في المَوت والأسئلة المرتبطة به
صدقَ أبو العلاء المعرّي، عبقريُّ كلِّ الأزمنة، حين اعتبر وبجرأة نادرة، أنَّ ما من حقيقة عَصِيّة على الشك، أكثر من حقيقة الموت:
سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ | فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ |
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ | ففي أيِّ البلاد يكون لحدي! |
من يجرؤ غير المعري على القول أنّ كل ما لديه أو ما بلغه من حقائق يمكن الشكّ بها كلّها، خلا الموت (سوى أنِّي أموت بِغَير شكٍ). جرّ البيتان أعلاه عليه أكثر من اتّهام ممَّن كانوا يتربّصون به الدوائر، فيما هم كانوا قاصرين عن إدراك المعنى العميق الكامن في البيتين أعلاه. وسأعود إلى تحليل تَفرُّد هذين البيتين من الشعر بكلِّ المعايير في ثقافتنا، وربّما في الثقافات العالمية الأُخرى. لكنَّنا لِنمرَّ أوّلاً بفكرة الموت نفسها، وما تحتويه من أهمّية بل وأولوية.
أجَلْ، لا شيءَ مُشترك بقوَّة بين كائنات الكون كافة، كمثل الاشتراك في حقيقتَيِّ الولادة والموت.
وإذا كنّا في الكثير من الحالات – وبخاصّة في تلك البالغة الصِّغَر (الميكرو) أو البالغة الكِبَر (الماكرو) أو البعيدة جدّاً، far distant – لا نستطيع ملاحظة حالات الولادة، فإنَّ حالات الموت (أي الزّوال والاختفاء) هي بالمقابل ساطعة، من موت شجرة في الحديقة، إلى موت قريب، إلى موت حضارة، وصولاً إلى «موت» مَجَرّات بأكملها في الفضاء البعيد، تبعد عنا ألاف ملايين السنوات الضوئية، لا نكتشفها إلَّا لِلَحظات وقبل أن تتلاشى وتبتعد، أي «تموت» بمعنى ما.
ما الموت إذاً؟ في المعاجم الدقيقة الموت هو: «نهاية أي شكل من أشكال الحياة في الإنسان، أو الحيوان، أو النبات» إلَّا أنّه يمكن الحديث كذلك على «ما يشبه الموت»: موت صحيفة، موت إمبراطورية، موت آمالنا، موت قلب، موت حُب، وما يشبه ذلك على سبيل المثال.
وفق جورج أليوت، وغير بعيد عن فكرة أبي العلاء في بيتَيِّ الشعر أعلاه، «الموت قائم في كلّ جزء من الوجود»
باختصار، الموت هو المُتَغيّر الطارئ، بل القوَّة التي تنهي الحياة. قوّة مكروهة، غير مُسْتَحَبَّة؛ قوّة قادرة، أقوى منَّا، ولا سبيل لنا لردّها، تخطف منّا في لحظةٍ مَنْ أو ما نُحب من دون أن تكون لنا القدرة على منعها؛ قوّة مخيفة، أقوى من الوِلادة، بل أقوى من الحياة نفسها – لذلك سيقول المعرِّي في بيت من الشعر في قصيدته الخالدة:
إنَّ حُزناً في ساعة الموت أضعافُ | سُرورٍ في ساعة الميلاد |
في كلّ الأحوال، ودون استثناء: الموت أقوى مِنّا (لاحِظْ معي المعنى العميق والمُتداخل بين «الموت حقّ»، و «الله حق». ذلك صحيح على وجه الإطلاق، حتى حين يختار شخص أن ينتحر – أي يميت نفسه إراديّاً – فهو في الحقيقة إنَّما يخضع بطريقة مختلفة لسلطة الموت. خذ مثلاً حين تَجَرّع سقراط كأسَ الموت في مُعتقله، فهو إنَّما كان يمتثل لسلطة القانون، وإنْ يكُ غير عادل: اختار الموت، كأسَ السمّ، على أن يخالف القانون الذي طالما دعا إلى طاعته.
