السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ابو جبر

قصّة واقعية لكنها أغرب من الخيال

الشّيخ أبو جبر سلامة الحمّود الأطرش و اغاثة الملهوف قي نراث الموحّدين الدّروز

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار

كان الأهل في مضافات جبل العرب يردّدون لقبه “سمّ الموت”، بإعجاب تمازجه الدهشة كلّما ذُكر اسمه، وذلك للدلالة على بطولته وكونه موتاً نازلاً على أعدائه.
يذكره الشاعر أحمد العلَيّان، وهو أحد أبرز الشعراء الشعبيين في القرن التاسع عشر فيقول فيه:
تلفي عا منـــزول مَلْفى لَلاِجْـواد لَلْغَضنــفرْ والنّمـــر،ْ إيضا الفــــــهدْ
تلقى (سَمّ الموت) مامِثْلَهْ أحَـــدْ عِزْ مَنْ ركب الفرس إيضا وْلَـــــــكَدْ
ولد سلامة (سم الموت) نحو أواخر القرن الثامن عشر، وبذا فقد عاش حياة حافلة استغرقت القرن التاسع عشر بطولِهِ، إذ ناف بعمره عن مئة عام، لكن حياة أبو جبر لم تكن إنفاقاً للسنين الرتيبة بل كانت سِجلاً من البطولات وإغاثة الملهوف لكنّه سجل امتزج في الوقت نفسه بمآسٍ موجعة قلّما تجد بطلاً سَلِم من معاناتها وامتحانها.
يتعرّض الأمير متعب الأطرش في مذكّراته لدور(أبو جبر) سلامة ــ وأبو جبر هو جد الأمير متعب لأمّه ــ، فيذكر بأنّه كان له الفضل الأوّل في تدعيم حكم إسماعيل الأطرش في الجبل، ذلك لأنّ أبا جبر كان من الفرسان الأشدّاء الذين تضافرت جهودهم في مجالات اجتماعية متعدّدة “لتوطيد الأسس الجديدة”، ولا بدّ أنه يقصد بالأسس الجديدة، إحلال الزعامة الفتيّة والفعّالة لإسماعيل الأطرش، والتي كانت تلبّي مصالح الموحّدين الدروز، محل الزعامة التي لم تستطع أن تتكيّف مع التغيّرات الاجتماعية في الجبل، من جهة أولى، وذلك بعد أن تزايدت أعداد المهجّرين من الموحّدين الدروز من جبل لبنان ووادي التيم وشمال فلسطين وديار حلب، وبعد أن تزايدت أطماع الولاة العثمانيين في خيرات المجتمع الجديد من جهة ثانية.

مؤامرة لقتل إسماعيل الأطرش
يستشهد الأمير متعب بحادثة جرت نحو سنة 1870م، تدلّ على حذر جدّه سلامة ــ ابن عم إسماعيل ــ وتوجّسه من العثمانيين، فيروي بأن الوالي العثماني في دمشق، تلقّى رشوة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية من الشيخ واكد الحمدان، شيخ جبل الدروز آنذاك، مقابل التخلّص من إسماعيل الأطرش، عدوّه الّلدود ومنافسه على زعامة الجبل، والذي كان يقود معارضة الدروز لزعامة الحمدان الإقطاعية المستبدّة.
كان الشيخ الحمداني قد صوّر للوالي أن لا مصلحة للدولة في بقاء نفوذ إسماعيل الأطرش المتعاظم في أوساط الدروز، وسائر لواء حوران الذي كان يشتمل على جنوب سوريا وشمال الأردن، كان إسماعيل قد نجح في عقد سلسلة من المصالحات والاتفاقيات بين فريقه من دروز الجبل وبين جماعات من عشائر حوران والبادية، وقد جعلت هذه المساعي منه الرجل الأقوى في جنوب سوريا حينذاك ــ وكان المستشرق البريطاني القس بورتر قد زار إسماعيل في قريته، القرَيّا، فأعجب بشجاعته، وباهتمامه بمن حوله، ونعته بـ” أشجع رجل في شعب شجاع”.
استدعى الوالي إسماعيل لمقابلته في دمشق، وكان سلامة بين أبرز من رافقه في تلك الزيارة المشؤومة، ولمّا قابله الوالي أعجب بما تنطوي عليه شخصيّته من مزايا، فلم تُسَوّغ له نفسه قتله، لذا كتب كتاباً ضمن مُغَلّف موجه إلى قائمّقام بُصرى يطلب إليه في ذلك الكتاب بأن يسقي إسماعيل السّمّ، وأعطى المغلّف إلى إسماعيل نفسه، وفي الطريق إلى بصرى قال سلامة لابن عمّه إسماعيل:”افتح الكتاب لنتعرّف ما به”، فأجابه إسماعيل:”كيف نفعل ذلك والرجل وثق بنا على كتاب نوصله لعامله على بصرى؟ هذا لا يجوز، والأمانة لا تسمح لنا به”، فقال له سلامة:” أنا أرى بأن الوالي قد أرسل هذا الكتاب معك لتطّلع على ما به، ولتتجنّب خطره، وأنت يا إسماعيل أصابنا بك مثل الذي حمل كتاباً على قطع رأسه”.
لم يقبل إسماعيل أن يفتح المغلّف، وحاول سلامة أخذه والاطّلاع عليه، فلم يرضَ إسماعيل، بل أصرّ على قراره بعدم فتحه، وفي بُصرى دخل الرجلان على القائمّقام الذي اضطرب لدى قراءته الكتاب ــ كما روى سلامة في ما بعدــ لكن القائمّقام لم يكن أمامه إلّا أن ينفّذ الأمر، فقُدّمَت القهوة المسمومة لهما، سكب سلامة فنجان القهوة ضمن لثامه تحت شفته السفلى، أما إسماعيل فقد شرب القهوة التركيّة، وما أن استقرّت تلك القهوة في جوفه حتّى نظر إلى سلامة قائلاً: “قم نعجّل بالعودة إلى ديارنا”.
أدرك سلامة أنّ ما توقَّعه قد حدث، فركبا جواديهما عائدين، وعندما صارا قرب قرية جْمَرّين ــ شمال شرق بصرى ببضعة كيلومترات ــ ظهرت أعراض السم على الشيخ إسماعيل، فأرسلا “ المفَزِّع إلى المجيمر وهي أولى قرى الجبل ممّا يلي سهل حوران، وشيخها من آل الحمّود الأطرش، نزلا بها للاستراحة، ثمّ انتقل إسماعيل إلى قريته عرى، ولم ينفع معه طبٌّ ولا دواء، فوافته المنيّة بعد سبعة أيّام من الزيارة المشؤومة للموظّفين العثمانيين، وسَلِمَ سلامة بحذره.

قصة أغرب من الخيال
في وقتٍ ما من سبعينات القرن التاسع عشر، وبحسب المرويّات الشفهيّة للأهل، أنّ تاجر أبقار شركسيًّا من قرية “الجويزة” في ديار الجولان، جنوب غرب دمشق بنحو خمسين كيلومتراً، قد اعتاد القدوم إلى جبل الدروز، ليبيع أبقاره الجولانية المشهورة بإدرارها للحليب، وبقوّة بُنْيَتها، وبُنْيَة ما تُنْجبه من عجول، تصير ثيراناً قويّة تجرّ المحاريث في أرض الجبل، وفي مثل هذه الحال، كان لابدّ لذلك التاجر وأمثاله من مرتادي جبل الدروز، من أن يعبروا قرى حوران التي تفصل بين الجولان وبين الجبل، وكذلك لا بدّ له من أن يحلّ ضيفاً على أحدهم في إحدى القرى الحورانية، لعلّه يبيع بعض ما يتجر به، ثمّ إنّ المسافة بين الجولان وجبل الدروز يصعب قطعها في يوم واحد على شخص في مثل حاله.

إسماعيل الأطرش “أشجع رجل في شعب شجاع” وطّد نفوذه على جنوب سوريا لكن الوالي العثماني اغتاله بقهوة مسمومة بناء على تحريض واكد الحمدان

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار.
حلّ الرجل في رحلته تلك ضيفاً على أحدهم في بلدة بصرى. دارٌ رحبةٌ مسوّرة، تتصدّرها بوّابة عالية، وفي تلك الدار أرزاق موفورة، ونسوة وأبناء ومرابعون.
رحّب صاحب الدار بالتاجر، ولمّا علم وجهةَ رحلته حذّره من أنّ الدروز قد يغدرون به، ونصحه بعدم متابعة طريقه إلى جبل أولئك القوم، لكنّ التاجر كان واثقاً من سلامة طريقه، فهو قد خَبِر الدروز في أكثر من مرّة، وجرّب معاملتهم، واستنتج أنّ رأي مضيفه يستند إلى حزازات سببها أخطاء بعض الأشخاص من حوارنة أو دروز من الجانبين، ويستغلّها العثمانيون من جانب آخر، وبهذا يسهل على هؤلاء التحكّم في الفريقين الضّحيّتين، الدروز والحوارنة.
لم يأخذ الشركسي بنصيحة مضيفه، وفي صبيحة اليوم التالي انطلق بتجارته مبكّراً نحو الشرق من بصرى، حيث قرى الجبل التي تتناثر على السفوح الوعرة. قال له المضيف:”إذا رجعت سالماً فلا تنسَ أن تمُرّ بي”.

غدر في هزيع الليل
بعد أيّام من الاتِّجار في الجبل وُفِّق الشركسي في بيع أبقاره، وملأ جيوب كَمَرِه ليرات ذهبية من ثمنها، عند ذاك قرر العودة إلى قريته في الجولان، ولكنه أحبّ أن يلبّي دعوة مضيفه السابق في بصرى، وكان الغروب قد أدركه قربها، وهو يعلم حق العلم أنّ السفر ليلاً لأمثاله ممّن يحمل ذهباً في ذلك الزمن غير آمن، والطرق مُخوِّفَة حتى في وضح النهار.
نزل الشّركسيّ ضيفاً عند البصراوي، فرحّب به واستضافه، وبُعَيْد هزيع من الليل تأكّد المُضيف أنّ ضيفه قد استغرق في نومه، فعمد إلى بلطة مسنونة أهوى بها على رقبة الضيف الغافي ففصل رأسه عن جسده، وكان قد أعدّ حفرة في جانب من باحة داره، رمى جثة القتيل بها، وأهال عليها التراب ورشّ التبن والقش فوقه، فبدت الأرض متماهية مع ما حولها، ونظّف مكان الجريمة فكأنّ شيئاً لم يكن.
هي الأيّام تمضي، وانقطعت أخبار الشركسي عن قريته في الجولان، وشُغِل أبناؤه وبناته، وذووه بأمره، وأيقنوا بعد متابعة وتقصٍّ أن فقيدهم ضاع أثره وفُقِدَ في جبل الدروز، ولطالما عزّز الحاقدون على الجبل مثل هذه الأقاويل.

ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب
ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب

حكمة الأقدار
وفي يوم من أيّام بؤس أسرة ذلك الشركسي المفقود، مرت بقرية “الجويزة” جماعة من غَجَر ذلك الزمان، كانت تتجوّل في قرى وأرياف الجولان، فاختطفت صغرى بناته، الطفلة “زينب “، وعلى عجل، فرّت بها تلك الجماعة إلى الأردن.
كانت زينب في السابعة من عمرها يومذاك، وقد بقيت عند خاطفيها نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبحت فتاة في العشرين من عمرها، صبية شقراء رائعة الحسن، خضراء العينين ممشوقة القد. ولما كان التّجوال سمة ثابتة في حياة الغجر، فقد شاء القدر لزينب أن تمرّ بها جماعتها في بصرى. هناك اشتراها أحد الرجال بأربع ليرات ذهبية ليتبنّاها، وصدف أن رآها الرجل قاتل ذلك الشركسي العاثر، سُحِر بجمالها، فغَصَب متبنّيها على بيعها له، وأخذها معه إلى بيته. أرادها زوجة رابعة له، بالإضافة إلى زوجاته الثلاث، فأبت زينب ذلك. وتمادت مع الأيّام في رفضها الزواج به، خصوصاً بعد أن علمت من كبرى زوجاته بمقتل تاجر شركسي كان عائداً من قرى جبل الدروز إلى دياره البعيدة.
أدركت زينب أنّ ذلك الرجل القتيل هو أبوها. كانت تلك المرأة قد حذّرتها بأنّه إذا استمرّت في عنادها له، سيقتلها كما قتل الرجل المطمور في تلك الحفرة من زاوية باحة الدّار، وحيث لا يعلم بسرّها غيرها بعد اثنين، هما: الله، وزوجها القاتل، كانت قد راقبته خِفْية عندما قتله وسلب ماله، وواراه التراب، ورشّ على وجه التراب التبن للتمويه، وكذلك أرشدتها إلى موضع حفرة المقتول.
تجاهلت زينب علمها بسرّ مقتل أبيها، وظلّت على رفضها الزواج بقاتله. تحمّلت صنوفاً من العذاب والإكراه، كان يذكّرها بأنّها ستظلّ خادمة في حريمه إلى أن تقبل به زوجاً لها، وعندها ستعيش حياة سعيدة، لكنّها لم تَلِنْ له، وقُدّرَ لها أن تتعرّف على امرأة بدويّة اعتادت المجيء إلى حريم ذلك الرجل، مالكها. أعْلَمَتها بأمرها، وباحت لها بسرّها، وبأنّها عرضة للإغتصاب من مجرم هو قاتل أبيها، فوعدتها البدوية بسبيل خلاص من محنتها.
كانت البدوية زوجة لراعٍ يرعى بأغنام وماعز لدروز قرية بكّا المجاورة، وتقع إلى الشرق من بصرى، على مسافة نحو سبعة كيلومترات منها، وشيخها سلامة الحمّود الأطرش.

زينب الحسناء الأسيرة اكتشفت أن سجّانها هو قاتل والدها فكشفت سرها لبدوية وطلبت منها تدبير نجدة تنقذها من أسر المجرم

استغاثة البدوية بالشيخ سلامة
خرجت تلك المرأة البدوية من دارة مُضيفاتها، فكّت رباط أتانها المربوطة في حوش الدواب، وانطلقت مسرعة إلى بكّا، وقد عزمت على أمر جَلَل، لقد عرفت تلك البدويّة كيف تبدأ به، أمّا خواتيمه فقد تجاوزت قدرات كل الأشخاص الذين مثّلوا أحداث هذه القصة الملحميّة.
ما إن أطلّت البدوية من على مشارف قرية بكّا حتى أخذت تصيح مستغيثة ــ وتلك من عادات الأعراب القديمة ، “آ..آ..آ سلامة، وين سمّ الموت؟” واستمرّت تكرّرها وهي تتّجه إلى بيت الشيخ سلامة، فما أن سمعها حتّى أسرع إليها، إلى باب دياره الواسعة ملبّياً: “أبشري يا بنت، لَكِ ما تريدين”. عند ذاك أخبرته بقصة الشركسية ومأساتها وأنّها تطلب نجدته، قال لها:” غداً صباحاً اذهبي إليها، أبلغيها أن تحضّر نفسها لأخلّصها، وعندما ينتصف الليل عليها أن تكون جاهزة لترفع لي رتاج بوّابة الدار، بحيث تكون قريبة منها، لتدلّني أين يكون الرجل، فأخلّصها وليكن بعدها ما يريده الله”.
الشيخ سلامة يعرف بصرى جيّداً، ويعرف الرجل وداره. انتظر حلول الظلام وانطلق إلى غايته على ظهر فرسه، سلاحه سيفه وبارودته المارتيني، وعبده يتبعه على فرسه، وله مثل سلاحه، كان قد اتّفق معه مُسْبَقاً، أن ينتظره جانباً قرب البوّابة، وما أن وصل حتّى ترجّل، ثمّ ناول العبد مقود فرسه، وتقدّم من البوّابة غير المُرْتَجة كما اتُّفِق. قليلاً قليلاً فتح ضلفة منها، وزينب شبح أسود يلطي قربها، كانت قد أطعمت كلاب الدار فأمنت منها بحيث لا تنبح، همست له:
ــ سلامة؟
ـــ هسّسّ
ـــ أينه؟
مشت أمامه إلى عِلّية في الدار بابها مغلق، أشارت له أن يتنحّى جانباً بحيث لا يظهر، رشّت نفسها بقليل من العطر، ثم طرقت الباب برقّة، لم يلبث أن فتح لها، كان شبحاً ضخماً متين البنيان.

المجرم ينال عقابه
ما إن رآها، عرفها، خَطَتْ أمامه خطوات فتبعها بلا سؤال. عندها تقدّم منه سلامة: “تخون الضيف وتسلب ماله وتغتصب ابنته؟، خذها…” كانت ضربة صاعقة بحيث بقيت صرخة القتيل محبوسة في حنجرته، وتدحرج الرأس إلى الأرض، أمّا الجسد فتمايل قليلاً وسقط أرضاً.
أشار سلامة لزينب فتبعته، ومضيا مسرعين، عَبَرا البوابة إلى الخارج، إلى حيث العبد والفرس ينتظران، تناول مِقْوَد الفرس من عبده ووثب على ظهرها، وكالبرق تناول بيمناه يد زينب اليمنى، ومدّ بقدمه اليمنى عَبْر الركاب بحيث تكون درجة، وضعت زينب قدمها اليمنى عليها وقفزت فكانت خلفه على ظهر الفرس، وانطلقا شرقاً إلى بكّا يتبعهما العبد.
شاع خبر إنقاذ زينب في البلاد، وأخذت السلطة العثمانية تلاحق الشيخ سلامة كقاتل، وأخذ الجنود العثمانيون من مركزهم في بصرى يلاحقونه ويقتفون أثره، أمّا زينب، فإنها صمّمت أن تظلّ إلى جانب عمّها سلامة، الذي أنقذها وحمى شرفها، فلبست لباس الرجال، وحملت سلاحاً وامتطت فرساً ولازمته كظلّه، كانا يتنقّلان بعيداً عن أنظار العثمانيين وجواسيسهم من مكان الى آخر ومن قرية الى أُخرى، ويعودان إلى بكّا في بعض الأيّام والليالي، إذْ لا بدّ للشيخ سلامة من أن يكون على بيّنة من شؤون قريته.

أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة
أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة

زينب تعثر على شقيقيها
وحلّ يوم نَكِد عليهما، إذ أحاط بهما الجند العثماني في خرائب قرية قديمة مهجورة، تقع إلى الشرق من مدينة القرَيّا الحاليّة ببضعة كيلومترات تُدعى”دَفْن”، كما تبعد شمالاً بشرق من بكّا ببضعة عشرة كيلومتراً. هناك قُبِضَ على الفارسين وسيقا مُكَبّلَيْن بسلاسل الحديد، وفي بعض الطريق إلى بصرى أخذ اثنان من الجنود يتكلّمان في ما بينهما باللغة الشركسية، وكان العثمانيون يتّخذون من الشركس وسواهم من غير العرب جنوداً في مخافرهم، ومواقع قوّاتهم على أطراف البوادي لقمع الحركات المناوئة لهم. فهمت زينب أن الشركسيين يريدان قتلهما قبل أن يصلا بهما إلى مخفر بصرى، وعندها نزعت لثام الفارس عن وجهها، وباللغة الشركسية ذاتها أفهمتهما قصّتها، وبأن هذا الرجل الذي معها هو مَنْ حرّرها، نخوةً وشهامةً منه، ولم يمسّها بسوء، وهو من أنقذ شرفها من قاتل أبيها التاجر الشركسي الذي انقطعت أخباره، واتّهم الدروز بقتله.
عندما سمع الشركسيّان كلام زينب، ترجّلا عن فرسيهما، وتعرّفا على شقيقتهما المفقودة، تعانقا بعد فراق، وفكّا القيود عن الأسيرين، وقبّلا يديّ الشيخ سلامة الذي ثأر لهما من قاتل أبيهما، وأنقذ شقيقتهما ممّا كانت تعانيه من محنة، وحين وصلا إلى قائدهما، عرضا عليه قصّتهما وقصّة شقيقتهما، زينب، ومن ثمّ تمّ الكشف عن الهيكل العظمي المدفون في دارة القاتل الذي استحق الجزاء العادل من سيف الشيخ سلامة.

مأساة الشيخ سلامة
كان مسعى البدوية لإنقاذ زينب الشركسية مسعًى فردياً، لكنّه ترك جرحاً عميقاً عند ذوي المقتول، قاتل الشركسي في بُصرى، صاروا يتحيّنون الفرص ليغدروا بالشيخ سلامة، فيُعتبرون أنهم أخذوا بثأرهم منه، وعلى الرغم من وجود مصالحة تمّت بين الدروز والحوارنة سنة 1896، فإن السلطات العثمانية جرّدت على جبل الدروز ماعُرِف بحملة ممدوح باشا ــ أو حرب عُرْمان ــ في أواخر ذلك العام، بدواعي فرض التجنيد على الشبّان الدروز، وتحصيل الضرائب، وبسط هيمنة الدولة. وبما أن تلك الحملة هُزمت هزيمة ساحقة أمام مقاتلي الدروز، إذ خسر العثمانيون أكثر من ألف قتيل، كما خسر الدروز أبطالاً بارزين منهم: عقاب البربور ومحمّد أبو خير، ومحمود غزالي ومنصور الشّوفي، وجبر الحَجَلي وحسين أبو خير ويوسف ياغي، وسليمان طربيه وحمد الصغير وعبّاس المتني، لذا فقد عمدوا سنة 1897 إلى إرسال حملة أخرى بلغ تعداد عناصرها نحو ثلاثين ألف جندي، وتمكّنت تلك القوات من احتلال السويداء، وفرض شروط قاسية على الدروز أقلّها نزع جميع الأسلحة، وتسليم عدد من الزعماء والوجهاء المطلوبين، ونفيهم وتهجيرهم مع أسرهم إلى الأناضول وجزائر البحر المتوسّط، ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة ذهبية كتعويض عن الجنود القتلى من العثمانيين في المعارك، يضاف إلى ذلك تجنيد ثلاثة آلاف درزي لمدة خمس سنوات، للمشاركة في معارك العثمانيين في بلاد البلقان. وكانت سياسة التجنيد العثمانية تعني إفراغ الجبل من رجاله، وتركه هدفاً للغزوات البدويّة، ولأطماع الطامعين.
ومع ذلك لم تنجح الحملات العثمانية في القضاء على المقاومة الدرزية،” حاربوا بضراوة لا مثيل لها”، على حد ما جاء في أحد التقارير الدبلوماسية، وباعتراف الأتراك العثمانيين أنفسهم، إلى درجة أنه في إحدى المعارك بالقرب من بلدة قنوات، إلى الشمال من مدينة السويداء، مركز الجبل، كان بين شهداء الدروز أكثر من ثلاثين امرأة ــ يذكر ذلك عبّاس أبو صالح وسامي مكارم في كتابهما” تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”.(ص 302)
في ذلك الظرف الحرج أخذ العثمانيون يستغلّون التباين المذهبي بين الحوارنة السنّة، وبين الدروز، فيوقظون العداوات النائمة، ومن بينها ثأر ذلك المُضيف من بصرى، الذي غدر بضيفه التاجر الشركسي، ثم شاء له الهوى أن يغتصب ابنته، وكان أبو جبر سلامة ( سمّ الموت)، على إيغاله في العمر، ومع ولديه جبر ونايف وحفيده، ابن ابنته، رشراش، من بين أولئك الفرسان من بني معروف الذين أفلتوا من النفي والقتل، فاستمرّوا في مقاتلة العثمانيين حيثما وُجدوا، فيهاجمونهم في مواقع قواتهم التي انتشرت في العديد من قرى الجبل، ثم هم يؤوبون في بعض الليالي إلى قراهم وبيوتهم خفية عن أنظار الجواسيس لتدبير أمور أُسَرِهم، وتسيير شؤونها، وفي اليوم التالي يلتحقون بسواهم من المجاهدين لشن الغارات على القوات العثمانية ومباغتتها. أمّا ابنه فارس فكان قد سيق إلى المنفى في جزيرة كريت التي كانت آنذاك من ضمن الممتلكات التي أضاعها العثمانيون في ما بعد.

ثأر قديم وتحريض من الولاة العثمانيين مهَّدا الطريق لعملية انتقام غادرة من البطل سلامة الأطرش وأفراد أسرته

نكبة الأسرة
في ذلك الزمن المظلم من الليل العثماني المخيّم على جبل الدروز، من سنة 1897، وفي ليلة ظلماء، قدم جماعة من أهل بصرى في زِي ضيوف إلى دار الشيخ أبي جبر سلامة في بكّا، كانوا يشكون إليه سنين القحط والجوع، ويطلبون منه المعونة والمونة لأُسَرِهِم، وهو المعروف بسعة رزقه وكرمه وجوده، فرحّب الشيخ بضيوف الليل، وكَرّمَهم وأطعمهم من زاده، وسقاهم من قهوته، وواعدهم أن يأتوا مع صباح اليوم التالي بجمالهم ودوابهم، فيعطيهم ما يطلبون من قمح وطحين وسمن ودبس ومونة.
ومع فجر الغد جاء ضيوف الأمس بنيّة الغدر، وخلعوا زيّ الضيوف هذه المرّة، قدموا مع مهاجمين آخرين بأسلحتهم، وفاجأوا أهل الدار الآمنين الذين هبوا على جَلَبَة المهاجمين، المفاجأة الغادرة أفقدتهم تنظيم المواجهة، قُتل نايف برصاصة مزّقت صدره قبل أن تمكّنه صولة الغادرين من أن يتناول بندقيته، وهو الفارس المغوار الذي طالما أقلق الأعداء في غاراته عليهم مع والده سلامة، ومع أخيه الأكبر جبر، وابن أخته رشراش، ولم يلبث أن قتل جبر ثم ألحق المعتدون بهما أبن أُختهما رشراش، دقائق صاعقة مرّت كالعاصفة، قتل جميع من في الدار من رجال، ما عدا الوالد سلامة، الذي أُصيب برصاصة في فخذه عطّلت قدرته على المقاومة، وحِيْد به إلى زاوية خَفيّة من الدار فنجا.
على عَجَل نهب القَتَلَة ما استطاعوا نهبه من مؤونة وُعِدوا بها في الأمس، ولم يَعِفّوا عن نهب الأثاث والمقتنيات، ثمّ فرّوا إلى بلدتهم بصرى تحت حماية السلطة العثمانية وأمام أنظارها.
سَلِم من القتل في ذلك الصباح المشؤوم جنين ذكر كان في بطن أمّه ــ ذلك هو صيّاح، الذي سيصبح أحد أهم رجال الثورة السوريّة الكبرى إلى جانب سلطان ــ، أمّا “ بكّا”، القرية المغدورة، فرجالها وشبّانها مُوَزّعون بين منافي الأناضول، أو المُساقين إلى الخدمة القسريّة في جبهات البلقان، أو من هم خارج القرية في مهمّات ليلية لمناوأة معسكرات القوات العثمانية التي احتلّت معظم قرى الجبل، والقلّة الآخرون نأت بهم الغفلة عن صدّ المعتدين.
سريعاً انتشر خبر وقعة بكّا بين أهل الجبل، انتشر كنارٍ في هشيم جاف، لكنّهم في ذلك الظرف العصيب كانوا محاصرين في جبلهم المُدَمّى بين مدافع ورصاص الجيوش العثمانية، وبين سندان الحوارنة والبدو والشركس والأكراد الذين تمكّن العثمانيون من تأليب معظمهم ضدهم، وذلك بهدف إخماد مقاومتهم وكسر شوكتهم.

كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق
كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق

حزن شبلي الأطرش
شاع خبر نكبة الحمّود الأطارشة في الحواضر والبوادي، وتناقلته الركبان بعيداً، وعبر أسلاك التلغراف وصل إلى المنفيين من الدروز في الأناضول، وفي جزائر البحر العثمانية، كان شبلي الأطرش زعيم الدروز الأسطوري ــ كما تصفه المؤرّخة الألمانية بريجيت شبلر ــ منفيّاً آنذاك في جزيرة سيناب، إحدى جزر البحر المتوسّط. وصله نبأ نكبة أبناء عمّه، وكان شاعراً شعبيّاً، عُرِف برقّة شعره وشفافيّته، وتوثيقه لأحداث عصره في قصائده التي تنبض عاطفة وحنيناً وألماً وصدقاً. بعث شبلي بقصيدة عُرِفت بـ “ قصيدة الحمّود “ إلى عمّه سلامة يستنكر فيها المأساة التي قُتِل على إثرها إبناه وحفيده، ومنها:
إن جيــــــــت “بَكّا” ريــــح يــــا طارش الفـــــــــــلا
ما غيـــــــر هـــــــــذي يــــــــا فتــــــــــــى ما عـــــــــــــــــادْ
نــــــــــوّخْ ذَلولك وانســــــــف الكــــــــور جانِبُــــــــهْ
وانطــــــــي المسَطّــــــــــــر فــــي حـــــــــروف مــــــــدادْ
لَيَدْ “ أبــــــو جبــــر “ الشّجيـــــــــــــع المسمــــــــــــّى
وْفــــارس تَمــــــــام أمّــــــــا زمانــــــــــــو بـــــــــــــــــــــاد
اَلشّـــــــــــيبْ عيّا عــــا ذياب ابــــن غانــــــــــــــــم
لا يـــــا خَســــــــارهْ شــــــــــــاخْ نمـــــــــر الــــــــــــــــــــواد
أمّـــــــــا (سلامــــــــه) ماضيــــــــاتٍ مضاربـــــُهْ
لــــــــولا الكَبَــــــــــــرْ زيــــــــــــــر الحــــروب وْكـــــــــــاد
علــــــــى فَقــــدْ (جَبــــْرْ) انْهَدْ حِيْلــــيْ وقوّْتــــي
وعلــــــــى (نايــــــــف) الفــــرسان بالمِــــــــطــــــــــراد
تــــــــرى فقـدهــــم يا عـم خلخل عزايمــــــــــــي
وإدعــــــــــــا همومــــــــــي عَ الفهــــــــود اطْــــــــــــــــواد
تــــرى فقدهـــم يا عم ضعضــــع جوانبــــــــــــي
كأنّـــــــــي من البلــــــــــــوى بغـيــــــــــــر رشـــــــــــــــــــاد
يـــــا حيف عــــا تلك السبــــــــاع البواســــــــــــــل
مــــــــــــع مقطــــــــــــــــعٍ أقســـــى مــــن البـــــــــــــــولاد
فرســــــــان باللّقــــــــا، كَريمــــــــين بالعــــــــــــطا
وِنســــــــــــــــــين بالمحــــــــيا عيــــــــــــــــــال طــــــــــراد
هذا كلامي يــــا “ سلامــــــــــــه “ وبلوتــــــــــــــــي
عَ البُعــــــــْد أعــــــزّيكـــــــــــــم بغيــــــــــــــــر مــــــــــراد
بعد ذلك الاعتداء الغادر بفترة وجيزة، لم يلبث الجدّ، أبو جبر سلامة أن توفّي بعد عمر مديد نَيَّف على المائة عام، أمضى معظمها في ميادين البطولة والكفاح، لكنّها انتهت بمقتل ولديه جبر ونايف، وحفيده رشراش، توفّي قبل أن يرى أو يعرف جنسَ، أو اسم المولود الذي ستنجبه زوجة ابنه الشهيد نايف.

الانتقام المخيف
أمّا فارس، الابن الذي أسلمه المنفى في جزيرة كريت من مذبحة الأسرة في قرية”بكّا”، فقد بقي على قيد الحياة، وعندما علم بنبأ ما حلّ بذويه من شؤم، صمّم على الفرار من منفاه، وبعد جهد، ومعاناة مريرة استطاع الهروب من الجزيرة، عبَرَ البحر، وقطع الفيافي والقفار متجنّباً رقابة العثمانيين، متحمّلاً الأهوال والصعاب، ومتحدّياً الأخطار، إلى أن وصل إلى قريته في نهاية الأمر، ومنها مضى مع ابن أخته قبَلان بن عبدي الأطرش يلاحقان المعتدين بثأر ذويهما للاقتصاص منهم، فكالا الصاع صاعين، وأصبحا شبحين مرعبين تتذرع بهما الأمّهات لتخويف الصغار، وتهديد الكبار، وبقيا على هذه الحال فترة من الزمن، إلى أن أدرك المعتدون أنّ شؤم ما فعلوه من غدر سيبقى عارُهُ يلاحقهم ما لم يطلبوا من أولياء الدم الصلح وحقن الدماء، وهنا تدخّل المصلحون بعد أن أصبحت صولات فارس وقبلان على الجناة حديثاً يتداوله أهل الحضر والبوادي، وعبرة يعتبر منها كلّ غادرٍ معتدٍ، فتوقّفت الملاحقات.

رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة-5
رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة

وصية فارس الأطرش
كان فارس قد حمل التركة الثقيلة من بعد وفاة أبيه سلامة، لكنّه لم ينجب أولاداً، كما أنّ القدر لم يمهله ليرعى تنشئة ابن أخيه، توفّي بعد أن وُلد صيّاح، وهو يحمل جرحاً لم يندمل من أثر العدوان على الأسرة ذات التاريخ العريق، لكنه ترك قصيدة يوصي فيها الأهل والأصدقاء والأصحاب برعاية الطفل اليتيم، ويأمل فيها أن تظل المضافة مفتوحة الأبواب للضيوف والمحتاجين، ويتمنّى أن يكبر الطفل ( صيّاح) ليملأ الفراغ الذي تركه الرّاحلون، وليجدّد الأمل المرتجى، يقول فارس في ما يقول من وصيّته:
أوّل وَصيــــّة يا هَلــــــــي وداعتـي لا تنسوهــــــــــــا
(بصيــــّاح) يــــا اللي ضاويــــــــاً فـي نواحيهـــــــــــــا
ثاني وَصيّة يا هلـــــــــــي المضافــــة لا تِخْلوهــــــــا
بالضّــــيف حَيــــــــّوا وبالترحيــــــب زيدوهــــــــــــــــــا
بَلْكي الزمـــــــان بْصَيّـــاح بيــعــــــــــــود ليــــــــــــها
وبلكـي يقــولوا بـــعــــــــد أصحابهــــــــا فيـــــــــــــــــــها

صياح الأطرش يعفو عن المعتدين
ولكن الجرح الذي خلّفه المعتدون لم يندمل، وظلّ جمراً تحت الرّماد إلى أن كبر حفيد سلامة ”صيّاح” إبن الشهيد نايف، وأصبح قائداً مشهوراً في معارك الثورة السوريّة الكبرى على الاحتلال الفرنسي لسوريا، في ذلك الوقت قدم إليه وفد من ذوي أولئك الذين غدروا بِجدّه وأبيه وعمّه وابن عمّته، وطلبوا منه أن يأخذ بثأره منهم دون سؤال أو جواب، فعفى عنهم قائلاً:” معاذ الله أن أقوم بعمل مشين، فالعفو عند المقدرة”، وأكرمهم، وهكذا عادوا سالمين إلى بُصرى.
كانت المعركة على أشدّها ضدّ الفرنسيين، ولم يكن الزمن زمن إحياء الثارات بين الدروز والحوارنة، وهم الجيران، وأهل الوطن، والظروف تتطلّب أن يكونوا في خندق واحد ضدّ المحتلّين، لكنّ ذكرى سلامة الحمّود الأطرش بقيت عنواناً للبطولات والنجدة في تاريخ بني معروف.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading