حين أخرج الطفل، إبن الأعوام الستة أو السبعة، من تحت أنقاض منزل أسرته – وكم كان محظوظاً على عكس آلاف الأطفال الذين قضوا تحت ركام المنازل والمستشفيات والمدارس – تطلّع حوله ذاهلاً، قال: هذه عن جدّ أو لعبة!
نعم (يا حبيبي)، هذه «عن جد» للآلة العسكرية الإسرائيلية، لكنّها كما يبدو «لعبة» لدول الكوكب قاطبة: كلّ الحكومات، معظم وسائل الإعلام المعولم، وبخاصة الشبكات الكبرى (وفي طليعتها الـ CNN والـ BBC) التي تنقل عنها غالب الشبكات الإخبارية في العالم، فيما الرأي العام مغلوبٌ على أمره، وليس في يده أكثر من التظاهر ورفع الشعارات المندّدة بالتوحّش والتغوّل والحقد والرغبة الجارفة بالإنتقام من المدنيين في غزة التي أظهرها ردّ الفعل الاسرائيلي على عملية 7 أكتوبر 2023 العسكرية.
لكنّ ملاحظة بسيطة لطبيعة الرّد الإسرائيلي الوحشي على عملية 7 أكتوبر تظهر أن التغوّل الإسرائيلي هذه المرة تجاوز مستويات اعتداءاتها السابقة على القطاع والضفة الغربية وجنوب لبنان.
لقد بدا بوضوح أنّ الهجوم الحالي المستمر منذ أكثر من شهرين ونصف على القطاع لم يستهدف المقاتلين، إلّا بالنزر اليسير؛ فاستهدف ودمّر دون هوادة كلّ ما هو حيّ أو يخدم الأحياء في القطاع: إمدادات مياه الشرب، شبكات الصرف الصحي، البنى التحتية، المنازل (أكثر من خمسين ألف منزل حتى الآن)، عشرات المستشفيات، مئات المدارس، الأسواق التجارية، وسائر مظاهر الحياة في القطاع.
لكنّه أكثر من ذلك استهدف مباشرة هذه المرة وعلى نحو ممنهجٍ لم يتوقف، أطفال غزة !
بدا الأمر وكأنّه طقسٌ وحشي – خرافي ينفذّه مجانين مسكونين بأحقاد وأساطير بائدة ضد الشعب الفلسطيني، بهدف الإبادة المباشرة، الهدف القريب؛ «وقطع نسل» هذا الشعب في المستقبل، ما أمكن، فأطفال اليوم هم رجال الغد. ولطالما حذّر المتعصبّون في اليمين الإسرائيلي من الفارق الديمغرافي الذي يتعاظم بين أعداد المستوطنين اليهود من جهة والفلسطينيين من الجهة المقابلة.
بدا الأمر وكأنّ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن ، والمسكونة بعقل أسطوري خرافي، تستعيد حرفياً الإبادات التي جرت غير مرّة لليهود منذ ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى المحرقة النّازية في أواخر الحرب العالمية الثانية، والتي لا يد للفلسطينيين فيها، بل هم كانوا مثل اليهود ضحايا الإحتلالات والإبادات بهدف التهجير، بل أكثر منهم.
تنفذ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن على أطفال قطاع غزّة نموذج أفران الغاز التي نفّذها النازيون بحق اليهود في ألمانيا – والتي أحسن العقل الصهيوني الإستثمار فيها لإجبار الحكومات الغربية، والألمان خصوصاً، على التصرف دائماً من موقع عقدة الذنب حيال إسرائيل، فكانت التعويضات المالية الخيالية وإمدادات السلاح الأحدث في العالم، وتأييد إسرائيل في كل مناسبة كما حدث، بعد عملية 7 أكتوبر.
تناسى هؤلاء أنّ الفلسطينيين ضحايا، بل ضحية الضحية، وفق تعبير المفكر الفلسطيني إدوار سعيد؛ فإذا الضحية الأولى (اليهود) تنفّذ في ضحيتها الآن (الفلسطينيين) من صنوف العنف ما لم تستطعه مع الجلاّد! المحرقة التي حدثت لليهود في أوروبا الغربية،على بعد 5000 كيلومتر من فلسطين، لا تُمحى بالمحرقة الجارية الآن بحق الفلسطينيين!
وفيما لا نستطيع تبرير أي اعتداء على المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، تناسى العقل الغربي أنّ التوغّل الفلسطيني في غلاف غزة كان صرخة في وجه التجاهل الطويل لمطالب مليوني مواطن سجنوا في قطاع من الأرض لا تزيد مساحته عن 360 كيلومتراً مربعاً مطالبين بالعيش الكريم وفي رفع الحصار الظالم والأوضاع المعيشية المستحيلة التي لا تتحمله جماعة أخرى على وجه الأرض!
تجاهل العالم الغربي، وليس إسرائيل فقط، معاناة شعب بأكمله، فغدا كما قال مواطن من غزّة، بكل أسى، «عالم أعمى، أصم، أخرس»!
تلك هي معاني «محرقة غزة».
لا يملك الفلسطينيون، بالتأكيد، التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق؛ لكنّهم يملكون شرعية التمسك بأرضهم، وشرعية المقاومة، التي كفلتها القوانين الدولية، الوضعية والأخلاقية.
المحرقة الجارية لم تمنح إسرائيل أي حق إضافي، بل عرّتها أخلاقياً وسياسياً!
هذه محرقة ظالمة، بكل المعايير، ولا يجب أن يقبل بها أي ضمير أو صانع قرار.
وهي فوق ذلك استهتارٌ بالقوانين الدولية (ومتى احترمت إسرائيل، وهي دولة مارقة، القوانين تلك؟). مع ذلك يبقى واجبنا التذكير بها.
هذا هو الإطار العام لملف العدد المتمحور حول العدوان الوحشي الجاري بحق مواطني قطاع غزة في فلسطين.