الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حول كتاب لبنان

حول كتاب “لبنان في عهد الأمراء التنوخيِّين”
المؤرِّخ الّذي استأنَس بروح القَوم

تشكِّل المصادر الأساسيَّة لتاريخ الدروز في القرن الوسيط العمود الفقري لكتاب د. سامي مكارم “لبنان في عهد الأمراء التنوخيِّين” (وهي على التوالي: “تاريخ بيروت” للأمير صالح بن يحيى، و”صدق الأخبار” لابن سباط، و”السجلّ الارسلاني” من حيث هو ثبتٌ.
بيدَ أنَّ مقاربة د. مكارم لتلك المصادر تتميَّز بما يُمكن وصفُه بـ”نور داخلي” متأتٍّ من طول مراس بحثيّ في متونها، حيث أنَّ المعالجة التاريخيَّة لها أتت استلحاقًا باهتمامات واسعة تناولت البُعد الرّوحي والفكري والاجتماعي للعشيرة المعروفيَّة في الجبل اللبناني التي قادها الأمراء التنوخيُّون من مطلع القرن الحادي عشر الميلادي إلى نهاية القرن الخامس عشر. وهذه حقبة استهلَّها الأثر الاجتهادي الفاطمي في فقه الشّريعة، واستجابة القوم له، ممّا أدّى إلى انعكاسات واضحة على نواحٍ مسلكيَّة عدّة عندهم، في حين أنَّ تاريخ حلف القبائل العربيَّة المسمّى “تنوخا” يرجع بالذّاكرة إلى ماضٍ غابر امتدَّ لقرون عدَّة قبل الإسلام – وهو أمر تطرّق إليه البحثُ تأسيساً للحقبات اللاحقة- ممّا يعزِّزُ قاعدة الدّراسة لتكون تاريخاً لـ “تنوخ” ذاتها، وهو العنوان الأصل الّذي تصدَّر مخطوطة مكارم قبل أن تجدَ طريقَها إلى النّشر.

حلف القبائل
يتقصَّى الباحثُ خبر “تنوخ” من البدايات الموغلة في القدم، وأتى على ذكره بطليموس المتوفى حوالي سنة 170 للميلاد، مُورداً اسم هذا الحِلف من بين قبائل العرب في جغرافيَّته، وهو “حلفٌ أقامته قبائل من الأزْد وقُضاعة وكهلان ولَخم وغيرها، فعُرفَت إثره بـ ”تنوخ”، وكان من شأنه أن أعطى قبائلَ هذا الحِلف قوَّة مكَّنتها من أن تنتقلَ من البحرين إلى غربي الفرات – ما بين الحيرة والأنبار – لتسيطر على قسم منَ الطّريق التّجاريَّة التي تربط الخليج وبلاد فارس شرقاً بالبحر الأبيض المتوسِّط غرباً”.
منطقة استراتيجيَّة أقامت فيها تنوخ في النّصف الأوَّل من القرن الثالث للميلاد دولةً كان أوَّل ملوكها، في ما يُروى، مالك بن فهم الأزدي. ويذكرُ الباحثُ استناداً إلى “المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، واعتماداً على المزيد منَ الإيضاحات من بعض أمّهات المصادر الإسلاميَّة (الطّبري، ابن الأثير، المسعودي إلخ…) أنَّ هذه الدّولة “تبوَّأت مركزاً مرموقاً بين العرب فخطب ودّها كلٌّ منَ الدّولتَين الكبريَين في ذلك الوقت: الدّولة الساسانيَّة والامبراطوريَّة الرومانيَّة…”، من دون أن تكون خاضعة لأيٍّ منهما.
ويستقرئُ الباحثُ بعضَ النّصوص الأثَريَّة ليعزِّزَ المعطيات التاريخيَّة، وليبيِّن من ثمَّ أنَّ سلطانَ المملكة التنوخيَّة امتدَّ من الحيرة شرقاً إلى بلاد الشّام غرباً إلى نجران جنوباً، و”كانت المملكة في وقتٍ من الأوقات تسيطر على معظم الجزيرة العربيَّة … وكانت لها شخصيَّتها المستقلَّة، ودورُها السياسيّ والعسكريّ الَّذي يتوخَّى مصلحتها الخاصَّة وإن كان يعودُ بالنّفع العميم لكلتا الدولتين المتصارعتَين”.

ملوك تنوخ
يستعرضُ الباحثُ من ثَمَّ أسماء الملوكِ الَّذينَ تعاقبوا على عرش تنوخ، مبيِّناً الأدوار التي لعبوها، والمآثِـر التاريخيَّة التي خلّفوها، ومنها بناء قصر الخورنق المنسوب للنعمان بن امرئ القيس، وصراع المنذر بن ماء السّماء ضدّ الرّوم من جهة، والغساسنة من جهةٍ أخرى، كذلك خبر يوم ذي قار، والموقف الشجاع لهانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني في وجه كسرى، عندما أبى تسليم الودائع، التي أودعها النّعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس ملك الحيرة، إليه، وانتصار العرب على الفُرس في تلك الواقعة.
ومنذ صدر الإسلام، شاركت سيوف “تنوخ” في الفتوح. فقد اعتنقَ المنذر بن النعمان الاسلام. واشترك بقيادة خالد بن الوليد في الزّحف عند قدومه إلى الشّام، عون بن المنذر مع المسلمين، كما حضر مشاركاً في واقعة أجنادين بين المسلمين والبيزنطيّين سنة 13 للهجرة وقُتِل فيها.
وأمَّا الأمير مسعود بن عون بن المنذر فقد حضر فتح دمشق ومعركة اليرموك “وقاتل هو ومَن معهُ من لخم وجذام قتالاً شديداً”، كما يقول “السجلّ الأرسلاني” الَّذي يفتتح وثائقه الإثباتيَّة بذِكر تلك المآثـِر.
ويُعتبَر هذا السجلّ أحد الأصُول التاريخيَّة للتنوخيِّين كما سبقَ القول، إنَّما تتوجَّبُ قراءتُه منهجيّاً بعين ثاقبة، ونظر عميق يعقد المقارنة، ويقيمُ البحثَ على استقصاءٍ موضوعيّ للحوادث اعتماداً على موازنتها بالمصادر الأساسيَّة للحقَب الزمنيَّة التي جرت فيها، وهو أمر يجهد فيه الباحثُ وسع الجهد.

دفاعاً عن الثغور
بعد الفتح، كان بمعرَّة النعمان “جمع تنوخ المستكثر” على حدّ تعبير القلقشندي، وكما يقتبسُه مكارم الَّذي يستعرضُ من ثَمَّ المعطيات التي تشيرُ إلى أنَّ قبائل من تنوخ قطنت بلادَ الشّام شمالها وأوسطها قبل الفتح الاسلاميّ وفي أثنائه وبعده، وصولاً إلى وادي التَّيم و”بلاد الصّنوبر” على حدّ تعبير شاعر قُضاعي. هكذا، بدأت مهمَّة “المثاغرة” للإمارة التنوخيَّة التي وُصِفَت بأنَّها “غرس الملوك”، وكان من شأنها “الدّفاع عن عددٍ من ثغور دار الاسلام ضمن الدّولة الجامعة، كما كان من شأنها أن تسهمَ في طبع هذه المنطقة بالطّابع العربي”.
يتحرَّى الباحثُ بعد ذلك عن الامتداد التنوخي في ساحل الشّام بعد أن ميَّز بين سلالتَين هما الفرع الأرسلاني والفرع البحتري الجُميهري. ويروي في السّياق ما باشرته سيوفُهُم من الدّفاع عن ثغر بيروت لقربه من هجمات المرَدة الموالين للروم، ووقائع الانتشار مصحِّحاً العديد من الأخطاء التي وقع فيها بعضُ المؤرِّخين (تحديد موقع بلدة البيرة على المثال).
هكذا تبدأ الحقب الكبرى التي شهدت أدواراً قام بها “أمراءُ الغرب” في عهد الخلافة العبَّاسيَّة فالفاطميَّة، حيثُ نقرأ عن مبايعة سيف الدولة المنذر بن النعمان بن عامر أمير الغرب للإمام الفاطمي المعزّ لدِين الله عبر قائده جعفر بن فلاح الكتامي الَّذي فتح دمشق.
ويُلفِت مكارم إلى خطأ في السجلّ الأرسلاني – ليس الوحيد على كلِّ حال – حين يقف عند الالتباس الَّذي وقع فيه البعضُ بين الأمير أبي الفوارس معضاد بن همام الفوارسيّ، وبين الدّاعي أبي الفوارس معضاد بن يوسف الفوارسي. ثمّ ينتقلُ البحثُ إلى عهد الأتابكة وصراعهم مع الفرنجة، وبدء حملات الفرنجة، ودور أمراء الغرب فيها.
وهنا يدخلُ في سياق البحثِ تاريخُ الأمير صالح بن يحيى المذكور آنفًا. ويكشف مكارم مسألة التنافس بين سلالات الأمراء إذ تعبِّرُ إثباتات “السجلّ الأرسلاني” عن النسَب الأرسلاني، وتعبِّرُ وثائق “تاريخ بيروت” عن النّسب التنوخي (البحتري) على الرغم من ارتباط النّسَبَيْن بجدٍّ أعلى هو النعمان بن المنذر بن ماء السّماء، وهو كشفٌ يسلِّطُ الضّوءَ على آثار هذا التنافُس في قلب هذه المتون القديمة لجهة إغفال بعض الأحداث، أو إيلاء الأهميَّة لبعضها الآخَر.
من ثمَّ يتحدَّثُ عن أدوار الأمراء الجميهريِّين في عهد الأيوبيِّين، محلِّلاً المنشور الَّذي منحهُ صلاح الدِّين للأمير جمال الدِّين حجي بن كرامة، ومستنتِجاً منه أنَّ صفةَ الإمارة أُزيلت لتوزّع إقطاعات على الأمراء. كذلك يحلِّلُ منشورَ الملك الأفضل نور الدِّين الأيّوبي. ثمَّ يُسهبُ في شرح دور ثالوث الأمراء جمال الدِّين حجي وسعد الدِّين خضر وزين الدِّين صالح ودورهم المهم في الأحداث السياسيَّة والعسكريَّة التي دارت في زمنهم، الَّذي شهد اضطرابات كبيرة تَنازَع فيها الأيوبيُّون والمماليك والمغول والفرنجة. دورٌ بلغَ الذّروة في المشاركةِ في المعركةِ الطّاحنة التي جرت في عين جالوت بين المماليك والتتار.
وينتقلُ سياقُ الأحداث إلى عهدِ دولة المماليك البحريَّة، وأهمُّها في ما يعني أمراء الغرب الحملة على “شيعة وباطنيَّة كسروان”. كما يشرح أثَر التّرتيب العسكري الَّذي فرضهُ المماليك على فرسان الإمارة لجهةِ إدراج الجبل في النِّظام الَّذي فرضُوه على مقاطعات بلاد الشّام.

بيروت القديمة
بيروت القديمة

ويُرافق الأصل التاريخيّ “صدق الأخبار” لابن سباط، حقبة دولة المماليك البرجيَّة، وهو يُكمل تاريخ الأمير صالح المنتهي سنة 840 هـ. وهذه حقبة تميَّزت بانهيار أسُس النِّظام المملوكي في ما اعتبرهُ بعضُ المؤرِّخين “عصراً مظلماً” أضاءت فيه سيرةُ الأمير السيِّد جمال الدِّين عبد الله التنوخي بشكل لافت.

سيرة الأمير السيِّد
ويُسهِبُ د. مكارم في سردِ سيرة هذه الشخصيَّة المهيبة الفذَّة ليعطينا صورة تاريخيّة جليَّة عنها، وعمّا كان لها من أبعد الأثَر في تاريخ الموحِّدين ومسلكهم، مدقِّـــقًا في بعض المُعطيات، ومُبرزاً أبعاد النَّهضة الإصلاحيَّة المتعدِّدة الجوانب التي قام بها الأميرُ السيِّدُ وسط بيئته الاجتماعيَّة، راوياً الظروف التي دعتهُ الى تركِ البلاد، ثمَّ عودته، فابتلائه بفقد أولاده وصبره وقيامه برسالته حتَّى كان “نموذجاً للفناء عن الأنا، ومِثالاً للرضى والتَّسليم…”
ويتعقَّبُ الباحثُ أخبارَ تلاميذ الأمير السَّيِّد، ومن بعدهم آخر أخبار التنوخيِّين التي انتهَت بالمأساة التي سبَّبها الأميرُ علي بن علم الدِّين الَّذي ولّاه كجك أحمد باشا على “بلاد الدّروز”، بقتله لآخِر سبعة أمراء منهم بعد أن باغتهُم في قرية عبيه “ولم يترك من بيت التنوخ ولا ذكراً يخلفهُم” على حدِّ قول الأمير حيدر الشهابي.
ويخلص مكارم إلى الاستنتاج بأنَّ التنوخيِّين “قاموا بدور رئيسي في بناء الشخصيَّة المميَّزة لهذه البلاد، فحافظوا على هويّتها اللبنانيَّة العربيَّة، وكان لهم الفضل الكبير في إبقاء هذه البلاد جزءاً أساسيّاً من الدولة الجامعة، ولكنَّهم عملوا كذلك على إبقاء هذه البلاد جزءاً مميَّزاً، كما كان لهم الفضل الكبير في تكوين صفاتها اللبنانيَّة ذات الفرادة الأصيلة القائمة على الانصهار الاجتماعي بين السكَّان على مختلف انتماءاتهم الدينيَّة أو العرقيَّة، ذلك أنَّ ما شاهدهُ اللبنانيُّون من منازعات قليلة بين القيسيَّة واليمنيَّة في القرنين السادس عشر والثامن عشر، ومن منازعات طائفيَّة بدءاً من القرن التاسع عشر، لم يكن موجوداً في عهد السّيادةِ التنوخيَّة على الإطلاق”.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading