الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دورُ التّعليم العالي في تعزيز فرص التّنمية المُستدامة

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي في رأس أولويات وأهداف كل بلد وكل مجتمع حريص على مستقبل أجياله وعلى إيجاد مكان محترم له في عالم معاصر يعجّ بالأقوياء وبالتنافس الشديد في كل مجال. والثاني، لأن هناك تسليماً كلِّياً وعلى مستوى العالم ألّا تنمية مستدامة، ولا تنمية حقيقية في الأساس، من دون دراسات دقيقة وأبحاث متخصصة ومعمّقة، أي لا تنمية من دون تعليم عالٍ كفوء وأبحاث علمية موثوقة ورفيعة المستوى. يقول تقرير حديث لليونسكو بعنوان: «Policy Paper for Change and Development in Higher Education…»

نحن نعيش في زمن لا يستطيع أي بلد بدون التدريب الجيد والبحوث رفيعة المستوى أن يكفل لنفسه أي درجة من التقدم المتوافق مع احتياجات وتوقعات مجتمع يسعى إلى التنمية الاقتصادية». لكن التنمية الاقتصادية في زمننا لم تعد مكاسب مالية وأرقاماً اقتصادية فحسب. يضيف التقرير محدداً نوع هذه التنمية فيقول بشكل دقيق: «مع المراعاة الواجبة للبيئة، والعمل في الوقت نفسه على بناء ثقافة للسلام قوامها الديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بالاستناد على تنمية بشرية مُستدامة».

مطلب البشرية بأسرها إذاً هو الرفاه والبحبوحة والتنمية الاقتصادية. ولكن ليست أيّة تنمية، بل التنمية المتوافقة مع البيئة والديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بكلمة واحدة: التنمية البشرية المستدامة. أما الشرط الضروري في كل سعي إلى هذه التنمية فهي: الدراسات والبحوث رفيعة المستوى والتدريب الجيد، أي لا تنمية حقيقية من دون تعليم عال رفيع المستوى.

فكيف نتمكن من توفير هذا التعليم العالي الرفيع المستوى؟
هذا السؤال العام المركزي ينقسم في الواقع إلى سؤالين فرعيين وهما:
السؤال الأول، كيف ننجح في تأمين تعليم عال لأوسع الشرائح في بلدنا؟.
والسؤال الثاني، كيف نجعل هذا التعليم العالي في بلدنا تعليماً رفيع المستوى، وبحسب أعلى معايير الجَودة في العالم؟.
من جهة السؤال الأول، حدث توسّع هائل لأعداد الطلاب المنتسبين إلى التعليم العالي منذ سنة 1980 إلى اليوم، وازداد عدد طلاب التعليم العالي نحو ثلاثة أضعاف وفي معظم دول العالم. فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم حوالي 85 مليون طالب، 47% منهم إناث.

المناطق الأضخم للتعليم العالي في العالم من حيث العدد، هي أمريكا الشمالية، حوالي 17 مليوناً ونسبة الإناث فيها تبلغ 55%، حوالي 5500 طالب لكل 100000 من السكان. تليها منطقة شرق آسيا وأوقيانيا، التي تجاوزت أوروبا مع نهاية القرن العشرين حيث بلغ عدد طلاب التعليم العالي فيها حوالي 15 مليوناً، نسبة الإناث بينهم 41%.

البلدان العربية هي في أسفل القائمة لا يقع دونها إلّا الدول الإفريقية جنوب الصحراء. يبلغ عدد طلاب التعليم العالي في بلداننا العربية حوالي200 جامعة حكومية، تضمّ 3 ملايين طالب جامعي، حوالي نصفهم في مصر وحدها (بمعدل طالب جامعي واحد لكل مائة من السكان).

في لبنان لدينا أكثر من 43 جامعة خاصة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، الجامعة الرسمية الوحيدة. يبلغ عدد طلاب هذه الجامعات حوالي 120ألف طالب، أكثر من نصفهم في الجامعة اللبنانية.
اذا أخذنا هذه الأرقام نجد أننا عربياً ولبنانياً لا نشكو من قلة عدد الجامعات، ولا من قلة عدد الطلاب المنتسبين إليها رغم أن مناطق وبلداناً أخرى في العالم متقدمة علينا.

المشكلة عندنا إذاً ليست في السؤال الأول، أي كيف نؤمن تعليماً عالياً للشباب والشابات المتخرجين من التعليم الثانوي. هذا مؤمَّن نسبياً رغم بعض التقصير هنا أو هناك. المشكلة في الواقع هي في السؤال الثاني، أي غياب التعليم العالي رفيع المستوى عندنا، وغياب الأبحاث العلمية ذات القيمة العلمية العالية، والقادرة أن تسهم على نحو إيجابي في خطط ومهام التنمية المستدامة في بلداننا العربية، وفي لبنان على وجه الخصوص – إذا كنّا نفكّر في ذلك!

النوعية إذاً هي السؤال الحقيقي عندنا. نوعية التعليم العالي المتوفر، لا كميته، وهل هو مراقَب أم غير مراقب، تلك هي المشكلة عندنا والتي تستحق الفحص والبحث، والنتائج غير مشجعة ولأسباب كثيرة.
باختصار شديد، المشكلات المعيقة لقيام تعليم عال رفيع المستوى، المعيقة بالتالي للتنمية والتنمية المستدامة عندنا هي التالية:
1. تمركز جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – الرصينة وذات المستوى- في العاصمة بيروت، مما يجعل الإقامة في العاصمة، أو التوجه إلى العاصمة يومياً شرطاً لتحصيل التعليم العالي، وهو واقع مخالف لتوصيات منظمة الأونيسكو التي تنصح الجامعات بالتوجه إلى الأرياف بدل إفراغ الأرياف من سكانها لصالح العاصمة والمدن الكبرى، مع ما في ذلك من نزوح من الريف، وأكلاف ونفقات وأعباء لا قبل لمعظم اللبنانيين بها.

2. غلبة التعليم النظري والأكاديمي على التعليم التقني والمهني والفني في مدارسنا كما في جامعاتنا. طلاب الكليات النظرية في الجامعة اللبنانية يشكلون وحدهم 75% من طلاب الجامعة. والوضع في مراحل التعليم ما قبل الجامعي أكثر سوءاً. مع أن الصحيح هو أن التعليم التقني والمهني هو الأكثر قدرة على خدمة مطالب التنمية وخططها، على المستوى المحلّي كما على مستوى البلاد عموماً. التعليم التقني والمهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام وإنفاق، وأحياناً شهاداته لا تعادل إلاّ بشق النفس: على سبيل المثال الإجازة الفنية LT لا تعادل حتى الآن بالإجازة الجامعية!.

3. غياب التوجيه الفني الفعلي Vocational Orientation، فلا المدارس ولا مجالس الأهل ولا الدولة تقدّم في نهاية المرحلة المتوسطة، أو في نهاية المرحلة الثانوية، توجيهاً حقيقياً للطالب مستنداً لا إلى رغبات أمه أو أبيه، وإنما إلى ميوله وقدراته الفعلية وما هو أفضل لمستقبله المهني والوظيفي.

4. فوضى التعليم المهني والتقني بحيث بات صعباً التمييز بين من يتاجر بالتعليم المهني ومن يقدّم تعليماً مهنياً كفوءاً ومفيداً لمحيطه ولتنمية هذا المحيط. أنا مع إعطاء الترخيص لمن يرغب ولكن شرط الالتزام بالعلانية والشفافية والمراقبة من السلطات المحلية ودوائر وزارة التربية الوطنية. وأشدد على دورالسلطات المحلية التي يحب أن تُعطى دوراً أساسياً، فهي أقرب إلى المدرسة المهنية وفي وسعها أن ترى وتراقب وتستنتج: أنّ هذا خطأ وذاك صواب، وهذا ما تحتاجه البيئة المحلية وذاك لا تحتاجه، وهلمّ جرّاً.

5. «غرق» البلاد في السياسة، ولا شيء غير السياسة. ومع احترامي للسياسة بمعناها الحقيقي، ومع قناعتي أن السياسة هي أمر جيد، ودليل ديمقراطية البلد وحيويته، ولكن هناك أموراً أخرى مهمة أيضاً مثل: مستقبل أولادنا المرتبط مباشرة بنوعية التعليم الذي يتلقَّوْنه في المدرسة والجامعة، ومثل فرص العمل غير المتوفرة، وكذلك الجو غير الصحي وأحيانا غير الآمن الذي يتعلم فيه أبناؤنا وبناتنا في المدارس والجامعات، وعلى الطريق إلى المدارس والجامعات. هل هناك من يسأل عن الجو النفسي لأبنائنا وبناتنا وهم يعيشون لبعض الوقت ويتعلمون ويدرسون ويبحثون عن نتيجة علمية فيما هم في غابة من الأعلام والصورالحزبية والأناشيد الحماسية والثياب المرقّطة وعرض عضلات الشبّان المفتولة، وعلى مرأى من مسؤولي المدارس والجامعات وموظفيها وحرّاسها، ولا من يرى أو يسمع، بل كأن ذلك هو آخر ما يعنيهم، هذا مُناخ غير صحِّي وغير معقول في الأساس ولا يحدث حتى في أفغانستان! ولكن من يسأل أو يهتم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود!

هذه فقط بعض المشكلات لا أكثر، مشكلات رغبت الإضاءة عليها لأن لها علاقة مباشرة بتحفيز التنمية المحلية والوطنية الشاملة والمستدامة. ويجب أن تنال عناية، ومتابعة، الأطراف الرسمية والسياسية والثقافية لأنها ببساطة تمسّ مستقبل أهم رأسمال في كل مجتمع وكل زمان وهو: الإنسان، وبخاصة الأجيال الشابة. فالمجتمع الذي يربح معركة الإنسان ومعركة إيجاد تعليم أساسي وجامعي ملائم، وإيجاد فرص عمل لأجياله الشابة، هو الذي يربح المستقبل. ومن يفشل أو يُهزم في المعركتين يخسرالمستقبل، ويستمر تابعاً ولاحقاً لمن هو أكثر تقدُّماً منه، ويبقى مجرد سوق لأسوأ ما لدى المتقدمين من بضاعة رديئة، وثقافة رديئة، وفنون رديئة، وسياسات رديئة كذلك، وشكراً.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي