الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

معركة مسيفرة

معركة المسيفرة

(كما رواها أحد الجنود الفرنسيين المشاركين فيها)

شهادة عسكري فرنسي عن بطولات تفوق الوصف
سطرها الثوار في أصعب معارك الثورة السورية

كان الدروز يقاتلون وهم جرحى، إلى آخر طلقة
ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية

بعد المعركة، خسائر الثوار كانت جسيمة

تعتبر معركة المسيفرة بين أكبر وأشرس المعارك التي خاضها مجاهدو الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وقد انتهت تلك المعركة بهزيمة للثوار وخسائر فادحة في الأرواح قدرت بنحو 250 قتيلاً وسقط عشرات الجرحي دون أن يتمكن الثوار من نقلهم فأجهز الفرنسيون عليهم. لكن معركة المسيفرة التي كانت قراراً غير حكيم من بعض المجاهدين المتحمسين ورغم معارضة واضحة من سلطان باشا الأطرش (الذي أدرك بخبرته العسكرية صعوبة الأرض وانكشافها) دخلت التاريخ من باب آخر هو حجم البطولات الأسطورية التي سطرها المجاهدون في وجه جيش أوروبي متفوق جداً عليهم في كل شيء ولاسيما عديد الجيش والأسلحة الرشاشة والثقيلة والمدفعية والطيران فضلاً عن الاستراتيجيا الحربية، وكانت شجاعة المقاتلين الدروز من النوع الذي لا يبالي بشيء ويقبل على الموت بإحساس الذاهب إلى نزهة، وقد عدّها البعض في ما بعد أقرب إلى التهور والحماس غير المنضبط بخطة حقيقية للنصر.
وإذا كان هناك أي شك في أن الدروز بالغوا في رواية البطولات التي سطروها في المسيفرة فإن رواية العسكري الفرنسي غوتيه الذي يعدّ الاستاذ نبيل أبو صعب ترجمة لكتابه «الفرقة الأجنبية» تقدّم تصويراً حياً من الخصم نفسه لتلك البطولات التي فاقت الوصف فعلاً بشهادة الجندي الفرنسي الذي شارك فيها.
رغم ذلك وكما سيتبين من رواية غوتيه عن هذه الملحمة المرعبة فإن الدروز كانوا من دون أن يدركوا على شفا الانتصار فعلاً لأن الفرنسيين المتمترسين خلف أعشاش الرشاشات (وكانوا فعلاً أكثر من أوقع القتلى والجرحى في صفوف المجاهدين) كانوا قد فقدوا معظم ذخيرتهم في انتظار النجدة الموعودة من غاملان وكانوا بدأوا يتحضرون لنهاية مروعة على يد الثوار في ما لو أدرك هؤلاء أن ذخيرتهم نفدت فعلاً وأن الطريق أصبح مفتوحاً أمام هجوم نهائي كاسح.
كان الجنود والضباط الفرنسيون في البدء واثقين جداً من تحصيناتهم بل كانوا مغتبطين بحجم القتل الذي كانوا يوقعونه في المهاجمين المندفعين كالأعصار في كل اتجاه على خيولهم أو زحفاً على بطونهم أو انقضاضاً على المتاريس التي تصليهم النار، كان المجاهدون الدروز في نظر هذا الجيش النظامي كائنات غريبة متوحشة تستحق القتل وليس أناس ذوو كرامة يدافعون عن وجودهم واستقلالهم، لذلك وكما يتبين من رواية غوتيه فإن الفرنسيين كانوا في متاريسهم المحصنة «يتسلون» بقتل المهاجمين ويتهكمون كما لو كانوا في حفلة صيد. وحسب مؤلف كتاب معركة المسيفرة الفرنسي فإن ذخائر الفرنسيين كانت فعلاً على وشك النفاد وأنهم بدأوا يخافون من أن يلحظ الدروز تراجع وتيرة إطلاق النار من جانبهم توفيراً للذخيرة وان يدركوا الوضع البائس الحقيقي للمدافعين فينزلون عليهم كالسيل ويبيدونهم عن آخرهم، بل إن الفرنسيين بدوا كما لو أنهم يعدون أنفسهم لتلك اللحظة الرهيبة عندما فوجئوا هم بانسحاب المقاتلين الدروز فقد بلغتهم أنباء تقدم جيش غاملان لفك الحصار عن القوة الفرنسية في المسيفرة فخشوا أن يقعوا بين نارين، نار المدافعين ونار الجيش الزاحف لنجدة القوة المحاصرة.
لهذا السبب ربما اعتبر المجاهد عبد الرحمن الشهبندر معركة المسيفرة «انتصاراً» لأن الدروز في نظره خاضوا فيها معركة ضارية زاخرة بالبطولات ولأنهم كانوا على وشك أن يقضوا على القوة الفرنسية لولا أنهم اتخذوا في اللحظة الأخيرة قراراً بالإنسحاب، لكن الشهبندر انفرد في رأيه عن كثيرين مثل الدكتور حسن البعيني من الذين اعتبروا موقعة المسيفرة نكسة لمجاهدي الثورة خصوصاً وأنها جاءت بعد نحو ستة أسابيع فقط من انتصار معركة المزرعة الساحق على الفرنسيين.

المعركة
كنا قد أمضينا ثمانية أيام في معسكر غزالة عندما تلقينا الأمر بالإنتقال إلى المسيفرة. كان المطلوب أن نقيم فيها مركزاً متقدماً وأن نصمد فيها بأي ثمن، وقد بتنا الآن مع سريتي الفرقة الأجنبية اللتين انضممنا إليهما في غزالة، نشكل كتيبة. ثمانية عشر كيلومتراً من السير في البلد متتبعين قمم الهضاب، نمشي وسط الغبار محمّلين بأمتعتنا الثقيلة تحت شمس حارقة وفي خط سير محروم من قطرة ماء.
تختلف المسيفرة تماماً عن غزالة فنحن هنا في قلب المنطقة غير الخاضعة. لم تكن القرية سوى تجمع محزن لمنازل بسطوح مستوية حول مسجد مركزي. سكانها القلائل البائسون الذين لم يهربوا كانوا ينظرون إلينا خفية، وسرعان ما سنعلم أنهم يضعون يدهم بيد العدو وبأنهم يزودون الجواسيس الدروز بكل التفاصيل المتعلقة بتحركاتنا وبأعدادنا وعتادنا.
كان الماء يُنقل إلينا من مكان بعيد بواسطة قافلة من الجمال، وكان أسوأ ماء شربته في حياتي، آسناً ونتناً، وكنا حينما يبلغ بنا العطش أشده، نقوم بتصفيته بمناديلنا – حيث كنا نجد عليها بعض الديدان. ما إن وصلنا حتى جلجلت الصرخة المخيفة : «إلى الأسوار ! «
هذه المرة، لن نقيم سوراً وحيداً كما هو الحال في بصرى، بل ستة معسكرات صغيرة متباينة والتي ستحيط بالقرية تماماً بالإضافة إلى معسكر في الوسط. وسوف تُرتب هذه المعسكرات بطريقة تستطيع معها تبادل الدعم في حال الهجوم، وكل معسكر تدافع عنه فصيلتان، بينما سيستقر القائد وهيئة أركان الكتيبة في منزل حصين مبني من الحجارة بالقرب من المسجد، في حين أن سرية الخيالة التي ترافقنا – من فرقة الخيالة الأجنبية، المؤلفة بغالبيتها من القوزاق – سوف تقيم في القرية ذاتها. وبالقدر ذاته تشكل المعسكرات وحدات مستقلة ويجب أن تسهر على أمنها الخاص. فعلى كل مدافع من خلف فتحة رمايته أن يحمي جبهة من خمسة أمتار تقريباً. وبسبب النقص في الأسلاك الشائكة، لن نستطيع مدَّ إلا شبكة رفيعة جداً منها خارج المتراس.
أية مهمة صعبة كانت مهمة بناء الأسوار! كان الطقس حاراً جداً ولم يكن لدينا إلا القليل جداً من الماء، أما الظل فلا وجود له في أي مكان، وحتى داخل الخيمة كان سعيراً حقيقياً. كانت الحصة اليومية من المياه أربع مطرات من سائل آسن وفاسد تحدثت عنه سابقاً. وبما أن نصف الكمية كان يذهب إلى المطبخ فلم يكن يبقى لكل رجل إلا أربعة لترات من الماء يومياً لأجل شربه وغسيله والعناية بعتاده، لم نعد نحلق ذقوننا أو نغتسل مطلقاً. وفي الواقع كنا نفقد نصف الماء في محاولة تصفيته. وسرعان ما أصبح منظرنا مخيفاً بذقوننا الشائكة وشعورنا الطويلة. كان الهواء محمّلاً دائماً بالغبار، كنا نعيش وسط القذارة، لكن بنادقنا كانت مصانة بشكل رائع.
بعد انجاز بناء المعسكر صدرت الأوامر بإعداد مهبط للطيران، فكان ينبغي أن نقتلع الحجارة لمسافة طويلة ونردم الحفر، كنا ونحن المتعبين والعراة حتى الخصر نبدو كقطاع الطرق.
ومن موقعنا، كنا نرى بوضوح موقع السويداء المحاصر بعيداً جداً في الجبل. وما بدا لي، أول مرة، نقطة مضيئة تحت ضوء الشمس، يأخذ اليوم شكل مدينة قوية ترفع فوق إحدى القمم أسوارها العالية. في الوسط القلعة المحاصرة، عالية وبيضاء تحت الراية الثلاثية الألوان، وهذه لا تبدو بالنسبة الى موقعنا أوسع من منديل جيب يخفق مع النسيم بما يشبه الفرح. كنا على اتصال دائم مع الحامية، نهاراً بواسطة المبرقة الشمسية، وليلاً بواسطة منارة ومضية. كنا نستطيع ونحن نعمل، تتبع الإشارات. ولكننا، ونحن الجنود مرتبة، كنا نجهل معاني كل هذه الرسائل، لكننا كنا نعرف أن المدافعين محاصرون حصاراً شديداً وكنا نتخيل المراحل المأساوية – نفتقد الماء أو الغذاء، الجرحى يُحتضرون الخ. . . . وكانت الرسائل تستدعي أحياناً استنفاراً مباشراً، إذ تنطلق من غزالة طائرات قاذفة، تمرّ من فوق رؤوسنا وتذهب لتحوم فوق الموقع، وترمي قذائفها حول القلعة. عندئذ تختفي المدينة والقلعة وسط عواصف من الغبار والدخان ترتفع نحو السماء.
غداة وصول الكتيبة إلى المسيفرة، قمنا باستطلاعنا الأول، ثمة هضبة تواجه معسكرنا، وكانت قنابل طيارينا قد دمرت قرية على السفح المعاكس. كان على مفرزة ما الوصول إلى تلك القرية ومراقبة تحركات العدو. كان الاستطلاع يضم سرية (التاسعة عشرة) وسرية من الخيالة. أما السرية التاسعة والعشرون فقد ظلت في المعسكر.
وما إن اجتازت المفرزة القمة حتى لم نعد نعرف ما الذي يحصل. فقد سمعنا فجأة إطلاق نار كثيف، ثم كانت عودة الاستطلاع حاملين عدة جرحى، وحُمِّلت جثةُ رقيب فوق سرج حصان بالعرض، فقد صادفوا فريقاً قوياً من الأعداء ووقعت معركة حامية. وقد رفض الملازم أول الذي كان يقود المجموعة بحكمة دفع المعركة إلى مدى أبعد وأن يورط رجاله فيها إلى النهاية. وقد قتل الرقيب على الفور فوق ظهر حصانه برصاصة في الرأس. دفناه بعيداً قليلاً عن المعسكر، ووضعنا صليباً بسيطاً على القبر تعلوه قبعته العسكرية.
هذه الطلعة أثارت حماسنا: شعرنا أنها الحرب جدياً. زادت الحراسة ثلاثة أضعاف ونام رماة الرشاشات بالقرب منها ونمت مثل بقية الجنود أسفل السور عند فتحة الرمي الخاصة بي، سلاحي فوق ذراعي، وكمية من القنابل اليدوية عند قدميَّ.
كنا ننام دائماً هكذا، البندقية مربوطة بالذراع، لأن الدروز كانوا ذوي مهارة لا مثيل لها، وتصل الجرأة بهم حد التسلل زحفاً تحت جنح الظلام إلى قلب المعسكرات لينتزعوا بندقية أحد النيام المطمأنين، ثم يختفون بعد ذلك مع غنيمتهم، وليس دون أن يحزّوا تماماً، عنق المسروق. لم نكن نكتفي فقط بإدخال الذراع في الحمالة، بل كنا ننام بالمعنى الحرفي فوق أسلحتنا.
السور المنخفض والمبني على عجل كان يأوي فصيلتين من الكتيبة ورشاشين أي حوالي سبعين مقاتلاً. وكان كل معقل من المعاقل الأخرى محمياً بعدد مساو من المقاتلين. في القرية، القائد وأركان قيادته كانوا يتحصنون في منزل حجري محاط بشبكة من الأسلاك الشائكة بالقرب من المسجد، وكان للخيالة معقلهم الخاص. في الإجمال، ستمائة رجل على الأكثر.
عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، اعتقد رقيب، كان يقوم بجولة على المواقع المتقدمة، أنه سمع دحرجة حجر على السفح الذي يتجه نحو معسكرنا. وضع أذنه على الأرض، وتبين ما يشبه الضجة: أحجار تتدحرج، وجمال ترغي، فأطلق صيحة:« إلى السلاح !».
وطارت الصرخة من فم إلى فم. نهضنا، بنادقنا في فتحات الرمي، كنا ننتظر مستعدين في عتمة ليل جليدي.

بلدة المسيفرة اليوم
بلدة المسيفرة اليوم

في البداية لاشيء
في الليلة السابقة، جرى استنفارنا خطأً. فقد أطلق شاب برتغالي، لا أطول من جزمة، متخلف عقلياً، وهدفه المزاح، صيحة التحذير أثناء نوبته، أطلق رصاصة من بندقيته. فهرع الجميع إلى المتاريس، وأُطلقت القنابل المضيئة، كل ذلك كان بسبب كلب مسكين، هرب يجر ساقه.
واعتقدنا أن الأمر ذاته سيتكرر هذه الليلة، وبدأ الرجال، من بين أسنانهم، ينهالون بأوصاف غير لائقة على أسلاف ذاك الذي أيقظهم. « أقطع يدي إن كانت ستقع أصغر معركة ! « كنت أفكر، في اللحظة ذاتها اخترق الظلمة بريق وأزّت رصاصة فوق رأسي. وفجأة، اشتعل الليل بوميض الطلقات النارية، وغردت سحب من القذائف فوق المعسكر أو انزلقت ناعقة فوق المتاريس. واستطعنا أن نرى في ضوء قنبلة مضيئة، أن سفح التلة والسهل الذي يفصلنا عنها، أي كل الأرض أمامنا اختفت تحت سيل من الأشباح الصامتين، الذين أفرغنا فيهم مخازن بنادقنا، وما إن أدركوا أن القنبلة المضيئة كشفت أمرهم حتى انفجروا في صيحات وحشية.
ونحن أيضاً، أخذنا نصرخ. في المعركة يصرخ المرء دون أن يعرف لماذا. في البداية كنت عصبياً، فالبندقية تحتوي على دافع يجب إعادته للخلف من أجل ملء المخزن، وبعد أن أطلقت رصاصاتي الثماني الأمر الذي لا يستغرق وقتاً طويلاً، أردت إعادة تعبئة المخزن، لكنني نسيت الزر، كل خرطوشة كنت أضعها في بيت الطلقات كانت تُقذف نحو الخارج، أدركت غلطتي أخيراً وبفعل احتدام وهيجان المعركة، كنت أطلق، وأطلق إلى أن صار أستون البندقية يحرق أصابعي. كنت أظن نفسي صامتاً تماماً، ومع ذلك فما زلت أرى الملازم اول فيرنو يقترب مني ويدعوني لعدم الصراخ عالياً مقدماً لي هذه الملاحظة المحقة :«عندما تصرخ على هذا النحو فإنك تدل العدو على موقعك».
كانت المعركة في البداية شديدة الغموض، فالقليل جداً من القذائف المضيئة أطلقت والعتمة حالكة جداً. ولأن العتمة كانت تخططها طلقات العدو بخطوط مضيئة، فقد كنا نردّ باتجاه مصادر تلك الخطوط. وقد نجحت مجموعة من الأعداء في شق طريقها بين المعسكرات واجتاحت القرية. صمد المعسكر المركزي ومقر هيئة القيادة بقوة لكن مقر الفرسان تمّ اقتحامه وجرى ذبح الحامية المؤلفة من تسعة وعشرين قوزاقياً والاستيلاء على جياد سرية الفرسان.
يمكن أن تستولي على الجياد إما أن تقودها خارجاً فهذه قصة أخرى. حينما كان القبليون المتوحشون يعدون عبر أزقة القرية كان الفجر قد بدأ ينشر ضوءه المخضر وبدأنا نرى عبره. الحصان أضخم من رجل ويعرض لأن يكون هدفاً آخر، فكنا نصوب نيران أسلحتنا نحو الأشباح المرئية مع طلوع الضوء. صحيح أنها خيولنا لكن قلما همنا ذلك، فبعد سقوط الحيوان كنا نصوب على الفارس الذي سقط عن ظهره. بالتأكيد تمكن بعضهم من الإفلات من رمينا المتواصل، على الرغم من انشغالنا بأخوتهم الذين كانوا يمطروننا من فوق التلة بوابل من النيران.
طلع النهار تقريباً، وساد جو من السكون. في معقلنا الصغير، أفضل الرماة فقط ظلوا متشبثين بفتحات رميهم حيث كانوا يتبادلون إطلاق النار مع رماة منعزلين، في حين أننا خلدنا نحن الآخرون، إلى الراحة جالسين مستندين إلى المتراس وقد ظن بعض الجنود الجدد أن المعركة انتهت. في الواقع، لم تكن تلك إلا مناوشة بسيطة، مناورة ابتدائية، والتي لاقت بالنسبة الى المهاجمين نصيباً وافراً من النجاح لأنها جعلتنا من دون خيالة.
في اللحظة التي انبلج فيها ضوء النهار تماماً، دوّت مجدداً صرخة « إلى السلاح! » وهرعنا إلى فتحات إطلاق النار.
المشهد الذي ينتظرنا كان خارقاً وقادراً على إثارة الرعب فينا لو لم تكن نشوة المعركة قد أثملتنا سلفاً. فمن أعلاه إلى أسفله، كان سفح الهضبة كله مغطى بموج متلاطم من الدروز الذي بدا وكأنه يسحب الأرض معه في مدّه الجارف. كانوا، ما بين فارس وراجل، خمسة آلاف على الأقل. وكان المشاة يسيرون في المقدمة، تتبعهم مباشرة الخيالة المستعدون للهجوم من خلال الفتحات ما بين المشاة لاستثمار النجاح. كانوا جميعهم يحملون عتاد معركة خفيفاً، دون برنس، فقط جلباب قصير، غطاء رأس ملون يخفق خلف الرقبة. كانوا يلوحون بأسلحتهم ويتقدمون هادرين، يتقدمهم الأمير محاطاً بأربع رايات سوداء واسعة.
حسبت، بداية، أنني أحلم. كان الأمير في المقدمة وسط أربع رايات سوداء، فوق حصان أصيل، يحمل أسلحة تعود للقرون الوسطى: زرد وخوذة مشبكة، كما نرى في المتاحف – أسلحة استخدمت ربما منذ قرون عديدة في الحرب ضد الصليبيين الفرنجة!
وعلى الرغم من دويّ الرشاشات وفرقعة بنادق الليل، فإن مدّ المهاجمين ظل يتمدد بموجات متلاحقة وحملوا بحماس شديد وهم يزأرون مثل الجن: «لا إله إلا الله ! لا إله إلا الله !»
كان هجومهم يشمل كل المعسكرات لكن بدا لنا أنه علينا وحدنا، على معقلنا الصغير ورجاله الستين أو السبعين، تنقضُّ هذه الآلاف من المتحمسين، لم يكونوا مجرد متحمسين، في نهاية المطاف، إذ لم تكن تنقصهم البنادق الجيدة، والذخائر الممتازة وقنابل ألمانية على شكل يد الهاون، يخال للمرء أنه يشهد مباراة بكرة القدم : فثمة سلسلة من الهجمات المتكررة التي لم تترك لنا الوقت لالتقاط أنفاسنا. ومن دون انقطاع، كان زبد أمواج الهجمات ينتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا. كنت أطلق إلى أن تصبح بندقيتي حارقة وتدخن بين يديَّ، عند ذلك أتركها لأقذف القنابل اليدوية بانتظار أن تبرد ثانية.
في غضون ذلك، استطعت أن ألمح مشهداً غريباً ومهيباً. لم يؤد الهجوم الأول إلى الاستيلاء على أيٍّ من مواقعنا، لكنه أوصل المهاجمين حتى القرية على يميننا. تقريباً في وسط القرية، ومن جهتنا كانت تقوم تلعة خندق مشكلّة موقعاً متميزاً. ومثل موجة تتدفق نحو الشاطئ تسلق الأمير الربوة مع راياته السوداء الأربع. هناك، وبعد أن جعل حصانه يدور واقفاً على قائمتيه الخلفيتين أخذ موقعه في مواجهتنا بينما كان حراسه يقومون بغرس الرايات بقوة في الهضبة، تعبيراً عن احتلال نهائي لها. ثم ترجل، وتسلم، هادئاً، تحت الرايات الخفاقة، إدارة المعركة. وسرعان ما امتلأت السطوح المستوية بالرماة المنفردين الذين كانوا يخرقوّننا بالطلقات التي لم نكن نستطيع الرد عليها، لأننا كنا مشغولين بالتصدي للهجمات القادمة من السهل.
من دون انقطاع، كانت الموجات تتلو الموجات، وكان المنحدر الذي يسهل اندفاعهم مزروعاً بالصخور ومحصناً بالحيطان الواطئة التي كان الخصم يلوذ خلفها قبل القفزة الأخيرة في العراء. كالسيل الكبير كان الدروز يهبطون السفح من حجر إلى حجر ومن حائط إلى حائط ليندفعوا بأقصى جهدهم حتى قاعدة متاريسنا، على الرغم من نيراننا القاتلة وقد مات بعضهم في ظلها حرفيا. وقد وجدنا، بعد انتهاء المعركة، أحد هؤلاء المتعصبين متشبثاً ميتاً على المتراس ذاته. إذ لا بدّ أنه هاجم، ودون أي سلاح بيده، مربض الرشاشات، وقضى ويديه المتشنجتين تتعلقان بالحافة الداخلية للمتراس، وكان المتراس مغطى ببقايا دماغه المتناثرة من جمجمته، وقد أحصينا على الجسد المتشنج ثلاثين جرحاً واضحاً.
تمَّ ذلك بعد المعركة بالطبع.
في وطيس المعركة، لم نكن نشغل البال بأي شيء ولم نكن نلقي بالاً للقتلى، فالأحياء هم من كانوا يستأثرون بكل اهتمامنا. فالمدُّ غير المنقطع يهدد في كل لحظة باكتساحنا. لقد كان حصننا الصغير (وهو سور بسيط من الحجر بارتفاع صدر الرجل، مبني على عجل في العشية، ويدافع عنه حوالي سبعين رجلاً تقريباً) يشبه زورقاً صغيراً يتأرجح فوق بحر هائج.
استخدمنا بنادقنا إلى أن وصل المهاجمون إلى مسافة قريبة جداً، عندئذ انحنينا لالتقاط القنابل اليدوية عند أقدامنا ورميها عن كثب على الأعداء، وخلال فترات السكون القصيرة ظل الدروز يطلقون متحصنين خلف الصخور أو الحيطان الواطئة – التي كان أحدها لا يبعد أكثر من عشرين متراً عنا. ثبتنا على طرف أستون البندقية قمع الفوهة الذي يتيح إطلاق القنابل اليدوية وأزحناهم من خلف ملاجئهم، مع دوي الإنفجارات الرهيبة التي كانت تطوح أحياناً في الهواء بأذرع وسيقان مختلطة مع التراب والحجارة. لقد كانت الجلجلة مرعبة: طقطقة رشاشينا التي لم تنقطع ، أزيز رصاص البنادق، صفير القذائف المنزلقة، دوي القنابل اليدوية المرعب ، ودائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينية مبهمة تتعلق بالعذابات الشديدة التي تنتظرنا. وفي المقابل كنا نشتمهم بكل العبارات واللغات المختلفة ونتحداهم للحضور إلى معسكرنا لنريهم ماذا سنفعل بهم.

الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين
الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين

“كانت الهجمات المتلاحقة تنتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا، وكنت أطلق النار إلى أن تصبح بندقيتـي حارقة وتدخن بين يديَّ”

شيئاً فشيئاً، بدأنا نظهر هدوءاً أكثر، وصار الأداء أفضل. كنت أصرخ دون أن أنتبه إلى أن جاء الملازم أول ونبهني للأمر. رميت في هذه اللحظة نظرة خاطفة نحو بودنيي، وهو مجند جديد مثلي، فكان يطلق النيران، وبأعصاب هادئة، من زاوية إحدى تحصينات المدخل، والسيجارة في فمه، فأشعلت انا السيجارة بدوري. ودائماً، بعد ذلك، ظلت السيجارة في فمي. أحيانا، قد يكون عقب سيجارة منطفئ. في ذلك اليوم تزودت بست علب من التبغ وكان كل الرفاق يدخنون وهم يقاتلون.
وبدا أن الوضع بات ميؤوساً منه أكثر فأكثر. صحيح أننا أنقذنا حصننا الصغير، لكننا لم نستطع منع عصابات المتوحشين من الوصول إلى داخل القرية التي امتلأت بهم الآن. وهناك رماة يعتلون السطوح ويمطروننا برصاصهم دون أن نستطيع الرد عليهم، لأنه يتحتم علينا أساساً مواجهة الهجمات المنطلقة من الهضبة أو من السهل، وكانت طوابير المهاجمين المندفعة من أزقة القرية تتحد مع تلك التي كانت تهبط من المرتفعات، ونحن لم نكن نوفر جهداً. فعندما كانت البنادق تحرق أيدينا كنا نرمي القنابل ريثما تبرد ثانية.
وحينما كانت نيراننا تصدّ هجوماً كان الدروز يتراجعون إلى خلف الحجارة والحيطان الواطئة ويوجهون نحونا نيراناً غزيرة. وما إن يرتاحوا قليلاً حتى يستعيدوا حماسهم ومع نخوات قادتهم يندفعون ثانية بعزيمة متجددة، وهكذا لساعات وساعات. وكنا نسمع في القرية فلول الفوج يدافعون شبراً شبراً عن المنازل التي تحصنوا فيها. أما المقر المحصن لهيئة القيادة فكان يطلق النار من جميع فتحات الإطلاق فيه. وكانت الصرخات المخيفة تجعلنا نخشى أحياناً أن يكون القائد وهيئة القيادة قد تمّ اجتياحهم وذبحهم. وكنا ندرك، للحظات، أن المعاقل الأخرى لا تزال صامدة، هي أيضاً -زوارق مسكينة تتراقص وسط المحيط. لكن، في غالب الأحيان، لم نكن نرى إلا ما كان يجري قريباً جداً منا – ومرات عديدة، كانت عيون مقلوبة غارقة تعاني سكرات الموت. وقد استغرقت بعض الوقت قبل أن أعي الواقع تماماً. في البداية، اعتقدت أنني كنت لا أحسن التسديد، لكنني لاحظت أن هؤلاء المتعصبين يستمرون في الهجوم على الرغم من جراحهم ليسقطوا ميتين على أسلاكنا الشائكة. ولم يكن حتى الجرحى منهم يتوقفون عن القتال. فعلى الرغم من جراحهم القاتلة، كانوا يستمرون في إطلاق النار لائذين خلف صخرة، أو حتى في العراء، يطلقون حتى نزعهم الأخير.
عندما تبهرك معركة بين رجلين فإنك تنسى أحياناً المعركة العامة. أتذكر درزياً لم أتمكن من قتله إلا بعد وقت طويل وجهد جهيد. فقد كان يمتطي أحد خيولنا المستولى عليها، كان يعدو منحنياً فوق عرف الحصان مثل هندي أحمر. وبدوت عاجزاً عن إصابته. كنت أطلق عليه دون توقف، ويبدو، دون جدوى. أخيراً، سددت نحو الحصان فأرديته، لكن الدرزي الذي كان سليماً كما يبدو، اختطف بندقيته وأخذ يزحف بأسرع ما يمكنه نحو ملاذ ما. كانت رصاصاتي تثير الغبار من حوله – هل كنت عديم الخبرة إلى هذه الدرجة ؟ لكن مشيته تباطأت أكثر فأكثر: لقد ضبطته، مع ذلك فقد استمر في الزحف حتى انتهى إلى الاختفاء خلف صخرة، وأطلق نحوي، في الحال، رصاصة مسّت وجهي. ومن مكمنه، لم يتوقف عن تسديد ناره نحوي. ركّبت على بندقيتي قمع إطلاق القنابل وأطلقت، في المرة الثالثة، سقطت القنبلة خلف الصخرة تماماً، فأثار الانفجار المرعب بركاناً من التراب والدخان، وعرفت هذه المرة أنني نلت منه.
أتذكر أيضا دقيقة عشتها كما لو كنت في حلم. فقد خرجت فجأة، من أحد الأسوار الحجرية على بعد حوالي ثلاثين متراً على الأكثر، مجموعة صغيرة من عشرة دروز تقريباً وشنّت هجوماً عنيفاً ومزمجراً ومباشراً نحو فتحتي. ما شل قدرتي تقريباً هو أنهم كانوا جميعاً شيوخاً فانين، وكانت لحاهم تصل إلى ما دون أحزمتهم، وعلى الرغم من نيراننا المتضافرة، فإن هؤلاء الغريبين ظلوا يتقدمون، يحرسهم سحر ما. كنت أطلق دون جدوى، وأطلق دون توقف، كنت كما لو كنت أطلق النار على أشباح. ولم تكن نيران جيراني من اليمين ومن اليسار أكثر فاعلية. ووصل المسنون إلى شبكة أسلاكنا الشائكة التي يرثى لها – هي كل ما استطعنا مدّه مساء الأمس – وحاولوا اجتيازها، وعلى حين غرة تهاووا جميعاً. لا شك أنهم كانوا يتلقون الرصاص منذ انطلاقهم من مخبأهم، وأراهن على أن عدداً منهم ماتوا واقفين أثناء هجومهم. وها هم يتمددون الآن متكومين بعد أن كتمنا اختلاجاتهم الأخيرة بعدد من القنابل.
ولأن الذهن كان مشدوداً نحو الخارج لم يكن لدينا الوقت بالتأكيد لملاحظة ما الذي كان يجري داخل المعسكر. أرى ثانية مع ذلك، وبأكبر قدر من الوضوح، القامة النحيلة، والكتفين المتهدلين للملازم أول فيرنو، وجهه المحفوف بذقن لم تحلق منذ عدة أيام، يتنقل ببرود منتصباً مستخفاً بكل ملجأ، يد في جيبه والأخرى تقبض على مسدس آلي ضخم. يصل ويقف خلفك ويشير إلى الرجال الذين يكون من المناسب أن تصرعهم، وحين تنجح في عملك، يربت برفق على كتفك، قائلاً بلهجة راضية : « حلو، إصابة جيدة !» ثم ينتقل إلى آخر، في غضون ذلك يصعد إلى المتراس ويفرغ رشيشه. المساعد الأول كان يتجول بالطريقة ذاتها موجهاً الرمي نحو الجهات الأشد خطراً والتي تأتي منها النيران الأشد إزعاجاً، وكان ضعيفاً أمام القنابل اليدوية، بدلاً من الرشيش كان يحمل حفنة من القنابل يلقيها هو بنفسه حينما توشك الأمور أن تسوء، وحينما يبدو أن الهجوم لا يمكن التصدي له، أو بكل بساطة لتمضية الوقت بين حديثين مع الرجال.
كان المسعف –لم يكن عندنا إلا مسعف واحد– قد حفر مركز إسعاف وسط المعسكر في ظل سور من الصناديق. كان يجتاز البقعة التي أصابها الرصاص لينقل الجرحى ويجرهم إلى حفرته.

“كان هناك دائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينيــة عن العذاب الشــديد الذي ينتــــظرنا”

دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة
دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة

ثم حمل عتاده وجاء مزمجراً يقاتل إلى جانبنا: فأخو الرحمة تحول في الحال إلى شخص فظّ متعطش للدماء. كانت أطقم الرشاشات ترمي بلا انقطاع، وكانوا يعانون من النيران المركزة للرماة المتمركزين فوق السطوح.
حتى الآن كنت أقاتل وإلى يساري الإيطالي مورغاردي وعازف البوق بوهل، وثمة ألماني إلى يميني. وكان كل واحد منا يدافع عن جبهة من خمسة أمتار تقريباً. كنا نقاتل منذ ساعة تقريباً عندما وصل الرقيب راث. كان يقف خلفنا ويوجه طلقاتنا. وخلال إحدى الهجمات، سقطت قنبلة درزية مصنوعة في ألمانيا، عامودياً على السور، وسط المجموعة التي كنا نشكّلها.
رأيت مورغاردي غارقاً في سحابة من دخان أسود، أطلق صرخة، رفع يده إلى عينيه وسقط على الأرض جثة هامدة، وقد انُتزعت قبةُ الجمجمة وانكشف دماغه. الرقيب راث سقط هو أيضاً وأخذ يزحف، مسربلاً بالدم ومصاباً بجرح خطير. بوهل إلى يميني كان ينزف من جرح في الرأس لكنه ظل متشبثاً بموقعه بشراسة.
كان عنف الانفجار قد أطار البندقية من بين يدي. انحنيت لالتقاطها فلاحظت أن عقبها قد تطاير شظايا. وهكذا، فإن جاري إلى اليسار قُتل، وجاري إلى اليمين جُرح، خلفنا، أصيب الرقيب إصابة بالغة، بندقيتي دُمرت، بينما لم أصب أنا بخدش. التقطت بندقية مورغاردي وبدأت بإطلاق النار لأدافع عن جبهة زادت اتساعاً.
أصرّ عازف البوق بوهل لبعض الوقت على البقاء في موقعه على الرغم من الدم الذي كان يسيل على وجهه ويمنعه من الرؤية. عاد المسعف، بعد أن وضع راث في مكان آمن في مركز الإسعاف، لأخذ عازف البوق بوهل على الرغم من احتجاجاته ومقاومته. اختطفت عندئذ بندقيته، أفضل بندقية في الفصيل كله، بندقية جديدة تقريباً كان بوهل يصونها كما حدقة عينه. للحظة، كنت، وسط هذه المعمعة، سعيداً مثل طفل حصل للتو على لعبة جديدة.
بعد مغادرة مورغاردي و بوهل اتفقت مع باريسي صغير يدعى فيري، كان يقف إلى يساري، على إعادة تقسيم الجبهة في ما بيننا نحن الاثنين، الجبهة التي كان يدافع عنها أربعة مقاتلين حتى الآن. كنا نذهب من فتحة إطلاق إلى أخرى لكي نخدع رماة الأعداء وسرعان ما شكلنا فريقاً ممتازاً. كان فيري من سكان ضاحية مونمارتر، كان قصيراً ومربوعاً، وكان القتال يجعله مسعوراً، عيناه جاحظتان، وشارباه منفوشان، كان يكافح بلا كلل، رشيقاً مثل سنجاب – باختصار، كان مقاتلاً رائعاً. بخصوص البندقية، لا يعرف إلا الرمي القاتل، وهو رامي قنابل يدوية لا يقهر، وحركاته سريعة كالبرق، كما ظل سلارسكي، وهو بولوني جريح، لا يستطيع الوقوف على قدميه والرمي، ظل طوعاً إلى جانبنا، جالساً على الأرض، يمرر لنا الخرطوش والقنابل ويكمل الفريق بصورة مدهشة.
لاحظت أيضاً كيف تتفاعل مع المعركة طبائع القوميات المختلفة. فالفرنسيون – مثل صديقي الباريسي الصغير – يبدون ممتلئين حماسة واندفاعاً، لكن تحت مظهر التأثر الشديد، في وطيس المعركة، يظلون في أعماقهم باردين برودة الفولاذ. الألمان يواجهون كل شيء بهدوء أحمق ويتشبثون بعنف ببندقيتهم بقدر ما يتشبثون بصاحبتهم. الروس، قدريون، ولا ينشغلون بالحياة أكثر مما ينشغلون بالموت. أما في ما يتعلق بالطبع الأميركي، فقد كان لدي من الأعمال أكثر مما كان يسمح لي الاهتمام به.
أعود إلى قصتي. سيمون، المساعد الأول تلقى رصاصة في ذراعه الأيمن. تابع، لامباليا بجرحه، جولته وتوجيه رمينا ولأنه لم يعد يستطيع رمي القنابل، فقد تزود برشيش خفيف كان يتسلى من وقت الى آخر بشده إلى كتفه بذراعه الأيسر. الرقيب فيشر، ألماني، أصيب بطلقة في رأسه، ظل يحتضر لفترة طويلة، كان يفتح فمه ويغلقه مثل سمكة أُخرجت من الماء. ضابط آخر، الرقيب الألماني كريريخ، جُرح بطريقة جعلته لمدة طويلة مثار مزاح الفصيل. فقد كان يقف خلف المتراس، كان يوجه أمراً حينما دخلت رصاصة درزية فمه وخرجت من خده الأيمن. ظل واقفاً، يشتم ويبصق بعض أسنانه وحطام فكِّه، رافضاً قبول مساعدة المسعف، قبضته ممدودة نحو العدو، ومصراً على الاستمرار في القتال. وقد لزم ليس أقل من ثلاثة رجال لأخذه إلى مركز الإسعاف، وكم مزحنا معه، منذئذ، بسبب هذه الرصاصة التي ابتلعها وهو يفتح فمه لتوجيه أمر ما.
وكان هناك أيضاً الكثير من الأمور المحزنة. أحد جنود الفرقة والذي أُصيب في صدره، قضى النهار بطوله ليموت، ممدداً فوق التراب. جاء من فصيل آخر قبل الهجوم تماماً، ولم يتعرف إليه أحد. بين حين وآخر، في الوقت الذي كنا نظن أنه فارق الحياة، كان أحدنا يسمعه يغمغم يقترب منه زاحفاً عبر منطقة القصف ليسأله ما الذي يريده و كان الماء باستمرار هو ما يريد: « ماء، ماء ! « ظل يكرر. كان لدينا القليل جداً من الماء، وكنا نموت عطشاً بالمعنى الحرفي. لكن كان هناك دائماً من يُجلسه، يسنده، ويسقيه من مطرته، ثم يعود زاحفاً إلى موقعه. استمر النزف طيلة النهار: كان نزفاً داخلياً يفرغه ببطء من كل دمه. في كل مرة اعتقدنا أنه مات فعلاً، كانت شفتاه تتحركان حركة ضعيفة والرفيق الذي كان يصل إليه زاحفاً كان يسمع الشكوى ذاتها دائماً : «ماء، ماء ! «وهكذا طوال النهار لقد استغرق اثنتي عشرة ساعة ليموت.
نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ( كنا نقاتل منذ الثالثة صباحاً)، توقف العدو، بعد أن صدته نيراننا، فتوقف القتال. إذ توقفت الهجمات الجماعية واكتفى الدروز بالرمي من خلف حجر أو حائط قصير أو من فوق السطوح المستوية.
وبينما ظل أفضل الرماة يحرسون المتراس، خلدنا نحن للراحة متمددين عند أسفل السور. لقد كنا مرهقين بشكل فظيع، وكنا ونحن عراة حتى الخصر، نشبه القراصنة. انقطعنا عن البئر التي كانت تقع في الجهة الأخرى من القرية ولا يمكن الوصول إليها. لم يبق لدينا إلا القليل جداً من الماء في مطراتنا وقد جعلنا العطش مسعورين تقريباً. استكشف الملازم فيرنو الصناديق التي استخدمها المسعف لحماية مركز الإسعاف المعدّ على عجل، فوجد القليل من الماء بين احتياطي الطعام القليل فعمل على توزيعه. وتطوع هيرشكورن، الشاب الفرنسي، للذهاب لإحضار بعض النبيذ. فزحف تحت نيران الرماة من القرية، يحمل سطلاً كتانياً في كل يد، حتى البرميل، ثم عاد بسطليه المليئين تقريباً. وحصل كل رجل على ربعية نبيذ شربها في الحال.
في أثناء هذا الوقت، ركّز رماة النخبة كامل انتباههم على قناصة العدو الذين كانوا قد أهملوا أمرهم كثيراً لسبب بديهي. هؤلاء القناصون الماهرون هم هيرشكورن، فرنسي، بريكس، نمساوي – سيقتل في رساس – ، قسطانوفيتش، روسي أكثرهم طولاً، بولز، ألزاسي، الألماني كوبه، و فيري الباريسي الصغير من مونمارتر، رفيقي في المعركة. وكان هؤلاء كلهم جنوداً قدامى أمضوا ما بين خمس وعشر سنوات في الخدمة وهم فخورون بمهارتهم، ولا يبددون ذخيرتهم هباء. كانوا لا يطلقون إلا إذا رأوا، وكانوا يصيبون هدفهم في كل طلقة، والرجل الذي يصيبونه لا بد رجل ميت.
انضممت إليهم بعد أن تناولت طعامي وسعينا لإجلاء الدروز عن سطوح القرية. لم يكن من السهل إصابتهم لأنهم كانوا دائبي الحركة، لا يظهرون إلا ليقفزوا من سطح إلى آخر. ومع ذلك فقد كان رفاقي ينجحون في إصابتهم إذ كنا نرى عندئذ جثثاً تتدحرج أو أذرعاً تومئ عند حافة سطح مثل دمى مسرح العرائس.
ويقترح أحدهم بأن «نسقط» الأمير. صحيح أن حصانه قد اقتيد بعيداً، لكنه هو نفسه لا يزال واقفاً فوق التلة، محاطاً بحرسه، بينما تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. وافترضت أن الإتيكيت أو آداب السلوك لا تسمح لحراس الشرف لأي أمير أن يبحثوا عن مخبأ لهم ، لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى بتعويذاتهم، أو التعصب الذي يبقيهم هناك. وتحت النيران المحكمة للمونمارتري الصغير وقسطانوفيتش وهيرشكورن وكل الرماة المهرة والكثيرين غيرهم الذين بذلوا أقصى ما لديهم، بدأ الحراس يتساقطون واحداً تلو الآخر. لقد قاوموا جيداً رغم ذلك بمن فيهم الأمير الشبيه بأسلحته بقطعة في متحف. وعندما أصيب بدوره تردد لحظة قبل أن ينهار لم يبق على الهضبة إلا أجساد مختلجة تحت خفقان الرايات الأربع السوداء.
فجأة، تفاقم الوضع سوءاً. فقد تفقد الملازم فيرنو مخزون الذخائر وأصدر الأمر بتوفير رصاصاتنا، ثم جاء هو نفسه يتفقدنا:« اقتصدوا، وحتى كونوا مقترين بطلقاتكم ولا تطلقوها دون جدوى، فقط لتقتلوا. في حالة الهجوم، انتظروا إلى أن يصبح العدو قريباً جداً، فلم يعد لدينا ذخائر.»
يا لها من أخبار مفرحة، في وقت طفق فيه الدروز يستعدون لتجديد هجماتهم! في هذه اللحظة، ثمة هدير في الأجواء يشير إلى وصول سبع أو ثماني طائرات ترمي القنابل على الدروز، ثم تهبط أكثر وترشّ أرض المعركة برشاشاتها. نحن نعرف أن هذا مثير للانطباع أكثر مما هو فعال على الأرض. التصق المحليون بالصخور أو بالحيطان الواطئة، وقوسوا ظهورهم كما تفعل القطط تحت المطر. بعد ذلك رسمت الطائرات دورات أكثر فأكثر انخفاضاً طارت فوق معسكرنا في حين كنا نحن نصرخ مثل المجانين ملوحين بقبعاتنا. والآن وهي تختفي شيئاً فشيئاً في البعيد، متجهة نحو غزالة، نعرف أنها استطاعت تقدير خطورة حالتنا، وأنها بعد عدة دقائق سوف تقدم تقريرها إلى القيادة العامة، سوف يتم إرسال تعزيزات من غزالة. وحسبَنا عشرين كيلومتراً من المسير، أي أن النجدة يمكن أن تصل عند الساعة الرابعة، الساعة الرابعة! لقد بدا ذلك بعيداً بشكل مرعب! وأدركنا أن قدرنا هو رهن لعبة حظ حيث يتعلق الأمر بالعمل على إطالة عمر طلقاتنا الأخيرة حتى وصول التعزيزات. بيد أن الهجوم بدأ ووضع حداً لحساباتنا.

القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين
القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين

 

“دون أدنى شك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونـــــا ً”

أيّا ً يكن المُخطط الذي رمى بالدروز إلى الأمام، من الهضبة المواجهة، فإنه يمتلك ذكاء مرهفاً ويعرف كيف يستخلص العبر من التجربة. فالهجوم الأول مع الفجر شنته فرق في تشكيلات متراصة تركت فيها نيرانناً آثاراً رهيبة. طريقة الهجوم هذه تغيرت. التلة الطويلة الممتدة ما بين الجبال ومعسكرنا التي تنتشر الحملة فوقها تقطعها تماماً حيطان حجرية واطئة، تفصل ما بين الحقول وتشكل وقت السلم أسواراً لحماية أغنام الفلاحين. هذه المرة كان الدروز يستخدمون كل غطاء ممكن. وحدات صغيرة في تشكيل منتشر تلقي بنفسها خلف أحد هذه الحيطان، تطلق النار لبعض الوقت، ثم تندفع أو تزحف نحو الملجأ الأقرب. هكذا كان آلاف المهاجمين يتقدمون غير مرئيين تقريباً مثل نهر تحت الأرض.
كنا حريصين على تنفيذ الأوامر التي يقتضيها الوضع، وكنا نوفر خرطوشنا، ولا نطلق إلا ببطء شديد وحرص أشدّ. معظم الأحيان لم نكن نلمح إلا شكلاً غامضاً يقفز من حجر إلى حجر وكان الباريسي الصغير، الذي لا يزال إلى يساري – بات القطاع المولجون بحمايته واسعاً جداً – يسقط بعض الدروز «على الطائر».
عند أسفل التلة، تمتد مساحة مكشوفة من الأرض يجب اجتيازها قبل الوصول إلينا. حينما صار الدروز فيها فتحنا عليهم ناراً في منتهى العنف دون أن نهتم للذخائر المستهلكة. وقد سقط بعض المهاجمين فوق الأسلاك الشائكة، وحتى عند أسفل متراسنا. عندها كان يجب أن ترى الباريسي الصغير. صحيح أنه كان يرمي بشكل جيد من البندقية، لكن لا مثيل له في رمي القنابل اليدوية. كان الناجون من الهجمات المشتتة يحاولون أن يقاتلوا متراجعين ويختبئون خلف الجدران الأقرب. كان صاحبي الباريسي يحدد موضعهم بعناية ويزيحهم منه برميهم بالقنابل:« ممتاز!» كان يهتف كل مرة. «ممتاز! ».
حينما لم يعد العدو شديد التهديد، التفتنا إلى القناصة الجاثمين فوق سطوح القرية، إلى يميننا. كانوا يتصيدوننا من الأعلى على مهل كان يستحيل أن تفلت منهم. على العكس من هجمات السهل، التي كانت أسوارنا تحمينا منها، وكنا نطلق مختبئين خلف فتحات الرمي، مع خطر أن ينقضّ علينا مع ذلك هجوم نهائي، ويسحقنا في معقلنا الصغير.
كانت الساعات تمضي، مرهقة، في قتال دون توقف، تحت شمس قائظة، وسط الفرقعة والموت والدماء، وقد قلّت ذخائرنا. وسألنا بعضنا بعضاً كم بلغت الساعة. أخيراً حلت الساعة الرابعة، الوقت المحدد في أذهاننا لوصول التعزيزات، واحسرتاه ! لم يصل أي دعم، ولم يتغير شيء. ظل الدروز يطلقون دون توقف. وظل الجحيم ذاته. الساعة الرابعة والنصف. بدأ الرجال يجدّفون بمرارة. ألن يصل الدعم إذاً؟ كان الملازم الأول ينقّب، قلقاً، الأفق بمنظاره من جهة غزالة. هجوم جديد ينطلق من القرية؛ نصدّه. الدروز الجرحى المتناثرون في أرض المعركة يستمرون في إطلاق النار، فنجهز عليهم واحداً واحداً، بعناية دون أن نضيّع طلقة. لكن الذخيرة استُهلكت تدريجياً، على الرغم من الإطلاق المتباطئ، وكان الملازم يرفع أغلب الأحيان منظاره نحو غزالة، لكنه لم ير شيئاً يأتي من غزالة.
تجاوزت الساعة الرابعة بوقت طويل، ودائماً من دون أن تصل التعزيزات. يحصي الملازم الذخيرة للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة يتفحص الأفق، ثم يطلب منا أن نغرز حرابنا في الأرض.
جرّد كل منا حربته من جرابها وغرزها في التراب إلى جانبه،

“كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك”

لتكون تحت يده وليثبتها على نهاية أستون بندقيته، عند تلقي الأمر الأخير حينما سيبدأ الفصل الأخير. أخرج الملازم ذخائر الاحتياطي الأقصى ووزعها على الجميع. وأُخرجت جميع الرشاشات من المعركة، وانتُزعت الطلقات من أشرطتها وجرى تقاسمها أيضاً. حينما انتهى كل ذلك كان معي خمس وعشرون طلقة، بينما كان البعض لا يمتلك نصف هذا العدد، وكان كل منا يملك بعض القنابل اليدوية. وظلت حرابنا المغروزة في متناول أيدينا تنتظر تثبيتها على البنادق، حينما سيصبح العدو في المعسكر وتبدأ معركة المجابهة بالسلاح الأبيض النهائية. وراجت على طول السور كلمة السر التالية: « احتفظ بآخر طلقة لنفسك!» فقد قاتل كل جنود الفرقة القدامى في المغرب ورأوا كيف عُذبَ جرحاهم. وليس من المؤكد أن الأمر سيكون كذلك مع الدروز، لكنهم لا يريدون تجريب حظهم.
وكأن الدروز أدركوا وضعنا الميؤوس، فقد أخذوا يتجمعون من أجل الهجوم الحاسم وكنا نسمعهم عبر أزقة القرية، يصرخون، يهزجون، ويهيجون بجنون رداً على تحريض قادتهم. خلف الحيطان فوق الهضبة، كان يجري الاستعداد ذاته. وكان المشايخ ينتقلون من جماعة إلى جماعة فترتفع النخوات من كل مكان. وبدأ الفرسان المتجمعون خلف المشاة، فوق قمة الهضبة تقريباً، وبعد أن انتظروا ساعتهم هذه طوال النهار، يتشكلون تشكيلاً قتالياً ويهبطون السفح ببطء.
توقفنا عن الرد على نيرانهم نهائياً، ثم تركنا بعض الحراس فقط عند فتحات الرمي لتحذيرنا عند بدء الهجوم النهائي. وجلسنا عند أسفل السور نتروّح بقبعاتنا، غير مبالين تحت قصف كان عنفه دعوة أكيدة للرد عليه. كنا نستند بظهورنا إلى المتراس نتهوى وكأن العدو غير موجود محتفظين برصاصاتنا الثمينة ونعد أنفسنا بربع ساعة أخير سنلعبه بحماس شديد.
هذه السلبية، وهذا الصمت، هما ربما، من ولّدا الشك، والخوف من الوقوع في كمين وأخّرا طلقة الخلاص. ودون أدنى ظل من الشك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونا. لكنهم ظلوا هناك في المرتفعات مستمرين في تحركهم البطيء، بينما كان المشاة منهم يحمسون أنفسهم بالصراخ وبالأهازيج.
إذاً كنا جالسين نتهوّى، حينما أصخنا السمع فجأة، ننظر في وجوه بعضنا بعضاً.
خلفنا، من الجهة المقابلة للهجوم، كانت فرقة ممتدة طويلاً تتسلق نحو إحدى القمم. ومن خلف هذه القمة، البعيدة، كان يصلنا صوت مخمّد، موسيقى خافتة، صوت معدني، ثمة نافخو أبواق هناك! إنهم يدقون نفير الهجوم، بنغمات متسارعة، رشيقة، أخاذة :«إلى الأمام ! » .
يرتفع الصوت ويصبح أكثر وضوحاً. كان يتدفق من فونوغراف ويصبح حقيقياً، يقترب، يتصاعد تدريجياً، ننتفض واقفين مطلقين صرخة قوية. خلف القمة، هناك، أبعد قليلاً، لكن أقرب فأقرب دائماً، كانت الأبواق تردد نشيدها: «إلى الأمام! إلى الأمام! إلى الأمام ! » .
ثم يبدأ إطلاق النار وطقطقة الرشاشات. يسّرع الخيالة الدروز من حركتهم نحو الأمام. فجأة، تسقط مع صفير طويل قذيفة مدفع من عيار 45 مم في قلب معسكرنا تماماً وتنفجر دون أن تجرح أحدا. أهلاً وسهلاً، استقبلت بداية بضحكات صاخبة» هل يحسبون الذين هناك أننا متنا؟ « ندمدم ساخطين. الآن سيل من القذائف كما لو أن بطارية مدفعية تحُكم رميها.
في هذه الأثناء، يضاعف نافخو الأبواق المتجمعون في مكان ما خلف القمة، من صخبهم: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام !» كان الصوت يتضح أكثر، ويزداد قوة، ويقترب أكثر: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام ! »
وفجأة، تحيط بالقمة، في تشكيل منتشر، كتيبة الرماة الجزائريين الثامنة عشرة التي جاءت من غزالة في سير حثيث لنجدتنا. هبطت التلة، وكنست الدروز. خلف الكتيبة لا تزال الأبواق تصدح، تصدح بجنون :» إلى الأمام! إلى الأمام !إلى الأمام! على الأمام ! «
كان الرماة بهيئاتهم الفخمة، واقفين حيناً، منبطحين حيناً آخر، يتقدمون بطريقة لا تقاوم. وكما الدروز، كانوا هم أيضاً يرفعون، وهم يتقدمون، صلاواتهم إلى الله. لكن هذا الإله الذي كانوا يضرعون إليه كان إلهاً فرنسياً، ذا فرق عسكرية منتظمة ومزودة بالرشاشات، في حين أن الدروز المساكين كانوا يتوجهون بنداء واهن إلى إله فارغ اليدين. اجتاح الرماة الآن السهل، وأولئك الذين واجهوا القرية دخلوها وبدأت المجزرة، منزلاً منزلاً، بينما انتشر الآخرون يميناً ويساراً وتسلقوا الهضبة التي شنّ الدروز عبرها هجومهم ولاذوا بالفرار.
بعد أن أطلقنا على الهاربين، في تبادل مسعور لإطلاق النار، رصاصاتنا الأخيرة والثمينة، فتحنا أبواب معسكرنا وتجولنا متسكعين، وأيدينا في جيوبنا.

ما بعد المعركة
ترك الدروز عند انسحابهم قوة لحماية مؤخرتهم ظلت تقاتل بعنف. وقد خاض دروز القرية الذين انقطعوا عن جماعتهم، ساعات طويلة من القتال الدامي : وكان على الرماة، وقد حلّ الليل، متابعة تقدمهم البطيء من بيت الى بيت. كنا نسمع صوت إطلاق النار، والصرخات ونتخيل بسهولة كيف يدور هذا القتال بالسلاح الأبيض حيث لن يرحم فيه أحد أحداً.
أثناء الليل، تمّ تزويدنا بالأقوات والمياه والذخائر واستعاد المعسكر حياته المألوفة. في تلك الليلة، اتخذت الحراسة طابعاً مأساوياً. ففي كل لحظة كانت بضع طلقات نارية، وصرخة، قادمة من جهة القرية، تخبرنا أن الإبادة المرعبة، لكنها الضرورية، ما تزال مستمرة في العتمة. وفي كل لحظة، يبرز شبح : إنه أحد الدروز الناجين من المجزرة ويسعى للحاق بأخوته. لكن عبثاً، لأن طلقات من جميع الجهات سرعان ما تمزق الظل، ويتلاشى الشبح في العدم.
خارج ساعات الحراسة، نغرق منهكين في سبات عميق. ولم تحمل الشمس الطالعة الراحة لنا. فهناك الكثير مما يجب القيام به بعد كل معركة. وقد لاحظت، مع ذلك، أن الجنود المسنين يستيقظون متوقعين حصول أمر ممتع جعل فتحات خياشيمهم تتراقص. وعرفت في ما بعد أنه الأمل بالنهب. من المؤكد، أن العمل لا يعدم بعد المعركة، لكن ليس لجمع الغنائم في ما لو كانت تُراعى أصول القتال.
كنا نبدو كالفزاعات وكانت عيوننا المحتقنة بالدم تغمض من التعب وكان يغطينا مزيج من الغبار والدم وكانت ثيابنا ممزقة، ولم يكن لدينا لا الوقت ولا الوسائل للحصول على شيء من النظافة لأن الحصة الفردية من الماء قد جرى تقليصها أكثر من أي وقت مضى بسبب وصول التعزيزات. عند توزيع مهمات السخرة، كُلفتُ بالموتى، موتانا نحن، داخل المعسكر.
تفقدت إذاً ثياب الموتى من جنودنا الذين سقطوا وهم يقاتلون. أخرجنا من جيوبهم وجمعنا كل تذكاراتهم الفقيرة: مطاو، غلايين، أوراق، وفتشنا أيضاً أمتعتهم. ووضعنا الكل في علب صغيرة سوف يجري إرسالها إلى أسرهم مع قصة موتهم -قصة الهجوم المرعب تحت الشمس الحارقة- أخيراً تمّ نقل الجثث في سيارات شاحنة إلى مقبرة غزالة.
كُلفتُ بعد ذلك بسخرة التموين، فعملت حمالاً، أنقل اللحوم والبطاطا والبصل والفاصولياء ! وبما أنني كنت أطول وأقوى من بقية الجنود فكان يُحكم عليّ غالباً بهذه السخرة الكريهة، السخرة التي يحمل المرء فيها حقاً أثقل الأحمال. وفي الوضع الراهن، كان لهذه السخرة جانبها الحسن وهو إتاحة الفرجة، لذلك جعلتها تطول إلى أقصى وقت ممكن.
ما ظهر لعينيَّ جلياً، بداية، هو العدد الكبير لجثث القتلى الدروز. فقد كانت معزولة في أرض مكشوفة، وكانت مكومة خلف الحيطان والمخابئ مثل ثلج دفعته الريح. وكان يجب أن تروا بأعينكم لتصدقوا. ففي كل لحظة، كان أحدنا يصرخ: هذه كومة جديدة من الأموات خلف هذا الحائط.
في القرية، كان ثمة استعداد قوي بناء على أمر العقيد قائد فوج الرماة الثامن عشر – منقذنا. فقد أمر العقيد أندريا بأن تُصَّفَ كل جثث الأعداء خارج القرية وحولها كلها لتكون درساً قاسياً، وعقاباً لهذه القرية الخائنة التي كانت ادعت الخضوع فتظاهرت بقبول السلطة الفرنسية ودفعت الضريبة، استعان الرماة بأسرى الدروز وتركوا لهم المهمات الأصعب. فالجثث التي أنزلت من فوق السطوح أو رفعت من الخانات( أو الأقبية ) سُحبت عبر أزقة القرية حتى مكان العرض المشؤوم. وفي الوقت ذاته، حُمّلت بقايا التسعة والعشرين جندياً قوزاقياً الذين فاجأهم الدروز وذبحوهم، في شاحنات وأُرسلت إلى غزالة. كذلك سُحبت جيف الأحصنة التي ذبحت في الإسطبلات إلى خارج القرية لتضاف إلى الصفِّ المرعب.
كان اسرى الدروز يعرفون المصير المرسوم لهم وقد ماتوا برباطة جأش، دون أن يرتجفوا أو أن يطلبوا الرحمــة.
هذا العمل أُوكل كما أسلفت إلى الأسرى الدروز، وتحت رقابة الرماة. سمعنا في ما بعد أصوات رشقات داخل القرية. وقد عرفت آنذاك أنه بعد أن أنهى الأسرى عملهم جرى رميهم بالرصاص عن آخرهم بناء على أمر قائد فوج الرماة.
ولا يسعني إلا تقديم تفسير لهذا التصرف. كانت القرية قد خضعت، وأكدت صداقتها، لذا فلا بدّ من النظر إلى هجومها على أنه خيانة. ومن جهة أخرى، فإن الدروز لا يرحمون أحداً وبالتالي لا ينتظرون الرحمة من أحد. فهم يتابعون القتال، حتى وهم جرحى، إلى آخر طلقة لديهم، ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية. كنت الشاهد كذلك على مأساة رهيبة أخرى ارتكبها نصف – مجنون. جندي ألماني، رامي رشاش في السرية الخامسة عشرة، كان «زميله» قد قُتل أثناء المعركة الليلية. ظل طيلة الصباح يقّلب وجوه ثأره. عند الظهر، ملأ مطرته ماء، وحشا مسدسه وقام بجولة في ميدان المعركة، كان يعثر أحياناً بين جثث القتلى على درزي جريح. كان هذا المعتوه يقترب مظهراً كل علامات التعاطف، يُجلس المسكين، يسنده ويقدم له مطرته. وفي اللحظة ذاتها التي يمسك فيها الجريح، الهاذي عطشاً، الوعاء بلهفة، يقوم الآخر بتفجير دماغه بطلقة من مسدسه.
وقد مرَّ وقت طويل قبل أن ينتبه أحدهم للأمر، وأن يلحق أحد الرقباء بالجندي ويعيده. ولن يتمَّ له ذلك بسهولة: فقد لزم زمرة كاملة للسيطرة على المجنون الهائج الذي كان يزبد مسعوراً لأنه لم يستطع أن يثأر لزميله كما يشتهي.
لم يظل زملائي عاطلين عن العمل خلال هذا الوقت. فقد عرفوا، وهم المجربون، كيف يبذلون نشاطاً زاخراً بالوعود – وبالنتائج. فمن المتبع أن يتمَّ بعد كل معركة جمع أسلحة الأعداء المقتولين، لكي لا يستفيد منها الأحياء من رفاقهم.
لم يكن يكفي جمع البنادق، بل يجب عدم ترك أي سلاح مثل المسدسات والخناجر، وحتى المطاوي الصغيرة، الأمر الذي يقتضي زيارة جيوب الأموات. فإذا ما ساعد الحظ يمكن للمرء أن يجد شيئاً آخر، ومن هنا نجاح هذه السخرة لدى ملعوني سريتي العجائز، لذا كنت تراهم يعودون إلى المعسكر محملين بالغنيمة: خناجر دمشقية، سيوف، تحف مختلفة، ساعات وقطع نقدية – كانوا يعرضونها بالدور، بفرح الأطفال!. وكان ديلابورت، صديقي «أبو» المطرتين الذي أنقذني بمهارة كبيرة من تلك الورطة في غزالة، أكثرهم سعادة، على الرغم من أن هيرشكورن وبولز قد حققا نجاحاً كبيراً من جهتهما، وأن سيلفيستر بودنيي، المجند الجديد، لم يكن أداؤه ضعيفاً بالنسبة الى مبتدئ. فقد عثر ديلابورت على مال مدفون في إحدى زوايا الخان: قطع نقدية وجواهر تبلغ قيمتها أكثر من خمسة آلاف فرنك. ولأشهر عديدة، وحيثما أُتيحت له الفرصة، فإنه سيثمل ببذخ ملوكي إلى أن بدد تماماً كل ما كان ربحه على الريق، ذات صباح.
لكن البطل الحقيقي كان صديقي فلوري، الباريسي الصغير الذي قاتل طوال الليل إلى جانبي، فقد كان أنموذجياً تماماً، إذ انطلق في حملته مدفوعاً بالرغبة في تحقيق مجده الشخصي أكثر مما كان مدفوعاً بالطمع بالربح. عاد في المساء محملاً مثل جمل، يجر بجهد بالغ غنيمته : ست بنادق خلفه، وترسانة من السيوف والخناجر وعلى وجه الخصوص البيارق السوداء العتيدة التي قاتل الأمير تحتها حتى الموت.
وقد أثار فعله هذا إعجاب الملازم فيرنو أيما إعجاب، فقدم للفرنسي الصغير نصف مطرة من النبيذ. وسرعان ما أجهز فلوري على جائزته تماماً، وكان محمر الوجه، مترنحاً، عندما دخل إلى المعسكر الكولونيل اندريا، قائد فوج الرماة الثامن عشر الذي كان قد جاء لنجدتنا، ليقوم بزيارة قصيرة لنا. وفي الحال، جمع فلوري، مملوءاً بالحماسة الساذجة التي يبثها النبيذ في طبع خشن، راياته وتوجه نحو الكولونيل مباشرة، قائلاً: « صباح الخير، مون كولونيل» وأضاف قائلاً بصيغة المخاطب المفرد وبلا تكلف: «شفْ لي هذه، مون كولونيل، أليست ظريفة راياتي هذه ؟» فردّ العقيد ضاحكاً: «آه بلى! إنها فعلاً ظريفة وأنت جندي شجاع» وتوجه إلينا: «صباح الخير أيها الجنود، هل كل شيء على ما يرام؟ فيجيب الباريسي الصغير نيابة عنا جميعاً -نحن على أحسن حال، وأنت تعلم، إذا كنت تريد المزيد منها، فما عليك إلا أن تخبرنا». ابتسم العقيد، ثم وقف باستعداد، وقدم لنا التحية الرسمية وتابع جولته ضاحكاً في سره.
في ذلك المساء نعمنا فعلاً بقسط وافر من الراحة. فقد كانت الليلة السابقة مضطربة، مليئة بالصراخ والتحذيرات، وبطلقات نارية يطلقها الرماة على ظلال هاربة. لقد نمنا هذه المرة بفضل الهدوء النسبي نوماً عميقاً.
عندما استيقظنا وجدنا أننا أصبحنا أبطال المعسكر. كانت التعزيزات تتدفق دون انقطاع، وتقوم بحفر الخنادق، كان ثمة تحرك كبير يجري التحضير له. بطاريات مدفعية، قوافل من الشاحنات أو من الجمال تجوب السهل، وكذلك فرق من مختلف صنوف الأسلحة : صباحيون، رماة، قناصة، سنغاليون، فوج سورية والأنصار – فرسان سوريون وحتى فرسان روس من مسلمين شراكسة بقبعات من الفرو. وكانت هناك أيضاً بطاريتا مدفعية من عيار 75 مم مع جنود مدفعية فرنسيين، وبطارية مدفعية جبلية وسدنتها من الملاغاش.
وكنا، وسط كل هذه الفرق، نتفاخر، متسخين: ذقون طويلة، صدور عارية، مسربلين بمزيج من التراب والدم والعرق، وكيبية مائلة نحو الأذن. وقد جاء عقداء وجنرالات لمشاهدتنا : فقد أصبحنا أُلهية المعسكر. لقد حملت الجمال الماء من الآبار الواقعة على بعد عشرة كيلومترات وملأت الخزان الإسمنتي الكبير القريب من القرية، لكن بسبب كثرة القادمين الجدد، ظل الماء شديد الندرة وظل نصيب الفرد اليومي منه قليلاً جداً كما كان يوم المعركة. ولكي لا نبدده كنا لا نغتسل، مفاخرين – وبتُّ أدركُ الأمر اليوم – بسلوكنا الغريب. وقد جاء المجندون الجدد القادمون من فرنسا مع وحدات المدفعية، لمشاهدتنا وكانوا مشدوهين. كنا نروي لهم قصصاً مرعبة ونبيعهم بعض التذكارات. كان الجميع راغبين في ذلك لكن بعضهم فقط كانوا يمتلكون النقود. فقد بعنا سيفاً قديماً بسبعين فرنكاً، وخنجراً بعشرين، لقد اغتنى نهابو السرية.
كنا سعداء بالمغادرة. ففي كل مكان كانوا يكيلون لنا الكثير من الإطراء. وكانت صحف دمشق تروي عن معركتنا قصصاً غزيرة وحماسية ونوَّه الجنرال ساراي بكل الكتيبة على مستوى الجيش ونوّه تنويهاً خاصاً بالسرية التاسعة والعشرين القديمة والصلبة، بينما كنا نعيش نحن متسخين بثياب رثة وسط ركام من الجثث. فأكوام الدروز التي تغطي السهل، والصف المأساوي لإرعاب الخونة عند مدخل القرية، وجيف الأحصنة، كان كل ذلك يسهم في جعل الهواء غير صالح للتنفس.
ألا تقومون إذاً بدفن القتلى من الأعداء؟ سألني أحدهم. فأجبت: لا. وذلك لسبب وجيه هو أن القيام بذلك كان مستحيلاً. فالحملة – ومثل كل حملة استعمارية – كانت مزودة بقوات لا تتناسب مطلقاً مع الهدف الذي ينبغي تحقيقه لدرجة أننا لم نكن نستطيع دفن موتانا نحن إلا بجهد كبير، فما بالك بجثث الأعداء. كانت وحدات المؤخرة تقوم بحرقها حينما تمتلك الوسائل المناسبة.
وماذا عن الجرحى؟ يضيف أحدهم. لم نكن نهتم كذلك بجرحى الأعداء، بسبب استحالة القيام بذلك مطلقاً. فسيارات الإسعاف كانت لا تكاد تكفي لنقل رجالنا. كان الدروز يموتون في أماكنهم أو في الزوايا التي كانوا يزحفون نحوها، من دون أية مساعدة.
يضاف إلى ذلك، أنها كانت حرباً ضارية. فمن الذي اتخذ هذا الإجراء الرهيب؟ أنا لا أعرفه، لكنه كان إجراء ساري المفعول عند دخولنا في المعركة. لم يكن الدرزي ليرحم أحداً وهو لا يطلب الرحمة من أحد. فعلى الرغم من جرحه العميق يستمر في إطلاق النار حتى الخرطوشة الأخيرة، ثم يطعنك بعد ذلك بخنجره، وعندما لا تعود لديه القوة لفعل أي شيء، يموت – ونحن كنا نتركه يموت. تلك كانت طريقتنا في القتال، وحينما أنظر إلى الخلف، أقدر، وحتى الآن أيضاً، أنها كانت الطريقة الوحيدة الممكنة.
كنا إذاً سعداء للخلاص من ركام الجثث، وقد طُرد سكان القرية منها نهائياً، لأنهم شاركوا العدو وناصروه. نحن إذاً، كنا ندير ظهرنا لمكان خال من السكان ومشؤوم، عند انطلاقنا لنجدة حامية السويداء.
ترجمته حالياً.

المسيفرة اليوم
المسيفرة اليوم

” كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك  “

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading