الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بعد 150 سنة من الحروب الأهلية العبثية: “الجبل” نحو المزيد من النضج والعقلانية!

شكلت زيارة سيّد صرح بكركي نيافة الكاردينال الراعي إلى الجبل نهار الجمعة في 8 أيلول 2023، إحياء للذكرى الثانية والعشرين لـ «مصالحة الجبل» التي رعاها مثلث الرحمات البطريرك صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط، حدثاً أيجابياً استثنائياً وسط لوحة غرائبية (محزنة) سوداء تحيط بلبنان، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

زيارة غبطة البطريرك تلك، من ألفها إلى يائها، في تفاصيلها كافة، (من استقبال سماحة شيخ العقل له في شانيه، إلى الباروك، فبيت الدين فبعقلين، ثم المختارة، والتي غطّتها «الضحى» بالتفصيل في عدده الأخير) تستحق أن نعتبرها الذروة في تطور العلاقة البينية بين مكوّنين رئيسيين في جبل لبنان التاريخي، ومؤسسين، بين آخرين، للكيان اللبناني الحديث. الزيارة هي كذلك، في رأينا، لأسباب عدّة باتت معروفة ومكرورة.
ما هو أكثر أهمية استخلاص الدروس الضرورية، المرّة قبل الحلوة، في العلاقة «الدرامية» المتقلّبة بين مكوّني الجبل الأساسيين. ما الذي جعلهما ينخرطان من غير هوادة في دورات عنف متبادلة المرّة تلو المرّة، طوال 150 سنة؟ وما الذي يجعلهما في آن يكتبان معاً في أحايين أخرى صفحات مضيئة من الوحدة في الجبل والوطن، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية؟ فسلام الوطن، إلى حد كبير، من السلام بين مكوّني الجبل الأساسيين؛ تماماً كما أن سلام الجبل وازدهاره، من سلام لبنان بأسره، ووحدة بنيه، وازدهار اقتصاده.

في موضوعنا، وباختصار، هل من قوانين «خلدونية» يمكن استخلاصها من العلاقة الدرزية – المارونية المضطربة في الجبل طوال 150 سنة؟ هل من قوانين تفسّر فترات الاضطراب والحرب بينهما؟ وقوانين أخرى تفسر فترات الجيرة والوئام والسلام؟

للجزء الأول من المعادلة (حقبات الاضطراب والحرب)، تتسم الخلاصة التي انتهت إليها المؤرخة المتمكنة ليلى طرزي في الفصل الأخير من عملها التوثيقي «الحرب الأهلية في دمشق ولبنان 1860» (صدر سنة 1996)، وهي تقارن حرب 1860 بحرب 1975-1989، بالكثير من الدقة التاريخية والمنطق. تقول المؤرخة طرزي أن عاملين حاسمين كانا الأكثر أهمية في صنع الحربين أعلاه، وفي وسعهما صنع كل الحروب المشابهة الأخرى، وهما: فقدان التوازن والعدالة في الداخل، والتدخل الإقليمي أوالخارجي المنتظر على الدوام الفرصة والذريعة للدخول والسيطرة. ففي حرب 1860 كان التوازن في جبل لبنان قد اختل بشكل متصاعد وسريع منذ سنة 1824: إعدام بشير جنبلاط بدسيسة من بشير الثاني ووالي عكا، ثم تلا ذلك إبعاد الملّاكين الدروز الكبار إلى حوران ومصادرة أراضيهم وبيعها أو تقديمها لأتباع بشير الثاني وإغراق الدروز بالضرائب، وصولاً إلى ضريبة «الشاشية» على قماش عمائم مشايخ الدين، ما قاد إلى فقدان التوازن والعدالة وعلى نحو متصاعد حتى 1840، تاريخ عودة المُبعدين الدروز واصطدامهم بملاّكي الأراضي الجدد. وتعاظم عدم التوازن ذاك في كل شأن، ما أوصل المجابهة الدرزية المارونية في جبل لبنان عشية 1859-1860 درجة الغليان ثم الانفجار. وفي الشق الخارجي من المعادلة هذه، أفاد الأتراك من جهة والفرنسيون من جهة أخرى من الاضطراب الداخلي ذاك للدخول بقوة إلى الجبل بذريعة حماية المسيحيين (عنوان الحملة الفرنسية العسكرية لتسعة أشهر، أيلول 1860-حزيران 1861) كما حماية مصالح الدولة العثمانية (عنوان التدخل التركي المقابل).

عاملا التأزم الداخلي (فقدان التوازن والعدالة من أوجه عدّة، والاستثمار الخارجي للتأزم الداخلي من جهة ثانية)، سيستمران في قلب كل حرب أهلية في الجبل، وبخاصة بين الدروز والموارنة، لمئة وخمسين سنة (1840-1990). والحرب الأهلية الطويلة تلك هي من دون شك أحد أبرز الأمثلة التاريخية على صحة قانون المؤرخة طرزي. الفئوية وفقدان العدالة (مطلب المسلمين بين 1969 و1979) من جهة، والخوف على مستقبل المسيحيين ( بنتيجة الخلل الديمغرافي والانتشار الفلسطيني الكثيف والفوضوي) كانا في صلب اندفاع المسلمين والمسيحيين معاً للحرب الأهلية في نيسان 1975. وسرعان ما جلب التأزم الداخلي التدخل الخارجي الصريح (السوري والاسرائيلي، وسواهما على نحو أقل علانية وصراحة).

العاملان أعلاه، وفق المؤرخة طرزي، يفسّران كل حرب أهلية حدثت في جبل لبنان، وبخاصة بين الدروز والموارنة طوال 150 سنة (1840-1990).

وبالمقابل هل من «قوانين» للسلم بين الجماعتين، الدرزية والمارونية؟ وهل اكتشف الدروز والموارنة حديثاً ، أي منذ سنة 2001، تاريخ مصالحة الجبل التي أسس لها ورعاها الراحل الكاردينال صفير والأستاذ وليد جنبلاط، «مفاتيح» العيش الواحد في المكان الجغرافي نفسه، بسلام ووئام وحرية؟ ترسيخ العيش الواحد في الجبل اللبناني، مهمة سياسية وتنموية في الآن نفسه، إذ الكثير من اضطرابات الجبل طوال 150 سنة إنما كان سبباه الحصريين: اللاتوازن التنموي بل فقدان التنمية في أجزاء كبيرة منه من جهة، والتدخلات السياسية الخارجية من جهة ثانية. وهو ما أسميناه مفاتيح نجاح العيش الواحد وترسيخه.

المفتاح الأول لنجاح العيش الواحد وديمومته بسلام ووئام وحرية بين المجموعتين تلك (بمواصفات السلام والوئام والحرية) سياسي ويجب أن تتأتى دستورياً من الدولة ومؤسساتها الراعية لمصالح مواطنيها أفراداً وجماعات. لكن استقالة الدولة من وظائفها الأساسية، نقل الرعاية اللصيقة تلك إلى قطبين أساسيين: الزعامة السياسية الأبرز لدى الدروز (المختارة)، من جهة، والمرجعية الروحية الأعلى لدى الموارنة والمسيحيين عموماً (بكركي)، من جهة ثانية.

المفتاح الثاني وطني، وهو أن حال السلام في الجبل ووحدة بنيه انعكاس لحال السلام في لبنان والوحدة الوطنية فيه. وبمقدار ما يسهم السلام في الجبل في السلام الوطني الشامل، كذلك في وسع حال السلام الوطني المريح أن يؤسس للسلم الداخلي في الجبل ويمنحه باستمرار أسباب القوة والديمومة، ما ينزع عن العلاقة أعلاه تهمة الثنائية.

المفتاح الثالث اقتصادي، إذ لا قاعدة صلبة لسلام مستدام حين يجري تهميش الجبل وابنائه اقتصادياً وتنموياً. تتضمن القاعدة الاقتصادية المطلوبة للجبل، والتي في وسعها ضمانة العيش الواحد، توفّر خدمات الدولة الأساسية، وبخاصة ما اتصل بتعزيز العمل البلدي وتحفيز حضور الوزارات والمصالح المستقلة والإفادة من الشراكات الدولية، كذلك أعمال التدريب والتأهيل الضرورية.

المفتاح الرابع تنموي، أيضاً، وهو ضرورة قيام القطاع الخاص بدوره في التنمية الشاملة لبلدات الجبل، (ومن ضمنها كونتوارات إقراض زراعي وتجاري وصناعي صغيرة منتشرة في البلدات الكبيرة)، فتخدم بين أغراض تنموية عدة بقاء سكان الجبل في قراهم على وجه الخصوص.

المفتاح الخامس اجتماعي، وهو توفر الخدمات التربوية والصحية والرياضية والشبابية في البلدات الكبيرة، وقيام مجالس أهلية ترعى الأنشطة تلك، إضافة إلى قيام مؤسسات الدولة بواجباتها.

المفتاح السادس سياسي، وهو توفر مظلة سياسية حريصة على السلم الأهلي في الجبل فتُقلع عن استخدام مكونات الجبل الدينية وقوداً لأي مشروع سياسي فئوي.

لا يخفى بالتأكيد ما للعامل الإقليمي من دور (فاعل)، سلبي في الغالب، في انتظام الحياة الواحدة في الجبل، أو اضطرابها. لكنه عامل لا سيطرة للبنانيين عليه.

يبقى أن زيارة غبطة البطريرك الراعي للجبل، والحفاوة الواسعة، الأهلية والسياسية، التي لقيها في كل محطة من محطاتها، هي خطوة واسعة في الاتجاه التاريخي الصحيح؛ وهي تشي في كل تفصيل من تفاصيلها أن العلاقة الدرزية -المسيحية (والمارونية على وجه الخصوص) بلغت درجة النضوج. الخطوة الكبرى أعلاه لا تبني وحدها حال السلم الأهلي الداخلي المستدام، لكنها فتحت الباب واسعاً في الاتجاه الصحيح: وحدة الجبل الراسخة جوهر وحدة الوطن الراسخة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي