى قوله الصّدق في كلّ ما ينطق به، فإنّ الصّدق قد تجلّى بوضوح في رؤياه الخاصّة، وفي تفسيره لرؤيا غيره، وعندما استفتاه السّجينان عن تأويل رؤياهما قال: ﴿يَاصَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي سيِّدَه خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رأْسِهِ﴾ (يوسف،41)، وصحَّ تأويله وصدق، فنجا أحدهم وصُلِب الآخر.

ويمكننا القول إنّ تأويل الرؤيا كانت اختباراً حقيقيّاً أثبت صدقه لأنّ مُفسّري الأحلام بمعظمهم لا يَصْدُقون، إلّا أنَّ الأمر مختلف مع نبيٍّ خَصَّه الله بالعلم والمعرفة وكشف له من الغيب ما لم يكشفه لعموم البشر.

يمكن القول إنّ صدقه في تأويل رؤيا السَّجينَين شكّل نقطة مفصليّة في أحداث حياته، فحين جاءت الملك رؤيا غريبة وعجزَ الجميع عن تأويلها، تذكّره السَّجين الذي صَدّقَ تأويل يوسف في رؤياه ونجا، فأخبر الملك بأمره، وكان ما كان من استحسان الملك لتأويل يوسف، وخروجه من السّجن بعد أن أقرّت النّسوة ببراءته،
﴿… قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف،51)، فقد اعترفت بصدقه وهي التي اتّهمته بالخيانة، فخرج من السّجن عزيزاً وعلى خزائن الملِك أميناً، فصحّ قول الحكماء إنّ صِدق اللِّسان أوّل السّعادة(٥).

وبالصِّدق يكتسب المرء ثقة الآخرين، فحين اعترفت امرأة العزيز بصدقه، ازدادت ثقة الملك به وبنزاهته وملَّكه خزائنه، بعكس أخوة يوسف الذين لم يَصدُقوا فخسروا ثقة أبيهم، ولم يسمح لهم باصطحاب بنيامين معهم بعد ذلك إلّا بعد إبرام العهود عليهم حيث قال ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّه…﴾ (يوسف،66).

وكانت شهرته بالصّدق دلالة على صدق سريرته، فكما كان صادقا في أقواله وأفعاله كذلك كان صادقا مع ربّه، وهذا هو الصِّدق الحقيقي الذي تجلّى في صحَّة توحيده فأخلص لله تعالى في عباداته ومعاملاته.

الإحسان

وَرَدَ في الحديث المشهور عن الرسول محمّد(ص) في تعريف الإحسان قوله: ﴿أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراه فإن لم تكُن تراه فإنَّه يراك﴾(٦).

الإحسان فضيلة محوريَّة نجدها في سورة يوسف في غير موضع، وهي من الصّفات التي تحلّى بها الصِّدِّيق يوسف. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،56). وفي موضع آخر: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،78). وقد أمر الله تعالى بالإحسان بقوله: ﴿… وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة، 195).

والْمُحسِنُ كما ورد في تعريف الرسول(ص) هو مَن يعبُد الله ويستشعر حضوره دائم الأوقات وفي شتَّى الأحوال، وَمَن كانت هذه صفته لا يُقدِمُ على فعلٍ يغضِبُه تعالى، وقد رأينا كيف استعاذ يوسف بربّه إذ قال لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ (يوسف، 23)، قالها بنبرات المحسن المراقِب المستشعر وجود الله تعالى وهذا هو الإحسان في العبادة. ولعلَّ ما وصل إليه من فضل وعلم وعلوِّ درجة كان جزاء إحسانه، لقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،22).

أمَّا إحسانه في المعاملة مع النّاس فقد ظهر جليًّا في قيامه بدعوة النّاس إلى التّوحيد وهو أجَلُّ طرُق الإحسان إلى الآخرين وأتمُّها نفعاً، وكان في نصيحته للملك حين أوَّل رؤياه، وفي إطعامه طالبي الرِّزق ممّن حلَّ بهم القحط والجوع، إحساناً كبيراً، ونتيجة هذا الإحسان اجتمع شمله بأهله من جديد، إذ حين ذاع صيته في البلاد إنه يُحسِن إلى من يأتيه وصل الخبر إلى أهله فجاؤوه يبتغون الميرة. ولعلَّ معاملته لأخوته أيضا أدلّ دليل على إحسانه وكرمه، فعندما كشف لهم عن هويَّته بعد غيابٍ طويلٍ ومعاناةٍ شديدةٍ كانوا هم سببها، قال لهم: ﴿…لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف،92). فهو لن يثرِّب عليهم أو يعيَّرهم بذنبهم، وبهذا القول أعطاهم الأمان ولم ينتقم منهم أو يقاصصهم على ما ارتكبوه رغم مكانته وقدرته، ثم ذكر لهم سجنه ولم يذكر الجبَّ حين قال: ﴿…إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي…﴾ (يوسف، 100)، رغم أنّ الجبَّ كان أشدّ خطرا وأكثر إيلاما له من السّجن، لكنَّه لم يذكّرهم به ونسب الشّرَّ كلَّه إلى الشَّيطان كرماً منه ودلالة على إحسانه وشهامته.

أحسن النّبيّ يوسف في عبادة الله حين استشعر قربه فابتعد عن الخطايا، وعمّ إحسانه البلاد والعباد حين بذل ما استطاع من النَّفع والخير والنَّصيحة.

النَّصيحة

كان للنَّصيحة دور فعّال في أحداث هذه القصة ومجرياتها، وقد عرفها أحدهم بأنها «الدُّعاء إلى ما فيه الصّلاح، والنّهي عمّا فيه الفساد»(٧).

وقد تجلَّت النصيحة في قصّة يوسف في مواضع مختلفة، إذ بعد رؤيا يوسف، نصح الأب ابنه بعدم الكشف عن حاله لإخوته، بقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يوسف، 5). وجاءت نصيحته هذه بعد عِلْمه بما يدور في خَلَد أولاده وما يضمرونه، فكان من الطبيعي أن يلجأ الأب الخائف على ولده إلى نصيحته كوسيلة لحمايته والذَّود عنه.

ثم كانت نصيحة يعقوب لأولاده عند خروجهم إلى مصر طلباً للكيل والمؤونة، دلالة على حرصه عليهم ومحاولةً منه لإبعاد الخطر عنهم، فقال: ﴿… يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.(يوسف، 67). ثم نرى كيف أنَّ يوسف في سجنه يبادر إلى النّصيحة فيدعو المساجين من هذا المكان الموحش إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشِّرك، بقوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40). وإذا كانت النصيحة كما عرّفناها دعاءً إلى الصَّلاح ونهياً عن الفساد، فيكون يوسف قد ارتقى بنصيحته هذه إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان، به يحقِّق سعادته في الدنيا وفوزه في الآخرة، وفي النَّهي عن الشرك يكون خلاص المرء من فسادٍ في حياته وعقابٍ يوم حسابه.

ثمّ جاءت نصيحة يوسف للملك بقوله ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف،47)، لتكون على جانب كبير من الأهميّة، إذ أنقذت مصر وجوارها من القحط الكبير الذي حلّ بالبلاد، فرغم أنّ الجوع والقحط انتشر وعمَّ الأصقاع المجاورة إلَّا أنَّ نصيحة يوسف خلّصت مصر من هذه الأزمة، بل كانت البلد المنقذ للجوار.

العفَّة

العفّة هي: «ضبط النفس عن الشَّهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط، واجتناب السَّرف والتّقصير في جميع الملذات وقصد الاعتدال…»(٨).

إنَّ من يقرأ سورة يوسف يدرك أنَّ نجاته من مخالب الشّهوة والخديعة لم يكن أمراً عاديّاً بسيطاً، فلولا قدرته على ضبط النفس، واستعانته بالله، لما نجا منها مع تهيّؤ كلّ الأسباب المُسهِّلة لها: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ (يوسف،23).

تجلّت العفَّة في قصة يوسف بأبهى أشكالها، فهي حِصن يوسف الحصين الذي به خَلص من هوى النَّفس ومن الفتنة، فقد عفَّ نفسه عن إغواء امرأة العزيز حين راودته عن نفسه: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ…﴾ (يوسف،23)، ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَم…﴾ (يوسف،32)، وقد رأينا أنّ هذه المرأة صاحبة مركز وسلطة فهي زوجة الحاكم، ومكانتها هذه تجعل الجميع في خدمتها وتحت طاعتها وربَّما يتمنَّوْن قربها فلا يرفضون لها أمرا، لكنَّ يوسف لم يأبه لهذا كلّه، ولم يستجب لطلبها المخالف لأمر الله، ورغم تهديدها له بالسّجن، قَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف،33)، عرف يوسف أنّ مصيره عذاب السّجن والمرارة، إلّا أنَّه اختار السّجن على مُواقَعَة المحذور وهو الفاحشة وهوى النَّفْس، وفضَّل العذاب الحسِّي الذي مهما طال فلا بدَّ له من نهاية وآثر رضى ربّ العالمين على رضى المخلوقين.

أصبح يوسف، وبفضل نزاهته وبراءته، ذا مكانة عالية عند الملك واكتسب ثقته. صحيحٌ أنّ تفسير الرّؤيا لاقى استحساناً عند الملك فأخرجه من السّجن، إلَّا أنّ الملك كان منذ البداية على علم بنزاهة يوسف وعفَّته بدليل الشّاهد الذي عرف أنّ قميصه قد قُدَّ من دبر، ثمّ قُطِع الشّك باليقين حين طلب يوسف سؤال امرأة العزيز والنّسوة الَّلواتي قطَّعن أيديهنّ: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51)، فكانت هذه الشّهادة بعفّته وطهارته ما شدَّ ثقة الملك به، فلو لم يكن أمينا على أهل بيته، كيف له أن يُملِّكه خزائن ماله ويجعله أميناً على مملكته؟ فقد أعطاه الله الثّواب على هذه الفضيلة في دنياه قبل آخرته.

ورأينا كيف قام يوسف بتدبير الأمور حين طلب من الملك أن يولّيه إدارة المملكة، لقد كان مثالا في العفَّة والأمانة ولم يكن عليه مشرف ولا يدٌ تعلو يده فهو المتصرِّف الوحيد بالشّؤون الماليّة، وفي مثل هذه المواقع المهمّة يفشل الكثيرون عن ضبط نفوسهم خصوصاً حين تصبح الأموال تحت تصرُّفهم فنراهم يُسرِفون، لكن نبيّنا الكريم حقَّق كلَّ شروط العفَّة، فضبطَ نفسه عن الشّهوات واجتنبَ الإسراف وقصَدَ الاعتدال.

العدل

جاء في تعريف العدل: «العدل وهو القسط اللازم للاستواء وهو استعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها من غير سرَف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير»(٩).

قال تعالى ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة، 42). أمر سبحانه وتعالى بالعدل وبيَّن أنّ الحاكمَ العادلَ ينالُ محبَّةَ الله، وما بعد محبَّة الله سوى الحياة الطيِّبة في الدُّنيا والنَّعيم الأبديّ في الآخرة. ولا يقتصر فعل العدل على الحُكَّام، بل هو واجب على كلِّ انسان من موقعه. يقول في الحديث الشريف: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته»(١٠)، فالحاكم مسؤول عن رعيّته والمدير مسؤول عن عماله، والعمّال عن عملهم، والأهل عن أولادهم، فعلى كلّ راعٍ أن يقيم العدل في رعيّته، ولا نجاح لأيّة مسؤولية بغير العدل.

كان العدل سمةً اتَّصف بها النبي يوسف(ع) أثناء سنوات حكمه، ورأينا كيف كان عدله مُعينا له في خطَّته لاستقدام إخوته مرّة ثانية ومعهم أخيهم بنيامين حين قال لهم: ﴿أَلَاتَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ (يوسف، 59)، فلا أبخِّس النّاس أشياءهم، بل أعطيهم بحسب ما يستحقِّون، وكان يعطي لكلِّ رجل حملَ بعير، ليعدلَ بين الجميع. فأخبر أبناء يعقوب أباهم بهذا الأمر ليرسل أخاهم معهم، قالوا: ﴿نَزْدَادُ كَيْلَ بعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ (يوسف، 65)، فعادوا إلى يوسف برفقة أخيهم.
وقد ورَدت حادثةٌ أخرى بيَّنت كيف كان يوسف(ع) يحكم بالعدل بين الناس، فحين أمَر بحجز أخيه عنده لوجود الصّاع في أمتعته، طلب أخوته أن يأخذ أحدهم مكانه فقال ﴿… مَعَاذَ اللَّهِ أَن نأخُذ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ﴾ (يوسف، 79)، فلا تَزِر وازرة وِزْر أخرى. ويُستشَّفُّ من هذا القول أنَّ يوسف لم يكن ليساوم في أمور الرّعيّة، وإن كان في تلبية طلبهم وإخلاء سبيل أخيهم هذا نوع من الإحسان والرَّحمة لأبيهم الشّيخ الكبير، إلَّا أنَّ الإحسان إنَّما يكون إحسانا إذا لم يتضمّن فعلا مُحَرَّما أو ترك واجب، فترك العدل ظلما وليس إحساناً بأيّ وجه. لذلك حكم على أخيه بالعدل وطبَّق عليه القانون الجاري من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير.

ولا شكّ أنّ هذا المسلك الذي سار عليه النّبي يوسف قد بعث روح الولاء والطّمأنينة لدى رعيّته، وكانت هذه الحادثة التي ذكرناها وحكمه بالعدل فيها سببا لإبقاء أخيه عنده تمهيدا لعودة إخوته مرة أخرى ومن ثمَّ جمع شمله بوالده.

إنِّ عدل يوسف(ع) مع رعيّته كان انعكاساً لعدله مع نفسه، حيث زكّاها وطهَّرها من العيوب ولم يظلمها بالذنوب والوقوع في المحذور، ومن كانت معاملته لنفسه بهذه الأمور فقد عدل معها ولم يكلِّفها وزرَ المعاصي وثقل الخطايا والسّيئات وهذا ظلم للنّفس لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ…﴾ (النساء، 110).

وإذا كان الحاكم لا يملك قدرة على العدل مع نفسه بترفُّعها عن الرَّذائل، فكيف سيتمكّن من إقامة العدل مع رعيّته؟ ولم يكن عبثا قيام الفيلسوف اليوناني أفلاطون بوضع شروط لانتخاب رئيس مدينته الفاضلة، وأهمّ تلك الشّروط ترفُّعه عن الرّذائل والفواحش والموبقات.

{ارتَقَى يوسف} إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان.

الصّبر

قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل، 127).

سُئِل أحدهم عن الصّبر فأجاب: «هو تجرُّعُ المرارة من غير تعبيس»، وقيل «الصّبر مطية لا تكبو»(١١). وقال لقمان الحكيم: «الصبر صبران: صبر على ما تكره فيما ينوبك من الحقّ وصبر على ما تحبّ ممّا يدعوك إلى الهوى»(١٢).

إنّ الأحداث التي عاش فيها النّبيّان الكريمان يعقوب ويوسف(ع) استوجبت التّمسك بحبل الصّبر ليكون مطيّتهما التي لا تكبو، واستعانا بالصّبر مع الرّضا بقدر الله تعالى وقضائه، فكانا مثالين في الصبر الجميل، وقد تجلى ذلك واضحا في آيات السّورة الكريمة.
فمنذ أن فقد يعقوب(ع) ولده الحبيب وعد نفسه بالصّبر، إذ قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف، 18) واستعان بربّه ليأخذ بيده ويمدّه بالعون، فنجح في ذلك،وصبر صبراً جميلاً، و»الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى النّاس»(١٣).

كانت حرقته على فقدان يوسف كبيرة حتّى أنّه فقد بصره، ولكنَّه لم يفقد صبره، ولم تهتزَّ ثقته بالله بل كان الله شفيعه ومشكى همّه. فقوله تعالى ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف، 86) لا ينافي الصّبر، فالشّكوى إلى الله محمودة وإنّما ينافي الصّبر الشَّكوى إلى المخلوقين، لأنّ أيّوب(ع) كان شكى ألَمه إلى ربّه من غير اعتراض قائلا: ﴿… أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الانبياء، 83)، ومع ذلك فقد صحّ صبره وأثنى الله سبحانه عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص 44).

ثمّ رأينا يوسف(ع) في خِضَمِّ المحن والبلايا التي توالت عليه رَضيَّ القلب مطمئنّاً إلى إرادة الله ومشيئته،إذ بالتوحيد عرف ربّه وأحبّه فرضي بفعله، وصبر على حكمه، فكان يناجيه ويستعين به على كلّ مكروه، فيزرع الله في قلبه المزيد من الصّبر والتّسليم عند كلّ ضيق وابتلاء.

كان البلاء الأوّل شديداً، هذا الطفل الذي تربَّى في كنف والده على العطف والمحّبة ولم يعهد عهداً للقسوة والظُّلم، ها هو يتلقَّى أوّل صفعة غدر وخيانة ومن أقرب المقرّبين إليه، ولم يقابل يوسف هذا الابتلاء بأيِّ اعتراض أو استنكار، فجاء وحي الله يثبّت قلبه ويقينه أنّه تحت الرعاية الإلهية وسينبّئ إخوته بأمرهم وهم لا يشعرون.

ثمّ اختار الصّبر على إغواء امرأة العزيز ومحاولاتها المتكرّرة لإيقاعه بحبائل الهوى فقال ﴿… رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف، 33)، وهذا هو البلاء الأصعب الذي صبر عليه يوسف طوعا واختياراً، كما صبر على تهمة الزَّور ومرارة السّجن، وفي كلّ هذه الأحوال لم نرَه يلجأ إلاّ إلى ربّه ومالك أمره فهو الذي يسدّده كيف يشاء. فكان صبره على ما يكره مثل صبره على ما يحبّ، بلا تعبيس أو استياء.

وكان للصَّبر الذي تحلَّى به يوسف تأثيراً هامّاً على أحداث حياته من حين ابتعاده عن أهله إلى حين لقائه بهم، فصبره شدّ أزره، وثبّت فؤاده وقوّى عزيمته على المضي قُدُما في طريق الخير، فصبَر على المكروه من أذيّة وغربة وظلم، كما اختار الصّبر على الشّهوات من ملك وجاه وهوى، فنال بصبره أعلى الدّرجات، وخلص إلى القول: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف، 90).

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، لا يترك طريق الخير الذي رسمه لنفسه، ولو ضاقت به الحِيَل، بل يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج، فكان اللِّقاء المبارك بين يوسف وأهله الذي أثلج صدورهم ثوابا لهم على الصّبر وصحّة الإيمان.

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، […] يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج.

التّوبة

جاء في تعريف التّوبة بأنّها: «الرّجوع عمّا كان مذموماً في الشّرع إلى ما هو محمود فيه»(١٤).

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، 222)، وقيل: «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له…»(١٥) وهذا من فضل الله على العباد أن يغفر لهم قديم زلَلهم بعد التّوبة.

إنَّ ما قام به أخوة يوسف من رميه في الجبِّ وإبعاده عن أبيه، هو ذنب يستوجب التوبة، ورغم مرور الزَّمن، لم نرَ أخوة يوسف مُقرِّين بذنبهم أو مستغفرين بل كتموا أمرهم، ولم يتوبوا إلّا بعد زمن طويل حين كشف لهم يوسف عن نفسه فاعترفوا بذنبهم وأقرّوا به: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 91)، ثمّ ذهبوا إلى أبيهم وطلبوا السّماح واستغفروا، وأظهروا النَّدم: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 97)، فكان اعترافهم بخطئهم واستغفارهم لله، دلالةً على توبتهم. فمن يَنْوِ التوبة يبدأها بالاعتراف بالخطأ ثم الإقلاع عنه بالكليّة ثمّ الاستغفار.

أمّا زوجة العزيز فرغم اعترافها بذنبها في المرة الأولى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف، 32)، إلّا أنّها أصرّت على المضيّ قدُما في المعصية ولم تَتُب، ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف، 32). وحين ظهر فضل يوسف وحان خروجه من السّجن، أقرّت بذنبها أمام الحاضرين وقالت ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51). فكانت توبتها شهادة بيّنت فضل يوسف واستقامة طريقته، ونقلتها من رذيلة المعصية إلى فضيلة الطاعة والتوحيد.

رغم أن توبة أخوة يوسف جاءت في نهاية القصّة، إلّا أنّهم بتوبتهم كانت الخاتمة السّعيدة لهذه القصّة وتحقّقت الرّؤيا التي طلب يعقوب من يوسف أن يكتمها عنهم، حيث خرّوا له سُجَّدا وأقرّوا بفضله.

الخاتمة

في غيابةِ الجُبِّ المُظلمِ وَوَحشَته، لاذَ بربِّه فاطمأن…في وَحدة الغُربة المقفِرة وقَسوَتِها، لَجَأَ إلى خالقه فاستأنَس.به في غَيَاهُبِ السّجنِ الحالِكِ وقيودِهِ، ووحَّدَ بارِيهِ فَتَحرّر…

طريقُ طويلٌ شائكٌ وَوَعر، سلكه نبي الله يوسف(ع) بصبر ويقين وثبات. بلغ يوسف(ع) أعلى المناصب الدُّنيوية لكنّ وجهته هي الآخرة ورضى الله تعالى، لأنّ الدُّنيا لا تغني عن الآخرة بشيء بقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فسعى إلى الثَّواب ودعا الرّعيّة إلى معرفة الواحد الأحد، فنقل مصر من ظلمة الشِّرك إلى نور التّوحيد، وحازَ أعظم الفضل.

وكان جماله وحسن صورته ممزوجاً بجماله الرّوحي والأخلاقي، فأصبح جمالاً كاملاً تُضرَب به الأمثال، وعلى هذا فالإنسان مهما وهبه الله من الجمال والمظهر الكَيِّس، فلا يُسمَّى جميلاً إن لم يتمتّع بالأخلاق والفضائل الرّوحانيّة. ولم يبلغ يوسف ما بلغه من الرِّفعة والسُّموّ إلّا بالامتحان،فالله سبحانه يبتلي عباده بالشِّدة والرَّخاء والسُّرور والحزن واليسر والعسر ليمتحن صحّة إيمانهم بالشُّكر عند الرّخاء وبالصّبر عند الشِّدة والبلاء. ومن الَّلافت في هذه القصّة اتِّحاد الفضائل وسيرها بالتّوازي والتّوازن مع بعضها البعض، وكأنّها فريق واحد يعمل بتناغم وانسجام في سبيل ردع الرَّذائل وتحقيق الثّواب، والتَّوازن بين الفضائل ضرورة كي تقوى وتُحقِّق غايتها.

بعد هذا البيان لأهميّة الفضائل لابدّ ختاما من القول أننا إذا كنّا مؤمنين بالله وبرسوله الكريم وبكتابه العزيز وقد تحقَّق عندنا صدْقَ ما أنزله في هذه السُّورة المباركة من برهان جليّ على ثواب من تمسَّك بالفضائل وسار على طريقها، فَلْنبادر إلى تحصيل ما أمكننا من هذه القِيَم وتطبيقها في عباداتنا ومعاملاتنا فلا تبقى شعارات نرفعها بل نجعلها حياتنا التي نحيا بها ونعيش، علَّنا نخرج من الظّلمة فتشرق علينا أنوار الصّفي المختار ونصل إلى برِّ الأمان.


الحواشي

  1. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  2. لأبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 377.
  3. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين، تحقيق: د.محمّد صبّاح، د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).ص: 262.
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق.ص،ص: 285، 286،287.
  5. أنظر: أبو الحسن علي البصري الماوردي، كتاب أدب الدُّنيا والدين. مرجع سابق.ص: 261.
  6. رواه مسلم.
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة: محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م). ص: 203شوهد بتاريخ 1-12-2019. على الرابط:  https://www.noor-book.com-pdf
  8. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حذيفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م). ص،ص: 21-22.
  9. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. مرجع سابق. ص: 28.
  10. أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عمر.
  11. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص،ص: 258،259.
  12. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان). ص: 204
  13. أبو عبد الرحمن اللُّمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه). ص: 17.
  14. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 156.
  15. المرجع سابق نفسه. ص: 156.

المراجع

  1. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حديفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م).
  2. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين. تحقيق: د.محمّد صبّاح. د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).
  3. أبو عبد الرحمن الُّلمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه).
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان ابن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي: الرسالة القشيريةفي علم التصوّف. ط.1. (بيروت،دار إحياء التراث العربي:1998م).
  5. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  6. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان).
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة:محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م).

القمة الروحية: أكدت التمسك بالثوابت التي أرساها الدستور وأجمع عليها اللبنانيون

شددت القمة الروحية المسيحية – الإسلامية على «التمسك بالثوابت التي أرساها الدستور وأجمع عليها اللبنانيون». داعية «المسؤولين في مواقعهم والقيادات السياسية والمجتمع الأهلي الى حفظ هذه الثوابت في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة ترسيخاً لوحدة لبنان وسلامته ورسالته في الاخوّة الإنسانية والعيش المشترك». ورأت إن أيّة اساءة للعيش المشترك في أيّة منطقة من لبنان وبخاصة في الجبل، هي إساءة الى لبنان الفكرة والرسالة،
وتعرض حاضره ومستقبله للأخطار والأزمات».

انعقدت القمة الروحية المسيحية – الإسلامية في دار طائفة الموحدين الدروز، بدعوة من سماحة شيخ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن، ومشاركة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، وبطريرك الروم الاورتوذوكس يوحنا العاشر يازجي، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ احمد الخطيب ممثلا رئيس المجلس الشيخ عبد الأمير قبلان، وبطريرك الروم الملكيين الكاثوليك جوزف عبسي، وبطريرك الأرمن الارتوذوكس الكاثوليكوس آرام الأول كشيشيان، وبطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس يوسف الثالث يونان، وبطريرك الأرمن الكاثوليك غريغوار بطرس العشرون، والمطران مارثاوفيلوس جورج صليبا ممثلا بطريرك السريان الارتوذكس مار اغناطيوس افرام الثاني، ورئيس الكنيسة القبطية الارثوذكسية في لبنان الاب رويس الاورشليمي، ورئيس المجمع الأعلى للطائفة الانجيلية في سوريا ولبنان القس جوزف قصّاب، ورئيس الطائفة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصارجي ممثلا بالنائب العام رافييل طرابلسي، ، نائب رئيس المجلس الإسلامي العلوي الشيخ محمد خضر عصفور، النائب الرسولي للاتين في لبنان المطران سيزار آسيان ممثلا بالاب توفيق بو مرعي، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان، رئيس أساقفة ابرشية بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر، رئيس الطائفة الآشورية الارتوذكسية في لبنان المتروبوليت مار ميليس زيا ممثلا بالخوري كيفركيس يوحنا.

كذلك شارك نائب رئيس المجلس الشرعي الدكتور عمر مسقاوي، وامين عام دار الفتوى الشيخ امين الكردي، والوزير السابق خالد قباني، والمعاون البطريركي جورج اسادوريان، والقس رياض جرجور، وأعضاء لجنة الحوار الإسلامي – المسيحي.

وجاء في بيان القمة، «بدعوة من سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، انعقدت القمة الإسلامية – المسيحية في دار الطائفة بحضور المرجعيات الدينية المسيحية والاسلامية. وبعد التداول في الشؤون الوطنية والعربية العامة صدر عن المجتمعين البيان التالي:

إيماناً بلبنان الوطن السيِّد الواحد أرضاً وشعباً ومؤسَّسات، الذي نُحيي قريباً مئويته الأولى، والمنتظمة مبادئ قيامه وديمومته واستقلاله بالبنود الصريحة الواضحة الواردة في مقدِّمة دستوره وميثاقه الوطني، والذي نشأ على قاعدة تحترم الحريات العامة والخاصة وتقوم على الشراكة الوطنية والعيش الواحد للمواطنين اللبنانيين، باختلاف أديانهم وتوجهاتهم. وبعد ثبات صيغته الإنسانيَّة الراقية وسط العواصف والأزمات التي تعرَّض لها عبر تاريخه القديم والحديث. وبعد نهوضه من ويلات الحروب ومحنة التطرُّف والإرهاب وتصدّيه المستمر للعدو الاسرائيلي بفعل تضحيات المؤسسة العسكرية ومقاومة شعبه، بقي متمسّكاً بثوابته الوطنيَّة، محافظاً على وحدته، أميناً لرسالته، ومحقّقاً التضامن الوطني.

وفي الوقت الذي لا يزال لبنان يواجه تداعيات أزمات شائكة نتيجة التقاطعات الضاغطة على ساحته وتداعياتها المقلقة على أكثر من صعيد، خُصوصاً في أمنه – وأشدّها خطراً تهديدات العدو الصهيوني – وفي اقتصاده الذي بات موضع ترصُّد دائم وتقييم دقيق من الدول ذات الاهتمام، ومن المؤسسات الاقتصادية الدولية ذات الاختصاص، وفي وضعه الاجتماعي بتفاقم مشكلة النازحين، وتراكم الأعباء المترتّبة عنها في مستويات عدّة لا سيّما الاقتصادي والمعيشي منها.

وفي الوقت الذي يواجه لبنان بتفانٍ التحديات نتيجة للموقف الوطني الجامع برفض التوطين شكلاً ومضموناً. فإن المجتمعِين يرَون أنَّ المطلوب إزاء كل ذلك المزيد من الوعي والتضامن الوطني لتجاوز المخاطر التي تتضاعف في ضوء ما يُحاك من مشاريع ومخططات معلنة وغير معلنة تستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة وفرض أمر واقع جديد على دولها وشعوبها، لا سيما ما يُخطط لتهويد القدس وفلسطين التاريخية.

إن الوحدة الوطنية التي نشأت بين العائلات الروحية اللبنانية على قاعدة المواطنة والميثاقية والعيش المشترك والتعددية، والتي أرسى ثوابتها اتفاق الطائف بتعديلاته الدستورية، تشكل الأساس والضامن لبناء لبنان الغد. وعلى هذا الأساس فإن أي اساءة للعيش المشترك في أي منطقة من لبنان وبخاصة في الجبل، هي إساءة الى لبنان الفكرة والرسالة، تعرض حاضره ومستقبله للأخطار والأزمات. وإن إطلاق وصف الـ «كنز» على مصالحة الجبل التاريخية هو أبلغ تعبير عن أهميتها في أبعادها الوطنية والمعنوية والميثاقية والمستقبلية، وهو كنزٌ برسم الوطن من أقصاه الى أقصاه. ولا يسع الرؤساء الروحيون إلا أن يعربوا عن ألمهم الشديد لحادثة البساتين المؤسفة التي أدت بنتائجها إلى تعطيل عمل الحكومة الذي هو حاجة ماسة للإستقرار السياسي والأمني وللنهوض الإقتصادي، ودعوا إلى إيجاد الحل المناسب والسريع لكي تستعيد البلاد حياتها الطبيعية.

من أجل ذلك، فإن القمة الروحية المسيحية – الإسلامية إذ تؤكد على التمسك بهذه الثوابت التي أرساها الدستور وأجمع عليها اللبنانيون، تدعو المسؤولين في مواقعهم والقيادات السياسية والمجتمع الأهلي الى حفظ هذه الثوابت في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة ترسيخاً لوحدة لبنان وسلامته ورسالته في الاخوّة الإنسانية والعيش المشترك، والالتفاف حول المؤسسات الرسمية الدستورية والإدارية والقضائية والأمنية، وتفعيل عملها ودورها، والاحتكام إليها في كل ما يعترض الحياة الوطنية من أزمات، وإطلاق خطة نهوض شاملة بالوطن ومحاربة الفساد بكل مستوياته وتأمين الحد الأدنى من متطلبات المستقبل الأفضل الذي ننشده لجميع أبنائنا.

ولمناسبة عيد الجيش وجهّت القمة الروحية تحيّة الى المؤسَّسة الوطنيَّة الجامعة التي يجسِّدُها الجيشُ اللبناني الساهر دائماً على سلامة الوطن وأمن شعبه. وأكدّت القمة المسيحية – الاسلامية على أهمية الأخلاق من حيث هي قيمة إنسانية سامية تشكل العمود الفقري لقيام المجتمعات، ودعت الى التمسك بمحمولها المعنوي وتجنب الابتذال نهجاً وعملاً في كل الأداء السياسي والإعلامي والثقافي والتربوي والأدبي والفني والاجتماعي لكي تبقى الحرية في لبنان مصانة بمفهومها الحضاري الراقي.

إن القمة الإسلامية – المسيحية تؤكّد على أصالة الدور الحيويّ الذي تميّز به لبنان في إثراء الحوار بين أهل الأديان والثقافات المختلفة خصوصاً بعد تحقيق استقلاله. وله في هذا المجال الحضاري مخزونٌ بالغ القيمة والأهمية، يؤهله ليكون مركزاً دولياً للحوار لما يتماهى به من تعدّد ديني وثقافي وإيمانٍ بالكرامة الإنسانية. وأعرب أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة والفضيلة عن رفضهم المُطلق لما تتعرض له مدينة القدس والشعب الفلسطيني برمّته من انتهاكات لحرمة الأديان وكرامة الانسان وحقوقه. وأكدوا بقاء القدس مدينة الديانات السماوية، التي لن تنال منها الاعتداءات والانتهاكات والممارسات الجائرة من الاحتلال الغاصب، ولا الخطط المشبوهة على اختلاف أشكالها وتسمياتها الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، والتي تقوض كل فرص السلام المنشود وتعرض المنطقة لمزيد من العنف والحروب.

وأكد المجتمعون الرفض المطلق للقرار العنصري المسمى بـ» قانون يهودية الدولة» الذي يحمل في مضمونه وأهدافه خطراً وجودياً على فلسطين التاريخية وهويتها العربية، وأدانوا التدمير الممنهج للأحياء التراثية ومنازل الفلسطينيين في القدس بما هو إجراء عدواني لا إنساني، وأعربوا عن تضامنهم مع البطريركية الأرثوذكسية المقدسة في سعيها إلى الحفاظ على ممتلكاتها، وعبّروا عن وقوفهم إلى جانبها في إدانة أي تصرف إسرائيلي بالأملاك الوقفية للكنيسة لمصلحة المحتل الإسرائيلي، والمطالبة باسترجاع ما تم الاستيلاء عليه بطرق ملتوية وغير شرعية. فالقدس بمكانتها الروحية المقدّسة، لا يجوز التفرد في تقرير مصيرها بقوة الأمر الواقع ولا بقرارات أحادية جائرة، بل هي كانت وستبقى ملك الإيمان البشري المشترك وحقاً تاريخياً للشعب الفلسطيني عاصمةً لفلسطين الدولة المستقلة، إلى جانب كل الحقوق الفلسطينية الأساسية في العودة وبقاء الأرض والحياة الكريمة.

وأدان المجتمعون القرار الأحادي المرفوض في إعلان سيادة مزعومة للكيان الغاصب على الجولان السوري المحتل، مؤكدين أن هذه الأرض العربية لن تتغير هويتها مهما طال ليل الإحتلال. إنَّ المجتمعِين بما يمثّـلونه في مواقعِهم، وبما يعبِّرون عنه من رمز لتضامن وتعاضُد الأُخْوة في المشترَك الإنسانيّ النبيل الجامع للقيَم الرُّوحيَّة والمُـثُــل الأخلاقيَّة والفضائل السامية التي بها ترقى المجتمعات إلى أنبل الغايات، يُدركُون بإيمانهِم ما يُمكِن لإلهِ المحبَّةِ والنِّعَم، الرحمن الرَّحيم، أن يمُنَّ به علينا جميعاً، وعلى شعبنا وشعوب المنطقة، بالفرَج والمغـفرة والسَّلام، وأن يسلك الجميع في العالم العربي والإسلامي وفي العالم أجمع نهج الحوار والتفاهم ورفض الظلم والعدوان، لتحقيق مبتغى الشعوب وصون إنسانيتها.

نسألُه تعالى أن يحفظَ لنا في قلوبِنا نِعَمَ الهداية والاستقامة والفلَاح، وأن يوفِّقَنا ويوفِّقَ كلَّ مَن في مواقع المسؤوليَّة إلى نهْج التعقُّـل والرُّشد والسَّداد، وأن يلهمَنا جميعاً إلى ما فيه الخيْر والحقّ والعدْل. اشملنا يا ربّ برحمتك ولطفك، إنَّك أنتَ السَّميع المُجيب، الكريم الغفور.

الافتتاح
وكانت اعمال القمة افتتحت قرابة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر بكلمة افتتاح لسماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز نعيم حسن جاء فيها،»بُوركَت قلوبُكُم حين تداعيْتُم، بلا تردُّدٍ بل بالمحبَّـةِ والإرادة الطيِّـبةِ إلى اللقاء. وأيُّ لقاء هذا الَّذي يجمعُ من هذا الـحيِّزِ الجغرافيّ الاستثنائيِّ هذا القدْرَ من القادِمين من مساجِدَ كنائس وخَلَواتٍ ﴿يُذكَرُ فيهَا اسمُ الله كثيرا﴾. من جبالِ لبنان وسهلِه وساحِلِه، إذ تُردِّد الأصداءُ نداءاتِ الآذان وترانيمَ الآباء منذُ مئات السّنين. ويُدعى فيها النَّاسُ إلى بذل الهمَّة في تزكيةِ النَّفس وتطهيرِ الخُلُق وتنقية الرُّوح نَهَلًا من مَعِين الرِّسالاتِ السَّماويَّة التي هي في لطائفِ معانيها ومكنُوناتِ مقاصِدها نورٌ لهُم وهُدًى. إنَّ للقِمَّةِ الرُّوحيَّة التي تُـمثِّلُون مَزيَّـةَ التلاقي في رِحابِ الإيمان بالكُتُبِ الـمُوحَى بها من الله العزيزِ الحكِيم، ﴿نُورُ السَّمواتِ والأرض﴾، منهُ الحياةُ التي «كانتْ نُورَ النَّاس» تجمعنا إرادةُ فعل المحبة، التي من ثمرها الطيب اللقاءُ والوقوفُ على ما يُملِيه علينا الحقُّ والخيرُ والسّلام. ولدينا جميعاً الفُسحةُ النُّورانيَّة من الـمُشترَكاتِ الإنسانيَّة التي تُحفَظُ فيها القِيَمُ الخالِدةُ لكلِّ حركةٍ حضاريَّةٍ بالمعنى الإنسانيّ النبيل، قِيـَمُ العدْلِ والبِرِّ والرَّحمةِ والـمَحبَّةِ والحِلْمِ والتَّواضُعِ والوَداعَةِ وانْكسارِ الأنَانيَّةِ لأنَّ استشعارَ وُجُودِ النِّعمةِ الإلهيَّة تُـثمِرُ في القلْبِ التَّقوى الَّتي هي ﴿خَيْر الزَّاد﴾ كما جاء في الكتاب الكريم».

وأضاف،»إن لقاءنا اليوم هو في محل التقدير البالغ والإكبار المستحق، بما تمثلون ونُمثّـله وبما نحفظُه من أمانةِ التزامِنا بتلك القيَم، ومن موقع النُّصْحِ والدَّعوةِ إلى انتهاجِ سبيل الحِكمةِ وحَصافَةِ الرّأي والحِنْكةِ في إدارةِ الأمُورِ وحُسن التَّدبير، لكي نؤكِّدَ على الثَّوابتِ الوطنيَّة التي هي في الحقيقةِ الأسُسُ الـمتينةُ التي انبنى عليها الصَّرحُ الوطنيُّ الَّذي يظلِّلنا بسقفِه دولةً وشعباً ومؤسَّسات. والشَّعبُ حين يمنحُ الثِّقةَ لممثّليه فإنَّما يمنحُها للحفاظ على سلامةِ الصَّرح وأمنِه واستقراره وازدهاره لا للخلافات بينهم، كي تكونَ الحياةُ فيه كريمةً والعيْشُ رَغْداً والكرامةُ محفوظةً والمستقبلُ واعداً بكُلِّ خيْر. لتكن تلك الثوابت والمبادئ في المستوى الذي يعلو فوق ساحة التنافس الديموقراطي الإيجابي الدائر وفق قواعد النظام الذي تحدّده القوانين والتشريعات الدستوريَّة. وأمّا إذا حصل العكس – وللأسف هذا ما تظهر بوادرُه بل ظواهرُه في المشهد السياسي العام خصوصا منذ نهاية الاستحقاق الانتخابي- فإنَّ ما يُخشى هو طغيان النزعات الشعبويَّة القائمة على أهداف «شدّ العصب الطائفي»، وهذا يقود إلى الوقوع في أسر دائرةٍ مُقفَلَة من التنافُر والتنافُر المُضاد ما يؤدّي بدوره إلى عواقب وخيمة في بُنية وطنِنا المُهدَّد بالكثير من الأزمات في شتَّى الحقول.

وأنَّ الاحتكامَ إلى الدَّولةِ ومؤسَّساتِها الدُّستوريَّة والقضائيَّة والأمنيَّة ليس خِياراً يَنتقِيهِ هذا الطَّرَفُ أو ذاك، بل هوَ التزامٌ بالعقدِ الاجتماعي الذي ارتضاهُ الشَّعبُ الَّذي هو مصدرُ السُّلطةِ. وبالطَّبعِ، يبقى «كَنْزُ المصالحة»، وفق وصف غبطة البطريرك الراعي بحقّ، أمراً جوهريّاً برسم التحقُّق الدائم المتواصل، والأحرى أن يكون نهجاً عامّاً لكلِّ اللبنانيِّين حين يتطلَّب الأمرُ ارتقاءً سامياً فوق الشَّحذِ الطائفيّ البغيض، وظلمة الأزمَات عند غفلات العقل والرُّوح. وإننا لنعتبر الجبل أساساً «لوحدة الأرض والإرادة» استناداً إلى التاريخ، ليس في سرد الوقائع فيه، بل خصوصاً في ضمائر الناس ووجدانها وتراثها الذي يمتلك الكثير الكثير من المساحات المشتركة التي جعلت من لبناننا العزيز وطناً فريداً مُميَّزاً علينا أن نستحقَّه».

وتابع، «من هنا من داركم دار كل اللبنانيين، دار المسلمين الموحدين الدروز جميعاً، نرفع معكم نداءً استثنائياً في هذا الزمن الاستثنائي الصعب والتي تمر به بلادُنا حيث المخاطر تحُدِق بنا والأزمات تعصف بكل قوة في منطقتنا.نداؤنا هو نداء المسؤولية، ونداء المحبة، المسؤولية التي يجب على كل مسؤول من موقعه التحلي بها قبلَ كل شيء، المسؤوليةُ الوطنية والإنسانية التي بها فقط يتحققُ الاستقرار وينقضي التعصب والاحتقان، فليكن كلُ مسؤولٍ على قدر ما هو ملقى على عاتقه، وعلى قدر آمال اللبنانيين الذين يريدون الحياة الكريمة على قاعدة المواطنة والحرية والأمن والازدهار، وكيف يتحققُ ذلك في ظل شحن النفوس؟ بدلاً من التعالي والتسامح، وكيف نضمن الازدهار والتقدم في ظل تعطيلِ عملِ الحكومة ومحاصرةِ موقع رئاستها وشلّ اقتصاد البلاد، وكيف يكون الأمنُ والاستقرارُ في ظل عودة الخطاب إلى مآسي الماضي وأثقاله التي طويناها جميعاً إلى غير رجعة بإذنه تعالى.هو نداء المحبة إلى اللبنانيين: عودوا إلى أنفسكم، أقيموا على المحبة والتعاطف علاقاتكم، تحرّروا من أحقادكم، تعاونوا فيما ينفعكم ويرفع من مستوى حياتكم، تحابَوا، سيروا على هدى العقل لا الغريزة، انبذوا صغائر السياسات، وفساد الغرضيات».

واردف، «من دار الموحدين الدروز، نتوجه إلى فخامة رئيس الجمهورية بما يمثله من موقعٍ دستوريٍّ مؤتَمنٍ على الدستور وعلى الميثاقِ الوطني ومندرجاتِ اتفاق الطائف. وعلى منع كل ما يناقض صيغةَ العيشِ المشترك؛ والمسؤولُ الأول والأخير عن تحويل عهدِه الرئاسي الى عهدِ إنتاجٍ وخيرٍ وبحبوحةٍ وأمنٍ على كل اللبنانيين، ندعوه الى جمع اللبنانيين تحت سقف هذه الثوابت، ومنع أي سعيٍ لضربِ ركائزِ الصيغةِ اللبنانية وأسُسِ قيامِ الِكيانِ اللبناني المبنيّ على الحريات والتنوعِ والتعدديةِ والديمقراطيةِ والتوازناتِ الوطنيةِ والشراكةِ ونبذِ الإلغاءِ وَالاستفرادِ والاستئثار والاستقواء. وسوف يكون الكلُّ معكم للنهوض بلبنان مالياً واقتصادياً ومعيشياً».

وختم،» رجاؤنا أخيراً أن نخرجَ بأسرع وقتٍ من الأزماتِ وأن نستعيدَ معاً عافيةَ لبنان، وعملَ مؤسساته، لتحقيقِ ريادتهِ في كل المجالات. سائلين الله تعالى أن يلهمَنا إلى ما فيه رضاه، وأن يسدِّد خطانا في كلِّ خيْر، وأن يهبَنا بألطافه وأنواره البصيرةَ النيِّرةَ التي تهدينا سَواءَ السَّبيل وتثبِّتُ نفوسَنا في طاعته، لا إلهٌ غيرُه ولا معبودٌ سواه».

الراعي
بدوره قال البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي». نشكر صاحب السماحة على هذه الصفحة الوطنية التي قدمها لنا واننا معكم في النداء الى كل القيادات السياسية وبخاصة رئيس الجمهورية من هذه الدار للموحدين التي فنشكل عائلة واحدة بما يعطي للبنانيين الطمأنينة ويشعر انه على مستوى الرؤساء الروحيين واحدا، وكذلك الشعب يجب ان يعيش واحدا وهذه ميزة لبنان في التنوع والوحدة».

وأضاف، «اننا نعيش ظروفا صعبة والناس تنظر الينا بأمل ورجاء لانهم مجروحين ومتألمين، والدولة متعثرة، والفقر يزداد، ونفكر هنا بالناس الذين ينظرون الينا وفي ان نكون جامعين للسياسيين ولشعبنا كرؤساء، حيث لا نستطيع ان نرى الشعب متشرذما ومقهورا الا وان نكون معه».

مفتي الجمهورية
وقال مفتي الجمهورية اللبنانية الدكتور عبد اللطيف دريان،» هذه القمة هي على صورة لبنان الحقيقية، بتعدده وتنوعه، نحن كمرجعيات دينية كنا دائما على تواصل من أجل حل الأمور المعقدة التي تواجه الوطن واللبنانيين، وكنا دائما نبحث عن الحلول من اجل انهاء الأزمات كي يبقى الوطن. ان من مسلماتنا هي الوحدة الوطنية، وعلينا مسؤولية في تثبيتها، كما أن العيش الواحد هو من المسلمات الأساسية أيضا، ونحن نعتز بأننا تجاوزنا كل الخلافات، وتوافقنا كمرجعيات دينية على صون العيش الواحد في لبنان، لاننا في النهاية مسيحيين ومسلمين لبنانيون ومن واجبنا ان نحافظ على عيشنا المشترك». وأضاف، ننشدد على استقرار لبنان والتي تقضي التمسك بالدستور واتفاق الطائف نصا وضوحا، وعلى السياسيين ان يلتزموا بالدستور واتفاق الطائف، ونحن سنقف كمرجعيات دينية سدا منعا أمام الالتفاف حول نصوص الطائف. نحن من هذه القمة نتوجه الى رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، الى حماية الدستور واتفاق الطائف، لأن ما يجمعنا كلبنانيين سوى الوحدة الوطنية والعيش الواحد واحترام الدستور.ان مجرد اللقاء اليوم، يضفي على اللبنانيين روحا من الاطمئنان، لأننا نحن المرجعيات الدينية أخذنا على عاتقنا أمانة في الحفاظ على الدستور واتفاق الطائف، لان الدستور واتفاق الطائف دفع اللبنانيون دماء عزيزة ونحن كمرجعيات سوف نقف سدا منيعا امام الالتفاف على صلاحيات اتفاق الطائف الدستورية للرئاسات الثلاث، ونحن من هذه القمة نتوجه الى فخامة رئيس الجمهورية الذي اقسم على الدستور بالمحافظة عليه، وندعوه الى حماية هذا الدستور واتفاق الطائف بالممارسة لانه لا يجمعنا كلبنانيين الا هذه القواعد ألاساسية الثلاث، الوحدة الوطنية والعيش الواحد والمحافظة على الدستور، اما باقي الأمور فهي تفصيل لانه بالمحافظة على الأساسيات والثوابت تحل كل المشاكل والأزمات، كما ان مشاكلنا لا تحل بالتشنجات، نحن لا نريد أن ندخل اللبنانيين في المجهول، لان الوقت الحالي متأزم ونريد الكثير من الحكمة».

الخطيب
والقى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ احمد الخطيب كلمة، اكد فيها على «المصالحات التي أنجزت بين اللبنانيين وعلى تقويتها ومن جملتها المصالحات بين أبناء الجبل. وعدم نكأ الجراح أو افتعال مشكلات جديدة لغايات سياسية ونحن على يقين من أن أبناء الجبل كما كل اللبنانيين لن يسقطوا في الفخ مرة أخرى ولن يستطيع أحد أن يجرهم إلى فتنة جديدة سواءً كانت فتنة: درزية – درزية، أو درزية – مسيحية، أو إسلامية – مسيحية أو غيرها، كما نؤكد على ضرورة العودة إلى المؤسسات الدستورية لحل المشكلات التي تنشأ بينهم.»

وأضاف، «ندعو الجميع إلى الإنشغال بما يحتاجه اللبنانيون من إنماء للمناطق ومشاريع اقتصادية وإيجاد مجالات عمل للبنانيين الذين أصبحوا بفضل هذه السياسات، عاطلين عن العمل، وبوضع اقتصادي مزرٍ ينذر بأسوء العواقب، فلا يجوز أن يبقى مجلس الوزراء معطلا ً، ونحن ننتظر انعقاده بأسرع وقت ممكن وهو ما يريده اللبنانيون، كما أنه لم يَطُل ارتياحنا لإنجاز الموازنة حتى بدت عقبات جديدة أمام توقيعها ونشرها، لذلك فإننا نأمل من المسؤولين الإسراع في توقيعها ونشرها فإن البلد لا يمكنه الانتظار والوضع لا يحتمل مزيدا ً من الوقت.»

يوحنا العاشر
من جهته البطريرك يوحنا العاشر، شدد على «أهمية التنوع الذي نحن عليه، يدل أننا عائلة روحية واحدة، ونؤكد اننا كقادة روحيين في هذه الديار، وكل المسؤولين والدساتير تحتكم الى الانسان. وبالتالي كقادة روحيين وسياسيين علينا ان نعمل من أجل الانسان لا سيما ما نعانيه اليوم من اوضاع معيشية اقتصادية صعبة». وأضاف، «نحن نؤكد بلقائنا هذا أننا نريد خير لبنان وان نبعد كل المخاطر الآتية من الداخل او الخارج. كما ان مجرد هذه الصورة بهذا التنوع هي رسالة قوية تدل أن ما من شيء يفرقنا، نحن عائلة واحدة يحترم كل واحد منا الآخر».

كشيشيان
وأشاد الكاثوليكوس آرام الأول كشيشيان والبطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان،»اننا نحن لا نرى الا لبنان الواحد والعائلة الواحدة، وان ما يصيب طائفة يصيبنا جميعنا، وهذه هي صورة لبنان التي نترجمها في لقائنا اليوم».

يونان
أما البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان فقال:»علينا أن نكون واقعيين، ونطوي صفحة الماضي والتطلع الى المستقبل، وان نعطي هذا الشعب نفحة أمل للمستقبل، وسيبقى لبنان وطنا حضاريا لشعبه.»

بعد ذلك جرت مناقشة البيان واستضاف شيخ العقل المدعوين الى مأدبة غداء في دار الطائفة.

سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي منوهاً بلقاء بعبدا وأهمية وحدة الصف والموقف.

أمّ سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن صلاة الاضحى صبيحة العيد في مقام الأمير عبد الله التنوخي في عبيه، بمشاركة جمع من الفاعليات الروحية ورؤساء لجان وأعضاء في المجلس المذهبي، ووفد من مشايخ مؤسسة العرفان التوحيدية، ومن كلية الأمير السيد التنوخي. وبعد أداء الصلاة القى سماحة شيخ العقل نعيم حسن خطبة العيد جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

  الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيّه المصطفى محمد خاتم النبيين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وعلى كافة الانبياء والمرسلين.
يحـقِّقُ الـمُؤمنُ الـمُوحِّدُ في حَرَمِ الطاعات مقاصِدَ الأضحى الـمُبارَك بفضيلتيْن على وجهِ الخصُوص: حُسنِ القصْد وزادِ التَّقوى. والقَّصْدُ هو تلبية آذان القيام برحلةٍ هي في الحقيقةِ سبيلُ طاعةٍ، وقربانُ صِدقٍ إلى كنفِ الدَّعوةِ إلى الهدى والرَّشاد وبرهانِ الحقِّ. والزَّادُ هو امتلاءُ الرُّوح بنُورِ الإيمان بحيث يصيرُ الإنسان مظهرَ دُعاءٍ قلبيٍّ مُقرٍّ بالاعترافِ بالفضل وبكرمِ الله وبعظمةِ نِعَمِه وألطافِه وإحسانِه، ومَنِّه على عِباده بالدَّعوة الصَّادعةِ بالحقِّ والخيْر وعيْنِ الرَّحمة.

إنَّ حُسنَ القَصدِ يعني انعقاد النيَّة في الـجَنان على الخَيْر الذي شاءهُ اللهُ تعالى كمالًا للإنسانِ يصِلُه بمسلكِ الحقّ، وهو المسلكُ المطابق لأمرِ الدعوةِ الهاديةِ ونهيِها ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ تّأمُرونَ بالمعرُوفِ وتَنهَوْنَ عنِ الـمُنكر﴾ (آل عمران 110)، وهي قاعِدةٌ تجمعُ في فَحواها ثوابت الدِّين والإيمان. والمعروفُ هو كلُّ ما حسُنَ في الشَّرعِ والعقْل، والـمُنكَر هو كلُّ ما قبُحَ في العقل والشَّرع. والدِّينُ نورٌ وهدى ورحمة وتوادّ وصلاحٌ في النَّاس يريدُ بهم ولَـهُم الخـيْر والعدْلَ وجميلَ المَثاب. والطَّريقُ إلى الأضحى هو مسارٌ في ثوابِت الدِّين وبرَكتِه وسلامِه وصولًا إلى سلامِ الله الَّذي أراده لعبادِه طُرّاً.

تلك ثوابتُ تُلهمُ الحياةَ في كلِّ جوانبِها إن نـَحا الإنسانُ في مسلكه مَنحَى الرَّشاد والإستقامةِ والإعتدال. تُلهمُها إلى سَواءِ السَّبيل، أي أن تُعاشَ بحِفْظِ حقِّ النِّعمةِ، وبالرِّفق، وبالشّعور الحيّ مع الآخَر الذي هو «نظيرٌ في الخَلق»، وبعدمِ رضَى النَّفس أن تبقى رهينةَ الهَوى والرَّغبات الخارجة عن حدود احترامِها لذاتِها. وهذه أمورٌ في غاية الأهميَّةِ لأنَّها أيضاً قواعد راسِخة في حماية «الكَنَف العائليّ» ومِنعتِه في هذا العصْر الـمُتفلِّت نحو كلِّ إباحة، وفي تـمتينِ أسُس الإصلاح في البُنى الاجتماعيَّة، فالوطنُ الَّذي يحترمُ الحرِّيَّةَ من حيث هي حفظٌ لكرامةِ الإنسان، يجبُ أن تكونَ له مؤسَّساتٍ فاعِلة وناشطة وأصيلة بمعنى أنَّها تقدِّمُ لسائر المواطِنين خِيارَ التَّميـيز بين المعايـير وفقاً للفرْق الفاضِح بينها بين ما هو بنَّاء للإنسانِ وللمجتمع، وبين ما هو هدَّامٌ لهما. وهذا يصِحُّ في السياسةِ وفي التربية وفي الإعلام وفي الثقافة ومختلفِ حقولِ النشاط البشريّ.

وقد عبَّـرَت المرجعيَّات الرُّوحيَّة في لبنان في القِمَّة التي جمعتهم مؤخَّراً عن الثوابت الوطنيَّة التي طالما نادوا بها واتَّفقُوا عليْها. وبقوَّة دلالات الـمُثُل الإيمانيَّة التي يحملونها في قلُوبهم نادَوا بالحفاظ على الرُّوح الميثاقيَّة التي تجمعُ اللبنانيّين في وطنٍ واحد، ودعوا إلى نبذِ التنافُر سبيلًا إلى إعادة لبنان إلى معنى الرِّسالة التي وُصِف بها. وعبَّروا مجدَّداً عن القوَّةِ الحقيقيَّة التي يحملُها لبناننا العزيز وهي الوحدة الوطنيَّة والتآلُف في سياساتٍ تحمي بلدَنا وحصانتَهُ في وجهِ أيّ عدوان. إننا في هذا العيد المبارك إذ نسأله تعالى أن يقدّم لأبناء الجبل كما لكل اللبنانيين أفضل ما يستحقون من عيش كريم وآمن، نؤكد بعد لقاء بعبدا على مدى الأثر الإيجابيّ العميق لوحدة الموقف، وعلى أهمية وحدة الصف ووقف الاحتقان والتمسك بالقضاء المستقل النزيه، وبحلّ كل الإشكالات بالحوار والتواصل والتفاهم. وإذ نشدّ على يد القيادة السياسية الحريصة التي أكدت أنها الضنينة على الحق بما لها من سعة الصدر ورجاحة العقل، فإننا نشكر فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، كما نخص بالشكر دولة رئيس مجلس النواب الاستاذ نبيه بري، ورئيس الحكومة الشيخ سعد الحريري ومدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم على الجهود التي بُذلت لتذليل كل العقبات توصلاً للحل الذي حصل لحادثة البساتين المؤسفة، وليكن الأمر منطلقاً لاستعادة الحياة الطبيعية الديمقراطية بعيداً عن خطابات الشحن والتوتير التي فجرت الأمور في السابق، وليكن الخطاب الوحدوي المحب الجامع هو المعيار في القادم من الأيام لكي نحمي اللبنانيين وننهض بلبنان إلى ما نريده من طمأنينة ورخاء وتقدم.

إننا نطلب من جميع المسؤولين والقيادات السياسية والهيئات الاقتصادية الاستلهام من معاني عيد الأضحى المبارك في تقديم كل التضحية المطلوبة وإطلاق المبادرات في المسائل الإقتصاديَّة والمعيشية والمالية التي من شأن معالجتها أن تعزِّزَ الثقة وتجدِّد الأمل وتُمكِّنُ الحكومةَ بكلِّ حقولِ عملها من الانطلاق بثقةِ وثبات إلى التَّصدّي للمشاكل القائمة والتوجُّه إلى المؤسَّسات الدوليَّة المَعنيَّة، مستندَةً إلى قوَّةِ الموقف المنسجِم القائم على خُططٍ وتشريعات ومواكبة واعية وعلميَّة للخروج من حلقةِ المراوحة في الأزمات.
في هذه المناسبة المباركة نحيِّي شعبَنا الصَّامد الصَّابر برجاء أن تبقى قِيمُهُ الإنسانيَّة الوطنيَّة الصَّخرة الصّلبة التي تستندُ إليها وحدةُ وطنِنا الأَنُوف، وأن يبقى مُتشبِّثاً بإيمانِه الَّذي لا يتزحزح بمبادئ العيْش المشترك والتعاضُد الاجتماعي وتعزيز الصِّلات القائمة على تقاليد أثيلة طالما تميَّز بها لبنان، سائلًا الله تعالى أن يحفظَ وحدتَنا، ويعصمَنا تحت جناح الائتلاف والتلاقي ونبذ التنافر العقيم والمجافاة القاطعة لكلِّ خيْر، وأن يلهمَ الجميع إلى الارتقاء في مقامات المسؤوليَّة درءاً لكلِّ الصِّعاب وإخماداً لكلِّ عبَثٍ ليس منه طائل.

نحمَدُ الله عزَّ وجلَّ على جميل لُطْفِه ورحمته، سائلينه أن يعيدَه على بلدِنا وشعبِه بالخيْر واليُمن والسَّلام، وعلى فلسطين وشعبها بالفرَجِ والظَّفر والنصر المبين، وعلى شعوبِ أمَّتِنا العربية والاسلامية بما تستحق من حياة كريمة وبالأمان والفلاح، وأن تتوصل دولنا إلى نهج التفاهم على مواجهة التحديات عبر منع التطرف والظلم والإرهاب وتحقيق التنمية ومكافحة الفقر ،إنه هو القادر القدير، الغفور الرحيم والسلام عليكم ورحمة المولى وبركاته.

سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي يزور دار الفتوى والمجلس الشيعي

 زار سماحة شيخ عقل طائفة الموّحدين الدروز الشيخ نعيم حسن اليوم، دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والتقى بسماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المفتي الشيخ عبد الأمير قبلان، وعرض معهما شؤونا إسلامية ووطنية عامة والتطورات الراهنة.

  ورافق شيخ العقل الى دار الفتوى وفد ضم، قاضي المذهب الدرزي الشيخ غاندي مكارم، ومستشار مشيخة العقل الشيخ غسان الحلبي، ومدير مشيخة العقل الأستاذ ريّان حسن، بحضور امين الفتوى في الجمهورية اللبنانية الشيخ امين الكردي، ومدير عام الأوقاف الإسلامية الشيخ الدكتور محمد انيس الاروادي.

  وبعد اللقاء صرّح شيخ العقل، «زيارتنا اليوم زيارة موّدة ومحبة وتقدير لشخص سماحة المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان ولهذه الدار الكريمة. فبعد انعقاد القمة الروحية الاستثنائية في دار طائفة الموّحدين نحن حريصون مع سماحته ومع الرؤساء الروحيين على استمرار ثمرة تلك القمة لخير أبنائنا ولخير الوطن. وقد اكدنا مع سماحته على استمرار التواصل والتضامن لوحدة لبنان ووحدة شعبه وابنائه، كما اكدنا مع سماحته على دعم الدولة وسعي رئيس الحكومة لدرء الاخطار التي يتعرّض لها لبنان نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، وقد توافقنا مع سماحته على دعم الدولة وجهود رئيس الجمهورية في معالجة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، آملين ان تكون الدعوة للمعالجة شاملة لكافة القطاعات والنقابات، متمنين على رجال السياسة تقدير الموقف المناسب في هذه الظروف الدقيقة».

  بعد ذلك زار سماحة الشيخ حسن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في مقرّه، يرافقه كل من القاضي مكارم، والمستشار الحلبي، وعضو المجلس المذهبي الدكتور طلال جابر، ومدير مشيخة العقل، بحضور نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، وامين عام المجلس الأستاذ نزيه جمّول.

  وبعد اللقاء صرّح شيخ العقل، «زيارتنا اليوم لهذه الدار الكريمة للاطمئنان أولا على صحة سماحة الشيخ عبد الأمير قبلان ولشكره وتكليفه وفداً رفيعاً يمثّله في القمة المسيحية – الإسلامية التي حصلت في دار طائفة الموّحدين الدروز. وتالياً فان لبنان يتعرّض اليوم لعدوان إسرائيلي نستنكره اشد الاستنكار، واننا نرى مع سماحته بأن الوحدة الوطنية تبقى الضمانة لصد أي عدوان، وعلى كافة الفرقاء السياسيين المحافظة على هذه الوحدة».

  وأضاف، «اننا نوّجه التحية الى القدس، كما ونوّجه التحية لدولة الرئيس الأستاذ نبيه بري على دوره الضامن في حل الخلافات ومعالجة المسائل الوطنية. ولا شك بان الوضعين الاقتصادي والاجتماعي ضاغطين أيضا، وفي هذا السياق نتمنى على الدولة بكافة مرافقها معالجة الامور بتبّصر وشمولية، كما نتمنى إعادة العمل بتسليف قروض الإسكان لتحريك العجلة الطبيعية للحياة الاقتصادية في البلد».

وحدةُ أبناءِ الجبل أقوى من مشاريع الفتنة

  في مُقدَّمة محاضرتِه التي ألقاها في لندن الباحث السوسيولوجي العريق فؤاد إسحاق الخوري (وقد نقلتُها إلى العربية تحت عنوان «جوانب من التركيب الاجتماعي الدرزي»)، يقول: «بدا الدروز تاريخيّاً في صورة تميّزت – باستثناءات قليلة جداً – بتماسك داخلي واضح وبشعور قوي بهويّتهم الإثنية. وبالفعل شدّد كل الذين كتبوا عن الدروز، قديماً أو راهناً، على وحدتهم وتضامنهم الداخليين. فقد كان لـ «لويه برييه»، و «فيليب حتّي»، الذي عاش بين الدروز يافعاً، و «غابرييل بن دور»، و «تشارلز تشرشل» الذي كان شاهد عيان للصدامات الطائفيّة في جبل لبنان بين 1842 و1860، والراحل «حنّا بطاطو» في كتابه الأخير عن سوريا، كان لهم جميعاً الملاحظة نفسها في ما خص وحدة الدروز وتضامنهم. وخلال حرب لبنان الأهلية الطويلة (1975-1990) انقسمت أو تقاتلت في لبنان، بطريقة أو بأخرى، كلّ طائفة، كلّ حزب سياسي، كلّ تنظيم ميليشياوي، عدا الدروز. فقد كانوا مُوَحَّدين كُلِّيّاً طيلة ذلك النزاع الأهلي. والتضامن لم يقتصر على دروز لبنان فقط، وإنّما امتد خارج الحدود ليشمل دروز سوريا وفلسطين.»*

  لهذا السبب الداخلي قبل سواه، بدا ما حدث مطلع تموز 2019 في «البساتين» – قبرشمون، والذي سقط بنتيجته الشهيدان رامي سلمان وسامر أبو فرّاج وعدد من الجرحى، وقبل ذلك في الشويفات في خلال انتخابات أيّار 2016، والتي سقط من جرّائها الشهيد علاء أبو فرج، أمرين مستهجنين، ومن خارج التقليد الدرزي العريق في الوحدة، وفي حلّ كلّ الخلافات الدرزية بالعقل والحكمة وبالطريقة المُتَعارف عليها.

  كانت الحادثتان اختراقاً خطيراً لسلام داخلي تامّ عاشه جبل لبنان الجنوبي منذ منتصف القرن الماضي، منذ نهاية ثورة 1958، التي افتتحت من جهة أولى حقبة من التنمية الشاملة التي ميّزت مرحلة ما بعد الثورة، وبخاصة في عهد اللواء فؤاد شهاب (1958-1964)، وكرّست من جهة ثانية وِفاقاً وطنيّاً لبنانيّاً قام على التوازن الداخلي، والنأي بلبنان عن سياسة الأحلاف والمحاور العربية والإقليمية.

  طوال خمسين سنة ونيّف، مرّت العواصف السياسية والعسكرية العاتية بالمنطقة ولبنان، فلم تَنَل في شيء من وحدة الجبل التامة. فهو كان مُوحَّداً خلف البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية اللبنانية 75-76، الذي قاده المُعَلّم كمال جنبلاط ، وجوهره الخروج نهائيّاً من دوّامة النظام السياسي الطائفي في لبنان، والدخول في نظام سياسي اقتصادي جديد قوامه التوازن السياسي والدولة المدنية وتنمية الأطراف والمناطق المُهَمّشة.
وهو كان موحداً طوال حقبة 1983-1989، كأشد ما تكون عليه الوحدة، في مواجهة الاحتلال الإسرئيلي واتفاقية 17 أيّار، ومفاعيلهما السياسية، وعلى قاعدة البيان الشهير لسماحة شيخ العقل المغفور له محمّد أبو شقرا، والمغفور له الأمير مجيد أرسلان، والزّعيم وليد جنبلاط، الذي أعلن المقاومة المدنية الشاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى انسحابه من الجبل سنة 1984. وبفعل وحدة الجبل الصامد المقاوم،وبطولات المقاومة الوطنية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية على وجه الخصوص، وبفعل وحدة اللُّبنانيين مسلمين ومسيحيين، أمكن إخراج الإسرئيلي وإسقاط الاتفاقية المقيّدة لاستقلال لبنان وعروبته، وصولاً إلى التحرير الناجز في 25 أيّار سنة 2000.

  في كل الحالات تلك، وطوال خمسين سنة، كان الجبل يعيش ما يشبه الجزيرة الآمنة وسط الاضطراب الذي أصاب الوطن والإقليم، بل إنَّ الانتخابات النيابية الدورية كانت تتسم في الجبل بالحدّ الأدنى من التنافس، ما نزع من قاموس أهل الجبل مفردات العداوة والكراهية والخصومة الحادّة.

  ما الذي حدث إذاً منذ انتخابات أيّار 2016، إلى تمّوز 2019، وقاد مع الأسف إلى الحادثتين الأليمتين في الشويفات والبساتين – قبرشمون. ما حدث، باختصار، هو أنّ وحدة الجبل، وما فيه من توازنات وتفاهمات وقبول واحترام متبادلَيْن، تعرضت (منذ 2016) لضغوط خارجية شديدة لم يقوَ الداخل الطّري والهش على ردّها أو دفع مفاعيلها وأذيَّتها. وقد تعرّض لبنان بأكمله، قبل الجبل، للاهتزاز الشديد نفسه. فانعدمت تفاهمات الأطراف المحلِّييِّن، وتقطّعت الجسور بينها، وتحوّل التنافس إلى «قتال»، والخصومة التقليدية إلى عداوة، وغدا المقياس والعنوان «أنا، وليكن من بعدي الطوفان».

  أمّا السبب الحاسم – وليس الوحيد – وراء ذلك كلّه فقد كان قانون الانتخابات الذي أُقِرَّ عشية انتخابات 2016، والذي قام على أساس الصّوت الفردي التفضيلي المُرَجِّح – أما النسبية فكانت الغطاء والحجّة. أطلق قانون «الصوت الفردي التفضيلي المُرَجِّح» العنان للغرائز، كل الغرائز: من الأنا الفردية الفاقعة إلى الاصطفاف الطائفي المُدَمِّر. وهكذا فرض القانون الجديد على السياسيين قتالاً فردياً لا هَوادة فيه، وفرض على المواطنين اصطفافاً لم يسبق له مثيل. خرجت كلّ الأصوات المستقلَّة، المُعْتدلة، الخارجة على طوائفها، من السباق الانتخابي. لا صوت يعلو الآن على الصوت الطائفي الصّريح حتى منتهى الشرِّ والقُبح.

  بات الخطاب الطائفي الصّريح، وإثارة العصبيّات المذهبية، أقرب الطرق للفَوْز بأصوات الناخبين. وبدل أن ينتهي مفعول الخطاب الطائفي بنهاية الانتخابات، استَعرَ أوارُه على نحو أكثر قوّة في الحقبة التي تلت، طمعاً بأرباح سريعة أخرى توفّرها الشّعبويّة الانتحاريّة. لم يتأخّر أصحاب الخطاب ذاك في الاندفاع به في كلّ اتجاه، وفي استخدام مفردات وصور ممجوجة من ماض كريه لا يريد أحد أن يتذكّره. جلب هذا الخطاب المُثير للعصبيّات والغرائز التوتّر في أرجاء الوطن كافّة: من بعلبك إلى بشرّي إلى طرابلس… فالجبل، وعلى نحوٍ لا يُسَرُّ بها لبناني واحد الآن، إنطلاقاً من رغبة واعية في أن لا نتذكر إلّا ما يوحّد اللبنانيين ويجمعهم، على نقيض كل خطاب طائفي يستخدم لإحداث الفرقة بين اللبنانيين، بين الأديان والمذاهب المختلفة، بل داخل كل دين ومذهب.

  وعليه، لم يكن مُستَغرَباً أن يقود الخطاب الطائفي التحريضي إلى ما قاد إليه من مشروع فتنة داخلية في كل منطقة لبنانية، وأن يوصل البلاد والعباد إلى ما أوصلهما إليه. ومع الأسف الشديد كان قدر الجبل من جديد أن يدفع الثمن من دماء بنيه الزكيّة، ومعه لبنان بأكمله.
  ومع ذلك، كان أبناء الجبل، ومعهم غالبية اللبنانيين، في مستوى التحدّي التاريخي الذي فُرِض عليهم. فقد تخطَّوْا خطر الفتنة الداخلية، وفخّ إعادة الانقسام والاقتتال بين أبنائه من الطوائف كافة؛ بل بادروا، أكثر من ذلك، ومن مُنطَلق مسؤوليتهم الوطنية العميقة إلى تسفيه خطاب الفتنة بتجديد عقد العيش الواحد بينهم زمن المصالحة التاريخية التي انبرى لها المثلث الرحمات المغفور له الكاردينال صفير، ولاقاه بالإخلاص نفسه وليد جنبلاط والقادة السياسيّون في الجبل، فأُسقط في يد من يريد بالجبل ولبنان شرّاً: وبدل أن يكون الخطاب الطائفي التحريضي مناسبة للاقتتال الداخلي والموت من جديد، تحوّل ببركة الخيّرين كافَّة وبحكمة القيادات السياسية العاقلة إلى مناسبة لتجديد الثقة بين أبناء البيت الواحد وتجديد الحرص على العيش الواحد ونبذ كل خطاب طائفي أو تقسيمي.

  نعم، تجاوز لبنان، مع الجبل، الفخ – الفتنة. فسلامة لبنان من سلامة الجبل، وسلامة الجبل من سلامة لبنان، وهو العنوان البارز لرسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في العدد السابق من (وحدة الجبل، وحدة لبنان). لكنّ إسهام سماحة شيخ العقل لم يتوقّف عند حدود النداء الفردي، بل كانت دعوته المباركة إلى قمَّة روحية لبنانية جامعة للتباحث وإعلاء الصوت وإظهار الموقف الروحي الواحد دفعاً للفتنة وتجديداً لمواثيق العيش الواحد بين اللبنانيين. فكان انعقاد القمَّة الروحية في دار طائفة الموحدين الدروز حدثاً بارزاً، بل الحدث الأبرز، في مواجهة مشروع الفتنة وتجديد الانقسام بين أبناء الجبل واللبنانيين بعامّة. وكان الخطاب الافتتاحي لسماحته وثيقة وطنية روحية – سياسية جامعة، تلقَّفها بكلِّ الترحيب والتأييد القادة الروحيّون المجتمعون وشكَّلت الأساس في البيان الختامي للقمّة. وعلى هدي من القمة الروحية، وببركة النوايا الخيّرة للقادة الروحيين جميعاً، اكتمل التصدي للفتنة، ووأدها، بقمة سياسية وطنية جامعة انعقدت في القصر الجمهوري في بعبدا بدعوة من فخامة الرئيس عون، ومشاركة الرئيسين برِّي والحريري، ووليد جنبلاط وطلال أرسلان، فأرست الأرضيّة لمعالجة ذيول ما حدث من خلال ما أسمي بالمصارحة والمصالحة.

  نعم، هُزم مشروع الفتنة، المشروع التقسيمي الشيطاني الباعث من جديد لصور الاقتتال والموت ونبش بعض ذكريات الماضي البَشع – يوم كان الجبل ولبنان مجرد ألعوبة في الصراعات الإقليميّة، ولم يكن للبنانييِّن في أيَّة لحظة القدرة على ردّ التدخلات الخارجية. لكن اللبنانييِّن، وبخاصّة أبناء الجبل من طوائفه كافة، كانوا أكثر وعياً من أي يوم مضى، ووحدتهم كانت أكثر صلابة من كلّ المؤامرات الشيطانية الخبيثة. وقد تمكنوا، بفضل وعيهم ووحدتهم، وبحماية مؤسستهم العسكرية والأمنية، من وأد الفتنة قبل أن تنتشر، ومن إطفاء النار التي أشعلت غيلة وأريد لها أن تحرق الجبل والعيش الواحد المشترك، بل وتحرق لبنان، كياناً وتجربة ديمقراطية تعدّدية غنية، من خلال إظهاره ساحة ملتهبة على الدوام يستحيل العيش فيه ويستحيل من ثمّة تحوّله إلى وطن مستقل.
  نعم، هُزمت الفتنة، واللبنانيّون باتوا من الوعي ما يردعهم أن يكونوا، الآن وفي المستقبل، وقوداً لأية فتنة أُخرى.


* «الموحدون الدروز: الواقع والتصورات، أوراق بحثية»، مؤسسة التراث الدرزي، لندن-بيروت، 2019.

الأخُوَّة والصَّداقة

  يرقى مفهوم «الإخاء» إلى المستوى الأسمى في الخِصال الإنسانيَّة، ولَإنْ كان الأقرب إلى المعنى هو رابط النَّسب، فإنَّ الآيةَ الكريمة ﴿إنَّما المؤمنُون إخْوة﴾ رفعت من سموِّ هذه العلاقة بين البشر إلى منزلةٍ إيمانيَّة وإنسانيَّةٍ بالغة الرِّفعة حتَّى أنَّ بها يُقاسُ صدقُ الإنسان في مسلكه ومعاملاته ودرجة إدراكه لمعنى التآلُف الاجتماعيّ المرتبط بغاية وجود المجتمعات ودرجة رقيّها الأخلاقيّ والمعنويّ الحميد.

  والأخُ، أيّاً كان، هو الآخَر المُتقابِل. ومقياسُ الصِّلة به والتَّواصُل هو السجايا الطيِّبة التي تُميِّزُ الإنسان في حقيقـتِه في أيِّ وجهٍ من وجوه وجودِه (الذاتي والاجتماعيّ والبشريّ عموماً). وأهمّ تلك السجايا على الإطلاق الصِّدق، فلا يكون لك معه وجهان، ولا يكون بينكما خُلفٌ لا في دين ولا في دنيا، بل هو التُـناصُح والمودَّة والإيثار والتّعاطُف بالعقـل والنيَّةِ وإرادة الخيْر.

  وفي المأثُور السَّديد أنَّ ما من خلافٍ يبرز بين أخَويْن إلَّا وعِلَّتُه المطمع الدّنيويّ في مالٍ أو جاهٍ أو حسدٍ أو طلبِ رئاسة وما شاكَل. وهذه كلّها مفاسِد في السّلوكِ وفي حقّ الأخوَّة وفي التَّقوى، لأنَّ من اتَّقى الحقّ بذل الجهد في الحفاظ على ما هو أطيب للنَّفس من دنايا الأمور.

  والعلاقة الصَّادقة تولِّد الصَّداقة التي هي كما قال التوحيديّ: «أذهب في مسالك العقل، وأدْخَل في باب المروءةِ، وأبْعد من نوازي الشَّهوة، وأنزه من آثار الطَّبيعة وأرمى إلى حدود الرَّشاد…» وهي عبارة تكتـنزُ لطائف معنى الصَّداقة وخفايا مفاعيلها في الذّات. فالمودَّة فيها تجعلها بمنأى عن جنوح النَّفس إلى اعتدادها بذاتها والمماحكة في الكبر والمنافسة على الأمُور البخسة، بل هو العقـل الذي يُدركُ قِيمة الشأن الإنسانيّ ويسعى إلى إثراء الحال الداخليّ بما هو أبقى. فالعلاقة بين الصَّديق والصَّديق، كما قِيل، هي علاقة «فيها مُمازجَة نفسيَّة، وصداقة عقليَّة، ومساعدة طبيعيَّة، ومواتاة خُلُقيَّة.» حتَّى لَيشعر الصديق بلسان حالِه قائلًا: «اختلَطتْ ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونا…»
  وكلمة الصديق تدّل بمعناها اللغوي على صفة الصدق، والصداقة من جذرها، لذلك هي من كمالات المرء لأنَّ المروءةَ تغذّيها بأجلِّ الصِّفات السامية، فهي بمأمنٍ «من نوازي الشهوة» كما قال، وهو من «النَّزْو» والتنزّي أي التوثُّب والتَّسرُّع في الشَّرّ، لأنَّ الصداقة لا تليق باسمها إلَّا إذا بلغت محلًّا في حقيقة النَّفس لا تصله مناكفات الخفَّة وسقَطَات النَّزق. والصَّداقة إذا ما بلغها اثنان بصدق أدركا أنَّها لا توازي أعظم الأثمان، بل تضاهيها وتسمو عليها لأنَّها في ذاتها قيمة رفيعة بالغة السَّناء.

  وبهذا يكون الصديق الذي نعنيه بحقّ هو أخ كما ذكر الشاعر حين قال:

ويحفظـنــي إذا مـــــــــا غبـــــت عـنـــــــه              وأرجـــــوه لنــــــــائــبــــــــــة الــــزمـــــــــان

  ولا غرو بعد ذلك في أن يكون التَّوحيد قد قرَنَ معنى الأخوَّةِ بتزكية النَّفس، أي بحياتِها الرُّوحيَّةِ السليمة لجهة تهذيبها وتطهيرها والارتقاء بها في المسالك الحميدة. والموحِّد يرى في مرآةِ أخيه الموحِّد الصِّدق والنَّصيحة والألفة والائتناس بالفضائل المشتركة التي بها وحدها يُستشعَرُ حضورُ الحقّ والنِّعمة واللطف والرَّحمة الإلهيَّة. ولا بدّ من إدراكِ أنَّ هذا يدخل في فسحة «المُشترَكاتِ الإنسانيَّة» التي بها يتفاضلُ الخَلق، لأنَّ جوهر كلّ من الأخوَّة بمعناه الواسع والصَّداقة بمفهومها الشامل هو جوهر إنساني غير مُنفصِم، فكلاهما له وجه واحد، وكلاهما من الصِّدق الَّذي به يكون الإنسانُ لائقاً بالنِّعمة أو لا يكون.

  اليوم وفي ضلال سيطرة الفوضى على مجتمعاتنا، أين هو الأخ الصديق او الصديق الأخ الذي يحمل همّك، ويسدّ غيبتك، ويدافع عن كرامتك، ويصون عرضك، ولا يخونك بيد أو بلسان ولا بخطرة بال ولا بخفقة فؤاد دون أن يكون له غرض ودون أن يمّن عليك؟

تطوّر وتجديد

  التطور، سيّما إذا كان تقدّماً، هو سنّة الحياة. تدرك ذلك جيّداً، فلا تترك باباً في التطور والتقدّم إلا وطرقته، في ظل شرطين علنيين: أن يتماهى وهوية المعروفية والأخلاقية، وأن يكون في حدود قدرات المالية – في زمن ازدياد كلفة إنتاج المطبوعات الورقية المتقنة، والشحّ في التبرعات والإسهامات التي لا غنى عنهما لمطبوعة مستقلة وحريصة على استقلالها واتزانها.

  وعليه، كان القارئ يتابع في باستمرار أبواباً جديدة يطلبها قرّاء وتشعر إدارة المجلة أنها ذات نفع عام، بل ضرورية. من الأبواب تلك: مشكلات اجتماعية ملحة، تغطية النشاط الثقافي، مساهمات حرّة، قبل خمسين عاماً، وسواها.

  ومع العدد الجديد هذا، العدد 29، توفّر لقرائها باباً جديداً لا يحتاج القول بأهميته إلى كثير من الشرح والبيان، وهو باب: «الفقرة التربوية».

  تعالج الفقرة كما يتضح من العنوان شؤون التربية في الجبل، على وجه الخصوص، وفي لبنان والمحيط العربي بعامة: من المناهج التربوية، واقعها ومحاولات التجديد في طرائقها ابتغاء الغايات التي لا تزال محور التربية ألا وهي بناء الإنسان المتمكّن، الخيّر، والمواطن الصالح، في آن معاً. وإلى مكونات العملية التربوية على تنوعها، تحاول «الفقرة التربوية» أن تغطي، ما وسعها ذلك، النجاحات التي يصنعها طلابنا، ومن خلفهم مدارس جادة حديثة ورصينة، ومدرسون ما انفكوا يظهرون يومياً وعيهم لخطورة الدور الذي يقومون به في بناء الإنسان والوطن، علماً وكفاءة… وأخلاقاً قبل ذلك وبعده.

  وكيما تكتمل مقومات نجاح «الفقرة التربوية» في الضحى، لم نجد أفضل من أن «نعطي الخبز للخبّاز»، فيُتقنُ إنتاجه، وتظهرُ جودتُه العالية، ويطيبُ طعمُه، فيشعر قارئ الضحى بنكهته الجادة المميزة، وهو ديدن في فقراتها كافة.

  وبسبب من هذا الحرص، طلبنا من الزملاء الأعزاء في «مدارس العرفان» الزاهرة أن يتولّوا المهمة الجليلة، وهي تحرير مادة هذه الفقرة، فلبّوا الطلب؛ لهم من التقدير والعرفان، ولنا ولهم بالتأكيد عند رب العالمين الأجر والثواب الذي نستحقه.

كلمة سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي في الاحتفال المركزي لمؤسسة العرفان التوحيدية

بسم الله الرحمن الرحيم

  الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد سيّد المرسلين، وآله وصحبه الطاهرين الطيبين وعلى كافة الانبياء والمرسلين.

بُوركت ثمرةُ العرفان، هذه المؤسَّسةُ التي نشأتْ في هذا السَّهل الجَبليّ الّذي يحفظُ التاريخ والذاكرة بفضل قادةٍ كبار ومشايخ اجلاء وبهمّة مقدام غيور كافح من دون توقف ما يناهز النصف قرن في سبيل بناء توطيد أسُس انطلاقها وبجهدٍ دؤوبٍ لتعزيزها وازدهارها وتطويرها حتى الرمق الأخير، وهي الآن بحمده تعالى وبما تمثله من قيمة لمجتمعنا ولوطننا وبرعاية دائمة من الزعيم وليد بك جنبلاط ستبقى مؤسَّسة رائدة، تحافظ على أمانتها ومسيرتِها ودوام تقدّمها نخبةٌ مميَّزة وأسرة كريمة (أسرة العرفان). مع دعائنا بالتوفيق للشيخ نزيه رافع. إضافةً الى دورها التربوي دفع الراحل الشيخ علي زين الدين نحو علاقات وطيدة مع الكثير من المؤسَّسات التربويَّة والثقافيَّة في كافة أرجاء لبنان على قاعدة التلاقي والتعاون وتبادل الخبرات، وترجمة الشعارات المتعلّقة بِـحَـبْكِ النسيج الوطني، وإحكام روابطه على قاعدة الانتماء الوطنيّ، إلى الواقع العملي اليوميّ.

ونحن اليوم يهمُّنا النهج الذي به وحده نحافظ على بلدنا العزيز، المتن الأعظم من كتاب تاريخنا وهو الصفحات البيضاء التي تتضمَّنُ وحدة اللبنانيِّين، و»العيش معاً» تحت جناح «التضامن اللبناني بين كلّ الفئات»، وضدّ كل ما يهدِّد هذه الوحدة، هذا التضامن تجدُ تجليَّاته قبل زمن طويل ممَّا بات يُعرفُ مع الاستقلال «الرُّوح الميثاقيَّة». فلا تكونُ الميثاقيَّةُ أو مبدأ اللحمة الوطنيَّة أو «كنز المصالحة» موضوعاً أنيّاً في لعبة الصراعات والمناكفات السياسيَّة، بل هي ثوابت ترقى إلى مستوى احترام الرُّوح الدستورية بمعانيها الوطنيَّة والسياسيَّة والإنسانيَّة الرفيعة، وهو ما يحفظ لبناننا وسط كلّ العواصف. إنَّنا ندعو بإخلاص وأمانة إلى التبصُّر بالعواقب والمآلات، ولسنا نرى نافذةً إلى خلاص لبنان اليوم إلَّا التمسُّك الشديد والمخلص بالثوابت الوطنيَّة، والمبادئ الدستوريَّة الميثاقيَّة، وروح المصالحة. ومصالحة الجبل التاريخية التي تكرّست بجهودكم وحكمتكم وصلابتكم ورعايتكم لطائفتنا المعروفية وليد بك مع البطريرك الراحل مار نصرالله صفير، وتمّ تثبيتها مع غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي»ادامه الله»، ونحن حريصون على هذه المصالحة ولن تؤثر عليها الخطابات الاستفزازية ولا التصريحات الطائفية ولن تزعزعها عوارض السياسة وتقلبات أمزجة المصالح فيها والمكاسب الدنيا. فأمانة «وحدة الأرض والإرادة» عهدٌ نلتزم به بلا هوادة. ونأمل ان يلتزم به الجميع.

الحضور الكريم،
لقد مرّ الجبل خلال الأسابيع الماضية بمرحلة صعبة عقب حادثة البساتين الأليمة، والخسارة هي مشتركة لنا جميعاً، والتي تتطلب لتجاوزها نهج الحكمة والتبصر والالتزام بالمبادرات السياسية والقضائية والأمنية المبنية على أن القانون فوق الجميع، وأن الدولة ومؤسساتها هي المرجعية الوحيدة لكل اللبنانيين. وأنّ أمن الجبل واستقراره والعيش المشترك من ركائز الثوابت، وهو من الخطوط الحمر غير المسموح تجاوزها. ونحن من موقعنا الروحي نشكر جهود جميع المرجعيات السياسية والأمنية التي تحركت فور وقوع الحادث لتطويق ذيوله ووأد الفتنة ووضع إطار للحل، ورجاؤنا وأملنا أن تسلك المصالحة ضمن البيت الواحد قبولاً للمساعي الحميدة. وببركة ودعاء المشايخ الاجلاء، والمرجعيات الروحية الكريمة، ستبقى راية التوحيد خفاقة مرفوعة باذنه تعالى، وقناعتنا العيش في هذا الوطن بكرامة الى جانب اخواننا في الطوائف والمذاهب.
الحضور الكريم،
لبنان يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية خطيرة تهدد استقراره وعافيته. نداؤنا أيُّها اللبنانيون احفظوا وطنكم عبر ترسيخ مفاهيم المحبة والشراكة في نفوسكم، وتعالوا عن صغائر الأمور وتشبثوا بالكلمة الطيِّبة وبقواعد الصفح والتسامح، لبنان أمانة في أعناقكم وأعناق كلّ المخلصين حافظوا عليه.

نسأل الله تعالى أن يحميَ وطننا، وأن يمنّ بتعزيز المصالحة والتآلُف ووحدة الحال، ونسأله أن يهديَنا جميعاً إلى سواء السبيل، وأن يسدِّدَ حكَّام هذا البلد إلى ما فيه الخير والعدل واليُمْن لكلِّ أبنائه، إنه هو السميع المجيب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العدد 29