

ميخائيل نعيمه الذي يعرفه جيّداً الوسط الأدبي والفكري والثقافي في غير جزء من هذا العالم، من الهند وموسكو إلى العراق ومصر وبلدان المغرب العربي إلى شمال أمريكا، ظلّ في وطنه من حيث الرعاية والتعريف بأعماله على «القائمة السوداء» السريّة تقريباً، ولأسباب غير معروفة تماماً. ورغم السمعة العالمية والعربية العالية، ورغم فوزه بجائزة الدولة اللبنانية سنة 1961، ثم تكريم رئيس الجمهورية له في مناسبة بلوغه التسعين سنة 1979 لم ينلْ نعيمه من مؤسسات وطنه الثقافية والتربوية الرسمية والخاصة من يوازي من حيث الاهتمام والتكريم الأعمال الضخمة والمبدعة وغير العادية التي أنجزها طوال سبعين سنة من عمره الذي امتد أكثر من تسعين عاماً، وإسوة بما قامت به بإزاء أدباء ومفكرين لبنانيين وغير لبنانيين آخرين كانوا دون نعيمه إبداعاً وغنًى فكرياً أو أنهم على الأقل ما كانوا بأعلى كعباً منه في أي باب من الأبواب. هذا في التكريم المعنوي، أمّا التكريم أو التقدير في المجال المالي أو المادي فكان معدوماً، وقد عاش نعيمه الشطر الأخير من سنوات عمره وفق ما أعرف من أكثر من مصدر من المردود المالي السنوي لمبيعات مؤلفاته من دار نشر لبنانية محترمة، مردود لم يكن ليتجاوز يومذاك- نهاية الستينيّات وسحابة السبعينيّات- بضع عشرات من آلاف الليرات اللبنانية سنوياً.
وعليه، يأتي تكريم البيت اللبناني في موسكو، ومؤسسات روسيّة أخرى، لنعيمه في ذكرى ميلاده الثاني والأربعين بعد المئة، لفتة علمية وإنسانية مهمة؛ في مكانها الطبيعي (لأن نعيمه خريج بولتافا الروسية يومذاك)، وفي توقيتها أيضاً: إذ العالم برمّته يشكو أزماته، ولا يخرج من أزمة إلّا ليدخل أزمة جديدة أشد وأدهى. وهو ما أشار إليه نعيمه في كتبه كافة، أي إنّ نوع المدنية التي نحياها مدنيةٌ مولّدة للأزمات، في ذاتها، وبطبيعتها. فلا نبحثنّ إذاً عن دواء لأزماتنا في ما هو الداء في الحقيقة، أي إن مدنيتنا عاجزة عن تقديم العلاج لمشكلاتها (كما يتبيّن بالملموس يومياً)، وإن العلاج، والكلام لنعيمه، إنّما يكون في بناء مدنية مختلفة تماماً في مبادئها وقيمها وأساليب إنتاجها وعيشها أيضاً.
المدنية العاجزة عن تقديم الدواء والعلاج لمشكلات البشر ومجتمعاتهم والتي باتت في ذروتها منذ بعض الوقت، هي المدنية «المادية»، وثقافتها المادية؛
فيما المدنية القادرة على تقديم الدواء والعلاج المطلوبَين لمشكلاتنا تلك هي المدنية «غير المادية» – ولا أريد أن أحصرها في شكل واحد ضيق حصراً. المدخل إلى حلّ مشكلات البشر التي تبدو اليوم ضاغطة بل مستعصية يكمن في الثقافات غير المادية، (ولا أقول بثقافة واحدة)، وبالمقاربات غير المادية التي تتبنّاها لمشكلات الإنسان والمجتمع. وهنا يكمن إسهام نعيمه الحاسم منذ بدأ يكتب قبل مئة سنة تقريباً، وإلى آخر كتاب كتبه؛ بل لكأنما كلّ ما كتبه كان كتاباً واحداً، وفيه فكرة واحدة، وقد حاول أن يوصلها إلى قارئه في أشكال مختلفة: من المقالة إلى الشعر فالمسرحية فالأقصوصة وأخيراً الرواية – كأتم شكل أدبي – إلى البحث الفلسفي الدقيق إنما بأسلوب رشيق سهل ومفهوم من أكثرية القرّاء. وقد أسميت ما تركه نعيمه من آثار فكرية بـ «الأدب الفلسفي»، أي هي فلسفة بالكامل لكنها صيغت بأسلوب أدبي، لأن الأدب الجميل أسرع إلى قلب الإنسان من المبحث الفلسفي الجاف كما يُظنّ عموماً.
هذا هو موقع نعيمه تحديداً: لم يكن يلهو، ولا يلغو، بل كان صاحب مشروع لتحرير الإنسان والإنسانية من مشكلاتهما الكثيرة، قدّمه على نحو واضح دقيق، ودافع عنه بأكثر من طريقة وأسلوب، في كل ما كتبه أو تركه من آثار فكرية تبلغ العشرات.
هوذا ما سأظهِره في محاضرتي، وسأختمها بتركيز إضافي على مسألة تعني هذه المناسبة كما أعتقد، وهي أن نعيمه لم يغادر ربما التأثير الروسي الذي اختبره في حقبة بولتافا، وإنما أضاف إليه لاحقاً التأثير الشرقي عموماً.
الملاحظة الثانية، وإن تكُ شخصية في الظاهر، فهي متصلة في الواقع بسؤال «هل نعيمه فيلسوف» موضوع هذه المحاضرة. كانت رسالة تخرّجي في الدبلوم من كلية التربية في الجامعة اللبنانية سنة 1973 (أي قبل ما يقرب من سبع وأربعين سنة) تحت عنوان: «مدخل إلى فلسفة نعيمه»، وأحسب أنه قُيِّض لي أن أكون بين أوائل من استخدموا تعبير «نعيمه الفيلسوف»! ولضخامة الإبداع الفلسفي الذي عثرت عليه في أعمال نعيمه لم أكتفِ بالمدخل، فكانت مباشرة أطروحتي في الدكتوراه والتي أشرف عليها مؤرخ الفلسفة المفكر اللبناني الراحل الدكتور خليل الجرّ والتي نوقشت سنة 1977، أي قبل حوالي ثلاث وأربعين سنة. الأكثر أهمية في الحدث هذا، بعيداً عن الجانب الشخصي، هو أن بعض أعضاء لجنة المناقشة رفضوا فكرة نعيمه الفيلسوف وجادلوني في الأمر لثلاث ساعات كاملة، وكانت حجتهم (الضعيفة كما فنّدت) أن نعيمه شخصياً لم يُسمّ نفسه فيلسوفاً فكيف يجرؤ الباحث على ما لم يُقدِم عليه نعيمه نفسه، ناهيك بالآخرين! أمّا ما كان مثيراً واستثنائياً بحق فهو أن ميخائيل نعيمه كان حاضراً شخصياً هذا النقاش الطويل الذي تناول أعماله: أهي أدب فقط، أم هي أدب، وفلسفة كذلك، ومن النوع الأصيل أيضاً؟ وكانت الذروة حين طلب الدكتور الجرّ (رحمه الله) من نعيمه أن يدلي بدلوه في المسألة موضوع الجدل، وأن يحسم النقاش بالتالي. فقام نعيمه إلى المسرح، وتحدّث لثلث ساعة – وقد نشرت الصحف في اليوم التالي الكثير الكثير من حديثه- ومن بين ما قاله: «رأيت نفسي ممدَّداً لثلاث ساعات على طاولتكم، وقد شرّحتموني وحللتم أعمالي وأفكاري…» ثم ليختم مداخلته بالقول: «إني أوافق على كل كلمة وردت في البحث موضوع النقاش.»
رغبت من هذه المقدَّمة أن أُدخِلكم مباشرة في جو النقاش الذي اشتعل في زمن انقضى بخصوص تصنيف أعمال نعيمه، وتصنيف نعيمه شخصياً، في خانة الأدب الرفيع فقط، أم في الخانة الصعبة الملتبسة: أدب وفلسفة معاً- وإسوة بأدباء كبار آخرين من المعرّي إلى غوته إلى سارتر وغيرهم من الشعراء والأدباء وكتّاب الرواية والمسرح من أرباب هذا اللون الرفيع من الأدب الفلسفي الذي ميّز معظم أعمال نعيمه والذي تمكن بمهارة واقتدار من التأليف (ولا أقول الجمع) بين بهاء الأدب وتفرّد أدوات التعبير فيه وبين عمق الفلسفة وتماسكها وشمولها!
أودّ أن أقول، وكما أشرت في مقدَّمه كتابي الصادر قبل أربعين عاماً، «فلسفة ميخائيل نعيمه»، (منشورات بحسون الثقافية) إن هذا النقاش (نعيمه أديب أم أديب وفيلسوف) لم يكن ليعني نعيمه في شيء، وهو الذي تجاوز أشياء كثيرة في حياته، وزهد، منذ عودته إلى كنف صخرته في الشخروب سنة 1932بُعيد موت صديقه ورفيقه جبران، في ما سعى كثيرون إليه، فبات لا يشغلُ باله لقبٌ أو جاهٌ من هنا أو تصنيف من هناك. كان الأمر يعنينا نحن، الباحثين في تراث نعيمه. بعضُ ما أدهشني إلى حد بعيد هو أن الداخل إلى حقل كتابات نعيمه يقعُ في المؤلفات تلك، وكيفما التفتَ في أرجائها، على صور جليّة من الفلسفة بأوسع معانيها، من المشكلات والإشكاليات، إلى عمق التحليل، ووحدة الخطاب وتماسكه وصولاً إلى استنتاجات وخلاصات جديدة، كلياً أو جزئياً كحال الفلسفة دائماً. كانت الأفكار أو المكوّنات تلك أشبه بحجارة وأعمدة وقباب وتيجان وزخارف مشغولة ومصقولة بكل مهارة ودقة، لكنها غير مرصوفة بل متناثرة في كل مكان. كان في وسع جميع الداخلين إلى حقل نعيمه ذاك أن يروا في المشهد ذاك آياتٍ من إبداعات نعيمه الجمالية، فناً وأدباً وشعراً، رواية ومسرحاً وإلماعات، وأساليب في الكتابة كانت تجديداً ذا شأن أدرك أهميته كتّاب وطالبو أدب كُثُر. إلاّ أنه كان في وسع زائرين أو متعبّدين آخرين في حقل كتابات نعيمه أن يروا في هذه الجماليات المتناثرة، أيضاً، ما هو أبعد أو أعمق من ذلك قليلاً. لم يكن الزائر أو المتعبّد في معبد نعيمه الجمالي يحتاج لأكثر من بعض التجربة وبعض القدرة على التحليل والمقارنة ليكتشف ودونما كبير عناء أنه بإزاء بنيان فلسفي كامل، هيّأ له صاحبه، في طولِ أناة وانتباه واضحين، كل ما يلزم من أفكار وتحليلات ومواقف بل وخلاصات، لكنه لم يدفع بها، بقصد أو بدون قصد، لتؤلف صرحاً أو مَعلماً فلسفياً واضحاً وكبيراً، وكما الصروح الفلسفية الشاهقة عند فلاسفة كلاسيكيين معروفين. كان الأمر يشبه إلى حد كبير حال نحّات أو بنّاء ماهر صرف عمره ليل نهار يهذّب أحجاراً بغير عدد، يصقلها أنواعاً وأشكالاً وتُحَفاً ليؤلِّف منها يوماً بناءً أو عمارة جميلة، ثم فجأة ترك ذلك كلّه، ودون أن يوضح لماذا. وكأنما نعيمه قد ترك لنا نحن، قارئي أعماله وقادري تراثه الجمالي والفكري، أن ننظر في ما تركَ، وأن نحاول من ثمة إعادة ترتيب بل تركيب عالم نعيمه الفلسفي. ذلك هو تحديداً حال الداخل إلى «همس الجفون» و«المراحل» و«مذكرات الأرقش»، وتحفته «مرداد»، و«اليوم الأخير» و«نجوى الغروب» وغيرها من إبداعات نعيمه والتي لا يخفى طابعها الفلسفي العميق على القارئ المُدرك للأبعاد الفلسفية الكامنة في ثنايا ذلك الأدب الجميل الذي قدمه أو رسمه نعيمه على نحو متناثر منذ بواكير إنتاجه الثقافي في العقد الثاني من القرن العشرين، وعلى نحو أكثر اكتمالاً في أعماله التي صدرت منذ أربعينيّات القرن ذاك.
في هذه التجارب الفلسفية الشخصية الحرّة يقع إسهام نعيمه الفلسفي، الأصيل والمبدع في آن معاً. التجربة النعيمية هذه هي أدبية فنيّة في أدواتها التعبيرية، وهي فلسفية بامتياز من حيث المضمون والفكر فيها. في الجانب التعبيري والأداتي استخدم نعيمه ما هو متاح من أدوات تعبير وإبلاغ، وبمقدار ما تحتاجه الفكرة لتظهر وتتبلور وتتطور إلى أقصى ما هي عليه من مكوّنات وإمكانيات، وبما يمكّنها من ناحية ثانية من الوصول السهل وربما الممتع أيضاً إلى القارئ، بل إلى أكبر عدد ممكن أو متاح من القرّاء. وهنا أيضاً موضع خلاف آخر بين نعيمه ومعه المدرسة الأدبية/الفلسفية وبين الفلاسفة المناطقة الصارمين وغير المعنيين- على حدّ زعمهم- بمسألة إيصال فكرة ما إلى القارئ والجمهور بعامة. أقول على حد زعمهم لأنّ هذه الدعاوى المزعومة مجرّدة وصارمة حتى منتهى التطرّف غالباً ما تحمل من الإيحاء ومن الإيديولوجيا بل ومن الهوى والميل ما يتناقض مع ما تزعمُه من نقاء فلسفي، وإحكام منطقي صرف.
ميخائيل نعيمه- حتى في تنسّكه صيفاً في الشخروب- كان بخلاف ذلك تماماً. لقد أظهر حرصاً واضحاً أن يكون خطابه الأدبي والفلسفي من ثمة خطاباً لقارئ، ولجمهور، بل لأوسع جمهور ممكن أو متاح. إلتزام نعيمه ذاك هو- إذا شئت- مظهر آخر لانتماء نعيمه لضفة الفلسفة بوضوح، أي الانتماء إلى فكرة، أو جملة أفكار، ثم الالتزام وعلى مدى عمره الأدبي المديد بإبلاغ أو إيصال الفكرة تلك، وجعلها خياراً متاحاً للقارئ، وعبر الوسائل والأدوات التعبيرية، وفي مقدّمها الفنون الأدبية والجمالية. لم يكنّ نعيمه في صف دعاة الفنّ للفن، أو نقاء الفن، ولا في صف أصحاب الفكر الجوّاني أو المنطقي الصّرف الخالص اللذين ينفيان عن الفلسفة والأفكار الفلسفية أية أدوار أو وظائف اجتماعية وإنسانية وتنويرية. نعيمه ليس في هذه الخانة أو تلك. هو ينتمي تحديداً إلى مدرسة ترى أن على الإنتاج المعرفي والثقافي برمّته- وبعضه الأدب والفلسفة- أن يكون له مضمون، وأن يكون فيه فكرة أو إشكالية أو تناول لمشكلة أو مشكلات، وأن يخدم في النهاية – بالمعنى المعرفي والأدبي لا النفعي المباشر- الإنسان، الغاية الأخيرة لكل معرفة وثقافة واجتماع بشري، والقضية الكبرى الجامعة، قضية تقدّم الإنسان، وتحرره، واكتشافه لوحدته الجوهرية وما يجمعه بكل إنسان آخر، ومساعدته من ثمة في إعادة اكتشاف وحدته تلك التي مزّقتها صراعات البشر ومصالحهم المادية، وحجبتها أقنعة مزّيفة بغير عدد. اكتشاف وحدة الإنسان الجوهرية تلك، عبر تحرره من كل ما يحجبها ويشوهها أو يعلق بها من أدران، يجري ترجمتها عند نعيمه في قضية واحدة، عنوان مشروعه الفلسفي: وهي كيفية تحقيق خلاص الإنسان كفرد، وخلاص الإنسانية كجنس ومجتمعات وحضارات بالتالي. تلك هي القضية الوحيدة الكبرى التي شغلت نعيمه دائماً وكانت المحور أو المضمون الأساسي لأعماله الأدبية كافة. هي المضمون الدائم بل الوحيد لأعماله الفنيّة الأدبية، وهي إلى ذلك نقطة البيكار في مشروعه الفلسفي، كما سنرى. فما هي المفاصل الأساسية في مشروع نعيمه الفلسفي؟
في مضمون كل مشروع فلسفي هناك مشكلة اجتماعية أو معرفية حقيقية، أي كبيرة إلى حد كافٍ، لتستحق الجهد المبذول في عرضها ونقاشها وتحليلها، وفي البحث عن حلّ لها، أو على الأقل التقدّم بها تحت ضوء أفضل وفهم أفضل، فتتجمّع وتتراكم في انتظار لحظة أخرى أو زمن آخر مستلزمات حلّها. ولا معنى في الواقع لبعض المزاعم الجوّانية الشكلانية أو المجرّدة التي لا ترى دوراً للتفلسف وللفلسفة في البحث عن حلول لمشكلات البشر المختلفة. وحقيقة الأمر أن الفلسفة نفسها، وبخلاف زعمهم ذاك، إنما نشأت تاريخياً من أولى محاولات الإنسان للعثور على حلول لمشكلاته الواقعية، ثم تطورت باعتبارها أرقى المحاولات العلمية والفكرية تلك وأكثرها منهجية في تصديه لمشكلاته الكثيرة حتى اليومي منها.


بعد استبعادنا للتعريف الشكلاني الصّرف باعتباره أحد تعريفات الفلسفة وليس تعريفها الوحيد، في وسعنا استذكار تعريفات عدة أخرى، بدءاً ممّا تعنيه ألفاظها في اليونانية أي «الحكمة»، إلى تعريف وليم جايمس أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى تعريف برتراند راصل أواسط القرن العشرين. إذا كانت الفلسفة هي محبة الحكمة، وفق أوّل تعريف يوناني، أو هي علم القوانين الكلّية والشمولية، حسب أرسطو، فنعيمه في الحالين فيلسوف بامتياز. فكل ما خطّه قلمه يندرج بعمق في خانة الحكمة ومن النوع المبرّر العميق الأثر. وإلى ذلك فنعيمه انتهى من أعماله إلى تصور شامل للقوانين الأكثر عمومية وشمولية والتي تحكم حركة أجزاء هذا الكون. وبحسب وليم جايمس، يقول:» لقد غدا اسم الفلسفة بعد أن انحصر مجالها نتيجة لتنحية العلوم الخاصة، أدلّ على أفكار لها نطاق عام فحسب، فأصبحت المبادئ التي تفسّر الأشياء جميعاً دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والبشر والحيوانات والأحجار، وأول تساؤل عن بداية الكون وآخر استفسار عن نهايته، وشروط معرفة الأشياء كلها، وأعمّ قواعد الفعل الإنساني. أصبحت هذه المسائل تزودنا بالمشكلات التي توصف بأنها مشكلات فلسفية في الحقيقة. والفيلسوف هو الشخص الذي في جعبته الكثير ليقول بصددها» ( Problems of philosophy,p.5). وبحسب برتراند راصل، فإن الفلسفة، وبعدما خرجت منها تباعاً التخصصات المعرفية المادية والكمية الدقيقة، فقد باتت تعني المقاربة التحليلية، النقدية، الموضوعية، لمشكلة ما وبما يقود إلى فهم شمولي أفضل لأبعاد المشكلة تلك من جهة، ولتوسعة قدرات العقل الإنساني من جهة ثانية وعلى نحو يساعده في اتخاذ مواقف عملية من المشكلات تلك. استناداً إلى هذه التعريفات وكثير مما يشبها، يمكن لقارئ نعيمه المدقق أن يستنتج وبكثير من الثقة والموضوعية أن إسهام نعيمه الفكري ينتمي تحديداً إلى تعريفات الفلسفة هذه، من حيث محبة الحكمة، والبحث عن قوانين تفسير عامة، ومن حيث طبيعة المشكلات التي ناقشها بل انكبّ عليها طوال عمره الأدبي، كما باعتبارها مقاربة تحليلية نقدية موضوعية لمشكلات محددة وبهدف اتخاذ أو تطوير موقف أو مواقف من المشكلات تلك. هنا يقع تحديداً إسهام نعيمه الموسوم بالفن والأدب والذي كان يقارب فيه ومن خلاله وعلى الدوام مشكلات حقيقية تسمى الآن فلسفية، وعلى نحو تحليلي نقدي وموضوعي، ولينتهي به المطاف إلى تطوير مواقف فكرية وفلسفية متماسكة، في وسعي الزعم وكما كان رأيي دائماً أنها تشكل نظرية أو منظومة فلسفية عامة وشاملة. ومع ذلك فإن رغب البعض في نفي حد النظرية الشاملة عن إسهام نعيمه الفلسفي، والاكتفاء بدلاً من ذلك باعتبار أفكاره مواقف تذهب في اتجاه فكري واضح، فلا ضير في ذلك إطلاقاً ولا يغيّر في النتيجة شيئاً- إذ إن بلوغ النظرية الفلسفية المتماسكة لم يعد اليوم حدّاً إلزامياً أو شرطاً في تعريف فعل التفلسف والفلسفة، ويبقى نعيمه حتى مع هذا الاستدراك كاتباً فلسفياً بامتياز على مستوى المشكلات التي عالجها والنتائج التي بلغها، بل وفي الطرائق المتعدِّدة التي قارب بها مشكلاته وموضوعاته.
المشكلة أو المشكلات المحرّكة لتفكير نعيمه، ولإسهامه الفلسفي من ثمة، هي المشكلات الواقعية التي ما انفك يعانيها الإنسان (كفرد وكنوع) في كل مكان وزمان وصولاً إلى زمن نعيمه غير البعيد عن زمننا ومكاننا الحاليين. عبّر نعيمه عن وعي أوّلي بالمشكلات هذه بدءاً من أولى أعماله (مسرحية الآباء والبنون سنة 1916)، ثم في «همس الجفون»، و«المراحل» وسواهما، ولينتهي من ثمة إلى وعي واضح مكتمل تقريباً تبدّى في أعماله المهمة المتقاربة زمنياً «البيادر» 1945 و «الأوثان» 1946، «مذكّرات الأرقش» 1949، والتي اكتملت كليّاً في «مرداد» الصادر بالإنجليزية سنة 1948 ثم بالعربية سنة 1952. عند هذه النقطة، أي بين أواسط الأربعينيّات ومطلع الخمسينيّات، كان البناء الفلسفي النعيمي قد اكتمل تماماً – أقول اكتمل لمن أراد أن يبصره خلف أو في ثنايا الأدب أو الفن الجميل الذي كان بمثابة القميص أو الجسد له. أمّا أعمال نعيمه المهمة التي تلت ( وبعضها «اليوم الأخير» سنة 1963، و«يا إبن آدم» سنة 1969، «نجوى الغروب» 1973 و«من وحي المسيح» 1974 ) فقد كانت تشرح، أو تتوسع، أو تقارب من زوايا جديدة، الأساس الفلسفي المتين الواضح المتماسك الذي كان قد اكتمل تقريباً مع «مرداد». وفي أهمية بل مفصلية المرحلة هذه أنقل عن نعيمه نفسه قوله لمجلة المجالس البيروتية في عددها الصادر بتاريخ 5/8/1955: « لقد أنفقت حتى اليوم أكثر من عشرين سنة من حياتي وأنا اشرح للناس الخطوات التي خطوتها قبل أن أصل إلى الفكرة التي تسيطر الآن على كل ما أكتب «! كان في وسع محاضرتي أن تكتفي بهذا النص الذي يظهر وعي نعيمه الكامل لما أنجزه أو كان في صدد إنجازه، وفي طبيعة «الفكرة» التي باتت مهيمنة على كل ما يكتب، ووعيه الدقيق لماهية مشروعه، وهل الفلسفة غير ذلك! ومع ذلك، فنحن لا نكتفي بالنص هذا، بل نستمر في الطريقة التي رسمناها في بيان أن نعيمه فيلسوف ومن النوع الأصيل، ثم في بيان طبيعة بنيانه أو على الأقل مشروعه الفلسفي. إذا كان كل مشروع فلسفي هو في النهاية تناولٌ أو مقاربة لمشكلة، فالمشكلة التي يقاربها إسهام نعيمه الفلسفي هي مشكلة الإنسان والإنسانية، في كل مكان وزمان، وفي زمن نعيمه على وجه التخصيص. يقدّم نعيمه مشكلات الإنسان تلك من خلال الصور الأدبية والفنية، شعراً أو نثراً، رواية أو مسرحاً أو شذرات أدبية، كما يقدّمها أحياناً (كما في «الأوثان») في صيغ نثرية تقارب حتى في الشكل لغة الفلسفة. واختيار نعيمه للصورة الأدبية مادة تعبيرية اختيار ليس بالسهل أو بالعارض، بل يعرف المشتغل بالأدب كما القارئ مدى قوّته ونفوذه. ولهذا كان اختيار نعيمه، أو فوق اختياره ربما، أن تكون الصور عنده مجبولة بالأفكار، وأن تكون الأفكار بدورها مصنوعة من صور، ولا يخفى ما في التلازم ذاك من كسب للأدب والفلسفة على حد سواء. قدّم نعيمه في عشرات الصور الأدبية والفنية معاناة الإنسان، الفرد، والمتجسدة في مظاهر الكراهية والتنازع والمعاناة والتمزّق والاغتراب والصداع وصولاً إلى الجنون؛ ومعاناة الإنسان، كجماعة وحضارة، في أشكال الصراعات والحروب والأزمات من كل نوع والناشبة أظفارها بين طبقات المجتمع الواحد أو ما بين المجتمعات والأمم والثقافات المختلفة – وذروتها المآسي التي جلبتها حروب القرن العشرين والتي حصدت ما يقارب المئة مليون قتيل، ناهيك عن الجرحى والمعوّقين والأرامل والأيتام، إلى الخسائر المادية التي تتجاوز كل وصف – وللعلم فقط فقد أُرسل نعيمه جنديَّاً إلى فرنسا وكانت الحرب العامة الأولى قد أشرفت على نهايتها. أبدع نعيمه في تصويره الأدبي والفني الجمالي – وتلك هي قوة الأدب- للمشكلات التي قوّضت استقرار الأفراد وفرص طمأنينتهم وسعادتهم، كما قوّضت بالقوة نفسها استقرار المجتمعات وفرص تطورها الصحيح. يقول نعيمه في «دروب»: «هذه الجريدة والآلاف منها في العالم، تنقل في كل يوم إلى الناس أخبار الناس…أحلاف عسكرية، قنابل جهنمية، سعايات ونكايات، عربدات ودعايات، تهويش وتهديد، تبجّح ووعيد، جرائم بالقناطير، وكذب بغيركيل أوميزان» (ص166). ويقول في «نجوى الغروب»:«لست غير واحد من ملايين أبناء الأرض، يمزّقني القلق والخوف من سوء المصير. ففي كل يوم، بل في كل ساعة، تتواثب عليّ مشكلاتي ومشكلات الناس، من أفواه الناس، ومن أعمدة الصحف، ومن المذياع، وشاشة التلفزيون، ومن أرصفة المدن، وشعاب الدساكر. فينبري العقل لحلّها، إلّا أنه لا يحلّ واحدة منها – أو يظن أنه حلّها – حتى يخلق اثنتين.
فمن شأن المشكلات أن تلد المشكلات، والمشكلات لا تلد إلّا التوائم، بل أكثر من توائم، وهكذا أعيش ويعيش الناس في دوّامة رهيبة « (ص31-32). ثم ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أشبه كوارث بورصة «مادوف» سنة 2009 بما عاينه نعيمه شخصياً في أزمة سنتي 29-30 في نيويورك، وليكتب فيها بعيد عودته منها سنة 1932 يقول:» تركت نيويورك وفي أذني ولولة الإنسانية بأسرها. ولولة تكاد تحسبها حشرجة الموت. ولولة لا تسمع منها إلاّ كلمة واحدة: الأزمة، الأزمة، الأزمة!» (زاد المعاد، ص36). لكنها ليست أزمة هذا الفرد أوذاك، هذا المجتمع أو ذاك، بل أزمة مدنية برمّتها، حسب نعيمه، لكأنّما الأزمات وعدم الاستقرار ومعاناة الشر معها هي هوّيتها الحقيقية خلف ما تظهر من ألوان وأشكال وإغراء. يقول نعيمه: «مدنيّتنا تجرّ خلفها أثقالاً باهظة من الآثام والموبقات، وتحمل في قلبها من الضغائن والأحقاد ما لو دفن في جوف طود لحوّله إلى بركان، وصراخ الدماء المهدورة وعويل المشردّين والمقعدين والمشوهين ونوح الأيتام والأرامل والثكالى في مسامعها ليل نهار. إنّه لَعبء ثقيلٌ، ثقيل، ثقيل» (صوت العالم، ص178). أكتفي بهذه النصوص تختصر آلافاً من الوقائع العملية والحيّة الممسكة بإنسان المدنية التي نعيشها منذ فترة ومضمونها الجامع واحد كما رسم نعيمه: الأزمة، ثم الأزمة، ثم الأزمة، في كل مجال، وفي كل اتجاه. وهي مدنية ستنهار يوماً ما برأي نعيمه، يقول: «ستنهار هذه المدنية وسيكون لانهيارها دويٌ مروّع» (نفسه، ص182).
نحن يا أبتي عسكر قد تاه في قفر سحيق
نرغبُ العودَ ولا نذكر من أين الطريق!
إذا كان حال الإنسان ومدنياته، بكل أبعادها، هي كذلك، فلا يستطيع بالتالي الأديب والفنان والمفكّر والمثقف، أو حتى الإنسان العادي الذي يمتلك الحد الأدنى من الشعور بإنسانيته، والحد الأدنى من الشعور بواجبه الأخلاقي، إلّا أن يقف مع ذاته للحظات على الأقل فيتساءل، ماذا بعد؟ إلى أين؟ هل نبقى صامتين في انتظار كوارث أعظم؟ ثم ما العمل للخلاص من ذلك كلّه؟ هي ذي المشكلة الأم أو الأصل التي حرّكت مشاعر نعيمه وتفكيره، والتي ردّ عليها في مشروع أدبي/ جمالي/ فلسفي لن تجد كلمة تصفه حق الوصف أفضل من القول إنّه مشروع نعيمه لخلاص الإنسان والإنسانية. محاور هذا المشروع وتفاصيله هي التي تشكّل البنيان الفلسفي النعيمي والذي لا يقصر شبراً واحداً عن أعلى الصروح الفلسفية الأخرى المكتملة النصاب والقوام والمشروعية.
لن أثقل على اسماعكم بتفاصيل مشروع نعيمه الفلسفي، فالأمر يستغرق وقتاً طويلاً وقد وقفت له مئات الصفحات في غير كتاب ومقالة ومحاضرة. ولكن في وسعي باختصار شديد أن أشير إلى المفاتيح والمحاور الرئيسة في بنيان نعيمه الفلسفي أو منظومته الفلسفية.
يبدأ مشروع نعيمه الفلسفي من رحم الرفض الإنساني اليومي والأخلاقي لواقع البشر المأزوم في كل جانب، وللخداع الذي ما انفكوا عرضة له باسم عشرات العناوين، والتفكير من ثمة في طريق تخرجنا من هذه المتاهة القاتلة. لكن الرفض هذا الذي يجعلنا نمسك بأوّل طريق الخلاص لن يكون ممكناً أو مُتاحاً لنا إذا استمرّينا لا نفكّر إلاّ بالطرائق الخادعة التي علمتنا إياها مدنية الأزمات التي نشكو منها، ولا نتعامل إلّا بالأدوات السامة التي أورثتنا إياها المدنية تلك. بكلام آخر، كيف نخرج من مدنية مادية نشكو منها ونحن لا نفكّر إلاّ بالطرائق التي تريدنا أن نفكّر بها، ولا نتعامل إلاّ بأدواتها ووسائلها؟ يجب إذاً، برأي نعيمه، إذا أردنا حقاً الخروج من متاهة الأزمات تلك أن نفكّر بطرائق أخرى، وأن نمتلك ونستخدم أدوات ووسائل عمل وسلوك أخرى؟
الطريق إلى البديل النعيمي هي المعرفة، وذروتها الوعي، وبعض ثمارها الحرية المفضية إلى أول الخلاص. المعرفة أو الوعي الحقيقي بالمعيار النعيمي تتبدّى عند مستوى معيّن في تجاوز ظاهر العالم كما يبدو من الخارج أو على السطح، إلى العالم كما هو حقاً تحت السطح الخادع، من الخارج والداخل معاً. العالم في صورته الأولية الخادعة عالم فردي، ثنائي، ومادي- وكمّا يتبدّى لطفل بدأ للتو رحلة اكتشافاته. ولأنّه كذلك فوعينا اليومي القائم على مثل هذا العالم وعي جزئي، قاصر، وعي شقِيّ منقسم، كما كان يقول هيجل. ولهذا تحديداً لا ينتج العالم ذاك إلّا الشقاء والآلام، يقول نعيمه في «المراحل»: «وهكذا يلتقط الإنسان العافية ومعها المرض، الحب ومعه البغض، الإيمان ومعه الإلحاد، القوة ومعها الضعف، الراحة ومعها التعب، الوفرة ومعها القلة، الفرح ومعه الحزن، الطمأنينة ومعها الخوف، الأمل ومعه اليأس، المعرفة ومعها الجهل، والنور ومعه الظلمة» (ص 134-135). ولأن الخلاص من المعلولات لا يكون إلاّ بالخلاص أولاً من العلل، يتوجب بالتالي البحث عن وعي مختلف بعالم مختلف لا يكون مادياً، أو ثنائياً، أو فردياً حتى درجة الأنانية القاتلة.
يجب إذاً تجاوز ظاهر العالم نحو حقيقته. ولا يكون ذلك إلاّ إذا مزّقنا القُمُط والحُجُبَ التي تخدع أبصار البشر، وتخلّصنا من القيود التي تثقل على وعينا وحريتنا وإرادتنا الخيّرة. إذا تجرّانا وفعلنا ذلك، وإذا تمكّنا من ذلك حقاً، لرأينا العالم على حقيقته، غير الظاهر الخادع الذي يعمي أبصارنا. العالم في حقيقته، إذا تمكنا من اكتشافه، ليس عالماً فرديّاً، تبدو الأنا فيه مطلقة نافية لكل ما سواها وقاتلة بالتالي. العالم في حقيقته هو عالم وحدة شاملة، لا وجود فيه لأنا فردية أنانية مطلقة وقاتلة. هذه الوحدة هي السمة الحقيقيّة للأشياء كافة، وللبشر أيضاً. يقول نعيمه في سبعون:« إذا شربتم قطرة من الماء فإنكم شربتم البحار كلّها». أو قوله في مرداد:» إن الكون جسد واحد»، أو قوله في مرداد أيضاً:« أذكروا أن الكلمة واحدة،…. وكمقاطع في الكلمة لستم غير واحد، إذ ليس من مقطع أنبل من مقطع آخر».
ومع بطلان الفردية تبطل الثنائية المتحكمة بكل شيء في ظاهر العالم والكون. يبطل العالم أسود أو أبيض، عقلاً أو جسداً، روحاً أو مادة …..إلى آخر السلسلة. أما الحقيقة فغير ذلك تماماً. العالم ليس ثنائيات ومتناقضات سرمدية: داخل/خارج، أنا/ألله، العالم/ألله، خيراً/شراً، إلخ. هذه الحدود والسدود والسياجات هي من نسجنا نحن نضعها لنشطر العالم أقساماً وأنصافاً وأجزاء وأفراداً. أمّا في الحقيقة فإنَّ «الذي داخل السياج والذي خارجه توأمان لا ينفصلان»(مرداد ص68). وإلى أن يكتشف الإنسان وحدته الجوهرية مع كل إنسان آخر، بل مع كل كائن آخر، فسيبقى ممزقاً ومعلّقاً على صليب آلامه ومعاناته. يقول نعيمه في «المراحل»: «في فجر الزمان الأول ولد للعالم ولد. ودعي الولد إنساناً. وكان الإنسان جميلاً وكاملاً، وكان واحداً مع العالم إلى أن سأله العالم مرةً: من أنت؟ فأجاب: أنا – أنا. فسأله العالم: ومن أنا؟ فقال: أنت العالم. حينئذ خلق الإنسان الشقاء لأنّه شطر نفسه شِطرين فدعا الواحد أنا، والآخر العالم» (ص131).
وإذ يكتشف الإنسان وهم القسمة بينه وبين العالم، تنهارمعها كل قسمة تبعد الإنسان عن الحقيقة، وتنهار أيضاً مزاعم الحظ العاثر، والقدر الغاشم، ومعها مظاهر التباغض والتنابذ والتحاسد بين البشر، وهم لو بلغوا الحقيقة لقالوا مع نعيمه في «همس الجفون»:
ذمّك الأيام لا ينفعُك،
إنما الأيامُ لا تسمعك،
هي منك الظلُ يا صاحبي،
عجباً ظلُّك كم يخدعك! (ص 82)
لكن نعيمه لا يتوقف عند المستوى العملي أو الأخلاقي فحسب، بل يتقدم أكثر باتجاه الأساس الأونطولوجي للوجود نفسه، أي للوجود الشامل والكينونة، وهي لبنة فلسفية إضافية في منظومة نعيمه الفلسفية. فحين تبطل من العالم في حقيقته الأنا الفردية وكل قسمة ثنائية، بل لكي يبطل كلاهما حقاً يجب أن يبطل معهما أيضاً وهم المادي كصنو أو أساس للحياة، أي المادة بمعناها الحسّي المباشر والمطلق. لنعيمه: «المادة وهم، هي من الروح ولا وجود لها إلّا بالروح» (يا إبن آدم، ص48). وبالمقابل فالروح هو الحقيقة الداخلية للكون: «الروح هو الحقيقة الأزلية الأبدية» (نفسه، ص48). وإذا أصرّ البعض على واقعية المادة كما هي أمامنا، فلا ضير في ذلك، لكنه لا يغيّر في المبدأ عند نعيمه، يقول: «يتكثّف الروح فيغدو مادة». ويبقى السؤال: ولكن أليس هناك محسوسات؟ نعيمه يجيب: بلى، لكنها عارضة ونسبية. هي موجودة في مستوى ما، على نحو ما، ولوعي ما، لكنه وجود عارض وليس جوهرياً، أو بلغة نعيمه «فقاقيع على وجه محيط اللاّمحسوس» (نفسه ص81). يجب عدم أخذ كلام نعيمه على نحو تصويري فحسب، بل هو يقدم في غير مؤلّف له تفسيراً علمياً حديثاً بل معاصراً في انتفاء حقيقة ما ندعوه توهماً مادة حسية صلبة متماسكة، بينما هي في حقيقتها «طاقة»، أو شكل من أشكال الوعي، أو الروح، أو العقل لا فرق. وهذا تفسير يعود إلى هيراقليطس، وتجده في الفلسفات الهندية، كما أنه تحديداً تفسير هيجل، ناهيك عن أنه تفسير علمي حديث ومعاصر.
لن أثقل عليكم أكثر بهذه التفاصيل الفلسفية النعيمية، لكني أنتهي إلى القول إنّ تركيب ما رأيناه ورأيتموه عند نعيمه، ما ينفيه وما يدلل عليه، يشكّل منظومة فلسفية أطلقتُ عليها اسم الأحادية الروحانية الشاملة. لكن المثير في الموضوع أنك ربما تجد بعض أشكال هذه الأحادية في فلسفات ومعتقدات سبقت، لكنها كانت دائماً أحديات سكونية ستاتيكية. أمّا ما تفرّد به نعيمه فهو ربطه، بل إحكامه الربط، بين الأحادية وحركة الكون الجدلية أو الديالكتيكية، وجعله هذا الجدل أو على الأقل هذه الحركة المتداخلة الصاعدة جزءاً داخلياً من الأحادية الكونية ومكوّناً جوهرياً من مكوناتها. وهو ما جعلني أصنّف تلك الفلسفة باعتبارها: فلسفة مثالية- جدلية، واقعية، متعددة الأصول. وأعود عرضاً إلى سؤال المحاضرة الأول، فأقول، تكراراً، أن نعيمه لم ينجز فقط مشروعاً فلسفياً، بل كان كذلك ومنذ الأربعينيّات على الأقل مُدركاً بدقة لماهية ما ينجزه من عمل فلسفي، إلاّ أنه وعلى طريقة الزهاد والنسّاك، ونعيمه واحد منهم، لم يكن مهتمّاً جداً لا بالعناوين والأسماء الكبرى، ولا بحشر نفسه في اللائحة تلك. يقول نعيمه في لقاء صحافي أعاد نشره في كتابه «أحاديث مع الصحافة»: «… هذه الفلسفة (عندي) تبرز واضحة في أكثر من مقال أو كتاب وضعتهُ، وعلى الأخص في كتاب «مرداد»… فهناك أتكلم عن الإنسان كما لوكان إلها طفلاً ولكنه يملك جميع أسرار الألوهية وهو في سبيله لاكتشافها سرّاً سرّا… إلى أن تتحقق جميع أشواقه إلى المعرفة…. معرفة الله في ذاته، وحرية الله في ذاته».
هذا بعض ما يمكن قوله باختصار في «نعيمه فيلسوفاً»، وعلى سبيل الإجمال أنتهي الى القول وعلى مستوى العناوين إن فلسفة نعيمه الكونية تمتاز من حيث المضمون بما يلي:
1- الطاقة أو الوعي أو العقل هو جوهر العالم وطبيعته الأساسية،
2- الحياة – والطبيعة – هي لامادية في الحقيقة، والمادة ليست غير ظاهر الوعي أو تكثّفاته.
3- فلسفة نعيمه مثالية، أحادية، شمولية، في تجاوزها للمباشر والجزئي والفردي، من دون نفي وجودهم.
4- رغم الطابع النظري، فلسفة نعيمة أخلاقية، أي هي أفكار للعمل بها أو في ضوئها.
لكن المبادئ الفلسفية هذه وإن بدت مطلقة شمولية فهي لا تستبعد المباشر والجزئي واليومي والحسّي. هذه كلها موجودة، بل هي البدايات الضرورية التي لا بد أن نبدأ بها- وهنا تبدو واقعية نعيمه. لكن الأكثر أهمية هو أن لا نبقى في مستوى الظاهر هذا بل أن نتجاوزه إلى ما هو أكثر حقيقة منه. وإلى ذلك، فالكون ليس مجموع أجزاء عارضة مبعثرة ساكنة تأخذ مكانها وقيمتها على نحو أبدي وسرمدي. هو بالعكس كلٌ جوهري عضوي، متماسك، ترتبط مكوّناته بعلاقة حركية صاعدة، في وسع البعض أن يقول إنها حركة جدلية صاعدة، وفي وسع بعض آخر أن يقول إنها حركة متغيّرة صاعدة وليست بالضرورة جدلية. ويجوز الأمران.


وأنهي بالجانب الأخلاقي، وهو ركن أساسي في فلسفة نعيمه. ففلسفة نعيمه ليست نظرية فحسب، بل أخلاقية كذلك. فنعيمه يترجم المبادئ أعلاه برنامجاً عملياً جديداً ومختلفاً. هو يبدأ كما فِعْلُ التفلسف بالدهشة، ويتطور بالحدس كما لدى المتصوفة، وينتهي إلى الإيمان وكما الإيمان الديني الحقيقي المبصر. وهذه – لمن يرغب – ملامح واقعية أخرى عند نعيمه تخفف من غلواء المثالية التي ربما اتسم بها نظامه الفلسفي. وهو ما يسمح بالقول مرّة ثانية بمثالية-واقعية عند نعيمه، مختلفة عن المثاليات الطوباوية من جهة، وعن الواقعيات المادية الفجّة من جهة ثانية. وأخلاق نعيمه التطبيقية هي مجال عملي لترجمة أو تجسيد تلك المثالية الواقعية. فحين أتمكن من الوصول إلى الوعي الحقيقي أي إلى المعرفة الشاملة أتحرّر من جهلي وأتحرر من أناي الفردية وتسقط الحجب الخادعة، وتنهار الجواجز التي كانت تفصل بيني وبين البشر الآخرين، بل وكل جزء من الكون الواسع الأرجاء. تلك هي مفاتيح الخلاص – المُفضية إذا أردنا- إلى الحقيقة والوعي والحرية والسعادة بمعناها الرفيع الدائم، بل وإلى لحظات قصيرة أو طويلة من الأبدية نفسها. ننتهي مع نص من نعيمه، يقول:
يا إبن آدم!
حيث الموت بالمرصاد
لكل ما يولد وينمو،
ولكل ما تصنعه يداك،
وتضحكُ أو تدمعُ له عيناك،
جدير بك أن تفتّش عمّا لا يموت،
حتى إذا اهتديت إليه،
تمسكتَ بهِ،
تمسُّك الغريق بخشبة النجاة…
يا إبن آدم،
الحياة لا تموت،
الضمير لا يموت،
الإيمان لا يموت،
والذات التي هي أنت لا تموت
حتّى وإن ذابت في النهاية
في ذات أمك الحياة،
ففي ذوبانها حياتها!
(يا إبن آدم، ص 199- 200)
(أجزاء من محاضرة أُلقيت في موسكو في تشرين ثاني 2019 في الذكرى 130 لمولد ميخائيل نعيمه)