السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العرس في راشيا وحاصبيا

العرس في راشيا وحاصبيا

جلب العروس على الفرس في لوحة عن العرس الدرزي في القرن الثامن عشر
جلب العروس على الفرس في لوحة عن العرس الدرزي في القرن الثامن عشر

حسرة على اندثار العرس القروي وأفراحه
وخروج المجوز والدبكة ومشاركة الناس

يتذكَّر المواطنون في منطقتي راشيا وحاصبيا أعراساً مضت بكثير من الحسرة. كانت المنطقة حتى عقدين ربما من الزمن ما زالت مصانة من منتجات المدنية المعاصرة وغزو الاستهلاك وقيم المباهاة. وكان الناس يتابعون إرث الأجداد في مناسبات الفرح، ويعيشون سعادة حقيقية في العرس القروي، الذي كان فعلاً مناسبة جامعة وفرصة للتعبير عن مشاعر المحبة والتآخي، وتأكيد قيم الرجولة التي يقوم عليها كيان الطائفة عبر الأجيال.
ماذا حدث إذاً حتى تبدَّلت الأوضاع؟ كيف قَبِلَ الناس خروج الدبكة والمجوز والعزيمة وتحدِّي رفع «العمدة”، وأخلوا بدلاً من ذلك بدعاً ومبتكرات، ليس فقط لا علاقة لها بالتراث، بل هي أيضاً مرهقة لأهل المناسبة، وباتت تُشكِّل عبئاً يدفع البعض لتأخير الزواج بانتظار أن يتدبَّر التكلفة فيجرؤ على دخول الميدان.

يتذكَّر الأستاذ نعمان الساحلي، مدير ثانوية الكفير الرسمية، كيف كان العرس مناسبة جامعة فعلاً يشارك فيها حتى رجال الدين الذين كان لهم القسط الأول في إجراء عقد الزواج، لكنهم كانوا أيضاً يتقدَّمون أهل العريس وأصدقاءه في المسيرة نحو منزل والد العروس، لتسير خلفهم مجموعة من الشباب بالحداء والأهازيج والتصفيق يرافقهم العريس والأهل والأصحاب.
كان أصدقاء العريس يأخذونه إلى مكان يُعرف بـ “جرن العريس”، حيث يشذِّب شعره ويستحمّ ليرتدي سروالاً جديداً، وغالباً ما يكون هذا السروال قد لبسه من قبل عرسان سابقون في البلدة، وكانت هذه الاستعدادات تتم على وقع الأهازيج والردّات السائدة آنذاك وتُعرف بـ “الترويدة”:
طلَّت الخيل وطلَّينا بأولها وإن أدبرت الخيل مكسّرها الرجاجيمة
وبعد الإنتهاء من ارتداء العريس لثيابه الجديدة، يقول أحد الشبان ردَّة حداء ما زالت تتردَّد حتى اليوم تقال لشقيق العريس:
فــــــــــــلان كــــــــــرّب عالفــــــــــرس عريسنــــــــــا جهــــــــــازو خلــــــــــص
يـــــا نجــــــوم بــــــي أعلــــــى سمــــا عـــــــــــــالأرض تعملــــــــــو حــــــــــرس
قبل استلام يد العروس كانت عائلتها تأتي بـ “العَمدة”، وهي عبارة عن جرن حجري لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً وتضعه أمام العريس وتطلب منه أن يرفعه، وذلك لإثبات جدارته بالحصول على عروسهم، وتالياً أهليته للتقرُّب منهم والانتساب إليهم بالمصاهرة. وكانت هذه إحدى اللحظات الأكثر دراماتيكية وإثارة في حفل الزفاف، لأنَّ العريس يصبح في داخل حلقة واسعة من الشباب والكبار الذين يترقَّبون قيامه برفع الجرن. فإن قام بذلك علّت الأهازيج وهلَّل الجميع، وخصوصاً وفد عائلة العريس الذين يعتزون بالإنجاز الذي “بيض وجههم”، وعندها يتم تسليم العروس للعريس بكل طيبة خاطر. لكن كان العريس في بعض الحالات يفشل في رفع “العمدة”، وكان ذلك يعتبر نكسة لا بدّ من مواجهتها بسرعة. وكان ذلك يتم عبر التدخُّل الفوري لأحد المقرَّبين منه لإنقاذه من الموقف. وغالباً ما كان العريس غير الواثق من قدرته على التحدِّي يصطحب معه مجموعة من الشبان المعروفين بقوة البأس والذين يكون على أحدهم القيام بهذه المهمة إذا دعت الحاجة، لكن على الشاب أن يكون من عائلة العريس وليس أي شخص آخر. لأن المهم هو المعنى الرمزي لهذا الاختبار لدى أهل العروس، وهو أن العائلة التي تُصاهرنا عندها “رجال” يمكن أن يهبُّوا إلى نصرتها عند الحاجة.

المشايخ باتوا يتجنَّبون الحضور لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث في أعراس اليوم

وهل حدث أن تراجع أهل العريس عن تسليم العروس في حال فشل العريس في رفع الجرن؟
نعم، يجيب الأستاذ الساحلي. مضيفاً: “حدث ذلك لكن في حالات قليلة عندما كان أهل العروس يمثلون أسرة عريقة أو ذات عنفوان وبأس، ولم يكونوا لذلك ليقبلوا أن يكون صهرهم العتيد أقل منهم شأناً في ميدان المروءة والفروسية، لأن “الصهر سند الظهر”، كما يقال. كما أن مجتمع الموحِّدين كان يقوم على مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشرف والعِفَّة والبنية الجسدية على اعتبار أن الأسر كانت تتخيَّر في أنسابها القَوي والعفيف، لأنها كانت ترى في ذلك ضمانة الحصول على ذرية قوية وصالحة تنتفع بها الجماعة في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
بعد وصول العروس إلى منزل العريس كان يأخذ بيدها ويبارك له الحضور. وعندها يدعو أهل العريس جميع الحضور إلى تناول الطعام، وغالباً ما كانت أرض الدار هي المائدة، فكان الخوان يوضع على الأرض ويجلس الناس متربعين أو على ركبهم لتناول طعام الفرح، وبعدها تبدأ التهاني ويعقد الشباب حلقات الدبكة ويتبارى بعضهم في غناء المعنّى والعتابا والميجانا. وهذه المشاركة غالباً ما كانت تغذِّي المواهب عند الناس في قول الشعر والمحافظة على تلك العادات. وكان العرس يستمرُّ أسبوعاً كاملاً يبدأ بـ “التعليلة” ليلة الجمعة ويستمر على امتداد الأسبوع، بحيث تشهد كل ليلة حلقات الدبكة والغناء والحداء والفرح على وقع المنجيرة والمجوز، وهي آلة طربية من القصب غالباً ما كانت ترتبط بالرعاة الذين كانوا يسلون أنفسهم بالعزف عليها وسط الطبيعة الخلاَّبة”.

كيف ينظر الأستاذ الساحلي إلى أعراس اليوم؟
يقول متنهداً: “شتّان ما بين الأمس واليوم! لقد زال الكثير من معالم العرس كما كنا نعرفه، وذلك بعد أن بدأ الناس يسيرون في ركب القيم المستوردة وحضارة المادة والتباهي، ويتخلون في سبيل تلك القشور عن العادات الشرقية والعربية، سواء في الشكل أم في المضمون. وقد تحوَّل العرس اليوم إلى حدث باهت لا روح فيه، وحلّت الموسيقى الصاخبة محل حنين المنجيرة وحلقات الرقص العفوي، وحلًت المطاعم بدل الولائم أو العزائم، وحلّ اللبس الغريب وغير المحتشم محل اللباس الراقي للأزمنة السابقة، وأخذت فِرَق الزفة وحركاتها البهلوانية محلَّ حلقات الدبكة الشعبية، وبات الفرح اليوم عبارة عن مهرجان يجلس فيه الناس على الكراسي بلا أية مشاركة أو دور حقيقي في المناسبة.

راشيا-التاريخ-أعيدوا-لها-عرسها
راشيا-التاريخ-أعيدوا-لها-عرسها

محمود فارس غزالي، الذي يقترب من عامه الـ 90، يعتبر أن أعراسنا أصبحت مناسبة جوفاء تهيمن عليها المزايدات والمظاهر الفارغة وتُلقي أعباءً كثيرة على كاهل العريس، الذي غالباً ما يرزح بسببها تحت وطأة الدين لإرضاء الناس.
يذكر غزالي كيف كان “جهاز العروس” في الماضي بسيطاً يوضع كله في صندوق يُعرف بـ “صندوق العروس” أو” الصندوق المطعّم”، وقد كان دولاب الثياب (الخزانة) في تلك الأيام غير معروف. وكانت العَمدة (أي تحدي رفع الجرن) هي التي تقرر معدن الرجال وأهليتهم لنيل العروس، بينما أصبح الشخص يأخذ عروسه هذه الأيام لا شروط إلاَّ شرط أن يكون لديه المال”.
يضيف غزالي أن جميع أبناء القرية كانوا يشاركون بعضهم بدافع المحبة، ولم يكن في المنازل البسيطة سوى إنتاج المنقول ( الزبيب والجوز واللوز والتين) وكانت الهدية هذا النحو، أي من حاضر البيت، فكان أصحاب المواشي المقتدرين مثلاً يقدِّمون للعريس أحد رؤوس الماشية ليصار إلى ذبحها وطهيها لتقدم إلى المعازيم؛ كما كانت الحلوة أو “التحلاية” بعد الغداء من إنتاج البيت (رز بحليب)، أما اليوم فقد أصبحت الهدية من وحي العصر شاملة بذلك الأدوات الكهربائية وصولاً إلى ضيافة البوظة.
من التقاليد المهمة والجميلة التي اندثرت “ليلة النقوط”، النقوط حين كان يصار إلى جمع المال للعريس من قِبَل الحاضرين كلٌّ حسب قدرته مع حفظ سجل بتلك التبرُّعات التي تصبح بمثابة “دين” على العريس عليه أن يوفيه إلى من يتزوَّج بعده من الحاضرين أو من أبنائهم. ومن التقاليد التي ذهبت أيضاً “الشوبشة”، حيث يقوم الأهل والأصدقاء بتقديم المال أو الذهب إلى العروس. أما اليوم، فقد أصبح سيد الموقف رقم حساب العريس في المصرف”.

السيد صالح نوفل، رئيس بلدية الكفير، يضيف القول بأن “نكهة الأعراس” اختلفت كثيراً. فالطبلة والمنجيرة والمجوز تلاشت لحساب آلات موسيقية مستوردة، أو موسيقى معلبة وصاخبة أو مبتذلة، و”هو ما يجعل بلدة الكفير تحنُّ إلى الماضي الذي يكاد يصبح صورة
شاحبة في الذاكرة”.
يقول: “إن المشاركة في العرس أصبحت اليوم رمزية ومن قبيل “المسايرة” أو الواجب، وقد تقلَّص عدد المحتفين، كما تحوّل الحفل إلى حفل لا يلائم مجتمعنا، حتى أننا نكاد نفقد تراثنا الشعبي الذي عاش معنا لمئات السنين”. وأخطر ما حصل في رأس رئيس بلدية الكفير هو الارتفاع الكبير في تكلفة العرس، حيث نرى متوسطي الحال يتماثلون بالميسورين والأغنياء فيلجأون إلى بيع بعض الممتلكات الثابتة لتغطية تكلفة العرس. وهذا الواقع قد يستدعي إقامة أعراس جماعية تساعد على خفض التكلفة. وختم بمطالبة السلطة الدينية لو تستطيع أن تكبح هذا الإفراط لما لقراراتها من رضى وقبول.

الأستاذ عامر عامر، من الخلوات حاصبيا، يستهجن “دخول الموسيقى الأجنبية إلى حياة الريف”، كما يلاحظ شيوع الاختلاط والكثير من البدع التي جعلت هناك انقساماً في المجتمع أزاء العرس بعد أن كانت المشاركة عمومية، بما في ذلك رجال الدين الذين كانوا يشاركون في حلقة الدبكة”. يضيف القول: “إن المزايدات أدخلت الناس في مرحلة الإفراط، إذ كانت مأدبة الغداء في السابق تقام من حواضر بيت الفلاح وكذلك “الضيافة”، حيث كانت مأدبة الطعام تمدّ أمام الناس على الأرض والكل يشارك. أما اليوم فإنَّ الميسورين الذين يزايدون في تقديم الضيافة والطعام، والكثيرون منهم يهدفون إلى إبراز ثرائهم وكسب الجاه، لكن هذا الأمر ينعكس سلباً على ذوي الدخل المحدود الذين يسعون إلى التماثل بهم”.

السيد حسن مدَّاح الذي ينظّم الشعر ويلقيه بدافع المحبة في المناسبات، وخصوصاً الأفراح، يقول عن أعراس اليوم: “رزق الله على أيام زمان” عندما كان أبناء منطقتنا فلاحين بمعظمهم والإمكانات المادية متواضعة، لأن تلك الأيام كانت تسودها المحبة والإلفة والنخوة. أما اليوم فإنهم يحاولون دفن ذاكرتنا وإخراجنا من ذواتنا وهويتنا”. مضيفاً: “في الماضي كان فرح العريس هو أيضاً فرح الناس، أما الآن فأصبحنا نأتي بمن يفرح عن الناس حيث تقوم فرق الزفَّة بتمثيل ما يفترض أن يقوم به أهل العريس وأصدقاؤه”. وأكد أنه يريد لحفل زفاف ابنه أن يكون على وقع التراث وبمشاركة ومباركة رجال الدين، وأن يسير الناس لجلب العروس على وقع الحدا والحوربة، بعيداً عن هذه البهرجة المزيَّفة والمصطنعة التي تبعدنا عن أصالتنا وتراثنا، لافتاً إلى أن إحدى أهم نتائج تدهور العرس الدرزي الأصيل، هو أننا خسرنا مشاركة المشايخ ومباركتهم للمناسبة، وقد باتوا يتجنَّبون حضور تلك المناسبات لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث، خصوصاً زوال الحياء ومشاهد الفوضى بين النساء والرجال سواء في حلقات الدبكة أو الرقص، ناهيك عن المُسكرات التي لا يتوانى البعض عن تقديمها في المناسبة.
وختم بهذه الأبيات من الشعر:
الأفــــــراح نحن كلنـــــــــا نريدهــــــــا منمشي مثل ما قال عنها سيدها
بدنــــا المشايـــخ بالفـــرح يتدخَّلـــــوا حتــى عوايدنـــا القديمة نعيدهـــا

إن-رغبت-مصاهرتنا-فارفع-هذا-الجرن
إن-رغبت-مصاهرتنا-فارفع-هذا-الجرن

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading