الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

عند سلطان

عند سلطان باشا

نص يُنشر لأول مرة بالعربيـة من كتــاب للكابتن كاربييــه
الحاكم الفرنسي على الجبل مابين العامين 1922 و 1925

تعتبر النصوص التي دوّنها قادة الحملات الفرنسية على جبل العرب في سورية في الفترة ما بين 1922 و1926 من أهم المراجع التاريخية التي بقيت لنا عن تلك المرحلة الخطيرة والحافلة من تاريخ الموحدين الدروز ونضالهم ضد المستعمر ومن أجل استقلال سورية ووحدتها. ومن النصوص المهمة المنشورة كتاب الكابتن أندريا الذي وضع له عنوان «انتفاضة الدروز» لكن هناك عدداً من القادة الفرنسيين الذين كتبوا بدورهم عن تلك الفترة وقد أثار فيهم الموحدون الدروز في الجبل مشاعر متناقضة من الإعجاب الشديد بشجاعتهم الأسطورية ومن الخوف ورغبة التنكيل بهذا القوم الذي كان يقاتل قتال رجل واحد تحت زعامة سلطان باشا الأطرش، ولم تنفع مختلف مناورات الفرنسيين وتهديداتهم وإغراءاتهم في تثبيط عزيمته ودفعه للإستكانة للأجنبي.
أحد الذين كتبوا عن تلك المرحلة هو الكابتن كاربييه Carpier الذي عيّن حاكماً للجبل بعد الوفاة المفاجئة للأمير سليم الأطرش (قيل إنه مات مسموماً من قبل الفرنسيين)، وأظهر في وقت قصير سوء فهم وتقدير لظروف الجبل ولمشاعر أهليه، فكان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الثورة في العام 1925 والتي بدأت درزية قبل أن تنتقل نيرانها إلى أنحاء عدة من سورية ومن جنوب لبنان وتتحول إلى ثورة سورية وعربية على المستعمر الفرنسي.
النص التالي للكابتن كاربييه هو من كتابه الذي ترجمه الأستاذ نبيل أبو صعب ويتوقع أن ينشر قريباً، وهو يعود كما سيلاحظ القرّاء إلى الفترة التي كان كاربييه يحاول فيها خطب ودّ سلطان باشا لأنه اعتبره الرجل الوحيد القادر على تهدئة الجبل والقادر أيضاً على إشعاله، كما اعتبر كاربييه –والقادة الفرنسيين – جبل الدروز المنطقة الوحيدة في سورية التي يمكن أن تسبب لفرنسا مشاكل خطيرة فكان همهم كله منصباً على محاولة استمالتها أو إخضاعها.
والنص الفرنسي يمثّل شهادة موضوعية ومن قبل قائد فرنسي في شخصية سلطان باشا وشيمه التي كانت تفسر الولاء الذي حاز عليه بين دروز الجبل والإحترام الكبير الذي حازه في طول العالم العربي وعرضه، كما يتضمن النص وصفاً عن قرب للحياة في محيط سلطان باشا وأشقائه ونمط ضيافته والحياة اليومية، كما كانت تجري في الخيمة التي أقامها في منطقة بعيداً عن القريا بعد أن فجّر الفرنسيون بيته ومضافته عقاباً على دوره في انتفاضة السويداء عام 1922. وسنرى أن كاربييه حمل إلى سلطان باشا مشاعر تصالحية متسلحاً بالعفو الذي أصدرته فرنسا عنه، وكيف حاول جاهداً مصادقته، لكن جهود كاربييه الشخصية لم تكن كافية لأن سياساته وسياسة الفرنسيين سرعان ما كشفت عن نوايا مختلفة، وقد فشل كاربييه في مهمته لدرجة أن مواطني الجبل سعوا –دون جدوى- لدى المندوب السامي الفرنسي لإقالته وتعيين حاكم أكثر تفهماً واحتراماً لتقاليد الجبل وكرامة سكانه.

كانت الساعة تقارب الخامسة مساء، عندما غادرنا بكا متجهين إلى بيت سلطان باشا الأطرش ولم نتوقع أبداً الوصول إلى مخيمه قبل حلول الظلام . فالزعيم الكبير الذي تمرد عام 1922 يعيش تحت خيمة في قلب الريف ، ومع أن فرنسا قد منحته الأمان L’aman، فإن سلطان باشا لم يثق بمثل هذا الكرم وظلّ يعيش كذئب متشكك وسط الصخور بعيداً عن قريته، وفي جزء من «الجبل» لا يمكن الوصول إليه تقريباً كان يعرف تماماً أن فرنسا لم تلق به في السجن حينما حضر يوم 5 نيسان إلى السويداء ليطلب الأمان، لكنه كان يعتقد من دون شك أنها لم تجرؤ على القيام بتلك الخطوة وسط الأربعة آلاف فارس الــذين هتفوا، وقد تجمعوا للاحتفال بالعيد، لـ «بطل الاستقلال» .
كان يظن أنه من الحكمة أكثر، وقد عاد الفرسـان الدروز إلى قراهم، عدم الإقامة ثانية في قريته، ذلك أنه لم ينس خيانات السلطات التركية التي كانت قد استدعت والده إلى دمشق، فذهب إلى هناك بناء على إعطائه الأمان فغدرت به وشنقته.
قرّر سلطان باشا لذلك أنّه من الأفضل الإستمرار بإتخاذ الإحتياطات على الرغم من أن أربعة أشهر كانت قد انقضت على منحه الأمان من قبل فرنسا، والتي لم تطلب في الواقع حتى إعادة كاملة للأسلحة المنتزعة من أيدي أمواتنا. ومن الواضح أنني سأجد صعوبة في تدجين هذا السلطان باشا الشجاع، ولهذا السبب تقريباً أجدني وحال وصولي إلى الجبل أقوم بزيارته اليوم، وقد حرصت من جهة أخرى على أن اصطحب معي صياح بك مدير القريا، والذي استخدم سلطان سلوكه المخلص لنا، مبرراً للقيام بالعصيان عام 1922 . فصياح بك هو في الواقع من اعتقل، في أرض القريّا، وهي البلدة التي كان سلطان باشا زعيمها السياسي، أدهم بك الذي كان في عام 1920 أحد المحرضين وأحد المشاركين الرئيسيين في الاعتداء المدبر على الجنرال غورو .
وقد طلب سلطان باشا، في امتحان لقوتنا، إطلاق سراح أدهم بك بحجة أن هذا الأخير قد «اعتقل على طريق بيته» وبالتالي فهو ضيفه، وكان قد جمع بعض الفرسان وأمام رفضنا، تظاهر بالخضوع وبالعودة إلى القريّا، في الوقت الذي كان ينصب كميناً لإحدى تشكيلاتنا ويقتل لنا ضابطاً محبوباً جداً من رفاقه هو الملازم الأول بوكسان وبعض الرجال وضباط الصف، وقد طوردت عصاباته بشدة خلال أكثر من ستة أشهر، وشيئاً فشيئاً هجره أنصاره واضطر للبدء بمفاوضات لأجل السلام . وأخيراً، في خطوة جريئة، قدم إلينا في السويداء، يوم 5 نيسان، يوم عيد الإستقلال، ضاغطاً علينا بذلك، ومحولاً استسلامه إلى مجد حقيقي له . ومرّة أخرى بتنا المهزومين بنصرنا لأن سلطة سلطان باشا تعاظمت نتيجة لتسامحنا .
هذا هو الواقع الذي وجب أن آخذه في الاعتبار عند استلامي لقيادة الجبل ولاسيّما وأن الوسائل العسكرية الموضوعة تحت تصرفي كانت شبه معدومة في الواقع «سرية واحدة من كل شيء ولأجل كل شيء»، وكان عليّ إذًاً واجب محدد ينبغي القيام به : ينبغي لي، من دون أخذ عواطفي الخاصة التي تربطني بذلك البوكسان المسكين، أن أجعل من سلطان باشا، باعتباره الرجل الوحيد القادر على إثارة الجبل، صديقاً لي بهدف تحييده، ولهذا، فالمهمة الأولى التي مثلت أمامي هي : أن «أعود به إلى العالم المتحضر» أي أن أقوده إلى الإقامة ثانية في قريته، لكي أشدّه إلى الحجارة وإلى مصالح أقوى من جاذبية البريّة والمغامرات، وحتى لا يبدو تصرفي هذا ضعفاً جديداً في عيون السكان، فقد أحضرت معي صياح بك، لأظهر للجميع أن فرنسا تكرّم دائماً أولئك الذين يخدمونها بإخلاص .
كانت الطريق من بكا إلى القريا مقبولة نسبياً في قسمها الأول لكن بعد اجتيازنا لهضبة سكة الحديد التي خطط الأتراك لتنفيذها بين بصرى وصلخد، ووصولنا إلى أراضي القريا، أصبحت الطريق، التي بالكاد نفّذ قسما منها شعب اتصف بعدائه لهم عداء خاصاً، لا تصلح للسير تقريباً، كنا نقفز من صخرة إلى صخرة، ولم يتم بناء عبّارات فوق الأودية، كما حُرص على تعرية الحجارة الكبيرة التي بات علينا الآن أن نقفز من فوقها مع ما يسببه ذلك من ضرر شديد لسياراتنا. على الرغم من كل هذه الصعوبات وصلنا قبل حلول الظلام إلى القريا، وبالطبع فليس ثمة استقبال، ذلك أنّ غالبية السكان من الدروز لم تعد إلى القرية بعد، كما إن القسم المسيحي منهم وهو كبير العدد لم يجرؤ على إظهار فرحه الحقيقي . اجتزنا شارعاً عريضاً بدرجة كافية تحيط به الخرائب الكبيرة لبيت سلطان باشا ومضافته اللذين فجرتهما وحداتنا عام 1922، ثمّ وصلنا إلى ساحة حيث ثلاثة صفوف من الأعمدة الرومانية تتراءى في مياه البركة . كانت الأعمدة قصيرة ثخينة ذات تيجان دورية، وتربط بينها عتبات قويّة، ولا بدّ أن سوقاً كانت تقام هنا، فالدرجات التي توحد بينها أعمدة الصفّ المجاور للبركة كانت تُستخدم من دون ريب مراقاً للباعة .
في هذه الساحة، كان بعض الفرسان الذين يمسكون بأزمّة عدد من الخيول بأيديهم، ينتظرون، وكان علي بك أخ سلطان باشا، يرافقهم وهو من سيقودنا إلى معسكر القائد . امتطينا صهوات أفراس أصيلة فخمة، وسرعان ما سلكنا درباً صعباً كدرب الماعز مليئاً بالأحجار العارية المتقلقلة حيناً أو الغارقة عميقاً في الأرض حيناً آخر. كانت ثمّة أدراج حقيقية ينبغي لنا تسلّقها ولولا مهارة هذه الخيول ذات الخطوات الثابتة التي كانت، حال ولادتها، تتبع أمهاتها في مثل هذه الدروب، فإنّ الأمر كان سيستحيل علينا . وهكذا صعدنا تدريجيّاً في أرض قاتمة مقفرة، حيث كانت مطايانا تمدّ، من دون انقطاع ساقاً ثمّ تقفز من فوق حجر بازلتي، وفي أحيان أخرى كنا نهدم من فوق صدر الحصان تخاريم حقيقية من الحجارة التي صُفّت فوق بعضها بعضاً بتوازن دقيق لتشكّل جدراناً شفافة تحدّد الملكيات في هذه البلاد، ثم نمرّ من هذه الثغرة المفتوحة. وأقسم أنّني لم أعرف أغرب من هذه الجدران الدرزيّة، فإن المرء ليعتقد جازماً أن من بنوها لا بدّ أن يكونوا بهلوانات انقطعوا عن السيرك، فهي قد ترتفع أحياناً لتصل إلى أكثر من مترين وترتسم على صفحة السماء كتلك التقطيعات التي كنا نعملها في طفولتنا أيام المطر، بإستخدام الجرائد المطوية والملفوفة . كان في الجدران شيء أثيري وكانت السماء تبدو ذات زرقة أشد كثافة من خلال الفتحات المتروكة فيها، بسبب هذه الأحجار السوداء المختلفة الأشكال والحجوم .
كنا نتقدم وسط ضوء النهار المتلاشي، منتبهين إلى سير مطايانا . وفي لحظة معينة اجتازت الدرب إحدى الملكيات وقد حُرثت ثمّ اقتُلعت حجارتها في ما بعد . حثّ الفارس الذي كان خلفي حصانه فأخذ مكانه إلى جانبي ، كان الفارس طفلاً تقريباً، بيد أن صفين من الرصاص كانا يتقاطعان فوق ثوبه ذي البياض الناصع ويحمل بزهو بندقية من طراز موزر مثل بقية الرجال الذين كانوا يرافقون علي بك .
وبصوت صادح تقريباً، صوت تلميذ يلقي عن ظهر قلب، غارساً في الوقت نفسه في عينيَّ نظرة رجولية، فإنّ هذا الطفل ذا الأعوام العشرة والشعر الطويل المضفور حيّاني بالفرنسية :
«- أهلاً وسهلاً Mon Capitaine
ودهشت بعض الشيء لأنه سيكون أمراً غريباً أن أجد عند سلطان باشا طفلاً يتكلم الفرنسية، وعلمت أنه ابن أخت سلطان باشا، ومن الذين قدمنا لهم منحة دراسية في المدرسة اللعازرية في دمشق عند وصولنا إلى الجبل، كانوا حوالي العشرين طفلاً درزياً من أبناء أو أقرباء الزعماء توزعوا على مختلف مدارس دمشق وبيروت . في عام 1922 وعند أول خبر عن انتفاضة سلطان باشا شعروا بالقلق، وبدأ هؤلاء الذئاب الصغار، الذين لم يُدجّنوا تماماً بعد، يضيقون بثقل القفص . وكما لو أنهم اتفقوا في ما بينهم، فقد هربوا جميعاً من دمشق وبيروت، وعادوا سيراً على الأقدام إلى الجبل حيث البارود يغني . هايل بك على الأخص التحق بعصابة سلطان باشا في كل جولاتها، وأظهر فيها آيات من الشجاعة لدرجة أنه بعد عام من وصولي إلى الجبل، فإنّ بعض الدروز المعتقلين إثر حوادث درعا والقنيطرة، كانوا يغنون في سجنهم مساء أغنية طويلة تمجد أفعال هايل بك . عضو العصابة الطفل . أما اليوم فقد كان في غاية الرقّة وتملأ الابتسامة وجهه وقد رأيت فيه ذلك الطفل الفخور بإطلاع الغريب على علومه الطفولية، ولكن ما أن يبدأ القتال في الغد فإنني متأكد بأنه سيكون محارباً رهيباً يشدّ بندقية الموزر إلى كتفه، ويصوّب بدم بارد إلى خصمه.
حلّ الليل فجأة تقريباً، واتخذت كتل الحجارة البركانية أشكالاً أكثر فأكثر غرابة لحد القول إنها أبراج خربة أو بلدات مهدمة . وعلى حين غرّة لمحنا عدداً من المشاعل الصغيرة . إنه معسكر سلطان باشا، أخذت المشاعل تتضح شيئاً فشيئاً، فهنا ثمة نيران متقدة تشتعل تحت قدور نحاسيّة كبيرة في مواقد الجمر . فهل تكون تلك الأنوار الضبابيّة الباهتة المتسللّة هي ما تسمح خيام سلطان بتسربها ؟ أتكون تلك النجوم التي تتراقص في ظلمة الليل هي شعلات المصابيح الكبيرة التي تتمايل فوق حدائد طويلة ومعقوفة مغروسة في مداخل الخيام أو تلك التي يحملها بعض الخدم ويسبقون سلطان باشا الذي يتقدم لإستقبالنا مع وجهاء آخرين ، وترجّلنا مسرعين من فوق خيولنا .
وتقدّم سلطان باشا بخطوات طويلة ورحّب بنا بكبرياء وبشيء من البرودة..كان رجلاً في الثلاثينات من عمره، ذا قامة مديدة ووجه شديد الرجولة لكنه ذو نظرات صوفية قليلاً ومشرقة . له شاربان أسودان ثخينان ومنتصبان، وكغطاء للرأس، كان يضع الكوفية، لكن علمت في ما بعد، ومن مصدر موثوق جدّاً أنه ليس أقل « اطلاعاً « وأنه ذو مرتبة رفيعة في الدين . كان يلبس ثوباً حريرياً طويلاً ذا خطوط طولية، وفوقه صدرية ملونة من دون أكمام، وجاكيتاً أسود طويلاً وكلا القطعتين من طراز أوروبي . وكانت عباءة سوداء، تحيط بياقتها حبكة دقيقة من خيوط ذهبية وتتدلّى في شريط رفيع حتى الخياطة الأمامية، تغطّي كل ملابسه، بحيث لا يبين من ملابسه الأوروبية سوى جزء ضئيل من الصدرية ذات اللون الفاتح مما يعطي لمجموع الزّي مظهراً شرقياً .

الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة
الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة

في خيمة سلطان باشا
قادنا سلطان باشا إلى خيمة الإستقبال، وهي خيمة مربعة من الطراز الإنكليزي ذات حواجز قائمة يرفعها عامودان من الخيزران، غُنمت بعد صراع شديد، في إحدى الغزوات الناجحة في الحرب الكبرى وكانت سجّادات في غاية الجمال تغطّي الأرض ، بينما تشكّل صناديق مغطاة بفرشات ضيقة طويلة ومستقيمة دكات بحذاء حواجز الخيمة . في الوسط وضع إبريقان زجاجيان داكني اللون وبعض الأقداح في ترتيب واضح فوق طاولة مغطاة بسجادة . وثمّة مصباحان بتروليان بخزّانين من البورسلين السميك ذي اللون الأزرق يقفان فوق الطاولة ذاتها.
جلسنا فوق الدكّات وبعد الحركات المألوفة من بعض الوجهاء، أو أقارب سلطان باشا الذين قاموا بقصد لفت الأنظار إليهم، بتكديس العديد من المخدات تحت أذرعنا وخلفنا، قدّم لنا سلطان باشا أفراد عائلته . أولاً، علي، وهو أكبر أخوته، ذو قامة مديدة ووجه يطفح بالقوّة، إنـــه محارب العائلة، وقد أُصيب بجرح عام 1922 في حملة مثيرة ضدّ مصفّحات الملازم أول بوكسان ، إنه لأمر محيّر فعلاً، فسلطان باشا لا يشارك نظرياً في الأعمال التي خطط لها، بل أخوه علي من يقود الفرسان إلى المعركة : وفي هذه الشروط قد يخطئ الإنسان في تفسير شعبية سلطان باشا. ولكنه إذا عاش فترة في هذه البلاد فلن يحار في الأمر .سلطان يمثّل « السّلطة « وله يجب الخضوع وإلاّ تعرض المرء لقمع شديد . فهو من يجمع المترددين لأنه عُرف عنه تنفيذه لوعيده، وهو الذي يعاقب سكان القرى المناهضة له، أولئك الذين لم يقدّموا حصتهم المحددة من الفرسان، أو لم يرسلوا الجمال المحمّلة بالحبوب، وهو من يتحدّث في اجتماعات القادة عن متابعة الحرب، ويفرض بعد النقاشات الطويلة المملّة إرادته التي ينحني الجميع أمامها، إنه الوحيد المؤهّل، في هذا الجبل، لجعل الزّعماء يطيعون له، وذلك بسبب حزمه. وفي المقابل فإنّ الأمر الذي يشدّ إليه قسماً من الشعب هو أنه ربما كان الزعيم الوحيد « الكريم « حقاً من بين كلّ الزعماء ، من المؤكد أن بعض الزعماء الآخرين كانوا يرمون « النقود من النوافذ « بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنّ هذا العمل كان في أغلب الأحيان من أجل التفاخر، أو من أجل منفعة شخصية، وفي حقيقة الأمر، كان الزعماء طمّاعين ويستغلون فلاحيهم، ويسرقون الأرض التي استصلحها هؤلاء، ولا يكون لديهم سوى هدف واحد : تكديس « النابليونات الذهبية « في تنكاتهم» أي صفائح بترول قديمة تستخدم كخزائن مالية .
سلطان باشا كان على العكس من ذلك، يستقبل ضيوفه بكرم شديد، ويصرف جزءاً من ثروته في مضافته، وأي بدوي كان يجد فيها الأرز بكميّات وفيرة دائماً ، وكان عادلاً ولهذا كان البعض يتخذه قاضياً في ما بينهم، ولم يستغل ذلك ليكسب بعض الليرات الذهبية التركية من كلا الطرفين .
بالطبع لم يكن سلطان باشا يلعب دوراً نشطاً في المعركة وهو أمر يدهش الغريب دائماً، عند هذا الشعب المحارب، بيد أن الدروز لم يكونوا منزعجين لهذا الأمر، ذلك إن المعركة بالنسبة لهم لم تكن سوى غزوة، والحال، إن من التقليد الثابت لدى هذا الشعب المشاركة في غنائم غزوة من دون المشاركة فيها مشاركة مباشرة، ويكفي لذلك مجرّد إعارة فرس أصيل. فالدروز يعترفون بالفضل دائماً لمن يمنحهم الفرصة للمشاركة في الغزوات المربحة، ويجب الاعتراف أيضاً أن الحظ قد خدم سلطان باشا دائماً، وأن العمليات التي أمر القيام بها عادت بكسب لا بأس به على هؤلاء الناس الفقراء .
يضاف إلى ذلك أن روح العصبية « المحلية « ما زالت تحرّك المقاتلين، وكل قرية تريد القتال على هواها تحت طيّات « رايتها الحربية «، ولم يبعد الوقت الذي كانت فيه القرى تتحارب في ما بينها . ولقد كمُل دور سلطان باشا إذاً حين عرف كيف يجبر قرية بعينها على المشاركة بمعركة ما، وحينما فرض فرضاً على مختلف الوحدات تمركزاً محدداً في خطوط القتال الأولى مطابقاً قدر الإمكان لوضع القرى الجغرافي. وكمُل دوره حينما أشعل فوق الأمكنة العالية، فوق قمّة جبل القليب خاصة، مشاعل اللهب المعدّة من قبل، والتي تعلن الحرب في اليوم التالي، كمُل دوره حينما عرف كيف يوزّع مياه الينابيع والبرك في التجمعات السكانية لأن الأصدقاء أنفسهم سرعان ما يشتبكون بالأيدي من أجل هذه القضايا الحيوية في هذه البلاد المحرومة من المياه . فالقرية الفلانية ليس لديها من الحظ سوى نبع صغير متدفق أو بركة عميقة يتقاسم السكان الماء وفق تعويضات مرتفعة . ويأتي سلطان باشا أيام العطش ليفرض على هذه القرية ذاتها أن تستقبل وتروي الكثير من الحيوانات ، لكن يبقى أنه في يوم المعركة، ومع وجود العقلية الاستقلالية عند مختلف مجموعات المحاربين، لا يتضح تماماً الدور الذي يمكن لسلطان باشا أن يلعبه . ويبدو أن أخوة سلطان كانوا المختارين دائماً للهجوم على رأس مجموعات الفرسان وأضاف إلى ذلك أن مستشاري سلطان باشا الأذكياء وبحكمة كبيرة منهم، رأوا أن هذا الأمر قد يبدو غريباً في نظر المحاربين الدروز مع الوقت، فاستصدروا من مشايخ الدين الأربعة للجبل فتوى تمنع سلطان باشا ولمصلحة « القضية « من المشاركة في المعركة . علي بك هو إذاً وبقوة الواقع محارب العائلة .
مصطفى بك، العملاق القوي ذو الوجه الغليظ، كان فلاح العائلة، فهو من يدير الأعمال الزراعية، يذهب إلى قبائل البدو ليشتري الجمال منها، يوقظ الحصادين ويدفعهم إلى العمل ويحسّ المرء أمامه بطاقة كامنة لا محدودة.
وها هو الأخ الأصغر زيد بك، كــان ذا شعر طويل مضفور ومسرّح بعناية ، وكانت ثيابه بكاملها ذات زرقة باهرة، وتزيّن سترته البوليرو الفضفاضة شرائط مبرومة وتشبيكات مزهّرة وبراندبورية من الحرير الوردي، وكانت أطراف ثوبه الأزرق الطويل تتباعد عند سيره لتكشف عن سروال أبيض، تعلو أسفل ساقيه تطريزات دقيقة تشبه التطريزات الرومانية، وينتعل خفّاً فاخراً ذا صفرة فاتحة، ويلبس جوارب حريرية زرقاء تربطها بما تحتها حمّالات من اللون ذاته، يرسم شاربه الأسود الدقيق حدود شفتين شهوانيتين، ويخطف من الوجه ذلك المظهر الأنثوي الذي قد تشي به العينان المكحولتان والشعر الحريري المضمّخ بعطر مستورد، ولم يكن زيد بك يقدم بمظهره هذا انطباعاً بأنه ذلك المقاتل الجريء، وإنما مجرّد زعيم قرية همّه البحث عن المغامرات العاطفية . بيد أن هذا الـ زيد بك نفسه هو من سيقود في شتاء 1925 العصابات الدرزية في الحرمون برجولة وشراسة جعلتانا نقدم الكثير من الضحايا .
بعد التعارف أدار علينا خادم، يضع في قدميه بزهو كبير جوارب مثقوبة عند العقبين، ربما تركها له زيد بك الساحر، في فنجان واحد، وبالدور القهوة البدوية المعطرة بالهيل ذات المذاق المبرّد للغليل والمهيجة كما يشاع، ثمّ بدأ بعد ذلك تبادل الكلمات والتصريحات الحارة عن الولاء وعبارات متحمسة عن فرنسا التي « قامت بالثورة وبنت برج إيفل». ولحسن الحظ جاء الأرمني الذي كان يرتدي ثياباً أوروبية بائسة ذات لون داكن، ويقوم بدور مشرّف الخدم عند سلطان باشا، ليعلن أن العشاء جاهز، فنهضت لكن أيّاً من الوجهاء لم ينهض تواضعاً وقبل أن يُدعى من قبلي للجلوس إلى الطاولة ، ودائماً عبارات : « داري دارك » و«بيتي بيتك» المألوفة المستعملة بكثرة في بلاد الدروز .
انتقلنا إلى الخيمة المجاورة المزيّنة أيضاً بالسجاد، وقد مدّت في وسطها مائدة على الطريقة الفرنسية، وكانت ثمّة مقاعد ذات صناعة دمشقية حديثة قويّة المظهر بيد أنها معدومة المتانة وقابلة للتفكك تحيط بالمائدة.
كانت صحون «ريولز» جديدة تحيط بطقم مائدة خزفي وكان مصباح كاز مضغوط، ذو ذبالة غير قابلة للإحتراق يضيء المكان بضوء ساطع قليلاً، بالطبع لم أكن أتوقع مثل هذا البذخ هنا وما أدهشني بعض الشيء، أن أيّاً من هذه الصحون لم يكن مثلوماً على الرغم من التنقلات المفاجئة والسريعة فوق ظهور جمال رحّل خلف العصابات وقدّم لي مترجمي مفتاح اللغز : « كل هذه التجهيزات لم تتعرّض لأي خطر أثناء العصيان، ذلك أن سلطان عمل على حفظها عند وجيه مسيحي في القريّا وقد امتنع هذا، خوفاً، عن إطلاع السلطات على ذلك» .
ولسوء حظي، أنا من لا تزال تجثم على معدته بعد ثلاث وجبات منذ الصباح، فقد قدّمت الخدمة على الطريقة الفرنسية، أي تقدّم الأطباق بالتتالي، وتقتضي اللياقة أن أتذوّق كلاً منها و الله يعلم كم كان عددها، ها هي الكبّة، الصحن الوطني السوري، وهو كرات ثقيلة من اللحم المفروم والقمح ثمّ النقانق الصغيرة الممتازة حيث لفّ اللحم بورق العنب ثمّ تلت الفراخ التي تسبح في مرق اللبن الحامض الفراخ المشويّة .
ثمّ حمل خاروف كامل على صينية نحاسية كبيرة، ومعجنّات صغيرة على هيئة معينات تتكدّس فوق رفوف خدمة التحلية، كما طفحت صحون الحساء بلبن رائب ممتاز.
عدنا بعد الإنتهاء من تناول الحلويات، إلى خيمة الاستقبال حيث قُدمت لنا، وهو بذخ لا يجارى حتى الآن، القهوة الحلوة في طقم من الفناجين المذهبة الأطراف، ومن جديد خطب وأحاديث مملة .
هرعنا إلى الخارج، ولاحظنا في عتمة الليل، وفي كل مكان تقريباً، أضواء ساطعة محمرة تتأرجح في كل الاتجاهات، وتنتزع انعكاسات داكنة من الصخور البازلتية الزرقاء المعتمة. وفي العتمة كانت ثمّة ظلال ترتسم على صفحة السماء وهي تقوم برقصات رائعة على ايقاع أصوات الطبول، وتقطعّها النوتات الحادة للنايات، كما تموّجها تموّجاً غريباً سحبات المجوز ذي الأنبوبتين الريفيّة .
إنهم البدو « السرديّة « ، التابعون الحقيقيون لهذا السيد الحقيقي الذي هو سلطان باشا، تركوا خيامهم المنسوجة من وبر الجمال، وجاءوا يشاركون في الإحتفال، والتأمت في كل زوايا المخيم حلقات من الراقصين الذين كانوا يطلقون من حناجرهم نغمة خشنة وقوافلية تتفق مع جنون أجسادهم التي كانوا يرجحونها في فترات متساوية، ويرقصون بجنون، ويمدون أيديهم المضمومة نحو بدويّة كانت تدور باتساق أمامهم وفق حركات بطيئة جداً، جعلت أطراف العباءة التي تتلفع بها، والتي كان قد قدمها لها أحد الوجهاء، تطير كأجنحة رايات النصر القديمة، وكان يتأرجح من فوق رأسها سيف طويل محني، إنّ هذه الرقصة وهي رقصة طقسيّة حقاً تأخذ بهذا المظهر طابعاً حربيّاً . أمام مجموعة أخرى حيث تتشابك أذرع الراقصين وتتماسك أكتافهم، كان درزيّان يلوحان بالخنجر القصير القويّ يقلدان معركة، ولم يكن في حركاتهما أي شيء مفاجئ ولم تكن الرقصة التي تحيط بهذا المشهد تشبه في شيء الرقصة المجاورة .
أمام مجموعة أخرى جاء هايل بك المثير للقلق يرقص، يتدفق شعره ويتطاير حول وجهه اللطيف المحبب، بينما كان ينزلق بخطوات رشيقة من جهة إلى الجهة المقابلة في حلقة الرّاقصين . يمدّ نحوهم كفيه المتّحدتين اللتين كانتا تنفتحان وتنغلقان في حركة تحد، ويقفز من دون توقف، أمام البدو الذين كانوا بوجوههم السوداء وأسنانهم البيضاء كالذئاب الضامرة المتّقدة العيون ، التي تستعدّ للإنقضاض على الفريسة . بيد أن هايل بك، تلك الفريسة الساحرة لا ينوي جعلهم يفترسونه، إذ كان فجأة يجمد في مكانه، ثم برقّة بالغة يستدير ببطء شديد بينما يداه المتباعدتان عن جسده تتلويّان بأّبهة، ثم يحلُّ الهدوء، فقد أشدّ الراقصون إلى بعضهم بعضاً بالأكتاف، وأخذوا يتأرجحـون يميناً وشمالاً، يدقون الأرض دقاً خفيفاً بأقدامهم العارية ذات المفاصل الدقيقة، في حين كان أحدهم ينغّم الرقص بغناء أغنية حزينة، ولم تســـتمر هذه الاستراحة طويلاً، إذ سرعان ما تندفع ثانية الحشرجات الموقعّة من الصدور، وتمتد الأيدي في حركة امتلاك بينما تنفتح وتنغلق أيد أخرى في حركة جنونية، ويميل البدو من جديد بأجسادهم مقابل هايل بك الفاتن الذي عاود إنزلاقاته أمام نصف الدائرة الثمل بالحركة . وإكراماً لهايل بك و( « تشريفاً» له بالفرنسية ) يقوم بعض الخدم من دون أدنى خوف من وقوع حادث ما، بدلق البترول فوق مشاعلهم الملتهبة التي تتألف من قضبان حديدية طويلة غُرست في نهايتها قطع من الوقود المحلي الذي تصنعه النساء، وذلك بدعك روث البقر المخلوط بالتراب لمدة طويلة، ويجعلن من هذا الخليط العجيب كتلاً صغيرة يلصقنها بحركة سريعة على جدران المنازل، أو يجعلن منها كرات ذات حجم متوسط ويضعنها على جدران أملاكهم حتى تجفّ تماماً . كانت هذه المشاعل تنشر في أنحاء المخيم أشعة ذات حمرة نحاسية شديدة تلون تلويناً جميلاً أثواب الشبان الدروز الطويلة وتزيد من بريق الحبكات الذهبية لعباءات الوجهاء. أحياناً، كانت تنفصل إحدى هذه القطع وتتدحرج ملتهبة وسط الراقصين الذين يبتعدون بسرعة، ثم يلتئمون من جديد ويلعبون مع كرة النار، يخطفونها أو يتراشقون بها بحماس أو يجعلونها تقفز فوق الأحجار الكبيرة التي تنزرع وسط أرض المضارب، وكل ذلك تحت خطر حرق الأثواب والقمصان التي كانت تتطاير في كل اتجاه وسط هذا السباق المتهوّر المجنون، وسوف تستمر هذه الرقصات والألعاب ردحاً طويلاً من الليل، وسنسمع المزيد من هذه الحشرجات الوحشية وأصوات الطبل الكبير الصمّاء بعد أن انسحبنا إلى الخيمة – الصالون – حيث جهّزت على عجل عدّة أسرّة باستخدام بعض الصناديق . كان الصندوق الأعلى مغطّى بقماش ملوّن حُبك على شكل نخاريب النحل، ووضع عند طرف السرير، في طيّات متقنة، لحاف ريش أميركي مخرم ورقيق جدّاً من الحرير ذي اللون البراق، بينما وضعت عند رأسه بعض المخدّات الدرزية، التي يتركز نقشها في كونه قطعاً قماشية مقطعة تقطيعاً غريباً ومصفوفة وفق موازيك بسيطة تخلو من أي إبداع، لكنه ذو مظهر جميل جدّاً، ولم نستطع النوم من دون عناء بالطّبع وسط كل هذا الضجيج، ولا حاجة لي للقول إنني لم أستطع وسط كل هذه الرقصات تبادل أيّة كلمة مع سلطان باشا . ولهذا استيقظت في ساعة مبكّرة آملاً أن أستطيع محادثته على انفراد، وخرجت من الخيمة، كان سلطان المضيف الفطن قد استيقظ قبلي ويراقب باب الخيمة، وخدمتني الظروف فاستطعت التحادث معه مدّة طويلة، شكرته لاستقباله الكريم ودعوته لزيارتي في السويداء، وطلبت منه أن يعتبرني صديقاً له، وأن لا يتردد في مقابلتي عند أدنى صعوبة تواجهه .
« يجب أن نقرر أن لا نسمح أبداً لأي سوء تفاهم أن يفرّقنا، وأن نظل مستعدين دائماً للتفاهم بكل صدق حول أي موضوع يطرح . إن أعداء فرنسا سيحاولون عبر التقوّلات غير الصحيحة والمغرضة دوماً، تفريقنا، وهذا ما لا يجب أن نسمح به، ما فات مات ولقد دملنا الجراح ولن يفرقنا شيء ولا ينبغي أن نسمح للآخرين بمحاولة إقامة العراقيل الجديدة في ما بيننا» .
فأجابني سلطان باشا بأنه لن ينسى أبداً سلوك فرنسا الكريم اتجاهه . وقال لي : « لن أغدر بكم أبداً، لأنه بعد الوعود التي قطعتها لممثلي فرنسا فإنني سأشعر بقلّة القدر في عين نفسي، وسوف نصبح أصدقاء رائعين « .
لم ألحّ كثيراً، ولكنني كنت أحسب أنه منذ الآن وحتى بضعة أيام سأستطيع إقناعه بهدوء بالعودة إلى قريته وإلى كسر شبه القطيعة هذه.
وسيكون الأمر صعباً خصوصاً وأن البعض جعلوه يأمل أن تقوم
« فرنسا التائبة » بتقديم النقود له لإعادة بناء مضافته .
وقادني سلطان إلى القريّا، وهناك أشار إلى منهل رائع كان قد أمر ببنائه، ولسوء الحظ فإن الساقية التي تجلب الماء كانت تصل إلى مستوى أدنى من مستوى المنهل . سأقوم بإصلاح ذلك، وهكذا سأستطيع التقرّب من سلطان باشا .
من المؤكد إن الله يرعاني اليوم .
* *
/1924/ – ها قد انقضى عام على الصداقة التي عقدت أواصرها مع سلطان باشا. وليس هناك ما يدعوني إلاّ لأن أحمد فعلي : صارت مدرسة قريته من أفضل المدارس إدارة في الجبل، وتمّ تلقيح فلاّحيه ضدّ بعض الأمراض من دون صعوبة، وصارت شوارع قريته هي الأوسع والأقل وعورة في المنطقة . إلى الأمام فكل شيء على ما يرام، بيد أنني كنت قلقاً، إذ كان يجري الإعداد للإنتفاضة السورية في كل مكان، وتحت أنظار حلفائنا السابقين المتسامحة، كان رضا باشا الركابي رئيس وزراء الأمير عبد الله ينظّم في شرق الأردن العصابات التي كان عليها القيام بالاضطرابات على حدودنا الجنوبية، وكانت إحدى هذه العصابات قد قتلت في المزيريب عدداً من الجنود وجرحت زوجة ضابط، وفي القنيطرة قُتل عدد من رجال الدرك، وهوجمت إحدى المفوضيات في قلب دمشق، واغتيل عدد من رجال الشرطة . وظلّ الجبل هادئاً، وقد غادره ثلاثة زعماء دروز منشقين بيد أن أحداً لم يتبعهمم. لكن قادة اللجنة السورية زادوا من التحريض، لأنهم كانوا يعرفون أنه من دون مساندة هذا العنصر المحارب، فإن حركتهم ستؤول إلى إخفاق مؤكد . فوق ذلك كله تردد في كل مكان أن الجبل سوف يثور، ولم يكن يمرّ يوم من دون أن يأتي زعماء القرى المجاورة في حوران الذين كانوا يخشون نتيجة لخبرتهم بالغزوات الدرزية، للتعبير عن قلقهم أمام زميلي مسؤول مكتب استخبارات درعا ، ومن جهة أخرى كنت أعلم ومن مصادر موثوقة أن سلطان باشا قد أودع أثاث بيته وسجاده عند بعض الوجهاء المسيحيين . فهل كان سيمضي ثائراً هو الآخر على الرغم من ادعاءاته المتجددة بالصداقة ؟ وكنت أعلم أيضاً أنه بدأ يضطرب لأن خصومنا جعلوه يخاف من احتمال اعتقاله، ولذا فقد أقام مراكز مراقبة حول قريته، لتجنّب مثل هذا الإجراء . هيا، يجب أن نطمئن سلطان مجدداً، ونمنع الوحش، وقد دُجّن بكثير من الصبر، من الهرب بنتيجة حركة غريزية . فكتبت له رسالة طويلة أنهيتها بما يلي :
« إنك صديقي الحميم وقد عملنا سويّاً دائماً، وأعتقد في هذه الفترة أنه من واجبنا نحن الاثنين العمل لإعادة الهدوء إلى البلد، وربّما تطلب ذلك جهوداً كبيرة ولكنني متأكد أن إرادتي الطيبة المطلقة وصداقتك التي خبرتها مرّات عديدة ستكفيان لإنجاز هذه المهمة « .
ولم يتأخر الرّد : إذ سارع سلطان باشا منذ الغداة، مخدوعاً بالتعاون الذي عرضته عليه، إلى إرسال أخيه علي إليّ ليؤكّد لي إخلاصه . وأستطيع الآن تأجيل العملية التي كنت قد أعددتها مع ذلك من أجل أن أختطف زعيماً من الانتفاضة السورية المرتقبة، بعد عدة أيام دشنت وسلطان باشا في احتفالات لا تنسى ميدان السباق في صلخد، في حين كانت درعا لا تزال تردد صدى طلقات رجال العصابات .
وفشلت الانتفاضة السورية .

كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..
كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..

1925 أنا في فرنسا
سلطان، المرتعب من بعض الإجراءات السياسية ومن اعتقال بعض أقاربه، وهو الأمر الذي كان له ما يبرره على كل حال، يهرب معلناً الثورة . إنه لأمر لا يصدق ولكنه يُفسر بالنجاحات المتحقّقة في الجبل، ذلك أن سلطان وجد صعوبات جمة في جمع سبعة وعشرين فارساً، لكن الحظ يخدمه بصورة غريبة. فقد التقى في طريقه بسرية من الجنود أرسلت إلى الريف على غير هدى، وبالنسبة لمحاربي سلطان لم يتعدّ مجرد اللعب أمر إبادة هؤلاء الرجال الذين كانوا يفاخرون بارتداء البذلات العسكرية ويناورون بطريقة مثالية جدّاً لكنهم لم يكونوا يطيقون استنشاق رائحة البارود . وجلبت الغنيمة المكتسبة بعض الأنصار له، ثم وقعت بعد ذلك العملية المؤلمة في 3 آب حيث أباد ثمانمئة درزي طابور ميشو المسكين الذي يتكون في غالبيته من جنود إما غير مجربين وإما دون قيمة قتالية . ثم كانت مغادرتنا للسويداء والجبل أخيراً هي الأمر الذي سمح لقادة سلطان بقيادة الجماعات الدرزية « لاجتياح قرى في حرمون وضواحي دمشق. لقد استيقظت غرائز الغزو الدرزية القديمة وها هم ستة آلاف محارب من الجبل يهتفون الآن للزعيم الذي أتاح لهم تلك الفرصة .

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading