تعودُ معرفتي الشخصيّة بالرسّام والنَّحّات اللبنانيِّ المُبدع المرحوم عارف الريّس، ابن مدينة عاليه اللبنانيّة الجَبليّة، إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كنت أسكن المدينة، غير بعيد عن مُحْتَرَفِه (أو القبو) كما كان يسمّيه. وكنّا شلّة صغيرة من المُتخرّجين الجامعييِّن الجُدُد، نخطف أقدامنا نحو أيّة تظاهرة ثقافية مُتاحة، في بيروت أو صيدا أو طرابلس، فكيف إذا كانت على مبعدة أمتار منّا. كانت عاليه في ذلك الزّمن مدينة الاصطياف والسّياحة الأولى في لبنان، وبخاصّة في أيام الصّيف، حيث تغدو المدينة بمنازلها وفنادقها الوجهة الدّائمة للزوّار العرب: من سوريا والعراق والخليج العربيّ على وجه الخصوص. وكان هؤلاء يحملون إلى مقاهي المدينة وأرصفتها ونواديها هموم جيل عربيّ جديد طموح يجدّ في البحث عمّا يؤمّن للأمّة وشعوبها فُرَص اللّحاق بركب المتقدّمين في ميادين العلم والمعرفة والثّقافة وكذلك الفنّ.
زرتُ شخصيّاً، وشلّة رفاق الثّقافة والسّياسة، الفنّان الريّس في محترفه غير مرّة، ويندر أن وجدناه مرّة واحدة وحيداً: كان في ضيافة مُحْتَرَفه باستمرار مثقّفون وفنّانون وصحافيّون وآخرون من مُقدّري فنّه من لبنان، كما من أقطار عربيّة شقيقة أخرى. وأذكر جيداً أنَّني التقيت في مُحْتَرَفِه في واحدة من الزّيارات تلك؛ الأميرة مَيّ، ابنة الأمير شكيب أرسلان وعقيلة الزّعيم والمفكّر اللبنانيّ الرّاحل كمال جنبلاط. وأذكر من اللّقاء ذاك مقدار المعرفة الفنيّة والثقافيّة التي كانت تُبديها الأميرة الرّاحلة في حديثها وتدخّلها مع الحضور أو مع عارف إذ كانت تمحضُه الإعجاب والتّقدير – وليس في الأمر ما يدعو للعجب فهي ابنة شكيب أرسلان ذات المنشأ الثّقافيّ في جنيف ثم رفيقة أحد أبرز المثّقّفين اللبنانييِّن قبل أن تنتزعه يوميّات السياسة بعيداً عن ساحته الأحبّ والأقرب؛ الثّقافة.
أمّا مُلاحظتي الثانية من زياراتي المعدودة تلك، أواسط السبعينيّات، فهي التحوُّل الواضح الذي بدا على عمل الفنان عارف الريّس آنذاك، أواسط السبعينيّات، واهتمامه المتزايد، أو ربما تحوُّله على ما قال نقّاده بعد ذلك، نحو فنّ «الكولاج»، أي التّركيب الحُرّ لقُصاصات ورقيّة صحافيّة أو لقطع قماشيّة أو خشبيّة في تشكيلات لها معان (أيديولوجيّة في الغالب) أشدّ قوّة وصُراخاً ممّا تقدّمه أو توحي به اللَّوحة أو المنحوتة. كانت تلك مرحلة جديدة في التطوّر الفني لمسيرة المبدع عارف الريّس التي بدأت أواخر الأربعينيّات، ولعلّها بلغت في أواسط السبعينيّات بعض الجفاف، أو «عصيان الألوان» وفق تعبيره الشّخصيّ في ندوة لاحقة له.
وُلِد عارف نجيب الريّس في مدينة عاليه، ونشأ فيها، بين كتب مكتبة والده حيناً ومُناخ المدينة المُزدهرة حيناً آخر. لكنّ طموح والده دفعه للسّفر إلى بلاد السّنغال يبحث عن ثروة له على طريقة معظم اللبنانييِّن الذين اتّجهوا إلى بلدان إفريقيا في ذلك الوقت. وبعد مشاكل صحيّة خطيرة لم تبرح عارف الصّبي، التحق عارف الشابّ وقد ظهرت بوضوح مهاراته الغزيرة في الرّسم، بوالده في السّنغال. لكنّه لم يستهدف الالتحاق بمهنة والده في التّجارة وإنّما لاستكشاف سحر إفريقيا الذي بدأ يتعرّف عليه في دراساته الفنيَّة.
قضى عارف الشابّ فترة مُثيرة من شبابه في مناطق نائية من البلاد تلك. فقضى الكثير من وقته على ضفاف نهر «الكورمونز»، غير بعيد عن التماسيح فيه، أو عن الجماعات البدائيّة في محيطه التي تحتفل بكلّ حدث في حياتها بإشعال النار والغناء والرّقص في حياة بريَّة عفويّة حرّة تامّة لم تبرح مُخيّلة عارف إلى زمن بعيد. رسم عارف ذلك الفنّ الإفريقيّ الصّافي وحمل لوحاتِهِ إلى باريسَ مطلعَ الخمسينيّات بهدف إقامة معارض له هناك. لكنه فوجئ، على ما يروي زميله في باريس نقولا النمّار، أنّ باريس الفنيّة مُتطلِّبة جدّاً وأكثر بكثير من عفويّة «الفنّ الإفريقيّ»، وأنّها في حراك مُجرّد مُعقّد وأكاديمي. وعليه فقد التحق عارف في باريس بمُحترَف الفنّان فرنان ليجيه للرّسم، ثم مُحترَف أندريه لوت وهنري غنيز للحفر، وربّما مُحترَفات عدّة أخرى أيضاً.
عاد بعد ذلك إلى بيروت، وبسبب من مُشاركتِه في معرض فنّي في السّفارة الإيطاليّة نال منحة دراسيّة من الحكومة الإيطاليّة لدراسة الفنّ في بلاد الفنّ، وهناك تنقّل عارف في إيطاليا بين روما وفلورنس وميلان والبندقيّة فتعرّف على آيات الإنتاج الفنّي الإيطاليّ الذي هَيمن أعظم فنانيه طوال القرن السّابعَ عشَرَ على الفنّ الأوروبي، وعاد من تجربته تلك بمزيد من التّشكيل والغنى والتّعقيد لروحه الفنّي المُبدع والخلاّق.
ومن بيروتَ إلى نيويوركَ، هذه المرّة، إذ شارك في مسابقة لمعرض نيويورك الدَّوْليّ بمنحوتة «الفينيقيّ»، فحازت على جائزة المعرض، وكانت سبباً لإقامةٍ في بلاد العمّ سام استمرّت خمسَ سنواتٍ، كان فيها دارساً، طالباً، مُنتجاً، زادت من معرفته باتّجاهات الفنّ الحديث، ومسرحها نيويورك، فكان أن اشترك في أكثر من معرض جماعي فيها، بل وأقام معرضاً مُنفرداً. انتقل عارف بعد ذلك إلى المكسيك للتعرّف على فنون أمريكا اللّاتينية، لجهة موضوعاتها النّضاليّة الغنيّة، كما لجهة أدواتها وأشكال التّعبير فيها، فكانت مرحلة جديدة ستجد تعبيراً صارخاً لها في السّلسلة النضاليّة (التشكيليّة/الكتابيّة) التي بدأ عارف بعد عودته إلى لبنان بإصدارها، (رؤى من العالم الثالث)؛ فكانت بعض موضوعاتها: باتريس لومومبا، وكاسترو وغيفارا والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمقاومة الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة اللبنانيّة وسواها، والتي بلغت ذروتها في إصداره «البيان التّشكيليّ»، كما لو كان بديلاً /أو فرعاً/ تشكيليّاً للبيان السياسيّ الذي لم يهتمَّ به كثيراً.
بعد عودته النهائيّة إلى لبنانَ، استقرَّ في مدينة عاليه، فحوّل (القبو) الحجريَّ في منزله إلى مُحترَف واسع تملأه الفوضى من الدّاخل، ولكن تحفُّ به من الخارج أحواضُ ورد وزهور وأقاحين. وفي الفترة تلك كان عارف شريكاً رئيساً في تأسيس «جمعية الفنانين اللبنانييِّن»، وفي تحويل الألباب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، أو معهد الفنون الجميلة لاحقاً، ثم في اقتراح مناهجه، وأخيراُ مدرّسّاً فيه لأكثر من عشرين سنة.
لعشرين سنة لاحقة استقرّ عارف أستاذاً مُمَيَّزاً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، وكانت فترة استقرار له وقد بدأ الاتّكاء على عصا، فكان زملاؤه أهمّ الفنانين التشكيلييِّن اللبنانييِّن، كما ترك تدريسه وإشرافه بصمات خلاّقة حرّة (وأحياناً فوضويّة) في الكثير من طلّابه.
في فترة نُضج عارف الأخيرة، حدث ما يشبه (الهزيمة) للفنّان المُتمرّد، الثائر، الحرّ، الفوضويّ، وبعض أسباب ذلك ما خَبِرَه في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أو ما رافقها، من نتائج وتناقضات وتداعيات لبنانيّة وعربيّة قتلت في عارف الكثير من الأحلام والطّموحات والمبادئ الصّافية التي نشأ عليها، «وهو ما دفع بالمرحوم كمال جنبلاط؛ القائد السّياسي الكبير»، على ما يروي الفنّان التشكيليّ اللبنانيُّ عُمران القيسيّ، «لأن يطلب مني بالذّات جمع رسوم عارف الريّس عن الحرب اللبنانيّة في كتاب مُستقلّ مع دراستها دراسة فنيّة وسياسيّة، كان ذلك في العام 1977» («ملحق الخليج الثقافي»، 29/4/2013)
تحوّل عارف في أثناء ذلك إلى إنتاج الجداريّات والمنحوتات الضّخمة، فشارك منذ الثمانينيّات (التي قضى معظمها خارج لبنان بفعل ظروفه الأمنيّة يومذاك) في نحت بعض مُجَسّمات ساحة مدينة جدّة، كما في تشكيل وتزيين بعض معالم جدّة وتَبوك. كذلك رست عليه مهمّة تقديم المنحوتة الأماميّة الرئيسة لجامعة الملك عبد العزيز في الرّياض. كانت فترة إقامته الطويلة في العربيّة السعوديّة فرصة له للتعرّف على أشكال الإنتاج الفنّي الصّحراويّ، وكانت تلك أولى محاولات تحديد هُوِّيَّة الفنّ الصّحراويّ ومِيزاته.
أنتج عارف في الفترة تلك أيضاً جداريّة «الأوبيسون» لصالح مبنى مُنظَّمة الأونيسكو في باريس، وأعمالاً مُماثلة أخرى لغير جهة.
هذه بعض كرونولوجيا الفنّان التشكيليّ المبدع المرحوم عارف الريّس.
لكنّ عارف الريّس لا يُختزل البتَّةَ في سنوات، أو في أعمال ملموسة، مهما بلغت من الانتشار. كان للتَّنوُّع المُدهش في ثقافته واهتماماته ومضامين أعماله، كما لأُسلوبه المُتميّز،الأكاديميّ/الحرّ في آن معاً، من التأثير العميق في زملائه وطلاّبه، وفي جيل كامل من الفنَّانين، ما غدا موضع إجماع من معاصريه كما من دارسيّ تطور الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ. وبسبب من محدوديّة المساحة المقرّرة لهذه المادّة، أكتفي ببعض شهادات معاصريه أو الذين كتبوا أو بحثوا فيه بعد رحيله الهادئ سنة 2005.
بين عدد كبير من شهادات فنّانين لبنانييِّن وعرب، نكتفي بشهادتين، لعُمران القيسيّ ومحمود شاهين. كتب الفنّان التشكيليّ اللبنانيّ عمران القيسي في عارف الريّس بعد سنوات من رحيله يقول:
«هل يترك موت الفنّان فراغاً كبيراً؟ وهل يؤثّر هذا الفراغ في صورة وتكوين حركة فنّه في حِقبة زمانيّة قلقة؟ بالنسبة إلى الفنان اللبنانيّ الراحل عارف الريّس، نستطيع أن نلمس بكل حواسّنا، ونشعر بكل مُدْرَكاتنا العقليّة، أنّ رحيله ترك فراغاً خطراً على صعيد الحركة الفنيّة التشكيليّة التعبيريّة في لبنان بل إنّ جيلاً من الرّاحلين أثَّروا بما لا يقبل الجدل في المسار الاختباريّ للحركة الفنيّة اللبنانيَّة….عارف الريّس (كان) العمود الثاني لحركة الفنّ اللبنانيّ المعاصر، مقابل العمود الأوّل المتمثّل في الفنّان اللبنانيّ بول غراغوسيان.»
وبمناسبة رحيله أيضاً، كتب الفنّان التشكيليّ السوريّ محمود شاهين ما يلي:
«عارف الريّس غادر (قبوه) أخيراً… ما عادت تهرب الألوان منه… ولا تأتي إليه، لكنّه ترك ما سيبقى يشير إليه ويدلّ على الفعل الخلاّق، الجميل والمُبدع، الذي أضافه للحياة، مُكَرِّساً وجهها المُشْرِق وسحرها المُفْعَم، وسعادتها الحقيقيّة التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقييِّن… وعارف الريّس كان واحداً منهم بكلّ تأكيد.»
عارفٌ الريّسُ، بنتاجه الفنِّيِّ وفي كلّ مجال تشكيليّ، وصولاً إلى الكولاج والحروفيّة، وحتى الشّعر، بمروحة موضوعات اختبر شخصيّاً معظمها، وبأكاديميّة رفيعة لجهة الأساليب وأدوات التّشكيل والتّعبير، وبسُخْرِيته السّوداء المُرّة، بعينين لا تتوقّفان عن التّحديق، بلحية كانت لا تستقرّ بين سواد تمرُّدِه وبياض نضوجه، وبعصاه أخيراً يتكئ عليها وكأنّه يُقفل على زمن بأكمله: عارف الفنان المُبدع الخلّاق عَصِيٌّ على الموت، بل لعلّه رحل، كما قال فيه زميلُه في باريس الفنّانُ والمُهندس المُبدِع نقولا النّمّار، «إلى عالم أفضل وأجمل من عالمِنا هذا.»