يقولُ كانط:»شيئان يثيران في نفسي الإعجاب والاحترام: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي».
أجل.. ففي حياة الإنسان ما هو أعظم من الحسب والنسب والجاه والموقع، وأكبر من الكسب، وأسمى من العبقرية. ألا وهو الأخلاق..
فقد جعل الله مكارم الأخلاق وصلاً بيننا وبينه..
إذ لا صلاح لأُمّة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان لمن يريد أن يرى.. أفما كانت الأمم التي اندثرت واستُعبدت تمرُّ أوّلاً في مرحلة تدنّي الأخلاق، وانطلاق الشهوات، عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟!.
إذن، فإنّ أشرف موازين الأمم أخلاقُها.. وأكمل الناس عقلاً أحسنُهم أخلاقاً..
وعليه فإنّ كل شريعة تؤسَس على فساد الأخلاق فهي شريعة باطلة، صحيح أنّ الأخلاق لا تقوم باشتراع الشّرع في الأمم، وإنّما هي المؤلّفه من مجموع نسيج الأخلاق لكلّ فرد.
لذا يمكننا القول :إنّ الأخلاق دعامة الحياة المُثلى، والقوانين الوضعية هي الإطار الخارجي لذلك…
أمّا مبدأ الأخلاق الرئيس.. فهو الحرص الدائم على أن نفكّر جيداً وتحت إشراف – حضور الله في الإنسان- أي الضمير..
فالضمير هو الحارس اليقظ الذي يقف لنا بالمرصاد. فلولا أن الضمير يمسك بنا ويشدنا، لارتكبنا كثيراً من الهفوات والآثام..
فالضمير والأخلاق هما العنصران الأبرز والأهم في مكونات عناصر الحضارة الإنسانية، ولهما الأسبقية على الدين..
فمن أعظم أضرار تفسخ الأخلاق وانحلالها، وانحطاط المناقب، وغياب الضمير، فساد الحقيقة، وذهاب الرجولة، وفقد الأهليّة، وتفكّك الاجتماع الإنسلني، وتهدم القضايا، وزوال الممالك والأنظمة، وركوب العار…
لأن أسمى الألقاب وأقدسها طُرّاً هو لقب الإنسان…
لذا تقتضي الأخلاق أن يكون الانسان «كائن» متعادل مادياً وروحياً، فهذا سرّ حياته، والاعتدال خيطٌ حريريٌ يربط كلّ لآلِئ الفضيلة، والخروج عن الاعتدال انتهاك لحرمة الانسانية، وإنما تُعرَف النفس الإنسانية بقدرتها على الاعتدال، لا بقدرتها على التجاوز.. الاعتدال أبو جميع الفضائل..
فبالاعتدال تأتي ثقافة المرء التي تحدّد سلوكه و مساره ومصيره وموقعه..
أجل: إنّ المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة المُجَلْبَبة بالأخلاق. والمقرونة بالضمير، فبالثقافة العامة، يعمل العقل بانتظام، ويُميّز الجوهري من الثانوي، ويرتفع إلى مرتبة تتراءى له منها المجموعات منزّهة حتى عن الفروقات الصغيرة، وإنَّ القادة العظام الذين خلّدهم التاريخ كانوا يتذوقون التراث الفكري… فوراء انتصارات الإسكندر نجد دائماً أرسطوطاليس..
الثقافة هي طهارة العقل.. فالكبيرة منها لا تنتفخ ولا تتعصب، ولا تُقصي تُراثاً لأن شيئاً إنسانياً ليس عنها بغريب، إنّها تدرك أنّ المجد هو في كل أرجاء الأرض، وأنّ هذا المجد حقّ كل مواطن، وهو لن يكون صالحاً مالم يحبَّ كل خير أنتجه العالم منذ فجر التاريخ..


فالثقافة كما الأخلاق ليست ذلك البهاء الذي يهبط علينا من القمة، وهي لا تأتينا آلياً، ولكنها تؤهّلنا في ذراها للصدق الداخلي، ولتواضع الفكر، ولِصدقٍ كبير..
وما كانت هذه الفضائل والخصال والقيم لَتُتَناقل وتُتَداول بين الأمم لولا وجود- الكلمة – اللغة..
إنّ لغة الكلمات والأصوات هي بوابة الإنسان الرئيسة التي يصل من خلالها الى عقول وأذهان وأحاسيس أبناء جنسه في كل زمان ومكان، ليغترف مما تفيض به هذه العقول والأذهان والأحاسيس، ويشكّل بما يكتسبه منها ثقافته الخاصة، ويطوّر مهاراته اللاذعة، فعجزه عن إمتلاك هذه الوسيلة، أو السيطرة عليها، يعني عجزه عن اكتساب المعارف والخبرات الكافية، وتعثُّره في فهم وهضم ما يُنقل اليه من هذه المعارف والخبرات يعني عجزه عن تطوير ما يحتاج إليه من المهارات اللازمة، فالإبداع الفكري والفني لدى الانسان قائم أساساً على ما يجنيه من ثمار عقول وتجارب الآخرين، فذلك يصبح القاعدة الأولى التي ينطلق منها لإيجاد إبداعاته وابتكاراته ضمن منظومة الأخلاق، التي تعمل بإشراف الضمير..
إنها الخامات الأساسية التي يعمل فيها الفكر، ويصهرها الإحساس، وتصقلها الموهبة، ويبلورها الذهن، فيوجِد منها نتاجاً جديداً أصيلاً مطبوعاً بطابع شخصية وروح وعقل وإحساس مُنتجها.
هذا ما يقصده علماء النفس من تعريفهم للجهد الإبداعي بأنه « انتاج أفكار قديمة في ارتباطات جديدة»
فبروز شخصية الفرد وظهور مكانته يقومان بحسب المقياس الحضاري على أساس ما يسهم به من إنجازات مهمّة، وما يقدّم أو يبدع من نتاج فكري أو فني نافع أصيل.. وإنّ عظمة الأمم ومكانتها تعتمدان على ما لديها من تراث عقلي وروحي وأخلاقي، وما يصنع أفرادها من منجزات حضارية، وما تتمخض عنه مواهبهم عامة من إبداعات تساهم مساهمة فعّالة في التقدم الحضاري للإنسانية جمعاء.
لذلك فإنّ تراجع أفراد أمة من الأمم عن الإنتاج الفكري معناه الهبوط في مستوى مكانتها، والتقليل من شأنها ومن شأن ناسها..
فالمثقّف.في المجتمعات الممزّقة، إنّما هو شاهد عليها، ذلك لأنه استبطن تمزقاتها، فيكون والحالة هذه نتاجاً تاريخياً، فليس هناك بهذا المعنى، من مجتمع يمكنه أن يشتكي من مثقفيه وينتقدهم، دون أن يتهم هو نفسه بنفسه، ذلك لأن ليس له إلّا أن يتهم أولئك المثقفين الذين يصنعهم ويخلقهم على صورته..
المثقف العضوي.. هو ذاك الذي ينخرط في قضايا مجتمعه ويُعبّر عن تطلعات شعبه بالممارسة العملية والفعل اليومي.. فحذار أن يعيش مثقفو وطني على هامش الحياة، أو يتملقوا سلطاناً إرضاءً لأعناقهم أو لجيوبهم..
المثقف الفعلي الخلوق هو الذي يستبطن مشاكل مجتمعه وإنسانه، ذاك الدائمُ القَلَق، الدائب التنقيب والبحث والغوص خلف دُرٍّ ثمينٍ، أو تأميناً لاشعاع نوراني.. حتى ولو نظر الساسة إليه كمشعوذٍ أو كمشاكس في أحسن الأحوال!! ما من هَم..
فالثقافة عبر العصور خمير عجين المجتمعات والمثقف هو الخبّاز، والتثاقف خبز العقول، وماء النفوس، وإكسير الحياة.. وصاقل الأخلاق..
قَدَرُ المثقف العربي تحديداً، أن يعيش مخنوقاً في أجواء القمع، وكبت الحريات والتغريب، والفاقة.. وهذا ما يجعلنا في لُهاث دائم..
أجل إنه قدرنا العلمي الموضوعي، وعلى الرغم من هذه المرارة، علينا مواصلة الجهود لعلّنا نقدم شيئاً ذا قيمة!!
نعم نحن الآن بلا زمان، ولهذا أراني أمقت عصري الذي أعيش فيه، فنحن في الحق لا نتحرك، إذ ما من مَلأٍ بغير زمان، وما من زمانٍ بغير جوهر، والجوهر هو الهُوِّية بأم عينها – هو الانسان- صانع زمانه ومكانه..
لذا علينا الامتثال للعقل، للموضوعية.. وإلاّ فسيبقى الجوهر والزمن الى أجل غير مسمى، وسنبقى عاجزين عن تزمين الزمان، عن جعله زماناً، عن افتدائه، واستخلاصه من جوف الفراغ.
نحن شرقيون – آسيويون – وسنبقى كذلك، حتى لو امتلكنا التكنولوجيا والحضارة الحديثة والعلم الحديث، فالتاريخ برهة فرقٍ آبدةٍ، لأنّه ما من هُوِّية تدخل صلب الوجود، في سداه ولحمته معاً، برهة الفرق تماماً كبرهة الجمع، أو برهة الوحدة السرمدية.. وإلاّ صار الحجر والشجر سِيّان.. وعدنا الى الخواء البدعي وانطفأ نور العقل.
إنَّ ما يؤوب بنا الى اعادة امتلاك الجوهر والزمان، أوقل: التجوهر والتزّمن، هو الإنابة الى روح الشرق، إلى البوذا العظيم الصارخ قائلاً: «دامياتا» أعطوا، وإلى يسوع الهاتف بكل رقةٍ «أحبوا»، وإلى قرآن مُحمَّد القائل :»لتعارفوا».
نعم الإنابة الى آمون، وأخناتون، وحمورابي، إلى زرادشت، وكونفوشيوس، إلى الحلاّج والسهروردي، وابن عربي.. إلى كل ما في الشرق من إشراقٍ وحرارةٍ وقِيَم..
فنحن دون هذه الإنابة، لا صيرورة ما ولا مصير- كما أتصور – لا تجوهُر ولا جَوهر، وإنما انتصار الفراغ على الزمان، الخلاء على الملأ، على الروح الذي هو حضور الزمان وإرادة الزمان..
ثمة وحدةٌ، وثمة فرقٌ، والعاقل من فرّق ووحّد في آن معاً..
فنحن بشرٌ، عالميون أمميّون، ولكننا شرقيون في الوقت نفسه كما أننا عربٌ على وجه التحديد، لنا قضية تخصنا قبل سوانا من الأمم..
من دون الإنسان سوف نختنق في الخصوصية، ومن دون الخصوصية سوف نضيع في العالمية الأوسع منّا بالضرورة، فبسبب من سعتها أراها تمتلك القدرة على ابتلاعنا، إن لم نحرس هُوِّيتنا الخاصة.
إذن، فلنضرب جذورنا في تربة بلادنا وتاريخنا، ولكن لندع الأغصان تتنفس الأنسام من الجهات الأربع.
وما دمنا بغير زمان فنحن في الفراغ، نحن إذن، تعليق «إرجاء» ولسنا علاقة، وكل ما هو في التاريخ، أو الزمان، هو بالضبط علاقة، يمارس تبادل الفعل والانفعال، يمارس الحرارة..
نعم.. المثقف الخلوق هو المنافح دون الروح ضد تفسخ الروح، إنّه اذن سادن قيم الروح الجُلّى، القِيَم التي لا نصر لأحد من دونها البته.. إنّ هذا ما لا يستوعبه الاّ القلة، إذ الغالبية الساحقة في عصر التضخمات والكميات، لا تطالبك إلاّ بشيٍ واحد، بل بشيٍ واحد وحيد: أن تتنازل عن عقلك، والتنازل عن العقل هو الاسم الآخر للتنازل عن الحرية، عن العلو، عن السمو، عن القيم، عن إنسانك!!
الغالبية الساحقة تحدّد لك وظيفة واحدةً ليس إلاّ: أن تتكلم مباشرةً عن اليومي والآتي والمُلّح.
أمّا الدَّيمومي القادر وحده على أن يصنع الزمان، أن يجعل من أي عصر زماناً لا فراغاً – والقيم الكلية التي تظل هي إياها في كل زمان ومكان، والتي بها وحدها يتجوهر كل زمان ومكان- والتي بها وقبل سواها نملك ان نخلّص الزمان من أشواك الفراغ، فهذه لا تخصّ أحدا، إلاّ على ندرة أو قلة، وذلكم هو، على وجه التحديد والحصر، قلب أزمتنا الثقافية- الأخلاقية.
أخي في الإنسانية:
ما من سقوط ولا انحطاط، ولا أفولٍ سوى سقوط القيم وأفولها، وانحطاطها.. وما من خواء سوى استفراغ الروح لمضامينه الجوهرية…
أمّا الدَّيمومي… فسوف يتعذر علينا كعرب أن نستعيد مجدنا التليد من غير استعادة القيم والعمل بها.
بذلك يُستَعاد الجوهر، فيجري الزمن المتجمد ويسيل، ونخلص من لعنة الانحطاط الجديد.. بهذا نخرج من الخواء إلى الملأ، من الفراغ إلى الزمان…
أصدقُ الناس في زمن البوار هذا، نعم، أولئك الذين يسدنون القيم والفضائل، والفكر والتفكُّر، ويرون في الأدب والفن والفلسفة صوناً للأبدية التي منها وحدها يندلق كل زمان صيروري.