الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ابو الذر الغفاري

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

أبو ذرّ الغفاري

صاحــــب الرســــول أميــــر الفقــــراء

عاش وحيداً ومات وحيداً على قارعة الطريق

بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار،فردّها إليه
وقال: «أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني؟»

شكا معاوية إلى الخليفة «إفساد أبو ذرّ للناس»
فأًمره بترك الشام ونُفيَ إلى قرية قرب المدينة

بكت زوجته إذ لم تجد في البيت ما تكفنه به
فبشّرها أن رهطاً في الطريق إليه سيقوم بذلك

«ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقاً».
أبو ذرّ الغفاري

إذا كان عمر بن الخطاب نموذجاً للعدل في الإسلام فإن الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري هو نموذج النقاء والطهر الإيماني وقد قيض الله تعالى أن يكون أبو ذرّ العلامة الفارقة في صدرالإسلام لأنه بين جمهور الصحابة الذين قامت على عاتقهم الدعوة ثم الفتوحات وبناء الدولة، كان من الذين أدركوا ما خشيه الرسول وهو أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى دولة ذات مال وثراء قد يحمل معه خسارة الكثير من جوهر الدعوة ومبادئها الأصلية وينعكس بالتالي بالنكوص عن الكثير من مبادئ الإسلام ولاسيما في العدل بين الرعية والتقوى والتزام الأوامر والنواهي. وكان نقاء سريرة أبي ذرّ الغفاري أمراً مشهوراً وكانت شدته في الحق وصدقه في المنافحة عن الدين وإدانة المهادنة والتساهل في قبول مظاهر الفساد أو الظلم التي تولدت عن فتح الأمصار والإنتقال إلى مجتمع الرخاء والثروة. وقد كان الرسول (ص) مدركاً تماماً لهذه المفارقة وهي أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى ملك عظيم في الأرض سيحمل تحديات هائلة تقوم بصورة خاصة على كيفية التوفيق بين الإيمان والزهد بالدنيا الذي يدعو إليه الدين وبين الرخاء الاقتصادي وإغراءات الملك والإسراف في حب الدنيا. وقد جاء في الحديث قول النبي (ص) لجماعة من الناس جاءوا يرتقبون الحصول على مغانم بعد فتح أحد البلدان: «وَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وكان أبو ذرّ على تواصل مستمر مع الرسول (ص) ومن الذين أدركوا أهمية التحذير الذي وجّهه النبي لأهل زمانه، وقد أخذه أبو ذرّ فعلاً على محمل الجد، الأمر الذي حوّله إلى صوت مرتفع في انتقاد الانحراف والظلم والفساد لا يخشى في الله أو في الحق لومة لائم. وهذه الخاصية التي تميّز بها أبو ذرّ جعلته من أقرب المقربين للرسول (ص) الذي قدر فيه نقاء سريرته وصدقه وشجاعته في الحق، فقال فيه في حديث نقله أبي هريرة: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبو ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
كان أبو ذرّ من بين وزراء النبي (ص) ومن المقريبن إليه لكنه بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى أصبح صوت الحق الذي ارتفع مندداً بتحول كثير من المسلمين من الجهاد في الدين إلى طلب الدنيا والتنازع عليها. وقد نال أبو ذرّ من انتصاره لمبادئ الإسلام ومعارضته للفساد ما ناله من جفاء أهل الحكم والعديد من أهل زمانه، لكنه ثبت في مواقفه والتزم سلوك التقوى والفقر حتى مات فقيراً وليس في بيته شيء من متاع الدنيا.
فمن هو أبو ذرّ وكيف دخل في الإسلام وما هي مكانته بين الصحابة ولماذا تميّز بحياة الزهد والفقر واحتقار الدنيا وكيف جعلته جرأته في الحق وصدقه من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) وما هي الصفات التي تميّز بها وما هي أهم مواقفه في الإيمان والزهد في الدنيا والثبات في الحق وما هو أثره الخالد في الإسلام كمجاهد ثوري في سبيل الحق والإيمان الصحيح؟

من هو أبو ذرّ الغفاري
أبو ذرّ، وكان يدعى أبو الذرّ جندب بن جنادة الغفاري، وقد اختلف في إسمه لكن اتفق جميع النسابين على أن نسبه ينتهي إلى بني غفار من بني ضمرة من قبيلة كنانة. عرف منذ شبابه بالقوة وشدة البأس والشجاعة في الحرب لكن مع ميل إلى الخلوة والتأمل في أحوال الدنيا كما عرف بالصدق والمروءة، لكن أهم ما كان يميّزه أنه لم يعبد الأصنام في الجاهلية بل كان موحداً يقول «لا إله إلا الله» ويسخر من آلهة العرب ومن صغر عقول من يسجد للأصنام ويترك الخالق الديان. وقد جعلت تلك الصفات من أبي ذرّ من أول المصدقين بالرسول (ص) وقد سارع إلى سلوك طريق مكة بمجرد أن أخبره أحدهم أنه قد ظهر فيها نبي«يقول مثل قوله« أي لا إله إلا الله » وقد وصل أبو ذرّ إلى مكان الرسول وطلب منه أن يعرض عليه الإسلام وأسلم لتوه، وكان بعد ذلك من أشدّ المسلمين تمسكاً بأهداب الدين وقيمه مقتدياً بمثال النبي مخلصاً له حتى آخر يوم في حياته، وهذا يعني أن أبا ذرّ الغفاري كان من الذين جاءوا إلى الإسلام قبل أن يدعوا وهو فعل ذلك والإسلام ما زال سرياً ومضطهداً وقد كان حسب رواة الأثر رابع من أسلم أو خامس من أسلم للدين الجديد بعد السيدة خديجة بنت وهب زوجة الرسول (ص) وأبي بكر الصديق (ر) وعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وقد اشتهر بعد ذلك بالفقه ورواية الحديث وقال جمهرة المحدثين أنه كان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم.
وكان أبو ذرّ أول من حيا الرسول (ص) بتحية الإسلام بقوله عندما لقيه لأول مرة: «السلام عليك يا رسول الله» وكان أول من جهر بإسلامه وسط قريش غير مبالِ بالضرب المبرح الذي تعرض له وقد نزل عند رغبة رسول الله (ص) بمغادرة مكة إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام فعاد إلى غفار وأمضى فيها سنوات يدعوهم حتى أسلم معظمهم كما أسلمت قبائل حليفة لهم ولم يشارك أبو ذرّ لهذا السبب في غزوتي بدر وأحد ولا في غزوة الخندق لكنه شارك بعد ذلك في جميع غزوات الرسول وفي حروب المسلمين التي كانت إحداها «غزوة العسرة» في تبوك.

عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا
عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا

توحيده قبل الإسلام
كان أبو ذرّ حسب وصف معاصريه طويلًاً أسمر اللون نحيفاً وقال بعضهم إنه كان أبيض الرأس واللحية مما يدل على أنه كان قد تجاوز سن الشباب عندما لقي النبي (ص) وأسلم على يده. وكان أبو ذرّ شجاعاً يتفرّد وحيداً بالغزو فيُغير على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، لكن كان من أبرز فضائله أنه كان موحداً قبل الإسلام، وأنه بسبب ما تنامى إليه من ظهور الرسول في مكة سارع إلى استقصاء الخبر قبل أن يتوجه إليه بنفسه يسلم على يديه، وقد كانت قبيلة غفار التي ينتمي إليها أبو ذرّ تسكن البادية بين مكة والمدينة وكانت قبيلة فقيرة تعيش على قطع الطريق والغزو أو ما تحصل عليه من القوافل، ولهذا فقد كان إسلام أبي ذرّ ظاهرة ملفتة وقد تعجب الرسول (ص) لمرأى هذا الرجل الأسمر الأشعث القادم من الصحراء يعلن إسلامه وعدد المصدقين يومذاك لم يكد يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة.
ويبيّن حديث جرى بينه وبين أبي بكر الصديق (ر) كيف أنه كان موحداً قبل الإسلام، إذ أخذ أبو بكر يوماً بيد أبي ذرّ وقال: يا أبا ذرّ، هل كنت تُألِّه (أي تقول «لا إله إلا الله») في جاهليتك؟ أجاب أبو ذرّ: نعم، صليت ثلاث سنوات قبل الإسلام وكنت أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ وكنت أقوم عند الشمس (أي عند شروقها)، فلا أزال مصلياً حتى يؤذيني حرّها، فأخرّ كأني خفاء. فسأله أبو بكر الصديق (ر): فأين كنت توجَّه؟ فقال: لا أدري إلى حيث وجّهني الله، حتى أدخل الله عليَّ الإسلام».
وكما أن سلمان الفارسي (ر) قطع البراري والقفار من أعماق فارس إلى المدينة المنورة بهدف الاجتماع إلى الرسول (ص) وكان يعلم عن قرب ظهوره، كذلك فإن أبا ذرّ الغفاري لم يدع إلى الإسلام بل قدِم إلى الإسلام بنفسه قدوم المؤمن.

الوصايا السبع

قال أبو ذرّ: أوصاني خليلي بسبعٍ:
أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش».

مسارعته للجهر بإسلامه
قال أبو ذر، بعد وصوله الى مكة واسلامه: «أقمت مع رسول الله (ص) بمكة، فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئاً من القرآن، ثم قال لي: لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة، فإني أخاف عليك أن يقتلوك، فقلت: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش، فسكت رسول الله (ص).
قال: فجئت المسجد، وقريش جلوساً يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتي: «يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله». فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً، وهبوا من مجالسهم، وقالوا: عليكم بهذا الصابئ، وقاموا إليَّ، وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي (ص) وأكب عليَّ ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم، وقال: «ويلكم، ويلكم، أتقتلون رجلاً من غفار، وممر قوافلكم عليهم؟ انتبهوا».
قال: ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً، جئت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ما بي قال: يا أبا ذرّ، ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟ فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها، فقال: إلحقْ بقومك، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت، وادعُهم إلى الله، لعلّ الله ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فإذا بلغك أني ظهرت فتعالَ إلي».

جهاد المشركين ..على طريقته
لكن أبا ذرّ لم ينتظر الأمر بقتال المشركين، وقد كان في المسلمين آنذاك ضعف ولم يكونوا بعد قد هاجروا إلى المدينة وقويت شوكتهم هناك. لذلك ومن فرط حميته وحماسه للدين الجديد وبسبب قوته ودربته في القتال وفنون الغزو التي اشتهر بها الغفاريون فقد قرر أبو ذرّ أن يفتح حرباً على المشركين ضمن إمكاناته الخاصة، فكان يكمن لقوافل قريش وغيرها فيعترضها ويحجزها ويقول: « لا أردّ إليكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله»، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئاً. وبقي أبو ذرّ على تلك الحال حتى هاجر رسول الله (ص) ومضت غزوة بدر وغزوة أحد، ثمّ قدِم فأقام بالمدينة مع النبيّ (ص).

جانب آخر من بلدة الربذة
جانب آخر من بلدة الربذة

إسلام قومه بني غفار
أخبر أبو ذرّ عن إسلام قومه بني غفار فقال: لقيتُ رسول الله (ص) فقال: «إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟» فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أنيسا فقال: «ما صنعتَ؟» قلتُ: «صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ». قال أُنيس: «ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ». قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ. قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ وكانوا حلفاء غفار فقالوا: يا رسول الله، أخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم أخوتنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله».
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذرّ صبراً على الإقامة في المدينة، بعد أن خلت من سيدها، وأقفرت من هدي مجلسه، فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
لكن إقامته في الشام جعلت منه شاهداً على التغيرات السريعة التي كانت تطرأ على عالم الإسلام بعد فتح الأمصار واتساع رقعة الدولة وتدفق الثروات وإقبال الناس نتيجة لذلك على الدنيا ومباهجها، وقد استمر أبو ذرّ على اعتقاده بإسلام التآخي والمساواة والزهد في الدنيا وقد ساءه في تلك المرحلة تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الناس فحاول، وهو الصحابي المعتبر وصاحب الرسول (ص) وأحد وزرائه الذين كان يحبهم، أن يتابع الشهادة للحق ويحاول الإصلاح ويدعو لنهج أكثر مساواة بين الناس، إلا أنه وبسبب شخصيته غير المهادنة وثباته في الحق فقد وجد أبو ذرّ نفسه يواجه جفاء الحكام والعديد من الناس الذين انجرفوا وراء الثروة والحياة الرغدة الجديدة، لذلك فقد آثر في نهاية المطاف الابتعاد عن الشأن العام أو جرى كذلك إبعاده عندما استدعاه الخليفة عثمان بن عفان (ر) وطلب منه أن يغادر الشام وأن يقيم في بلدة نائية بين مكة والمدينة تدعى الربذة وهو ما فعله به قانعاً بعيش الإعتكاف في كوخ صغير وعيش الفقر حتى وافته المنية في سنة 32 هجرية.

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

تصوير بليغ للزهد

دخل على أبي ذر رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلب الطرف في بيته، فلم يجد فيه متاعاً، فقال:
«يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟ فقال: لنا بيت هناك، نرسل إليه صالح متاعنا.
فهم الرجل مراده، وهو أنّه يعني الدار الآخرة، وقال: ولكن لا بدّ لك من متاع ما دمت في هذه الدار، فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه»

شهادة الرسول (ص) به
من أشهر ما قاله فيه رسول الله (ص) ما أورده أبو هريرة إذ نقل عن النبي قوله: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وهذا الوصف من النبي (ص) يغني عن كل وصف لأبي ذرّ وسيظهر صدق ابي ذرّ في سيرته وجهاده ليس فقط في عصر النبي (ص) بل إنه سيظهر بأجلى معانيه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى وانطلاقة الدولة الإسلامية واتساع رقعة ملكها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرسول (ص) وقد كان أخبر الناس بأبي ذرّ ونقائه وجرأته في الحق كان يخشى عليه من مكائد السياسة ورياح الفتن التي تحدث عنها قبل وفاته، وقد حرص على أن يوصيه بالحيطة وطاعة الأمير حتى وإن حصل ما قد يرى فيه افتئاتاً على الشريعة أو ظلماً. وهناك حادثتان مهمتان تظهران مدى اهتمام الرسول (ص) بأبي ذرّ وحرصه عليه. الحادثة الأولى كانت عندما سأل الرسول (ص) أبا ذرّ: «يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كان عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» (أي يغصبون حقوق المسلمين في المال والغنائم) فقال أبو ذرّ: «إذا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به». فقال النبيّ: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني».
من منطلق الحرص نفسه نصح الرسول (ص) أبا ذرّ بعدم السعي للإمارة وقد سأل الصحابي الجليل الرسول يوماً: «يا رسول الله ألا تستعملني؟» أي الا تولني إمارة أو عملاً أخدم فيه الإسلام؟ وكان اقتراح أبي ذرّ من منطلق العمل للمجتمع الإسلامي وإحقاق الحق ولم يكن إطلاقاً طلباً لجاه أو مال، لكن الرسول (ص) كما جاء في الحديث الذي نقله الحارث بن يزيد الحضرميّ ردّ بأن وضع يده على كتف أبي ذرّ ثم قال له: «إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
رافق أبو ذرّ عهد أبي بكر الصديق وعمر وعايش مرحلة الخليفة عثمان وكان له رأي صريح في أحقية الإمام علي (كرم الله وجهه) بالخلافة لكنه حاذر مع ذلك الإنجرار إلى الفتن التي اندلعت بعد مقتل الخليفة عثمان، وقد كانت له قبل ذلك مواقف ناقدة لمعاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام، وقد أقام أبو ذرّ هناك لبعض الوقت وشهد التحولات الكبرى وصدم لما رآه من استئثار فئة بالثروات من دون الناس فذهب إلى معاوية يناقشه في الأمر. وقد روى زيد بن وهب تلك الواقعة وما حصل بعدها على الشكل التالي قال: مررتُ بالرّبَذةِ (وهي قرية صغيرة من قرى المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ فقلتُ: «ما أنزلك منزلك هذا؟» قال: «كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ قال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب»، قال: فقلتُ «نَزَلَتْ فينا وفيهم». قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك» وبالرغم من تفهم عثمان لموقف أبي ذرّ وشكواه من تبدل المجتمع الإسلامي بعد الرسول، فإنه لم يكن يرى ما رآه الصحابي الزاهد واعتبر أن الإسلام دخل عصراً جديداً قيضه الله بسبب الفتوحات وامتلاك الأمصار وأنه لا يمكن لهذه الإمبراطورية أن تدار كما كان يدار مجتمع المدينة البسيط أو كما كان المجتمع الإسلامي في أول عهده. لذلك أيدّ عثمان وجهة نظر معاوية وأمر أبا ذرّ أن يُهدِّئ من حملته، واستأذن أبا ذرّ الخليفة الإقامة في قرية الربذة وهي قرية في نواحي المدينة فأذن له.
نأتي هنا إلى حديث نبوي مهم تنبأ فيه الرسول بما سيعترض أبو ذرّ من صعوبات جراء التصادم الذي توقع أن يحصل بينه وبين المجتمع الإسلامي الصاعد، فقد حدّث محمّد بن سيرين أنّ رسول الله (ص)، قال لأبي ذرّ: «إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعاً فاخرج منها -ونحا بيده نحو الشام- ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!» قال: «يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟» قال: «لا»، قال: «فما تأمرني؟» قال: «اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشي».
يذكرأنه لما توجه أبو ذرّ إلى الربذة بعد أن أمره الخليفة عثمان (ر) بذلك وصلها وقد أقيمت الصلاةُ وعبدٌ حبشي لعثمان يؤم المصلين. ولما رأى الحبشي أبا ذرّ تأخّر ودعا الصحابي لأن يؤم المصلين مكانه، فقال أبو ذرّ له: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ».
وقال عبد الله بن سيدان السّلَميّ: «تَناجى أبو ذرّ وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّماً فقال له الناس: «ما لك ولأمير المؤمنين؟» قال: «سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صنعاء أو عدن ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ»، وقد أمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
يشير الحديث المنقول عن النبي (ص) مجدداً إلى أنه وقد كان يكنّ الحب لأبي ذرّ أراد أن ينصحه بالإبتعاد عن الشأن العام لأنه كان يتنبأ بحصول الخلافات وربما الفتن من بعده وكان يعتقد بأن الأفضل لأبي ذرّ الزاهد العابد أن لا يقترب من فتنة الدنيا سواء من طريق طلب الإمارة أو من طريق أخذ جانب أي من الفرقاء المتخاصمين، أو محاولة تبديل ما لم يعد ممكناً تبديله لأن مجتمع الإسلام تغيّر ولأن لله حكمته في كل شيء.

ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه
ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه

صدَّق أبو ذرّ رسول الله (ص) وقرر أن ينأى بنفسه عن الحياة العامة، لكن وبسبب شهرته بين صحابة رسول الله ومكانته الكبيرة في الإسلام وبسبب ما عرف عنه من صدق وتمسك بمبادئ الرسالة وتعاليم النبي (ص) فقد أيّده كثيرون بل جاءه يوماً نفر كبير من أهل العراق (قيل من أهل الكوفة) فقالوا: «يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل (يقصدون عثمان) وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟» وكان واضحاً أنهم يحرضونه على التمرد، فقال أبو ذرّ لهم: «يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له» وأضاف أبو ذرّ «والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي» وكان يستذكر بذلك تنبيه الرسول له لأن يبتعد عن الشام عندما تبدأ فيها المدنية وحركة العمران والإقبال على الدنيا. وكان هذا في الحقيقة موقف صحابي جليل آخر هو سلمان الفارسي عندما اشتد الخلاف بين المسلمين إذ آثر أن يبتعد وأن يقضي آخر أيامه في المدائن يعيش كعامة الناس بل كفقرائهم وهو الأمير عليها.
حدث أبو ذرّ عن رسول الله (ص) بأنه قال له: «يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفاً وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ» وعندما يقول الرسول عن أبي ذرّ بأنه ضعيف فإنه لا يقصد به ضعف الشخصية أو حتى البنية وهو الذي كان يعرف مدى صلابته في نصرة الدين ومشاركته في أكثر غزوات المسلمين بعد الخندق، بل كان يقصد أنه كان من الطهر وسلامة القلب بحيث لا يطيق مكائد السياسة والتنازع عليها بين أهل الدنيا وكان الرسول (ص) يريد أن لا يستدرج أبا ذرّ إلى ما لا طاقة له به. وهناك شبه ملفت بين نصح الرسول لأبي ذرّ باجتناب الدنيا والإمارة وبين قول لسلمان الفارسي (ر) جاء فيه: «إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميراً على اثنين فافعل».

حب الرسول (ص) له
كان أبو ذرّ من القلة المقربين إلى رسول الله (ص) بل كانت له مكانة خاصة لديه وقد ذكر أبو الدرداء أن الرسول (ص) «كان يبتدئ أبا ذرّ الكلام إذا حضر، ويتفقده إذا غاب».
وجاء في الأثر أن أبا ذرّ أقام في باديته يدعو قبيلته غفار إلى الإسلام حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ، ثم قدم إلى المدينة وقد أسلم أهل غفار وأقوام غيرهم وانقطع إلى رسول الله (ص)، واستأذنه أن يقوم في خدمته، فأذن له، ونَعِمَ بصحبته، وسَعِدَ بخدمته، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه، فما لقيه مرةً إلا صافحه، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
ومن علامات حب الرسول لأبي ذرّ حديث لشريك عن أبي ربيعة عن ابن بريدة عن أبيه قال: فقال رسول الله (ص) إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمِّهم لنا. قال عليٌّ منهم يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان الفارسي، أمرني بحبِّهم وأخبرني أنه يحبهم».
وجاء ذكر أبي ذرّ كأحد وزراء النبي أو حوارييه المقربين في حديث أثبته أحمد إبن حنبل في مسنده جاء فيه: إن رسول الله (ص) قال: «إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وحذيفة، وسلمان، وعمار، وبلال»
وقال مالك بن دينار أنّ النبيّ (ص) جلس يوماً مع أصحابه ثم قال: «أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟» فقال أبو ذرّ: «أنا»، فقال له النبيّ (ص) «صدقتَ» .وكان النبي يشير إلى علمه بأن الكثيرين من الصحابة الذين جاهدوا معهم ستتبدل أحوالهم مع دخول الرخاء والثراء إلى عالم الإسلام، وقد وُلِّي كثيرون منهم الأمصار أو النواحي وصار لأكثرهم شأن وحال من اليسر والاستقرار في الدور والحواضر والمدن. وكان أبو ذرّ يحب أن يذكر هذا الحديث لأصحاب رسول الله قائلاً لهم: «إني لأقْرَبَكُم مجلساً من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ فِيهَا».

نبوءة الرسول (ص)
حول أبي ذرّ

عن عبد الله بن مسعود (ر) قال: لما سار رسول الله إلى تبوك1 جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول :»دعوه، إن يكُ فيه خير فسيُلحقه الله بكم، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه»
حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله: «دعوه، إن يكً فيه خير فسيلحِقه الله بكم، وإن يكً غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
فتلوَّم أبو ذرّ (ر) على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله: «كن أبا ذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذرّ. فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
1-هي غزوة تبوك وسميت بـ «غزوة العسرة» بسبب ما اعترض المسلمين فيها من صعاب وخصم قوي عدة وعدداً

قبر أبي ذر اليوم
قبر أبي ذر اليوم

ورعه وشدته في الحق
كان أبو ذرّ ورعاً للغاية يحاسب نفسه أشد الحساب وكان بنفس المعنى يحاسب الآخرين ولاسيما صحابة النبي (ص) على ما يبدر منهم مما يعتبره ضعفاً في الإيمان أو العزيمة أو محاباة للقوي. لذلك ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه (يضمه إليه) مخاطباً إياه بالقول: «أنت أخي» فيجيبه أبو ذرّ مبتعداً: «إليك عني»، ويقول الأشعريّ مجدداً، «مَرْحَبًا بأخي»، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: «لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ» (أي قبل أن تصبح في خدمة سلطان) ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه (أي اراد أن يضمه إليه) وقال: «مرحبًا بأخي»، فقال أبو ذرّ: «إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟» قال: «نعم»، قال: «هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟» قال: لا»، قال: «أنت أخي أنت أخي».
وحدث سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِراً بها قائماً يصلّي فقال له: « يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟» قال:» لو كان لي لرأيتَه عليّ»، قال: «فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين»، فقال: «يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني»، قال: «والله إنّك لمحتاج إليهما»، قال أبو ذرّ: «اللهمّ غفراً، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟».
بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار، وقال له:»استعن بها على قضاء حاجتك». فردها إليه، وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني».
وقال عيسى بن عُميلة الفَزاريّ: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ عَصَرَه، وقرّب إليهم تمراً وهو يسير، ثمّ تعذرّ إليهم وقال: «لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به». قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئاً.
وقال خالد بن حيان: «كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق».
قيل لأبي ذرّ: ألا تتخذ أرضاً كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: «وما أصنع بأن أكون أميراً، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ (منقوع الزبيب) أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح».
وعن أبي ذرّ قال: «كان قوتي على عهد رسول الله صاعاً من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى».
وقال سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوساً بما بقي وقال: «إنّه ليس من وعى ذهباً أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه».

روايته للحديث
روى أبو ذرّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم وكان أحد أهم مراجع النقل عن رسول الله (ص). وقد روى عن أبي ذرّ الخليفة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس التميمي، وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخ أبي ذرّ، وخرشة بن الحر الفزاري، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد الأسدي، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن
أبو ذرّ الغفاري عن الرسول (ص).
في صحيح مسلم عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله: هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنَّى أراه». قال النووي: أي حجابه نور، فكيف أراه؟!
روى البخاري بسنده عن أبي ذرّ (ر) قال: سألت النبي، أي العمل أفضل؟ قال :»إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تعين ضَايِعاً أو تصنع لأخرق» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك».

مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر
مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر

من أقواله البليغة

ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟

لا تَغشَ أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب
من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه

إذا سافر الفقر إلى مكانٍ قال الكفر خذني معك.

• حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد الحر لطول يوم النشور، وصلوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور».
• انظروا إلى الدنيا نظرة الزاهدين فيها، فإنها عن قليل تزيل الساكن، وتفجع المترف فلا تغرنَّكم.
• عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
• والله لو تعلمون ما أعلم، ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني، يوم خلقني، شجرة تعضد، ويؤكل ثمرها.
• إني لأعرف بالناس من البيطار بالدواب، أما خيارهم فالزاهدون، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه.
• ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟
• أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه بمال إلى أبي ذرّ رضي الله عنه مع عبدٍ له، وقال له: إن قبله منك فأنت حر. فلما ذهب العبد بالمال، لم يقبله، فقال له العبد: يا سيدي إن قبولك له فيه عَتقي. فقال له أبو ذرّ: إن كان فيه عَتقُك فإن فيه رُقِّي.
• كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
• هل ترى الناس ما أكثرهم؟ ما فيهم خير، إلا تقي أو تائب.
• رأى رجل أبا ذرّ وهو يتبوأ مكاناً، فقال له: ما تريد يا أبا ذرّ؟ قال: أطلب موضعاً أنام فيه، نفسي هذه مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني.
• ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
• لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم، إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
• يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى، ويتركون ما يبقى، ألا حبذا المكروهان: الموت والفقر.
• الوحدة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة.

.

كيف يموت العبد الزاهد

أوصى بأن يُغسل جثمانه ويكفن ويوضع في الطريق
وأن يطلب من أول القادمين أن يعينوا أهله على دفنه

كان موت ابي ذر الغفاري خاتمة مناسبة لحياة الزهد والتقشف والفقر التي عاشها كما إنه كان عنواناً لاحتقاره الدنيا الفانية وتطلعه إلى الباقية بشغف المؤمن الثابت العقيدة والواثق من وعد الله، بل إن أبا ذر أراد ربما أن يعطي بموته درساً من أبلغ الدروس لأهل الدنيا حتى يعلموا أين سينتهي بهم المطاف فلا يتعلقون بمباهجها الخادعة ولا يكون لهم طول الأمل بها بل التفكر الدائم بأنهم ميتون وملاقو ربهم فيتقون ويعتبرون.
لقد كان موت أبي ذر عنواناً لنبوءتين قالهما الرسول (ص) الأولى عندما قال: رحم الله أبا ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث وحيداً. والثانية تنبأ فيها بظروف دفن أبي ذر إذ قال في جمع من أصحابه كان بينهم أبو ذر:» «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبالفعل فقد مات أبو ذر وليس لدى زوجته أو أهل بيته كفن يلفونه به وكانوا يعيشون في ناحية من الربذة الشبه مقفرة ، فلم يجدوا بالتالي من يهب إلى غسله ودفنه. وكان أبو ذر يعيش لحظاته الأخيرة وامرأته قلقة جداً كيف ستتصرف عندما تفارق الروح الجسد. وكانت لذلك تبكي بحرقة. قال لها أبو ذر: «ما يبْكيك؟» فقالت: «ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك». لكن أبا ذر المؤمن كان على يقين بأن ما أنبأ به الرسول (ص) لا بد حاصل فقال لها: «أبْشِري وَلَا تَبْكِي، فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: «لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وأردف أبو ذر قائلاً لزوجته: ليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذِّبت فأبْصِري الطريقَ». قالت زوجته: «وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ وكانت تقصد أن الحجيج كانوا قد عادوا إلى بلدانهم ولم يعد أمل بمرور قوافل أو راجلين يساعدونهم»، قال: « اذهبي فتبصَّري». قالت: «فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه. أي أعتني به وهو في نزاعه الأخير. وأخبرت زوجة أبي ذر بعدها فقالت: بينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ»، فقالوا: «يا أمَةَ الله، ما لك؟»، قلت: «امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟» قالوا: «ومَنْ هو؟» قلت لهم: «أبو ذرّ». قالوا: «صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ « قلت: «نعم». قالت: «فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السيّاط في نحورها (أي ألقوا اللجام على أعناق النوق) يتسابقون إليه حتى جاءوه»، فقال لهم: «أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً» وكان أبو ذر يقصد بذلك أنه لا يريد لأي كان في منصب إمارة أو وجاهة أو على علاقة بالدولة أن يكفنه أو أن يشترك في تكفينه. وكان معظم الذين وقفوا حوله للمساعدة ممن تنطبق عليهم تلك الصفات إلّا فتًى من الأنصار، فقال: «أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي». قال: «أنت تكفنني يا بني». قال: فكفّنه الأنصاريُّ وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك الأشتر. وقيل في رواية ثانية أو هي تكمل الرواية الأولى أنه لما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وحضره الموت ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فإنه أوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلاً ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط من أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام قال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، «تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك». .
توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ وقيل في آخر شهر ذي الحجة سنة 31 هـ بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان (ر) بالمدينة، فضم ابنة أبي ذر إلى عياله، وقال: «يرحم الله أبا ذر». وتقع الربذة اليوم 100 كم جنوب شرقي محافظة الحناكية و200 كم شرق المدينة المنورة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading