يتنازع قرّاء الكُثُر – والحمدلله – اتّجاهان حيال المواد التي تنشرها المجلّة، وهم لا يترددون في التعبير عنهما بغير طريقة وشكل، ونحن لا نتردد أيضاً في أخذ الملاحظات تلك بكل الجدّية والاهتمام المطلوبَيْن، وكما يفترض أن تفعل كل مطبوعة ثقافية تعنى باتجاهات قرائها.
الاتجاه الأول يطلب المزيد من المواد التراثية، وبخاصة في المجال التاريخي – تاريخ أبرز الرجال المعروفيين الذين رفدوا التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث على نحو ساطع. فمن دخول الأمراء التنوخيين القدس لتحريرها من الاحتلال الصليبي برفقة صلاح الدين الأيوبي، إلى إسهامات الشخصيات المعروفية الحاسمة في التصدي للغزو الغربي للشرق، وتبرز هنا حملة الأمير شكيب أرسلان في التصدي للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 جنباً إلى جنب مجاهدين آخرين. كذلك الإسهام المباشر في الثورة العربية الكبرى لاستعادة حق العرب التاريخي في إقامة كيان عربي مستقل، ثورة الشريف حسين، شريف مكة والحجاز، وأن يكون أحد أبرز قادتهم التاريخيين، سلطان باشا الأطرش، أول من دخل على صهوة جواده دمشق لإجلاء بقايا جمال باشا السفّاح وتركته عنها سنة 1918. وكذا إسهامهم المباشر في المحاولات اليائسة التي بذلها رجال العرب التاريخيين لمنع سقوط دولتهم الوليدة على يدي الفرنسيين سنة 1920، فكانت مشاركتهم المباشرة في معركة ميسلون، فأصيب منهم من أصيب – ولا أدري إذا كان من ضحايا أيضاً. ولم يطل الأمر حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش واستمرت نحو ثلاث سنوات كبّد فيها مجاهدو بني معروف على قلّة عددهم الفرنسيين الهزيمة تلو الهزيمة، ولم تنته الثورة سنة 1927 إلا باتفاق، بل بمؤامرة فرنسية إنجليزية أطبقت على مناطق الدروز. وليس أدلّ على الموقف المعروفي الواحد، في سوريا ولبنان، من ملاحظة العدد الكبير من دروز لبنان الذين شاركوا في العمليات الحربية وعدد الضحايا الكبير الذي قدموه في رفد الثورة – إذ تكاد لا تخلو بلدة في وادي التيم وجبل لبنان الجنوبي من شهيد أو أكثر سقطوا في العمليات العسكرية بين سنتي 1925-1927، وبخاصة من منطقة حاصبيا – راشيا، حيث أعداد الشهداء العالية (وفي العدد ثبت دقيق بشهداء وادي التيم في مواجهات الثورة مباشرة أو عمليات ضد الفرنسيين متصلة بالثورة). ومن تاريخهم الحديث، أيضاً، تصديهم للاحتلال الصهيوني عبر المشاركة المباشرة في الانتفاضات الفلسطينة المتعاقبة (وخصوصاً ثورة 1936) إلى الانخراط أخيراً في حملة “جيش الانقاذ” البائسة التي قادها المجاهد فوزي القاوقجي، والتي حاصرتها الخيانات من كل اتجاه. وفي التاريخ الحديث أيضاً تصديهم للانحراف الذي حدث في الخمسينيات في لبنان وانخراطه في محور إقليمي اعتبر معادياً لعبد الناصر ولحركة القومية العربية ما أوصل إلى ثورة 1958 التصحيحية. ثم تصديهم طوال سنوات 1973 و1975-76 وصولاً إلى سنة 1982 للمحاولات الإسرائيلية والأمريكية /الأطلسية التي هدفت إلى محو القضية الفلسطينية بالقوة من معادلات الشرق الأوسط.
وقاد التصدي البطولي ذاك وبكل شجاعة واقتدار المغفور له كمال جنبلاط، ثم القيادة الدرزية الموحّدة التي تشكلت غداة الغزو الإسرائيلي والتي تكونت من المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا ووليد جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان. قدّم دروز لبنان في المعارك الأخيرة وحدها مئات الشهداء بالإضافة الى عشرات الجرحى والمعوقين، لا يزال معظمهم بيننا اليوم مكرّمين معززين وشهوداً أيضاً على حجم التضحيات التي بذلت في سبيل القضية الوطنية والعربية. هذا في الجانب الجهادي والنضالي فقط، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إسهامات المفكرين والأدباء والفنانين والتراجمة المعروفيين في النهضة العربية الحديثة، وفي نهضة أقطار المشرق العربي قاطبة، من اليمن إلى العربية السعودية، فلبنان وسوريا، وهم بالعشرات، ومن واجب البديهي التعريف المستمر بهم وبعظيم إنجازاتهم.
هذا اتجاه أول، يمكن تسميته بالاتجاه التراثي، يُسعَد لكل فقرة تتضمنها تتصل بالتراث أو بتضحيات المعروفيين في كل اتجاه.
في مقابل هذا الاتجاه، يقوم اتجاه ثان بين قرّاء ، ما انفكوا يعبّرون عنه بأكثر من طريقة، ويمكن تسميته بالاتجاه الحداثي، أو الحداثوي.
أصحاب هذا الاتجاه الحداثي – ولنوضح موقفهم بدقة – هم مع استمرار في إبراز الجوانب التراثية في تاريخ بين معروف، وهم يقولون أنها ستبقى مفخرة بني معروف الفذّة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، إلا أن هؤلاء – وهم من طبقات وشرائح اجتماعية وثقافية عدة –يرون أن لا تولي الشباب المعروفي الطالع المقدار الضروري من الأهمية – إلا نادراً. هي لا تخاطبهم مباشرة، لا تفسح في المجال ليعبروا بأنفسهم عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، من تقدم المعارف والعلوم والتقنيات التي تلقى هوى عند الشباب ويعنيهم أن يتابعوا تطوراتها، إلى مشكلاتهم الكثيرة: من البطالة وفقدان فرص العمل، والكلفة العالية للتعليم، وغياب معظم مؤسسات التعليم العالي الرسمية عن مناطقهم، والطبابة الرسمية الغائبة عن مناطق الجبل، وكذلك ندرة المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية عن مناطقهم، إلى الحصار الإعلامي الذي تتعرض له مناطقهم وفقدانهم أمكنة التعبير عن أرائهم أو نتاجهم الثقافي، إلى أزمة الشباب المغترب وانشطار الوعي لديه، وعجزه عن التعبير عن أزمته، ومشكلات كثيرة أخرى. بعض أصحاب هذا الاتجاه، وبينهم رجال دين أجلاّء، عبّروا بشكل صريح عن هذا الرأي بالقول: كيف لي أن أجعل أولادي يقرأون وهي في عالم بينما أولادنا في عالم آخر مختلف؟
تلك بعض “ألطف” الانتقادات التي وردتنا، إذ عبّر آخرون في هذا الاتجاه عن منحى حداثي أكثر جذرية ونقدانية.
لا تستطيع إلاّ أن تصغي بانتباه شديد للرأيين أعلاه. ومن باب احترامها لقرائها، تُوسِع في مضمونها مكاناً للاتجاهين معاً. ومن غير الضروري افتعال التناقض بين الاتجاه التراثي والاتجاه الحداثي بين قرّاء وعلى صفحاتها. فالمساحة المخصصة للتراث في يجب أن تبقى، لما فيه من تذكير بالتقليد المعروفي العريق، ومن حضّ على التمسك بالقيم الموروثة الأصيلة. وكذلك، يجب أن تتسع المساحة التي تتيحها للمشكلات التي باتت تواجه مجتمعاتنا لأسباب عدة، كما للهواجس التي تشغل بال شبابنا وأجيالنا الناشئة، وهي كثيرة أيضاً. وثالث التجديدات الحداثية فتحُ آفاقٍ ثقافية جديدة لتطلّ منها إبداعات مبدعينا، فنانين وكتّاباً، رجالاً ونساء، من باب التعريف والتكريم من جهة، وتشجيع الميل للإبداع لدى شبابنا وشاباتنا من جهة ثانية. وفي كل الحالات، هي ، كما أرادها المؤسسون العظام في طائفة الموحدين الدروز، قبل خمسين سنة ونيّف؛ ومستمرة كذلك مع سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، وصحبه في مجلس أمناء المجلة وفي المجلس المذهبي.
والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا