الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

في الذّكرى 75 للنّكبة: 1948 – 2023

تقول الوثائق البريطانية التي أُفرج عنها أخيراً، أنّ مخطط الدولة العبرية التي استولت على الأراضي الفلسطينية سنة 1948، في أعظم جريمة إنسانية وحقوقية عرفها التاريخ، كاد يفشل ويتلاشى غير مرة، وبخاصة في إضراب سنة 1936، ثم بعد أيار 1948، لولا التدخّل المباشر والحاسم للبلدان الغربية، والبريطاني قبل سواه.

وقبل ذلك، يُروى أنّ رئيس بلدية تل أبيب أراد في العشرينيات تعريف ونستون تشرشل الذي كان وزيراً للمستعمرات على إنجازات بلديته الحضارية. ولمّا كان الأمر حدث على عجل، فقد استقدم رئيس البلدية عشرات أشجار الصنوبر من المشاتل وزرعها لتبدو حديقة للساحة حيث يجري الاحتفال.

تقدمت صبيّةٌ يهودية لتلقي كلمة البلدية، لكنّها تعثرت بإحدى الشّجرات تلك، فسقطت على جارتها، والثانية على الثالثة، وسقط معظم الشجر المدسوس في الأرض باعتباره شجراً حقيقياً. تبسّم تشرشل وقال: أخشى أن يكون مستقبل الدولة العبرية مشابهاً لما حدث لهذه الحديقة.

أجل، قلَّةٌ هي التي صدّقت أنه بالإمكان اقتلاع شعبٍ بأكمله، وزرع شعب آخر بدلاً منه. فأرضُ فلسطين قبل 1948 لم تكن خالية، لا من السكان ولا من المنشآت الحضارية، المادية والمعنوية؛ ولا من المظاهر الثقافية والحضارية والفنية والإعلامية البارزة. تكفي ملاحظة أن «سكة حديد فلسطين» هي التي كانت تتولى بكفاءة عالية الاتصال البري بين مصر وبلاد الشام. وأن الموانئ الفلسطينية، وبخاصة حيفا، كان صلة الوصل التجارية الناشطة بين بلدان الشرق من جهة (وخصوصاً سوريا والعراق) والموانئ الأوروبية من جهة مقابلة – الوظيفة التي تولّاها مرفأ بيروت بعد قيام دولة إسرائيل. إلى ذلك، كان في فلسطين صحفٌ ومجلات ودور نشر ومدارس ( في القدس والناصرة وغيرهما) يؤمّها طلاب العلم من بلاد الشام ومصر، وكان فيها إرساليات تربوية مهمة من الغرب ومن الشرق (من روسيا وكنيستها)، ومستشفيات رائدة. والّلافت عدد الطلاب الفلسطينيين الكبير الذي كان يتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، كان الطلاب بالمئات، ويتخرجون في الاختصاصات كافّة.

لم تكن فلسطين إذاً – كما زعم ويزعم الإعلام الصهيوني والغربي – أرضاً بلا شعب. بل كان هناك شعب، بكل مواصفات الشعب، اقتُلِع غصباً وعنوة من أرضه التاريخية والطبيعية، ومن غير وجه حق، ليستوطن فيها بدلاً منه شعبٌ آخر.

من المحزنِ حقاً، أن قرارات عصبة الأمم (1922) التي أوكلت إلى بريطانيا إدارة فلسطين، أرضاً وشعباً، ومساعدة شعبها على التقدم الحضاري، وتأهيله للاستقلال، قد ضُرِبَ بها عرض الحائط، بل رُميت في سلّة المهملات. فمنذ اللحظة الأولى كان كل همّ بريطانيا المساعدة على إقامة كيان يهودي في فلسطين لأسباب عدّة، دنيوية أكثر منها دينية – متصلة بإبعاد الرأسمال الصهيوني عن لندن الذي كان يسيطر على بورصتها، وإقامة أسواق حديثة جديدة للمُنتجات الغربية التي كانت تشهد كساداً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك زرع سكين عريض في قلب الوطن العربي ليمنع أي اتصال بري بين عرب المشرق وعرب المغرب، وليجعلَ أي حُلمٍ بالوحدة العربية أضغاث أحلام. وحين كشف الروس سنة 1917 نصوص معاهدة سايكس – بيكو التي تضمنت وعداً بوطن قومي لليهود؛ ثم لمّا أرسل جمال باشا نصوص المعاهدة إلى الشريف حسين التي لم تتضمن أيَّ وعد بحكومة استقلالية عربية ما تسبب بحرج كبير للشريف حسين، هُرِع مندوبو بريطانيا يكيلون الوعود للشريف حسين بأنهم مع الدولة العربية المستقلة، وأنه سيكون ملكاً عليها؛ وأن الكيان اليهودي لن ينشأ إلّا بالتفاهم مع الفلسطنيين والعرب – إحدى الأكاذيب البريطانية المألوفة. (1)

هذه الأكاذيب، وطبيعة الدولة العبرية، ومخاطرها على لبنان تحديداً، هي ما أفاض في الكشف عنها، وتفصيلها، المفكر اللبناني (المسيحي لمن يهمّه الأمر) ميشال شيحا، وهي مدار الجزء الثاني من هذه الافتتاحية.

قدّم المفكّرون اللبنانيون، كما معظمُ المفكرين العرب، وعياً مُبكراً بالطبيعة العنصرية العدوانية المتوقعة للكيان العبري العتيد الذي عملت له بكل ما أوتيت من قوة الدوائر الاستعمارية الغربية، وبخاصة البريطانية منها.

إلا أن أحداً لم يبلغ في معرفته بالطبيعة الداخلية للدولة المزمع إنشاؤها، ثم الوليدة، والتحذير الصريح من مخاطرها، الحدّ الذي بلغهُ المفكرُ اللبناني الاقتصادي- السياسي ميشال شيحا.
بخلاف كثيرين، لم يستخفَّ شيحا بالقدرات الضخمة التي ينطوي عليها العقل اليهودي، قبل المال اليهودي، ودوره في تنفيذ مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. ففي أيديهم (اليهود) من أدوات الضغط، كما من الكفاءات والعقول، ما يجب أن يُحسب له ألفُ حساب.

يقول شيحا في طبيعة الدولة اليهودية، والدور المنوط بها، وكيف أن لا أحد أخذ الاحتمالات السيِّئة على محمل الجد:
«لا أحد كان يريد أن يعي ذلك منذ سنتين أو ثلاث…. فإذا في قلب الشرق الأدنى دولة متوسطيّة، جدُّ صغيرة في ظاهرها، عالمية في الواقع. وهي في رأي من يعرف كيف يستشفّ الأمور تنعمُ منذ أمد بعيد بخصائص الدولة الكبرى».
ويضيف: «ولئن كان للاستعمار معنى، ومعنى للعنصرية، فإنّ إسرائيل هي بالتحديد الدولة الأشدّ عنصرية والأشدّ استعماراً على وجه الأرض… هذه الإسرائيل التي تتمدد وتسترسل من يستطيع إنكار طابعها العالمي، ومقدار نفوذها ومداه، وما تتمتع به، إلى جانب دبلوماسيتها الرسميّة، من شبكة دبلوماسية شبه رسمية.» ص 111

ولا يتردد شيحا في التنبيه من أن لبنان يجب أن يُدرك أهمية تنمية اقتصاده، زراعة وتجارة وصناعة؛ وإلى بناء مواطنين قبل ذلك؛ قبل فوات الأوان؛ إذ تنتظره أخطارٌ جمّة من هذا «الجار» الجديد، و»لنا مما يحدث لفلسطين عبرة»، يقول:
«ولئن كنا في حاجة لتجارة مزدهرة وصناعة ناهضة وحياة زراعية منوّرة (والأخطار أقلّها في القطاع الزراعي)، ولئن كنا في حاجة لتجّار وصناعيين ورجالات أعمال وأموال من الرعيل الأول، فشدّ ما نحن بحاجة إلى مواطنين! وليكن لكل منّا في ما يجري بفلسطين عبرة». ص 73-74

ويضيف: «فإذا لبنان لم يبادر إلى صنع جماعات تلوَ جماعات من المواطنين فقد يمسي على التمادي مهدّداً. وهذا ما يثبته التاريخ برمّته عبر أربعة ألاف سنة من حياتنا السياسية والاجتماعية. وتكاد تكون هذه حال جيراننا. أضف إلى جمّ المخاطر المتوارثة جوار إسرائيل وما يثيره هذا الجوار من خَشية، إذ لن تتناهى إلينا من هذا الجار موسيقى عذبة وحسب، بل محاولة للسيطرة يتعهدها أبعد المفكرين بصيرة، وأشدّ النظم حزماً، وأكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».ص 74

يتوجب قراءة البضعة أسطرٍ قليلةٍ أعلاه بكل عناية ودقة. فهو أولاً يعيّن بشكل جليّ أنّ الجار الجديد مصدر أخطار، ويتوجب الخشية منه. ثم هو يعيّن أسباب قوة هذا «الجار» ومكمن المخاطر فيه: فليست قوته العسكرية ما يجب الخشية منه بالدرجة الأولى، بل لأنه يمتلك تحديداً، وفق شيحا، «أبعد المفكرين بصيرةً»، كذلك «اشدّ النظم حزماً»، ويمتلك «أكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».

لو أحسن الاستراتيجيون العرب قراءة تحذيرات شيحا الدقيقة وتعييناته المحددة لمكامن قوة الدولة العبرية، لتغيّرت، ربما، صفحات وصفحات من التاريخ.

ولكن، مع الأسف، من اهتمّ من هؤلاء بكيف يفكّر العقل اليهودي؟ وبطرائق التنظيم لديه؟ وبأدوات النفوذ العالمي الذي يمتلكها، وهي «الأكثر» تنوّعاً وفعالية؟
يقول شيحا، وبكثير من الموضوعية: «في ودّي هنا أن أكون موضوعياً قدر ما ينبغي أن أكون، فأكتفي بهذا القول: لا الدول العربية، ولا كبريات الدول، قدرت حقّ القدر ما يمثّله هذا الواقع وهذا الحضور». ص111

لن استرسل في عشرات النصوص من شيحا، وجميعها تعود إلى الأربعينيات ونهايتها من القرن العشرين؛ يقول:
«ما من أحدٍ أكثر مني…. حذّر من مخاطر جوارهم الخطير. ففي جنوب لبنان، على التّخوم، كما على تخوم مصر والأردن وسوريا، تقوم واحدة من أشدّ القوى نفوذاً في الأرض، حيث الّلاملموس واللامرئي يفوقُ كثيراً ما يستطاعُ لمسه ورؤياه.»111

ويقول في نص آخر: «أمّا في الجنوب فهناك إسرائيل، بدعةُ الأرض، وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دوِيّاً. إسرائيل ليست في الواقع بلداً كالبلدان. فمن يتاخمها يتاخمُ دولة عالمية نسيجَ وحدها، ومشتلاً للعنصرية في صميمها، حيث المواطنيةُ يرسمُ حدودها دينٌ يتسم بالتستّر على الأقل…. ففي جنوبي لبنان، وعلى عتبة بابنا بالذات، ينصبّ الجهد على تجربة سياسية ولا أغرب. ذلك أن إسرائيل إذ تصبح دولة تصبحُ عاصمة لليهودية جمعاء، ممثلون من الطراز الرفيع له يده الطولى في سياسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودولٍ أخرى فضلاً عمّا يملكه هذا الشعب من موارد طائلة وأواصرَ تتناهى سرّاً وعلانية على مدى الأرض…» ص 137-138

ونختم، بين نصوص عدّة من المفكّر اللبناني ميشال شيحا:
«من جهتي قلتُ وكتبتُ عشرات المرّات ما أحسبه الحقيقة عن إسرائيل. فحذارِ حذارِ جارتنا الجديدة، لأن جارتنا الجديدة ستطالعنا بالأخطار على صنوفها ونحن مهما عملنا، فلن نؤتى الراحة بعد اليوم، أو لن نؤتاها طويلة الأمد على الأقل. هذا ما ينبغي أن نجاهر اللبنانيين به، لأنه الحقيقة بعينها». ص138 (٢)
هذا قليلٌ من كثيرٍ تمخّضت عنه، باكراً، عقلية المفكّر اللبناني ميشال شيحا التحليلية الثاقبة، فكانت تحذيراته القويّة الصادقة، وتنبؤاته التي لم تزل تتحقق فصلاً بعد آخر.


المراجع:

١- تقدّم المصادر الدولية الإحصاءات التالية التي تظهر العنصرية التامة للدولة الوليدة واستهتارها بالقوانين الدولية وبشرعة حقوق الإنسان:
– شرّد الاحتلال 950 ألف فلسطيني من أصل مليون و400 الف فلسطيني، توزّعوا في 58 مخيّما كما يلي:
10 في الأردن، 9 في سوريا، 12 في لبنان، 8 في غزة، و19 في الضفة الغربية.
– استولوا على 85% من الأراضي الفلسطينية،
– أزالوا من الوجود 531 قرية فلسطينية،
– ارتكب 70 مجزرة بحق الفلسطينيين
٢- النص جميعه من كتاب شيحا: “لبنان في شخصيته وحضوره” (نقله إلى العربية، فؤاد كنعان)، منشورات الندوة اللبنانية، بيروت، 1962

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي