«الإلَهُ» الواحِدُ (Theos – θεός) هي الكلمةُ الافتتاحية التي استهلَّ بها أفلاطون مُحَاوَرةَ «القوانين» (Nomoi – Νόμοι)، تلك المُحَاورة الأخيرة والأطول التي كَتبَها في سنٍّ متقدِّمة، وجاءت تتمةً لمُحَاوَرة «تيماوس» (Timaeus)، وقد ارتقَت مِنْ الفلسفةِ السياسية والتشريع إلى فلسفةٍ لاهوتية أنطولوجية تتناول الوجودَ والعنايةَ الإِلهية المُقدَّسة «برونويا» (πρόνοια) والتدبير الإِلهي (epimeleia) للكونِ وحياة الإنسان والمخلوقات، وتصلُ إلى ذروتِها في «الكتاب العاشر»، الأكثر إثارةً للتحدِّي الفكري واللاهوتي بين كُتب المُحَاورة الاثني عشر.
تبدأ المُحَاوَرةُ الأفلاطونية الأطول في جزيرة كريت بمُحادثةٍ فلسفية بين ثلاثة رجال مُسنِّين، الأوَّل يُعرَف بـ «الغريب الأثيني»، والثاني إسبارطي يُدعَي ميغيليس (Megilles)، والثالث مُشرِّع وسياسي كريتي يُدعَى كلينياس (Clinias)، وذلك من أجل وضْعِ دستورٍ لمستعمرة كريتية جديدة اسمها «ماغنيزيا» (Magnesia). واللافتُ هو غياب سقراط عن هذه المُحَاوَرة، ولو أنّ ثمة مَنْ أشار إلى وجه الشَّبَه بينه وبين «الغريب الأثيني»!
وعلى الرّغم مِن المَنحى التشريعي لكُتُب «القوانين» الاثني عشر، فإنّ هذه المُحَاوَرة هي كشأن «الجمهورية» (Politeia – Πολιτεία) لا تختص فحسب بفلسفة سياسية أو تشريعية إذ إنّها تُناقِش بإسهاب البُعْدَ اللاهوتي للوجود وعِلْمَ النَفْس الأخلاقي، بل تضع أُسسَ الأخلاقيات الأفلاطونية، وحقائقَ إبستمولوجية وماورائية، فيما يمكن أنْ يُطلَق عليه «عِلْم لاهوت عَقلاني» (Rational Theology).


عُمق لاهوتي
يحتلُّ موضوعُ الوجودِ الإلهي والعِناية الإِلهية موقعاً محورياً في «القوانين»، وربما لهذا السبب أهملها معظمُ الباحثين الغربيين لا سيّما المعاصرين منهم، فيما أساءَ البعضُ الآخر ترجمتها وتفسيرها (وهذا ما أشار إليه الباحث روبرت مايهيو Robert Mayhew، الذي شدّد على الحاجة لترجمةٍ أكثر مُراعاة للمعاني الضمنيّة في النص الأفلاطوني) بسبب طغيان البُعد المادي على مفهوم الكون والطبيعة والوجود عند مَنْ تناول هذه الفلسفة، بدلَ أنْ يُسلِّطوا الضوءَ في المقابل على حُجَج أفلاطون في إثبات وجود الإله الأوحد وحكمته وعنايته في الكون المخلوق بإرادةٍ منه. إذ إنّ هؤلاء الباحثين لانغماسهم في المفاهيم المادية لم يقرؤوا هذه المُحَاوَرة بصبرٍ، وبُعْدِ نظرٍ معرفي، وحُكْمٍ عقلاني في محاولةٍ لفَهْم عُمقِها اللاهوتي الماورائي، سيّما وأنّ المُحَاوَرة تبدأ مِن كلمتِها الأولى بمفهوم الوجود الإِلهي:
الإلهُ أم الإنسانُ هو مَنْ يَضعْ القوانينَ أيُّها الغَريبان؟ يسألُ الغَريبُ الأثيني.
كلينياس: الإِلهُ أيُّها الغَريب .. حقّاً هو الإِله!
دلالات ما وراء اللغة
وفيما كُتِبَ نصُّ مُحَاوَرة «القوانين» بلُغّةٍ يونانية صعبة ذات عباراتٍ وإيحاءاتٍ ودلالاتٍ «فيلولوجية» (philology) لغوية لا يَفْقَهُها إلَّا مَنْ استشفَّ ببصيرته مغزى أفلاطون الحقيقي، أساءَ الباحثون في الغرب استخدام المعنى الفعلي للمصطلحات الإغريقية التي اعتمدها في هذه المُحَاورة، لا سيّما ما بين صيغة الفرد أو الجمع. فعلى سبيل المثال، كلمة «ثيوس» (Theos)، التي يستخدمها أفلاطون للدلالة على الإِله الأسمى، الخالِق المُتَعالِي الذي لا يعتريه تغيير، واستخدامه مِن ثم هذا المصطلح في تصريفٍ فيلولوجي بصيغة الجمع «ثوي» (Theoi – θεοί) في دلالة إلى الكائنات العُلويّة، العِلل الأُوَل (aitia – αἴτια)، فيُصيغها هؤلاء بأنّها «آلهة» (وذلك حسب أهواء المُتَرجِم الغربي عن اليونانية فلا يُراعِي السياق، فهي على سبيل المثال قد استُخدِمَت في الترجمة اليونانية للإنجيل للدلالة على الحُكّام البشر!)، متغافِلين عن العبارات الدقيقة التي تُوضِح مفهوم أفلاطون لخالِق الكون المُدبِّر بعنايته الإِلهية للإنسان وجميع المخلوقات. بل إنّ أفلاطون قد استَهلَّ «الكتابَ العاشر» بدوره بفقرةٍ ذات مغزى بالتأكيد، تُشدِّد على الحاجة إلى وضع قانونٍ خاص ضدّ انعدام التَّقوى (impiety)، أي عدم الإيمان بالعَلِيّ، وهو ما سَعَى إلى صَوْغِه ومناقشتِه بإسهاب في نهاية هذا الكتاب الفريد.
«كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود “الإله الواحد الحق”».
إثبات أنطولوجي
تُشكِّل مُحَاوَرةُ «القوانين» أقدمَ حُجَجٍ عقلية لإثبات وجودِ الخالق العَلِيّ وعِنايتِه المُقدَّسة للكون والإنسان، فيما يُشكِّل «الكتابُ العاشر» منها مَصدراً أساسياً ومُنطلقاً لفَهْم التطوُّر الأوَّليّ للفلسفة اللاهوتية.
ومِن هذا المُنطلق، كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت لاحقاً، وذلك من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود «الإله الواحد الحق» (Ho Theos) والإضاءة عقلانياً على مفهوم «الأَحدية» (Monotheism) بمواجهة أباطيل «تعدُّد الآلهة» (Polytheism).
فالإثباتُ الأنطولوجي يتوضَّح في قراءتِه الفلسفية للحركة المُتَناغِمة بدقّةٍ رياضيّاتية للكواكب والأفلاك والنظامِ العام للكون، بما يؤكد وجودَ مبادئ عُليا أُولَى مُحرِّكة هي بدورها عِلل مَخلوقة: كلُّ حركةٍ أو تغيير إنّما يعود إلى كينونةٍ مُتحرِّكة بذاتها، وهي كينوناتٍ حَيَّة أي تملك القوة على إحداث الحركة أو التغيير، وأنْ نقول حَيَّة فهي ذات نَفْسٍ خالدة مصدر كلّ حركةٍ أو تغيير. وهكذا فإنّ المبادئ الأُولَى للكون المادي هي نفوسٌ تُحرِّك الكينونات المادية، وتلك النفوس، أصل حركة الأجرام السماوية، ترقَى بحركتها إلى «نَفْس الكون» (psyche – ψυχή)، كما أشار في «تيماوس»، وإلى عِلّتها جميعاً العقل الكوني «نوس» (nous – νόος)، كما أوضح في مُحاوَراتٍ عديدة، وهكذا تكون تلك المبادىء الأُولَى أرقَى مِنِ الجسد والمادة وقد أَوجَدَها خَالِقٌ مُتَعال يُدبِّر الجميعَ بعنايته الإِلهية، كما أثبت في «الكتاب العاشر» من «القوانين».
لكن لا مجالَ لفَهْمِ هذا المَنحى اللاهوتي للكون إلَّا بوحيٍّ من التَّقوى، والعِفَّة، وصفاء العقل، وطهارة النَّفْس والتكرُّس الرُّوحاني. فأنَّى لمَنْ افتقدَ التُّقَى أنْ يَفهمَ ذلك؟ لذلك سعى أفلاطون هنا إلى تصحيح المفاهيم تجاه «الإِله الواحد» من خلال الإضاءة على مفهومِ التَّقوى والإيمان الصحيح، تماماً كما فعل في مُحَاورة «يوثيفرو» (Euthyphro).
وما تغافل عنه الباحثون الغربيون هو أنّ أفلاطون يشير في معظم أنحاء «الكتاب العاشر» إلى وحدانيّة الإِله لا إلى تعدُّد الآلهة، وهم لا ينفكّون يُسيئون تفسيرَ إشاراتِه إلى «النُّفوس» العُليا التي تُحرّك الأفلاك السَّمَاويّة بإرادةٍ من العقل الكوني. وإنّما هو يؤكِّد أنّ تلك المُدبِّرات هي «عِللٌ» مَخلوقة «لا آلهة».
فعلى سبيل المثال، حينما يريد سقراط أن يُقسِم في مُحَاوراتٍ أفلاطونية مثل «الدفاع» (Apology) (حيث يقول إنّه حاول طوال عمره أن يُطيعَ «أوامرَ الإِله»، بانتهاج حياة فلسفية حكموية) و»كريتون» (Crito) و»فيدون» (Phaedo) وغيرها، فإنّه يُقسِم باسمِ إلهٍ واحد وليس آلهة، فلماذا إذاً حوكِمَ بتهمة حَثَّ الشباب في أثينا على عدم الإيمان بتعدُّد الآلهة لدى الإغريق؟ أليس هذا ما أدَّى إلى إعدامه بالسُّم؟ ذلك يبدو جلياً أيضاً في «الكتاب الثاني» من «الجمهورية» حيث يُفنِّد أفلاطون «أكاذيبَ» أساطير تعدُّد الآلهة.


فلو تعدَّدت الآلهة لبَات لِزاماً أن تتعدَّد التَّقوَات والعِبَادات، بل التّوبات والثوَابات والعِقابات، واستحال الأمرُ هَرَجاً كونياً! (وهذا ما استدركه أرسطو لاحقاً على هُدَى معلِّمه أفلاطون بقوله «لا بُدَّ أن يكون هناك حاكمٌ واحد للكون»).
فهؤلاء الآلهة عند الإغريق، بحسب أساطيرهم، كانوا يفتقدون إلى الأخلاق والحِسّ الإنساني والرَّحْمَة بل يتحاسدون ويتنافسون في ما بينهم، ويذكُر أفلاطون التَّورِية السَّاخِرة للكاتب المسرحي الإغريقي أوريبيدس (Euripides) حينما قال في إحدى مسرحياته في إشارةٍ إلى أساطير الآلهة الشخصية المتعدِّدة: «إذا كانت الآلهةُ تقوم بمثل تلك الأشياء (أي الأعمال المُفتَقِدة إلى الأخلاقيات) فهي لم تعُد آلهة!».
والإشارةُ واضحة في «القوانين» كشأنها في «تيماوس» الذي مهَّدَ بها لمفهومه اللاهوتي: «إنّ اكتشاف خالق الكون هو حقّاً مهمّة صعبة، لكن بعد ذلك التحقُّق سيكون من المُحال أنْ تُنقَل هذه المعرفة إلى الآخرين»، وهو أشبه بالتحقُّق الذَّوقي الصُّوفي!
دين وإيمان وقداسة!
هذا الإِلهُ في المفهومِ الأفلاطوني، المُتَعال عن الموجودات، اللامتغيِّر، المُتَّسِم بالكمال المُطلَق (وقد لَفَت الباحثون إلى مدى تأثير مفهوم أفلاطون هذا على علم اللاهوت فيما بعد)، الأرقى من التسمّيات (توقيراً وتقديساً وتعالياً، ولا سبيل لفهم هذا المنحى الديني لدى أفلاطون إلا بقراءة مُتأنّية لجميع مُحَاوراته لتكتمل الصورة!)، كما في «الجمهورية» و»بارمينيدس» (Parmenides) و»تيماوس»، هو وفق ما يؤكّده في مُحَاوَرة «القوانين»: «مقياسُ كلّ الأشياء»، في ردٍّ واضح على المَقولة الشهيرة للفيلسوف السُّفسطائي بروتاغوراس (Protagoras) «الإنسان هو مقياس كلّ الأشياء»، وبذلك يعود أفلاطون كشأنه في أبرز مُحَاوراته إلى الجانب الدِّيني الرُّوحي والأخلاقي لفلسفته.
وهو كان قد أشار في مُحَاورة «فيدون» إلى أنّنا مِنْ دون نُور هذا الإيمان بالإِله الواحد نَغْرَق في ظَلامٍ على غير هُدَى، حيث يقول جملته الشهيرة: «هناك في داخل كُلٍّ منّا طفلٌ يخشَى جميع الأشياء، غارقٌ في ظَلامٍ دامِس» موضِحاً أنّ لا نُورَ ولا هُدَى له إلَّا الإيمان بذلك الإِله المُتَعال، الذي تتوق النُّفوس والعقول للعودة إلى مملكته العُلوية المقدَّسة، ولا سبيل إلى ذلك سوى بالتشبُّه بالمُثُل الإلهية الأخلاقية، وأنْ نغدو حُكماء وعادِلين ومقدَّسين! وهذا ما عاد وأوضحه تماماً في مُحاوَرة «القوانين»، محور هذا البحث، كشأنه في مُحَاوَرتي «ثياتيتوس» (Theaetetus) و»الجمهورية».
ويختصرُ أفلاطون في «الكتاب العاشر» مغزَاه مِن مُجمل مُحَاوَرة «القوانين» بقوله على لسان كلينياس: «الدفاعُ عن الإيمانِ بالإِله الواحد هو خيرُ مُقدِّمةٍ لجميعِ القوانين!» وبالتالي المُقدِّمة لإرساء العَدْلِ والحُكْم العادِل، في دلالةٍ سياسيّة واضحة للعودة إلى مَنْبَعِ الإيمان. ويقول في إلمَاعَاتِه التي لا يَسبر أغوارَها إلا الراسخون في «حُبِّ الحكمة»: «حيثُ يسودُ الحُبُّ، لا حَاجةَ للقوانين»، وكذلك «الصَّالِحُون لا يَحتاجون إلى قوانين لتُعلِّمُهم كيف يَتصرَّفون بمسؤولية..».
إثباتٌ للوجودِ الإلهي بالحُجَجِ العقلية، وإيمانٌ بصُدقٍ ديني.. لهذا يستحقُّ أفلاطون القولَ عنه إنّه: «أبُو عِلْمِ اللاهوتِ العقلاني»، وها هو في خُلاصة «القوانين» يتساءلُ بإيمانِه الدِّيني: «أيُّ مَعنى للكَونِ وأيُّ مقياسٍ للحياةِ يكون مِنْ دُونِ الغايةِ الدِّينية الأخلاقية وهي مَنَارتُنا في السفرِ برحلةِ الوجود؟». إنَّ معنى الكونِ والحياة هو حقاً الإيمانُ الدِّيني «بإلهٍ مُتَعالٍ، خَالقِ الكَونِ والعِلَلِ والإنسان، ومُدبِّرِ مَصيرِه بعِنايتِه الإِلَهية!».
المراجع
– Laws, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Robert Mayhew, Plato: Laws 10, Oxford University Press, 2008.
– Friedrick Solmsen. Plato’s Theology. New York: Cornell University Press, 1942.
– I.M. Crombie, An Examination of Plato’s Doctrine. Vol.2. New York: Humanities Press, 1963.
– U. Von Wilamowitz, Platon, vol. 1 (Berlin 1920).
– W. K. C. Guthrie, A History of Greek Philosophy, vol. 2 (Cambridge 1965).
– J.N. Findlay, Ascent to the Absolute. New York: Allen and Unwin Ltd, 1970.