الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

شهر كانون أول، ذكرى مولد: الأمير شكيب أرسلان (الرابعة والخمسون بعد المئة)، والمعلّم كمال جنبلاط (السادسة بعد المئة):
ما مثّلا؟ وما الباقي من نهجهما وتراثهما المشترك!

كان الإمام الغزالي يقول (في المنقذ من الضلال): «لا تعدم أمتي من مصلحٍ على رأس كل مئة».

استشراف الإمام الغزالي ينطبق، وعن حق، على قادة ومفكرين ومصلحين عظام، في غير زمان ومكان، ولدى معظم الشعوب؛ وهذا دأب البشرية، لا تعدمُ أملاً وهي في مستنقع اليأس، ولا نورًا ولو ادلهمّت الظلمة.

وهو حالُ الأمير شكيب أرسلان، وبعده كمال جنبلاط، لدى شعبنا بالتأكيد.

الأمير شكيب أرسلان، (1869-1946)، «أمير البيان وشيخ العروبة والإسلام»، هو المجاهد «الأممي» في سبيل حاضر قومه ومستقبلهم، بكل طريقة كانت متاحة، ومهما غلت التضحيات.
ناصبَ الاستعمار، وبخاصة الإنجليزي والفرنسي، العداء الشديد، لأنّه أدرك باكرًا بحسّه السياسي الرفيع أنّ مزاعم الحرية التي جعلاها عنوانًا لحربهما على السلطنة العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى لم تكن صادقة. لقد كانت الفخ الذي وقع في الإستقلاليون العرب، وبخاصة مؤتمر باريس (1912) الذي جمع الإستقلاليين العرب المطالبين بالخروج من الحكم العثماني، وحركة الشريف حسين في الحجاز التي تحوّلت لبعض الوقت قبلة كل الأحرار العرب، إلى أن تكشّف غدر الإنجليز بها وإعطائهم الوعد بدولة يهودية في الوقت الذي كانوا يعدون الشريف حسين بمملكة عربية مستقلة.

ما بقي من شكيب نضاله الأممي في سبيل كل قضية تخص العرب والمسلمين بين نهاية القرن التاسع عشر وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، 1939. بعضُ تجليات هذا النضال الأممي، بعضها فقط، أن كان في حوزته أربعون تكليفًا من جمعيات وهيئات استقلالية عربية كي يمثّلها أمام عصبة الأمم في جنيف، وكانت أحد أسباب انتقاله من منفاه الطوعي في برلين (1919-1925) إلى جنيف ليكون قريبًا من مقر عصبة الأمم ومداولاتها.

ما بقي من شكيب في نضاله العملي الميداني هو قيادته سنة 1911 لكتيبة من متطوعة جبل لبنان (حوالي 500 مجاهد) سار بهم من مقره الصيفي (صوفر) إلى بئر السبع في فلسطين، حيث أوقفه الإنجليز، إلى أن تمكن مع بعضهم من متابعة مسيرتهم (تحت ستار الصليب الأحمر) إلى ليبيا للقتال مع المجاهدين الليبيين ضد الغزوة الإيطالية على ليبيا. وحين سأله صحافيّون في مصر، لماذا تأتي من بلاد الشام لتقاتل في بلد بعيد؟ ذهب جوابهُ مثالاً لكل القوميين العرب لاحقًا؛ قال: «إن لم ندافع عن صحارى طرابلس الغرب، لن نستطيع حفظ جنائن طرابلس الشام».

يضيق المجال عن سرد تأثير شكيب في العالمين العربي والإسلامي، من أندونيسيا إلى طنجة. وواحدٌ فقط من الأدلة أنّ كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيره، أعيد طبعه أكثر من مرّة. لقد آنس هؤلاء فيه الرجل الموثوق الذي لا يسعى لمصلحة شخصية أو فئوية، وإنّما لمصلحة شعبه وأمته. قال فيه الأمير عبدالله، أمير شرق الأردن، في مهرجان تأبينه في حيفا سنة 1947: «لقد مات الذي لم يكن فوقه فوق؛ لم يكن كرجال هذا الزّمان الذي يسعون وراء مآرب شخصية».
وما بقي من شكيب أكثر من عشرين كتاباً، بعضها موسوعي (حاضر العالم الإسلامي)، وأكثر من ألفي مقالة، في دوريات العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، وفي كل باب فكري أو أدبي أو سياسي يخص العرب والمسلمين.

أمّا كمال جنبلاط، وكان «المعلّم» بحق، فيختصر في شخصه كلّ الميزات الأثنتي عشرة التي رآها الفارابي ضرورية في «رئيس المدينة الفاضلة» عنده. ولأنّ الاثنتي عشرة ميزة تلك يصعبُ اجتماعها في شخص واحد، قال: إنّ ستًّا منها تكفي ليستحقّ رأس المدينة الفاضلة مكانه. لكنّ المثير أنّ الاثنتي عشرة ميزة اجتمعت كلّها في شخصية المعلّم كمال جنبلاط: من امتلاك الفهم العميق والشجاعة والفضيلة الأخلاقية وسائر القيم، إلى الزهد في الدينار وسائر متاع الدنيا. وهذه لم تجتمع لشخص كما اجتمعت في كمال جنبلاط، المعلّم.
وهاكم بعض القيم التي جسّدها كمال جنبلاط، أي لم تكن شعارات ومُثُلاً فحسب، على سبيل المثال لا الحصر:
– قيمة الحرية في معانيها، لا يساوِم عليها، ولا يتخلّى عنها، مهما كلفه ذلك.
– قيمة التقدّم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي بما يساعد شعبنا على السير إلى الأمام.
– قيمة الحداثة، بما تعنيه من فكر عقلاني وعلم ونظام بعيدًا عن الخرافات والشّخصنة وعبادة الشخص أو الفكرة، وبعيدًا عن الفوضى.
– قيمة الأخلاق الصارمة، إذ لا شيء يغدو ذا معنى إذا افتقد قيمته الأخلاقية، أو إذا ساوم عليها.
وأولها قيمتا الصدق والإخلاص، إضافة إلى رفض مظاهر الإنحلال كافة، إلى التعفف، في أقصى ما يحمله من معنى، والذي غدا مثالاً!
– قيمة الشجاعة، حين يكون على حق، لا يهاب سلطانًا أو قوة ولو كانت أعتى قوى الأرض.
– قيمة المثابرة والعمل المباشر، فكان ينتقد الكثيرين بوصفهم «كلامويين» و«كسالى»، وقد طبّق العمل المباشر على نفسه، شخصيّا، في أكثر من مناسبة.
– قيمة القوة في الحق، وإعلانه، والتضحية في سبيله؛ مع شجاعة الإعتراف بالخطأ والاعتذار.
– قيمتا المثالية والواقعية في آن معًا، فالمثالية المطلوبة يجب أن لا تعني الطوباوية والابتعاد عن الوقع والوقائع؛ كذلك ليست الواقعية التنكر للمثل والقيم الصحيحة والمفيدة.
– قيمة النقد الصارم، العميق، لا للآخر فقط، بل لنفسه أيضًا، وبكل قسوة كما رأينا في كتابيه: «الممارسة السياسية» و«هذه وصيتي»؛ كتابان لم يُستفد منهما بالقدر الكافي.

وأخيراً، قيمة محبة الناس، وبخاصة الفقراء، الذين منحهم كل ما يملك تقريبًا؛ من راتبه في مجلس النواب الذي وقفه للمحتاجين طوال حياته، إلى منحه ما يملك من أراضٍ للفلاحين أو الساكنين فيها، إلى منح قضية الفقراء حياته، في النهاية!
ألم يقل الشاعر الجنوبي شوقي بزيع يرثيه: «…أبا المساكين، إرجع نحنُ ننتظرُ»
أمّا ما يجمعهما، أو المشترك النضالي والثقافي بينهما، فالمقال الموقوف للذكرى فقط يعجز تعداد المشتركات تلك.
بعض ما جمع المعلّم كمال جنبلاط إلى الأمير شكيب أرسلان، على سبيل المثال لا الحصر:
– مناضلين مخلصين لشعبهما وأمتهما.
– زهدهما بكل المراكز والمناصب السياسية
– عداؤهما الشديد للاستعمار ومخططاته وسياساته
– ثقافتهما العالمية الواسعة
– إنتاجهما الفكري الكثيف: 20 كتاباً و 2000 مقالة لشكيب، ورسائل في كل بيت تقريبًا، قال فيها البعض، لو جمعت لكان وزنها طنّا من الورق!
وأكثر من 4000 فقرة ثقافية من كمال جنبلاط، بين كتبٍ (جاوز عددها الستين) ومقالات ومحاضرات.

وأخيراً، فقد جمعهما الإخلاص لفلسطين وقضيتها الكبرى المحقة؛ وبعض ذلك عند شكيب:
– أن آخر كلمتين نطق بهما، بل كتبهما وقد أعياه المرض النطق قبيل وفاته بساعات، «أوصيكم بفلسطين»!
– أمّا كمال جنبلاط فقد كان نصير القضية الفلسطينية الأكثر إخلاصًا لها، في لبنان وسائر العالم العربي على الأرجح. وقد كافأه أصدقاء فلسطين في العالم العربي بأن كرّسوه «الأمين العام للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية».
وكافأه شعب فلسطين في الداخل بأن جعلوا اسم كمال جنبلاط لميادين ومدارس ومؤسسات، ( في نابلس وسواها) بل جعل شارة الحداد على روحه على سور المسجد الأقصى في القدس الشريف.
وبعد، فنحن نظلم شكيب أرسلان وكمال جنبلاط حين نحشرهما في إطار ضيّق، هنا أو هناك،
وبالمقابل نحنُ نطلق قيمتهما الفكرية والأخلاقية كاملة حين نرنو إليهما باعتبارهما نهجًا يستحثنا على متابعته، ومدرسة في أكثر من باب نتعلم فيها ومنها باستمرار.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي