لا حاجة، بالتأكيد، لتكرار ما نبّه اليه علماء التربية من جهة، وعلماء تاريخ الحضارات والشعوب من جهة ثانية، حول الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق، والتربية على الأخلاق الرفيعة، في بناء الشخصية الإنسانية، كما في بناء المجتمعات والحضارات المزدهرة وحياة الشعوب السعيدة. والعكس صحيح، أي الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق الهابطة في تدمير الشخصية الإنسانية، كما، على نطاق أكثر شمولاً، في تدمير الحضارات التي تراجعت ثم زالت. وعليه، لم يخطئ الشاعر أبداً في إصداره حكم التاريخ، بل حكم الزمن، حين قال:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا
وهذا هو أيضاً حكم هيجل، فيلسوف التاريخ مطلع القرن التاسع عشر، في أنّ الأمم إذا فقدت ثقتها بروحها، وعقلها، فقدت الركن الأساس الذي نهضت على قاعدته. وهو أيضاً حكم علماء الحضارات في النصف الأول من القرن العشرين من أنّ انهيار أي حضارة إنما يبدأ بفقدانها المبرر الأخلاقي لوجودها.
وقبلهما بأكثر عشرين قرناً، بدأ أفلاطون كتابه الأكثر شهرة ونفوذاً، كتاب «الجمهورية»، بسؤال عن فضيلة العدالة: «لماذا عليَّ أن أكون عادلاً؟»، أي بسؤال أخلاقي، بل بالسؤال التأسيسي المركزي في كل منظومة أخلاقية، وفي تعريف علم الأخلاق أصلاً: ما هو الخير؟ لماذا عليّ أن أكون خيّراً؟ ومنهما اشتُقَ السؤال الأخلاقي العملي: كيف أفعل الخير؛ أو وفق كانط، فيلسوف الأخلاق دون منازع أواخر القرن الثامن عشر: إلزامية فعل الخير. معرفة الخير، لإفلاطون، هي أصل كل معرفة، وأصل كل الفضائل؛ وفعل الخير، لكانط، هو إلزام obligation.
وفي ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية العربية، كان القرآن الكريم الخزانة، بل الخزنة، الذي أعطى، وما انفك يعطي، الأخلاق الأولوية المطلقة، مقارنة بالثقافات الجاهلة التي كانت تسود الجزيرة العربية، والقسم الأعظم من الكوكب قبل ورود البعثة النبوية والدعوة إلى الإسلام الحنيف. فقد قال الله تعالى في مدح نبيّه (ص): « وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم». ولعله أعظم ما قيل في تبرير الأخلاق، واعتبارها أُسّاً مركزياً من أسس الدين الحنيف. بل لا يتردد كثرة من علماء التفسير (إبن كثير، وآخرون محدثون) في تفسير الآية تلك كما لو كان الله تعالى يقول: «إنك على دين عظيم» (ابن كثير).
لا شك في أن ذلك التفسير تضمّن أقوى رافعة ممكنة لعلم الأخلاق، إذا جعلها متلازمة مع الدين نفسه. والحقيقة إننا لا نبالغ حين نقول إن الأخلاق متلازمة مع الدين بل ستصبح جزءاً منه. يقول محمّد عبد الله الدرّاز (في كتابه: «بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان»، ص 33): «إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو معرفة الحق الأعلى، وتوقيره، وإلى الخلق من حيث هو قوة النزع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، كان أمامنا حقيقتان مستقلتان (متلازمتان)…، تختص أولاها بالفضيلة النظرية، والأخرى بالفضيلة العملية». إلا أنَّ ما يميّز الحقيقتين، إحداهما من الأخرى، هو أن الثانية مشتقة من الأولى، أو لاحقة بها، لأن العملي يتبع النظري، ولو على سبيل الأسبقية المنطقية لا الزمنية أو التاريخية. فالعمل بالحق أو الصحيح يتبع تعريف الحق أو الصحيح، وهو جوهر ما جاء به الدين من وحي ومن معرفة للحق. العملي يتبع النظري؛ وبهذا المعنى الدين هو الذي يزود الأخلاق بالمبادئ والقيم العليا.
بدأنا بذروة ما يمكن أن تكون عليه الأخلاق، أي جعلها مساوقة، موازية، متلازمة مع الدين الحنيف نفسه.
هنا بدت الأخلاق استجابة إلزامية، لا بد منها، لحاجة اجتماعية ملحّة. ورغم ما يقال عن أصل عقلي للأخلاق، أو أصل اجتماعي، أو اقتصادي، وخلافه، لا يستطيع المرء إلا ملاحظة أن الأخلاق لم تكن لتقع ذلك الموقع الإلزامي الحاسم في حياة الأفراد لو لم تكن مستندة ومؤيدة صراحة بمصدر علوي، إلهي، قدسي، قطع الطريق على كل راغب بتجربة الخطأ أو الحرام أو الشرّ عموماً. وعليه، يمكن أن نفهم بسهولة قوة الصلة بين الأخلاق والدين وصدقيتها.
تقع الأخلاق في ثلاثة أقسام، بل مستويات متدرجة، صُعُداً:
الأخلاق الفردية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق المتسامية.
الأولى، وتتألف من القيم والفضائل التي تخص الفرد، أي التي تتصل بالخير الشخصي: من مثل المبادئ التي يؤمن بها ويعمل بموجبها، الشجاعة، والكرم، والتروّي، نزوعه إلى الخير وكره الشر، وتعلقه بما يتصل ويعزز العقل والضمير وينأى به عن الهوى والغريزة، وسلسلة طويلة من الخصال الشخصية من مثل الصدق، والأمانة، وعمل الخير، والإحسان، التواضع مع عزة النفس، والقناعة مع السعي لكسب الرزق بالطرق المشروعة، وسواها من القيم الفردية، أي المبادئ التي يؤمن بها الفرد، وتحكم سلوكه، ويسعى لتحقيقها.
ويدخل هنا على وجه الخصوص الدور الحاسم الذي تلعبه الأسرة في تنشئة أفرادها، وتزويدهم بالقيم والأهداف الحميدة. هو دور الأب والأم معاً، ولكن مع حيّز خاص للأم على وجه الخصوص، إذ هي التي تقضي الوقت الأكبر مع طفلها وتخلّقه عموماً بأخلاقها. وقد قيل الكثير في دور الأم هذه، وبحق؛ ومنها:
الأمُّ مدرسةٌ أذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
وقيل أيضاً:
تربية الطفل في الأسرة تبدأ قبل خمس وعشرين سنة من ولادته، أي في التربية التي حصّلتها الأم في أسرتها الأولى وقبل أن يكون لها أسرتها الخاصة.
ويجب أن يتذكّر المرء هنا المكانة الخاصة التي أفرزها الأمير السيّد التنوخي (ق) حين شدد على أهمية تنشئة المرأة الصالحة، ومن ثمة الأم الصالحة، كي تنشأ من بعدها الأسرة الصالحة، والفرد الصالح، والمجتمع الصالح في النهاية.
وهناك أقوال مشابهة كثيرة أخرى، مصيبة دائماً، إذ يتفق علماء التربية دون استثناء على أن جزءاً كبيراً من قيم الفرد – أي المبادئ التي توجّه أخلاقه – إنما تُكتسبُ في سني حياته الأولى. دون أن ننسى هنا أهمية المدرسة في المرحلة التالية، ودورها التربوي الحاسم، وهي المؤسسة التي يقضي فيها الناشىء معظم سنواته قبل بلوغه سن الرشد.
في وسع الباحث أن يتوسّع في أنواع الأخلاق الفردية ما رغب في ذلك، إذ هي في النهاية مجموع الإرشادات والنواهي المحفّزة لصنع ما هو خير، والنأي عمّا هو شر. وهو عين ما جاءت به الأديان أيضاً. وعليه فهما لا يتناقضان في شيء، بل متوافقان على أهمية أن ينشأ الناشئة في أسرة فاضلة، ثم ما يتدرب عليه الفتى في المدرسة الصالحة، والنادي الصالح، كيما يكون فرداً صالحاً يصنع مع أفراد صالحين آخرين: المجتمع الصالح – وتعريفه: المجتمع الفاضل والسعيد. وهو موضوع المستوى الثاني من الأخلاق.
الثانية، هي الأخلاق الاجتماعية، أو ما يمكن تسميته: أخلاق المعاملات.
تشتمل الأخلاق الاجتماعية هذه على كل ما اتصل بسلوك الفرد والدور الاجتماعي الذي يلعبه، أي علاقة الفرد بالمجتمع، وبمؤسساته المختلفة: الأسرة، الحي، البلدة، المدينة، مكان العمل، وأشكال العلاقة الاجتماعية الكثيرة، والتي لا مفر للفرد عموماً من الانخراط فيها طوال حياته – من الولادة والنشأة في كنف أسرة، في طقوس اجتماعية محددة، إلى حين مغادرته هذه الدنيا في النهاية، وفي مكان اجتماعي محدد ووسط طقوس اجتماعية محددة أيضاً. بين أهم المبادئ التي تنشأ منها القيم الاجتماعية التي يلتزم بها الفرد الصالح:
– التعاون مع الأفراد الآخرين في الجماعة الصغيرة (الأسرة، أو المدرسة، مثلاً) ثم في الجماعة الأكبر، المجتمع، لتحقيق الأغراض الخيّرة من قيام الجماعة والمجتمع، وحسن إدائهما لوظائفهما. فمن دون هذا التعاون القائم على الخير لا تقوم أسرة بما يفترض أن تقوم به من وظائف أولية تربوية وأخلاقية حساسة؛ ولا تقوم مدرسة بما يتوقع منها من تربية وتعليم وتثقيف بالمعنى الصحيح؛ ولا ينهض مجتمع في النهاية إلا أذا تعاون أفراده تعاون أعضاء الجسم الواحد، بحيث يقوم كل فرد فيه بالوظيفة التي يصلح لها أو اختارها لنفسه والتي يجد نفسه فيها، متكاملاً مع الوظائف الأخرى التي يقوم بها الأفراد الآخرون في المجتمع: لا تنقص ولا تفضل وظيفة من أخرى، أو على أخرى، إلّا بمقدار ما يُحسن صاحبُها إداءها والإخلاص لها بمعزل عن الكسب المادي الذي يتأتّى عنها، بالمعنى المباشر، إذ إنّ الغاية من الوظائف الاجتماعية هي في الأصل تكامل المجتمع، لينهض، ويكون مجتمعاً فاضلاً، يجد كل فرد فيه نفسه، ينال حاجته من تقديماته، ولا يبخل بعطاء يستطيع تقديمه – أمّا تلبية الحاجة المادية المباشرة للفرد وللأسرة فلا تغيب عن البال لكنها يجب أن لا تتقدم على تكامل الوظائف الجوهرية للمجتمع.
– يلحق بهذه الوظيفة الأصلية سائر القيم الاجتماعية، وقد نصّت عليها تفصيلاً مواثيق حقوق الإنسان في الأندية المختلفة – وبخاصة شرعة حقوق الفرد والمواطن التي أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 11 كانون أول سنة 1949، والتي لا تتعارض في أي من بنودها مع ما جاءت الأديان من حقوق وموجبات – طبعاً خارج تفسير الجماعات المتطرفة والموجودة على هامش الأديان كافة والتي تفهم دينها على أنه إقصاء للآخر، بل وتكفير له. قائمة القيم هذه تتضمن طريقة النظر إلى الآخر، الرحمة والتراحم، قبول الآخر، الاحترام المتبادل، نظام الحقوق والواجبات التي يتضمن عموماً كل ما هو ضروري لتعزيز المجتمع واللحمة بين أفراده من غير إفراط أو تفريط.
أما المستوى الثالث من الأخلاق فقد أسميناها: الأخلاق المتسامية transcendental values، المستندة إلى قيم وأهداف أعلى مما هو فردي، ومما هو مجتمعي أيضاً.
قيمُ المجموعة الثالثة هذه، إنما تنشأ من حقيقة أن الإنسان ليس فرداً فقط، وكذلك ليس فرداً-في-جماعة فقط. هو أكثر من ذلك.
هو في الأصل والجوهر، كائن متسامٍ، أي فيه من الدوافع والتطلعات والمحركات والأهداف (أي القيم) أكثر بكثير مما يتضمنه الكائن البيولوجي (الأكل والشرب والتكاثر)، والكائن الاجتماعي (طلب الصحبة والتعاون والتجاور) – رغم عدم نفي وجود الكائنين فيه ولكن على نحو أوّلي (البيولوجي) ثم ثانوي زائل (الاجتماعي).
الإنسان هذا يملك فوق البيولوجي والاجتماعي مستوى ثالثاً أعلى، ويتفرّد به عن سائر المخلوقات، ألا وهو: مستوى البحث عن الحقيقة، مقاربتها ومحاولة بلوغها، ومن ثمة التماهي بها أو وفق هديها – إذا حالفه الحظ وتأتت له نعمة معرفة الحقيقة تلك.
ولا نأتي جديداً إذا كررنا مع الفيلسوف الأندلسي إبن طفيل (وآخرون) أن الطريق إلى الحقيقة العليا تلك يكون في واحد من اثنين: إما بالوحي (أي النعمة الإلهية) أو بالعقل (أي من خلال كمال التفكّر والتعقّل). كلاهما طريق صحيح، يوصل إلى الخاتمة نفسها، وعليه فواحدهما لا ينفي الآخر.
في الأخلاق المتسامية، يعود الباحث باستمرار إلى كانط (1724-1804) الذي جعل لموضوعة الأخلاق معظم كتبه الأخيرة، وبخاصة كتاباه «نقد العقل العملي» (أي الأخلاقي)، الذي صدر سنة 1788، وأعقبه سنة 1797 بكتابه «ميتافيزيقيا الأخلاق»، والذي وضع فيه أسس الأخلاق العملية، أخلاق الفضائل.
يمكن العودة إلى كانط، كفيلسوف أخلاقي نظري وعملي من الطبقة الأولى، ولكني أختصر هنا فكرته المركزية برؤيته إلى الأخلاق كمعرفة «قبْلية» apriori، أي تتجاوز، وسابقة، للمعرفة المنطقية الشكلية، من جهة، وللمعرفة التجريبية البحت من جهة ثانية. لا تستمد الأخلاق أولويتها، وقبليتها، من أي برهان منطقي، ولا من علم النفس، ولا من أية خبرة عملية تجريبة جزئية. هي بالعكس «قانون كلّي»، تقوم على فكرة «إلزامية الواجب»، الذي لا يستطيع أي عقل إلا التسليم به، كما لا تستطيع الطبيعة الإنسانية إلا الاستناد إليه، كما لا تستطيع الخبرة اليومية إلا الانصياع له.
هذا أعظم دفاع عن أولوية، وقبْلية، فكرة الأخلاق في العصر الحديث، وربما في كل عصر. وقد تركت أفكار كانط نفوذاً هائلاً في كل النظريات الدينية والفلسفية والأخلاقية التي جاءت بعده. ولعل أعظم برهان عليه ما نقوله هو الخلاصة التي انتهى إليها الباحث في أعمال كانط، الفيلسوف الألماني هرمن كوهين، حين انتهى إلى الخلاصة التالية: «حتى لو لم يوجد الناس، لبقيت الأخلاق مع ذلك موجودة» (من كتاب «الأخلاق عند كانط» للفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، ص 36).
هذا القدر كاف، كما اعتقد، لتأسيس البحث في فكرة أولوية «الأخلاق»، بل أولويتها المطلقة، إلى الحد الذي ساوت فيه الآية الكريمة، التي مرّت معنا، بين الأخلاق والدين نفسه.
وللبحث صلة، وبخاصة في فضائل الأخلاق المتسامية.