الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

تاريــــخ عِــــرى

تاريــــخ عِــــرى

دار إمارة الأطارشة في الجبل

بُنيت في عهدي كل من شبلي ووالده يحيى على مساحة 11 ألف متر مربع لتكون مقراً لإمارة الأطارشة وزادها الأمير حسن جناحاً خاصاً لزوجته المطربة أسمهان

زارها مستشرقون سحرتهم أخبار الجبل ونضاله الاستقلالي
وتركوا آثاراً تصف قوة الموحدين الدروز وآدابهم وشهامتهم

لم تكن قرية «عِرى» سوى قرية عادية من بين قرى جبل حوران في القرون الخوالي، ويذكر الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ»، بأن الخراب قد نال حوران سهلاً وجبلاً بمعظمها في العهد العثماني، وفي القرن التاسع عشر ومع اتساع دور الموحّدين الدروز في ذلك الجبل الذي أصبح اسمه «جبل الدروز» بُعيد منتصف ذلك القرن.
عِرى في عهد آل الحمدان
بقيت عِرى قرية بسيطة تتبع لشيخ السويداء الحمداني، وفي سنة 1810 كانت عِرى حين زارها الرّحالة السويسري بركهاردت عامرة بالدروز والمسيحيين، ويورد الأستاذ سلامة عبيد، مترجم كتاب جون لويس بركهاردت «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، مقتطفات من كتاب «رحلات في سوريا» (ص 22) أنّ بركهاردت أعجب بذكاء وكرم الشيخ الدرزي شبلي الحمدان شيخ قرية عِرى حينذاك، إذ يقول: «إنّ عِرى هي مقر زعيم الدروز الثاني في حوران وهو واحد من ألطف الناس الذين صادفتهم في الشرق وأغرب ما في أمره أنّه شديد الشغف في توسيع معارفه واطّلاعه، وفي الأحاديث التي كانت تجري بيني وبينه أثناء زياراتي المتتالية لعِرى كان دائم التلهّف للحصول على معلومات عن عادات الأوروبيين وأنظمتهم، وقد رجاني في أحد الأيام أن أكتب له حروف الألفباء اليونانية والإنكليزية والألمانية وما يقابلها من نطق باللغة العربيّة تحت كل سطر، وفي اليوم الثاني أراني النسخة التي نقلها عنها بنفسه».
وكان شبلي الحمدان، إبن عم شيخ السويداء الذي كان يشغل منصب شيخ مشايخ الدروز آنذاك، وكان على درجة من التميّز ممّا رفع من شأن تلك القرية.
تقع عِرى جنوب غرب مدينة السويداء، مركز المحافظة، وتبعد عنها مسافة ثمانية كيلومترات، وهي على ارتفاع 984 متراً فوق سطح البحر. ويمتد العمران القديم لبلدة عِرى على السفح الغربي لتل بركاني يدعى بـ «تل الحصن»، وعلى الامتداد الشمالي الجنوبي من ذلك السفح المتطاول في الاتّجاه نفسه، وتشكّل أبنية القرية القديمة المبنيّة من الحجر البازالتي المقصوب نواة البلدة الحاليّة التي امتدّت في الجهات الأربع من حولها، وتتصف الأراضي الواقعة إلى الغرب من قرية عِرى بما تتصف به أراضي سهل حوران من سهولة وانبساط نسبي، بينما تكثر في أراضيها الشرقية الحجارة والرجوم، أمّا تربتها فناجمة عن تحلّل الأحجار البركانية، لذا فهي تربة خصبة غنيّة بالمواد المعدنيّة فقيرة إلى حدّ ما بالمواد العضويّة.
لم تكن بلدة عِرى الحاليّة موقعاً حضريّاً ذا أهميّة في العصور السالفة التي شهدت توطّن الإنسان وتحضّره في ما كان يُدعى جبل باشان في الألف الأول قبل الميلاد، ثمّ حمل اسم جبل حوران في عصور الجاهلية قبل الإسلام وفي ما بعد، إلى أن أصبح يدعى جبل الدروز في القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بعد أن أصبح الدروز المهجّرون، والمهاجرون إليه من لبنان وغيره، قوّة مؤثّرة في ذلك الجبل وما حوله. أمّا عِرى فقد كانت منذ القديم قرية بسيطة بالنسبة إلى الحواضر الرئيسية في جبل حوران مثل السويداء وشقّا وشهبا وقنوات وصلخد، تلك المدن التي ازدهرت في العصر النبطي ثم العصر الروماني فالبيزنطي فالإسلامي في ما بعد. لكن عِرى وسائر المواقع الحضريّة في الجبل تعرّضت لخراب العمران بعد سقوط دولة بني أميّة لأسباب أهمها الجفاف، والجراد وغزوات البدو وانعدام الأمن، إلى أن تمكّن الموحّدون الدروز من إعادة إعمار الجبل منذ مطلع القرن الثامن عشر، بعد أن كانت معظم حواضره خراباً وأطلالاً.

تاريخ سكنى الموحّدين الدروز في عِرى
يذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه «جبل العرب» (ص 176) أنّ انتقال الحمدانيين(الدروز) إلى عِرى حصل قبل القرن التاسع عشر، أي قبل زيارة بركهاردت لها، ولكن لا سنة محدّدة لذلك، كما أن السيّد أبو محمد فارس زين، وهو من معمري البلدة، يذكر أن آل زين ودرويش وبكري، وهم أبناء عم يعودون بأصولهم إلى بلدة نيحا الشوف، وفدوا إلى عِرى قبل أن يصل إليها آل الحمدان، وقد وجدوا فيها قبلهم المسيحيين الأرثوذكس من آل الفريحات الغساسنة. يؤكد ذلك القاضي نمر الفريحات، الذي يقول بأن الفريحات نزحوا من رميمين في الأردن نحو سنة 1720 وقد طوّفوا في العديد من قرى جبل وسهل حوران من عنز إلى صلخد فأم الرمان فذيبين فحبران، فالكفر فالرحا فبصرى فالمجيمر، فجمرّين فخرَبا فجبيب فالأصلحة فالدارة، إلى أن استقرّ بهم المقام في عِرى أخيراً.
ولم تكن عِرى قرية زراعية قبل قدوم الفريحات إليها في القرن الثامن عشر، بل كانت خربة ومراعي ومشتى تتبع للشيخ سلمان البداح من شيوخ قبيلة الشنابلة البدو. وكان البداح ينتقل بمواشيه في الربيع إلى الجبل حيث يُربِع في برّية خرائب الكَفْر وما حولها، لكن الشنابلة وسائر عشائر بدو الجبل الذين كانوا يتخذون من أراضي جبل حوران مراعي لهم، كانوا مستضعفين من قبل القبائل الأقوى مثل قبائل الرولا ووِلد علي وأهل الشمال والسّرديّة وغيرهم، بحيث كان هؤلاء يقومون بنهبهم، أو إجبارهم على دفع الإتاوات. وظل هذا الواقع قائماً إلى أن قَدِم الدروز إلى البلاد، فرفعوا عنهم الحيف واستزرعوا الأرض الموات. ومع قدوم الفريحات إلى عِرى قدمت بعض الأسر الحورانية كآل الغوثاني وغيرهم. وقد كتب الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ» (ص 166) ما يلي: «تميّز القرن التاسع عشر بشكل عام بالهجرات واضمحلال عدد من مدن وقرى حوران ( السهل والجبل)، حيث لم يبقَ إلّا 14 قرية مأهولة من أصل 300 قرية، وتحوّل الباقي إلى خرائب، حتى أنّ بصرى العاصمة العريقة عبر التاريخ لم يسكنها سوى 14 عائلة بلغ عدد أفرادها 150 شخصاً فقط».

التأثير المدمر للبدو والقلاقل ..والجراد
أما قدوم آل زين ودرويش وبكري إلى عِرى ، وهم من أُسر بني معروف، فلابدّ أن يكون قد حصل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولم يلبث الشيخ الحمداني في السويداء أن مدّ نفوذه إلى عِرى في ما بعد، فقدم إليها الشيخ إبراهيم الحمدان، وفي سنة 1810 كانت عِرى عامرة بالدروز والمسيحيين؛ حسب شهادة الرحّالة السويسري بركهاردت.
أمّا عن التنقل المتواصل والقلق لآل الفريحات وغيرهم من الأسر الحضرية، فإن سببه يكمن في ضعف سلطة الدولة العثمانية آنذاك، بحيث يصعب الاستقرار في كثير من مناطق حوران، وبسبب الجراد الذي كان يهدّد الزراعة مرّة كل أربع سنوات، وانعدام الأمن بسبب الغارات البدوية على الحواضر، وقد كان البدو عنصر تدمير للحضر، وكثيراً ما كانوا يتصدّون حتى لقوافل الحج، ويفرضون الإتاوات عليها أو ينهبونها، مُتَحدّين بذلك هيبة الدولة.

الموحدون الدروز أعادوا إعمار جبل العرب بعد أن كانت معظـــم حواضره أطلالاً وخرابــاً

السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي
السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي

وقد وجد المسيحيون في الموحدين الدروز (في عِرى وغيرها) سنداً ساعدهم على الاستقرار لقيامهم بصد غارات البدو على عِرى وغيرها من حواضر الجبل التي كانت خراباً قبل وفودهم إليها، كما أنّ المنطقة الواقعة إلى الجنوب والغرب والجنوب الشرقي من عِرى كانت غير آمنة، وطرقها مُخوِّفة. يقول بركهاردت:« كنت أرغب في أن أقوم برحلة إلى الجهات الغربية من جبل حوران لزيارة درعا وأم الجمال وأم السرب، والتي تبعد مسيرة يوم عن درعا وقد صار عندي اقتناع بأن هذه الخرائب يجب أن تزار. وقد عرضت على أي شخص أو جماعة من الناس مبلغ ثلاثين قرشاً وهو ثروة ضخمة في هذه الأنحاء مقابل إرشادي إلى أماكنها ولكنني لم أجد أحداً. كانت الطريق بين درعا وأم الجمال مطروقة من قبل عرب السردية ــ قبيلة بدوية مشهورة بشدة البأس ــ وقد قتل أخو زعيمها منذ عهد قريب من قبل جنود الباشا ــ والي الشام ــ وبالإضافة إلى ذلك، فإن جماعات كثيرة من عرب الشراقة ــ قبائل الجلاس والغياث وغيرهم ممن كانوا يجولون بمواشيهم ويمارسون غزواتهم في الخرائب الشرقية من الجبل وإلى الشرق منه وفي جنوب سهل حوران ــ … وهكذا أرغمت على التخلي عن فكرتي».

عرس مسيحي
في ذلك الزمن ــ أي سنة 1810 ــ يصف بركهاردت مشاهدته عرساً مسيحياً في عِرى، يقول: «وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة إكليل أحد المسيحيين في عِرى وفي بيت أحد المسيحيين، إذ جيء بالعروس ورفيقاتها من النساء من بلدها وهي تبعد مسيرة يوم من عِرى ومعها جملان مزينان بالشراشيب ( اللواليح) والأجراس إلى آخره. ونزلت ضيفاً على أقربائها في عِرى. ودخل الموكب القرية تتقدمه النساء اللواتي يضربن على الدفوف وشباب القرية وهم يطلقون نيران بنادقهم في الفضاء، وما أن وصلوا حتى انسحب العريس إلى النبع الذي كان يبعد عشر دقائق عن القرية حيث اغتسل ولبس ثياباً جديدة ثم دخل القرية فوق حصان مزيّن يحفّ به الفتيان بينهم اثنان يدقان على الدف والآخرون يطلقون النار. ومن ثم توقف أمام بيت الشيخ ثم حمل مدة ربع ساعة على ذراعي رجلين وسط الأغاني والزغردات وحينئذ صاح الشيخ: «مبارك العريس»! وردد ذلك بصوت واحد جميع الحاضرين، ثم جلس العريس وظل حتى غياب الشمس عرضة لتنكيت رفاقه، وبعد هذا أخذ إلى الكنيسة حيث قام خوري الروم بمراسم الزواج ومن ثم سار العروسان إلى منزلهما وكان والد العريس قد ذبح خرافاً عدة وجدايا استُهلك قسم منها أثناء النهار إلا أن أفضل قطعها حمل في ثلاث صوانٍ كبيرة (مناسف) من البرغل إلى مضافة الشيخ. وكان اثنان منها مختصين بالأهالي أما الثالث فقد خصص للشيخ ولوجوه القرية. وفي المساء بُدئ بجمع البارات (نقود عثمانية) من قبل أحد رفاق العريس الذي كان ينشد أشعار المديح بكل الذين يعرفهم وكلما سمى واحداً كان على هذا الأخير أن يقدّم هدية».
بعد هذا العرض نستنتج أنّ آل الحمدان الذين تمكّنوا من دخول السويداء والتمركز فيها كعاصمة لهم في الجبل، في القرن الثامن عشر، نشروا نفوذهم حول مركزهم الجديد. ويذكر بركهاردت أنّ هناك أكثر من ثماني قرى يرأسها أقرباء الشيخ الحمداني، ولابدّ أن يكون الموقع الانتقالي والمتوسّط لقرية عِرى قد لفت انتباه الحمدانيين؛ لكونه يفصل بين سهل حوران الواقع إلى الغرب منها، وبين قرى الجبل الواقعة شرقها؛ حيث تأخذ الأرض بالتوعّر تدريجيّاً كلّما اتّجهنا شرقاً صوب المرتفعات، كما أنّ وجود النبع الغزير نسبياً في أراضي عِرى عزّز اهتمام الحمدانيين بالتوطّن في تلك القرية التي كان مصير عمرانها مرتبطاً بمصير عمران الجبل.

كان البدو عنصر تدمير للحضر وكانوا يفرضون الإتاوات ويتصدّون حتى لقوافل الحج مُتَحدّين هيبة الدولة قبل أن يكسر الدروز شوكتهم ويبسطوا حمايتهم على السكان

زعامة عِرى تؤول لآل الأطرش
حتّى سنة 1859 كانت عِرى مقرّاً للشيخ هزّاع الحمدان، شقيق الشيخ واكد، شيخ السويداء. ويقرر المؤرّخ البعيني في كتابه «جبل العرب» ( ص 203) «أنّ الزعامة الحمدانيّة شاخت واعتراها الوهن، وغدت عاجزة عن إثبات وجودها وقيادة الدروز، وأن اسماعيل الأطرش تسلّم زمام القيادة الفعليّة للدروز قبل أن يقوّض مشيخة هزّاع الحمدان في عِرى ، الذي غدا مع أخيه واكد (شيخ السويداء وزعيم الجبل الرسمي في نظر العثمانيين) زعيمين فخريين ضعيفي السلطة…».
أما السلطة الفعليّة المستندة إلى مبايعة الدروز فقد استطاع اسماعيل الأطرش أن يملكها بعد أن اكتسب ثقة دروز الجبل وسكانه بفعل كرمه ونجدته واستجابته لمطالب السكان. واستند سليم الأطرش إلى عشيرة واسعة من أبناء العم والأقرباء الفارّين من بطش التحالف الذي تزعّمه الشهابيون ضدّهم في جبل لبنان، وقد كانوا لشدّة ثقتهم بصدق مواقف إسماعيل وحسن قيادته لا يسألونه برهاناً على أمرٍ يقودهم إليه.
من جانب آخر، كانت الزعامة الحمدانية تتوجّس خيفة من اتّساع نفوذ اسماعيل في أوساط الدروز والحوارنة، ولدى عشائر البدو في الجبل وما حوله، إذ كان قد نجح من موقعه في بلدة القريّا حينذاك، وقبل انتقاله إلى عِرى وطرده الحمدانيين منها، في أن يعقد تحالفاً مع آل المقداد الشيوخ في بصرى أسكي شام، القريبة من عِرى (تقع على مسافة بضعة عشر كيلو متراً منها)، وذلك بعد أن قاد رجاله ليلاً إلى بصرى في عملية قتالية جريئة وتمكّن من تحريرهم من ضريبة سنويّة مذلّة كانوا يؤدّونها للبدو من أهل الشمال، وهم بدو شمال الأردن الحاليّة. وكانت تلك الضريبة التي فرضها البدو على قرى وادي الزيدي الواقعة جنوب شرق سهل حوران تشتمل على حصص من المواسم الزراعية والمواشي وخدمات أخرى.
كانت هذه الأحداث بمثابة المقدمات التي أكدت تنامي زعامة الأطارشة وتراجع الزعامة الحمدانية، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثّلت في ما أقدم عليه الشيخ واكد الحمدان من إهانة شخصية لاسماعيل الأطرش، وذلك عندما قَدِمَ إليه في دار المشيخة في السويداء بائع أمواس حلاقة ساذج، غريب الديار، فما كان منه إلّا أن قال له «اذهب إلى اسماعيل الأطرش وجماعته في القريّا، هناك تجد من يشتري أمواسك»، وكان الشيخ اسماعيل يتميّز بمنظره المهيب ولحيته الكثّة، وقد أدرك أنّ الشيخ الحمداني بعث إليه ببائع الأمواس ليهزأ به وبجماعته الملتحين.

ردّ صاعق من إسماعيل الأطرش
لم يشأ اسماعيل الأطرش التوجّه إلى السويداء والانتقام من واكد الحمدان، لأن ذلك يضعه في مواجهة العثمانيين الذين يعترفون للشيخ الحمداني بالزعامة الأولى على بني معروف، ثمّ أنّ هذا يتطلّب منه أن يحصل على تأييد قادة عشائر الموحدين الدروز في الجبل لتلك الخطوة. وقد اختار سليم الأطرش بدلاً من ذلك أن يقود رجال عشيرته وعدداً من مناصريه إلى عِرى فقاموا بطرد شيخها هزّاع الحمدان أخ الشيخ واكد. وقد مثّل طرد الحمدانيين من عِرى ضربة معنوية كبيرة لهم وهي ضربة حملت مؤشراً واضحاً على الأفول الوشيك لزعامتهم التاريخية في الجبل. وقد دخلت عِرى في حيازة الأطارشة سنة 1859، وأصبحت منذ ذلك العام مركزاً للزعيم الأطرشي الذي، على حد قول حنا أبو راشد في كتابه: «جبل الدروز، حوران الدامية» (ص149)، أصبح «الزعيم الذي له الأسبقية الأولى في المراكز الاجتماعية» وقد اتخذ مقره في عِرى «ابتداء بعهد الشيخ اسماعيل الأطرش مؤسس الزعامة الأولى في الجبل واستمر هذا التقليد في فترة إبراهيم باشا ثم شبلي بيك إلى يحيى بيك إلى الأمير سليم (ابن محمود بن شبلي) إلى الأمير حمد بن شبلي».

مستشرقون في عِرى
بالإضافة إلى السويسري بركهاردت، الذي زار عِرى سنة 1810، فإن مستشرقين آخرين زاروا البلدة ودوّنوا مشاهداتهم، منهم الإنكليزي وليم رايت (سنة 1874) الذي وصف شاعرية المكان في كتابه الذي ترجمه كمال الشوفاني «مغامرات بين خرائب باشان» (ص 152) بقوله: «سرنا مباشرة من عِرى إلى مزيريب عبر سهل من القمح، على يسارنا، خلفنا وأمامنا، كان بحر القمح يمتدّ إلى التلال البعيدة، وعندما نظرنا إلى الأسفل من قمة تل القليب قبل أيام عدة، كان يبدو لنا وكأنّ بحيرات من الدم تخترق سهول القمح، وقد قدّرنا أن ظاهرة طبيعية ما قد تصدر عن غياب الشمس أو السراب، لكن عندما عبرنا هذه السهول، وجدنا أن الأرض التي لا تحوي قمحاً تكون متلألئة بالخشخاش القرمزي».
أمّا الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي زار الجبل في صيف 1893، فيذكر في كتابه «من البحر المتوسّط إلى الخليج، لبنان وسوريا» (ص 217) «وصلنا بعد مسيرة ساعتين من السويداء إلى القرية الشاعرية عِرى، الواقعة على ظهر هضبة صغيرة. وفي عِرى كان يسكن في بناء بارز، إلى مسافة بعيدة، شبلي الأطرش».
وكان مرافقو أوبنهايم من رجال إبراهيم باشا الأطرش شيخ مشايخ الدروز في السويداء قد منعوه من زيارة عِرى بحجة أن شبلي وهو شيخ عِرى الشديد البأس، الذي تصفه المستشرقة الألمانية بريجيت شيبلر بـ «شبلي الأسطوري» سيهاجمهم في ما لو فعلوا ذلك. حقيقة الأمر أن الأخوين كانا على خلاف حول العلاقة مع العثمانيين، وكذلك حول الموقف من ثورة العامية التي وقف إبراهيم منها موقفاً مضادّاً.

الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى

زيارة جيرترود بل
وفي أيار سنة 1900 زارت الرحالة الإنكليزية جيرترود بل عِرى ، وكان إبراهيم قد مات، بينما نُفِي شبلي من قبل السلطة العثمانية إلى جزيرة رودس في البحر المتوسط لفترة امتدت ما بين 1896و1900. لذلك فقد استقبل بل في عِرى شقيق شبلي يحيى. تقول بل في ما ترجمه كمال الشوفاني «مذكرات جيرترود بل إلى جبل الدروز»، «وصلنا عِرى عند الثامنة والنصف صباحاً وكان هناك بعض الأشخاص، بدا لي أنّهم من عليّة القوم يجلسون أمام منازلهم في أسفل التلّة. كان ألطف شخص بينهم يدعى حمد حامد. أخبرتُهم عن قصتي وكيف هربت من الحكومة وجئت إليهم، فكان استقبالهم حارّاً، وأكّدوا لي أنه لا توجد حكومة هنا، وأن في إمكاني الذهاب أنّى شئت. سيكون من الصعب وصف المشهد الرائع ومشاعر الراحة والأمان والثقة التي منحوني إياها. سألوني عن الحرب وكانوا يعرفون أسماء كل الجنرالات والمدن، لقد كانوا أشخاصاً مهذبين متحضرين، بعد أن قدّموا لي القهوة وكانت لذيذة، سألت إن كان بإمكاني زيارة الشيخ.
فهب أحدهم قائلاً: «الشيخ؟! إن يحيى بيك هو زعيم كل الدروز على هذه الأرض، بالطبع يجب أن تزوريه».
سرنا صعوداً إلى قمة الهضبة حيث يتربّع بيت البيك ذو الشرفات المتعددة على جوانبه، أخبرني حمد بأن يحيى بيك سجن لمدة خمس سنوات في دمشق، وقد أفرج عنه قبل ثلاثة أسابيع وطلب مني أن أعامله باحترام كبير. كان يحيى بيك مثالاً للسيد الإقطاعي، وكان رجلاً كهلاً (في الأربعينات أو الخمسينات على ما أظن) أنيقاً ويتمتع بأخلاق رفيعة.
بل تركت زيارة الرحّالة البريطانية أثراً مهماً بسبب اهتمامها الخاص بوصف التقاليد ونمط السلوك واللباس والحياة السائدة في مجتمع الجبل آنذاك، تقول: «توجّهنا مباشرة إلى غرفة الاستقبال حيث كان الشيخ يجلس على سجادة مع ستة أشخاص أو ثمانية يتناولون الطعام، من وعاء كبير. أشار إليّ أن أدخل لأشاركهم الطعام، ففعلت، واستخدمت قطعة رقيقة من الخبز كملعقة.
كان الطعام لبناً وخليطاً من الفاصولياء واللحم. كنت أريد أن آكل المزيد لكن يحيى بيك انتهى من طعامه وخفت أن لا يكون من اللائق أن أستمر.
رُفع الطعام وكُوّمت المساند لي على الأرض كي أجلس، وانتظرت حتى جلس، فهو ملك كما تعلمون، وملك طيّب جدّاً على الرغم من أن مملكته ليست كبيرة. كان عليّ أن أعيد له حكايتي مرة أخرى وكان البيك يغمض عينيه الكبيرتين ويحرّك رأسه بين الحين والآخر هامساً: هذا صحيح. أخبرته بكل ما أريد مشاهدته وأنني لا أريد رؤية السويداء بسبب وجود الأتراك فيها ــ كما يوجد خط برقي أيضاً وهو الأمر الأكثر خطورة. كان متعاطفاً جداً معي، ثم حدثني بالتفصيل عن سجنه، وكيف أن شقيقه شبلي بيك مازال سجيناً في المنفى.
شربنا القهوة ثم توجهنا لمشاهدة البناء الجديد الذي شيّده البيك مكان الخرائب التي تركها الأتراك.
غرف ذات جدران حجرية جميلة وبلاطات حجرية على الطراز الروماني وبوابة منحوتة مزخرفة. أشار علي سليم بأن أصور البيك (وهذا ما كنت أتمناه) طلبت منه الوقوف على الشرفة وبدا أمامي بكامل هيبته فصورته. خرجنا أخيراً من بيت البيك وتوجهنا أنا وحمد حامد ومحمود رضوان إلى المرج القريب حيث كانت دوابي ترعى، ثم غادرنا القرية بصحبة نصر الدين ــ شاب من قرية المجيمر ــ وعلي، الذي لم أكن أعرف وظيفته بالضبط، ولكن بدا لي أنه رفيق سفر مقنع. كان نصر الدين دليلاً ممتازاً عرّفني بأسماء كل القرى والخرائب والأسوار والينابيع والطرق متنقّلاً برشاقة لافتة أثناء سيرنا، بقمبازه المطرّز فوق رداء أبيض.
وفي طريقنا مررنا بجماعة من القرويين بملابس بهيّة يحملون البنادق والسيوف، كانوا ذاهبين لتهنئة يحيى بيك على عودته بالسلامة من السجن العثماني.
توقّفوا لإلقاء التحية ورحّبوا بي ترحيباً حارّاً».
ثم تعلّق بل: «يا له من تغيّر رائع بالمقارنة مع أولئك الذين كان همّهم الوحيد أن يمنعوك من الذهاب إلى أي مكان. صعدنا تدريجياً إلى سلسلة من التلال ودلّني نصر الدين على السهل الذي جرت فيه معركة قبل أربع سنوات، يقال إنه سقط فيها خمسمائة درزي وألف ومائتان من العثمانيين».

إهانة رعناء من واكد الحمدان دفعت بإسماعيل الأطرش إلى حسم النزاع وطرد الحمدانيين من عِرى وتحويلها إلى مقر لزعامة الطرشان

الامير جهاد بن زيد الاطرش
الامير جهاد بن زيد الاطرش

 

البريطانية «جيرترود بل» زارت إمارة عِرى سنة 1900 وتركت وصفاً دقيقاً للتقاليد والعادات ونمط السلوك وآداب المعاملة في الجبل في تلك الحقبة

الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد
الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد

معركة ضارية في عِرى
في عِرى جرت إحدى معارك الثورة السورية الكبرى، يقول سلطان باشا في «أحداث الثورة» (ص141) «ولم يلبث العدو أن استأنف هجومه مستخدماً سلاح الطيران بشدة، وعلى نطاق واسع، فدخل بلدة عِرى بعد معركة ضارية استشهد فيها عمّي نسيب»، وهنا يشيد سلطان باشا بالبطولة الخارقة للأمير حسن الأطرش ــ من عِرى- على الرغم من صغر سنّه، وبخاصة في معركة تل الخروف.
وفي ثوّار عِرى يقول الشاعر صالح عمار:
لمّا عِرى عِلق النّخا بِرْكانــهــــا بْوجــه الأعــادي فَجّــــرت بُرْكانهــــا
لو قامت الهيجا وثــار غبارها نِعْمــين مـــــن شيّــابهــــا وشُبّانــهــــا
ولمّا كان لكل قرية من قرى الجبل بيرقها، فإن بيرق عِرى يتوارثه آل بكري، وفي أواخر القرن التاسع عشر، على أيّام شبلي، كان حامل البيرق سلمان بكري يتقدم المحاربين في المعارك، فأعجب الشيخ بشجاعته، وعرض عليه هبة فدّانين من الأرض ــ أي ثلاثمائة دونم ــ فرفضها قائلاً: «لا أريد أن يقول الدروز إنني أحارب قدامهم من أجل مكاسب الدنيا».

مأثرة الأميرة أسمهان الأطرش
في سنة1941 تزوّج الأمير حسن الأطرش بالمطربة أسمهان، وأسمهان هي ابنة فهد الأطرش من دار الأطارشة في السويداء، فهي حفيدة إبراهيم باشا الأطرش قائمّقام جبل الدروز من قبل العثمانيين ــ توفي سنة 1893 ــ وكانت أمّها عالية المنذر اللبنانية قد فرّت إلى مصر هرباً بأطفالها فريد وفؤاد وأسمهان من معارك الثورة السورية الكبرى سنة 1925؛ تلك الحرب التي دارت أهم معاركها في الجبل.
وفي مصر شبّت أسمهان، ولمع نجمها كمطربة بارعة الأداء، وكان الأمير حسن الأطرش، حفيد اسماعيل ووارث الإمارة في دار عِرى ، المسمّاة بـ
(دار الدروز) محافظاً للجبل حينذاك، وكان يجمع بين الحنكة السياسية، والشجاعة التي اشتهر بها في معارك الثورة إلى جانب ابن عمه سلطان، لكن مع استقرار الأمور في الجبل قبيل بزوغ عهد الاستقلال لحق الأمير حسن بابنة العم الفاتنة إلى مصر، وجاء بها بعد لأيٍ إلى دمشق ليتزوّجها.
وفي دار الإمارة في عِرى، تلك الدار العريقة، التي تزيد مساحتها على أحد عشر ألف متر مربّع، وكانت قد بنيت في عهد كل من شبلي ووالده يحيى، أصدر الأمير حسن أوامره ببناء «أربع حجرات تليق بأسمهان» وجيء بالأثاث من دمشق وبيروت، وأطلّت الحجرات على صحن الدار من ناحية، ومن الناحية الأخرى أطلّت على بيوت الحرس من الدروز الأشدّاء الذين يقيمون في بيوت متلاصقة تشكّل سوراً للدار التي تشبه القلاع»، وذلك حسب الكاتب المصري فوميل لبيب الذي وضع كتاباً تناول فيه حياة أسمهان.
كانت أسمهان في دار عِرى أميرة بحق، أميرة صاحبة قرار، وقد رأت معاناة نساء بلدة عِرى وهنّ ينقلن الماء بالجرار على أكتافهن، أو على ظهور الدواب من أماكن بعيدة عن بيوتهن، إذ كان حق الانتفاع بمياه نبع عِرى، الذي تبلغ قوّة تدفّقه نحو خمس إلى ست بوصات في فصل الشتاء وتنخفض إلى ما دون ذلك صيفاً، محصوراً بدار الإمارة، وكان شبلي المتوفّى سنة 1904، وهو عم الأمير حسن ــ قد أمر باستجرار مياه النبع الذي يقع إلى الشرق من القرية بنحو خمسة كيلومترات، عبر قناة فوق قناطر حجريّة بنيت بإشراف مهندس استقدمه شبلي من اسطنبول ــ حسب رواية الدكتور هاني ملاعب من مواطني عِرى الأصلاء ــ وكانت تلك المياه تستخدم لإدارة ما عُرِف بمطاحن عِرى التي كانت ملكية خاصة لدار عِرى وقد آلت ملكيتها إلى آل الأطرش؛ بعد أن كانت لآل الحمدان، وهي أربع مطاحن، وقيل إن عددها خمس أو أكثر من ذلك، وكان الماء الذي تُدار به المطاحن يُستخدم لصالح دار الإمارة في إرواء بستان تربو مساحته على ستمائة دونم، ويروي أحد المعمرين بأن بستان الأمير حسن في زمانه «جنة أرضية» بكل معنى الكلمة.
يقول الأستاذ عمّار الخطيب: «بفضل أسمهان وُزّعت خمس حنفيّات سبيل يتدفّق ماؤها نهاراً وليلاً في حارات عِرى، وهكذا انتشر الاخضرار في جنائن صغيرة حول البيوت في تلك القرية، حيث كانت القرية الوحيدة من بين قرى جبل الدروز التي تتميّز بجنائنها في ذلك الزمن»، ولكن مأثرة الأميرة أسمهان أبقت لدار الإمارة ما يكفيها من الماء الذي توزّع في الخمسينات إلى حصص بحيث يكون الربع للأمير، والنصف لأهل عِرى، وربع لأهل المجيمر القرية المجاورة، والتي تشترك مع عِرى في حوض النبع.’

صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش
صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش

شهـــداء عِرى
في الثورة على الفرنسيين

قدّمت عِرى عدداً من خيرة فرسانها في ثورة الاستقلال، وعددهم أربعة وعشرون شهيداً، وهم، كما ذكرهم الشاعر صالح عمار أبو الحسن:
الأمير حمد بن شبلي الأطرش واسماعيل ملاعب، وفرحان ملاعب، ومسعود ملاعب، وخليل ملاعب، وعلي ملاعب، وتوفيق الشبل، وحمد الشومري، ويوسف حامد، وطراد حامد، وحسن زين، ومحسن قسّام، ومحمد قسّام، وأحمد الجوهري، وظاهر حمزة، وقاسم أبو سعد، وسليم رضوان، وحسن الأشقر، وحسين غزلان، وعلي سيف، وحامد الأعور، وحمد شرف الدين، وحسين بكري، ومحمد قطيش.

الأمير حسن الأطرش يعتقل المندوب الفرنسي في السويداء ويؤيد رفع علم الاستقلال ووحدة الجبل مع سوريا الأم

مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.
مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.

قصف فرنسي لدمشق وانتفاضة في السويداء
كان الأمير حسن الأطرش محافظاً لجبل الدروز سنة 1945، وفي تلك الفترة من الأربعينات؛ بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يذكر سلطان باشا في مذكّراته (ص 361) أن فرنسا أخذت تستجمع قواها لتظهر بمظاهر القوة التي كانت تزهو بها قبل الحرب التي انهزمت فيها هزيمة منكرة أمام الألمان سنة 1940، إذ لم تصمد إلّا أياماً معدودة، تناسى الفرنسيون ذلك، وصاروا يتصرفون وكأنّ شيئاً لم يتغيّر بنظرهم في هذا العالم، فطالبوا حكومتي سوريا ولبنان بقواعد عسكرية برّية وبحرية، ولما قوبلوا برفض مطلبهم من البلدين، ظنوا بأن العنف يعزّز من هيبتهم، فقاموا بقصف مدينة دمشق.
وفي الجبل كان سارازان ممثلاً للانتداب في السويداء، وكانت تعاونه استخبارياً في الظل؛ المعلّمة رئيسة مدرسة الراهبات التبشيريةــ إذ كان الفرنسيون قد جعلوا من معلّمي المدارس عيوناً ومخبرين لهم ــ وكانت المعلمة قد حذّرت سارازان ممّا استشعرته عبر جواسيسها المعلّمين، لكن الأخير قلل من أهمية الأمر وأجابها بالقول: «لقد أنفقت مئة ألف ليرة سورية ــ وكان هذا مبلغاً ضخماً بالنسبة لذلك الزمن ــ لإفشال أي خطة ضد فرنسا.
كان سارازان يتولى قيادة قوات فرنسا في الجبل وكان تعداد تلك القوات نحو ألف وثمانمائة ضابط وجندي، من خيالة وسرية مدرعات ومفارز للنقل واللاسلكي والخدمات، بالإضافة إلى جنود نظاميين معززين بأسلحة ثقيلة يقودهم ضباط فرنسيون. وقد بذل الأمير حسن ومشايخ الموحّدين في الجبل جهوداً للبت في أمر الوحدة الوطنية وحسم الخلافات بين الناس في الشأن الوطني، ولم تفد الفرنسيين «الأموال الطائلة التي أغدقوها على من كان يتقرّب منهم أو يسير في ركابهم»، كما ورد في مذكرات سلطان.
وبتنسيق مع الأمير حسن الأطرش، وباطّلاع من قبل سلطان باشا على الخطة وغايتها، واستناداً إلى اتفاق مسبق بين الأمير وبين أعيان سوريا، أقدم فريق من الضباط وصف الضباط والجنود والشبان الوطنيين، من عصبة العمل القومي وغيرهم، على تنفيذ انتفاضة في السويداء ضد الفرنسيين، واستهدف التحرك تحقيق استقلال البلاد أو بالأحرى التسريع بخروج الفرنسيين من سوريا. وقد قام الثوار برفع علم الاستقلال على المباني الحكومية، بعد اجتماع لهم في منزل النقيب الدكتور توفيق عز الدين أقسموا خلاله على «الخلاص من الأجنبي مهما بلغت التضحيات» يذكر ذلك فارس قاسم الحنّاوي في كتابه «صراع بين الحرية والاستبداد» (ص 44).
كما ذكر عارف حديفة وسيف الدين القنطار في كتابهما «شكيب وهّاب، سيرة كفاح» أن «اشتراك شكيب وهاب قائد الكوكبة الثامنة المتمركزة بالثكنة الكبرى في أي عمل ضد الفرنسيين كان عاملاً حاسماً من عوامل نجاحه، وذلك لأهمية الموقع الذي يحتلّه ولحسن تدبيره، ولشجاعته، ولأنه ظل عبر التجربة الوطنية الطويلة رجل المهمات الصعبة».
ولم يكن صيّاح الأطرش قائمّقام صلخد حينذاك ببعيد عما كان يجري في السويداء، إذ كان ينسق شخصياً مع الأمير حسن عبر رسل أمناء منهم أبو الخير رضوان وحسن رسلان، وكان التنسيق المسبق من قبل الأمير مع قائمّقام شهبا طرودي عامر قد بلغ غايته بطرد المندوب الفرنسي من شهبا.
وهكذا، فإن الفرنسيين فوجئوا بالثورة عليهم، ولم يتوقعوا أن تأتي أول بادرة لطردهم من سوريا من السويداء، وكان أبرز أولئك الذين شاركوا في تلك العملية فايز حديفة وصالح العطّار وهاني قطيني وسلمان الشعراني ويوسف شيّا.
وعندما أخذ شبلي حمد عزام ويوسف قرقوط ومرعي شجاع يطلقون العيارات النارية فوجئ سارازان ونظر إلى الجنود بلهفة واستعطاف قائلاً: أين أبناء فرنسا؟!. فما كان من المجاهدين صالح العطار وفضل الله ابو منصور وعلي جربوع وحسن رسلان إلا أن شدّوه من ذراعيه وقالوا له: «أرجع أحسن ما نهينك أو نقتلك»، فقال: «اقتلوني تحت علم بلادي». فنادى الثائرون رفاقهم: «اسمعوا يا شباب، يريد سارازان أن يموت تحت علم بلاده، فَلِمَ لا نموت نحن كلّنا تحت علم بلادنا؟!
هنا حضر الأمير حسن وسيق جميع الضباط الفرنسيين وجنودهم إلى بيته أسرى لمدة أربعة عشر يوماً، وهناك عوملوا مع عائلاتهم أكرم معاملة ــ بخلاف ما كان يفعله الفرنسيون مع السوريين من عسف وجورــ وتمّ نقلهم إلى دمشق في ما بعد. وبهذا فقد رفض بنو معروف الدروز مشروع الدولة الدرزية الطائفية لصالح الدولة الوطنية الجامعة.

عِرى اليوم
تبلغ مساحة أراضي عِرى نحو مئة وعشرين ألف دونم، ربعها لدار الإمارة، وذلك قبل أن يقتص منها «الإصلاح الزراعي». وتزرع في البلدة الحبوب على أنواعها في أراضٍ زراعية بعلية، ومن أهم المحاصيل فيها القمح، ومتوسّط إنتاجه نحو ثلاثة آلاف طن سنوياً، والشعير والحمّص والعدس وغيرها، كما تزرع الأشجار المثمرة في مساحة نحو ثمانية آلاف دونم، أغلبها تزرع بالزيتون الذي يبلغ متوسّط إنتاجه السنوي في عِرى نحو ستة آلاف تنكة من الزيت، هذا عدا الاستهلاك كبيساً، أمّا العنب فتصدّر القرية منه نحو ستّين طنّاً بينما يذهب الباقي للإستهلاك المحلّي فيباع في أسواقها يُصنّع زبيباً ودبساً.
وإلى جانب تربية الأغنام والماعز، يتم التركيز من قبل الأهالي على تربية الأبقار المحسّنة، ففي القرية نحو 350 رأساً من الأبقار، تنتج البقرة يومياً ما متوسّطه 18 كلغ من الحليب، وذلك حسب الجمعية الفلّاحية في البلدة.
ويبلغ عدد السكان المقيمين في بلدة عِرى نحو اثني عشر ألف نسمة، غالبيتهم من الموحّدين الدروز يتوزّعون على عائلات منها زين ودرويش وبكري وملاعب وحمزة والجرماني، وحامد وصقر والحلبي وعقل والأعور ورحروح والنمط وأبو سعد والخطيب وسريوي والحجار وغزلان والصفدي والزغبي والدعبل ورضوان وأبو سعدى وحرب وأبو حمدان والبحري وعبد الوهّاب ودعيبس ونصر وسيف والشبل والأشقر وأبو عبيد وعلوان وفياض وقطيش والكريدي الجوهري وأمان الدين والبني والسلمان ودقدوق ومجدلاني.
من العائلات المسيحية في عِرى: آل الفريحات والجودة وهم أصلاً أبو جودة من الذين يتصلون بعائلة أبو جودة اللبنانية، وآل الخوري وإسحاق ونويصر والدرويش والفارس والعوّاد والحميدية والحداد والنصار وغيرهم. ويؤثر عن مسيحيي عِرى تمسكهم القاطع بالعيش بين الموحدين الدروز وبقية طوائف عِرى، ورفضهم لمساعي قامت بها دوائر كنسية في لبنان في فترة الخمسينات من القرن الماضي (عهد الرئيس كميل شمعون) لدفعهم إلى الهجرة إلى لبنان، حيث وُعِدوا بالحصول على الجنسية اللبنانية. ويروي بعض كبار السن في عِرى قصة طريفة جاء فيها أن المطران «كْليلا» وهو الذي أوفدته الكنيسة إلى الجبل يومذاك يئس من تجاوب مسيحيي عِرى مع دعوته لهم للهجرة فما كان منه في أحد الأيام إلا أن طفح كَيله وصرخ بمساعده قائلاً: «مخايل! هات المبخرة، بدّي أجنّز هؤلاء المسيحيين أحياء»!
يذكر أن المسيحيين في عِرى كانوا أصلاً على المذهب الأرثوذكسي، ولكن التنافس التبشيري بين الكنائس أوجد بينهم كاثوليك وبروتستانت.
كما تسكن البلدة عائلات من السنة، منهم عائلات حورانية أصلاً، كآل الغوثاني والنقيب والطّه والغول، وهؤلاء من فلسطين، وسواهم، أمّا البدو فهم من قبيلة الشنابلة، كالصالح والسعيفان والزطيم والوهبان وغيرهم، ومن قبيلة الحسن هناك عائلة المطلق وسواها، وجميع هذه العائلات على تنوّعها الطائفي، تعيش حياة اجتماعية يسودها الوئام والتآلف الثقافي والاجتماعي.

مسيحيّو عِرى تمسكوا بالمواطنة والشراكة مع الدروز ورفضوا دعوة بعض الكهنوت لهم للهجرة إلى لبنان تمهيداً لتجنيسهم

مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال---Copy
مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال

لخدمات العامة في بلدة عِرى
كان العثمانيون قد بنوا مخفراً للدرك منذ أواخر القرن التاسع عشر ولايزال هذا المخفر قائماً إلى يومنا هذا حيث يقوم عناصره بمهام الحفاظ على الأمن في البلدة.
وتوجد في عِرى مجموعة من المدارس الرسمية على اختلاف درجاتها: منها ست مدارس ابتدائية، ومدرسة إعدادية وأُخرى ثانوية. كما توجد مدرسة فنون نسوية، وهناك مدرسة صناعية قيد الإنشاء.
وفي البلدة اليوم مركز ثقافي يتضمن قاعة مطالعة ومحاضرات ومكتبة لإعارة الكتب للراغبين، وصالة تجارية تبيع الحاجيات بالتجزئة للمواطنين، ومقسماً للهاتف، ومكتب بريد، ومقراً لاتحاد الشبيبة، وفرقاً أهلية وبلدية لتنظيم أمور خدمات السكان والعمران، إذ تبلغ مساحة المخطط التنظيمي في البلدة ستة آلاف دونم، وأطوال الشوارع المعبّدة نحو أربعمائة كيلومتر.
وتوفّر البلدية خدمات الصرف الصحي لأكثر من 95 في المئة من مساكن البلدة، وتوجد أيضاً وحدة إرشادية زراعية لتقديم الإرشاد والنصح للمزارعين ومساعدتهم وإرشادهم على أصول الزراعة السليمة، ومصنع للسجاد اليدوي لكنه توقّف عن العمل بسبب انعدام الجدوى الاقتصادية، والمنافسة، كما توجد مطحنتان صغيرتان لطحن القمح والبرغل والكشك، وفي عِرى أربع صيدليات، وثلاث عيادات طبيّة، وثلاثة أطباء أسنان وطبيب بيطري واحد، وعلى مسافة أقل من كيلومترين من البلدة يوجد مطار زراعي لمكافحة الآفات التي تهدّد المحاصيل الزراعية. أمّا دور العبادة فهناك مجلس للموحّدين الدروز وثلاثة جوامع للسنة واحد منها للحوارنة واثنان للبدو.
وعموماً، فإن البلدة تعتمد، بالإضافة إلى الزراعة وما يتصل بها، على الوظائف في دوائر الدولة، وعلى الهجرة التي تستأثر بقسم كبير من العناصر الشابة التي يجتذبها الكسب السريع، وإغراءات الحياة المعاصرة والاستهلاك.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading