الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مذكرات سلطان باشا

من مذكرات سلطان باشا الأطرش

معاناة المجاهدين في وادي السرحان

الملك عبد العزيز منح حمايته لنا بعد أن اطمأن
إلى عدم مساندتنا خصـــــوم الأسرة السعودية

عرضت بريطانيا علينا وقف الثورة فقلنا: «حرية شعبنا أولاً ولو أردنــا عيش القصور لكنا صالحـــنا الفرنسيين»

تعرض «الضحى» في ما يلي لفصل مهم من كتاب سلطان باشا الأطرش «أحداث الثورة السورية الكبرى» يتعلق بصورة خاصة بالظروف الصعبة التي عاشها المجاهدون في المنفى والصعوبات التي واجهتهم نتيجة للإتفاق الفرنسي البريطاني على تقاسم المنطقة، إذ أدى ذلك إلى التضييق عليهم في المنفى الأردني ما اضطرهم إلى استئذان الملك عبد العزيز آل سعود الإنتقال إلى وادي السرحان في المملكة السعودية حيث كان عليهم أن يواجهوا قيظ الصحراء ونقص الأمطار والمرعى وأن يقتاتوا أحياناً من بعض النباتات والأعشاب الصحراوية عند نقص التموين، وكان على المجاهدين أيضاً مواجهة خطر غزوات البدو، إلا أنهم كانوا قد اعطوا حق الإحتفاظ بسلاحهم للدفاع عن أنفسهم وعن نسائهم وأطفالهم من جرّاء أخطار من هذا النوع.
لكن إقامة الثوار في السعودية بدت محفوفة بتحرشات من قبائل بدو المنطقة التي لم تتخلّص بعد من تقاليد الغزو والثارات القديمة، ومع أن سلطان باشا كان حريصاً على أن يظل بمنأى عن النزاع التاريخي بين الهاشميين والسعوديين، إلاّ أن السعوديين كانوا يتخوّفون من احتمال ميل القائد العام إلى أخصامهم الهاشميين، وهو الذي كان قد انضم إليهم في الثورة العربية ضد العثمانيين عام 1916، وبسبب تخوّف السعوديين من ذلك الامر فقد سعوا إلى ترحيل المجاهدين عن وادي السرحان (القريب من الأردن الذي كان قد أصبح هاشمياً) إلى عمق البر السعودي ، بل إن السلطة السعودية أبلغت سلطان باشا في أحد الأوقات بضرورة تسليم المجاهدين لسلاحهم، وهو ما رفضه قائد الثورة السورية بإصرار، وقد تبع ذلك مفاوضات شارك فيها مستشار الملك عبد العزيز إبن بلدة عبيه فؤاد حمزة وتدخل شخصيات عربية مثل المناضل شكري القوتلي (أصبح رئيس الجمهورية السورية في ما بعد) وهاشم الأتاسي (كذلك أصبح رئيساً لجمهورية سوريا) وأدت تلك المساعي والمفاوضات إلى طمأنة الملك عبد العزيز إلى نوايا الثوار وولائهم للمملكة، وأدى ذلك إلى استقرار العلاقة مع السلطة السعودية واستقرار المجاهدين في وادي السرحان حتى صدور العفو الفرنسي وعودتهم إلى سوريا عودة مظفرة في العام 1937 أي بعد عشر سنوات من حياة المنفى القاسية.
في ما يلي رواية سلطان باشا الأطرش لتلك المرحلة الدقيقة من مسيرة الثورة السورية الكبرى.

عندما طلبت بريطانيا المسيطرة على الأردن ترحيلنا منها قلنا إننا مستعدون أن نلبي رغبتكم, شريطة إعطائنا مهلة كافية نتمكن خلالها من إتمام عملية نقل نسائنا وأطفالنا ومواشينا إلى مكان آخر مناسب جاء جواب المعتمد البريطاني بالموافقة على طلبنا, ولكنه اقترح علينا مقابلته بالأزرق لبحث أمور هامة تتعلق بالموضوع نفسه, فانتقلنا من فورنا إلى الأزرق وجرت المقابلة في جلسة دامت نحو ساعتين, حاول خلالها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتسليم للأمر الواقع من دون قيد أو شرط, ومما عرضه علينا في نهاية الجلسة وضمن لنا تحقيقه دون أبطأ قوله (أن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفل بتقديم قصر خاص لإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة) فأجبته شكراً وقلت له:إن سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنا بقينا في دورنا الرحبة واستجبنا لدعوة الفرنسيين المتكررة بالاستسلام:
إن طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلا على أساس صلح مشرف تتحقق به المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخص بحرية الشعب واستقلال البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبية عنها.
القوتلي يتوسط مع السعودية
وفي أعقاب المقابلة إتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم وشرحت لهم ما آلت إليه أخيراً أوضاعنا بالأردن فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الإتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوتلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية من أجل التفاوض مع جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلاده لاجئين سياسيين.
إعتذر الملك بادئ ذي بدء عن قبول الطلب لكنه عاد فأعلن موافقته وأرسل إلينا برقية جاء فيها:
كانت مشاهد رحيل الثوار وعائلاتهم من الأزرق في صيف 1927 مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانية، وقد ارتضوا بإباء وشمم أن يفارقوا الديار التي كانوا يستأنسون بسكانها قريباً من الأهل والأحبة في ربوع الجبل فسارت قوافلهم المؤلفة من نحو اكثر من الف نسمة باتجاه العمري جنوباً, بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد، الذين قرروا العودة إلى الجبل إثر صدور قرار المفوض السامي (بونسو) بالعفو عنهم وعددهم نحو ثلاثة آلاف نسمة.
في العمري علم الإنكليز أن المملكة العربية السعودية قد وافقت على إقامتنا في ربوعها فأرسلوا إلينا وفداً برئاسة الكولونيل (سترا فورد) للتفاوض معنا من اجل عودتنا إلى الأزرق, فرفضنا عرضهم هذا وقلنا لرئيس وفدهم: لم تعد لنا رغبة في العودة لأنكم لا تحترمون العهود وسوف نقيم بالصحراء التي خرج منها أجدادنا. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتع بحريتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأمم علينا وصيّرتم الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن.
مكثنا في العمري فترة قصيرة ثم انتقلنا إلى غدير الحصيدات (يقع على بعد 20 كيلو متراً عن النبك بوادي السرحان) حيث بتنا ليلة واحدة وفي اليوم التالي توجّهنا إلى (النبك) بوادي السرحان وبرفقتنا مجاهدون من الجبل وكان عددهم 232 مجاهداً بالإضافة الى سبعين مجاهداً من لبنان والمجموع كان 302 مجاهد مع اسرهم وكان المجموع 1360 نفساً، وكان على رأس مجاهدي لبنان والإقليم الذين ارتحلوا معنا الأمير عادل ارسلان.
وصلنا إلى النبك بوادي السرحان في أواخر شهر تموز عام 1927 وجدنا الأرض صحراوية مقفرة، ما خلا نبع ماء عذب يسمى (جوخه) وبضع من أشجار النخيل تضفي على المنطقة جمالاً طبيعياً أخاذاً تبعث بالنفس بتمردها على الجفاف المسيطر- من إرادة المقاومة وعزيمة الصمود.
كان نزولي في الجهة الشرقية من المكان حيث جاورني أقربائي وفريق من المجاهدين ونزل في الجهة الغربية منه رفاقنا الآخرون بينهم الأمير عادل ارسلان، محمد عز الدين، علي عبيد، قاسم أبو خير، وعلي الملحم والمسافة الفاصلة بين الحيين لا تزيد على ثلاثمائة متر.
لقد آوينا أنفسنا في الخيام القليلة التي كانت بحوزتنا ثم اضطر الكثيرون منا إلى استخدام قطع (اللبن) الذي صنعوه من التراب لبناء مساكنهم البدائية الصغيرة واستيراد خشب الحور والقصب بأسعار باهضة من عمان لسقفها.كان علينا أن نتآلف مع المناخ الصحراوي في حياتنا اليومية, وان نعيش متاعب البادية وشقاءها, إلى جانب المتعة بصفائها وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، وأكثر ما كنا نعاني منه في الفصول الإنتقالية (الربيع والخريف) رياح السموم الهوجاء التي تهب عادة من الشرق والجنوب الشرقي فتبدّل من معالم الأرض وتغدو الرؤية خلالها مستحيلة, ثم تكاد عملية التنفس تتعطل لدى الإنسان والحيوان على حد سواء بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء والتي كانت تكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان. استطاع بعضنا استخراج الماء بالحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيل والماشية, واحتطبنا من نباتات (الرّتم) لمواجهة برد الليالي، وكنا نقتات بورق (الطرقة) و(القطف) وثمر (الاصمع) وكل هذا عندما يضعف المدد ويتأخر التموين.
أما الأغنام التي كان أطفالنا بحاجة ماسة إلى لبنها فكانت لا تجد أمامها سوى الحمض والشيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع, تشاركها في الرعية الخيول والإبل التي لم يبق في حوزتنا سوى العدد القليل منها.

موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937
موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937

“عرض الكولونيل الإنكليزي السماح للثوار بالعودة إلى الأردن فقال له سلطان : نفضل العيش في الصحراء التي انطلق منها أجدادنا لأنكـــــم لا تحترمـون العهود “

معاملة كريمة من السلطة السعودية
وبعد أن مضى على إقامتنا حوالي الستة أشهر في وادي السرحان عوملنا خلالها من قبل ممثلي السلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة معاملة طيبة ولقينا من حفاوة استقبالهم وكرم أخلاقهم ما لا يمكن نسيانه مدى الأيام. قدم إلينا الأمير سليمان الشنيفي مندوباً من العاهل السعودي فرحبنا به واكرمنا وفادته ثم فاجأنا بقوله: (امرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها لجمعه وتسليمه ثلاثة أيام) فأجبته قائلاً:سلاحنا شرفنا أيها الأمير فهل من المعقول أن نسلم به ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظروف القاسية والأحوال السيئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة. قال: (إنني مأمور بهذه المهمة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال) وعندئذ قلت له بحزم وتصميم:
«لا نسلّم سلاحنا ما دام فينا عرق ينبض، لقد كنا نتوقع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضد الفرنسيين لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرضونا بالتالي لخطر الغزوات البدوية المألوفة في هذه الأرض القفراء»
وبعد أن تكونت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه فجاءت التعليمات بالإتفاق عليه معنا على ما يلي:
1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحق نقله ضمن المنطقة من دون معارضة.
2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأي نشاط يخل بالأمن أو يخالف الأنظمة والقوانين المعمول بها في المملكة.
وفيما كنا نعمل على إقامة علاقات حسن جوار مع العشائر بالمنطقة حاول شبيب بن كعير شيخ عشيرة السرحان أن يستغل ظروفنا الراهنة فرفض تأدية الحق الذي كان لآل عطا الله عليه قبل نشوب الثورة وكنا نحن كفلاء عقد راية الصلح الذي تم وقتذاك بين الفريقين بل حاول أن يتحدانا بقوله (إذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون أن تتصرفوا هنا في وادي السرحان كما لو كنتم في الجبل فذلك خطأ فادح ووهم كبير يجب أن تتبينوه!) فاضطررنا بعد أن رفض نصح الناصحين إلى احتجاز فرسه ووضع القيد في رجليه إلى أن اعترف بالحق ودفعه إلى صاحبه وهو ثمن بعير (جمل).
لقد كنا نشعر باستمرار أن العراقيل توضع في طريق تمويننا والخطر يتهدد وجودنا في كل لحظة من قبل العشائر المجاورة، فذات يوم أوقف علي عبيد في عمان بأمر من القائد البريطاني (غلوب باشا) وكان مكلفاً بشراء لوازم الثوار وإعاشتهم ولم يطلق سراحه إلا بعد بضعة أيام غير أن أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرت بنا بل كانوا يتحملون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين، ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر فنضطر إلى إلتهام ورق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفي ما كنا نواجه تلك الأزمة الحادة، إذا بالسادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشربالي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة (صرة) من الليرات الذهبية فلم يتمالك المير عادل ارسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها بحدة أمامهم وخاطبهم قائلاً: إن الذهب كله لا يتساوى مع رغيف واحد ينقذ حياة الذين يتضورون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال. أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء. وعلى الرغم من أن أولئك الأخوان لم يكونوا على علم بأننا وصلنا الى تلك الدرجة من العوز والفقر فقد تأثروا غاية التأثر وطيبوا خاطر الأمير وقرروا أن يبقى السيد القوتلي عندنا لنتباحث في إيجاد حل لمثل هذه الأزمة المعيشية التي كنا نعاني منها، في حين عاد العظمة والشرباتي وأديب خير من فورهم إلى عمان ليرجعوا في اليوم التالي ومعهم عدة سيارات مليئة بأكياس الطحين والمواد الغذائية الأخرى التي وزعت بالتساوي على اسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى مقادير العلف للماشية والدواب.

سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو
سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو

نجاح سياسي في سوريا
لقد كانت أخبار ما يجري في سوريا ترد إلينا تباعاً في الصحف أو عن طريق من كان يزورنا ويتفقد أحوالنا من الأخوان. فمن تلك الأخبار قيام الكتلة الوطنية على أنقاض حزبي الشعب والاستقلال اللذين كان اكثر أعضائهما خارج الوطن. يوم ذاك وقد انتمى إليها بعض المستقلين وكذلك موافقة المفوض السامي (بونسو) على انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد فتراجع بذلك عن شروط المفوضية السابقة التي كانت تقضي باستلام الثوار قبل البحث بهذه الأمور وقد فاز مرشحو الكتلة الوطنية بأكثرية مقاعد الجمعية في الانتخابات ثم حصلوا على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة وضع الدستور، ولكن ما إن انتهت هذه اللجنة من وضع مشروع الدستور وتقرر موعد عرضه على الهيئة العامة للجمعية في 7 آب 1928 حتى تدخل المفوض السامي وطلب حذف ست مواد منه والتي لها أهميتها البالغة في تأكيد وحدة البلاد واستقلالها. ولما رفضت الجمعية طلبه في الجلسة المنعقدة بتاريخ 10 آب 1928 اصدر قراراً بتأجيل جلساتها لمدة ثلاثة أشهر ثم انتهى به الأمر إلى تعطيلها إلى أجل غير مسمى، فذلك ما آثار اهتمامنا وجعلنا نوجّه دعوة إلى المجاهدين المقيمين في مصر والأردن لحضور المؤتمر الوطني الذي قررنا عقده بوادي السرحان في 25 تشرين الأول عام 1928 حضره معنا عدد كبير من المجاهدين الذين قدموا من الأردن وفلسطين وخاطبتهم في كلمة الافتتاح قائلاً (وليعلم المستعمرون أن المناورات والمؤتمرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إن الشعب مصمم على الصمود وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية، وكلما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياً في البلاد ازددنا نحن تمسكاً بحقوقنا المشروعة والعمل والصبر على مكاره التشرد والحرمان).

أنباء مقلقة عن غزوة قبلية
ومن الحوادث المروعة التي عشناها بوادي السرحان وكان لها أثر بالغ في نفوس الثوار الحادثة التالية:
خرجت مبكراً من منزلي صبيحة أحد أيام الربيع قاصداً التنزه في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات (الرنم) والأنصع وإذا بإعرابي يقطع البادية على ذلول فلما رآني توجه نحوي وحيّاني وقال: أريد رؤية سلطان قلت له (ماذا تبغي من سلطان تكلم وأنا أوصل أخبارك أليه) قال أنا قاصد سلطان بالذات واحب أن أراه بعيني أكلمه بنفسي قلت له تكلم أنا سلطان. فنزل عن ذلوله وصافحني بحرارة وقال مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أن فرحان بن مشهور (من شيوخ عنزة الرولا) قد قرر غزوكم بستمائة مردوفة (أي بألف ومائتي مقاتل يمتطون ستمائة ناقة أو جمل) وقد أرسلني (بشير بن ضبيعان) الشراري نذيراً لكي لا يأخذكم الغزاة على حين غرة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم) هدّأت من روعه وعدت به إلى البيت ليتناول معي طعام الفطور ثم قلت له: (سلّم على بشير وقل له ابن مشهور لا يجرؤ على غزونا.. وإذا كابر وظل مصمماً على ذلك فسوف لا ينال بغيته ولن يفرح بما سيأتي من اجله. وما إن غادر الإعرابي منزلنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يوم ذاك لا يتجاوز الثلاثمائة مسلح فأحطتهم علماً بالأمر ورحنا نعدّ العدة لمقابلة فرحان بن مشهور.
لقد مرت بنا محن قاسية وخضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤولياتها كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنوية لمواجهة تلك الغزوة الهمجية المفاجئة. أجل لقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين تماماً عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي وكنا نتساءل: هل لفرحان بن مشهور وأشباهه علاقات مشبوهة مع دوائر الاستعمار الفرنسي العليا في الشرق فأغرّتهم بنا ودفعتهم لغزونا؟ وبعد أن رفضنا عروضها بالإستسلام على أساس الإكتفاء باستقلال الجبل وتأكد لها إصرارنا على تحقيق مبادئ الثورة بكاملها؟ كنت أظن وأنا اقلّب أوجه النظر في تلك المسائل مع بعض القادة ورفاق الجهاد أن حالة البؤس والعوز والفاقة التي انتهى أمر المجاهدين إليها في وادي السرحان بالإضافة إلى النقص الكبير في عدد الخيول الأصيلة ومخزون العتاد والذخيرة الذي كنا نشكو منه وصعوبة تعويضه نظراً الى ضعف قدرتنا الشرائية بصورة عامة، إن كل ذلك سيكون له أثره الفعال في مجرى المعركة فأخذت تنتابني الهواجس وأنا أتخيل النهاية المفجعة التي سننتهي إليها نحن وسائر أطفالنا ونسائنا في تلك الصحراء النائية وإذا ما قدر لنا أن نعجز عن صدّ أولئك الغزاة الشرسين ومع ذلك فلم يتظاهر أحد منا بتلك المخاوف والظنون خلال الاجتماعات التي كنا نتدارس فيها مع بقية المجاهدين الخطط الدفاعية الكفيلة بدحر المعتدين. مكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق الممض والتأهب المستمر وإذا بطلائع الغزاة قد بدأت تطل علينا من جهتي الجنوب والشرق مثيرة في سيرها الحثيث غباراً كثيفاً حجب عن كمائننا الاستطلاعية الرؤية الواضحة.
وما هي إلا دقائق معدودات حتى ضج المكان بأهازيج رجالنا الحربية ونخواتهم المثيرة التي كانت تسمع كقصف الرعد من بعيد وبصيحات نسائنا اللواتي خرجن من المنازل وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال الذين لم تتجاوز اعمارهم الرابع عشرة استنفروا وتهيأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة غير آبهين. أما أعيان المجاهدين وقادتهم فقد أخذ كل منهم يتوسط مجموعة مقاتلة لينقل إليها تعليماته الأخيرة المقررة التي يتوجب على بعضها عدم التراجع قيد أنملة عن الموقع المخصص لكل منها ولو بقيت لوحدها في مواجهة الغزاة ويقضي بعضها الآخر تنفيذ خطة هجومية صاعقة تقوم بها مجموعات ثلاث صغيرة من الخيالة لضرب ميمنة الغزاة وميسرتهم ومؤخرتهم في آنٍ واحد عندما يشتدّ وطيس القتال كما سارع فريق مدرب من أبطال المجاهدين إلى مرابض الرشاشات الثقيلة (الهوشكيس) التي أقيمت في مواقع مناسبة على أمل أن يكون دورهم رئيسياً حاسماً في تقرير مصير المعركة، وفيما كنا نتخذ تلك الإجراءات ونقوم بتلك الإستعدادات وسط ذلك الجو الصاخب من الأهازيج الحربية والنخوات الحماسية وإذ بنا نفاجأ قبل أن ينتصف النهار بإنسحاب القوم من مواقع تجمعهم وتواريهم عن الأنظار في أعماق الصحراء. قيل لنا في ما بعد إن فرحان بن مشهور قد هاله ما كنا عليه من يقظة وحسن استعداد لمقابلته فتحول عنا خشية أن يصاب بهزيمة نكراء وقصد فريقاً من قبيلة الشرارات يتزعمه (بخيت درويش) وتقع مضاربه على بعد عشرة أميال من منازلنا بالتقريب فنال منه واستولى على ابله وأغنامه.
وفي أعقاب تلك الحادثة أغارت عشيرة أخرى من الشرارات على مراعي ابلنا فاستاقت عدداً منها قبل أن يتمكن الرعاة من إيصال الخبر إلينا فعقدنا اجتماعاً مع بعض المجاهدين تقرر فيه إرسال حسين العطواني وكنج شلغين للاتصال بحاكم الجوف الأمير عبد الله الحواسي وأحاطته علماً بذلك ثم وجهنا وفداً آخر إلى مدينة الرياض برئاسة أخي علي وعضوية معذى الدهام ونزال أبو شهيل فقابلوا إبن مساعد أمير نجد واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قبل الشرارات وقد اعتذر هؤلاء عن فعلتهم بقولهم: لقد توهمنا أن الإبل عائدة إلى أهل الجبل من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم..أما بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم.

الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان
الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان

“كنا نستجمع قوانا لمواجهة تلك الغزوة الهمجية وقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي”

مساع لترحيلنا عن الوادي
غير أن ابن مساعد هذا لم يلبث أن أرسل قوة بقيادة سالم الشيخ لترحيلنا إلى داخل المملكة بحجة المحافظة علينا وتجنبنا خطر العشائر البدوية المعادية لنا فلم نوافق على ذلك وقلنا للأمير المذكور إننا نفضل الإقامة هنا في الحرّ والقرّ على سكن المدن والتمتع بالحياة الهادئة وسوف نتحمل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كي لا ننسى قضيتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا، ولمّا أصرّ الرجل على تنفيذ مهمته بعناد وتصميم طلبنا منه مهلة قصيرة ندرس خلالها أوضاعنا ورغبات رفاقنا فاستجاب لطلبنا بعد أن استشار رؤساءه وسارعنا بإرسال وفد مؤلف من محمد عز الدين وقاسم الحسنية وفواز حاطوم إلى الحجاز حيث حظوا بمقابلة العاهل السعودي الذي أحاطهم بعنايته وتكريمه وهو أصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته, ولكنهم لم يلمسوا منه تغيراً في سياسة حكومته المقررة. ولعل أسباب إصرار السلطات السعودية على ترحيلنا من مكان تجمعنا بالنبك وتوزيعنا في المناطق الداخلية للمملكة هي الآتية.:
1. الصلات الحسنة التي كانت قائمة بيننا وبين الأسرة الهاشمية منذ نشوب الثورة العربية الكبرى وكذلك علاقاتنا مع عشائر بني صخر وبوجه خاص مع شيوخ العشائر الأردنية كحديثة الخريشي ومثقال الفايز اللذين كانا غير موالين للأسرة السعودية وسلطان العدوان وحمدي ابن جازه وآخرين وقد قدموا معونة تقدر بحمل اكثر من ثمانين جمل تمويناً.
2. ثورة الشيخ ابن رفاده في بلاد نجد وتخوف السعوديين من أن نلعب دوراً مماثلاً لحساب الهاشميين بوادي السرحان.
3. الاستجابة لضغط الدبلوماسية الفرنسية في الشرق التي كانت ترى أنها لا تقوى على قهر الحركة الوطنية المناوئة للانتداب الفرنسي داخل سورية ما دامت على اتصال مستمر بهيئة أركان القيادة العليا للثورة في وادي السرحان وبالشخصيات السياسية التي كانت تعمل بالأردن وفلسطين ومصر والمهجر لصالحها وصالح الثورة السورية الكبرى.
لقد وجب إذاً العمل على إيجاد تقارب فرنسي سعودي على غرار التقارب الإنكليزي الهاشمي ليقوم بنوع من التوازن بين القوى المتصارعة في الشرق يكفل للمملكة العربية السعودية الناشئة أسباب قوتها ومنعتها وبخاصة بعد أن ازدادت الروابط السياسية متانة بين الإنكليز والهاشميين بتتويج الملك فيصل ملكاً على العراق، وبذلنا جهوداً صادقة لإقناع الملك عبد العزيز والسلطات السعودية بأن إقامتنا في وادي السرحان لا تتعدى اللجوء السياسي وان الواجب يدعونا إلى التزام الحياد التام بالنسبة للنزاع الهاشمي-السعودي وان مصلحتنا الشخصية تقتضي ذلك بالإضافة إلى مقتضيات المصلحة العامة وبأن كل ثورة أو حركة عصيان على النظام القائم بالسعودية نستنكره ونعتبره خيانة وطنية تستوجب العقاب الصارم وبأن صداقاتنا لحديثة الخريشي ولغيره من شيوخ العشائر الأردنية لا تعني تحالفاً مقصود به مناهضة الأسرة السعودية. ولما باءت جهودنا تلك بالفشل وظل الشك بأمرنا يساور المراجع العليا قررنا إيفاد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز وإعطائه الأدلة الثابتة على حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وأدبه، فحاول الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطات السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة انه من الأشخاص غير المرغوب بهم فأخذ يتصل عندئذ بالزعماء المصريين شارحاً لهم أحوالنا السيئة بوادي السرحان والأوضاع المؤسفة التي آل إليها أمرنا هناك وكان الصحفيان تيسير ذبيان وعباس المصفي يرافقانه في تنقلاته بين القاهرة والإسكندرية فقابل بالقاهرة مصطفى النحاس باشا واحمد زكي باشا ومحمد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء احمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف الدروز بها في قصيدته الشهيرة التي نظمها في أعقاب ضرب الفرنسيين لمدينة دمشق عام 1925.

احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937
احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937

“خرجت النساء وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد اإارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال دون الرابع عشرة إستنفروا وتهيــّـأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة”

سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان
سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان

عبارات تقدير من أمير الشعراء
فأجابه أمير الشعراء قائلاً: يستحق الدروز المدافعون عن وطنهم وشرف أمتهم أن يهتم بهم الأدباء والمؤرخون وان يخلّد الشعراء ذكرى أعمالهم المجيدة.
وفي الإسكندرية قابل الأمير عمر طوسون وحاول إقناعه بتحويل التبرعات التي جمعت بمصر بإسم ثورة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي إلى أطفال المجاهدين بوادي السرحان فلم يستجب لطلبه. وقد حاولنا في تلك الأثناء أيضاً أن نتصل بفؤاد حمزة كتابة ليبذل ما في وسعه من جهود لدى الحكومة السعودية في سبيل تبديد تلك التهم والشكوك التي كانت تحوم حولنا وتسبب لنا المتاعب المشار إليها فأجابنا بكتابه هذا نصه:
تحية وتكريماً وبعد, فقد تشرفت بكتابكم وسعيت بواسطة بعض رجال جلالته بما كلفتموني به ولي الرجاء بأن تجاب رغائبكم وقد فهمت أن سبب هذا الأمر هو خطيئات وقعت من بعض أناس هناك أساءت لجلالته فالأمل أن لا يصدر من احد ما يعكر الخاطر وأرى انه من اللائق إجراء ما يلزم لمقابلة أو مراسلة جلالته لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب عطفه ويمكنكم تأمين الاتصالات التي كان يوسف العيسمي قد قام بها في مصر، فقد رأينا أن ينضم إثر عودته إلى أخي زيد وعلي عبيد اللذين أنطنا بهما مهمة الإتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبغيرهم من الشخصيات العربية التي كانت تعمل في نطاق المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا جميعاً على إيجاد حل مناسب للازمة التي كانت تواجهنا نحفظ به كرامتنا ويجنبنا الصدام مع أخواننا وبني قومنا في السعودية.
وفي أعقاب ذلك سافر شكري القوتلي على متن طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطاءنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ثم أخذت البرقيات تتوارد على العاهل السعودي من سوريا وبعض البلدان العربية دعماً لوساطة القوتلي كان في جملتها برقية من هاشم الأتاسي جاء فيها ما خلاصته ومؤداه:
إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى ورفاقه المجاهدين بالحسنى لمن الواجبات التي تمليها علينا روابطنا الدينية والقومية نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وان تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة.
لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك مما ساعدنا على الاستقرار.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading