كان العثمانيون في عقد التسعينيّات من القرن التاسع عشر قد نجحوا في شق الموقف الموحّد للدروز الذي سبق له أن كان يحول دون احتلالهم للجبل. في تلك الفترة أرسل العثمانيّون سلسلة من الحملات على الجبل لبسط سيطرتهم عليه مستغلّين حالة الانقسام الاجتماعي بين عامة الدروز وإقطاعييهم، ومن بين تلك الحملات التي بدأت عام 1888كانت حملة بقيادة الجنرال ممدوح باشا، خلال سنتي 1894 و1896 احتلّت السويداء بعد مواجهات دامية عديدة.
فرض العثمانيون ضرائب باهظة على السكان منها تأمين طعام الجنود والحطب للطبخ والتدفئة وتأمين التّبن والعلف لبغال وخيول الجيش العثماني الذي يحتل الجبل، وقاموا بنفي زعيم الدروز الثائر،الشيخ شبلي الأطرش وعدد كبير من الزعماء والمشايخ ومنهم الشيخ حسن الهجري والشيخ حسن جربوع والشيخ حسين طربيه، ونفوهم إلى منافٍ متفرّقة في الأناضول وجزر بحر إيجة في شباط من عام 1896.
مقابلة الأميرة للباشا العثماني تَسْتَجِرّ حرباً!
كانت السيدة مَيثا ابنة شيخ قرية عرمان، حسين الأطرش، وهي أرملة المُتَوفّى محمّد الأطرش شيخ بلدة صلخد قد دخلت في قضية خلاف على ميراث بين ابني زوجها المُتَوفّى وابنها القاصر (نجيب)، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر.
قابلت ميثا القائد العثماني ممدوح باشا في السويداء بخصوص الحفاظ على حقّ صغيرها، وبحسب سعيد الصغير، صاحب كتاب «بنو معروف في التاريخ» (1)، وهو ابن بلدة عرمان والقريب زمنه من زمن ميثا. طلب ممدوح باشا الزواج من ميثا فرفضت، والتجأت إلى والدها حسين الأطرش في عرمان وهناك تعهّدَ رجال قريتها بحمايتها (2).
كانت قرية عرمان آنذاك قد شكّلت ملجأً آمناً للممتنعين عن الخدمة في الجيش العثماني وللثائرين المُلاحَقين من درك (جندرمة) السُّلطة، ومنهم «فارس وقبلان الحمود الأطرش» من شيوخ قرية بكّا وغيرهم.
ولما كان ممدوح باشا مَعْنيّاً بتتبع موقع لجوء ميثا، في قرية عرمان التي أصبحت تزعجه بسبب كلّ ذلك، فقد أوعز إلى بدو من عشيرة الصّفَيَّان بالاعتداء على حِمى عُرمان ومزروعاتها، ولهذا السبب قام حُرّاس المزروعات (النواطير) بمعاقبة البدو المعتدين الذين اشتكَوْا إلى السلطة العثمانية المتواطئة معهم، والتي تستعملهم كفتيل صاعق لتفجير الأوضاع المحلية بين الدروز والبدو لتبرير تدخُّلها بحجة ضبط الأمن في الجبل…
هنا جاء دور القائد العثماني لِيُدلي بِدَلْوِه في النّزاع، فأرسل طلباً يقضي بقدوم أربعة من وجهاء عرمان إليه في السويداء، وعلى هذا فقد توجه إلى السويداء كلٌّ من: ابراهيم الجرمقاني وصالح الحلبي وهلال العطواني ومحمود صيموعة.
كانت العادة في ذلك الزمن حيث ما من وسائل نقل آلية في البلاد أن ينتقل الناس على ظهور الخيول وغيرها من الدواب. وصل الرجال على خيولهم من عرمان إلى السويداء على نِيَّة مقابلة الباشا في اليوم التالي، ولمّا كانوا لا يطمئنّون لنواياه فقد عرّجوا إلى بيت مختار السويداء محمود جربوع، الذي نصحهم بعدم مقابلة ممدوح باشا خيفة غدره، فعادوا مُسرعين إلى حيث أتَوْا، ودعَوْا وجهاء المقرن إلى اجتماع سِرِّي في خربة المجدل الأثريّة قرب عرمان.
هناك تعاهد الأعيان على نجدة كلّ قرية تتعرّض للعدوان العثماني.
عرمان تدافع عن كرامتها
وتتابعت الأحداث، مُتسارعة، إذ أرسل ممدوح باشا مَفْرَزة تركية من ثلاثة وثلاثين عسكريّاً وصلت إلى منزل المختار ابراهيم الجرمقاني يوم الخميس الثاني من تشرين الثاني 1896 (3) بقيادة ضابطين أحدهما اسمه مشرف رضوان من مواطني السويداء، بهدف اعتقال (النواطير)، وهم حرّاس المزروعات والحِمى حيث كانوا قد ضربوا الرّعاة البدو وطردوهم منه «ولأخذ ميثا بعد أن تبيّن أنّ هناك مداورة وتهرّباً من الانصياع لمشيئة ممدوح باشا بخصوصها وبعد أن اتّضح له أنّ مغادرتها إلى عرمان كانت رفضاً ضمنيّاً لطلبه (حسب بعض الروايات)» (4) ولمّا كان الضابط في الجيش العثماني مشرف رضوان يتبعه بعض الجنود يبحث عن الأشخاص المطلوبين مارّاً من أمام مضافة الوجيه محمود أبو خير وكان هذا معنيّاً بتقديم الطعام لضيوفه من آل سلّام القادمين من قرية سالة البعيدة، فقد دعاه للغداء كما هي عادة الكرماء بدعوة المارّة لطعامهم قائلاً له:
ــ تَفَضَّلْ للغداء، لاحِقْ تأخذ زُلْم. (أي لديك وقت كاف لتعتقل الرجال الذين تلاحقهم)، فأجابه مشرف بفظاظة:
ــ سآخذ زُلْم وسآخذ رأسك أيضاً.
غضب محمود أبو خير، فاستل سيفه وهجم على مشرف، لكنّ مرافقيه من الجنود عاجلوه برصاصة من خلفه فأردَوْه قتيلاً.
سريعاً ما شاع نبأ مقتل محمود أبو خير، فهبّ رجال عرمان وانتقموا له بقتل بعض الجنود العثمانيين، وقد قام علي الدبيسي بضرب مدير ناحية صلخد العثماني بالسيف فقتله، وتحصّن من بقي من الجنود ومن بينهم الضابط مُشْرِف نفسه في مضافة المختار ابراهيم الجرمقاني، وقاموا برمي بندقية أمام باب المضافة كمصيدة لإغراء كلّ من يتقدم لتناولها ومن ثم قَتْلِه، مُسْتَغلّين طمع الرجال الذين لا بنادق حديثة لديهم كالبنادق العثمانية الألمانيّة الصّنع، وبهذا فقد قتلوا عدداً من الأهالي بهذه الحيلة، لكنّ رجال عرمان لم يطيقوا صبراً على مطاولة حصار المعتدين فتسلّقوا سطح المضافة وثغروه من الأعلى ونزلوا إليهم من فوقهم وأجهزوا عليهم بالسيوف والخناجر ولم يسلم منهم سوى ثلاثة بينهم ابن الضابط مشرف (5) والضابط سليم الجاري (وهذا من دروز لبنان، من قرية مَجْدَلْبَعنا) (6) وجندي آخر اسمه موسى «كانوا قد استجاروا بالنساء فأجرنهم» وتقول بعض المصادر النقليّة أنّ موسى قد قَتَلَ مُلْحِم الحلبي (أحد أهالي عرمان الذي رشقه بالحجارة أثناء هربه على حصانه باتجاه صلخد) (7). وهكذا وصل إلى قيادة ممدوح باشا في السويداء نبأ ما حلّ بمدير النّاحية وجنوده.
تقول الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر إنّ «للدروز الحق في الدفاع عن شرف زوجة محمّد الأطرش الجميلة التي رغب ممدوح باشا في سَبْيِها، بينما أثيرت احتمالات أخرى لأسباب الحادث تقول بأنّهم قاوموا تسجيل الأراضي (وما يترتب عليها من ضرائب لا ترحم) ولربّما كان رجال الأمن أرادوا اعتقال بعض شيوخ القرية فكانت ردّة الفعل هذه…» (8).
جُن جنون الجنرال ممدوح باشا لهذه النكسة التي أصابت مبعوثيه إلى عرمان.
هزيمة ممدوح المُدَوّية في «الخراب»
جهّز ممدوح باشا حملة من ألفي جندي بينهم أربع كتائب من المشاة وكتيبة من الخيّالة بقيادة خسرف باشا (وهو الشركسي، قائد الدرك السابق في دمشق وقائمقام السويداء حينها) (9). وأيوب باشا وغالب بك وأَمَرهم بالتوجّه لتدمير عرمان والانتقام من أهاليها.
تقصّد العثمانيون مفاجأة أهالي عرمان بضربة ساحقة، وقد قال ممدوح في أمر القتال لقادته: أريد أن أسمع وأنا في السويداء وقائع القتل والفتك والتنكيل بأهالي عرمان، وإن بدرت أية بادرة من أهل الجبل والسويداء سأقوم بتصفية هذه الطائفة نهائياً.
كان الضابط سليم الجاري حاضراً وقد سمع أمر جنراله، فأصر سرّاً على التضحية بالنفس والرّتبة والمستقبل لتجنيب أهالي عرمان ما يُخَطّط لهم من الكيد، فتطوّع أمام ممدوح باشا ليكون دليلاً للحملة، وممّا قاله ممدوح لسليم: عند نجاحكم بتنفيذ المهمّة سأرقّيك إلى رتبة أعلى.
وعلى هذا توجّه ذلك الجيش نحو عرمان على مسافة نحو 25 كيلومتراً من السويداء في يوم الأحد الخامس من تشرين الثاني 1896.
كان انطلاق الحملة من السويداء قبيل العصر، فوصلت قرية الكفر مساء، وعندما انطلقت منها في أوّل الليل وبدلاً من أن يقودها الدليل رأساً باتجاه عرمان قادها إلى مشارف قرية مياماس، وأثناء وِقفة استراحة قصيرة تمكّن سليم من إرسال أحد أهالي قرية مياماس وقد حَمّله ورقة تنطوي على إنذار إلى الشيخ أبو قاسم محمّد الجرمقاني وأبلغه أنّه سيقود بالحملة ليلاً إلى مشارف قرية طليلين شمال شرق عرمان تضييعاً للوقت، ومن ثم يعود بها باتّجاه عرمان ليكون قريباً منها عند طلوع الفجر وأنّه سينضمّ إليهم مع رفاقه من أبناء الدروز عند بدء القتال (10).
وصلت تلك القوّة فجراً إلى شمال شرق صلخد، شمال غرب عرمان، ومن ثمّ تعمّد الجاري السير بالحملة شرقاً نحو ما يسمّى (خراب عرمان / عيون) وهي عبارة عن كروم قديمة مهجورة وخَرِبَة كانت تُزرع عنباً وتيناً وأشجار فواكه تعود لعصور الأنباط والرّومان، غير أنّها وعرة المسالك وطرقاتها جبليّة صعبة وضيقة وجدرانها حجريّة عالية تحجب الرّؤية وتصلح للتّمترس والقتال.
كان هدف سليم الجاري من ذلك توفير الوقت المناسب لأهالي عرمان ليستعدُّوا من جانبهم، وعدم إتاحة الفرصة للجيش العثماني الدخول إلى القرية من جانب آخر، فضلَّل الحملة طوال ذلك الليل بين حيطان تلك المنطقة إلى أن بزغ الفجر. بينما كان من خطتهم دَهْمُ القرية ليلاً للانتقام مِمّن فيها من سكّان.
مع الفجر كان نفرٌ من الأهالي يراقبون في غرب القرية فلمّا شاهدوا طلائع الجيش أسرعوا بدعوة الرجال لمواجهة المعتدين وهناك، في كروم خراب عرمان دارت المعركة لعدّة أيام انتصر فيها الأهالي رغم التفوّق العددي للحملة العثمانية (2000 جندي مقابل 150 من أهالي عرمان قبل وصول النجدات من القرى المجاورة بالإضافة إلى تفوّق الجيش بأسلحته من مدافع ورشاشات وبنادق حديثة، ولم تتأخر النساء عن المشاركة في المعركة فكنّ ينخين الرجال ويقدمن لهم الماء والزاد واشتهرت من بينهنّ سعدى ملاعب وكان من بين المقاتلين المسيحي طحيمر الصيقلي (11) قد ركب جواده وأسرع يَنْخى أهل صلخد (تقع على مسافة نحو 4 كلم غرباً) ويستنهضهم لنجدة عرمان فكانوا أوّل من وصل من رجال القرى، ويقول سعيد الصغير في فعل رجال صلخد في تلك المعركة «وأظهروا بسالة كبيرة في القتال لأنهم شعروا بمسؤوليّتهم إزاء هذه الحرب التي كان من بين أسبابها دفاع عرمان عن أرملة شيخهم، وقد استشهد منهم اثنان وسبعون محارباً ولشجاعتهم في الحرب لُقّبوا بالزّغابة (الزّغابة هم مجموعة من أشدّاء قبيلة بني هلال التي اشتُهرت ببسالتها في الحروب حسب رواية تغريبة بني هلال التي كانت مصدراً من مصادر الثقافة الشعبية في تلك الفترة من الليل العثماني الذي ران على العرب طوال أربعة قرون ونيّف).
وتواصلت نجدات قرى الجبل (من المقرن القبلي والشرقي كملح القريبة شرقاً من عرمان وامتان إلى الجنوب منها وغيرها من قرى الجبل التي فزعت للنجدة) وقد هوجم الجيش العثماني من ثلاث جهات تاركين له الجهة الغربية فبدأ بالتراجع أمام شدة الهجوم عليه وأخذ الدروز يتسابقون إلى القتال معظمهم يقاتل بالسلاح الأبيض من سيوف ورماح وبلطات وفؤوس ومقاليع «والقليل من البنادق القديمة التي تُحشى من الفُوَّهة» وكل هذا لا يرقى إلى مستوى أسلحة الجيش العثماني الذي صمدوا في وجهه وأوقفوا تقدمه باتّجاه قريتهم إلى أن وصلت نجدات القرى إليهم ودامت المعركة سبعة أيام.
المُعْجزَة تفعل فعلها
وفي تلك المعركة وقعت حادثة غريبة أثناء تلك الاشتباكات العنيفة أثّرت تأثيراً عظيماً في سير القتال بحيث رفعت من معنويات مقاتلي الدروز؛ ذلك أنه في ظهيرةٍ من نهار آخر يوم من المعركة وقد توازنت القوى بين المتحاربين فما من قادر أن يحسم المعركة، هَبَّ ذئبٌ حاصره القتال بين المتحاربين، واعتلى رُجْماً عالية من الحجارة وأخذ يَجُوْحُ في مواجهة العسكر العثماني بصوت مُرْعِب (الجَوْح: نوع من عواء الذئاب عندما تكون جائعة: عاميّة) فاعتبر المقاتلون الدروز أن تلك الحادثة إشارة من العقل الإلهي لنجدتهم، فَكَرُّوا غير عابئين بالموت نحو العسكر العثماني الذين ولَّوْا هاربين ولم يُعْثَرْ للذّئب على أَثَرٍ بعدها.
تحوّلت المواجهة مع العثمانيين في موقعة الخراب إلى هزيمة نكراء، لأنّ الجنود الذين كانوا يرون مصارع رفاقهم أَوْهَنَ عزائمهم الخوف وأصبح همُّ كلّ جندي منهم النّجاة بنفسه. وكان ممدوح باشا قد أرسل فرقة أخرى بقيادة محمّد آغا الجيرودي لنجدة الجيش الأوّل ولما وصلت تلك الفرقة إلى تلول الأشاعر القريبة من المكان وأشرفت على موقع ساحة القتال ورأى قائدها فلول الجيش السابق تتراكض غرباً والدروز خلفهم يقتلون الجنود الهاربين الذين يرفضون الاستسلام، فما كان منه إلّا أن لوى عنان فرسه الصّفراء اللون وانضمّ مع فرقته إلى الجيش المهزوم هارباً في الوقت الذي كان المقاتلون الدروز يلاحقونهم وهم يَحْدون مُغَنِّين هازئين به:
صَفْرة جيرودي غَرَّبَت | قَوْطَرْ يَحثّ رْكابـها |
يا مْحمّــــد خبّــر دولتك | حنّا خذينا طوابهــــا |
بينما تخلّف عنه جنديّان درزيّان انضمُّوا إلى الثوار، وكانت نتيجة المعركة وبالاً على العثمانيين فقد قُتِل عددٌ كبيرٌ من أفراد تلك الحملة وأُسِر في ذلك اليوم أعداد كثيرة من الجنود، وكان تعداد من وقع من بيد مفازيع من قرية أم الرمان وحدها 31 أسيراً منهم جندي عربي من ليبيا. وغنم الأهالي عدّة مدافع ومئات من البنادق وتجهيزات الحملة.
دور المرأة في معركة الخراب
يقول المحامي متروك صيموعة وهو ابن عرمان وحفيد أحد مجاهدي تلك المعركة أنه كان للمرأة دور حاسم في تلك المعركة، سواء أكانت أُمّاً أو أُختاً أو زوجة، وأشهرهنّ سعدى ملاعب (12). نعم لقد شاركت العديدات من النساء في تلك المعركة وتحملن مآسيها…
الشاب عجاج الجرمقاني الذي كان وحيداً لأمّه كان قد استشهد على ظهر فرسه في ساحة المعركة وقد قام رفاقه بدفنه في ميدانها، وبعد انتهائها عادوا بفرسه بعد أن علقوا سيفه والبارودة العثمانية التي كان قد غنمها في سرج فرسه وعندما وصلوا مدخل البلدة أبصروا أمّه ترقب عودة وحيدها بلهفة المستريب، فبادر فندي المتني منشداً هجينيته التي لم تزل تتردد في مناسبات مجتمع الجبل إلى يومنا هذا ومنها:
يا اْمّ الوحيد إبكي عليهْ | الموت ما يرحم حَــدا |
لا بدّْ ما تنـعي عليــــهْ | إن كان اليوم ولّا غدا |
فما كان من الأم الثكلى المفجوعة إلّا أن رددت الحداء على بكائها مع الحادين…
أمّا نمر عبد الله بَحَّة من قرية سالة فقد خسر أبناءه الشبان الثلاثة في تلك المعركة ودفن أحدهما في ميدانها، بينما حمل جثمانيّ الشهيدين الآخرين على ظهر جمل متوجّهاً إلى قريته عائداً مع الفازعين، وما أن رات الوالدة المشهد حتى أُغميَ عليها وماتت بعد أيام قليلة من هول الفاجعة…
يقول حنّا أبوراشد: «وقعت معركة هائلة دامت سبعة أيّام إلى أن انكسر الجيش العثماني شر انكسار وقُتِل منه ما يزيد على ألف جندي، أمّا الدروز فقد مُنُوا بخسارة عظيمة وفقدوا معظم أبطالهم ومنهم:عقاب البربور ومحمّد أبو خير ومحمود غزالي ومنصور الشوفي وجبر الحجلي وحمد الصّغير وحسين أبو خير ويوسف ياغي وعباس المتني وسليمان طربيه و146 فارساً غيرهم…» (13)
وإلى يومنا هذا لم يزل مكان يقع غرب عرمان يطلق عليه اسم «رقَّة المدفع» حيث كان العثمانيون قد نصبوا مدفعاً هناك من بين مدافعهم الستة لتدمير عرمان.
من أصداء المعركة


يقول المؤرّخ محمّد كرد علي الذي كان متعاطفاً مع العثمانيين ضد الدروز حينها «أحدق الدروز بالقوات التركيّة من كل جانب وقتلوا نحو ألفي جندي بالفؤوس والسيوف في محل يدعى «العيون» قرب عرمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة». (14)
كتب متروك صيموعة: «انقشعت ساح المعركة عن نتائج مهولة حيث تكدست مئات الجثث في مساحة محدودة بعد أن أُبيدت الحملة إلّا بضع عشرات لاذوا بالفرار لتتعرض هذه الحملة للسحق والإبادة في أشرس المواجهات التي تعرّض لها الجيش العثماني وأكثرها فداحة ومأساوية وتناثرت جثث أكثر من ألف وتسعمائة جندي في ساحة المعركة لأشهر طويلة فجسّد الأدب الشعبي ذلك النصر لدرجة أن الضواري تداعت للولائم واحتفت هي أيضاً بالنصر وفي هذا يقول الشاعر شبلي الأطرش:
ضَبع الكويرس عازمه ضبع حبران | وصار اللحم بعيون مثل التِّلالِ |
ومن وحي الانتصار الباهر على هذه الحملة رغم عدم التكافؤ في العدة والعدد أن راق لأحد المؤرّخين اللبنانيين أن يشبه عرمان بـ إسبارطة في مقال نشره عام 1996 في مجلة الضحى اللبنانية بعنوان: «عرمان إسبارطة العرب».. (15)
وقد أرسل الشاعر عبدالله كمال وكان ممّن قاتل في المعركة قصيدة إلى شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز الذي كان العثمانيون قد نَفَوه إلى إزمير غرب الأناضول يخبره بالذي جرى فيقول:
تـــاخبّْــرك، عُــرمان والْلّي جرى فيه | تْقَدَّم دَرَكْ عَبدو أفندي، نِداويـه |
يـــومٍ طَـغى قـــام ربـّــك يــــجازيــــه | هُوّ ورَبْعَهْ شربْ كأس الحِمامِ |
نْهار الخرابْ شَيّبْ الاْطْفال المَراضيع | مثل النّحل مِنّا ومنهم مجاضيع |
وســعدى تـِـنْخي بـــالعيـــال المَفاريـع | مَرْحُوم اَللّي مَسْكَنَهْ بالـــرِّجــامِ |
حيــن الظُّــهر رَبّــك فــرجــها علينــا | هُــمَّ قَــفُوا وحِنّــا وراهم حَدِينـا |
مثـــل اللّيـــوث الكاســـرة حِنَّا غَدِيـنـا | مثل الجرس تسمع رنين الحسامِ |
ومن منفاه في إزمير أرسل شبلي الأطرش قصيدة طويلة منها:
جانا خَبَر من يَمْ صلخد وعُرْمــان | نِعْمِيْن يا وجوه الذّياب المَشالِي |
عَبدو أفندي شارب الخمر سكران | جــــاهُمْ يهادر مثل فَحْلِ الجِمالِ |
اْجُـوْه النَّشامى وبعد الصُّبح ما بــان | هَـدّوا عَليه قصور شُمَّخْ عَوالي |
ألفين من حُمْرِ الــطرابيش سُـــكمان | بعيون ذِبحوا من القروم العيالِ |
ضَبع الكويرس عازْمَهْ ضبع حُبْران | وصـار اللّحْم بِعيونْ مثل التّلالِ |
ومن عقبها صارت مَعاريـك واكْوان | تْشَيِّب الطّفل الرّضيع الاهْوالِ |
تَضعضعت حَـوران من كُلّ الأركان | عافت لِحــاها والدَّبَش والحَلالِ |
من فعل ربعي ينطحوا الضدّ بطعان | صِلفين يوم الهُوش، يـوم القتالِ |
ببْــلاد ســوريّــة بلا شـــكّ فُــرسان | مــن غيرهم إيّاك تحسب رجالِ |
بعد تلك المعركة «ذُهِلَ الناس في دمشق وتخوّفوا بكل جدّية من قدرة الدروز على مهاجمة المدينة … لكنَّ العثمانيين اعتبروا الواقعة ثورة مقاومة يجب قمعها… فاستقدموا قوات جديدة من سالونيك (في البلقان) ومن إزمير (غرب الأناضول) ومن طرابلس الغرب (ليبيا) ونُقلت من بيروت مباشرة إلى حوران (16) لخضد شوكة الدروز…
أمّا «ميثا» فقد أكملت حياتها سيّدة حرّة كريمة في حمى قومها بني معروف.
المراجع:
1- سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين، القْرَيّة (لبنان)، ص 462.
2- المصدر السابق، ص 463.
3- متروك صيموعة، عرمان أسبارطة العرب، ط1، السويداء،2011، ص 74.
4- متروك صيموعة، م س، ص 75.
5- سعيد الصغير، م س، 463.
6- سليم الجاري: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص وهو من أهالي عرمان؛ أفاد بأن البطل سليم الجاري هو ضابط في الجيش العثماني من أصل لبناني جده الأول سليمان بن شاهين نصر من مَجدلْبعنا ولُقِّب في لبنان بالجاري، وكان دليلاً للحملة العثمانية التي أرسلها ممدوح باشا لقهر عرمان فقام سرّاً بإرسال خبر مع بدوي يثق به لتحذير أهل عرمان من الهجوم العثماني الوشيك، وضلّل الحملة في الوعورالجبلية ريثما تأهب أهالي عرمان الذين استنصروا بالقرى المجاورة، ومن ثمّ انضمّ سليم الجاري أثناء القتال إلى قومه الدروز ولجأ بعدها إلى بيت الشيخ الهجري في قنوات مدة خمسة عشر يوماً ثم غادر خفية إلى اليونان دون أن تعلم به السلطات التركيّة وبعد تحرير البلاد من الأتراك عاد الجاري إلى لبنان وتوفي فيها عن ثمانين عاماً
7- متروك صيموعة، م.س، ص 76.
8- بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل الدروز، من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال، دار النهار، ط1، 2004، ص 152.
9- Documentary Editor Emad Al Halah (فيديو).
10- بريجيت شيبلر 152 انتفاضات جبل الدروز من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال. بيروت دار النهار 2004.
11- حسين ناصيف خويص، عرمان قصة الإنسان وقدسيّة الأرض والمكان، ص 98.
12- طحيمر الصّيقلي: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص أفاد بأن طحيمر الصيقلي هو من مسيحيي صلخد وأحد فرسانها وكانت هناك حال من الجفاء بين قريتي عرمان وصلخد ولكن عندما وصل رسول عرمان لطلب النجدة من رجال صلخد ركب طحيمر فرسه وأخذ يصول ويجول في الشوارع وينخي رجال صلخد الذين هبّوا سراعاً وهاجموا الحملة من عن ميمنتها من جهة قرية “عيون” ممّا ساهم بتعويق تقدم الحملة باتجاه عرمان. وبعد دحر الحملة كرّم أهالي صلخد طحيمر بوضع عمامة بيضاء على رأسه …
13- متروك صيموعة، م س، ص 82.
14- جبل الدروز، حوران الدامية، ط2، بيروت 1961، ص 108، 109.
15- محمّد كرد علي، خطط الشام، ج 3 ص 111.
16- متروك صيموعة، م س، ص 84.