الموت الإرادي هو من دون شك أقوى أشكال الموت الصادمة، ولكن لعلّ قوته وصداه في هذه الحياة، كما بعدها: لذلك يستشهد الأبطال طائعين، ويستشهد القدّيسون والرّسل طائعين، وأعظم مثال على ذلك قبول يسوع الاستسلام لجلاّديه – وكان في وسعه كما قيل تفاديهم – والعبرة جليّة: التخلّص من الفكرة المادية التقليدية في أنَّ الموت هو نهاية الحياة. أراد يسوع أن يعطي درساً شخصيّاً، أنه بالإمكان قهر الموت بالموت. أي الخلاص عبر الموت. ولا أخرج عن الموضوع إذ قلت: إنَّ إقدام سقراط طائعاً على تجرّع كأس الموت (وكان يستطيع الهرب من السجن وتفاديه)، وإقدام يسوع على قبول الموت والصّلْب راضياً (وكان يستطيع تجنبّه)، إنّما كسراً نهائياً مع سُلطة الموت، بل ومع الديانات البدائية الطبيعيّة التي عبدت الموت (أو إله الموت تجنُّباً له): مثال سقراط، ويسوع، إضافة إلى مُعتقد الحياة بعد الموت، هي رمز لانتصار الحياة على الموت – أي كسر لحتميّة الموت المخيف المطلق والذي لا رادّ له.
إلّا أنَّ الموت يبقى أكثر من ذلك. رغم ألّا نقاش في حتمية الموت الذي سيعقب عاجلاً أو آجلاً كلَّ ولادة، في الإنسان والحيوان والنبات، إلّا أنّ البشر توقفوا دائماً وطويلاً عنده، فتأمَّلوا ما انطوى عليه من معانٍ كُبرى. خاف منه البعض، هَزِئَ به بعضٌ آخر، وتفكّر فيه قلَّة من المفكّرين (مثل المَعرّي قديماً وشوبنهاور حديثاً) والقدِّيسين (من أمثال القديسة تريزا)، وبعض المتصوِّفة الذين تمنَّوا الموت ليُسرعوا في التخلُّص من الجسد، الحجاب الكثيف الذي يعيق انطلاق الروح لتشاهد الله روحاً وعقلاً خالصاً، وربَّما لتتَّحد به عند بعض غُلاة المتصوِّفة.
وفي السياق هذا تحديداً يأتي الوعي العميق للطابع الإشكالي الذي قدّمته المسيحيّة المُبكِّرة حين جرى ربط الخطيئة بالموت، وفي سيرة يسوع الناصري القصيرة على وجه التحديد «الذي قهر الموت بالموت».
الطابع الإشكالي غير البسيط للموت يمكن متابعته قبل ذلك في الأشكال الثقافية المختلفة للبشر، وتحت غير عنوان: الحياة والموت، الدّين والموت، الحضارة والموت، الفن والموت، الحب والموت، العبقرية والموت، الانتحار والموت، الجنون والموت، التقمّص والموت، الموت والليل، الموت في الفلسفة، الموت في الأنثروبولوجيا، وغيرها من الأبواب والمباحث.
وعليه فالدرس الأوّلي والأكثر أهميَّة الذي نستخلصه من المقارنات تلك هو أنَّ الموت، وفي كلِّ الأحوال، هو جزء من الحياة وليس نقيضاً لها: فالحياة إنَّما تكون بالولادة والموت معاً. الموت، إذاً، مكوّن آخر من مكونات الوجود، أو عنصر من عناصره. وعليه فأنت تَجدُه حاضراً بقوّة في نتاجات البشر كافّة، وفي دياناتهم وممارساتهم الدينية على وجه الخصوص.
الموت في ديانات البشر، البسيطة ألأوّلية ثم التوحيدية اللّاحقة
لا تخلو ديانة قديمة من الديانات، أو دين حديث من الأديان، من اتِّكاء حاسم إلى فكرة الموت.
فكل ما بقي أو بلغنا من الثقافات الأولى البسيطة، أو ما سنُسَمِّيها على ما هو شائع ثقافات الجماعات «البدائية» يشير إلى أنّ البدائيين، جماعاتٍ وأفراداً، مَحَضُوا ظاهرة الموت أقصى درجات التوقير والاحترام، فتشكّل نسيج حياتهم المادي والرّوحي والاجتماعي حولها ومن خيوطها، بل لعلّها كانت حجر الزاوية في دياناتهم الأوّلية البسيطة. وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. فَحدَثُ الموت في جماعة صغيرة جدّاً (أكان في الخليّة الأصغر أو في الأوسع قليلاً) هو أمر صارخ لا تمرّ به الجماعة مرور الكرام. فأن يكون بينهم فردٌ شديد الالتصاق بالأفراد الآخرين في الجماعة ثم فجأة يزول، يختفي، يغدو غير موجود (أي يموت) ومن دون سبب واضح للبدائي ذاك، لأمرٌ صعب التصديق. لذلك يمرّ ردّ فعل الانسان (البدائي وغير البدائي) حيال موت أحد أفراد أسرته أو جماعته الصغيرة، بثلاث حالات متعاقبة:
1) الصدمة النفسية والجسدية، ثم: 2) الطّقوص التي تُظهرُ التوقير والاحترام، وأخيراً 3) التأمُّل في واقعة الموت نفسها وربما استخلاص أفكار إضافيّة منها وبسبب منها.
تظهر الصدمة رمزيّاً وجسديّاً في التَّفَجُّع الذي يصيب أفراد أسرة الميت، من عدم التصديق إلى الرغبة في التماهي معه حتى في الموت: وتفجّع عشتار أمام مشهد موت أدونيس ظل يُلهِم الفنّانين والشعراء طويلاً.
أمّا التوقير فهو فعلُ الاحترام الهادئ لِلمَيْت الذي يلي صدمة الموت. تستمرّ الطقوس المعبّرة عن توقير الأسرة والجماعة للفرد الميْت لأيّام وأحياناً لأسابيع، وفق تفاصيل وطقوس تتعمّد إظهار أقصى درجات المحبّة للفرد الميت (وفي وسعك أن تقول الخوف منه أيضاً) والاحترام لذكراه وكأنَّه لم يغِب أبداً، إلى درجة أنّ بعض القبائل في إفريقيا، وربما في أمكنة أخرى، وحتى اليوم، لا تقوم بدفن موتاهم إلّا بعد حين، أيّام، أسابيع، وربّما أكثر من ذلك.
وأخيراً، وبعد انقضاء الدّهشة والطقوس، ينشأ حال من التأمُّل في واقعة الموت التي حدثت، التفكير فيها وربَّما أستخلاص أفكار إضافية منها كما سنرى. أُقدّم حالات التأمُّل والتفكير التي تعقب حدث الموت والطقوس المرتبطة به ما نجدها في ملحمة «جلجامش» في بلاد ما بين النهرين (قبل نحو خمسة آلاف سنة) في الأفكار التي ضجّ بها جلجامش، ثم التبدّل الشديد الذي حدث في سلوكه بُعيد موت «أنكيدو»، منافسه أوّلاً ثم صديقه لاحقاً. جلجامش قبل موت صديقه هو غير جلجامش بعد موته كلِّياً.
قبل حَدثِ موت صديقه؛ كان جلجامش هو البرِّيّة المتوحشة في أقصى تعبير لها من غريزة وتخريب، ونهب، واعتداء، وفوضى وسواها. أمَّا بعد حدث موت صديقه «أنكيدو» فهو شخص مُندَهش، مصدوم، يمسك بصديقه الميت غير مُصدّقٍ موتَه، يريد إعادته إلى الحياة؛ وحين يُخْفق، ويتأكد من إخفاقه، يخرج إلى أقاصي الدنيا يفتّش عن «نبتة الحياة» المقاومة للموت؛ وحين لا يجدها في كلِّ الأمكنة، يصل إلى فكرة «ما يتجاوز الموت» فإذا هي في الفن، في عمارة سور ضخم، يقي المدينة شرّ الموت، أي يمنعه من أن يصل إلى من نُحِب. ورمزية «السور الضخم» واضحة وهي تؤسّس لكل الأشكال الثقافية التي تنتصر على الموت – الفن، الدين، الأفكار، والأعمال الحسنة أو الصالحة التي تجعل من صاحبها أقوى من النِّسيان والزوال، أي أقوى من الموت.
هذا السياق، في تعبيراته المختلفة والمتغيّرة، مشترَكٌ في ثقافات البدائيين كافَّة، بل إنَّه لَأمرٌ معبِّرٌ جدّاً أن تكون طقوس الموت عند البشر لا تزال منذ زمن البدائيين وإلى زمن قريب واحدة في جوهرها، رغم تباعُد الأمكنة والأزمنة والحضارات.
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنَّ جزءاً كبيراً من ثقافة الجماعة البدائية الأولى البسيطة قد نشأ من رحم فكرة الموت أو اتّصل بها على نحو وثيق. فجثمان الميت وبخاصة إذا كان كبيرَ أسرته أو جماعته يُسَجّى لفترة ما بين أفراد الأسرة أو الجماعة وقبل أن يُوارى الثّرى – والمدفن الأوّل عند البدائيين كان داخل مكان سكن الأسرة أو الجماعة الصغيرة. ثم انتقل الدّفن ليصبح خارج المسكن، ولكن غير بعيد منه. وفي كلِّ ذلك تستمرُّ صور الميت حيَّة في أخيلة أفراد الجماعة، في نهاراتهم كما في أحلامهم. وكانت لذلك مَبعثاً إضافياً للخوف ومن ثمَّة للتوقير وإظهار الاحترام والتمسّك بذكرى الميت حتى درجة التماهي. ما جرى التعبير عنه في الديانات الإحيائية animism المنتشرة في الجماعات البدائية، إنَّما يعني بمعنى ما أنَّ الميت لم يمت وهو مستمرٌّ وباق بشكل من الأشكال، وهي تَظهر في الطقوس وفي استعادة أحزان لحظة الموت والتَّماهي معه وبخاصة في الالتصاق به إلى درجة الرّغبة في الموت معه – الأمر الذي بقي بقوة في بعض ألوان الديانات الهندوسية. ولا يخفى ما لذلك من اتّصال وثيق بسائر أشكال التنظيم الاجتماعي والروزنامة الاجتماعية للأسرة الصغيرة، كما للجماعة ككُل.
وديانات البدائيين غير منفصلة إطلاقاً عن قوة صدمة الموت في حياة هؤلاء. فبحسب ديورانت في موسوعته «قصّة الحضارة»، المجلّد الأول، الفصل الرابع:
«مُعظم الآلهة البشرية قد كانوا في ما يظهر عند البداية رجالاً من الموتى، ضُخّموا بفعل الخيال… فظهور المَوتى في الأحلام كان وحده كافياً للتّمكين من عبادتهم.» ويضيف:
«لذلك تجد الكلمة التي معناها «إله» عند كثير من الشعوب البدائية معناها في الحقيقة «رجل ميت»، وحتى اليوم ترى كلمة spirit في الانجليزية أو geist في الألمانية معناها رُوْح أو شبح، وكان اليونانيون يتبرّكون بموتاهم على نحو ما يتبرّك المسيحيون بالقديسين.» (ص 108 الترجمة العربية)
أكثر من ذلك، فإنَّ حياة ما بعد الموت في ثقافات وديانات كثيرة (في المصرية القديمة كأوضح مثال) هي أهم بكثير من الحياة الدنيا قبل الموت. بل إنَّ حياة ما بعد الموت هي التي تنظّم حياة ما قبل الموت: بحيث يتَّجه كل جزء منها نحو الحياة الثانية كيما يجعل رحلة ما بعد الموت للشخص سهلة وخالية من العذاب الشديد. وفي السياق نفسه تحديداً، نذكر أنَّ «كتاب الموتى» لدى المصريين القدامى هو جامع ثقافتهم المادية والروحية والفكرية والاجتماعية برمّتها، ولم يُنقَل عنهم أي كتاب مكتمل آخر خلا ذاك: «اقترب رهيباً أيها الموت»
هذه الملاحظات تنسحب على معظم الديانات الأولى للبشر، كما لو أنّها في جزء كبير منها «عبادة الأسلاف»، أي عبادة الموتى في الأسرة أو الجماعة. وعليه، يمكن القول: إنَّ الموت في الجماعات البدائية كان، كما يبدو، أكثر أهمية من الحياة.
وفي الديانات الهندوسية والشرق آسيوية عموماً، الموت ثم الولادة من جديد، أكثر من مرّة، شرط للخلاص من آثام الدنيا والالتحاق بـ «براهما» في نعيم أبَدي. الموت المؤقت أكثر من مرّة واحدة، يعني في أكثر من حياة واحدة، شرط إذاً لنيل الحياة الأبدية.
وحين جاءت بعد ذلك الديانات التوحيدية، استمرّت فكرة الموت فكرة مركزية في الإيمان الديني، وعلى قاعدة أنَّ حياة ما بعد الموت هي الأبقى، «المَقَر»، فيما الحياة الدنيا زائلة، مُجرّد «ممر». وآيُ ذلك نجده في اليهودية حيث تُسجّى جثة الميت، فلا تُترك وحيدة، بل من حولها عائلته ومحبُّوه. ولا يجوز الأكل أو الشرب إلّا بعد دفن الميت، رمزاً للاحترام والتوقير، وتستمرُّ الطقوس لسبعة أيام تتخلّلها صلاة (كاديش) حيث يجري الترحُّم على الميت أو طلب الرّحمة له.
أمّا في المسيحية فأهميّة الموت استثنائية، إذ هي تتصل بالخطيئة الأولى من جهة، وبواقعة صلب المسيح وقيامته بعد ذلك، من جهة ثانية. فموت يسوع انتصار على الخطيئة الأولى؛ كما أنّ موته على الصليب كان فداء لبني البشر، ودرساً في كيفية تحقيق خلاصهم. فكرة الموت هي في جوهر فكرة الخلاص في الإيمان المسيحي، هي تصنع التجلّي والخلاص. وعليه لا يتورّع بحّاثة كثيرون – ومنهم ديورانت نفسه في قصة الحضارة – عن القول إنَّ يسوع اختار الموت عامداً. ولا يخفى ما لواقعة الموت والصلب والتحمُّل الأسطوري للعذاب على الصليب، ثم القيامة من الموت بعد ثلاثة أيام، من أهميّة محورية في الإيمان المسيحي.
واحتلّت فكرة الموت في الإسلام مكاناً بالغ الوضوح بل والصدارة، في آيات القران الكريم، وفي أحاديث رسول الله، وأقوال الصحابة والوُعّاظ المسلمين منذ فجر البعثة النبوية وإلى يومنا هذا. وبحسب البحّاثة، فقد ذُكِر الموت في ثمانين موضعاً في القرآن الكريم. والآيات تلك تصدح بفكرة: إنّ الموت حقٌّ، لا فكاك منه، من مثل قوله تعالى في الآية الكريمة: «كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت وإنّما توفَّون أجوركم يوم القيامة» (آل عمران، 185). وهو أيضاً معنى قوله حين تكمل الآية: «وما الحياة الدّنيا إلّا متاع الغَرور».
اللّافت في الآية الكريمة أعلاه ليس فقط إعلانها الموت مبدأً شاملاً، بل اعتبار الموت ممرّاً إلزاميّاً، كيما «توفَّون أجوركم يوم القيامة». الموت إذاً مبدأٌ مركزيٌّ في العقيدة الإسلامية، تُبنى عليه عقائدُ أُخرى مهمة من مثل يوم القيامة، وفكرة البعث، عالم الشهادة والغيب، وسواها ممَّا يجعل الموت مكوّناً حاضراً باستمرار، وإلى الدرجة التي تجعل ديوان أبي العتاهية، الزاهد الإسلامي في المئة الثانية، على سبيل المثال، كما لو كان كتاباً في الموت، لاستشعار الحقيقة خلف هذه الدنيا الفانية.
ومن الأمثلة الأُخرى القويّة ملاحظة أنَّ طقوس «يوم عاشوراء» عند المسلمين الشيعة تسترجع واقعة موت الحسين وأهل بيته، خطوة خطوة في أدق التفاصيل، فتغذّي من جديد الإيمان الديني وتشحنه بما يحتاجه من عاطفة جيّاشة ودموع وإظهار للندم وعقاب اختياري وعنف مادِّي بحق الجسد والرّوح.
هذه الملاحظات الواقعية هي عيِّنة فقط، لكنّها كافية كما أعتقد، لإظهار أهميّة الموت في ثقافات البشر كافّة، في تفكيرهم كما في طقوسهم الحياتية اليومية على حدٍّ سواء. وعليه فأهميّة ما فعله المعرّي لا تكمن في اكتشافه أهميّة الموت، بل في ذهابه بالفكرة إلى أقصى ما تحتمل، واستخراج ما تحتويه من أفكار فرعية، ثم جعلها القاعدة لأفكار وعقائد أخرى.
مركزيَّة فكرة الموت في فلسفة أبي العلاء المعرّي


أمرُ الموت مع أبي العلاء المعرّي (363هـ \ 449هـ. 973م – \ 1057 م)، في فلسفته، وقبل ذلك في حياته، مختلف، وأشدّ إبهاراً وغِنًى – على عادة فيلسوف المعرّة وجرأته في غير مجال وفكرة.
قبل ذلك، نقول إنّ المعرّي في أدبه بحرُ مَعانٍ عجيب، وفي فلسفته «حداثوي» في غير شأن وتفصيل، غير تقليدي أو اتّباعي، على عادة معظم المفكّرين الذين سبقوه أو جاؤوا بعده. هو يشبه، في فكرة الموت كما في أفكار أخرى كثيرة، نيتشه وشوبنهور والوجوديين عموماً: أي يعيش فِكرته. هو لا يتحدث عنها، بل هي تتحدّث عنه.
المعرّي، عبقريُّ كلّ الأزمنة وفق توصيف العالم العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، ولا شبيه له، وفق شهادة طه حسين، عميد الأدب العربي في زمنه، الباحث الأكاديمي، والعميد في الجامعة، ووزير التربية في مصر لفترة ما، يقول:
«قد كتبت عن أبي العلاء ما أَذِن الله لي أن أكتب، وأظنّ أنِّي قد عرَّفته بعضَ التعريف إلى هذا الجيل الحديث. ولكني لم أؤدِّ إليه من ذلك إلَّا بعض حقِّه، وما زالت له على حقوق كثيرة أرجو أن يعينني الله على تأدية بعضها؛ فقد عرّفت أبا العلاء إلى خاصة الناس، وأحبُّ أن أُعرِّفَه إلى عامَّتهم، وأن أعرّفه إلى عامتهم بالترجمة الصحيحة عنه، والتفسير الدقيق لشعره. فلو نُشِرت اللزوميات في عامّة المثقفين لما فهمها أكثرهم، لأنَّ أبا العلاء لم ينظم اللزوميات لعامّة المثقفين. بل لست أدري! لعلَّه أن يكون قد نظمها لنفسه، وللَّذين يرقَوْن إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة» ويختم طه حسين مقدَّمته:
«أنا أجد صوت أبي العلاء الأعذب في النفس وأحَبَّ إلى القلب من كلِّ صوت ومن كلِّ صدى»
طه حسين، صوت أبي العلاء، 6-7
تحتلُّ فكرة الموت موقعاً حاسماً في فكر المعرّي، بل وركناً أساسيّاً من فلسفته، إذا ما أمكن صياغة أفكاره في نسق فلسفي. وهدفنا، باختصار، إظهار أولويّة الفكرة في تراث المعرّي الأدبي والفلسفي. فمراجعة ما تركه من تراث شعري أو نثري تُظهر أنّه كان مهجوساً بفكرة الموت؛ بل هي تقدمت عنده على ما عداها. والأولوية تلك وجبَ أن تكون، برأيه، حقيقة ساطعة ثابتة، بل الحقيقة الثابتة التي لا يخالجها الشكّ:
سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ | فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ |
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ | ففي أيِّ البلاد يكون لحدي! |
هذه النتيجة الخطيرة، تعيد طرح السؤال المتكرّر الذي طرحه منتقدو المعرّي المعاصرون له، كما الذين جاؤوا من بعده، ويتعلق بحقيقة إيمان المعرّي الديني.
نصُّ المعرِّي بالتأكيد حمّال أوجه، ولا يصح في الكثير من الأحيان أخذه على ظاهره:
وليس على الحقيقة كلُّ قولي | ولكن فيه أصنافُ المَجازِ |
في ظاهر الأمر يحقُّ لقارئ المعرِّي أن يرى في أكثر من مجال، وموضوع، تناقضات في المواقف – رغم أنّ الأمر ليس بهذه البساطة – إلَّا أنَّ الثابت في مواقفه استخدامه الكثيف لفكرة الموت ليؤسّسَ عليها نقده، وموقفه الأخلاقي كما الفكريّ عموماً.
فما حقيقة معتقدات المعرِّي الفكريّة، وربما غير الفكرية أيضاً، انطلاقاً من فكرة الموت؟
هذا ما سنحاول تبيانه.
أعظمُ ما قاله المعري في الموت لعلّنا نجده في قصيدته «غير مجدٍ في مِلَّتي واعتقادي».
في القصيدة ألم الشاعر، ووصف المُصَوِّر، ولكن فيها وهذا هو الأكثر أهميّة: تأمُّل الحكيم النظر في الموت وما يستخلصه من معانٍ وعِبَر. إليكم بعض أبيات القصيدة وجُلُّها في معنى الموت:
غيــرُ مُجْدٍ فـي مِـلَّتي واعتــقادي | نَــوحُ بــــاكٍ ولا تَـــرنُّـمُ شــادِ |
وشـبيــهٌ صـــوْتُ النَّـــعيِّ إذا قيـ | ـسَ بصوت البشير في كلِّ نادِ |
أبَكَـــتْ تِـلْكُمُ الحمـــامــةُ أم غنّــ | ـتْ علـى فَـرْعِ غُصنها الميّــادِ |
صـــاحِ! هذي قبورُنا تملأ الرّحْـ | ـبَ فأيْــن القبورُ مـن عهد عادِ؟ |
خـفّفِ الـــوَطءَ ما أظنُّ أديـــم الـ | أرضِ إلّا مـن هــــذه الأجســادِ |
وقبــيـــحٌ بنـــا وإن قَــدُمَ الــعهـــ | ـدُ، هَـــوانُ الآبـــاءِ والأجـــدادِ |
سِرْ إنِ اسْطَعْتَ في الهواء رُوَيداً | لا اختيالاً على رُفـات العبـــــادِ |
رُبَّ لـحْــــدٍ قد صارّ لحداً مراراً | ضـــاحكٍ مِـــن تزاحُمِ الأضدادِ |
ودَفيـــنٍ عـلــى بـقايــا دفيــــــنِ | في طويلِ الأزمــــــان والآبــادِ |
ضجعةُ الموتِ رَقدةٌ يستريح الـ | ـجسمُ فيها، والعَــيشُ مثلُ السُّهادِ |
واللّـبيـبُ اللّـبيـب مَــن ليْـــــسَ | يغتـــرُّ بكَوْنٍ مـصيــرُهُ للـفســــادِ |
هذه أبيات اخترناها من قصيدة طويلة للمعرّي تقع في أربعةٍ وستّين بيتاً، قيلت أصلاً في رِثاء صديق له. لا تقوم أهميتها في مناسبتها، أو في ما يقال من تشاؤم المعرّي، فتلك أمور معروفة، وإنّما في المعاني الجديدة كلِّيّاً التي حمّل بها أبيات قصيدته، وسَنُظهر منها ما اتَّصل بموضوعنا فحسب.
المؤسف حقّاً أنّ قُرَّاء الأدب العربي، بل أساتذته، لم يرَوْا في القصيدة تلك إلّا تعبيراً عن تشاؤم المعري، وذمِّه الدنيا، وغلَبة الحزن على السرور فيها، وتحسّره على الشباب الذي مضى، وما إلى ذلك من معان سطحيّة ممجوجة ومكرورة.
أمّا عميدُ الأدب العربي، المفكّر المتعمّق طه حسين، فكان له رأي في معاني القصيدة جديرة بأن نُضيء عليه، يقول: «نعتقد أنَّ العرب لم ينْظُموا في جاهليتهم وإسلامهم، ولا في بداوتهم وحضارتهم، قصيدة تبلغُ مبلغ هذه القصيدة في حُسن الرّثاء. نتّهمُ ذوقنا ونتّهم أنفسنا بالتعصّب لأبي العلاء إشفاقاً على الآداب العربية ألّا يكونُ فيها من الرِّثاء الجيّد ما يعدلُ هذه القصيدة، ولكنّا نضطرُّ بعد الدرس وإجادة البحث إلى تبرِئة أنفسنا من هذه التهمة.»
لم يكن المعري أوّل من تحدث عن الموت، لكنّ المعري قدّم في الشعر العربي لأوّل مرّة لا أفكاراً فقط، بل وصفاً ثقافيّاً للموت: في صور سوداء، وموسيقى جنائزية، وبقايا أجساد، وقبور ضاحكة بل هازئة. وبالوصف الأثنولوجي الثقافي نفسه، نقرأ للمعري في قصيدة أخرى مشابهة:
يا روحُ، شخصي مَنزلٌ أُوطِنتِه | ورَحلتِ عنـه فهل أسِفتِ وقــد هُــدِم |
عِيْدَ المريضُ وعاوَنته خـــوادمٌ | ثم انتــقلتِ فـمـــا أُعيــنَ ولا خُــدم |
حملوه بعد مجـــــادلٍ وأســـــرّةٍ | حمْــلَ الغـريبِ فَحَـطّ في بيـتٍ رَدِم |
لــــو كان ينطِـــق مَيّتٌ لســألتُهُ | مــــاذا أحسّ ومــــا رأى لمّـــا قَدِم؟ |
سلسلة من الأسئلة تتركّز كلُّها في الموت، الحقيقة الأبديّة السرمديّة، وبدأ بها كوصّاف إثنولوجي ماهر، ليبني منها موقفاً من الحياة والدِّين والله والوجود.
أحال المعرِّي الموت من مجرّد فكرة مكروهة لا نرغب السماع بها، إلى إشكاليّة، أي إلى سبب يدفع لتساؤلات توصل إلى فلسفة كاملة محورها قناعته في ألّا حقيقة ثابتة في الكون، بعد البحث والتدقيق، غير حقيقة الموت:
سألتُ عن الحقائق كلَّ يوم | فمـــا ألفيتُ إلّا حرفَ جحدِ |
سوى أنّي أموت بغير شَكٍ | ففي أيّ البلاد يكون لحدي |
إذا أسسنا على هذه الفكرة، التي لا شك فيها، يتغيّر كلّ موقف آخر لنا، وكلّ مفهوم آخر عندنا، وأهمُّها إطلاقاً: إذ يتساوى ترنّم الشادي ونوح الباكي. ويصبح أوّلُها شبيهاً بآخرها:
ومهما كان من دنياك أمرٌ | فما تُخليك عن قمَــــرٍ وشمسِ |
وآخرها بــأّولــها شـــبيهٌ | وتصبــحُ في عجائبـها وتُمسي |
يمكن من الأبيات أعلاه استخلاص نتيجة كبرى وهي أنّ الموت للبشر- لو أمعنوا النظر – هو الجوهري والأساس في وجودهم، والباقي تفاصيل تقصُر أو تطول، وتأخذ مؤقتاً هذا اللون أو ذاك.
أتدري النجوم بما عندنــــا | فتشكو من الأيـــن أسفارُها |
وهل قــــام من لحده ميّتٌ | يعيب على النفس أخــفارها |
كأنّ حيــــــاة الفتى ليـــلةٌ | يُرَجّي أخو اللُّب إســــفارَها |
من الأبيات أعلاه، ومن غيرها، في اللّزوميات على وجه الخصوص، يمكن للقارئ الردّ على منتقدي المعري والمتشككين في حقيقة إيمانه الديني. لا حاجة للقول: إنّ المعرّي يقول في عشرات الأمكنة، وبوضوح، إنّه لا يشارك الدهرييّن تشكيكهم في وجود خالق لهذا الكون، وأنّ الله هو مبدع الكائنات. أمّا لماذا كان شكّه الذي رأيناه عنيفاً، متشدّداً؛ فالجواب إنه غير اعتيادي لا أكثر. إذ السائد في الموضوعات الماورائية في ثقافة مجتمع المعرّي هو التسليم من غير برهان، أو نظر، أو إعمال للعقل. هو مجتمع النّقل لا العقل. هُوَ ذا ما كان يواجهه المعرّي، بل يتحدّى صحّته وصوابيّته. فهو سيصل إلى الإيمان صريحاً، كما نرى في عشرات مقطوعاته الشعرية، كما في أعماله الأُخرى، إلّا أنه يريد لإيمانه أن ينبني على أسس لا يطالها الشك. وقد انتهج ديكارت (1596-1650) المنهج نفسه، المنهج الشكِّي، طريقاً لبناء إيمان قائم على البرهان لا على التقليد، أي على العقل لا على النقل. وقد قارب الغزالي نفسه المنهج ذاك، لكنّه لم يصل به إلى غايته.
أمّا الباحث عن إيمان المعرّي الراسخ بالخالق، وخلقه، فسيجد عشرات الأدلّة، وهاكم القليل منها لا أكثر:
الله لا ريب فيه وهو مُحْتَجِبٌ | بادٍ وكلٌّ إلى طَبعٍ له جُذِبا |
ثم يضيف في مزيد من العبقرية والتفرّد – الذي لا يشترك فيه معه إلّا القليل عبر الدهور:
سألتموني فأعيتني إجابتُكم | من ادّعى أنّه دارٍ فقد كذبا |
يحتاج البيتان أعلاه إلى أطروحة دكتوراه كاملة لشرح المعاني العميقة المتضمَّنة، وربّما لا مثيل لها إلَّا عند القِلّة القِلّة من الفلاسفة. ومُحِلّلُ البيتين أعلاه سيحفِر عميقاً وسيجد ما يدهش من الأفكار، وضيق المساحة المُتاحة لهذه المقالة تمنعني من الاستفاضة في الموضوع.
لكني أضيفُ بَيْتَي شعر آخرَين من اللّزوميّات يصدح المعرّي فيهما بجهله – وأيّ جهل؟؟؟؟. يقول:
أقررت بالجهل وادّعى فَهمي | قومٌ فأمري وأمرُهم عَجَبُ |
والحقُّ إنــي وإنَّهُمُ هَــــــــدرٌ | لســتُ نَجيباً ولا هُــم نُجُبُ |
تلك مجرّد خلاصات بسيطة قاد إليها عمق نظر المعرّي في فكرة الموت، وإعلانه مركزية فكرة الموت في حياة البشر، وإلى حد اعتبارها المدخل باتّجاه اكتشاف الأفكار والعقائد الدينية والأخلاقية الأخرى، وربما البيان الحِسّي الملموس على صِدقها أيضاً – إذا كانت بحاجة لبيان حسّي؛ وتهكُّمه من الذين يدّعون المعرفة التّامة – وهم ليسوا على ذلك في شيء.
تفرّد المعري في الاستخدام الواسع لفكرة الموت في الوصول إلى الحقيقة، ثمّ في الشك الذي يكنس الجهل بعيداً، ويبني معرفة الله على حقائق لا يطالها الشك، تفرُّدٌ يُحسبُ له، لا عليه، وهو بعض ما بنى سمعة المعري كناقد مُتَشدّد صارم، من دون أن ينال ذلك من إيمانه بخالق للكون على ما أظهر طه حسين في كتابه «صوت أبي العلاء»، (القاهرة، حزيران، 1944)..