السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كائنات صغيرة ذكية تهدّد الجنس البشري

كائنات صغيرة ذكية تهدّد الجنس البشري

كيف خسرت المضادات الحيوية
الحرب الطويلة على البكتيريا

العلم مندهش لقدرة الجراثيم بأنواعها على تطوير مقاومتها للمضادات الحيوية

شركات الأدوية تخلّت عن تطوير مضادّات حيوية جديدة واتجهت إلى الأدوية الباهظة الثمن للأمراض المزمنة

كيف يمكن مقاومة الأمراض الجرثومية ببدائل طبيعية بدل المضادات الحيوية التي تراجعت كفاءتها العلاجية

لم تنجح أي من الأدوية والمضادات الحيوية في معالجة كبد المريض الذي كان يخضع للمعالجة على يد الدكتورة سينثيا غيبرت. لقد بذلت جهوداً جبارة لكن بالرغم من أنها جربت كافة العلاجات المتاحة إلا أن دم المريض ظل مشحوناً بالسموم. “لم يعد لدينا أي علاج” تقول الدكتورة غيبرت، المتخصصة بمعالجة الأمراض المعدية في المركز الطبي لقدامى المحاربين في واشنطن أميركا، “مع أن نتائج فحوص الدم أتت سليمة أحياناً، لكن سرعان ما كان دم المريض يمتلئ مجدداً بالسموم والبكتيريا التي لم تعد تتأثر مطلقاً بالمضادات الحيوية”.
أخيراً بات المريض على علم بأن العلاجات كلها لن تحدث أي فارق وأنه سيموت قريباً، ولم يعد أمام الطبيبة سوى إخباره بحقيقة الأمر. فالبكتيريا التي هي أكثر الكائنات الحية بدائية على وجه الأرض تفوقت على المضادات الحيوية، معجزة القرن العشرين الطبية.
هذه الحالة التي أوردتها دراسة علمية لمجلة “نيوزويك” بعنوان “نهاية المضادات الحيوية” ليست حالة معزولة بل هي مثال عما يحدث يومياً في مستشفيات العالم بما فيها مستشفياتنا في لبنان عن الصراع المستميت الذي يخوضه الأطباء أحياناً ضد بكتيريات تجتاح جسد الإنسان ولا يجد الطب إلا بشق النفس وسيلة ناجحة لقتلها. أما السبب فهو أن معظم أنواع البكتيريا المعروفة والمسببة للأمراض أصبحت مقاومة لمعظم المضادات الحيوية وهو ما يتيح لها الانتشار والفتك بالمريض دون أن يكون هناك، مع فشل المضادات، وسيلة بديلة ناجعة لوقف هجومها.
كانت البكتيريات في الماضي السبب الأول في وفاة الملايين سنوياً بشتى الأمراض الناجمة عنها، السل الرئوي أحد هذه الأمراض وكذلك التهاب الشعب الرئوية أو الكوليرا أو التيفوئيد وغيرها وكانت نسبة الوفاة في حالات الالتهاب الرئوي مثلاً 80 % من المصابين، وكانت قوة البكتيريا وقدرتها على التكاثر والفتك بالمريض أمراً مخيفاً وأحد أسباب انتشار الأوبئة.
في العام 1928 اكتشف ألكسندر فلمنغ بالصدفة البنسيلين أول المضادات الحيوية التي يصنعها الإنسان في المختبر. بعدها بقليل خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية اتسع استخدام البنسيلين في محاربة الأمراض البكتيرية لكن اكتشف في العام 1948 أن بعض أنواع البكتيريا أصبحت مقاومة له فتمّ تطوير مضادات حيوية جديدة لتصبح هذه بدورها غير ذات فائدة مع تطوير البكتيريا لسبل مقاومتها، ومنذ تلك الفترة والطب في سباق مستمر مع البكتيريا يسبقها تارة بمنتج جديد لتعود البكتيريا فتربح السباق مع تطوير سبل مقاومة المضادات الحيوية الجديدة، مع ذلك وبسبب فعالية المضادات الحيوية في القضاء على البكتيريا فقد ساد الاعتقاد لفترة بأن، صناعة الأدوية تمكنت من وضع حد لكل الأمراض والأعراض المسببة للبكتيريا مهما كان نوعها، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تحول إلى وهم وحلّت محل الثقة بالإنجاز العلمي لصناعات الدواء حالة متصاعدة من الخوف بل والذعر إزاء جهود المقاومة الناجحة التي بذلتها البكتيريا في مواجهة حرب الإنسان. لقد نجحت تلك الجهود إلى درجة أن بعض البكتيريات أصبحت مقاومة لأكثر أنواع المضادات. وبالاستناد إلى تقرير المركز الفيدرالي للتحكم بالأمراض CDC فإن أكثر من مليوني أميركي من كل الأعمار تصيبهم أمراض معدية تسببها بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية كل سنة، ومن أصل هؤلاء فإن 23 الف شخص يموتون سنوياً من جراء فشل المضادات الحيوية في احتواء المرض البكتيري. وفي العام 1992، قضى 13,300 مريض في الولايات المتحدة الأميركية جراء التهابات بكتيرية تمكنت من مقاومة المضادات الحيوية التي أعطيت من قبل الأطباء, وبينما كان الأطباء يعملون جاهدين على تحضير مضاد حيوي يمكن أن يعمل، كانت البكتيريا الهائجة قد سممت دم المريض أو شلّت بعض الأعضاء الحيوية لديه. وبما أن الكلفة المالية لتحضير مضادات حيوية مناسبة لكل مرض مرتفعة جداً، وغالباً ما يفشل أول مضاد حيوي يوصف، فالكائنات الحية الدقيقة هي الفائزة اليوم لأنها أقدم من البشر كما أنها كما يبدو أكثر حكمة منهم!
تكشف هذه الأرقام عن أن الطب الحديث في مأزق، لأن التعويل المفرط على المضادات الحيوية أضعف مع الوقت جهاز المناعة الطبيعي في الجسم فأصبحت صحة الفرد معتمدة بصورة كبيرة على وجود المضادات الحيوية الفعالة وليس على قدرة الجسم نفسه على إنتاج الدفاعات الطبيعية. ولهذا فإن إعلان الأوساط الطبية أن فعالية المضادات الحيوية في مقاومة الأمراض قد استنفدت وبلغت نهايتها ليس خبراً عادياً بل هو كاف لبث الخوف في المجتمعات التي لا تعرف اليوم بديلاً عن المضادات في حماية الصحة الفردية والعامة وها نحن وبعد نحو 86 عاماً على اكتشاف البنسيلين نعود تدريجياً إلى المربع الأول وعاد الناس ليموتوا من جراء أمراض اعتقد العلم منذ مدة أنها وبفعل المضادات الحيوية أزيلت من على وجه الأرض.
ما الذي يمكن فعله في هذه الحال وما هي البدائل المتاحة؟
ما يزيد في خطورة الوضع أن شركات الأدوية الكبرى والتي تملك الإمكانات الهائلة لإجراء الأبحاث والإنفاق على تطوير أدوية وعلاجات جديدة لم تعد مهتمة بإنتاج مضادات حيوية أكثر تطوراً وتأخذ في الاعتبار تراجع كفاءة المضادات الحالية، وذلك لأسباب تجارية محض هي أن تطوير مضاد حيوي جديد يكلف كثيراً ولا يحقق الأرباح المرجوة. في المقابل وجدت الشركات من الأفضل الاستثمار في تصنيع الأدوية الباهظة الثمن للأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري والسرطان والتهاب المفاصل وغيرها وهي الأدوية التي يحتاج الإنسان لتناولها على مدى الحياة، بينما لا توجد حاجة لتناول المضادات الحيوية لفترة قصيرة نسبياً.
حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي كانت شركات الأدوية دوماً منهمكة في تطوير مضادات حيوية جديدة باستمرار، لكن جهود الشركات تراجعت بقوة حتى أننا لم نر سوى مضاد حيوي جديد يدخل السوق في العام 2013 كما أن الحكومة الأميركية تبدو وقد فقدت حماستها لتقديم المساعدات لأبحاث المضادات الحيوية خلال السنوات العشرين الماضية. وهذا الواقع في حد ذاته يزيد من حالة التشاؤم السائدة بين المرضى والأطباء الذين تتناقص خياراتهم كل يوم في الحرب الشرسة مع البكتيريات المميتة.
إن فشل المضادات الحيوية المتبقية في مقاومة البكتيريا، ستتسبب بخسائر بشرية كبيرة نظراً لعدم وجود خطة شاملة لتوفير العلاجات البديلة وبالتالي فإن مصير البشرية سيكون في العودة الإجبارية إلى العصر الذي كان سائداً قبل اكتشاف المضادات الحيوية لكن هذه المرة بعد أن خسر الإنسان المناعة التي كانت له في السابق وبعد أن أضيفت إلى المشكلة مشكلات كبيرة تتعلق بتدهور بيئة العيش والنظام الغذائي وتعاظم مصادر التلوث. لكن فشل المضادات الحيوية يجب أن لا يعتبر بمثابة نهاية الطريق للطب المعاصر ولا ينبغي أن يكون مقدمة لكارثة بشرية لأننا ولحسن الحظ نمتلك بدائل متكاملة يمكنها أن تحل في مقاومة البكتيريا محل المضادات التي تتناقص كفاءتها العلاجية يومياً، وسنأتي على ذلك لاحقاً.
لكن لنطرح السؤال أولاً: كيف وصلنا إلى هذه الحالة اليائسة؟ وكيف تمكنت كائنات مجهرية دقيقة من أن تلحق الهزيمة بالعقل البشري وبأبرز العقول والمؤسسات العلمية والطبية؟

” الجراثيم ليس فقط تتعلم مقاومة المضادات الحيوية بل هي تتبادل المعلومات بشأنها إلى حد يجعلها تطوّر مقاومتـــها لمضادات حيوية قبل أن تصادفــه “

البكتيريا تربح الحرب
“منذ عام 1928 عندما اكتشف “الكسندر فلمنغ” البنسيلين، بدأ السباق بين الإنسان والميكروبات” يقول الدكتور ريتشارد وينزل من جامعة أيوا. إنه سباق يتغير فيه الرابح باستمرار فقد يكون هذا المضاد الحيوي أو ذاك اليوم لكن قد تصبح البكتيريا غداً هي الرابح عندما تتعلم كيفية إلغاء مفعول المضاد الحيوي وتتكيف بسرعة في معرض الاستجابة له.
في العام 1948، أي بعد خمس سنوات من انتشار استخدام البنسيلين خلال الحرب العالمية الثانية، اكتشف الأطباء “المكورات العنقودية” التي لم تستجب للدواء. لكنهم لم يتوقفوا عندها، بل اخترعوا مضادات حيوية جديدة أنقذت البشر من أمراض عديدة فتراجعت نسبة الوفيات على الأقل عند الأشخاص الذين بدأوا استخدام المضادات الحيوية قبل بدء الميكروبات بتطوير نظامها الحيوي الخاص. وقد ظن العلماء، في الثمانينات، أنهم استطاعوا احتواء كافة الأمراض المعدية، وبدوا مقتنعين بأن التحدي الكبير يكمن فقط في مواجهة الأمراض المستعصية والمزمنة كالسرطان وأمراض القلب، لكن نصرهم الطبي المزعوم أصبح وهماً في نظر الدكتور شيروين نولاند في كتابه “كيف نموت”.
أصبحت البكتيريا المسببة للأمراض قادرة على مقاومة مضاد حيوي واحد على الأقل من أصل مئة، في حين تقاوم أخرى كافة أنواع الأدوية والمضادات تقريباً.
كائنات ذكية في طرق تطورها
كيف تتطور البكتيريا لتصبح مقاومة للمضادات الحيوية؟
تطوّر البكتيريا مقاومات للمضادات الحيوية بالطريقة ذاتها التي جعلت الغزلان تزيد سرعتها لمواجهة الأسود والهرب منها. فعندما تعالج مستعمرة من البكتيريا بالدواء المناسب لها، تموت معظم البكتيريا متأثرة بالعلاج في حين تنجو قلة منها وتشكّل جينات مقاومة للدواء، تماماً كما تعيش بعض الغزلان بعد هجمات السباع لتنعم بيوم رعي آخر قبل أن تصبح مجموعة أخرى وجبة غذاء جديدة للأسود.

كيف يدافع الميكروب عن نفسه؟
هناك عدة أساليب تمكن البكتيريا من إبطال عمل المضادات الحيوية:
1. إذ يمكنها أن تفرز أنزيماً يؤدي إلى تفتيت الدواء كما يفعل الستافيلوكوكس مثلاً في تعطيل مفعول البنسيلين
2. يمكنها أن تغير جدار خليتها بحيث يتعذر على المضاد الحيوي اختراقه وبالتالي قتل الميكروب
3. يمكنها أن تحدث تعديلات في خصائص أخرى يستهدفها المضاد الحيوي فتعطل مفعوله
4. أخيراً يمكن للميكروب ببساطة أن يتخلص من المضاد الحيوي بضخه إلى خارج الخلية

جرثومة-الستافيلوكوكس-المسببة-للاتهاب-الرئوي-وتسمم-الدم-أصبحت-مقاومة-لأكثر-المضادات-الحيوية
جرثومة-الستافيلوكوكس-المسببة-للاتهاب-الرئوي-وتسمم-الدم-أصبحت-مقاومة-لأكثر-المضادات-الحيوية

بكتيريا الموت

بكتيريا ستافيلوكوكس أوريوس Staphylococcus aureus المسببة للإلتهاب الرئوي وبصورة خاصة لتسمم الدم الناجم عن الجراحات أصبحت مقاومة لكل أنواع المضادات الحيوية بإستثناء مضاد واحد هو الفانكومايسين Vancomycin لكن المصادر الطبية لا تخفي اقتناعها بأن هذا المضاد سيهزم قريباً وأن البكتيريا سيمكنها عند ذاك أن تتكاثر من دون عوائق على الإطلاق.

لكن يجب أن نذكر أنه وعندما كانت الحال كذلك ولم يكن للطب دفاعات ضد هذه البكتيريا فإن نسبة الوفاة في حالات الإصابة بها كانت تتجاوز الـ 80% . لذلك فإن ما يشغل بال المصادر الطبية هو ماذا لو تمكنت هذه البكتيريا من اكتساب المناعة إزاء الفانكومايسين آخر المضادات التي ما زالت قادرة على قتلها؟ السؤال في حد ذاته مخيف والجواب عليه يجب أن يثير الخوف أيضاً.

كيف-تنتشر-البكتيريا-المقاومة-للأدوية
كيف-تنتشر-البكتيريا-المقاومة-للأدوية

وعندما تفلح بكتيريا معينة في تطوير مقاومتها للمضادات فإن الجينات المتحولة تتكاثر بشكل سريع، وتنقل قدرتها على مقاومة الدواء أو العلاج (عبر الجينة المقاومة) الى كل الميكروبات الموجودة في الجسم حتى غير المرتبطة بالمرض منها. وقد ينتج عن تحول البكتيريا إلى مقاومة ما يقارب الـ16.7 مليون جينة خلال 24 ساعة. لقد تبين لنا أن هذه البكتيريات تطور نفسها من أجل اكتساب خصائص مناعة تتغلب بواسطتها على أفضل العقاقير الصيدلانية التي يقدمها الطب الحديث مما جعلها تكسب المعركة بدون أي شكّ.
الأغرب من ذلك، هو أن البكتيريات لا تكتفي فقط بتطوير دفاعاتها بل هي “تتبادل المعلومات” مع أنواع أخرى وتنقل خبرتها لتلك الميكروبات، وهي تقوم بذلك عن طريق إفراز مكون كيميائي يحفّز الخلايا البكتيرية على التقارب في ما بينها وتبادل الجينات المقاومة للدواء، وبهذه الطريقة السهلة، اكتسبت بكتيريا “الكوليرا” صفة المقاومة للتتراسيكلين من بكتيريا “إي كولاي” الموجودة في أمعاء الإنسان. وبصورة عامة فإن استخدام المضادات الحيوية عزز قدرة البكتيريا على التكيّف مع مختلف أنواعها في عملية تكيف وتحول Mutation لا مثيل لها في سجل التاريخ البيولوجي بحسب ما ورد في كتاب الدكتور ستيوارت ليفي “The Antibiotic Paradox” .
لقد برهنت البكتيريات المختلفة على كونها أشبه بشياطين صغيرة ذكية وأظهرت قدرة هائلة على المراوغة والتطور بطرق لم يتوقعها العلماء أبداً. لقد تبين أن الجراثيم ليس فقط تتعلم مقاومة المضادات التي تتعرض لها بل إنها قد تكتسب مقاومة لمضادات حيوية لم تصادفها مطلقاً من قبل. فالنساء اللواتي يحصلن على التتراسيكلين لالتهاب المسالك البولية مثلاً، طورت جرثومة إي كولاي E-coli مقاومتها لمضادات حيوية أخرى لم تعرفها من قبل! وكأنّ البكتيريا أصبحت تتوقع نوع الهجمات التي يمكن أن تتعرض لها وتستعد بالتالي «استراتيجيّاً» لمواجهة أدوية ذات وظائف متقاربة عند مواجهتها لنوع واحد فقط منها.
أكثر من ذلك، لقد ثبت أن بكتيريا معينة تعلمت كيف تقاوم مضاداً حيوياً يمكّنها من أن تنقل خبرتها لبكتيريا من نوع آخر فتصبح هذه الأخيرة مقاومة لنفس المضاد الحيوي قبل أن تصادفه. يحدث ذلك عندما تقوم البكتيريا التي اكتسبت القدرة على مقاوِمة المضاد الحيوي بصنع نسخة من حلقة الحمض النووي الذي يحتوي على جينات المقاوَمة، وعندما تلامس هذه البكتيريا المقاومة جرثومة أخرى فإنها تقوم بنقل تلك الحلقة من الحمض النووي المقاوم عبر جدار خليتها إلى البكتيريا الأخرى، فتصبح البكتيريا الثانية بدورها مقاوِمة للمضاد الحيوي نفسه دون أن تكون قد تعرضت له أصلاً، وذلك بمجرد امتصاصها للجينة المقاومة في جرثومة أخرى اكتسبت تلك الصفة، وهذا يعني أنه في إمكان بكتيريا مسببة لمرض معين تعلمت أسلوب مقاومة المضادات الحيوية أن تنقل خبرتها بواسطة الملامسة أو الاحتكاك الجيني إلى سلالات أخرى من البكتيريا وهذه «التحالفات» التي تحصل بالصدفة بين أنواع البكتيريا تزيد في تعقيد الحرب التي تخوضها شركات الأدوية ضد البكتيريا المكتسبة لصفة المقاومة وهي حرب يبدو، حسب كل الدلائل، أن شركات تصنيع الأدوية شارفت على خسارتها.

الطب الحديث في مأزق
من مفارقات الحرب على البكتيريا أن الأطباء -والمرضى أنفسهم- وبسبب اعتمادهم شبه الوحيد على اكتشاف المضادات الحيوية والتطبيق المتزايد لأنواع جديدة منها كلما فشلت القديمة ساهموا من دون وعي في صناعة «فرنكشتين» من نوع خاص هو البكتيريا التي لا تقهر أو السوبر بكتيريا Superbug المسببة لشتى الأمراض، وهذه الأمراض لم تكن كلها أمراضاً خطرة بل «تحديات» دورية تواجه جهاز المناعة الإنساني وتساهم في تجديده وكانت البدائل الطبيعية وجهاز المناعة البشري يتمكنان في الماضي من التصدي لها لكن مع تردي جهاز المناعة وانهيار الدفاعات الطبيعية للجسد وتطور البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية أصبحت الأمراض العادية عامل تهديد حقيقياً للصحة وبات ممكناً أن تتطور إلى حالات مميتة.

كيف وصلنا إلى الكارثة؟
يمكن القول إن الكارثة التي تواجه السلطات الصحية والأطباء وشركات الدواء والتي تواجه المرضى ما هي إلا نتيجة لمجموعة من العوامل التي ساهمت كل على طريقته في إضعاف عمل جهاز المناعة الذي أودعه الله في الجسد البشري مما يجعل الصحة البشرية اليوم مكشوفة لهجمات مختلف أصناف البكتيريا التي تعلمت كيف تهزم دفاعاتنا الأساسية مما يفتح الطريق أمام تكاثرها دون رادع وتدميرها لأعضاء الإنسان الحيوية، وقد تتمكن هذه الكائنات المجهرية في نهاية الأمر من قتله. ما هي العوامل التي ساهمت في إيصالنا إلى الأزمة؟

الإفراط في استخدام المضادات
إن السبب الأهم لتطور مقاومة البكتيريات المختلفة للمضادات الحيوية هو الاستخدام المفرط وسوء الاستعمال، يقول الدكتور سرينيفاسان إن ما يقارب نصف المضادات الحيوية المستخدمة إما أنها تعطى من دون حاجة لها أو أن المرضى يستخدمون الأنواع الخاطئة منها لمعالجة أمراضهم. وفي كثير من الحالات يقوم الطبيب بوصف المضاد الحيوي دون أن يتأكد إذا كان المرض مسبباً من بكتيريا أو من فيروس، ومعروف أن المضاد الحيوي لا يؤثر في الفيروسات بل يمكنه فقط أن يقتل البكتيريا. وبالطبع كلما ازداد استخدام الجسم للمضادات كلما أعطيت البكتيريات المختلفة الفرصة لتطوير قدرتها على مقاومة تلك المضادات وقد وصلنا الآن إلى وضع بات الطبيب المعالج يضطر فيه إلى استخدام أكثر من مضاد أو تجربة ثلاثة أو أربعة أو خمسة مضادات لأن الفحوصات تدله على أن الأول أو الثاني أو الثالث كلها لم تتمكن من قتل البكتيريا وأن البكتيريا مستمرة في التكاثر بصورة تهدّد حياة المريض.

دور التصنيع الواسع للغذاء
العامل الثاني الأهم في تطور مقاومة البكتيريا للمضادات هو الاستخدام الواسع للمضادات الحيوية في العديد من الصناعات الغذائية مثل اللحوم والطيور وإنتاج الحليب، وتشير إحصاءات نشرتها مجلة «نيوزويك» إلى أن الصناعات الغذائية الحيوانية تستخدم من المضادات الحيوية كميات تبلغ 30 ضعف ما يستخدم في الطب البشري. وكل هذه الصناعات باتت تعتمد على إدخال المضادات الحيوية بصورة منهجية ضمن الأعلاف التي تعطى للحيوانات، ويستعمل نحو 80% من إجمالي المضادات الحيوية لأغراض غير علاج الأمراض، مثل جعل الحيوانات تنمو بسرعة أكبر، لكن الذي يحصل هو أن رواسب المضادات الحيوية وكذلك البكتيريات التي تكون قد اكتسبت المقاومة داخل الحيوان المعالج بالمضادات تدخل جسد الإنسان عبر تناول اللحوم أو الألبان وغيرهما وهذا يعني أننا نتناول المضادات الحيوية يومياً مع طعامنا وإننا بسبب ذلك نخسر مناعتنا الطبيعية باستمرار بحيث أصبحنا ضعفاء وبلا حماية حقيقية عندما تهاجمنا تلك الجراثيم التي تعلمت سبل تعطيل مفعول مختلف المضادات التي قد يسارع الطبيب لمعالجتنا بها.
رغم كل الدلائل على خطورة إضافة المضادات الحيوية إلى علف الحيوانات فقد تراجعت إدارة الغذاء والدواء FDA الأميركية مجدداً عن سحب موافقتها على استخدام تلك المضادات الحيوية في صناعات اللحوم والألبان، وذلك بتأثير الضغوط الهائلة التي يمارسها اللوبي الذي يضم تلك الصناعات ومؤيديها من السياسيين. بذلك أعطت
الـ FDA صفة الشرعية والقانونية لأحد أخطر الممارسات التي تهدد صحة الفرد والمجتمع في الولايات المتحدة معطية الأفضلية لمصلحة الشركات المصنعة على حساب صحة المستهلك وأسرته وأطفاله.

الهندسة الجينية للمحاصيل
لا توجد دراسات معمقة عن الآثار الصحية الناجمة عن تناول الأغذية المعدلة جينياً لكن الدراسات الأولية التي أجريت خصوصاً في أوروبا أظهرت وجود صلة بين تناول تلك الأغذية وزيادة احتمال الإصابة بأمراض المناعة والسرطان، لذلك منعت السلطات الأوروبية الأغذية المعدلة جينياً في أسواقها وفرضت في حالات أخرى لصق معلومات صريحة تشير إلى احتواء السلعة الغذائية على مكونات معدلة جينياً.

معظم-مبيعات-المضادّات-الحيوية-تذهب-إلى-قطاع-اللحوم
معظم-مبيعات-المضادّات-الحيوية-تذهب-إلى-قطاع-اللحوم

 

وتشير الدراسات الأوليّة إلى أن الهندسة الجينية للكثير من الأغذية الأساسية للإنسان تساهم في زيادة مشكلة المناعة لأنها تمكن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية من إرسال الصفات الجينية المقاومة إلى نظامنا المعوي مقدمة بذلك دعماً كبيراً للبكتيريا وموفِّرة لها البيئة الأمثل لتعلم سبل جديدة لمقاومة المضادات وبقية العلاجات.

أسلوب الحياة المعاصرة
أدى أسلوب الحياة المعاصرة في المجتمعات الحديثة وخصوصاً في المدن إلى ابتعاد الإنسان عن الطبيعة والعمل في الأرض كما ولد ضغوطاً هائلة في مكان العمل أو في البيوت بسبب الانعكاسات النفسية والعصبية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية وتفكك الأسر والعلاقات، وقد أثبت الطب الحديث أن الضغوط النفسية والأزمات وحالات الإكتئاب والإرهاق والخوف من المستقبل هي أهم أسباب تراجع نظام المناعة في الإنسان وأنها بصورة خاصة أحد أهم أسباب الانتشار المتزايد لأمراض السرطان. بالمعنى نفسه فإن ضغوط الحياة المعاصرة هي من العوامل الإضافية التي تمكّن البكتيريا من العمل بفعالية أكثر على مقاومة المضادات وإحداث الأضرار في صحة الفرد والصحة العامة.

خيارات متناقصة
إن تزايد البكتيريا والجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية يزيد من خطورة الوضع، إذ ينذر بأن البشرية ستجد نفسها قريباً وقد عادت إلى العصر السابق لاكتشاف المضادات الحيوية. سبب ذلك أن معظم تلك الأدوية والعلاجات أصبحت غير نافعة للإنسان مما يضع البشرية في خطر محدق. في هذه الأثناء، وكحل مؤقت، تركز شركات الأدوية على تحسين قدرة المضادات الحيوية على إبطال دفاعات الجراثيم كأن يطلق الدواء أنزيماً يقتل أنزيم المقاومة الذي تفرزه البكتيريا. وقد نجحت الشركات في حالات معينة لكن البكتيريا عادت فأنتجت أنزيماً جديداً أبطل مفعول الدواء. لهذا السبب تعتقد الأوساط العلمية أن أسلوب تحسين القوة الهجومية للمضادات قد تكسبنا بعض الوقت في الحرب مع البكتيريا ربما خمس أو عشر سنوات لكن البكتيريا أثبتت أنها قادرة على التفوق وكسب الجولة الأخيرة.

في المقابل، فإن بعض الشركات تركّز أبحاثها الآن على فهم آليات الدفاع التي تستخدمها البكتيريا ووسائل التواصل وتبادل المعلومات في ما بينها والهدف هو التشويش على تلك العملية مما قد يجعل البكتيريا مكشوفة مجدداً لعمل المضادات والأدوية الأخرى. على سبيل المثال اكتشف العلماء في بريطانيا طريقة تواصل البكتيريا في ما بينها، وهم يتحققون من طرق تعطيل هذه العملية مما يحول دون قدرة المجموعات البكتيرية على التواصل وإحداث الضرر أو نقل العدوى. كذلك، يعتقد العلماء أن هذه العملية قد توصل إلى مضادات حيوية لا تقتل البكتيريا بالضرورة لكن قد تضعف فعاليتها وتبطل قدرتها على التسبب بالمرض.
كن طبيب نفسك
يتضح لنا مما سبق أننا في مأزق حقيقي وأن علينا أن نقوم بخطوات أساسية لتأمين حماية صحتنا وصحة أطفالنا إزاء المخاطر المحدقة. إذا كان الاعتماد على المضادات الحيوية لم يعد ممكناً فإن علينا أن نقرر ما يمكن أن نفعله نحن على سبيل الوقاية وتعزيز جهاز المناعة الذاتية بحيث نصبح أقوياء في مواجهة تلك الجراثيم وبحيث نمكّن آلة الجسد العجيبة من القيام بدورها الدفاعي الذي خلقت من أجله. لنأخذ مثلاً تناول اللحوم والألبان من السوق. إن معظم هذه اللحوم كما يتبين لنا محشوة بالمضادات الحيوية وربما بالبكتيريات المقاومة للعلاجات والأدوية. إن أول أمر يمكن أن نقوم به هو ببساطة الامتناع عن تناول اللحوم التي لا نتأكد أن مصدرها منزلي أو أنها عضوية. قد يكون ذلك صعباً لأن السوق مغرق بتلك المنتجات غير الصحية لكن في إمكان الكثيرين ممن يعيشون في المناطق الجبلية القيام بتربية الطيور والدجاج البلدي أو تربية الأغنام والعجول وفق الطريقة الطبيعية التي لا تتضمن التغذية بالهرمونات أو بالمضادات الحيوية. أضف إلى ذلك أنه في إمكان بعض رجال الأعمال أن ينشئوا صناعات للحوم بالطريقة العضوية والطبيعية أو أن ينشئوا مزارع الطيور التي تربى بصورة طبيعية ولا يدخل في علفها المضادات الحيوية، لأن الطلب سيكون موجوداً في هذه الحال خصوصاً إذا كان الفارق بين المنتج الصحي السليم وبين منتجات المزارع الحديثة والصناعات الغذائية ليس كبيراً.

مضادات حيوية من كل الأصناف، هل فقدت فعاليتها؟
مضادات حيوية من كل الأصناف، هل فقدت فعاليتها؟

” شتى أنواع المضادات الحيوية في علف الحيوانات تنتقل إلى أجسادنا وتضعف جهاز المناعة لدينـــا عند تناولنا لحومها وألبانهــا  “

تربية-الأبقار-على-الأعشاب-فتوفر-لحوما-وألبانا-صحية-وغير-ملوثة-بالمضادات-الحيوية
تربية-الأبقار-على-الأعشاب-فتوفر-لحوما-وألبانا-صحية-وغير-ملوثة-بالمضادات-الحيوية

إن النظام الغذائي هو الأساس وهو المنطلق لإعادة بناء جهاز المناعة في جسدنا ولا بدّ من العمل سريعاً على تنظيف جسدنا من ترسبات المضادات الحيوية وربما البكتيريات المقاومة التي تختبئ في جسدنا. بذلك فقط نضمن حماية نظام المناعة من التعرّض للمضادات الحيوية مهما كانت ضئيلة ونضمن بالتالي عدم إضعاف قدرتنا على مقاومة الهجمات البكتيرية، لأن التعرض المستمر عبر الغذاء إلى ترسبات المضادات الحيوية هو الذي يسمح للبكتيريا بتطوير أشكال مقاومة تضعف قدرتنا على مجابهتها حتى بواسطة أكثر المضادات الحيوية قوة.

عودوا إلى الطبيعة
تزخر الطبيعة الأم بالكثير من الأعشاب والمكونات الحية التي تصلح لأن توفِّر العلاج الشافي للعديد من الأمراض. إن مضادات الميكروبات كثيرة في الطبيعة مثل الثوم، والصعتر والقرفة وعسل المانوكا والبكتيريات النافعة لتنشيط الجهاز الهضمي Probiotics والأطعمة المخمرة (المخلّلات) وأشعة الشمس والفيتامين D كل هذه خيارات يجب تجربتها قبل اللجوء إلى الأدوية بما في ذلك المضادات الحيوية خصوصاً وأن البكتيريا لا تميل الى تطوير المقاومة لهذه الأنواع من العلاجات، لأن الطبيعة هي ربما أذكى مما نتصور عند الحديث عن توازن الجسد ونعمة الصحة التي وضع الله قواعدها في جسدنا منذ فجر البشرية.
المفتاح الأساسي لحفظ صحة جهاز المناعة هو الخيارات الصحيحة لأسلوب الحياة مثل اتباع نظام غذائي سليم وممارسة الرياضة، كذلك يجب التأكد من تناول الأطعمة الكاملة (حبوب ولحومات ونباتات)، وبهذا لن نكون بحاجة الى تناول المضادات الحيوية لأن نظام المناعة القوي والنشط في جسمنا سيقوم بدوره كاملاً وسيتولى حماتنا من هجمات الجراثيم.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading