الثلاثاء, نيسان 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, نيسان 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

رسالة الغفران

رسالـــــة الغفــــران
لأبــــــي العــلاء المعــــــرّي

إيمـــــان العامــــة فــــي ميــــزان العقــــل

هي من المؤلفات العربية النادرة التي صنفت ضمن الأدب العالمي، لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء «أبي العلاء المعري»، بقيت غير معروفة حتى أواخر القرن التاسع عشر حيث أعلن المستشرق الإنكليزي «بيكلسون» أنه حظيّ بمخطوطات قديمة قيمة أهمها رسالة الغفران، مع العلم أن أبا العلاء المعري توفي سنة 1057م. ونحو سنة 1901م قدّم بيكلسون وصفاً للمخطوطة التي خضعت لدراسات عدة، ولكن عربياً بقيت مهملة حتى سنة 1950م، حيث نشرت أول طبعة محققة في مصر، وبالمقارنة تبين أن هناك نسخة قديمة في سوهاج في مصر كانت تحمل عنوان «في علم الأدب: مجهول المؤلف».

أحدث اكتشاف رسالة الغفران ضجة كبيرة في أوساط أوروبا الأدبية، إذ تبين أن الأديب الإيطالي العالمي «دانتي» أخذ فكرة كتابه العالمي الشهير «الكوميديا الإلهية» عن رسالة الغفران لأبي العلاء، وكذلك الشاعر الإنكليزي «جون ميلتون» في قصيدته «الفردوس المستعار والفردوس المفقود».

وقبل البدء بوصف وقراءة رسالة الغفران لا بدّ من التعريف بإختصار بأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري ولد سنة 973م نسبة الى معرة النعمان قرب حلب، شاعر وفيلسوف وناقد عربي كبير لقب برهين المحبسين لأنه أصيب بالعمى في سن الرابعة والتزم بيته زاهداً أكثر سنين حياته، درس في حلب وأنطاكية وزار بغداد.

منهجه عقلاني متطرف أثار عليه نقمة العلماء والفقهاء المعاصرين الى حد اتهامه بالزندقة، سبب هذا الاتهام هو أنه كان يرفض التسليم بظاهر العديد من النصوص والأفكار والطقوس الدينية، بل يحاول الولوج الى عمقها ومعناها الحقيقي المقصود. ويقال إنه نسبت اليه الكثير من الآراء وبيوت الشعر المغرضة بهدف الإساءة إليه، مما اضطره للقول في كتابه «سقط الزند»: «أنا شيخ مكذوب عليه». ومن أساليبه التي ساهمت في اتهامه بالزندقه هو اعتماد مبدأ «الشك» في بعض الأمور للوصول بعدها الى اليقين، ولكن الباحث المتعمق يلاحظ بسهولة أن هذا المنهج يصح في الإسلام إذ إن الإمام «الغزالي» حجة المسلمين طور هذا المنهج واعتمده، ومن المفيد القول إن الإمام الغزالي ذكر في أحد كتبه كرامة من كرامات أبي العلاء التي تدل على تقواه وإيمانه، وقبل ختم الحديث عن أبي العلاء لا بدّ من القول إن هناك العديد من الكتب والرسائل التي تدافع عن أبي العلاء مثل كتاب «رفع التجري عن المعري» للعلامة «كمال الدين بن العديم»، وغيره مثل «ياقوت الحموي» في معجمه، و«الصفدي» في «الوافي بالوفيات» و«نكت الهميان»، والعباسي في «معاهد التنصيص».

أسلوب رسالة الغفران ظاهره هزل وإمتاع وباطنه مواقف قوية للشاعر من مسائل دينية وأدبية شغلت عصره

أما رسالة الغفران فقد كتبها أبو العلاء رداً على رسالة بعثها اليه أحد معاصريه «علي بن منصور» الملقب بإبن القارح. يصف «إبن القارح» في هذه الرسالة توبته وتغير أفكاره في شيخوخته وأنه يأمل دخول الجنة، ويختم رسالته بسؤال «أبي العلاء» عن رأيه في هذه الرسالة. حركت رسالة «ابن القارح» خيال «أبي العلاء» فكتب رسالة الغفران يثني فيها على توبة «إبن القارح»، واعتمد أسلوباً مسرحياً استطرادياً غريباً، أطلق فيه أبو العلاء صاحبه «ابن القارح» في رحلة ميتافيزيقية علوية يلتقي فيها بشعراء في الجنة، وآخرين في النار، وشخصيات من البشر والجن والحيوانات. ويدير «ابن القارح» معها مناقشات لغوية، ونحوية، وأدبية ذات عمق ديني، فضمن «أبو العلاء» في هذه المناقشات والحوارات العديد من أفكاره ومواقفه على شكل قصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ ودين، وتطرّق إلى هذه القضايـا بأسلوب مبطّن ظاهره هزل وإمتاع وضحك وباطنه مواقف من بعض المسائل الإجتماعية والدينية والأدبية، وبكاء لما آل إليه مآل العقيدة، وتحطيم لبعض الأصنام التي صنعتها العامّة في أذهانها.

على الصعيد الإجتماعي، عكس «أبو العلاء» حالة التهتّك والمجون والإستهتار في الملبس والمسكن، وانتشار المحسوبيات واحتكار رجال الدولة للمقدرات والثروات ومبالغتهم في الإسراف، في مقابل تفشي الفقر بين كثير من الناس. ومن المعلوم أن العامة يسقطون واقعهم على الغيبيات فيتصورونها من حيث هم، وهذا ما جسده «أبو العلاء» في رسالته، إذ أطلق العنان لخياله حول الجنة كما تفعل العامة، فعكس الطبقية الإجتماعية في عصره الى داخل الجنة، كأن أسكن البعض في قصور جميلة وأكسبهم جمالاً ونضارة، أما البعض الآخر فأسكنهم في الأطراف داخل بيوت وضيعة. ولم ينسَ «أبو العلاء» أن يجسد صورة التعلق والهوس بالملذات والشهوات الجسدية بدلاً من التعلق بالتطور والعمل الفكري، وهو يبين لنا في أحد مقاطع الرسالة كيف أن الشيخ «إبن القارح» أوقف سعيه لسماع بعض أشعار الجن كي لا يضيع على نفسه فرصة اللقاء والتمتع ببعض الحوريات.

على الصعيد الديني، أضاء «أبو العلاء» على الفهم الخاطئ لهدف وغاية الدين من قبل الناس، حيث يُستعمل في كثير من الأحيان لتمرير السياسات الدنيوية بما فيها من الزندقة والنفاق، وكذلك كيف أن الناس دنست المقدسات إذ تنظر الى الجنة كبقعة تستباح فيها كل المحرمات فترتكب الكبائر من دون رادع أو وازع، وكأن ترك الناس للملذات في الحياة الدنيا هو فقط للحصول عليها أضعافاً مضاعفة في الحياة الباقية الآخرة.

أما على الصعيد الأدبي، فقد صال «أبو العلاء» وجال كاشفاً عن الكثير من آرائه ومواقفه حول العديد من قضايا الشعر والأدب، واستعمل لهذا الغرض صديقه «إبن القارح» عبر إجرائه حوارات عدة مع الأدباء والشعراء الذين منهم في الجنة ومنهم في النار، فبين ازدرائه بمن يحاولون التكسب بالشعر، وكذلك التذلل والتزلف لقاء المنافع الخاصة والمادية والتقرب من الملوك والأمراء، ومنها ما يوجب المبالغة غير المستحبة في الوصف، وكذلك يبدي رأيه وموقفه في كثير من الشعر المنحول وغيره.

حقيقة الأمر، إن رسالة الغفران عمل أساسي في تاريخ الفكر الفلسفي العربي والإسلامي، وهي جديرة بأن تقرأ في زمننا هذا كما في سائر الأزمان الأخرى، فما زال العديد من المعتقدات والأفكار الساذجة رائجاً في مجتمعنا كما كان رائجاً في أزمنة سبقت، ولكن شرط القراءة المفيدة هو أن تقرأ بعقل منفتح وعميق لا يقارنها بظاهر النصوص الدينية بل بمغزاها ولبّها، ولا شك أن القارئ يستمتع بقراءتها لما فيها من الصور والمشاهد المسرحية، ويستفيد منها لغوياً لما فيها من غرابة الألفاظ والكلمات، وكذلك يستفيد منها دينياً واجتماعياً وفكرياً وتاريخياً، بل يمكن القول إن كل قارئ سيجد نفسه في كثير من المواضع مكان إحدى شخصيات الرسالة، فينتقد ويقيم نفسه من دون أن يشعر.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading