الكلام على التزوير الإسرائيلي صحيح، لكنه لا يفاجئنا، ولا يتضمن جديداً. لكن المفاجىء حقاً، إنما كان التبنّي السريع من الإعلام الغربي للسردية الإسرائيلية، إلى أقصى حد، ودون مراجعة أو نقد – رغم أن ذلك مفهوم أيضاً ويفسّر للمرة الألف طبيعة الكيان الصهيوني باعتباره منصة غربية استعمارية استيطانية في الشرق، وبخاصة في قلب العالم العربي.
المفاجىء حقاً هو التخلي السريع من أهم شبكات الإعلام التلفزيوني الغربي عن أبسط قواعد الإعلام المعروفة، والمكرسة في مدوّنات ملزمة أخلاقياً ومهنياً وأحياناً قانونياً لكل أداة إعلامية. كلها اختفت في لحظات، لأن الموضوع إسرائيل! على عتبة مصلحة إسرائيل (والعداء للعرب) تصبح كل المدونات الأخلاقية والمهنية، وعنواناها الحياد والموضوعية، في الخارج، ولا من يسأل عنها.
وهو ما حاولت متابعته في الأسابيع الستة الماضية، مكتفياً بمتابعة لصيقة لتغطية شبكتين عالميتين، CNN&BBC، (الأولى بنسبة عالية جداً، وربما كاملة، والثانية أقل، لكنها تكفي كعينة لما يجري عرضه عموماً.) وخطورة ال سي أن أن على وجه الخصوص تكمن في أنها الأضخم على مستوى الإمكانيات البشرية والتقنية، والأكثر سرعة وشمولية في إنتاج الأخبار وبثها عبر السواتل الفضائية، ما حوّلها مصدراً لمعظم الأدوات الأخبارية عبر العالم. أي ما تقترحه من سرديات يتكرر من دون تعديل غالباً في معظم تلفزيونات العالم ومصادرة الإعلامية.
من ملاحظات اللحظات الأولى التي أعقبت الإعلان عن طوفان الأقصى، أظهرت القنوات الفضائية الدولية (وخصوصاً السي أن أن) على الفور ومباشرة تبنّيها شبه التام للسردية الاسرائيلية الإعلامية «الرسمية»، وجرى التعبير عنها لا باعتبارها سردية إسرائيلية، بل باعتبارها سردية موضوعية تنقل ما حدث فعلاً. تخلّت ال سي ان أن ومثلها القنوات التلفزيونية الغربية لأيام وأسابيع عن قفازات الحرية الديمقراطية والموضوعية والتوازن والحياد – وهي قواعد تفاخر القنوات الغربية باعتمادها في نقلها للأخبار – فكشّرت عن أنيابها وأظافرها وقدّمت ما حدث في منطقة غلاف غزة، خبراً وصورةً، على النحو الذي تضمنته السردية الإعلامية الإسرائيلية: هجوم وحشي مسلّح على مدنيين مسالمين يحتفلون بالغناء والرقص طوال الليل على الشاطئ، أو على العجّز والأطفال في المستوطنات، مع صور الجثث على الشاطىء، دونما أي ذكر لسيطرة حماس على النقاط العسكرية الاسرائيلية، دون أن يتخلى مقدّم أو مقدّمة الأخبار عن هدوئه وصوته المنخفض وانتفاء أي مؤشر لانفعال على الوجه، مما يوحي بالجدية والحيادية إزاء ما يُقدّم من أخبار وصور.
لاحظنا على مدار الساعة مدى تكرار نقل قنوات الإعلام التلفزيوني للخطاب الإسرائيلي، من دون مناقشة، ولا نقد، ولا محاولة التعمّق أو التوسع أو الاستناد إلى مصادر مستقلة، أو نقد السردية الاسرائيلية بأي شكل من الأشكال، واحتمال الكذب أو المبالغة فيه.
منذ اللحظة الأولى، انضمّ إلى حملة التضليل التي قادها الإعلام الاسرائيلي، معظم قنوات الإعلام العالمي المعولم ( CNN, FOXNEWS, CBS, SKYNEWS, BBC, وسواها ). كيف غطّت القنوات الدولية تلك هذا الحدث الرئيسي الأبرز من دون شك، بدليل دفعه تطورات حرب أوكرانيا إلى المرتبة الثانية أو الثالثة؟ كانت المهمة التقنية للقنوات تلك جعل المشاهد حول العالم، وخصوصاً، الغربي «بلع» السردية الإسرائيلية بالكامل من دون نقاش، والتعاطف مع إسرائيل موضع التهديد، من خلال صور منتقاة بدقة، وبعضها من ألأرشيف.
نقلت القنوات تلك منذ اللحظة الأولى السردية الإسرائيلية كاملة:
من المنصات والمواقع، من تل أبيب، أو من المستوطنات الأمامية الإسرائيلية؛
يندر أن ظهر مراسل غربي في غزة لأسابيع، واكتفي في أحسن الأحوال بمراسل خاص لا أكثر،
بل رافق بعض المراسلين (نك روبرتسون من سي أن أن، 14/11)القوات الإسرائيلية، في مقراتها كما في تحركاتها، وفي توغلها في غزة.
جرى نقل الموقف الاسرائيلي السياسي والعسكرية، وخصوصاً إحاطات الناطقين العسكريين، دقيقة بدقيقة، كلمة كلمة، حتى في الأكاذيب الفاقعة (من مثل تبرير الهجوم على مجمع الشفاء لقتل مسلح كان يحتجز ألف مدني)، (10/11)، إلخ.
في وسعنا نسيان كل تفاصيل روايات المحطات تلك، لأنها تشابهت على نحو غير مسبوق، في الأيام الأولى لعملية طوفان غزة، ثم مع تحوّل إسرائيل للهجوم البري على غزّة.
في الجزء الأولى جرى التركيز على المدنيين الذين كانوا في احتفال موسيقي قبل أن تهاجمهم «ميليشيا متعصبة متعطشة للدماء». وتعززت السردية كما قلنا بصور الجثث المتناثرة في غير مكان من المستوطنات، أو في المكان القريب من الشاطئ؛ مع إغفال تفاصيل ما حدث في المقرات العسكرية، قبل أن يجري تمرير المعلومات التي تفرج عنها الرقابة العسكرية الإسرائيلية.
في الجزء الثاني، مع القصف التدميري دون تمييز لأحياء غزة ومستشفياتها ومدارسها ومخابزها ومدارس الأنروا حيث لجأ عشرات ألوف المدنيين، جرى التعتيم على صور الفظائع ضد الحياة المدنية والمدنيين، دون أن يكون هناك ما يستحق التعاطف أو الإدانة وعلى قاعدة الخطاب الرسمي الإسرائيلي we kill the killers وعليه لا حاجة لنقد أو احتجاج أو اعتراض أو حتى تقديم وجهة النظر الفلسطينية المقابلة بأي حال من الأحوال. جرت تغطية المؤتمرات الصحافي للمسؤولين الاسرائيليين السياسيين والعسكريين لساعات، ومن دون أن يعطى الجانب الفلسطيني ما يوازي عشر ذلك لتقديم سرديته أو خطابه. جرى تبنّي خطاب ناتنياهو لما يجري من فظائع لا تصدّق بحق المدنيين باعتباره تحرير غزة من القتلة ورفع هيمنتهم على سكان غزة المسالمين، وفق مقابلة نتنياهو في Fox News في التاسع من نوفمبر:
Demilitarizing Gaza, liberating Gaza from killers, human beasts, who intimidate Gaza peaceful population
ويكمل في خطاب موجّه للغرب، (11/11 «أن اسرائيل يجب أن تنتصر في حربها على حماس، فإذا هزمت سينتقل إرهاب حماس إلى أوروبا وأمريكا».
والشواهد المماثلة بالعشرات، وكلها متشابهة: الاستناد التام إلى الرواية الاسرائيلية، مع القليل القليل من الرواية الفلسطينية، من الخارج، بتقطع، واختصار، وإبراز كل التناقضات المحتملة، وبخاصة تناقض رام الله – غزة؛ وبما لا يؤثر في كل الأحوال على السردية الأساسية المنحازة إلى الجانب الإسرائيلي. وفيما كان الجانب الفلسطيني يقدّم في صورة «الملثّم» المجهول- المخيف، كان التركيز على المخطوفات، وبخاصة صغار أو صغيرات السن، ونقل صورهم/ن العائلية يلعبن، يسبحن، يتمددن في حدائق منازلهن الخضراء، مع استصراح ذويهم. إلى ذلك، يجري تقديم الإسرائيلي في صورة الجيش النظامي؛ متجاهلين كلياً أخبار أو صور المستوطنين المتعصبين والمتدينين وهم يدخلون مخيم جنين بالحديد والنار ويعودون بالعشرات من المعتقلين والمعتقلات، أو صور المستوطنين المتدينين يوقفون سيارات المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ينكلّون بالمدنيين الفلسطينيين، ويحرقون قراهم القريبة؛ متناسين آلاف الغارات الجوية في 100 يوم من غزو غزّة، أُلقت خلالها أكثر من 50 ألف طناً من المتفجرات ما يعادل قنبلتين نوويتين، إضافة إلى 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ولا يزال تحت الأنقاض. كذلك تصريحات «وزير التراث» الإسرائيلي باحتمال إلقاء قنبلة نووية على غزّة، وتصريحات وزير آخر أن نقل الفلسطينيين من غزة إلى مصر ودول أخرى أمر حتمي، أو ثالث يطلب عودة الاحتلال إلى غزة.
كلّ ذلك لم تره، ولو في الحد الأدنى، عدسات كاميرات ال «سي أن أن» و ال «بي بي سي»، كما غيرهما من الشبكات التلفزيونية الغربية العملاقة، وقد بلغ انحيازهما وسواهما حد التقيّد الحرفي بالتعليمات الصادرة إلى غرف الأخبار، ومن يجرؤ على التعاطف ولو في الحد ألأدنى مع مأساة غزّة مصيرهُ الطرد – كما حدث لندى عبد الصمد بعد 27 سنة خدمة في أخبار ال بي بي سي.
بلغ انحياز قنوات الإعلام العالمي المعولم للسردية الإسرائيلية من دون مناقشة أو تداول، وطرد من يتجرأ على مخالفة حرفية السردية تلك، حد استفزاز الصحفيين الغربيين أنفسهم، إذ وقّع أكثر من 750 صحافي في أسوشيتد برس ورويتر وأي أف ب بياناً نددوا فيه بتبعية «غرف الأخبار» للسردية الاسرائيلية من دون توفير أية فرصة فعلية لأية رواية مقابلة (9/11).
لا نغادر التوصيف هذا من دون توقف للحظة مع ال CNN الأكثر مشاهدة، لي وفي المنطقة برمّتها كما يقال. لم أر إلا نادراً إن لم أكن مخطئاً مراسلاً لها في غزّة، هناك ربما من يرسل لها، تحت تعريف special. تقارير أحداث غزة هي بالكامل من إسرائيل أو من واشنطن. التقارير التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط وفيها تغطية ما يجري من أحداث ليست بالضرورة هي التي تبث لباقي أقسام الكوكب، فله نشراته الإخبارية وتغطية مختلفة عن التغطية التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط. الفكرة هنا هي أنه إذا كان لجمهور المنطقة العربي أن يفرض لدى المحطة بعض المراعاة لميوله ورغباته، فالتغطية التي تبث إلى أقسام الكوكب الأخرى ليست مقيدة بهذا الاستثناء وهو ليس مهماً أو كبيراً، وفي وسع شبكة السي أن أن أن تبث المحتوى الأقصى تأييداً لإسرائيل.
ومع ال سي أن أن أيضاً، نقول: هل يتخيّل عقل أن الشبكة العملاقة التي تبث ربما كل ساعة «أنقذوا هذا الحيوان أو ذاك save Tigers for example،» لم تجد في مقتل 30 ألف مدني في غزّة، ثلثاهم نساء وأطفال، وأكثر من 30 ألف مصاب، سبباً كافياً لجعلها تضع لثوان على الأقل: Save Gaza children، أو لتفكّر في الأكثر قسوة على الإطلاق ولم يحرك «ديمقراطية الشبكة» والتزامها «حقوق الإنسان»، والمرأة على وجه الخصوص، وهو الواقعة التي أثبتتها الممرضات الهاربات من غزة (قناة 24 الفرنسية 6/11) من أن 5000 إمراة فلسطينية حاملاً في قطاع غزة كان يفترض أن يضعن في شهر تشرين الأول لم يُعرف ماذا حدث لهنّ! أو لمواليدهن – إذا كانوا أحياء! هل من قسوة أكثر من ذلك؟ لكن شيئاً أيّاً يكن لم يبدّل في سردية ال «سي أن أن» المتطابقة إلى حد التماهي مع السردية الإعلامية الاسرائيلية «الرسمية»! أما مزاعم حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأطفال، والمساواة والديمقراطية، فكلها شعارات للاستهلاك لم تجد في مجازر غزّة بحق المدنيين، وما فيها من قتل دون تمييز، يبلغ حد الإبادة، وتهجير لعشرات الألوف من المدنيين ومعهم حيواناتهم ينتقلون في قوافل تضم عشرات الألوف من شمال القطاع إلى جنوبة ما يستحق التوقف عنده، أو شجبه؛ بل ما يحدث العكس وهو التلذذ (غير المعلن) بصور وفيديوات مطولة للتهجير البطيء ذاك أو New Exodus!
(كأنما شبكة ال سي أن أن تحتفل على نحو ملحمي بنهاية عالم، وتباشير عالم جديد، كما يردد نتنياهو).
دون أن ننسى أخيراً كيف بثّت شبكة CNN صوراً من الإعلام الإسرائيلي لأطفال قطعت رؤوسهم باعتبارها من أعمال مقاومي عملية 7 تشرين أول في غزة؛ ثم سحبت الشبكة الخبر في اليوم التالي واعتذرت عن الخطأ، حسب زعمها. كذلك تبنيها لرواية ناطق عسكري إسرائيلي يشرح بالتفصيل كيف أن سلكاً كهربائيا كان كافياً ليثبت أن قيادة حماس جعلت المستشفى غرفة عمليات لها، قبل أن تعود في اليوم التالي لتقول ليس من أدلة كافية، ولكن في الحالين التأثير المباشر المطلوب من نشر الصور المزيّفة كان قد تحقق، ولا يخفف منه إلا قليلاً النفيُ والاعتذارُ اللاحقين. إذا كان تعريف الخبر في الإعلام، ومنه التلفزيون، هو نقل الواقعة في كلام أو صور مطابقة لما حدث، فإن ما جرى في الإعلام الغربي كانت انتهاكاً تاماً للتعريف الكلاسيكي ذات: بات الخبر هو ما يصنع الواقعة story، على نحو خرافي أو توجيهي، غير مباشر وإيحائي في الغالب.
هذه عينة من المنهج المتبع من طرف قنوات الإعلام المعولم في كل قضية تقريباً، وإلى الحد الذي لا تستطيع تمييزه من الإعلام الاسرائيلي بل ربما اتسع هذا لبعض النقد بخلاف قنوات الإعلام الغربي، الممولة من مراكز القرار السياسي والمالي العالمي – مع الاستدراك بأنه مع نهاية عملية غزة تقريباً واطمأنوا على النصر الإسرائيلي (المعيب) صار في وسع محطات التلفزة الغربية استضافة محاورين فلسطينيين واعتماد مراسلين فلسطينيين وعرب والكلام مطولاً عن مأساة الأطفال «الخدّج»، وهو ما لم نلمسه ابداً حتى في أثناء المجازر كما في مجزرة المستشفى المعمداني، حيث سقط أكثر من 800 مدني بين قتيل وجريح بقنبلة تزن طناً ألقتها طائرة حربية أسرائيلية، وبررها ناطق عسكري إسرائيلي أنها نتيجة عملية إطلاق صاروخ فاشلة من «الجهاد»، وكل صواريخه لم تقتل ربما أحداً في يوم من الأيام.
وأية موضوعية وديمقراطية وتنوع حين يجري طرد موظفة في أخبار ال بي بي سي العربية، ندى عبد الصمد، بعد 27 سنة خدمة في الشبكة لأنها تجرأت وأبدت تعاطفاً مع مقاومي غزة؟
تطول لائحة الانتهاكات تلك، وقد باتت على كل شفة ولسان، وهي ألقت ولفترة طويلة شكوكاً عميقة في مصداقية الخطاب الغربي الإعلامي، ومعه السياسي أيضاً، ليس في تغطية مذبحة غزة بل ربما حيال كل قضية في العالم، من أوكرانيا، إلى الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا الغربية، وغيرها. انهارت أعمدة أسطورة الموضوعية والتوازن والحيادية والديمقراطية والرأي والرأي الآخر في الإعلام الغربي، ولم يعد مصدراً محايداً موثوقاً للأخبار – كما زعم لعقود طويلة خلت – ولا مشروعاً للحرية Freedom project كما يحلو لل سي أن أن تكرار ذلك طوال الليل والنهار.