مجلس الشيوخ خطوة نحو الاستقرار
أ. د. محمد شيّا
أظهرت الأزمات الدستورية المستعادة في لبنان، المرّة تلو المرّة، وآخرها اثنتان خطيرتان:
1- الفراغ الرئاسي بين 2014 و2016،
2- الفراغ الحكومي المتجدد، غير مرّة، والذي يستمر لأشهر، وربما، أكثر على حساب استقرار البلاد ومصالح بنيها الملحّة.
هاتان الأزمتان، وغيرهما الكثير، أضف إليهما، وبصراحة، انقسام اللبنانيين منذ فترة من الزمن حول قضايا مصيرية، بل وجودية عدّة، تشير كلها، بالقلم العريض، إلى أن شيئاً ما يجري على نحو خطأ، وأن نقصاً «تأسيسياً» ما يقوم في مكان ما، وأن تداركهما من الضرورة بمكان.
وعليه، ما الذي يمنع اللبنانيين من استدراك النقص ذاك بتعديلات وخطوات موجودة في كثير من البلدان المتقدمة وتختصر بـ: استحداث «مجلس شيوخ»، كان موجوداً في فينيقيا، ثم في أثينا، ثم في روما، وبعد في عشرات البلدان الحديثة، تناطُ به، أو إليه، القضايا الوطنية المصيرية التي يجوز مقاربتها بمنطق أغلبية وأقلية، أو بمنطق الحشد الشعبي الذي يعمّق الأزمات ولا يعالجها. باختصار، لقد كانت الوثيقة التي خرجت بها مداولات «الطائف» المطوّلة من الحكمة بمكان أن اقترحت على نحو صريح مباشر استحداث مجلس للشيوخ في البرلمان اللبناني، بل العودة إلى مجلس الشيوخ الذي كان موجوداً في النسخة الأولى من الدستور اللبناني ولبضع سنوات، مكاناً لتضع فيه جميع المكونات التي يتألف منها المجتمع اللبناني أفكارها واقتراحاتها، بل وهواجسها ومخاوفها أحياناً، إلى سائر القضايا المصيرية أو الأساسية، فيجري التداول بها والنقاش فيها وجهاً لوجه، لا بالمراسلة والرسائل، ولا في الشارع، وهو الطريق المتحضر لحل الأزمات – وسيكون هماك دائماً أزمات في بلد بل في شرق شديد الحركة والتحوّل.
لا ترغب “الضّحى” بمصادرة النقاش سلفاً، وهي تكتفي بطرح الإشكالية أعلاه. لكنها ستفتتح النقاش باستعادة مشترك متقدم نصٍ اقترحه ووقّعه قبل نحو من ثلاثين سنة كلُ من: معالي الأستاذ وليد جنبلاط، المغفور له عطوفة الأمير مجيد أرسلان، والمغفور له سماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا في الفترة تلك.
وإلى النص أعلاه، تقدّم “الضّحى” في هذه الحلقة الأولى من ملف مجلس الشيوخ مقالة مختصرة للبروفيسور أنطوان مسرّة، ومقالة مطوّلة للدكتور هشام الأعور (الذي أنجز دكتوراه دولة بموضوع «مجلس الشيوخ»).
والملف مفتوح لمساهمات أخرى لاحقة، ومن باب وطني جامع، وعلمي موضوعي، ديدنُ “الضّحى” في ملفاتها كافةً.
ليسَ مجلس الشيوخ غرفةً برلمانية ثانية: كيف ولماذا؟
د. أنطوان مسرّه
1. لا جدوى من أي اقتراح أو تعديل دستوري إذا كان الدستور أساسًا معلّقًا وغير مطبّق ومُخترق يوميًا. تُشكل بالتالي الطروحات والمداولات والسجالات حول المنظومة الدستورية اللبنانية طمسًا لمعضلة الدولة في لبنان التي تتلخص في مسألتين:
أ. وجوب تمتّع الدولة اللبنانية بالمواصفات الأربعة المسمّاة ملكية وهي:
– احتكار القوّة المنظمة،
– احتكار العلاقات الدبلوماسية،
– فرض وجباية الضرائب،
– إدارة السياسات العامة،
ب. الدستور اللبناني، في نصّه وروحيّته، مُعلّق وغير مُطبّق ومُخترق يوميًّا، بخاصة من خلال تأليف حكومات برلمانات مصغّرة، ممّا يخرق مبدأ الفصل بين السلطات. الحكومة موصوفة قصدًا في الدستور اللبناني «بالإجرائية». والحكومات في لبنان تُمثل «الطوائف»، كما هو وارد في المادة 95، وليس قوى سياسية ولا «أحجام»…! وليس للحكومات عالميًّا صفة تمثيلية بالمعنى الانتخابي.
3. توجب وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، التمييز في بنودها بين اثنين:
– الثوابت الدستورية التي وردت في معظمها في مقدمة
الدستور اللبناني.
– الشؤون التنظيمية: قانون الانتخاب، اللامركزية، مجلس
الشيوخ… التي يتوجّب العمل بها استنادًا إلى ظروف المكان
والزمان والتحوّلات، كما «مقاصد الشريعة» وليس حرفية الشريعة.
4. مجلس الشيوخ هو التجسيد للقِمم الروحية المشتركة في لبنان والتي لها دور بارز في كل تاريخ لبنان، بخاصة خلال 1975-1990، في ترسيخ الوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي.
5. من أبرز مخاطر معالجة تخطّي الطائفية «بالقطعة» وخارج الهيئة الوطنية الواردة في المادة 95 من الدستور اللبناني مزيدٌ من تطييف النظام.
يتطلّب تكوين وتنظيم مجلس الشيوخ مقاربة من منطلق طبيعة النظام الدستوري اللبناني والأنظمة البرلمانية التعددية، وبالتالي بدون اغتراب ثقافي aliénation culturelle وبدون مقاربة استنادًا إلى مجالس الشيوخ في أميركا وفرنسا وبريطانيا وفي الدول ذات التنظيم الفدرالي الجغرافي.
6. إذا كان تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من خلال انتخابات عامة، فهذا قمّة التطييف لأنه يحمل كل ناخب إلى انتخاب عضو من طائفته مما يؤدي إلى فرز مُصطنع في العائلة الواحدة استنادًا إلى الانتماء المذهبي! إنه تكريس لما سُمّي بـ «مشروع أورثوذكسي» وهو مشروع جهة محدّدة ولم يتبنَّه المجتمع اللبناني.
يتم تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من قبل هيئة ناخبة مُصغّرة Collège électoral restreint من قبل الهيئات الرسمية للطوائف، واستنادًا إلى معايير يتوجب التقيّد بها بشكل دقيق وصارم، في الاختصاص والخبرة، لأن الموضوع يتطلب اختصاصًا وخبرة على نمط لجنة برنار ستازي Bernard Stasi حول العلمانية في فرنسا (2003) ولجنة بوشار-تايلور Bouchard-Taylor (2008) في كندا وليس على أساس قوى سياسية وأحزاب.
7. إنّ المادة 65 من الدستور التي تفرض أكثرية موصوفة majorité qualifiée في ما يتعلق بـ 14 قضية مُحددة حصرًا هي الضامنة أساسًا لحماية حقوق كل مكوّنات المجتمع اللبناني. تَحُوْل المادة 65 دون طغيان فئوي minority control ودون طغيان أقلية وطغيان أكثرية abus de majorité/ abus de minorité. تم التلاعب بهذه المادة في التطبيق وخرقها من خلال شعارات «الثلث» و «التعطيل و «طغيان فئوي…» تطبيقًا لنظرية إسرائيلية، بخاصة لـ Sammy Smooha تستند إلى حالات إسرائيل بالنسبة إلى عرب اسرائيل وسوريا وأفريقيا الجنوبية في عهد التمييز العنصري وإيرلندا قبل «اتفاقية الجمعة» Friday agreement.
8. ليس مجلس الشيوخ اللبناني غرفة ثانية Seconde Chambre، بل هيئة مساندة وليس لها صفة تشريعية.
إذا كان لها صفة تشريعية فهذا يؤدي إلى مزيد من تطييف كل القضايا بدون استثناء: سوف نطيّف الضرائب والتنظيم المدني، وأسعار السلع الاستهلاكية والإدارة…!.
9. لا يتوجب أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ متفرّغين ولا يتقاضون تعويضات ثابتة، وربما يتقاضون تعويضات رمزية ويجتمعون في سبيل التخطيط الدائم لمجتمع الدولة الضامنة للعيش المُشترك والسيادة الوطنية والثقافة اللبنانية الجامعة وحماية الثوابت اللبنانية والدفاع عن لبنان «عربي الهوية والانتماء» ورسالته العربية والدولية.
10. إنّ ضمان الحريات الدينية والإدارة الذاتية في ما يتعلق بالمادتين 9 و 10 من الدستور هو مُحقق بفضل المادة 19 من الدستور حيث يحقّ لرؤساء الطوائف الطعن بأيّ قانون متعلق حصرًا بهاتين المادتين. وهو محقّق أيضًا بفضل المادة 65 في اشتراط أكثرية الثلثين في 14 قضية أساسية. لا يجوز بالتالي لمجلس الشيوخ أن يتضارب في صلاحياته مع المادتين 19 و65 من الدستور.
11. من الأفضل أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ وأغلبية أعضاء مكتب مجلس الشيوخ من الطوائف الصغرى. كل الطوائف في لبنان أقليّات ولكن لدى بعضها وهم أو إدراك أكثري أو ممارسة طغيان فئوي.
لماذا مجلسُ الشّيوخ اللّبناني؟
د. هشام الأعور
تتميّز بعض المجتمعات العربيّة، وخصوصاً المجتمع اللبناني منها، بكونها مجتمعات مركّبة عرفت تنوعاً كبيراً في الانتماء الديني – المذهبي الذي يعود تشكلّه إلى منتصف القرن الخامس الميلادي، حيث تتواجد في لبنان الأعراق والمعتقدات والشعائر والطوائف والمذاهب وأساليب التفكير والأعراف، وهذا ما دفع بميشال شيحا إلى وصف المجتمع اللبناني على أنه ائتلاف «العائلات الروحية» مع ما ينتج منه ضرورة تعزيز تنوّع التمثيل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة كوسيلة لتلافي العنف خارج المؤسسات، واستبداله بحوار بنّاء ومنفتح داخل المؤسسات بعيداً عن الشارع.
ولما كان لبنان، كما يعتبره البعض من أكثر البلدان الذي يضم في تركيبته الاجتماعية «أقليات طائفية متشاركة» وبالتالي لا تُحكَم إلا بالتوافق والتوازنات، فهذا الأمر استدعى وجود مؤسسة دستورية تتمثل فيها جميع مكوّنات المجتمع اللبناني، وتخلق للطوائف الدينية إطاراً من العيش المشترك، لذلك جاءت نشأة مجلس الشيوخ في لبنان في سياق تطور تاريخي لمبدأ مشاركة الطوائف في السلطة من خلال هيئات ذات طابع تمثيلي. فلبنان الذي احتفظ خلال مرحلة طويلة من تاريخه بطابع خاص في بنيته الاجتماعية وتعدد طوائفه الدينية، دون سائر بلدان الشرق الأدنى، قد أخذت الطائفية فيه وضعاً قانونياً تسرّب إلى أنظمة الحكم منذ قيام نظام القائمقاميتين في الجبل عام 1842 ونظام المتصرفية عام 1864، من بعده، مروراً بنظام الجمهورية اللبنانية عام 1926، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989 حتى أصبحت الطائفية تشكل كينونة مجتمعية – سياسية للمذهب الديني، إضافة إلى كونها ظاهرة نفسية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية شاملة لجميع مستويات البناء المجتمعي اللبناني.
وفي حين عُبّر عن هذا الانقسام الطائفي من خلال نظام القائمقاميّتين الذي شكل كيانين طائفيين تم الاعتراف بهما في نص رسمي في نظام شكيب أفندي. إلّا أن هذا الانقسام سرعان ما تكرّس في النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان (1861-1915). ففي 9 حزيران 1861، وعلى أثر الاضطرابات الطائفية التي اجتاحت جبل لبنان، وَضعت لجنة مؤلّفة من ممثلي خمس دول أوروبية بالإضافة إلى مندوب السلطنة العثمانية نظاماً جديداً لجبل لبنان عُرف «بالنظام الأساسي» أو «نظام المتصرفية». فجاء هذا النظام يكرّس نوعاً من «الكونفدرالية» الطائفية تمثّلت بتشكيل أعضاء المجلسين الإداري والقضائي اللّذين تألّف كل منهما من 12 عضواً توزّعوا طائفيًّا كما يلي: 4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، سني واحد، كاثوليكي واحد، شيعي واحد. وقد تولّى مجلس الإدارة الأول، مساعدة المتصرف في القيام بمهامه الإدارية، في حين نصّت المادة الثانية من النظام الأساسي على تولي المجلس توزيع الضرائب ومراقبة الواردات وإعطاء رأيه الاستشاري في كل القضايا التي يحيلها عليه المتصرف. وقد اعتُبر مجلس الإدارة ممثلاً للطوائف وكان الاقتراع في المجلس يتم على أساس الطوائف وهذا يعني أنه كان للطائفة صوت واحد في المجلس.
وبعد أن انتقل لبنان من حكم السلطنة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي وإعلان دولة الكبير في العام 1920، أصدر المفوض الفرنسي الجنرال «غورو» قراراً يقضي بإلغاء مجلس الإدارة وإقامة لجنة لبنان الإداري، عُيّن أعضاؤها من قبل المفوّض السامي على أساس انتماءاتهم الطائفية، قبل أن يعود المفوض الفرنسي ليعلن في 23 أيار / مايو عام 1926 عن دستور للدولة اللبنانية ليتحوّل المجلس التمثيلي، الذي أنتخَب لجنة من النواب لإعداد الدستور، إلى مجلس تأسيسي ومن ثم نيابي، في حين عيّن المفوض السامي إلى جانب مجلس النواب، مجلس شيوخ وعدد أعضائه ستة عشر شيخاً، قبل أن تعود السلطات الفرنسية في العام 1927 وتلغي مجلس الشيوخ، وتوحّد الهيئتين اللتين يتألف منهما البرلمان في هيئة واحدة هي مجلس النواب بحجة أنّ مجلس الشيوخ لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة، فيصبح البرلمان اللبناني مكوّناً، منذ ذلك الوقت، من مجلس واحد هو مجلس النواب حسب ما نصت عليه المادة 16 من الدستور اللبناني.
وبينما تؤكد وثيقة الوفاق الوطني التي اُقرّت في الطائف في العام 1998 على حرفيّة هذه المادة الدستورية التي ما زالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، إلّا أنّه وبموجب الاتفاق المذكور فقد أقرّ القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر عام 1990 إعادة إنشاء مجلس الشيوخ بموجب المادة 22 من الدستور التي ربطت عملية استحداث مجلس الشيوخ بانتخاب أول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، حيث يُشكّل مجلس الشيوخ كصيغة حل لتجاوز الطائفية السياسية المتعاقبة فصولاً منذ أن ارتسم في أفق الاجتماع اللبناني مشروع دولة متعددة الطوائف.
لقد جسّد اتفاق الطائف عام 1989 ميثاقاً جديداً للسلام بين اللبنانيين، وأعاد الوحدة السياسية إلى البلاد، والمؤسسات إلى نشاطها، وأبقى التوزيع التقليدي السابق لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء بعد تحديد صلاحيات كل منها، وجعل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والوزراء.
لا مجال هنا لاستعراض كل ما أدخله اتفاق الطائف من تعديلات على الدستور، إلا أننا، ضبطاً للبحث الذي نحن بصدده، ومراعاة لحجمه وأغراضه، سنلتزم فيما نص عليه هذا الاتفاق على صعيد البرلمان وتأكيده على إنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، بالشكل الذي يجعل من إنشاء المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة الطائفية التي تقيّده، والدفع بالناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لا طائفية عند صندوق الاقتراع. ما يطرح السؤال حول جهوزية بلد كلبنان، والمؤلَّف من ثماني عشرة طائفة مختلفة معترف بها، وتتحكم فيه موازين قوى داخلية وخارجية، عن تجاوز الطائفية السياسية عبر مجلس شيوخ يمثل الطوائف مقابل تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي وبالتالي تحوّل الإنسان اللبناني من هويته الطائفية السياسية وتالياً الدفع به في اتجاه المواطنة الحقيقية.
في العام 1990، وعندما تقرّر إدخال «إصلاحات» الطائف في صلب الدستور اللبناني، تمّ تعديل 31 مادة من مواده، كما أضيفت إليه مقدَّمة تضمَّنت المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، وقد توافق النواب يومئذ، بالإجماع، على مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» الذي جعل منه الدستور «هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» وإن كانت هذه الترتيبات المتعلقة بمسألة الطائفية لم تكن، في ذهن واضعي اتفاق الطائف – برأي البعض – ترتيبات انتقالية، بل إنها جاءت لتمهِّد وتُحضِّر لمرحلة لاحقة، لحظها الطائف، وصولاً إلى الهدف وهو تجاوز الطائفية بالتدرّج وعلى مراحل، بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي، وعندئذ يُنشأ مجلس شيوخ تتمثَّل فيه جميع «العائلات الروحية» وتكون صلاحياته محصورة في «القضايا المصيرية».
ولكن كيف يتجلّى مجلس الشيوخ المقترح في دستور الطائف؟ وهل أن التعديلات الدستورية في الطائف قد أحدثت تغييرات جذرية على المجلس أو أنها أبقت على روحية دستور 1926 وخطوطه العريضة لجهة تركيبة مجلس الشيوخ وصلاحياته؟ ولماذا ميَّز المؤتمرون في الطائف بين استخدام تعبير «الطوائف» و «العائلات الروحية»، وما هو المقصود بـ «العائلات الروحية» التي تتمثل في مجلس الشيوخ؟ وهل أن «القضايا المصيرية» هي نفسها «المواضيع الأساسية» التي وردت في المادة 65 من الدستور وتتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء، وما معنى هذه وتلك؟.
بعض هذه الأسئلة لا نجد جوابا عليها في المواد الدستورية بشكل مباشر، لكنها وفق مبادئ التفسير وقواعده، فهي تفسر في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي. هذه هي الفكرة الوحيدة الواضحة من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. فاتفاق الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة من هي «العائلات الروحية» التي سيكون لها تمثيل في مجلس الشيوخ، وكذلك الأمر بالنسبة لصلاحيات المجلس، إذ إن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، لا تفيد شيئا في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.
وربما يكون ذلك قد أدّى إلى خلق جدل واسع بين فقهاء القانون الدستوري الذين تصدَّوْا لهذا التعديل بالتحليل والمناقشة والتمحيص، لاسيّما وأن المشرع الدستوري لم يعدّل المادة 16 والمتعلقة بالهيئة المشترعة والتي بقيت على نصها القديم: الهيئة المشترعة واحدة هي مجلس النواب. فهل المقصود أنّ نظام المجلسين في لبنان لا يعني ثنائية السلطة التشريعية، أم أن المقصود فعلاً أن يكون مجلس الشيوخ عبارة عن هيئة نقض ومراجعة ورقابة على مجلس النواب المنتخب على أساس غير طائفي؟
إن التباين الشديد للمواقف السياسية حول قبول ورفض نظام المجلسين يثير الكثير من التساؤلات حول العوامل التي تقف وراء هذا الاختلاف والتباين في المواقف ووجهات النظر من جهة، ومدى ملاءمة هذا النظام مع احتياجات المجتمع اللبناني، انطلاقاً من الرؤية الموضوعية التي تراعي المصلحة العامة للبنانيين وصولاً إلى تقدير جدوى إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان من عدمه.
ثمة أسباب متعددة تفرض على المجتمعات والشعوب المتعددة اللجوء إلى خيارات كانت معتمدة في الماضي القريب، والتي تحكم عمل المؤسسات الدستورية في العالم ومن بينها لبنان الذي شهدت بنية البرلمان فيه بموجب اتفاق الطائف عام 1989 تحوّلاً نحو استحداث غرفة ثانية، أخذت مسمّى مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس النواب، فنصت المادة 22 من الدستور المعدلة بالقانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
وخلافاً لتجربة الثنائية البرلمانية السابقة في مرحلة
الانتداب الفرنسي، التي جعلت من مجلس الشيوخ توأمَ مجلس النواب بحيث يكوّنان السلطة الاشتراعية عندما يلتئمان معاً، أو أن ينعقد كل منهما منفرداً في العقود العادية والاستثنائية، ويكادان يتشابهان في معظم صلاحياتهما الاشتراعية- بل هي نفسها – على نحو يوحي بأنّ كلّاً منهما يكمّل الآخر، من خلال مواعيد الانعقاد، والنصاب القانوني للالتئام والتصويت فضلاً عن التصويت الشفوي والاقتراع السرّي والمناداة بالأسماء، والجلسات السرية والعلنية، وحصانة العضو وملاحقته، وآلية طرح الثقة بالحكومة، وملء الشغور، ومواعيد تجديد الهيئة المشترعة المزدوجة، وهو ما جعلهما يشكلان معاً البرلمان عندما يلتئمان، صورة منسوخة عن البرلمان الفرنسي إذ يجمع الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. بالمقابل اعتبر اتفاق الطائف مجلس الشيوخ المقترح مؤسسة دستورية مستقلة في ذاتها وصلاحياتها وتميز دورها عن مجلس النواب، رابطاً عملية إنشاء مجلس الشيوخ بشرط إلغاء الطائفية السياسية حيث اشترطت المادة 22 من الدستور أن يسبق مجلس الشيوخ انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي.
وفي حين تنص المادة المذكورة على أن يكون مجلس الشيوخ المُقتَرح هيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأول مرة تسمية «العائلات الروحية»، يستخدم الدستور اصطلاح «الطائفة» و»الطوائف» في المادة 24 عند الحديث عن تأليف مجلس النواب. بالمقابل تتحدث المادة 95 عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى. فيما تنص مقدمة الدستور فقد نصت في الفقرة (ح) على إلغاء «الطائفية السياسية» كهدف وطني، ما زالت المادة 16 من الدستور تنص بعد التعديلات الدستورية سنة 1990 على أن تتولّى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب، بعد أن عدلت هذه المادة سنة 1927 وكانت تنص: يتولى السلطة المشترعة هيئتان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. أما الصلاحيات التي نص عليها الدستور لمجلس الشيوخ فهي تنحصر في «القضايا المصيرية». بينما استخدمت المادة 65 من الدستور الفقرة 5 مصطلح «مواضيع أساسية» للتصويت الموصوف في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين.
وعلى الرغم من أن نظام المجلسين الذي ظهر بداية، في المملكة المتحدة، ثم في الولايات المتحدة، وفرنسا، وتناقلته الكثير من دول العالم لاحقاً، يشكل خلفية عامة من الصعب تجاهلها، إذ يستحضرها لنا القانون المقارن استحضاراً لا بدّ منه، على الأقل لعراقتها، إلاّ أنّه لا يمكن الاكتفاء بإسقاط المقترح اللبناني على هذه التجارب المقارنة دون البحث عن مضمون مجلس الشيوخ اللبناني الذي ينفرد عن غيره ببعض الخصائص والتي تتعلق بطبيعة المجتمع اللبناني ونظامه السياسي، لذلك يلفت أحد الخبراء الدستوريين إلى أن «من يُرِد أن يدرس مجلس الشيوخ المقترح في الدستور يجب أن يتجرّد تماماً من البرمجة الذهنية لمجالس الشيوخ في بلدان أخرى حيث عملها يأتي كغرفة ثانية لمجلس النواب، أما في لبنان، فيجب النظر إليه في إطار إدارة التعددية الدينية والثقافية وضمان حقوق الطوائف بما يتعلق بالمواد 9 و 10 و 95 من الدستور، المرسِّخة للقيم اللبنانية والسلم الأهلي».
لقد جاء اتفاق الطائف بإسناد البرلمان إلى نظام المجلسين، الأول للنواب والثاني للشيوخ، بشكل يتوافق مع ظروف لبنان الذي يتميز بالتنوع الديني والطائفي، حيث يتم الخضوع لممثلي الأغلبية في مجلس النواب المُنتخب من خارج القيد الطائفي من جهة، وتمكين الطوائف الدينية من أن يكون لها دور فاعل ومؤثر عبر مجلس الشيوخ في ما خص «القضايا المصيرية».
وإذا كان تجاوز الحالة الطائفية يُمثِّل الخلفية الأساس لاتفاق الطائف والذي استجاب كما يبدو إلى مطالب فريق واسع من اللبنانيين ممَّن كان يطالب بإنشاء غرفة ثانية في البرلمان، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمِرون في الطائف على ذلك، نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية. كما نصت على أن يُعتمد الاختصاص والكفاءة، بدلاً من قاعدة التمثيل الطائفي، في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تطبق قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
وقد تجلَّى إجماع النواب على هذه المسألة عند إقرار تعديل المادة 95 من الدستور في العام 1990، والذي عكس حلًّا وسطيًّا، إذ لم يقرن إنشاء مجلس الشيوخ بوضع دستور جديد للبلاد، لكنه بالمقابل اشترط إلغاء الطائفية السياسية كخطوة ضرورية قبل ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة (95) من الدستور آلية محدّدة تتضمن قيام مجلس النواب «المُنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين» بتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، حيث تتولّى هذه الهيئة إقرار خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء. أكثر من ذلك، فقد توافق النواب بالإجماع، كما ذكرنا سابقاً، على إضافة مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» في صلب مقدمة الدستور في حين أن هذا المبدأ لم يكن ملحوظاً ضمن المبادئ العامة الواردة في اتفاق الطائف.
ولكن، وإن كان اتفاق الطائف قد وضع يده على مكمن الداء، فحدَّد الهدف بوضوح، ورسم الآلية الواجب إتباعها للوصول إلى هذا الهدف، من دون أن يُغفل أن الطريق طويل، وأن ثمة مراحل لا بد من المرور بها، نرى أن الطائف لا يقدم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلسين أو غرفتين تقومان على أسس مختلفة، فهناك غموض كبير يحيط بالصيغ المحتملة لنظام الثنائية البرلمانية في لبنان لناحية تركيبة مجلس الشيوخ وأساس تكوينه، مدة الحكم، أساليب الانتخاب، وصلاحياته، وغيرها من الأمور الأخرى التي تبقى غير مستطلعة إلى حد كبير.
وإذا كان من مقتضيات تفسير القواعد الدستورية العودة إلى الأعمال التمهيدية، كالأسباب الموجبة وتقارير اللجان ومناقشات النواب، فلا بد من التوقف عند الأسباب الموجبة والمناقشات البرلمانية والأعمال التحضيرية والاجتهاد، والاجتهاد المقارن وروحية النص والتمعّن أيضاً في مختلف الظروف المحيطة التي رافقت ولادة نص المادة (22) من الدستور وتلمُّس قدر الإمكان حكمة التشريع في الأسباب الموجبة لإنشاء مجلس الشيوخ اللبناني.
فبالعودة إلى التجربة السابقة، فقد سبق للبنان، كما أسلفنا، أن اعتمد نظام المجلسين (الشيوخ والنواب) في دستور 1926 خلال فترة الانتداب، حيث استوحى الدستور اللبناني قواعد الجمهورية الفرنسية وجعل السلطة التشريعية مؤلفة من هيئتين: الشيوخ والنواب، قبل أن تعود سلطات الانتداب وتلغي مجلس الشيوخ في العام 1927 لأنّه لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة. لذلك لا يُعتَد إذاً بالعودة إلى التجربة السابقة.
أمّا بالنسبة إلى الأسباب الموجبة فهي مُختصرة وتتعلّق بكل التعديلات الدستورية التي أقرها اتفاق الوفاق الوطني في الطائف، وهي لا تصرّح بشيء خاص عن مجلس الشيوخ، في حين أن المناقشات البرلمانية لا تلحظ هذا الأمر، لأن التعديلات الدستورية أُقرّت دفعة واحدة وفي جلسة نيابية واحدة، تطبيقاً لاتفاق الوفاق الوطني في الطائف.
وأما وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرت في الطائف واعتُبِرَت مرجعاً لهذه التعديلات فهي أيضا ذكرت حرفيا في الفقرة 7 من بند 2 (الإصلاحات السياسية) نص المادة (22) كما وردت من الدستور المعدّل عام 1990. كما أنّ مطالب القوى السياسية والمُناخات سواء تلك التي سبقت أو رافقت إقرار اتفاق الطائف وفلسفة الإصلاحات والمؤسسات التي تم الاتفاق على استحداثها أو تعديلها، لا تقدم جميعها أيضا شرحاً وافياً لنص المادة (22) من الدستور.
وعليه، فإنَّ النص على استحداث مجلس للشيوخ، بموجب دستور الطائف، يتخلّله ضمناً إبهام على مستوى المادة (22) من الدستور وعدم وضوحها لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد «القضايا» التي تنطبق عليها صفة «المصيرية»، لذلك يصبح من الضروري أن نتناول في بحثنا لموضوع الهيئة الوطنية، والإشارة إلى كيفية مساهمة مجلس الشيوخ المقترح في بناء نظام ديمقراطي يضمن حقوق «العائلات الروحية»، ومن خلال تحديد صلاحياته ووظائفه، والتي يقع من ضمنها موضوع «القضايا المصيرية».
الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية
لقد حاول الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف أن ينأى قدر الإمكان عن الطائفية وآثارها السلبية، واعداً بإقصائها عن دورة الحياة السياسية في المستقبل، ومفضّلاً عليها عبارة «العائلات الروحية». فقد ورد في الفقرة السابعة من قسم الاصلاحات السياسية في اتفاق الطائف سنة 1989 المادة 22 منه: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
في مقابل هذه المادة، كان دستور الطائف، كلّما ذكر الطائفية، ربطها بمدلول سلبي في غالب الأحيان، ومن قبيل ذلك قوله، في البند (ح) من المقدَّمة «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني»، وفي المادة 22 كما سبق البيان: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي»، وفي المادة 24: «وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي»، وفي المادة 95 : «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق الطائفية السياسية».
وانطلاقاً من هذه المواد الدستورية نرى، أن الدستور اللبناني حدد أربعة مراحل تتعلّق بإلغاء الطائفية السياسية، حيث تبدأ المرحلة الأولى بإنجاز مهمة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، لتأتي من بعدها المرحلة الثانية والتي تتضمن إنجاز مهمة الهيئة الوطنية التي تندرج تحت مهام ثلاثة وهي:
ـ درس واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية.
ـ تقديمها إلى مجلس النواب.
ومتابعة الخطة المرحلية مروراً بالمرحلة الثالثة، وهي المرحلة الانتقالية وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وصولاً إلى المرحلة الرابعة التي تقوم على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها أو ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.
وبعد إتمام جميع المراحل التمهيدية والانتقالية المذكورة أعلاه، يُصار إلى:
أ) إقرار قانون انتخابات نيابية على أساس وطني لاطائفي.
ب) انتخاب مجلس نوّاب على أساس وطني لاطائفي.
ج) استحداث مجلس للشيوخ، مع أول مجلس نواب وطني لاطائفي.
لذلك يمكن القول، ووفقاً للتعديل الدستوري الذي جرى عام 1990، إنّ المشرّع لم يكتفِ بما أورده في الفقرة (ز) من مقدَّمة الدستور، من «إنّ إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، بل ذهب أبعد من ذلك، حين وضع آلية لتحقيق هذا الهدف، نصَّت عليها المادة 95 حيث أوكلت إلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، إلّا أنّ هذه المادة رأت أنه من الأفضل خلال الفترة الانتقالية للجمهورية تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاية في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة المختلَطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها حيث تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.
كما يتضح من قراءة المادة 95 من الدستور، أن المشرّع الدستوري حدّد الآلية الواجب اعتمادها من قبل مجلس النواب، لإلغاء الطائفية السياسية، وهي تتضمن شقّين: الأول خطة مرحلية، والثاني تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
ولا عجب، أن يكون تعديل المادة 95 من الدستور قد حاز، في حينه، على إجماع النواب، من دون نقاش، لأن اتفاق الطائف الذي أرسى قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن العدد، إنما وضع ذلك في إطار رؤية للمستقبل تهدف إلى تجاوز الحالة الطائفية عن طريق إلغاء الطائفية السياسية على مراحل. والجدير بالذكر أن النواب، لدى إقرار مقدمة الدستور، من أجل تضمينها المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، ارتأوا تعديل الفقرة (ح) من الوثيقة التي كانت تنص على مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية باستبداله بمبدأ آخر هو إلغاء الطائفية السياسية. حيث أصبحت الفقرة المذكورة في الدستور تنص على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمرون في الطائف على تجاوز الطائفية، نصت الوثيقة على أنه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفية والمذهب في بطاقة الهوية.
وإذا كان موضوع تشكيل الهيئة الوطنية يندرج في سياق التوجه العام الذي توافق عليه النواب، في حينه، بالإجماع، وأصبح موجباً دستورياً ملزماً منذ العام 1992، أي منذ انتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ولكن كيف تُنشأ الهيئة الوطنية، وهل يمكن لها أن تمارس عملها وتقترح على المراجع المختصة خطة متكاملة تنفذ على مراحل؟ وهل ستعمل على إلغاء الطائفية السياسية فحسب، أم أن عملها سيشمل على إلغاء الطائفية برمتها؟ وأساساً هل من المستطاع إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية؟
ففي حين لا يلحظ النص الدستوري آلية محدّدة لتشكيل الهيئة الوطنية، إلا أنه يمكن الأخذ بواحد من أمرين أو الاثنين معاً: فرئاسة الهيئة منوطة برئيس الجمهورية وبالتالي يمكن أن الاجتهاد للقول؛ الرئيس هو الذي يشكلها. كما أن النص قد حدد توقيت تشكيلها بانتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين ممّا يؤدي إلى الاجتهاد بالقول إن صلاحية التشكيل تعود إلى مجلس النواب المُنتخب على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وبذلك يكون مجلس النواب ملزماً بممارسة تلك الصلاحية تطبيقاً لما ورد في مستهل المادة 95 التي تحدثت عن إنشاء الهيئة وليس عن مجرد طرح يرمي إلى إنشائها لأن إجراءات الإلغاء باتت مرتبطة فيها.
أمّا عن مهمة الهيئة، فإنها تقتصر على درس وتمحيص الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، بعمق ودراية وحكمة ومسؤولية، والتوافق عليها حسب النظام الداخلي الذي يرعى أعمالها. وبعد ذلك ترفع الهيئة المقترحات الملائمة إلى كل من مجلس النواب ومجلس الوزراء لإقرارها دستوريًّا، كما تتولى أيضا متابعة تنفيذ الخطة المرحلية التي ينبغي على مجلس النواب وضعها.
وينتج عمّا تقدّم، أن الهيئة الوطنية لا تملك دستورياً أو قانونياً، صلاحية اتّخاذ قرارات نافذة وملزمة تتعلق بإلغاء الطائفية السياسية أي إلغاء طائفية المراكز السياسية، بل إن مهمتها تنحصر في تقديم التوصيات والاقتراحات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية فقط. في حين يبقى المرجع الصالح لإلغاء الطائفية السياسية هما: مجلسا النواب والوزراء، وأن القرار النهائي بهذا الشأن يعود حصراً إلى مجلس النواب لإقرار إلغاء الطائفية السياسية، عبر قانون دستوري، توافق عليه غالبية الثلثين.
وعليه، فإن تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن يعني أن الطائفية قد أُلغيت بل إن مسيرة التفكير والبحث عن أنجع الوسائل لإلغائها قد بدأت. إلّا أن صياغة هذا الأمر على ما يبدو في المادة 95 من الدستور لم تكن واضحة عند الكثيرين. ففيما تذكر المادة المذكورة أن على مجلس النواب اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق «إلغاء الطائفية السياسية» وفق خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، سرعان ما تتحدث في السياق عينه، عن مهمة الهيئة المذكورة في دراسة واقتراح الطرق الكفيلة «بإلغاء الطائفية» وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة، حتى أصبح الأمر بذلك هدفا وطنيًّا، الأمر الذي دفع عدداً من الدستوريين للحديث عن وجود تناقض مقصود أو غير مقصود في المادة 95، أو أقلّه غموض كان من المفترض إيضاحه حول مسألة إلغاء «الطائفية السياسية» أو «الطائفية»، لأن الدستور لا يقدّم إجابات شافية حول هذه المسألة، فبالعودة إلى النصوص الدستورية نرى أن هناك إشارات واضحة إلى الأمرين معاً، أي إلى ضرورة إلغاء «الطائفية السياسية» وإلى إلغاء «الطائفية». ولكن، بين هذا وذاك فرق كبير. فإلغاء الطائفية السياسية يعني كما أشرنا سابقا، إلغاء طائفية المناصب والوظائف والحصص، وإلغاء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي، وإلغاء المناصفة في موظفي الفئة الأولى، وبالتالي إلغاء الديمقراطية التوافقية ليعمل محلها الديمقراطية العددية مقابل ضمان حقوق الطوائف الدينية عبر مجلس الشيوخ.
وفي هذا المجال نشير إلى أن المادة 95 من دستور الطائف، والتي تقترح تشكيل هيئة وطنية مهمتها اقتراح الوسائل الكفيلة بإلغاء الطائفية، وليس إلغاء الطائفية السياسية فقط. والفرق بين الأمرين كبير، فإلغاء الطائفية يعني إرساء ركائز دولة المواطنة المدنية. أما إلغاء الطائفية السياسية فقط يعني إلغاء المساواة عبر تكريس القوة العددية. والمادة 95 نفسها شددت على اعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، بناء على المواطنة، وليس بناء على المحسوبية والزبائنية.
وبرأينا، فإن نص المادة 95 قد أشار بوضوح إلى إلغاء الطائفية أوّلاً، ومن ثم الطائفية السياسية، وهذا يتطلب في الدرجة الأولى اتخاذ خطوات عملية قائمة على بناء المجتمع المدني أو العلماني، فلا بديل من الشراكة إلّا الوحدة، وما دام لبنان متعدد الطوائف والمذاهب فلا يمكن أن يجد وحدته إلّا عبر العلمنة، وهذا هدف حضاري ولكن متعذر التحقيق إلى حد الاستحالة، لأن الأنظمة التي تفصل بين الدين والدولة مطبّقة داخل البيئات ذات الدين الواحد كما هو الحال في المجتمعات الغربية. كما أن البلدان التعددية مثل لبنان لا يمكن، أن تعبر إلى العلمانية إلّا عبر تنشئة وطنية موحدة، وإقرار قانون واحد للأحوال الشخصية تغلب فيه الحرية الفردية وحقوق الانسان التي أقرها الإعلان العالمي في الأمم المتحدة، وعليه فإنّ لبنان لا يمكنه أن يبدأ بإلغاء الطائفية السياسية في السلطة والوظائف في شكل فجائي، لأن ذلك يعرِّض عقد الشراكة الوطنية إلى الانفراط والانهيار، ويفجّر حربا أهلية من جديد.
العائلات الرّوحية
تقوم فلسفة اتفاق الطائف على فكرتين أساسيتين: فكرة ضمانة الجماعات، وفكرة ضمانة الفرد وحقوقه كمواطن، وفي حين يكون ضمان الجماعات موجوداً في مجلس الشيوخ، فإن ضمانة الفرد وحقوقه هي في إلغاء الطائفية السياسية.
وفي حين يستخدم الدستور اللبناني مُصطلح «الطوائف» و «حقوق الطوائف» كما جاء في المادة 95 من دستور 1926 والمادة (10) من حقوق اللبنانيين وواجباتهم، وكذلك الأمر بالنسبة للمادة 9 من الدستور التي استخدمت تعبير «الأديان والمذاهب» في معرض الحديث عن حرية الاعتقاد وحماية الدولة لها، نرى أن اتفاق الطائف قد استخدم أيضاً مصطلح «الطائفة» و «الطوائف» في المادة (24) عند الحديث عن تأليف مجلس النواب، في حين تتحدث المادة (95) عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى والوظائف العامة، قبل أن يعود الاتفاق المذكور ليتحدث عن مجلس الشيوخ كهيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأوّل مرّة تسمية «العائلات الروحية».
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن النظام السياسي اللبناني بأخذه نظام الغرفتين في دستور الطائف إنّما أراد أن يشرك «العائلات الروحية» نظراً لما تتمتع به هذه العائلات من دور هام والإقرار بدورها الوطني، خاصة وأن هذه «العائلات الروحية» تكاد لا تكون أدياناً على قدر ما هي مؤسسات اجتماعية وسياسية وعائلات روحية كبرى اجتماعية بالمعنى الصحيح. فالطابع السياسي أو بالأحرى الرابطة الاجتماعية والعصبية هي الغالبة، ويكاد يكون لبنان على حد قول جواد بولس «اتحاداً فيدرالياً للعائلات الروحية». فكل هذه الوجوه وسواها ممّا تشكله العائلات الروحية من تراث متكاثف منحدر من أقصى سلالم العصور على حد تعبير كمال جنبلاط يضفي على الواقع اللبناني صبغته المميزة الخاصة التي قد لا يماثله بها أي بلد آخر في العالم.
بالمقابل ينظر البعض الآخر إلى مجلس الشيوخ باعتباره المكان المناسب لتمثيل الطوائف الدينية، ليس كمؤسسات سياسية، بل كمؤسسات دينية وثقافية فأسبغوا عليها صفة «العائلات الروحية» التي ترد لأول مرة في نص دستوري، وبذلك يصبح مجلس الشيوخ المكان المناسب «للعائلات الروحية» للبحث في هواجسها ومخاوفها إزاء الكيان ونظام الحكم وسواها وليس مجلس النواب المنتخب عبر قانون غير طائفي، وفي حين يرى الرئيس ميشال سليمان أنه على مستوى مجلس الشيوخ هناك تركيبة يجب أن يُتَّفق عليها لجهة تشكيل هذا المجلس، لأن الدستور يقول بتمثيل «العائلات الروحية» ولا يقول أن كل طائفة تنتخب شيوخها في المجلس، كما أن الدستور يقول بأن الطائفية تنتهي في المجلس النيابي وفي مجلس الشيوخ تمثل «العائلات الروحية»، لكنه لم يقل إنّ المسيحي ينتخب المسيحي والمسلم ينتخب المسلم. ويؤكد الخبير الدستوري حسن الرفاعي أنّ الدستور نص على أنه لأول مرة يطبق قانون انتخاب على مجلس وطني لا طائفي ينشأ مجلس شيوخ على أساس طائفي، فالمادة 24 تنص على أنه بانتظار أن يكون الانتخاب على أساس وطني غير طائفي، تطبق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعندها ينشأ مجلس للشيوخ يكون انتخابه على أساس المناصفة، لا شيوخها على أساس أن تنتخب كل طائفة شيوخها لأن العيوب عينها التي تذكر في انتخاب مجلس النواب في «القانون الأرثوذكسي» تُطبّق إذا طبقنا أن كل طائفة تنتخب شيوخها.
ويقول إن المقصود هو المناصفة، فعندما يتم الانتخاب في المجلس النيابي على أساس وطني لا يعود هناك مناصفة، تبقى المناصفة في مجلس الشيوخ أي نصف للمسيحيين ونصف للمسلمين ولكن لا يجوز ولا يحق وغير صحيح أن يُفهم أن مجلس الشيوخ يمكن أن يُنتخب على أساس قواعد «القانون الأرثوذكسي».
ويشدد على أن هذا القانون المذكور الذي يقوم على انتخاب كل مذهب ممثليه للندوة البرلمانية لا يصلح لا لانتخابات مجلس النواب ولا لانتخابات مجلس الشيوخ إطلاقاً، فمن يقول بتطبيقه في مجلس الشيوخ، أي أن تنتخب كل طائفة شيوخها، المقصود منه الإحالة على المادة 24 أي تطبيق المناصفة والعدالة بين الطوائف.
بالمقابل هناك من يعتبر أن مجلس الشيوخ هو عبارة عن «مجلس فدرالي» أي إنّه يكرِّس فدرالية «العائلات الروحية» في لبنان، فإن إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع «العائلات الروحية» يعني أن هذا المجلس هو طائفي ومذهبي بامتياز حيث تنتخب كل طائفة ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده لكي يتولَّوْا النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديّته، وهذا ما أكد عليه اقتراح القانون المقدّم من النائبين أنور الخليل وإبراهيم عازار لانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي واستحداث مجلس للشيوخ يتألف من ستة وأربعين عضواً وتوزيعها تبعاً للمحافظات والمذاهب ويتم الترشيح على أساسها وتكون مدة ولايتهم ست سنوات؛ يُنتخبون على أساس النظام النسبي على أن تتوزع مقاعده مناصفة بين المسيحيين والمسلمين حيث يعود لكل ناخب أن يقترع للائحة واحدة تضم المرشحين من مذهبه من بين اللوائح المتنافسة من المذهب ذاته والذي رأى فيه البعض تعميقاً لطابع فدرالية الطوائف في المُنتظم السياسي اللبناني، لأنه يقيم إلى جانب مجلس النواب الممثل للأمة جمعاء مجلس شيوخ ممثلاً للطوائف على غرار مجلس الشيوخ الذي يمثل في الدولة الفدرالية الولايات أو الكانتونات أو الدول المتحدة. ونتذكر في هذه المناسبة كلاماً للمعلم كمال جنبلاط الذي يصف لبنان بقوله: «إنه اتحاد فدرالي واقعي للقرى والأقاليم والتقاطيع الجغرافية ما بين جبل لبنان الصغير والمدن الساحلية وقد وُجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية والكانتونات فلم ينجح في لبنان سوى حكم اللامركزية».
إذاً نحن أمام مصطلح جديد مأخوذ عن الفكر السياسي اللبناني الذي يستخدم «العائلات الروحية»، للدلالة على التنوع الديني والمذهبي الذي يتّسم به لبنان وعلى دور أبنائها في المعادلة الوطنية، بغض النظر عن حجمها العددي، ولكنه لا يقرّ «بالعائلات الروحية» كمؤسسات سياسية، وبذلك يكون المشترع قد قصد من هذا المصطلح «العائلات الروحية» استبعاد الصفة السياسية عنها في معرض معالجته لمسألة إلغاء الطائفية السياسية، ولم يكن الأمر مجرد اصطلاح عابر وغير مطابق لنيّة المشترع، وذلك حفاظاً على التعددية الطائفية والمذهبية التي يتسم بها لبنان، الأمر الذي يحتاج برأينا إلى صيغة دستورية تؤمن لكل الطوائف الدينية حصصاً متساوية لطمأنة الأقليات، أي أن يكون لكل من «العائلات الروحية» مقعدان أو أكثر بمعزل عن عددها أسوة بمجلس الشيوخ الأميركي حيث تتمثل كل ولاية بعضوين بمعزل عن حجمها.
ولو افترضنا أن الوظيفة الوحيدة لمجلس الشيوخ هي أن يوفر الضمانات للطوائف التي تتوجس جميعها من إلغاء الطائفية السياسية، وذلك استناداً إلى الدستور اللبناني الذي جعل في مقدمته من إلغاء الطائفية السياسية «هدفاً وطنيًّا»، وحرصه على تحرير التمثيل النيابي والعمل الوظيفي من القيد الطائفي إذ لا بد للطوائف الدينية من ضمانات حتى لا يؤدي ذلك إلى طغيان طائفي أو هيمنة أو أي شكل من أشكال الانحراف الذي ينتج عنه الغبن والشكوى، مع تأكيده أيضاً على ميثاق العيش المشترك بين المجموعات التي تؤلف النسيج الوطني اللبناني، إلّا أن فكرة تمثيل «العائلات الروحية» في مجلس الشيوخ تحت ستار إلغاء الطائفية السياسية يجب أن لا تشكل مناسبة لضرب روحية الميثاق الوطني، وأن تقود إلى فرز اللبنانيين من خلال إقدام المقترعين من الطوائف المتعددة على انتخاب ممثلين لهم من أبناء طوائفهم ومذاهبهم، بل إن الأمر يحتاج إلى مقاربة لبنانية في إطار الدولة الضامنة للوحدة والتعددية، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال من الاندماج في العلاقات اليومية والحياتية.
القضايا المصيريّة
حين نتحدث عن صلاحيات مجلس الشيوخ اللبناني من ضمن الواقع الدستوري الراهن فعلينا أن نجتهد كثيراً لتحديد ما هي القضايا التي تُعتَبر مصيرية، فدستور الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة ما هي صلاحيات مجلس الشيوخ المُقترح، كما أن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، بقيت ضبابية و لا تفيد شيئاً في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.
وإذا كان البعض ينظر إلى مجلس الشيوخ باعتباره أحد وسائل ادارة التنوع اللبناني من خلال الصِّيَغ الدستورية والمؤسساتية، كما يُعتبر بمثابة مؤسسة ضامنة يطمئن الطوائف ويعالج هواجسها، فيصبح من الضروري أن تشمل صلاحياته كل القوانين والمواضيع والقضايا التي تلامس الخطوط الطائفية بين اللبنانيين والمتعلقة بشؤون الطوائف ومصالحها وحقوقها وأوضاعها، على اعتبار أن هناك تاريخاً طويلاً من الرؤى المختلفة والنقاشات المتعددة في مسائل مصيرية بين اللبنانيين وهو ما يمكن أن نسميه «التوجه التعاقدي في التعددية اللبنانية»، وذلك من أجل الحد قدر الإمكان من الخلافات بين الطوائف الدينية من خلال مجلس للشيوخ والذي يوفر لهذه لطوائف الحق في حماية الأساسيات الوطنية لديها في وجودها والحفاظ على دورها داخل المجتمع اللبناني.
لذلك تَعتبر بعض الاجتهادات الدستورية أن المواد الواردة في المادة 65 من الدستور هي نفسها «القضايا المصيرية» التي يجب أن يتناولها مجلس الشيوخ ضمن صلاحياته، وهو ما يؤيده الوزير زياد بارود من خلال دعوته إلى الاستئناس أو القياس على مضمون المادة الآنفة الذكر التي تحدد «المواضيع الأساسية» والتي يتطلب إقرارها موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء باعتبارها عناوين أساسية ولها تأثير على الكيان اللبناني وهي: تعديل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، وقرار الحرب والسلم، والتعبئة العامة، والاتفاقات والمعاهدات الدولية، والموازنة العامة للدولة، والخطط الإنمائية الشاملة طويلة المدى، وتعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وإعادة النظر في التقسيم الإداري، وحلّ مجلس النواب، وقانون الانتخابات، وقانون الجنسية، وقوانين الأحوال الشخصية، وإقالة الوزراء. وبهذه الطريقة يمكن طمأنة اللبنانيين إلى ألّا غلَبَة لفريق على آخر وإنّ أيّة أكثرية لن تستطيع أخذ البلاد إلى ما يخالف مبادئ العيش المشترك والمساواة والمواطنية الكاملة.
بالمقابل هناك من يُدرج تفسير «القضايا المصيرية» في إعطاء مجلس الشيوخ حق التصويت على القوانين المتعلّقة بتنظيم علاقة الطوائف بالدولة على مثال القرار 60 ل. ر. عام 1936، أو قوانين التنظيم المباشر للطوائف الإسلامية والتنظيم غير المباشر للطوائف المسيحية واليهودية، بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالأوقاف ودور العبادة والأديرة والتربية والتعليم فيها. كما يعطى المجلس أيضاً حقّ النظر في جميع الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج ومفاعيله، والبنوّة والسلطة الوالدية، والتبنّي، والوصاية وما يرتبط بها من مسائل. إضافة إلى النظر في الأمور الأخرى التي لها الطابع المصيري والتي يتم تحديدها مُسبَقا، والتي تتضمن القوانين الدستورية وتلك المكمّلة للدستور والقوانين التي تنظم السلطات العامة، والقوانين المتعلّقة بالانتخابات واللامركزية.
ويبدو أن هذا التفسير يتناسب إلى حد كبير مع الأفكار التي طُرحت على الجلسات المتكررة لـ «طاولة الحوار»، برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، فبينما يقول اتفاق الطائف والدستور حول مجلس الشيوخ بأنّ «صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية»، يُنسب إلى أقطاب الحوار تعريف مختلف تماماً لصلاحياته بأنها مرتبطة حصراً بالطوائف اللبنانية في نطاق شؤونها، وبذلك يمسي صورة مطابقة للصلاحية المنوطة برؤساء الطوائف اللبنانية في المادة 19 من الدستور حيال علاقتها بالمجلس الدستوري.
ولكن بالعودة إلى المادة 65 من الدستور نرى أن المشرّع استخدم مصطلح «المواضيع الأساسية» وليس مصطلح «القضايا المصيرية». وبينما يستخدم المشرّع «المواضيع الأساسية» ويحددها في 14 موضوعاً لتحديد النصاب القانوني لتصويت مجلس الوزراء، فإنّه يلحظ مواضيع أخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية كي تُدرج في صلاحيات مجلس الشيوخ.
ولو أردنا أن نجتهد في تحديد طبيعة مجلس الشيوخ اللبناني وتحديد ما هي القضايا التي تعتبر مصيرية، لاعتبرنا أن التطبيع مع «اسرائيل» يعتبر من الأمور المصيرية، وكذلك تعديل الدستور وإعلان حالة الطوارئ والحرب والسلم والاتفاقات والمعاهدات الدولية واللامركزية وإعادة النظر في التقسيم الاداري وقانون الانتخاب وقانون الجنسية وقوانين الأحوال الشخصية، في حين أن «المواضيع الأساسية» الأخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية، وبالتالي لا تنطبق على صلاحيات مجلس الشيوخ، ويمكن أن يثور نقاش وجدل حول أهميتها ومصيريَّتها مثل: تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وحل مجلس النواب، وقانون الانتخاب، وإقالة الوزراء، وموازنة الدولة وما شابه.
ثم إذا نحن أشركنا مجلس الشيوخ في صلاحيات البت بهذه المواضيع الأساسية كلها، نقحمه حكماً بالسلطة التنفيذية ويتحول حكماً إلى مجلس رئاسي، أو مجلس مراقبة تطبيق الدستور، لأن تعيين الموظفين وإقالة الوزراء من أعمال الحكم التي تخضع جزئياً وبشكل ضيّق لرقابة مجلس شورى الدولة كقرارات إدارية، كما أن حصر صلاحيات مجلس الشيوخ في القضايا المصيرية يجعل مصير البلاد هنا، إلى حد كبير، بالتوافق بين الطوائف، مما يجعل فدرالية الطوائف أكثر بروزاً، وقد يشكل أداة تشل الدولة في مواجهة القضايا المصيرية، خاصة إذا كان لممثلي الطوائف في مجلس الشيوخ حق النقض؛ الفيتو.
في مطلق الأحوال، نحن أمام التباس حقيقي حول وظيفة مجلس الشيوخ وعن ماهية «القضايا المصيرية» لا نجد جواباً عليه في نص دستوري تفصيلي ومحدد لدور مجلس الشيوخ اللبناني ومهماته، وصلاحياته، لكن يمكن القول ومن خلال ما ينشر عن دور الغرفة الثانية في الأنظمة الغربية التي يُفهم على أنها «صمّام أمان» تحمي الأنظمة والدول والشعوب من السقوط في متاهات أخطاء وأخطار تهدد سلامة المجتمع وهيبة الدولة، فباستثناء كل من المملكة المتحدة والدول الفدرالية، فإن الغرفة الثانية في البرلمان تنشأ في المراحل الانتقالية لمختلف الأزمات السياسية والاجتماعية التي تتميّز بالانقسامات العميقة في المجتمع، إذ يُعَد تأسيس هذه الغرفة بمثابة الوسيلة المفضّلة للبحث عن الاستقرار وتحقيق التوازن المؤسساتي والسياسي في الدولة، وذلك بحكم أنها تلعب دور المعدّل للتيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الظرفية التي تسعى إلى قلب موازين المجتمع رأسا على عقب. أما في لبنان، فإن أهمية مجلس الشيوخ غير نابعة من تقليده لدساتير أخرى تأخذ بفكرة نظام المجلسين وإنما له خصوصية استثنائية يمكن مقاربتها في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي، وبالتالي التأسيس لدولةٍ مدنية مؤلفة من الطوائف، مما يؤمّن التوازن الطائفي في الحياة السياسية، والحفاظ على تميّز لبنان بتعايش طوائفه، وقيمتة الإنسانية، واستقرار عمل المؤسسات، ويقدّم نموذجًا لشعوب العالم عن إمكانية التعايش الحضاري.
وإذا كان من البديهي القول إنه يجب ألّا يترتب جراء استحداث مجلس للشيوخ حصول أي تضارب في الصلاحيات مع المجلس النيابي القائم، فإن هذا الأمر يتطلّب تحديد إطار عمل مجلس الشيوخ وصلاحياته بشكل واضح كي لا يعرقل العمل التشريعي على غرار ما هو حاصل في بعض البلدان التي تتبع نظام الثنائية البرلمانية. ومن أجل الحد قدر الإمكان من التضارب المحتمل بين صلاحيات المجلسين نصت المادة 22 من الدستور على حصر صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية»، الأمر الذي يجعلنا نستبعد فكرة انضمام المجلس العتيد إلى المشاركة في السلطة التشريعية، خاصة وأن المادة 16 الدستورية مازالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، في حين أن المادة 22 من الدستور لم تلحظ الصفة التشريعية لمجلس الشيوخ، بل حصرت صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية» وهي لا تتعلق بالتشريع العادي لتسيير عمل الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم.
وعليه، يصبح مجلس الشيوخ اللبناني، كما ورد في تفاق الطائف كأحد البنود الإصلاحية السياسية لإخراج النظام السياسي من حالة الطائفية السياسية، وأهميته بأنه لا يهدف إلى تحسين تمثيل طائفة أو أكثر في السلطة على حساب الطوائف الأخرى، بل يسمح بتمثيل الطوائف وتبديد هواجسها ومخاوفها، إذ إنّ صلاحياته تتناول «قضايا مصيرية» تؤمن مشاركة كل «العائلات الروحية» في صوغ القرارات الوطنية. وبالتالي لا تصبح الطوائف الدينية خائفة ومتوجِّسة من بعضها البعض، وبالتوازي تحرير الحياة السياسية من التمثيل الطائفي والمذهبي ممّا يجعل العمل التشريعي أكثر انسيابية والتصاقاً بخدمة الناس بصرف النظر عن الانتماء المذهبي والطائفي.
يتبين من خلال ما تقدّم أن فلسفة «وثيقة الوفاق الوطني» تقترح حلّاً لأزمة لبنان على مرحلتين: تبدأ الأولى بتعديل المادة 95 من الدستور لتلزم أول مجلس نيابي منتخب بعد اتفاق الطائف أن يؤلف هيئة خاصة لإلغاء الطائفية السياسية. كما نصّت على المناصفة في عدد النواب المسلمين والمسيحيين، بعد أن كانت 5/6 لمصلحة المسيحيين، وألغت نسب التمثيل الطائفي في كل الوظائف الإدارية والقضائية والجيش، باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تعتمد المناصفة ولكن دون أن توجد وظيفة حكراً على طائفة معينة. وتبدأ المرحلة الثانية بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وعلى أن يجري تمثيل الطوائف في مجلس للشيوخ الذي يُستحدث على أن يتمتع بصلاحيات واسعة في القضايا ذات الصفة الوطنية.
وإذا كان اتفاق الطائف قد اكتفى حين وصل إلى مشكلة الطائفية الشائكة وذات الجذور العميقة بالدعوة إلى إلغائها، وهي الدعوة التي وردت في كل المواثيق والاتفاقات التي جاءت قبل الطائف، إلّا أن هذا الطرح قد رأى فيه البعض «هدفاً وطنياً رئيسياً» للحد من الطائفية التي غالبا ما تؤدي إلى شلل في الحكم وعدم الاستقرار، وذلك من خلال خطة مرحلية لتحقيق هذا الانجاز تبدأ بإلغاء الطائفية السياسية وتنص على إجراءات يصبح بموجبها الاستحقاق والكفاءة والاختصاص بديلاً عن الانتماء الطائفي كمعايير لتولي مناصب الإدارة العامة (باستثناء المناصب العليا)، وبالتالي انتخاب مجلس للنواب خارج القيد الطائفي، مقابل مجلس للشيوخ يكون بمثابة كفيل واضح لحقوق الطوائف والمذاهب بشكل يسمح بتحويل مجلس النواب من سوق للمقايضة الطائفية إلى مركز سياسي للسلطة السياسية، وتحرير اللعبة السياسية من الخلافات على أساس طائفي ومذهبي حيث يكون المواطن هو المكوّن الأساسي بغض النظر عن دينه.
وبذلك يكون اتفاق الطائف قد رسم نهجاً لتجاوز النظام الطائفي بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي مع إنشاء مجلس شيوخ طائفي، أي تحرير مجلس النواب من التعقيدات الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيداً من الحساسيات الطائفية والمناكفات، حيث يصبح بإمكان اللبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتور) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، ممّا يؤمن حماية المواطن والطائفة والمذهب في آن معاً.