سأجعل مقالتي في ثلاثة أجزاء:
واقع الشباب وازدياد أهميته في العالم العربي الراهن عموماً،
ثم، واقع الشباب ومشكلاته الأكثر إلحاحاً في مجتمعنا اللبناني المحلي الحالي،
وأخيراً، بعض الأفكار للخروج من المأزق الاجتماعي الضاغط بقوة منذ بضع سنوات.
[su_accordion]
[su_spoiler title=” أولاً – أهمية حضور الشباب ومشكلاته في المجتمعات العربية الراهنة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]
إذا صحّ أنه كان هناك قبل سنوات أو عقود من يعتقد أن بإمكانه أن يملي على الشباب إرادته بالقسر أو التجاهل، فقد أثبتت السنتان الأخيرتان أنه كان على خطأ مبين. فالشباب عاد إلى الواجهة الإعلامية والسياسية بقوة، بل هو قلب المعادلات والحسابات والخرائط، وقلب ظهر المجن لكل شيء تقريباً، فكان أمل التغيير السلمي الديموقراطي قبل أن تخطفه الأيديولوجيات الشيطانية من هنا وهناك، وتجهض أحلامه من جديد.
من هم الشباب، إذاً؟ ما هي أحوالهم واهتماماتهم في مجتمعات العالم العربي؟ وصولاً إلى مجتمعنا اللبناني المحلي الراهن؟
وفق التعريف العلمي الدقيق، الشباب هم الشبّان أو الشابات الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين من العمر، (15 – 24)، رغم أن البعض يمدّ الفترة لتصل إلى سنة التاسعة والعشرين أيضاً.
يشكّل الشباب، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، سدس البشرية (1/6)، إلا أن غالبيتهم العظمى هي في البلدان النامية، (حوالي 80%). ومجتمعات العالم العربي هي نسبياً بين الأكثر شباباً على مستوى العالم:
فثلث سكان العالم العربي هم تحت سن الخامسة عشرة. وثلث آخر هو بين الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين.
وتعني هذه النسب أن هناك شريحة مؤلفة من أكثر من 100 مليون شاب تشكل نظرياً القوة الأكثر حيوية في المجتمعات العربية. ولكن مع الأسف، فنصف هذه الشريحة، هي من دون عمل ثابت، أي هم أسرى البطالة الصريحة أو المقنّعة، كما أن معظمها هم دون التجهيز العلمي والعملي الحديث الموازي لمتطلبات أسواق العمل الحديثة والمعاصرة.
ومن هنا تبدأ مشكلات الشباب العربي، فقد أظهرت آخر استطلاعات الرأي التي شملت المجتمعات العربية كافة، والتي نفّذت سنة 2012، (استفتاء لجنة بيرسون-مارشيلر)، أن في رأس اهتمامات غالبية الشباب العربي (82%) مطلبين بل هاجسين اثنين: “الحصول على عمل ذي مردود جيّد” و”امتلاك مسكن وتأسيس أسرة”. وقد تقدم هذان المطلبان على المطالب السياسية التي كانت هي الأعلى في سنتي 2010 و2011.
لقد كان لإهمال معظم الأنظمة العربية لمطالب الشباب الطبيعية والمحقة الدور الحاسم في انتفاضات الشباب التي رأيناها في السنوات الثلاث الأخيرة – يستثنى من ذلك مجتمعات الخليج العربي (عدا البحرين) التي نجحت من خلال تقديماتها السخية في امتصاص نقمة الشباب. ومطالب الشباب الأكثر أولوية كما تشير استطلاعات الرأي هي ثلاثة: العمل، المسكن، والحريات.
أوضاع الشباب في المجتمع اللبناني لا تختلف كثيراً عن أوضاع الشباب العربي عموماً التي عرضنا لها باختصار، مع تسجيل بعض الفروقات بالتأكيد نظراً للخصوصية الطائفية في لبنان التي تمزّق وحدة شريحة الشباب وتمنع تحوله إلى قوة تغيير ديمقراطية موحدة.
تشير الاحصاءات المتوفرة في لبنان إلى أن 19% من أفراد المجتمع اللبناني هم من الشباب، أي خمس السكان، (حوالي 700.000) شاب وشابة. وهم يشكلون ثلث القوى العاملة. أما نسبة البطالة وهي عدو الشباب الرئيسي، فقد كانت حتى قبل سنوات عالية جداً (21%) – أما اليوم فهي تزيد اليوم عن 30%.


هناك كما قلنا جوامع مشتركة مع سائر شرائح الشباب العربي، وربما سائر البلدان النامية أيضاً، إلا أن ما يميّز شريحة الشباب في المجتمع اللبناني، بالإضافة إلى ذلك، هو أنها كانت في السنوات العشرين أو الخمس والعشرين الأخيرة تحت تأثير مباشر وغير مباشر من عاملين اثنين متناقضين:
العامل الأول، الإيجابي، هو مجموع عناصر التقدم الثقافي والعمراني والحضاري التي امتلكها المجتمع اللبناني طوال عقود، وبخاصة منذ الخمسينيات، واستمرت قائمة في نسيج المجتمع اللبناني وإن على ضعف، بشكل أو بآخر. بين هذه العناصر الإيجابية: تنوع تركيبة المجتمع الدينية والطائفية والعرقية، الانفتاح على التجربتين الغربية والعربية في آن، صعوبة سيطرة الاستبداد أو الإرهاب بكل أنواعه على الشباب في لبنان بفعل التوازن القائم بين الأقليات، ارتفاع نسبة المتعلمين (96%)، ثم آثار أو مفاعيل الهجرة القديمة إلى أمريكا وإفريقيا وأستراليا وأوروبا وما جلبته من تنوع ثقافي وتجارب حضارية، ألخ.
العامل الثاني، السلبي، هو الأثر الفظ بل المدمّر الذي تركته الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة (1975-1990)، بكل مفاعيلها وتداعياتها، على أفراد شريحة الشباب اللبناني الذين ولدوا إما قبيل اندلاع الحرب بفترة قصيرة (في الستينيات) أو في خلال سنوات الحرب وما بعدها. وحتى لو وضعنا جانباً أو تناسينا حقيقة أن الشباب كانوا في الواقع الجزء الرئيسي من لائحة ضحايا الحرب المشؤومة، (100 ألف ضحية)، ومن الكتلة التي تركت البلاد، (والتي تقدّر بمليون مواطن) وما في ذلك من خسارة وطنية كبرى، إلا أن ما نستطيع ملاحظته هو أن غالب أفراد الشريحة الشبابية اللبنانية اليوم قد سقطت تحت التاثير المباشر للحراك الاجتماعي القسري الكثيف الذي تعرضت له أسرها في أثناء سنوات الحرب القاسية. فقد انتقل أكثر من مليون لبناني في هجرة داخلية من منطقة إلى أخرى، بل إن 20% منهم قد استوطنوا البيئات الجديدة التي انتقلوا إليها. وانتقل مثلهم، مليون لبناني آخر، قسراً أو طوعاً في هجرة إلى الخارج – هاجر 400.000 لبناني في سنة 1975 وحدها. كان معظم المهاجريم من فئة الشباب (بين 25 و29 سنة أولاً، ثم بين 20 و24). وكانت غالبيتهم الساحقة من الذكور (85%) ما أثّر مباشرة في التركيبة العمرية والجندرية للمجتمع اللبناني لعقود وإلى اليوم؟ وكأن الحرب لم تكفِ، فقد جاءت الأزمات الاقتصادية اللاحقة منذ سنة 1996 لتطلق موجات هجرة جديدة، ومعظمهم من الشباب، كل بضع سنوات.
إذا اكتفينا بهذين العاملين دون سواهما، لأمكننا رسم معالم شريحة شبابية لبنانية راهنة، بات معظمها متقوقع في مناطق سكنية ذات لون واحد، منقسمة طائفياً وسياسياً. ورغم الانقسامات تلك، فما يجمع فئات الشباب في كل المناطق ولدى كل الشرائح تقريباً سمات مشتركة كثيرة، وأهمها:
֍ مستوى تحصيل علمي متقدم، (96 %)
֍ ممارسة قدر عال نسبياً من الحرية الاجتماعية والشخصية بفعل الانفتاح من جهة وغياب السلطة عن المجتمع اللبناني لفترة طويلة، ثم الاستقلالية الاقتصادية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية المتكررة والتي جعلت فئات متزايدة من الشباب يستقلون اقتصادياً عن أهلهم، أو جعلت أهلهم عاجزين عن الإنفاق عليهم.
֍ انخراطهم الشامل تقريباً في مظاهر تقبل منتجات العولمة وتحولها هاجساً رئيسياً لهم، إذ باتت أبواب الانفاق الأولى لدى معظمهم “الثياب، نفقات الاتصال والتواصل المختلفة، والسهر والأكل خارج المنزل”.
֍ استخدامهم لأحدث تكنولوجيا التواصل (أكثر من ثلاثة ملايين لبناني يستخدمون الانترنت)، وكل ما لحقها من ابتكارات.
֍ انخراط واسع للمرأة اللبنانية في الحياة العامة على أصنافها (وربما أضعفها في الحياة السياسية والبرلمان رغم التحسن الطفيف الذي حدث في انتخابات ربيع 2018).
֍ نسبة البطالة العالية في صفوفهم، المباشرة منها أو المقنّعة (والتي تزيد عن الثلث في أحس الأحوال).
֍ نسبة الهجرة العالية، وبخاصة لدى أصحاب الكفاءات المهنية (أكثر من نصفهم نحو بلدان الخليج) ولأسباب متصل معظمها بالعمل (62%) ثم التعلم (21%) – ثلثا من هم بين 15 و29 تقدموا مرة واحدة على الأقل بطلب هجرة إلى إحدى السفارات أو القنصليات.
إذا اكتفينا بهذه السمات والظواهر فقط، إذ هناك غيرها أيضاً، بدت بوضوح النتائج والتداعيات النفسية والاجتماعية التي جلبها النظام السياسي اللبناني، والسياسات الرعناء التي ضربت المجتمع اللبناني منذ السبعينيات، فألقت بكامل ثقلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على شريحة الشباب الطريّة والحساسة فتركت في مشاعرهم وأفكارهم وشخصيّاتهم وسلوكهم أبلغ التأثير – السلبي غالباً – والتداعيات التي حفرت فيهم عميقاً ولم يكن من السهولة إزالتها، بل هي ترسخت على مرّ السنين بفعل استمرار الأزمتين السياسية والاقتصادية، وغالباً ما يتداخل فيها الاقتصادي مع الاجتماعي مع السياسي ليضغط بقوة على تركيبة شخصية الشاب اللبناني الراهن وعلى أشكال سلوكه وردات فعله.
وباختصار، لقد دفع الشباب اللبناني ثمن إخفاق- بل الاخفاقات المتكررة – للقيّمين على السياسة والحياة العامة في المجتمع اللبناني الحديث.
لقد سقطت شخصية الشاب اللبناني تحت ضغوطات متناقضة من كل اتجاه، فلم تبق متماسكة، وظهرت فيها شقوق واختلالات معلنة، أي نراها، أو غير معلنة ولا نراها، وهي أخطر بكثير؛ ومن هذه الشقوق والاختلالات دخلت كل المشكلات الإضافية، وكل أنواع الانحرافات بل ربما دخلت منها الشياطين نفسها – وقد بات للشياطين في زمننا الراهن أكثر من اسم وشكل ولون.
هنا تكمن جذور معاناة الشاب نفسه – ونحن أحياناً بل غالباً ما نلقي عليه اللوم، فلا ننتبه إلى وجهات نظره، ومعاناته، بل لصراخه وحالات يأسه. من هنا يجب أن نبدأ.


[/su_spoiler]
[su_spoiler title=”ثانياً – المشكلات المنتشرة، والأكثر خطراً وإلحاحاً” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]
يجب الاعتراف أن هناك ملامح مجتمع شبابي متميز من سائر شرائح المجتمع الأخرى، وهناك بالتالي مشكلات اجتماعية تخص هذا المجتمع، بعضها قديم وبعضها الآخر مستجد ولم يسبق لنا معاينته. وهذا يعني أن هناك مصادر جديدة للمعرفة الاجتماعية، وبعضها يحتاج إلى تركيز شديد، وإلى مقاربة منهجية جديدة. وهي في انتظار البحث الاجتماعي الإضافي والمعمّق.
وعلى ذلك يجب الاعتراف أن لشباب اليوم حقوقه ومطالبه المشروعة الكثيرة، ولكن هناك أيضاً المشكلات، والتي لا يجوز تناسيها أو عدم الاعتراف بها أيضاً. وأي تناس أو إهمال لها إنما يزيد من خطورتها.
بعض أخطر المشكلات تلك، وهي موضوع هذه المحاضرة، هي أشكال الفساد والانحراف الأكثر انتشاراً، والتي باتت خطيرة في السنوات الماضية، وباتت مهددة لحاضر ومستقبل الشباب على المستوى الشخصي، كما باتت عوائق وقيوداً تحول دون إطلاق طاقات التغيير والتجديد والبناء فيهم ولدورهم الحاسم في مجتمعهم.
تتمثل أشكال الفساد والانحراف المنتشرة في ظاهرات سلوكية مختلفة، قد تبدأ بريئة تماماً، لكن المبالغة بها واتصالها بعادات سلبية معيّنة يحوّلها بالتدريج إلى ميول غير سوية، منحرفة، خارجة عن الإرادة، وإلى أشكال سلوك مرضي وفق توصيف علماء السلوك والاجتماع، ناهيك عن تناقضها الصارخ مع تقاليد أسرنا الشرقية ومجتمعنا العربي الإسلامي وقيمه.
وتقييمنا لها بالفاسدة أو المنحرفة ليس تجنياً، بل يستند إلى حقيقة أنها مؤذية للفرد نفسه، وتصل إلى حد تدمير وقتل هذا الفرد، بالإضافة إلى أنها مؤذية ومعطّلة للمجتمع ككل، ومضيّعة خصوصاً لطاقات الشباب التي لا يقوم مجتمع سليم أو قوي من دونها.
يتدرج السلوك الاجتماعي غير السويّ من مستوى التخبط والضياع الفرديين، إلى مستوى الفساد الاجتماعي، فإلى درجة الانحراف الأخلاقي والخطر الحقيقي على الفرد والمجتمع معاً، ويمكن أن تكون من وجهة نظري وبالتدريج كما يلي:
֍ الإفراط في السلوك الاستهلاكي المرضي، وما فيه من كره للعمل، وبخاصة العمل اليدوي، وانعدام الانتاجية، لكأننا بتنا كائنات طفيلية نعيش على جسد سوانا لا أكثر.
֍ الافراط في التقليد السطحي لعادات السهر في المقاهي والمطاعم والملاهي كل ليلة وحتى الصباح واعتبار ذلك معياراً لكونه(ها) شاباً أو شابة يعيش العصر والحداثة، ومن يتخلّف فهو خارج العصر.
֍ الإفراط في عادات غير صحية وشبه مرضية، وبخاصة التدخين والأركيلة والكحول، والتي تبدأ على سبيل التسلية ومجاراة الرفقة لكنها تنتهي عادات متمكنة وخطرة على صاحبها(تها) قبل سواه(ها).
֍ تعاطي المخدرات بأشكالها ودرجاتها المختلفة (من الحشيشة وصولاً إلى عقاقير الهلوسة) والتي تتحول سريعاً إلى وحش مفترس قاتل وأقوى بكثير من متعاطيها، فيستسلم لها أكثر فأكثر وتتمكن منه أكثر فأكثر، وينتهي لا محالة عليلاً في المصحّات، إن لم نقل إلى التدمير الشخصي فينتهي بالموت أو الانتحار، أي خسارة قصوى لا يمكن تعويضها.
֍ أشكال الانحراف الأخلاقي الصريح، وذروته الانحلال الخلقي من مثل انفلات الغرائز (كالانخراط في علاقات عابرة تكون قاتلة، أو في صداقات متسرعة نعرف لاحقاً خطورتها، أو في التحرشات والاعتداءات الجنسية الصريحة) يغذيها إعلام صوري سطحي متهتك وفالت من دون رادع عقلي أو ديني أو اجتماعي.
֍ أشكال الانحراف الاجتماعي الذي يتمثّل في التحلل من القيم المجتمعية السوية والانخراط في ممارسات وأنشطة مَرَضية خطيرة، مخالفة للعقل والدين والقانون كالاحتيال، وممارسة العنف، والانخراط في عصابات إجرامية، أو في عبادات مستوردة مشبوهة، أو في ممارسات أخرى غير مشروعة.


أماكن نشوء وتفاقم مظاهر الانحراف
سأختار بعض الأمكنة التي تنشأ فيها هذه المظاهر، أو تسمح، أو تدفع إلى تفاقمها، وقد اخترتها لننتبه لها، ولتكون في متناول أية مقاربة أو معالجة نسعى إليها، وهاكم بعض تلك الأمكنة:
֍ بعض الجامعات والصفوف العليا في مرحلة التعليم الثانوي، وحتى المرحلة المتوسطة، مع الأسف، وبخاصة تلك البعيدة عن المراقبة اللصيقة،
֍ بعض المقاهي والملاهي الليلية والمسابح والشاليهات وأمكنة اللهو غير الخاضعة للمراقبة، أو غير الشرعية أو القانونية في الأصل.
֍ بعض أماكن العمل، وبخاصة تلك الرخيصة، غير المراقبة، وحيث العمل فيها أقرب إلى الاستعباد الشخصي، حيث يحلو لصاحبه أن يستعبد العاملين والأصح العاملات عنده وكأنهن أملاك خاصة له.
֍ بعض أمكنة تلاقي الشباب: في بعض الملتقيات، في بعض المنازل، أو حتى في شلل الأحياء والقرى والزواريب، حيث يجري التعبير عن التمرد ضد التقاليد بطريقة سيئة، وحيث يجري التفلت من سلطة الوالد أو الوالدة ولكن مع تسليمها لرفقة السوء وأحياناً للشيطان نفسه.
֍ بعض الأمكنة الخاصة التي تزعم تعريف الشباب إلى تجارب بريئة جديدة وملذة إلى أن ينتهي الأمر بمريدها بعد جلستين أو ثلاث إلى ماخور لا يستطيع الشاب بسهولة التخلص منه، فيتمنى لو لم يدخله ولكن بعد فوات الآوان، لأن أساليب أصحاب هذه المواخير جهنمية ولا قبل للشباب البريء بمجاراتها.
֍ السجون والإصلاحيات التي تحوّلت، وبسبب من ظروفها غير الإنسانية، إلى مصنع لإنتاج وتخريج المرشحين ليكونوا منحرفين: يدخل الشاب هاوياً سيىء الحظ ليخرج بعد بضعة أشهر محترفاً.
֍ بعض المنازل أحياناً، مع الأسف، وبخاصة في حالات الوحدة أو العزلة الشديدة البعيدة عن حضور الأهل أو مراقبتهم. وهكذا يتحول منزل الأسرة الأقرب إلى الفرد مكاناً لتوليد المشكلات وتفاقمها والتغطية عليها، بدل أن يكون المكان الطبيعي والأول لحل مشكلات الشاب والشابة أو محاولة حلها على الأقل.
֍ وأخيراً أمكنة التلاقي الفرضي virtual meetings التي باتت تروّج على بعض مواقع الانترنت، بحيث يأتي الأمر من الانترنت أن إفعل كذا وكذا فيطيع المراهق من دون اعتراض، ولو بلغ الأمر حد تناوله المخدرات أو سواها! وبعضنا يعرف مباشرة حالات عدة حدث فيها مثل هذا الاستتباع الأعمى لمهووس مجهول يقيم لا ندري أين، لكننا نعرف تماماً أغراضه الإجرامية.


أسباب رئيسية مباشرة لحالات الانحراف المنتشرة
سأتحدث مباشرة ومن دون مقدمات عن الأسباب الاجتماعية الرئيسية التي تقف خلف معظم مظاهر الفساد والانحراف أعلاه، وهي برأيي كما يلي:
֍ عدم قيام معظم المؤسسات التعليمية (في الجامعات والثانويات تحديداً) بأي دور توجيهي، أو أخلاقي إيجابي، أو تربوي حقيقي. هي تكتفي بمجرد التعليم أو شكليات التعليم في الغالب من دون متابعة.
֍ الفلتان غير المسبوق في المواد الإباحية التي باتت تقدم في وسائل الإعلام، وبخاصة التلفزيون، في كل الأوقات ولكل الأعمار، ومع الباعة على الطرق، وعلى الهواتف، ناهيك بتجارها المحترفين.
֍ الفلتان الذي لا حد له في استقبال المواد الإباحية والتواصل السهل معها من دون أي رقيب عبر التقنيات الألكترونية والأقراص المدمجة والفيديوات المنتشرة في مقاهي الانترنت، أو حتى في المنازل وأماكن العمل.
֍ تلكؤ معظم الأسر عن القيام بأبسط واجباتها وحقوقها الشرعية والقانونية في متابعة سلوك أبنائها، وبخاصة ممن هم دون السن القانونية: من حيث السهر خارج المنزل لأوقات متأخرة، المبيت خارج البيت، ارتياد مقاهي الانترنت لفترات طويلة، نوع الصحبة أو الرفقة، نوع المواد التي يجري التواصل معها على أجهزة الكومبيوتر الخاصة، أو حتى المنزلية.
֍ استغلال بعض المجرمين المحترفين لواقع غياب أرباب أسر بعض المراهقين لفترة طويلة خارج المنزل، أو حتى خارج البلاد، بداعي العمل، وعجز ربّ الأسرة لسبب أو لآخر عن القيام بواجبات الرعاية والحماية الأسرية أو حتى تأمين ثمن الثياب التي يجب أن تتجدد باستمرار، ونفقات السهر في المطاعم والمقاهي، وصولاً إلى كلفة التغيير المستمر لأجهزة الخلوي وأنواع البرامج والكارتات المطلوبة لها، إلخ.
֍ استغلال بعض الفاسدين المجرمين لحاجة بعض الأفراد الواقعين تحت نفوذهم أو خدماتهم (وبخاصة من الإناث) المحتاجين أو المضطرين لخدماتهم، أو لحماية لقمة عيشهم، أو للنجاح في الامتحانات، وتحت زعم المساعدة في ديمومة العمل والنجاح والتقدم في هذا المجال أو ذاك، أو لتأمين متطلبات التواصل وسواها.
֍ فقدان التفاهم والتعقل والتوازن والتروي في العلاقة بين المراهق(ة) ووالديه(ا)، الأمر الذي يزيد من حدة كل المشكلات ويعقد من محاولات حلّها في الوقت المناسب وقبل أن تتفاقم وتصبح عصية على الحل.
֍ وأخيراً، مسؤولية عاداتنا التربوية البالية في المنزل والمدرسة، والتي تربّي المراهق على القبول المتسرع وغير النقدي لكل معرفة أو خبرة أو تجربة ترده، أو تقترح عليه، من دون التساؤل عن حقيقتها أو الغرض منها. وبعض السبب عائد مباشرة إلى عاداتنا وتقاليدنا الأبوية الاستبدادية التي تلغي في المراهق كل ثقة بالنفس أو استقلالية في الرأي فتجعله أو تجعلها لقمة سائغة سهلة في أول تجربة أو إغراء أو ضغط يتعرض أو تتعرض له.


أسباب أخرى غير مباشرة وبعضها:
֍ ضعف الصلة وأحياناً انقطاعها بين الشاب أو الشابة والوالدين (بسبب سوء الفهم كما أشرنا أعلاه، أو لأسباب متصلة بالسفر، أو الفقر أو الجهل أو المرض أو الإعاقة، أو لمشكلات أسرية، وما شابه).
֍ غياب مراكز التوجيه والنصح والرعاية المتخصصة عن المدارس والجامعات وأماكن العمل والأندية، بل وتحول بعض من يتوقع أنهم سيقومون بالنصح إلى عكس ما هو متوقع منهم.
֍ عجز التوجيه الديني الراهن، ولأسباب شتّى، عن أن يكون جاذباً للشباب والشابات، وهوتقصير يتحمل مسؤوليته رجال الدين قبل الشباب، إذ يتوجب أن يكون التبصّر والحُلُم واستيعاب الناشئة مهام مقدسة لهم.
֍ تراجع، بل غياب، التوعية السياسية أو الاجتماعية المسؤولة التي ترسخ ثقة الشاب في نفسه، وتهيئه لمسؤوليات القيادة في المجتمع، والتي كانت قوية في مجتمعاتنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
֍ تراجع انخراط الشباب في التحركات الشبابية والنقابية والتي تعنى بالدفاع عن مصالحهم القطاعية أو الوطنية. كان الشباب في ما مضى وغالباً هم رافعة العمل النقابي والحزبي والسياسي والوطني، أما اليوم فهم لا يلعبون هذا الدور، ولا يملأ الفراغ عندهم غيرأنشطة هامشية، استهلاكية، وغالباً سلبية وضارة.
֍ تراجع دور الرياضة في حياة شبابنا عموماً، وعدم إنضمامهم إلى أندية رياضية وأنشطة رياضية جماعية ومنافسات بريئة محترمة، كالمسابقات، والمشي، والماراتون، ألخ. وهنا أسأل اين هي الدورات الرياضية التي كانت تجري أكثر من مرة في السنة الواحدة وفي كل منطقة؟
֍ تراجع مشاركة الشباب الاجتماعية في أنشطة مجتمعهم، وتزايد عزلتهم، وانكفائهم عن الانخراط أو حتى مجرد الحضور في مناسباته وأحداثه الحلوة، والمرّة، فيغدو المراهق شاباً وهو لا يحسن الدخول إلى مجتمع أو مخاطبة جماعة، أو حتى القدرة للجلوس ولو لبضع دقائق مع ضيوف أسرته.
֍ تراجع دور الثقافة في حياة شبابنا. فالشاب اليوم لا يقرأ كتاباً أو مجلة ثقافية (وبحجة الانترنت)، وإذا قرأ فمجلات ومواد لا تقدم له التحصين الثقافي والأخلاقي ضد الفساد، بل تزيد منه أحياناً.
֍ جهل القيّمين عموماً بحاجات الشباب المتغيّرة، وباهتماماتهم المستجدة، حتى في المدارس والجامعات ومراكز الخدمة الاجتماعية، وتطبيق مداخل معرفية قديمة ومستهلكة على واقع شبابي جديد بمطالب جديدة مختلفة حتى عن مطالب جيل آبائهم وأمهاتهم ناهيك عمن هم أكبر سنّاً.
֍ إنسداد أفق التقدم والترقي الشخصي والاجتماعي أمام الشاب أو الشابة في الجامعة أو مركز العمل أو الحياة عموماً، بفعل اصطفاف اجتماعي طبقي أو طائفي يجعل مجرد دخول الشاب إلى سوق العمل مرهونة بموافقة هذا الحزب أو ذلك الزعيم أو تلك الطائفة، أو بسلطة من يملكون المال والمؤسسات، وهذه جميعاً تشعر قطاع الشباب الشفاف بالقنوط حتى القيء.
֍ ظروف الاضطراب السياسي والأمني التي تمر بها البلاد، وتراخي تطبيق القانون، أمران تركا في الشباب انعكاسات ونتائج نفسية خطيرة، أهمها الإحباط، الضياع، القلق على الحاضر، والخوف من المستقبل، وأكثر من ذلك فقدان الثقة بـ “الكبار”، أكانوا في البيت أو الحي أو الدولة باعتبارهم في أحسن الحالات “فاشلين”، وفي أسوئها نموذجاً فاسداً لا يحق له إسداء النصح لأحد.
֍ سقوط الكثير منهم فرائس للتفكير المتطرف غير العقلاني، أكان في شكل دعوات دينية أو طائفية أو اجتماعية مشبوهة.
֍ الاهمال غير المفهوم وغير المبرر من قبل الأسرة والمجتمع لدور عامل الدين أو الوازع الديني في النهي عن الشر والانحرافات، والحث على أعمال الخير والسلوك الحسن – وبخاصة في فترة الفتوة أو المراهقة المبكرة.
֍ وأخيراً، وربما أولاً وقبل كل شيء آخر، البطالة الصريحة الكاملة التي تجعل رأس صاحبها مصنعاً للشيطان، ويغدو فرضياً بتصرف كل العروض أو الإغراءات الشريرة – لقد بيّنتُ في دراسة اجتماعية سابقة لي أن من أصل أكثر من 30 ألف شاب وشابة يدخلون سنوياً سن العمل لا يدخل منهم سوق العمل أكثر من 7000 شاب، فيما يقبع الباقون في البطالة الصريحة أو المقنعة، بينما يتاح لقلة منهم أن تجد رزقها في المهاجر وفي ظروف بالغة القسوة.
وبالنتيجة، ومع غياب أي وعي شخصي كافٍ، وأي وازع ديني أو عقلي أو سياسي أو قانوني، بات مجتمعنا الشبابي مع الأسف تحت هيمنة ثقافة قريبة من الفساد أو الانحراف، تقرّب وترغّب في ما هو فاسد وشرير وحرام؛ وبات معظم ما هو رائج من إعلام ومن أمثلة وقيم سطحية يعتبر الدعوة إلى الخير والأعمال الصالحة والحلال والاعتدال ضرباً من الماضي بل دليل تخلف عن مجاراة العصر. لقد بات في وسع (العملة الفاسدة) في مجتمعنا الشبابي الراهن أن تطرد (العملة الصالحة) مع الأسف، بدل أن يحدث العكس.


[/su_spoiler]
[su_spoiler title=” ثالثاً – ما العمل؟ ما الحلّ؟” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]
إذا أردنا معالجة صحيحة للمشكلات أعلاه، فالمطلوب مقاربة منهجية جديدة في معالجة هذه الإشكاليات
من هنا يجب أن تبدأ المعالجات إذا شئنا ألاّ نفقد هذا الشاب، أي أن لا تفقده أسرته، ولا يفقده مجتمعه، وألاّ يفقدُ هو نفسَه أولاً وأخيراً.
فمن منّا، أو منْ من أهله، ومدرّسيه، ومسؤولي مجتمعه، يسمعُ حقاً شكوى هذا الشاب، بل صراخه؟
ومنْ من هؤلاء يتفهّم حقاً الظروف النفسية العاصفة التي يمرّ بها؟
ومنْ من هؤلاء، أخيراً، يبادرُ إلى البحث عن المعالجات الصحيحة، وبالوسائل الصحيحة، إذ لا قيمة ولا جدوى من أية معالجات إذا لم تكن الأدوات والوسائل التي نعالجُ بواسطتها أدوات ووسائل متكاملة، ثاقبة، متفهمة، صبورة، صديقة، ومُحِبة أولاً وأخيراً.
إذا كانت المحبة الصادقة هي التي تدفع معالجاتنا وتحرّكها وترشدها فالنتائج المرجوة هي في متناول اليد.
أما إذا كان الجهل، والضغينة، وروح الانتقام، والتشفّي، هي الدوافع الحقيقية لمعالجاتنا المزعومة، فبئس المعالجات تلك، وهي في النتيجة ليس فقط لن تنجح بل ستفاقم الأمور إلى ما هو أكثر سوءاً وفساداً.
يجب البحث، إذاً، عن المعالج الصحيح قبل الكلام على نوع المعالجة.
المهم إذاً، وقبل الحديث على النتائج، طريقة المعالجة أو العلاج.
هناك ما يكفي من الإشارات للاستنتاج أن أنواع المقاربات القديمة للموضوع قد فشلت، ويجب البحث بالتالي عن مقاربات جديدة بمواصفات واساليب جديدة.
ما يجب الإشارة إليه أولاً هو أن العلاج وإن بدا من نفس نوع المرض أي من المادة التي تتسبب بالمرض فقد بات من الصعب الحديث عن علاج “تخصصي” لمرض أو إشكال اجتماعي. وعلى ذلك فإذا كان المرض نفسياً، فالعلاج يجب أن يكون نفسياً/اجتماعياً، وإذا كان اجتماعياً، فالعلاج يكون اجتماعياً/اقتصادياً، وإذا كان اقتصادياً فالعلاج يكون اقتصادياً /سياسياً، وأحياناً أكثر من ذلك وذلك لتشعب وتعقيد المشكلات المعاصرة وتداخلها.
الأمر الثاني الذي نشير إليه هو أن الحلول التامة أمر شبه مستحيل في الحقلين النفسي والاجتماعي، وأقصى المتاح معالجات مركّبة، مرنة، نسبية، كمدخل لبناء أو استعادة ثقة الشاب بنفسه.
ذلك هو مربط الفرس والمدخل لكل علاج حقيقي ونهائي: استعادة ثقة الشاب بنفسه وتعزيزها. ومن دون ذلك لا قيمة لأية مقاربة أو معالجة.
باختصار، نلفت النظر إلى بعض مفاتيح المعالجات، التي يجب البدء بها، وهي:
أسرية، تتولاها الأسرة إذا كانت واعية ومدركة لمسؤولياتها،
تربوية، تجري في الإطار المدرسي والجامعي على أيدي مرشدين تربويين وأخصائيين تربويين،
مجتمعية، تجري في أو من خلال مراكز إرشاد وتوجيه اجتماعيين ويتولاها فريق متخصص من المعالجات والمعالجين الاجتماعيين المتخصصين في طرق التواصل مع الشباب، وفي تنظيم أنشطة لهم كالمخيمات الكشفية ومخيمات العمل الاجتماعي الطوعي، والانخراط في أعمال خير وإغاثة للمحتاجين.
اقتصادية، وهو جزء جوهري من كل معالجة وبدونه تستحيل المعالجات الأخرى، ويتضمن مصادر استقرار واستقلال اقتصاديين للشاب أو الشابة. هذا الموضوع حساس جداً، وهو مدخل ليشعر الشاب أو الشابة بالرضا عن الذات وعن المجتمع. وما دام الشاب أو الشابة مضطراً للاعتماد على أسرته لإعالته وتأمين نفقاته اليومية لفترة طويلة فسيظل ذلك موضع قلق وتوتر دائم. ونقترح في هذا المجال فتح اعتمادات مالية صغيرة للشباب تشعرهم بالاستقرار والاستقلالية وتساعدهم في التدرب على تدبّر العيش في مجتمع مكلف. ويجب أن يكفل هذه الحسابات والقروض وقفيات أو تبرعات أو تسهيلات من الدولة، بحيث لا تتحول كما هو الحال اليوم إلى وسيلة اصطياد للشاب ومن ثم ملاحقته حتى في القضاء.
سياسية، بحيث يجري استحداث تعديلات في النظام السياسي اللبناني المقفل، فلا يعود مقفلاً على مشاركات الشباب “الحقيقية”. يجب أن تعني ديمقراطية النظام، بين ما تعنيه، قابلية التعبير عن مواقف الشباب، بل وقدرتهم على التغيير (وأحد أدواته حق ابن أل 18 سنة بالاقتراع). الديمقراطية لها الآن تعريف أفضل وهي المشاركة، فإذا عجز النظام عن”جرّ” الشباب إلى المشاركة الحقيقية فكيف يكون ديمقراطياً؟ يجب أن يحضر الشباب في المؤسسات السياسية وعلى الأنظمة أن تشجع وتحمي هذا الحضور بل وتدرّب عليه. لكن شيئاً من ذلك غير موجود في النظام السياسي اللبناني الراهن الذي هو نظام زعاماتي/طائفي/طبقي في آن معاً طارد للمشاركة السياسية كما للعدالة الاجتماعية.


دينية/أخلاقية، نعم، فالديني الأخلاقي له دور بارز في التنشئة السويّة للطفل واليافع، في البيت والحي والمدرسة والمجتمع عموماً. ولا يبدو أن الذين شطبوا الديني من قاموس حياتهم باتوا أسعد حالاً ممن لا يزال الديني موجوداً في حساباتهم وفي حياتهم. يجب وضع الديني العقائدي الميتافيزيقي جانباً في التعامل مع الإشكاليات الاجتماعية والتركيز بدلاً من ذلك على المشترك الديني/الأخلاقي وهو هائل تتفق فيه كل الديانات ويمكن تحويله إلى زاد شخصي ونفسي وأخلاقي للشاب وهو يعبر المسالك الوعرة ويكون بأمس الحاجة إلى سراج بل إلى بصيص أمل. إن إعادة دمج الديني/الأخلاقي في سلة التربية المنزلية والمدرسية أمر ينتج عنه الكثير من الاستقرار النفسي والأمل والثقة بالنفس والمستقبل. وسبق للفيلسوف اللبناني كمال جنبلاط أن اقترح في الستينيات إدخال مادة التربية الدينية المشتركة في برامج المرحلتين المتوسطة والثانوية كمادة إلزامية موحدة لكل طلاب لبنان وفي المدارس الرسمية والخاصة معاً.
ولكن ما دور الديانات هنا؟ ولماذا لم تستطع جميعها ردع الإنسان، في كل الأمكنة والأزمنة، عن ارتكاب المفاسد والشرور؟ لماذا تبدو الديانات عاجزة ولا حول لها حيال مسألة الشر؟
الجواب البسيط هو أن الديانات لم تفشل كلياً، لكنها، ويجب أن يعترف ممثلوها، لم تستطع أن تحقق الكثير على صعيد اجتثاث الشر من قلب الإنسان وسلوكه، ومن المجتمعات، والعالم عموماً.
ونستنتج من ذلك أن الأديان، وهي لا تدعو إلا إلى الخير، عاجزة وحدها أن تحقق مطلب اجتثاث الشر ودفع الانسان والمجتمع نحو الطريق السوي أو الخير. وهي إذاً بحاجة أولاً إلى الأدوات الاجتماعية كطريقة في التعرف إلى مظاهر الفساد والانحراف، ثم في مقاربة هذه المظاهر، ومحاولة معالجتها بالتالي.
وعلى ذلك فالديانات، وبخاصة الكبرى منها، بحاجة لأن تعترف بأمرين متلازمين: الأول، أن المشكلات الاجتماعية هي اجتماعية في طبيعتها، في أسبابها، ومظاهرها، ويجب أن تكون كذلك في معالجاتها، أي إدخال الاجتماعي في قلب الديني أو إلى جانب الديني، وإلا فستبقى الديانات تتحدث عن السماء بينما المشكلات هي على الأرض. والثاني، الاعتراف بحرية الإنسان في اختياره لأعماله ولنوع حياته، فبدون الحرية لا تكون مسؤولية. وحين ننفي مسؤولية الإنسان فكأننا بذلك نعيد مسألة الشر إلى الله، وهذا ما يتنافى وطبيعة الله كخير مطلق.
هذه، باختصار، بعض المفاتيح أو المداخل لمعالجة متكاملة لمشكلات الشباب اللبناني الخطيرة. وتبقى طريقة المقاربة أو المنهجية المستخدمة. وهنا ألفت النظر إلى عدّة ملاحظات:
يجب أن تدعّم كل مقاربة أو معالجة بطرق علمية معروفة في جمع الوقائع والاحصائيات والبيانات والحالات موضوع البحث، وفي قراءتها وتحليلها بطريقة موضوعية.
بعد جمع المعطيات، يجب مقاربة مشكلات الشباب بروح التفهّم المتبادل لا التشفي، وبتبادل الأراء واقتراحها لا بفرضها، فما من رأي مقدس لا يناقش، وما من رأي صحيح سلفاً وقبل النقاش.
والطريقة الصحيحة أو المنهج العلمي في حل المشكلات إنما يقوم على التفاوض، لا على فرض الرأي بقوة السلطة التي أملكها. والتفاوض يعني الاحترام والمساواة بين الفريقين من دون فوقية أو استبداد أو تعسّف.
يجب أن يتدرب الشباب في المدارس وورش النقاش والمخيمات الكشفية والتطوعية والحلقات التثقيفية على كيفية طرح المشكلات، وبلورة الأراء المختلفة حيالها، ومناقشة كل الأراء على قدم المساواة، وعدم استبعاد أي رأي، أو رأي أي شخص. فالحقيقة لا تقيم في رأي واحد دون سواه، أو عند شخص معيّن مهما بلغت سلطته. الحقيقة تُكتشف وتُؤخذ وتبنى بالاستناد إلى كل الآراء والمواقف والمشتركين في البحث عن الحقيقة.
وتبقى كلمة أخيرة فيما خص النقد الذي يمارسه الشباب.
إن نقد شباب اليوم للسلطة الأبوية الاستبدادية نقد في محله تماماً. وكذا نقدهم للمعرفة الاجتماعية التقليدية التي لا تزال تقدّم لهم حتى الآن. من حق الشاب أن يمارس هذا النقد علناً ومن دون مواربة.
ولكن من واجبات هذا الشاب أيضاَ أن يمارس نقداً ذاتياً أيضاً لممارساته هو نفسه، ولردود أفعاله، ليتبيّن فيها الغث من السمين، ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع.
كذلك من حق شباب اليوم الإقبال على الحياة، وأن يعيشوا العصر، وأن يطلبوا الفرح والسعادة. هذا أمر طبيعي ومتوقع. ولكن يجب أن يدرك الشباب أن الإفراط في أية متعة يقوّض المتعة نفسها، والمبالغة في أي مطلب تنتهي بخسارة المطلب نفسه.
البديل الصحيح هو الاعتدال، الاعتدال في كل شيء. الاعتدال هو الذي يجلب السعادة، ويحافظ عليها، ويضمن ديمومتها. الاعتدال أو “الوسط الذهبي” في كل شيء هو الذي يؤمن المتعة والسعادة والفرح لأطول مدة ممكنة. وكما قيل إن فضيلة الشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهور، والكرم هو الوسط بين البخل والتبذير، كذلك المتعة أو السعادة هي الوسط بين التفريط والإفراط، فالتفريط لا يتضمن مكاناً للمتعة والعادة كذلك الإفراط يقضي عليهما بالمبالغات غير الصحية وغير الضرورية.
معظم النقد الذي يرفعه الشباب في مواجهة المجتمع نقد محق، ولكن نقد الشباب يجب أن يكون موضوعياً، ويجب أن ينتقدوا أنفسهم أيضاً حين يكون ذلك ضرورياً. فالحقيقة لا تقوم على ضفة واحدة، أو في جهة واحدة، وإنما هي على الضفتين وفي الجهتين. ومن هذا المبدأ يجب الاعتراف بالتقصير الحاصل حيال شبابنا، ويجب الاعتراف أيضاً بالتقصير الحاصل من جهة الشباب أنفسهم – وبخاصة شباب الجيل هذا.
خاتمة
إن مقاومة الشباب المشروعة للأخطاء لا تكون بارتكابهم لأخطاء جديدة. والتمرد الحق على الاستبعاد والتهميش لا يكون من خلال ردود أفعال متسرعة هي أقرب إلى تدمير للذات وليس إغناء لها. وهي لا تكون كذلك من خلال ممارسات عبثية دخيلة على ثقافتنا ولا تقود إلا إلى الجنون والانتحار والموت. بهذه الممارسات نحن نضعف قضيتنا، ونخسر مشروعيتها، بل وندخِل الوهن والضعف إلى أنفسنا وندخل في طريق مسدود لا نكتشف خطورته إلا بعد فوات الآوان.
يجب أن يخرج الشباب من أنانيتهم الفردية الغالبة اليوم على معظم اشكال سلوكهم ومواقفهم، ويجب أن يشتركوا في أعمال غيرية إنسانية تطوعية من دون أجر، وهو ما يسمح لهم أن يكتشفوا لذة الإحسان وعمل الخير ومشاركة المحتاجين الآمهم واحتياجاتهم.
ويجب أن ينخرطوا في معركة القطاعات الواسعة من الشعب صاحب المصلحة في تغيير هذا النظام السياسي المتعفن. إن جزءاً كبيراً من أشكال الفساد والانحراف المتفاقمة التي نراها وننتقدها عند شباب وشابات اليوم إنما هي من صنع هذا النظام السياسي ومرجعياته الإعلامية والإعلانية والتجارية الاحتكارية الكبرى المقيمة في الخارج غالباً، والتي تروّج للفساد بين الشباب، تدعو إليه سرّاً وعلانية، وتموّله، والهدف واحد: تدمير شخصيتنا الوطنية، واعتزازنا بقيمنأ، والترويج لبضائعها الرديئة وثقافتها الخطرة وعلى حساب الإنسان وقيمه وتراثه. قد لا تكون العولمة التجارية الاستهلاكية المسيطرة على كل شيء في عالم اليوم شرّا بالكامل، فلها ربما إيجابياتها، لكنها بالتأكيد ليست كواراً من عسل. هي على العكس تدس السمّ في العسل. هي تقدم من التقنيات والمواد ما هو رخيص ومغرٍ وجذاب، ولكن على حساب شخصيتنا الوطنية وثقافتنا واعتزازنا بأنفسنا وتاريخنا وقيمنا. هي تفرض ثقافتها علينا بالقوة تحت زعم الانفتاح، من دون أن تبادلنا بالمقابل الاحترام لثقافتنا أو لخصوصياتنا. فهل نستسلم لما يخطط لنا ونقبل به صاغرين ومن دون نقد أو مساءلة؟
بعض ما يخطط لنا هو أن نكون مستهلكين فقط لفضلات الغرب والغربيين، من طعام ولباس وموسيقى وأفكار مجنونة، وأن لا نكون أبداً منتجين، علماً او صناعة أو أدباً أو فناً أو ثقافة! فهل نقبل ذلك على علاّته من دون التفكير في الهوة السحيقة التي يجري دفع شبابنا وشعبنا إليها؟
يجب أن لا يخسر الشباب قضيتهم ومعركتهم، وإذا خسروها، لا سمح الله، فمستقبل مجتمعنا هو الخاسر الأكبر. كيف لا وهم مادة المجتمع الأساسية (40% من السكان)، وهم روحه المتحفّز، وحاضره الحلو، وأمله في المستقبل.
وكي لا يخسر الشباب ويخسر المجتمع القضية الواحدة المحقة، على الشباب أن يدرك:
إن الانفتاح ضروري ولكن من دون أن نخسر هويتنا.
إن التواصل مع الآخر الغربي ضروري، ولكن التواصل يكون على خطين لا في خط واحد: أي نأخذ منه ويأخذ منا كذلك.
والمعاصرة مهمة ولكن الأصالة مهمة أيضاً. وجيل الشباب ينجح أعظم النجاح حين يتمكن من امتلاك الميزتين معاً: المعاصرة والأصالة في آن معاً!
ولعمري فالشباب اللبناني الراهن – مثله مثل الشباب العربي المعاصر الذي أذهل العالم – يمتلك من الذكاء والثقافة والإقدام ما يسمح له بتحقيق النقلة الكبرى بل الانتفاضة الكبرى التي ننتظرها، لا لمصلحة الشباب فقط وإنما لمصلحة المجتمع والوطن ككل.
والمدخل إلى ذلك كله هو ثقة شبابنا وشاباتنا بأنفسهم، فلا نضيّعنها مجّاناً، لإغراء من هنا نستسلم له، أو لظرف ضاغط من هناك نخضع له بتسرّع غير مبرر. فلنمتلك الحسّ النقدي الموضوعي للآخر، كما لأنفسنا، سواء بسواء.
باختصار، دعونا لا نقبل أي شيء يفرض علينا، أو حتى يقترح علينا، من دون تفكير وفحص ومساءلة. ولنمتلك في كل الظروف الثقة بأنفسنا، وبقدرتنا على مواجهة المشكلات والتحديات المعاصرة، وذلك من خلال:
1- امتلاك شرطي التعلّم والتدرّب المناسبين الضروريين للدخول إلى أسواق العمل الحديثة،
2- امتلاك روح التواصل الإيجابي مع الآخر، فذلك أفضل بكثير من المواقف السلبية،
3- وأخيراً، امتلاك التفكير العقلاني الهادئ والمنظّم، مع الشجاعة على نقد الذات والاعتراف بأخطائنا، تماماً كما ننتقد الآخرين ونحصي أخطاءهم أيضاً.
[/su_spoiler]
[/su_accordion]