الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نهضة بيروت العثمانية

نهضة بيروت العثمانية

بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى

مقاومة التجار لسلطة والي عكا وحماية الدروز لبيروت
بداية لإزدهار المدينة في منتصف القرن التاسع عشر

عوامل ساعدت على صعود بيروت العثمانية
إصلاحات إبراهيم باشا المصري وتطوير الموانئ ونقل كرسي الولاية من صيدا إلى بيروت وقدوم التجّار الأجانب وهجــرة الرساميل والأفـراد من الجبل بعد أحداث 1964

كانت بيروت في سنة 1882 عاصمة العلوم في المنطقة مع نحو ثلاثة عشر ألف طالب
40 % منهم من النساء مقابل سبعة آلاف في دمشق التي تضم ضعف عدد سكانها

شهدت بيروت منذ منتصف القرن التاسع عشر خصوصاً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وحتى عشية الحرب العالمية الأولى نهضة عمرانية ومدنية وتجارية وتعليمية وإجتماعية وثقافية إستثنائية، جعلت منها أهم المدن التجارية وحاضرة العلوم والثقافة على ساحل المتوسط، ولا تزال آثار تلك الفترة، التي تمت في ظل أوسع حركة للإصلاح السياسي والإداري والتعليمي قامت بها السلطنة العثمانية، ماثلة حتى اليوم، وإن كانت قد ساهمت في نشأتها عوامل أخرى عديدة. فما هي أسباب وعلامات نهضة بيروت تلك، وما هي أبرز النتائج التي نجمت عنها وطبعت المراحل التالية من تطور هذه المدينة التاريخية؟

يغفل كثيرون عن الدور التحديثي الكبير للدولة العثمانية في أواخر أيامها، وهو دور ارتكز أساساً على مقتضيات «التنظيمات»، وعلى قوة المثال الأوروبي وديناميكية القوى المحلية التي أطلقها الحاكم المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، حاكم مصر آنذاك، بين العامين 1830 و1840، والإنجازات العمرانية التي قام بها، كما يعود أيضاً الى إيلاء السلطات العثمانية إهتماماً خاصاً ببيروت وبالولايات العربية.
بعد هزيمة الجيوش العثمانية في البلقان أصبح التفكير السائد في الدولة العثمانية يقول بضرورة تحديث الداخل لمواجهة الخارج، وبذلك توافر مناخ سياسي وفكري مؤات ٍلنهضة المدينة وازدهارها التجاري، لكن تطور بيروت سيستفيد أيضاً في الوقت نفسه من ضغط الدول الأوروبية المتعطشة لأسواق جديدة ولبنى تحتية وإدارية ملائمة، كما سيستفيد من صدام السلطة العثمانية مع محمد علي باشا وابنه ابراهيم، بالإضافة الى حاجة السلطة العثمانية الى موارد اقتصادية جديدة بديلة عن تلك التي خسرتها بسبب خسارة قسم كبير من منطقة البلقان وفي بعض أفريقيا.

جمهورية التجار
يجعل الأب لويس شيخو من العام 1842 تاريخاً مفصلياً شهد دخول بيروت في عهدها الحديث، وهو العام الذي صدر فيه أمر الدولة العثمانية بنقل كرسي الولاية من صيدا الى بيروت، وكذلك جعل اقامة الجند فيها، وهو ما يتأكد من حجم التبادلات التجارية في بيروت بين العامين 1827 و1884، التي اشار إليها الأب شيخو، منهياً قوله بأن بيروت أصبحت «مركزاً للأعمال التجارية لكل سواحل الشام».
في بداية القرن التاسع عشر، كانت عكا هي المركز الإقتصادي والسياسي الأهم بين ولايات السلطنة، فقد كانت المدينة الحصينة مخزناً لمحاصيل القمح والقطن وزيت الزيتون التي كانت ترد من جبال الجليل ونابلس وسهول جنوب دمشق، وكان إزدهار عكا الاقتصادي يعتمد كلياً على نظام الإحتكار في عكا، وكان غالباً ما يفرض بالقوة من قبل حكامها. ولكن بعض التجار في بيروت، في بداية القرن التاسع عشر، بدأ في خرق تلك التجارة الاحتكارية في عكا، وقد أدت جهود الطبقة التجارية في لبنان في مرحلة أولى إلى تكريس بيروت كمرفأ لدمشق، بدلاً من صيدا وعكا.
ويعتبر الباحثون أن مقاومة التجار في بيروت لأوامر السلطة في عكا، وكذلك حماية بيروت من قبل الدروز، البداية الحقيقية لنمو وإزدهار بيروت، ولكن هذا التحدي لم يكن ممكناً لولا القفزة النوعية التي سجّلتها بيروت بإعادة تأهيل مرفأها التجاري، أثناء حكم إبراهيم باشا إبن محمد علي، الذي استقبل طلائع السفن البخارية التي رست على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط مع حلول سنة 1836، وتنبأ، برؤيته الثاقبة، بتحول التجارة العالمية نتيجة اختراع السفن التجارية في ثلاثينات القرن. ولم تقتصر إصلاحات ابراهيم باشا على المرفأ، بل قام بإجراءات أخرى، تتعلق ببنى المدينة التحتية، منها إصلاح الطرقات وتوسيعها، وتجفيف قنوات المياه، ونقل المدافن خارج السور، وإقامة نظام صحي تمثل بمحجر صحي، وإقامة شبكات صحية، وزرع الأشجار وإقامة جهاز للشرطة وآخر للحراسة.
ومنذ ذلك الحين، تطورت التجارة في بيروت تطوراً كبيراً، وثمة شاهد فرنسي يسمي بيروت وللمرة الاولى بـ «جمهورية التجّار»، وما زالت بيروت تتمتع بهذه الصفة حتى اليوم. وفي سنة 1888 تحوّلت بيروت الى عاصمة ولايتها فصارت مركزاً سياسياً إقليمياً عثمانياً.
بالإضافة الى دينامية التجّار المحليين، يعود نمو بيروت الى وصول التجار الأجانب اليها، كما الى هجرة الرساميل والأفراد من جبل لبنان عقب الحرب الأهلية التي دارت سنة 1860 بين الدروز والمسيحيين.

” الإصلاحات العثمانية كانت جذرية واستهدفت تعزيز المساواة بين رعايا السلطنة وإقامة العدل وحكم القانون وتنظيم الدولة والخدمات وحماية الحقوق وبالتالي تمتين الوحدة الداخليــــة ونزع فتيل حركات الإنفصـال ومواجهة مكائد الدول الأوروبيـة “

دور الضغوط الأوروبية
كانت الرأسماليات الأوروبية قد اجتاحت العالم بسلعها وبدفع من البحث المحموم لمصانعها عن المواد الأولية الرخيصة، وكانت هذه الرأسماليات قد غيّرت مجتمعاتها ونقلتها من نظام قديم الى نظام جديد، ومن ثقافة تقليدية الى ثقافة جديدة بورجوازية ومدنية، ومن دول، ذات حكم مطلق، الى دول ذات أنظمة دستورية ديمقراطية، ومن مجتمعات رعاية وتابعين وأقنان الى مجتمع مواطنين ذوي حقوق، ومن حالة أسواق مغلقة ومعزولة الى حالة أسواق وطنية واسعة موحدة ومنفتحة على أسواق العالم.
كانت الحضارة الأوروبية تغزو العالم وتقدّم له أنموذجاً جاذباً في شتى المجالات، في الاقتصاد وقوة الدولة ودينامية المجتمع وفعالية القوانين والمؤسسات واشعاع العلم والثقافة في الجامعات والمدارس والمكتبات والصحف… الخ.
كما تجلّت مظاهر التقدّم الأوروبي في تقدم علم البحار والاكتشافات وتطوير الاساطيل التجارية والعسكرية وتطوير مؤسسات الإدارة والجيش والتنظيم العمراني والمدني وإدخال الطباعة واعتمادها في النشر.
وكانت حركة الإصلاح عموماً الجواب المتوقع لمسار تاريخي لا بدّ منه، وهو مواكبة التحولات الدولية واللحاق بتطور الرأسماليات الأوروبية ذات البعد العالمي الحتمي وكان الضغط على الدولة العثمانية يذهب في اتجاه السيطرة على الأسواق وطرق المواصلات داخل المجتمعات العثمانية.
بالإضافة الى تصاعد دور بيروت التجاري وضغوط الدول الأوروبية ودور القوى المحلية، جاءت الإجراءات التحديثية العثمانية متوافقة مع التعليمات والمبادئ التي نصتّ عليها «التنظيمات» .

التنظيمات
كشفت التدابير الإصلاحية عن تدرج العثمانيين في وعي أسباب الانحطاط، من المستوى العسكري، الى المستوى الاقتصادي، الى المستوى الديني، الى المستوى الإداري والقانوني والمؤسسي، الى مستوى العلاقات بين الدولة والمجتمع، وهو الذي تجلّى في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بالوعي الدستوري، أي الوعي بالمواطنة والمشاركة والتمثيل كبديل عن وضعية الرعية والحاكم المنفرد.
في هذا السياق، تشكّلت المشاريع الإصلاحية العثمانية المتلاحقة وآلت التوجهات الإصلاحية الى قيام مرحلة زمنية عرفت بمرحلة التنظيمات وامتدت من 1839 الى 1876.

المحطة الأولى: تمثّلت موجة الإصلاحات الاولى بـ «خط كلخانة» الذي أعلنه السلطان عبد المجيد سنة 1839، وقد شدّد هذا الخط (أي التشريع) على الأمور التالية:
1. منع التعديات والتسلط على النفوس والأملاك، كل فرد يكون مالكاً أمواله وأملاكه ومتصرفاً بها بكمال حريته.
2. توجهات لإصلاح الإدارة والقضاء مع التركيز على الأمور التالية:
– جباية شرعية للأموال، وإلغاء نظام الإلتزام الضرائبي.
– القضاء على الرشوة.
– مجلس الأحكام العدلية هو الذي يسن القوانين بعد أن يوافق عليها السلطان.

المحطة الثانية: الخط الثاني «خط همايون» 1856، وقد شدّد على المساواة والحريات الدينية ومن بنوده:
– السماح للطوائف غير الإسلامية بممارسة شعائرها وبناء معابدها.
– المساواة في المعاملة بين جميع الطوائف ومنع استعمال الألفاظ التي تحطّ من قيمة غير المسلمين وتأمين الحرية الدينية لأهل كل مذهب.
– فسح المجال أمام الرعايا كلهم لخدمة الدولة في وظائفها.
– إنشاء محاكم مختلطة للفصل في القضايا المدنية والجنائية، أي فصل المحاكم المدنية عن المحاكم الشرعية التي تعنى بشؤون الأحكام الشخصية.
– المساواة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق والواجبات.
– السماح للأجانب بالتملك.
– منع نظام الإلتزام (مرة أخرى)
– وعد بإنشاء مجلس عالٍ لرؤساء الملل.
– وعد بإجراء إصلاحات شاملة في مجالات المالية والمواصلات والمعارف والزراعة والتربية.
وكان الحكام العثمانيون أثناء تلك القرارات وقبلها وبعدها يعهدون الى لجان مختصة بإعداد القوانين التنفيذية التي تضمن تطبيق مبادئ الإصلاحات. وفي هذا الإطار نشر قانون الأراضي سنة (1857) وقانون الطابو (1871)، وكان العثمانيون في ذلك ينقلون عن القوانين الأوروبية وخصوصاً الفرنسية، ناظرين في الوقت نفسه الى عدم مخالفة تلك القوانين أو أي من أحكامها للنصوص الشرعية. وفي عهد السلطان عبد العزيز (1861 – 1871) استمر تحديث القوانين ووضعت «مجلة الأحكام العدلية» ليعمل بها في المحاكم النظامية التي أنشئت، وكان جارياً إصلاحها.
نظر العثمانيون في سائر ما تقتضيه مسيرة الحضارة، وما سارت دول أوروبا عليه من قوانين خاصة، فوضعوا قانون التابعية العثمانية، وقانون ترتيب المحاكم الشرعية، والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظام الملكيات الأميرية، ونظام إدارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاماً للمعارف، ونظاماً للمطبوعات، وأنظمة أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظاماً للطرق والمعابر، والحاصل أنهم لم يتركوا شيئاً من لوازم إدارة الملك إلا ودوّنوا له قانوناً.
استغرقت محاولات الإصلاح العثماني حقبات طويلة من الزمن، قبل أن تتمكن من تحقيق إنجازات في عصر التنظيمات أواسط القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من البطء، فإن الإنجازات كانت واسعة النطاق وراسخة، وفي ضوئها يمكن فهم التطورات التي طالت السلطنة والخلافة ومجتمعاتها.
نرى في توجهات التنظيمات ظلال الإنجازات الغربية المادية والرمزية، وعلى الأخص تطوير الزراعة والمواصلات والمالية والإدارة وإصلاح النظام الضريبي من جهة، ووضع حدّ للإمتيازات الإقطاعية وإطلاق الحريات الفردية بما في ذلك حريتا التملّك والمعتقد، وإعلان المساواة بين المواطنين في المعاملة والوظيفة، ووضع أسس التقاضي المدني بين رعايا الدولة، ما خلا التقاضي في الأحوال الشخصية. كما تلاحظ فيها الامتيازات المعطاة للأجانب، فأتت هذه التنظيمات بمعظم مضامينها منسجمة مع التطور الرأسمالي، وما يفرضه من حريات ليبرالية محلية ودولية، مع اهتمام خاص بمساواة المواطنين في المعاملة والوظيفة، بما يضمن للأقليات الكرامة والمشاركة في الإدارة.

المحطة الثالثة: إعلان دستور 1876 وتتصل بمسألة المشاركة في الحكم والوعي الدستوري.
كان لا بد لهذه التنظيمات، التي صدرت من فوق، وبإعلان من الإرادة السلطانية، أن تؤول الى مبدأ المشاركة، وإلى ضرورة وجود قانون أساسي للحكم، ينظم العلاقة بين الهيئة الحاكمة والرعية، عبر تمثيل برلماني، وكان على رأس هذا التيار النخبوي مدحت باشا الذي تبوّأ مناصب رفيعة في الدولة، وكان والياً على سوريا، ثم والياً على بغداد، ثم أسند اليه السلطان عبد الحميد الثاني في سنة 1876 منصب الصدارة العظمى، الأمر الذي أتاح لمدحت باشا إقناع السلطان بإعلان القانون الأساسي الذي كان قد أعدّه في أجواءٍ من تداول الأفكار وتطارح برامج الإصلاح على امتداد عواصم الدولة العثمانية ومراكز ولاياتها آنذاك.
أعلن الدستور في 19 كانون الأول 1876، ولكن السلطان ما لبث، بعد سنة من التجربة، أن علّق الدستور وحلّ البرلمان في 1878، أي بعد عامين وبضعة أشهر من إعلانه، متذرعاً بالحرب الروسية العثمانية، إلا أنه وهو الذي كان يحضر بعض جلسات البرلمان ما لبث أن ضاق ذرعاً بالطابع البيزنطي للجدالات والمناظرات، كما أنه بدأ يلمس مزيداً من التجرؤ من قبل النواب على مقام السلطان، وكان عبد الحميد يعلم جيداً أن تجربة الدستور جاءت بضغط منسق من الدول الأوروبية في الخارج ومن القوى الليبرالية والمستغربة في الداخل، وأن توقيتها كان سيئاً لأنه تمّ في وقت كانت السلطنة مهدّدة بالقوات الروسية التي تقف على تخومها، وهي بالتالي في حاجة إلى مركزية قوية وسرعة في القرار، وليس إلى ترف المماحكات السياسية.

” لم تكن بيروت في سنة 1834 تعد اكثر من 20.000 نسمة عندما أنشأ إبراهيم باشا لها مجلساً من 12 عضواً، وُزعت فيه المقاعد مناصفة بين المسيحيين والمسلمين “

مكتب البريد العثماني - بيروت 1890
مكتب البريد العثماني – بيروت 1890
إطلاق القوى الإجتماعية المحلية
هزم أحمد باشا الجزار نابليون على أسوار عكا سنة 1799، لكن ما لم يقدر عليه نابليون قدر عليه ابراهيم باشا إبن والي مصر، الذي سيطر بقواته على كامل بلاد الشام من سنة 1830 حتى سنة 1840، وخلال عشر سنوات تلقى المشرق تأثيرات التجربة المصرية، إذ أنشأ إبراهيم باشا في المدن مجالس مشورة، كانت عناوين لتبدل في السلطات المحلية المدينية، وتشكلت المجالس من ممثلين للأهالي وضمت المسيحيين واليهود.
لم تكن بيروت في سنة 1834 تعدّ اكثر من 20.000 نسمة، ومع ذلك، وعلى غرار المدن الكبرى الواقعة تحت الاحتلال المصري، أقيم فيها مجلس من إثني عشر عضواً، بأمرٍ من ابراهيم باشا، وُزعت فيه المقاعد مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وكان المندوبون كلهم من التجّار الذين عينوا من قبل إبراهيم باشا، وكان هذا المجلس يبعد عن مفهوم الديوان التقليدي للولايات العثمانية ويفترض به أن يؤازر الحاكم، وزوّد هذا الجهاز بديوانين خاصين، مهمة الأول الإهتمام بالصحة العامة والثاني بالتجارة. وكان هذا الجهاز فاعلاً ومنظماً ويشرف على إدارة الأعمال اليومية في المدينة. وهكذا ازدادت خلال سنوات الحكم المصري التدخلات الأوروبية السياسية، وتوسعت شبكات التجارة والمصالح الإقتصادية، وبالتالي أطلقت الحملة المصرية على المشرق، القوى المحلية من عقالها، الأمر الذي ستظهر تردداته في العقود اللاحقة حتى مطلع القرن العشرين.
وبعد انسحاب المصريين، وسعت الدولة العثمانية العائدة سنة 1840 العمل بالمجالس تبعاً للتنظيمات، فصار لكل مدينة عدد محدد من الهيئات الإدارية والبلدية والقضائية التي رفعت تمثيل الأهالي، وأطلقت قوى إجتماعية جديدة. وكان لهذه الهيئات دور هائل في إدارة نهضة بيروت، ويجوز بالتالي، اعتبار هذه الظاهرة سمة مشتركة بين أسباب نهضة بيروت وعلامات ومؤشرات هذه النهضة، أي أن اشتراك القوى المحلية في الإدارة جاء عملاً بنماذج الحكم الأوروبية وتحقيقاً للمثال الديمقراطي، وهذه الخطوة أدت بدورها الى تسريع وتنشيط نهضة المدينة.
شارع الأمير بشير وكنيسة ما مارون 1890
شارع الأمير بشير وكنيسة ما مارون 1890
” عرفت بيروت في عهد السلطان عبد الحميد إنجازات هندسية كبيرة وفق تنظيم مدني صارم
وضع حداً للفوضـى العمرانية وفرض العمل بأنظمة حديثــة للبناء “

أسباب إضافية
بالإضافة الى تصاعد دور بيروت التجاري وضغوط الدول الأوروبية ودور القوى المحلية والتحدي المصري في تفعيل التنظيمات، هناك عامل آخر جاء يعزز اهتمام السلطة العثمانية ببيروت في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو اهتمام السلطان عبد الحميد بالذات بالولايات العربية عموماً، وبولاية بيروت خصوصاً، وذلك لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. فبعد خسارة السلطنة معظم ولاياتها الغنية في آسيا وأوروبا، تركز اهتمامها على ولايات سوريا وحلب وأطنة وعلى رفع مستوى ازدهارها وثرواتها، لتكون بديلاً اقتصادياً من الولايات التي خسرتها واختارت ولاتها من كبار الموظفين وأكفأهم، وعزلت الفاسدين منهم.
هدفت التنظيمات ايضاً الى إظهار الدولة العثمانية بأنها لا تقل تقدماً عن دولة محمد علي باشا (1805 – 1845)، والذي أظهر بأنه مشروع نهضوي متقدم على الدولة العثمانية، إذ كانت الرغبة في الإصلاح هي أيضاً عنوان مرحلة حكم محمد علي باشا الذي كان يصبو بالدرجة الأولى الى تأسيس دولة قوية قادرة على توحيد الأجزاء العربية للدولة العثمانية، وهذا ما سعى اليه إبنه ابراهيم عندما احتل بلاد سوريا سنة 1830. ولكنه ادرك أن تحقيق طموحات الدولة المصرية لا يتم فقط بالقوة العسكرية بل يحتاج إلى إطلاق النمو الإقتصادي والمعرفة، لذلك حرص محمد علي باشا على إصلاح جهاز الدولة وتعزيز مبادئ الحكم المركزي والدولة المركزية الراعية للعمران والصناعة والزراعة والتعليم، وهو فوق ذلك راح يغزو ولايات السلطنة ويحتلها ويعيد تنظيمها كما فعل في بلاد الشام.

 

نهضة بيروت ارتبطت بدورها المتزايد كمرفأ للداخل السوري وما يتعداه
نهضة بيروت ارتبطت بدورها المتزايد كمرفأ للداخل السوري وما يتعداه

” برج الساعة الحميدي في ما أصبح ساحة البرلمان كان رمزاً لسياسات التحديث العثماني ورمزاً لأهمية الوقــت واستثمـــاره في العمل بدل المقاهي واللهو “

لإنجازات الهندسية والمدنية والإقتصادية
استندت الانجازات العمرانية في مدينة بيروت الى السلطات المركزية عموماً، والى النشاط البلدي الناجم عن الإصلاح البلدي الذي شهدته الأعوام الممتدة ما بين 1864 و1877، وجرى تطبيقه في مجمل الولايات الخاضعة للسلطنة، والذي اسفر عن نتائج متفاوتة تبعاً لاستعدادات الولاة الإصلاحية. لكن قرار الإصلاح كان قد اتخذ، مما يؤكد أن السلطان عبد الحميد (1908-1876) لم يكن حفار قبور التنظيمات، إذ تبدو الفترة الحميدية على صعيد التنظيم المدني، المرحلة التي بلغت فيها روحية العمران حدها الأقصى، وعلى الأرجح للأسباب الإقتصادية والسياسية التي ذكرناها، وكذلك بسبب شخصية السلطان القوية ورؤيته المقدامة التي تميّز بها عن العديد من السلاطين الذين سبقوه.
عرف عهد عبد الحميد إنجازات هندسية كبيرة، وفق تنظيم مدني صارم وضع حداً للفوضى العمرانية وفرض قوانين صارمة للبناء، وقد تصاعدت وتيرة الإصلاح منذ أن اصبحت بيروت عاصمة ولايتها سنة 1888 وتحولت رسمياً الى مركز سياسي إقليمي عثماني.
انطلقت إرادة النهضة في اسطنبول، والتعطش الى انوار العقل اكثر ما تجلى هناك بكل حيويته، مرسياً قواعد الإصلاح في العاصمة ومجيشاً اندفاعة النخب الإجتماعية في جميع مدن السلطنة، حتى لو تفاوتت الجهود والإرادات الإصلاحية وفقاً لدور هذه المدن.
شجعت القرارات الإصلاحية السلطانية المشاريع العمرانية التي تولت تنفيذها السلطات العامة، ووجب الإقتداء بالنموذج الذي روّج له «هوسمان»، عمدة باريس، وبالإنجازات العمرانية التي تحققت في اوروبا إبان القرن الثامن عشر بإسم العقل، فاستبدلت شبكة الطرقات المهملة بخطوط مستقيمة، وتمّ الاهتمام بتنظيم السير ووسائل النقل، ذلك أن التطورات التكنولوجية، المتمثلة في العربات العامة وسكك الحديد ومحطة الترمواي في بداية القرن العشرين، كانت تفترض إيجاد مساحات إضافية عامة مفتوحة، فأنشئت الساحات وأماكن التوقف ولاحقاً المحطات، ونتيجة لذلك، ظهرت باحات التنزه والمطاعم والمقاهي، لا بل الفنادق،…
تمّ تشييد ساحة حملت إسم ساحة الحميدية تخليداً لإسم السلطان عبد الحميد، واحيطت بها حديقة عامة مستوحاة من حديقة الأزبكية في القاهرة، وعلى أثر ثورة «تركيا الفتاة» سنة 1908 وتنحية السلطان عبد الحميد عن السلطة في السنة التالية، أطلق على «ساحة الحميدية» إسم «ساحة الإتحاد»، فيما أصبحت الحديقة المحيطة بها «حديقة الحرية»، وهي الآن ما باتت تُعرف بـ «ـساحة الشهداء»، كما تمّ تشييد ساحة أخرى هي «ساحة عصور»، وتُعرف بـ «ساحة رياض الصلح» وساحة الثكنة.
وفي الجهة الشمالية للحديقة، شيّدت سراي على الطراز العثماني باتت بعد سنة 1888 مقراً لوالي بيروت، وضمت مكاتب المتصرفية.
ولم يمنع الطابع الرسمي لساحة الحميدية من أن تصبح المركز الأكبر للأعمال في المدينة والى الطريق الشمالي، على جهتي الحديقة، جعلت بعض الشركات الكبيرة مقراً لها، كشركة المرفأ وسكك الحديد وغاز المدينة والتبغ والبنك العثماني، واحاطت بها جنوباً الفنادق والمقاهي والكازينوهات، وظهر نموذج غير معهود من المحال كالمكتبات والصيدليات، ومحلات الساعات والمصارف، وألحقت بها في ما بعد صالة مسرح وقاعة احتفالات.
وعرفت المدينة ظاهرة الأسواق الحديثة، وكان أول سوق أبصر النور هو «سوق الطويلة» سنة 1875 ثم «سوق الجميل» (1894)، وكانت تباع فيه البضائع الأوروبية، و «وادي أبو جميل» الذي اختارته الطائفة اليهودية حياً لسكنها المتجاور، وبرزت آنذاك ظاهرة مجموعة مخازن كبرى مجهّزة بمصاعد كهربائية، هي الاولى في المدينة، اولها مخازن «اروزدي باك»، كما ظهر أثر الثروات الكبيرة ببناء العديد من القصور الفخمة.
ووجب على السلطات السياسية والبلدية المولجة بإدارة أحوال العاصمة العمرانية الاستجابة الى متطلبات تزداد تعقيداً لمواكبة نمو المدينة، من خلال شق طرقات جديدة وزيادة شبكات الإنارة العامة، وجرّ المياه، واستحداث مركز تلغراف، وخطوط ترمواي، وشاع استعمال الفوانيس المنزلية بفضل شركة عثمانية لتوزيع الغاز.
وحتم إزدياد وظائف مرفأ بيروت، تحديث الواجهة البحرية، وفي بداية القرن استكملت المنشآت البحرية ببناء محطة بحرية، وفي غضون ذلك ارتفعت مبانٍ مؤلفة من ثلاث أو أربع طبقات، مخصصة للمصارف والفنادق ووكالات السفر البحرية والمقاهي والمطاعم.
وفي سنة 1907 دشّن الوالي الحديقة المجاورة لمدرسة الصنائع، والتي حملت إسم «حديقة الصنائع»، وقررت البلدية أن تنشئ، في الوقت نفسه، مستشفى وكركولاً وسجناً.

برج الساعة: روح العصر
وتمثّلت روح العصر كما سمّاه بطرس البستاني، بإنشاء برج الساعة العثماني سنة 1897 .
وكان انتشار بناء أبراج الساعة العثمانية، في كافة أنحاء الامبراطورية، جزءاً من رغبة السلطان عبد الحميد للتجديد والتحديث، في محاولة لإعطاء قيمة اكبر للوقت. فبدلاً من أن يكون تقسيم النهار معتمداً على اوقات الصلاة، فقد اصبح مقسماً وفق حاجات العمل على امتداد ساعات اليوم.
وفي بيروت، برز هذا الإتجاه في كتابات بطرس البستاني الذي حث المواطنين على اعتماد واحتضان فرص التعليم الجديدة والإنتاج وعمل الخير العام، وأنذر الذين يضيعون أوقاتهم قائلاً:
«الذين يترددون الى المقاهي لأجل قتل الوقت نهاراً، وتملأ البيوت من الدومينات والشدّات والطاولات لأجل قتله هناك ليلاً».
تحوّل برج الساعة الى رمز تحديث الحياة الخاصة والعامة، الى نداء لإعادة النظر في كيفية تدبير الحياة، تمثلت معانيه بيسر النخب المثقفة، مما دفع لويس شيخو، الى شرح بناء برج الساعة في مجلة المشرق مفتخراً ومركزاً على كون هذا البرج «ثمرة التعاون بين السلطة العثمانية والسلطة المحلية والوالي والمهندس البلدي يوسف افتيموس».
أما جرجي زيدان فكان أكثر وضوحاً عندما أنذر قرّاء مجلة «الهلال» بأن «الجلوس في المقاهي ساعات متتالية يمنع الشباب عن الاجتهاد في أعمالهم، وخصوصاً لأن فرصة العمل عند الشبان قصيرة ما بين 20-30، وهي أثمن أيام الإنسان وأفضلها وأصحها وأنشطها فهل نضيعها بين القهوة والبيرة أم نصرفها في الخير…».بالإضافة الى برج الساعة الذي يستبطن بعداً عمرانياً وذهنياً ثقافياً، شهدت اواسط القرن التاسع عشر بناء مسرح خاص على يد مارون النقاش (1805 – 1887) الذي كان تاجراً، مولعاً بالفن، فاقتبس مسرحية «البخيل» لموليير، وعرضت في منزله، بمساعدة ممثلين ايطاليين، ثم ألّفّ مسرحيتين، إحداهما تدور حول شخصية هارون الرشيد، ثم حصل على فرمان امبراطوري يجيز له إنشاء مسرح حقيقي بجوار منزله، في إحدى ضواحي بيروت. وبعد أن أدخل الاخوان نقاش المسرح الى البلاد، أخذت المدارس الكاثوليكية تشجع الفنون المسرحية متجاوزة المعارضة التقليدية للكنيسة لهذا النوع من النشاطات، فقدمت عروضاً مسرحية كثيرة عند نهاية كل عام دراسي، كما انصرف طلاب الأميركان كولدج الى إتقان هذه الفنون في مطلع القرن العشرين. ففي سنة 1903، عرضت مسرحية «يوليوس قيصر» في الهواء الطلق فوق منصة اقيمت في كامبوس الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم) وتبعتها في سنة 1905 مسرحيات مختارة من شكسبير، وعرضت «هاملت» سنة 1906.

استجابة لهذه الوضعيات الاقتصادية، والتي يعجز الحاكم الشرعي عن تدبيرها بالأساليب القديمة، شهدت بيروت تنظيماً خاصاً للشؤون الحقوقية والقضائية طبقاً لمقتضيات التنظيمات.
ففي سنة 1851 أقدمت السلطنة على تزويد بيروت بمحكمتين، إحداهما جنائية والأخرى تجارية، وجرى تشكيلهما بشكل رفيع المستوى، على غرار محاكم القسطنطينية، وتعزز وضع المدينة اكثر فأكثر عندما رقيت محكمتها التجارية الى درجة الإستئناف، لكل ولاية سورية وجبل لبنان سنة 1864، وقد تحولت هذه المحكمة الى واحدة من كبريات المحاكم التجارية في حوض المتوسط، عندما تحولت غرفتها الثانية الى مجلس للنظر في الدعاوى التجارية لمختلف الدول، وكان إنشاء المحاكم من ضمن التدابير التي اتخذتها السلطة العثمانية لاستعادة موقعها في بيروت بعد أن اشتد فيها نفوذ الإرساليات والتجار.
وفي مطلع القرن العشرين، بدت بيروت في قمة هذه التحولات، مدينة شابة، منصهرة في بوتقة الحداثة، وعشية الحرب العالمية الأولى، لا شيء كان يوحي بأنه قادر على كبح جماح ارتقائها، بل إن دخول تركيا الحرب لم يضع حداً لحركة التمدين التي تقوم بها السلطات العامة، بل خلافاً لذلك، استغل الوالي «بكر سامي» حالة الحرب والقانون العرفي ليضع قيد التنفيذ مشروع شق طريقين سيصيران (بعد خسارة تركيا للحرب) شارعي «اللنبي» و «فوش» العتيدين، ونجح خلفه عزمي بك في إتمام «كازينو غابة الصنوبر» سنة 1917 في خضم الحرب.
وبمقدار تطور اسلوب عمل التنظيمات بدت المدينة وكأنها المكان المفضّل لنشاط رجال أكفاء في كل الميادين لإحداث ثورة من فوق، كان التغيير الفعلي الذي أحدثته التنظيمات هو أن المسؤول في الدولة بات يضطلع برسالة، وهي الاستجابة لحاجات الناس والتخطيط لرفاهيتهم، مما يوازي، إعادة تأسيس الامبراطورية التي لم يعد في إمكانها أن تختزل الى منظومة هائلة لجباية الضرائب وآلة لصنع الحرب.
هكذا، شهدت مدينة بيروت نهاية القرن التاسع عشر تجدداً عمرانياً على كافة الأصعدة بما يشبه إعادة تأسيس حداثة رسمية تولتها الدولة العثمانية للأسباب التي ذكرناها، واستثمرت فيها السلطات المحلية جهودها وخبراتها وطموحاتها.

” كانت التنظيمات بمثابة إعادة تأسيس للإمبراطورية العثمانية على أسس المواطنة إذ لم يعد في الامكان اختزالها الى منظــــومة هائلة لجــــباية الضرائب وصنــــع الحرب “

الثورة المعرفية والثقافية
في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تعد بيروت مرفأ سوريا الأول وأهم مدن الساحل المتوسط فحسب، بل قطباً للمعارف وموئلاً للنشاط الفكري، وتجلّت هذه الثورة الثقافية بتأسيس المدارس والجامعات والجمعيات والصحف والمطابع ودوائر المعارف على وجه الخصوص، كحلقات متصلة ومتوالدة، شكّل التعليم رافعتها الأساسية.

مدرسة الآباء اللعازاريين نحو سنة 1880
مدرسة الآباء اللعازاريين نحو سنة 1880

تسابق الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية أطلق حركة إنشاء الجامعات في بيروت فردّ المسلمون بتأسيس جمعية المقـــاصد والكلية العثمانيـــة

النهضة التعليمية
انطلقت نهضة بيروت ببعض التباطؤ قياساً لمصر محمد علي، كونها لم تحظَ بالدعم الرسمي الذي حظيت به نهضة مصر، بل انطلقت بمساهمة مشتركة من المرسلين الاجانب والنخب المحلية. لم يكن فيها للسلطة العثمانية سوى بعض المبادرات الضئيلة على مستوى التعليم جاءت خجولة ومتأخرة، وكردّ فعل على إنتشار الإرساليات.
حتى منتصف القرن التاسع عشر كان التعليم الأولي بأكمله في أيدي الشيوخ المسلمين أو القساوسة المسيحيين، وكان لصيقاً إما بالجامع وإما بالدير، وكان برنامج التعليم يقتصر في الغالب على مبادئ القراءة والكتابة وتلاوة القرآن أو الإنجيل واستظهار مقتطفات منهما. وكان التعليم يهدف بالدرجة الأولى الى التقيّد بالتقاليد الدينية، ولم تلقَ المدارس التي تدرّس العلوم العصرية انتشاراً معيناً إلا مع استيلاء ابراهيم باشا على لبنان فقبل حكم إبراهيم باشا «لم يكن في بلاد الشام شيء يقال له علم أو أدب ما خلا بقايا ضئيلة في بعض الجوامع والأديار».
ففي العشر الثالث من القرن التاسع عشر، سكن المرسلون العازاريون بيروت وتبعهم المرسلون البروتستانت سنة 1828 واليسوعيون 1839، والقصاد الرسوليون منذ 1841، ويعود الفضل في دخول الإرساليات الى بيروت الى إبراهيم باشا، ابن محمد علي، الذي شجّع دخول الإرساليات التبشيرية الى جبل لبنان ثم الى بيروت، في إطار تبنيه لمبدأ الحريات الدينية، هذا المبدأ الذي تمّ تكريسه لاحقاً إثر صدور مقررات «خط همايون» سنة 1856 التي أكدت على «حرية كل جماعة مأذونة بعمل مكاتب علمية للمعارف والحرف والصنائع» على أن تكون تحت مراقبة «مجلس معارف مختلط» 1883، ولكن هذا التشريع جاء متأخراً إذ كانت قد سبقته بأشواط مبادرات الطوائف والجماعات التبشيرية.
وبالإضافة الى التعليم الثانوي، أصبحت مدينة بيروت مركزاً للتعليم العالي، ففي سنة 1866 أنشأ المرسلون البروتستانت الكلية الإنجيلية السورية التي أصبحت في ما بعد الجامعة الأميركية، وأنشأ المرسلون اليسوعيون سنة 1875 جامعة القديس يوسف.
وبادرت الطوائف المحلية الى إنشاء مدارسها، فأنشأ الأرثوذكس «مدرسة الثلاثة اقمار» سنة 1852 و «مدرسة زهرة الإحسان للبنات» سنة 1880 والروم الكاثوليك «الكلية البطريركية» سنة 1865، والموارنة «مدرسة الحكمة» سنة 1872.
ومن الطبيعي أن تعمد الأوساط الإسلامية الى إنشاء المدارس لتعليم أبنائها وبناتها، إقتداءً بمدارس الإرساليات والطوائف الأخرى من جهة، ولأن المدارس العثمانية لم تكن كافية لتعليم ابناء المسلمين من جهة أخرى، لذلك أنشأ وجهاء المسلمين، بتشجيع من والي سوريا المتنور، مدحت باشا، «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» سنة 1878 وجعلوا من أهدافها «تفقد أحوال الفقراء من أبناء الطائفة الإسلامية، وإيجاد المعاهد العلمية للذكور والإناث منهم وخدمة الأمور الخيرية»، وبعد شهرين أنشأت الجمعية مدرسة للبنات في بيروت سنة 1878، اتبعتها بأخرى للصبيان، كما عمل الشيخ أحمد عباس الأزهري على تأسيس مدرسة خاصة أسماها «الكلية العثمانية» في سنة 1895.
قبل هذا التاريخ، كان التعليم في المدارس الإسلامية في وضعٍ بائس، إذا رجعنا الى توصيف نشرة «الفجر الصادق»، الصادرة عن «جمعية المقاصد الخيرية» سنة 1879، التي اشارت الى أن تلك المدارس كانت مقتصرة على بعض الزوايا المهجورة والمملوءة بالعفونة والرطوبة، مما يضرّ بصحة الأولاد العمومية، ومن المعلمين المشايخ العميان الذين لا ننكر فضلهم لأنهم قاموا بواجباتهم على قدر استطاعتهم».
كما شملت النهضة التعليمية، التي تولتها الإرساليات، النساء، اذ فتحت زوجة القس الإنجيلي دودج والقس طومسون أول مدرسة داخلية للبنات سنة 1826، وكانت اول مدرسة للبنات في الأمبراطورية العثمانية ودخلتها من سنتها الأولى أربعون فتاة، وأنشأ المرسلون الأميركيون مدرسة داخلية أخرى للبنات سنة 1816، وهذا ما دفع «راهبات المحبة» الى تخصيص مدارس ابتدائية مجانية للفقيرات من البنات الكاثوليكيات، ومدارس ثانوية للطبقة الوسطى من الأهلين منذ سنة 1847.
أما أولى المدارس الوطنية العلمانية فهي مدرسة المعلم بطرس البستاني، أسسها في زقاق البلاط سنة 1863، دفعه الى هذا العمل ما وجده من تنافر بين أبناء البلاد وانقسامات طائفية ومجازر في العامين 1860 – 1861، فسعى لأن يجاور بين أبناء البلاد، لعله ينتزع الاحقاد من قلوبهم.
وكان المعلم بطرس مثالاً خلقياً نشيطاً، فتقدمت المدرسة رغم ما لاقاه من معارضة المطران طوبيا عون لكنها أقفلت ابوابها سنة 1876 بعد أن عاشت 13 سنة فقط، وكان من اساتذتها ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم.

” السلطان عبد الحميد قيّد نشاط المعاهد الإرسالية وفرض مراقبة على مناهجها وكتبها وأنشأ المدرسة السلطانية ومدرسة الصنـائع ومعاهد تخريج المعلمين  “

” المعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت لكن معارضة المطران طوبيا عون الشديدة أدت إلى إقفالها  “

جانب من الواجهة البحرية لبيروت قي القرن التاسع عشر
جانب من الواجهة البحرية لبيروت قي القرن التاسع عشر

أثر نظام السلطان عبد الحميد في التعليم
كان اهتمام السلطان عبد الحميد منصباً على الإنشاءات العمرانية والصروح الرسمية، اكثر منه على التعليم، كما أنه عني بالإشراف اكثر من التخطيط والتأسيس، ولكن اشتداد نفوذ الإرساليات دفعه الى محاولة الحدّ مما اعتبره «مساوئ التعليم الإرسالي» فدشّنت بيروت المكتب الرشيدي العسكري سنة 1877، والمدرسة السلطانية سنة 1883، ومدرسة الصنائع سنة 1907، كما انشأت بعض المدارس التي تعنى بتخريج المعلمين والتحضير للمدارس العسكرية.
وفي سنة 1883 صدرت مراسيم عثمانية للإشراف على التعليم، وجرى منذ ذلك التاريخ، تقييد نشاطات الإرساليات في المدن وخارجها، ومراقبة مناهجها وكتبها، ويكشف واقع التجربة التاريخية، تخلي السلطنة، في عهد السلطان عبد الحميد، عن التوجيه والتخطيط واحتفاظها بالإشراف فقط.
ولكن هذا لم يحلّ دون استفادة مجموعة من الشبان، من الدراسة في المكتب الإعدادي العثماني، والذهاب الى الآستانة للتخصص في الطب أو الحقوق، وكانوا بدورهم وسطاء لنقل افكار التحديث، ومن ضمنهم القاضي سعيد زين الدين.
وبالمحصلة، وبسبب تعدد مدارسها وجامعاتها، كانت بيروت قبلة الراغبين بالتعليم الحديث، والتعليم العالي، في جامعاتها أو جامعات اسطنبول، ففي سنة 1882 كانت مدارسها تضم ثلاثة عشر ألف تلميذ مقابل سبعة آلاف في دمشق، التي تضم ضعف سكانها، والفين وخمسمائة في حلب، التي تضم عدداً موازياً من السكان، وكانت الفتيات يشكلن اكثر من أربعين في المئة من التلاميذ، بينما لا تزيد نسبتهن على الربع في دمشق أو حلب.
وهكذا، وبفضل تضافر مجموعة استثنائية من الظروف الداخلية والخارجية، كانت النهضة التعليمية في بيروت نتاجاً إجتماعياً، وليس نتاجاً سلطوياً، كما صنعت هذه النهضة التعليمية المعرفية أفراداً يقودهم فضولهم المعرفي الى فضاءات جديدة لم تعهدها المدينة.

الجمعيات العلمية والأدبية
أبرز الإبتكارات في الشأن الثقافي كانت الجمعيات العلمية والأدبية، كان السبب الأول لتأسيس هذه الجمعيات هو التعبير عن الحرية الفردية والخروج عن العصبيات التقليدية، فالنهضة هي ايضاً تفتق للفردية وإبداع وتوق الى التقدم والتحديث، وردة فعل على الأوضاع السياسية والإجتماعية القائمة، والحرية من مميزات المدينة.
ومما ساعد على إنتشار هذه الروح هو الشغف بالعلم، والإختلاط بالأجانب، لتكاثر الإرساليات، ومطالعة الكتب الأجنبية مباشرة أو عبر التعريب، والذي مكّن من عشق الحرية ايضاً انتشار العلوم الطبيعية والإنسانية بين النخب وشيوع نظريات علمية ومذاهب فلسفية لا عهد للعرب بها كالإشتراكية والعلمية ومذهب النشوء والإرتقاء، بالإضافة الى ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي وفرتها المصادر الأجنبية.
وابتداءً من 1847عرفت بيروت-التنظيمات، حركة جمعيات تعليمية وثقافية، ففي سنة 1847 أنشأ المرسلون البروتستانت بالتعاون مع مثقفين محليين، «الجمعية العلمية السورية، وسنة 1850 حذا حذوهم الكاثوليك فأسسوا، بمساعي الآباء اليسوعيين، جمعية أطلقوا عليها إسم «الجمعية المشرقية» واستمر تأسيس الجمعيات حتى سنة 1882.
كان المحرك الأول لتأسيس الجمعيات هو المبادرة البروتستانتية، التي كانت تحمل تطلعات إصلاحية وتنويرية، عبر تأسيس «الجمعية العلمية السورية» قبل تأسيس المدارس العالية أو الصحف وغيرها، وما لبثت أن ردت عليها سريعاً المبادرات الكاثوليكية ثم الأرثوذكسية، قبل أن تبادر الفئات الإسلامية التي تملك مشروعات تمدينية، الى الإعلان عن نفسها كجمعية المقاصد الخيرية (1878).
وتعتبر «الجمعية العلمية السورية» أبرز الجمعيات التي تأسست نظراً لهوية الأشخاص الذين نشطوا في إطارها، ولأهمية الآثار الفكرية واللغوية والأدبية التي خلفوها، ولتأثيرها في تكوين الأفراد الذين انتموا اليها، عقلياً وفكرياً واجتماعياً، وبالتالي سياسياً. فما هي هذه الجمعية؟

السلطان-عبد-الحميد-الثاني-لعب-دورا-مهما-في-تحديث-الإمبراطورية-وإطلاق-نهضة-بيروت
السلطان-عبد-الحميد-الثاني-لعب-دورا-مهما-في-تحديث-الإمبراطورية-وإطلاق-نهضة-بيروت
مدحت باشا والي دمشق الإصلاحي شجع على تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية
مدحت باشا والي دمشق الإصلاحي شجع على تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية
إصلاحات إبراهيم باشا خلال الفترة من 1830 وحتى 1840حفزت العثمانيين لتطوير بيروت
إصلاحات إبراهيم باشا خلال الفترة من 1830 وحتى 1840حفزت العثمانيين لتطوير بيروت

الجمعية العلمية السورية
أنشئت هذه الجمعية بمساعي المبشرين الإنجيليين «وليم طومسن» و«عالي سميث» سنة 1847 وتوقفت اثناء الحرب الأهلية التي دارت في جبل لبنان بين العامين 1860 و 1861، ثم استأنفت نشاطها ابتداءً من 1868، ولكنْ انشاؤها تمّ بإلحاح من مثقفين لبنانيين في طليعتهم بطرس البستاني وناصيف اليازجي، وكانت الجمعية تعقد اجتماعاتها مرة كل 14 يوماً لإلقاء محاضرات عامة، ويتألف دستور هذه الجمعية من 15 بنداً، يحدّد البند الثاني منه غاية الجمعية بما يلي: « إنها الرغبة عموماً لاكتساب العلوم والفوائد، مجردة من الأمور السياسية، والمجادلات الديانية، فإنها لا تتعلق بهذه الجمعية.
تكفي نظرة خاطفة على مواضيع المحاضرات التي ألقيت في «الجمعية العلمية السورية» كي ندرك بزوغ هاجس المعرفة والتقدم والتخلص من حالة الركود المعرفي السائد.
3. لذات العلم وفوائده للدكتور كرنيليوس فان دايك.
4. فضل المتقدمين على المتأخرين للدكتور كرنيليوس فان دايك
5. تعليم النساء لبطرس البستاني.
6. مقدار زيادة العلم في سوريا في هذا الجيل ليوحنا ورتبات.
7. علوم العرب لناصيف اليازجي.
8. النبات لنوفل نعمة الله نوفل.
9. الشرائع الطبيعية لسليم نوفل.
10. السعد والنحس لميخائيل مشاقة
11. مدينة بيروت لبطرس البستاني.
وفي ما طغى الطابع العلمي على محاضرات «الجمعية العلمية السورية» انشغلت «الجمعية المشرقية» التي أسسها الآباء اليسوعيون بالمواضيع الدينية عموماً، وفي ما يلي نماذج من المواضيع التي كانت تعالج في إطار الجمعية المشرقية:
1. تواريخ سوريا للشيخ الياس الدحداح
2. فوائد هذه الجمعية لنقولا منسـى
3. وقائع وادي العاصي لراجي إده
4. حكم سليمان لجبرائيل الشراباتي
5. حكومة يوشا فاط لراجـــــي إده
6. الأجـــرام الفلكية لداود برتران
وبالتالي إحتل التنوير مكانة رئيسية في نشاطات «الجمعية العلمية السورية»، كما في مجمل العمليات الإيديولوجية المميزة للنهضة في القرن التاسع عشر، وكان المتنورون يهدفون الى نشر التعليم والمعارف العلمية والتقنية، اعتقاداً منهم أن التنوير هو محرك التقدم الإجتماعي.
ولقد ساعد عمل الجمعية العلمية السورية على تنشيط الحياة الثقافية في البلاد، مما أثار إعجاب المستعرب الروسي ف. ن. جيرجاس، الذي زار سوريا سنة 1861، فكتب قائلاً: «لقد ساعد على هذا الأميركيون، ونشرت الجمعية مجلداً يحوي على الكلمات التي القاها اعضاؤها، كما حققت فائدة غير قليلة الأمسيات الأدبية، التي كانت تنعقد عند بطرس البستاني أو أعضاء الجمعية الآخرين، وكان أشخاص مختلفون يلقون خلالها كلمات حول تطوير الثقافة في سوريا.
أما مؤسسو الجمعية اللبنانيون فكانوا كوكبة من رجالات النهضة: بطرس البستاني وابنه سليم، وناصيف اليازجي، ويعقوب صروف، وفارس نمر، وجرجي زيدان، وميخائيل مشاقة وجبر ضومط وأسعد خياط، وسليم نوفل، ويوسف كتفاكو، (والأخيران كانا رجلي أعمال) وكان الأمير محمد أمين أرسلان الذي ينتمي الى عائلة أرسلان الدرزية المعروفة، اول رئيس للجمعية تلاه حسين بيهم، الذي ينتمي الى عائلة بيروتية سنية عريقة.
وعرفت الجمعية لاحقاً امتداداً واسعاً تجلى بإنضمام اكثر من 150 عضواً اليها، ومن انتماءات طائفية مختلفة، لكن مع غلبة عددية مسيحية، ومن أبرز الذين انضموا إلى صفوف الجمعية لاحقاً: حنَيْن الخوري، عبد الرحيم بدران، سليم شحادة، سليم رمضان، حبيب بسترس، موسى فريح، حبيب جلخ رزق الله خضرا، كما انضوى تحت لواء هذه الجمعية، كثير من الوزراء والأعيان وحملة الأقلام في بيروت والآستانة ودمشق، وحمص وحما وحلب وطرابلس واللاذقية وبعلبك وصور وعكا وحيفا ويافا والقدس والقاهرة.
لعبت «الجمعية العلمية السورية» دوراً تنويرياً هائلاً، ولكن نشاطها الفكري- التثقيفي سيقود بعض أعضائها في ما بعد الى تشكيل جمعية سرية سياسية لعبت دوراً مهماً في مناهضة حكم السلطان عبد الحميد الثاني.
ومن جهة أخرى، لعب اعضاؤها دوراً في تأسيس الجمعيات الثقافية حتى سنة 1882.

الجمعيات اللاحقة
وتأسست في بيروت سنة 1873، وبرخصة من الحكومة العثمانية، «جمعية زهرة الآداب»، وجلّ أعضائها من متخرجي المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني وغيرها من المدارس الكبرى، منهم سليمان البستاني وأديب اسحق واسكندر العازار ويعقوب صروق وفارس نمر وابراهيم اليازجي وداود نحول، وكان الغرض منها التمرس على الخطابة وقوة الحجة والدرس والبحث، وعني اعضاؤها بتأليف الروايات، وتمثيلها وانفاق الدخل منها في سبيل الخير. وكانت قد نشأت في وقت سابق سنة 1869، جمعية أخرى ولغايات خطابية ايضاً «جمعية شمس البر» وانتظم في عضويتها عدد كبير من خريجي الكلية الإنجيلية السورية.
وفي سنة 1882، نشأت جمعية ثقافية تنويرية جديدة في بيروت، تحت اسم «الأكاديمية الشرقية»، أما مؤسسوها فأشخاص معروفون جيداً في تاريخ النهضة، وهم فارس نمر ويعقوب صروف وكرنيليوس فان دايك وابراهيم اليازجي ويوحنا ثابت وسليم البستاني.
يلاحظ أن اعضاء هذه الجمعيات ينتمون بغالبيتهم العظمى الى الكلية الإنجيلية السورية، أساتذة وطلاباً، أو الى مدرسة المعلم بطرس البستاني وربما كان تأسيسهم لها وانتسابهم اليها ناجماً عن انحسار أعمال الجمعية السورية في سبعينات القرن.
بالمحصلة، لعبت «الجمعية العلمية السورية» وأساتذتها وخريجوها دوراً تنويرياً مرموقاً في نهضة بيروت الثقافية، كما لعبت دوراً اجتماعياً خاصاً، بتأمين الشروط الضرورية لولادة المثقف، وذلك لتوفيرها أجواء للنقاش والتباحث والتبادل المعرفي خارج الفضاءات التقليدية، متيحة لأعضائها الخروج كأفراد على مجتمع الأهل وثقافته وبلورة الشخصية الخاصة بهم، حتى أن بعضهم خرج من مذهب الاهل الى مذهب آخر، كبطرس البستاني الذي انفصل عن الطائفة المارونية ليعتنق البروتستانتية.

إبراهيم اليازجي أحد أعلام نهضة بيروت في أواخر القرن التاسع عشر
إبراهيم اليازجي أحد أعلام نهضة بيروت في أواخر القرن التاسع عشر
الممعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت
الممعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت

” الجمعية العلمية السورية لعبت دوراً تنويرياً مهماً في نهضة بيروت الثقافية، كما وفّرت الشروط لـولادة المثقف المتحرر من بيئته التقليدية “

الصحافة وسيف السلطان
أفرز الاهتمام الناشئ بالشأن العام والهوية الثقافية أو القومية، وبأيديولوجيات التقدم، الى تأسيس الصحف ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر، وبخلاف واقع الحال في مصر، حيث أتت المبادرة من السلطة ابتداءً من بونابرت الذي أسّس سنة 1799 صحيفة اطلق عليها إسم le Courier d-Egypte بريد مصر وصولاً الى «الوقائع المصرية»، التي أسّست سنة 1828، أيام محمد علي، كانت الصحافة بكليتها في بلاد الشام صنيعة ملتزمين مستنيرين في غالبيتهم من رجال الأدب وطغى عليهم هاجس الحداثة، اكثر مما طغى عليهم عامل الربح، وأبرز صحف تلك المرحلة:

حديقة الأخبار (1857)
كانت الصحيفة البيروتية الأولى وهي أول جريدة عربية خاصة تصدر في بلد عربي على يد عربي لا على يد السلطة، ولكنها ما لبثت أن تحولت الى شبه رسمية بعد أن قرر الوالي فؤاد باشا منح صاحبها مساعدة مالية سنوية، وأضحت تدافع عن السياسات العثمانية.
تميّزت هذه الصحيفة بأن صاحبها جعل منها مدرسة أخلاقية، فقام مقام المؤدب الذي يتصل بأفراد الشعب فيحضّهم على الفضائل، وبعض مقالاته شبيهة كل الشبه بخطب رجال الدين. ولكنه كان يملك إحساساً عميقاً بأن الفارق عظيم بين الغربيين والشرقيين، وكان يعنيه أن يفتح الابصار على ما امتاز به الاجانب من عادات حسنة، ولا سيما في ما يتعلق بالدقة والصراحة والإقبال على العمل، كما أنه حذّر أبناء قومه من التعصب والإخلاف بالوعد والمواربة، وكلها افكار تمدينية تنويرية لم يكن تمويل السلطة للمجلة عائقاً أمام نشرها.
صحف البساتنة
أصدر بطرس البستاني بين العامين 1860 و 1861 صحيفة «نفير سوريا» إثر أحداث 1860 المؤسفة بين الدروز والموارنة، داعياً الى الوحدة الوطنية، والى نبذ التنافر الطائفي ولكنها لم تستمر طويلاً، وكانت تصدر مرقمة كالبلاغات: النفير الاول، النفير الثاني، الثالث وصدر منها أحد عشر جزءاً. وسنة 1870 أصدر بطرس البستاني مجلة ذات طابع موسوعي تدعى «الجنان» ، كانت المجلة الأولى من هذا النوع، كتب معظم مقالاتها ابنه سليم، وقد عاشت مدة 16 عاماً من 1870 – 1886، حين توقفت بسبب تزايد الرقابة الرسمية على مضمون الصحف، ثم صحيفة يومية «الجنة» كان يحررها ابنه سليم ومجلة اسبوعية «الجنينة» عهد بها الى قريبه سليمان، وهو المترجم العتيد للإلياذة. أرست هذه الصحف اسلوب الصحافة العربية الحديث وكانت منبراً للأفكار التنويرية . فمن هو بطرس البستاني؟
نشأ بطرس البستاني (1819 – 1883) مؤسس هذه الصحف الثلاث، في كنف عائلة أنجبت عدداً من العلماء، وتربى في دير «عين ورقة» الماروني، حيث تلقى أصول اللغة العربية ولغات عديدة أخرى، ثم اشتغل لمدة في القنصليتين البريطانية والأميركية في بيروت، لكنه وطَّد علاقته بالمرسلين الاميركيين الإنجيليين، فاعتنق مذهبهم، وساعدهم على ترجمة التوراة الى العربية، كما اشتغل بالتدريس في معاهدهم. وفي سنة 1863 أسس البستاني المدرسة الوطنية وأقامها على مبدأ وطني لا ديني، وقد أعار دراسة اللغة العربية والعلوم الحديثة فيها عناية خاصة. كرّس معظم نشاطه العربي لإحياء اللغة العربية وبث محبتها في النفوس، وقد ساهم قاموسه «محيط المحيط» وموسوعته العربية «دائرة المعارف»، التي شرع بإصدارها سنة 1876 وشغلته حتى مماته، والنشرات الدورية التي كان يرأس تحريرها، في خلق نثر عربي حديث، صالح للتعبير البسيط والدقيق عن مفاهيم الفكر الحديث، ونشأت في وسط الحلقة المنعقد حوله من ابنائه واقربائه واصدقائه وتلاميذه، القصة والرواية العربيتان والصحافة العربية الحديثة.

المقتطف
صدرت «المقتطف»، وهي مجلة علمية شهرية، في بيروت بين الاعوام 1876و 1884، وكانت الغاية منها تيسير المعرفة لعامة المتعلمين وتقريب الخلاصات العملية التي تتضمنها المجلات والكتب الاجنبية، ونشر المباحث العامة لتشجيع الأدباء على الانتاج بالعربية، شغلت هذه المجلة الأذهان في الربع الاخير من القرن التاسع عشر.
مؤسساها يعقوب صروف وفارس نمر، وكان هذان الاستاذان، يدرس أحدهما الطبيعيات والرياضيات والآخر علم الهيئة واللغة اللاتينية، وكانا جد مؤمنين بأن المجلات هي آمن السبل لتنوير الأذهان وانتزاع ما فيها من تقاليد مضرة، وسنة 1877 عهد بإدارتها الى شريك ثالث بالتحرير هو شاهين مكاريوس، وزاد عدد صفحاتها الى أن بلغت في عامها الرابع 164 صفحة. ولما اتخذت منها السلطة موقفاً سلبياً وضيقت عليها ما في وسعها وشددت المراقبة على اصحابها وأسيء الظن فيهم، اضطر اصحابها الى نقلها الى مصر، وفي مقرها الجديد نمت بسرعة وتعددت موضوعاتها وأصبحت مدرسة نقالة لجيل كامل من القرّاء، وظلت تصدر في القاهرة حتى سنة 1952.

صحف متفرقة
بالإضافة الى صحف «البساتنة» و «المقتطف»، صدرت سنة 1877 جريدة «لسان الحال» لخليل سركيس، و«المشير» سنة 1894 لسليم سركيس، وفي ظل التنافس الطائفي صدرت مجلة «الهدية» الأرثوذكسية، و«النشرة» البروتستانتية، و « البشير» اليسوعية، ما حدا بجمعية إسلامية لإصدار مجلة «ثمرة الفنون» سنة 1875 بإدارة عبد القادر قباني، ثم جريدة «بيروت» 1888 لمحمد الدنا و«الصفا» 1886 للأمير علي ناصر الدين.

بين صحف بيروت و”المكتوبجي”

في سياق حركة الإصلاحات، أفسحت الدولة العثمانية المجال أمام قيام الصحف التي تعكس مختلف الاتجاهات، إلا أنها ما لبثت أن تنبهت إلى النتائج السلبية التي قد تنتج للدولة من هذا الانفتاح، ولاسيما الترويج للقيم الأجنبية. لذلك، وبعد تقييم لتفكير تلك الصحف وخلفيات ناشريها قررت الدولة فرض رقابة عليها وعدم التشجيع على المزيد من التعدد فيها.
وكانت الرقابة مبرمجة، إذ أُرسل لناشري الصحف تعميم، يحظر نشر الشكاوى من نشاط الموظفين، أو أخبار اغتيال الحكام في الدول الاجنبية، “وخصوصاً المظاهرات التي تحركها عناصر متآمرة وينبغي الحيلولة دون وصول مثل هذه الاخبار الى الشعب حيلولة كاملة”. وأتبع هذا الحظر بإنشاء مؤسسة للرقابة يرأسها “المكتوبجي”، والمكتوبجي هو مراقب الجرائد والصحف في السلطنة العثمانية وكان اسلوب مراقبة الصحف التي يتبعها المكتوبجي مفرطاً، وسواسياً، مما حدا بأحد الصحافيين لتخصيص كتاب طريف يسخر من مبالغات المكتوبجي وهواجسه وعدم ثقته بأي من الصحف التي كانت تصدر يومذاك.

 

المقال مبني على كتاب يصدر قريبا للكاتبة بعنوان “القاضي والنقاب”
( )- لويس شيخو، بيروت تاريخها وآثارها، مطبعة الأباء اليسوعيين، بيروت، 1925، ص.94 الكتاب كناية عن مجموعة مقالات نشرت في صحيفة «المشرق»، ثم جمعت وصدرت في كتاب، بناء على طلب الوالي العثماني الأخير مما يشير الى تعاظم شأن بيروت.
) )- أنظر ينس هانس، «بيروت مدينة التنظيمات»، عصر النهضة، مقدمات ليبرالية للحداثة، طـ 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000 ص.ص. 100-107.
) )-انظر سمير قصير، «تاريخ بيروت»، الطبعة الثانية، دار النهار ، بيروت، 2007، ص. 107.
(4)- انظر لينس هانس، «بيروت مدينة التنظيمات» مصدر سابق، ص. 106.
5)- انظر وجيه كوثراني «الإصلاح العثماني: هل هي الأسئلة ذاتها مع اشكالية الإصلاح»، مجلة «حوار العرب»، بيروت، آذار 2005، ص.ص. 31- 38.
6)- أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، مصدر سابق ص.ص 122-123.
7)- أنظر خالد زيادة، «النهضة والمدينة»، مقدمات ليبرالية للحداثة، مصدر سابق، ص. 117.
(8)- أنظر عبد الرؤوف سنو، «السلطان عبد الحميد الثاني والعرب»، مجلة «حوار العرب»، بيروت، عدد آذار 2005، ص.51.
9)- أنشئ مجلس بيروت البلدي سنة 1868.
(10)- أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، ص. 161.
11)-أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، المصدر ذاته ص.ص. 162- 165.
(12)- المصدر ذاته، ص. 169.
13)- انظربطرس البستاني، الهيئة الإجتماعية في بيروت، أعمال الجمعية العلمية السورية 1866 – 1868، يوسف الخوري، دار الحمراء، بيروت، 1990، ص.ص 204-207.
(15)-الهلال، 1895، ص. 137 – 138.
(16)- انظر سمير قصير، تاريخ بيروت، ص. ص. 1856-2399.
(17)- بطرس البستاني، «دائرة المعارف»، المجلد الخامس، ص. 751.
(18)- سمير قصير، تاريخ بيروت، مرجع سابق، ص. 182.
(19)- محمد كرد علي، “النهضة الشرقية الحديثة” مقالة نشرت في “المقتطف” المجلد السبعون، شباط 1927، ص. 129.
(20)- قبل هذا التاريخ كان عدد المدارس التي افتتحها الإنجيليون الأميركيون 41 مدرسة، فلقد فتح هؤلاء 4 مدارس سنة 1841 م وأصبحت 22 في 1855 و 30 في 1858، وقفز العدد الى 41 سنة 1862، وفيها 948 طالباً، انظر شربل داغر، «الكتاب والأفق» عصر النهضة، مقدمات ليبرالية للحداثة، مصدر سابق هامش ص. 252.
(21)- هنري غيز، بيروت ولبنان منذ قرن ونصف، ج2، ص. 229، 1850-1975»، لبنان في تاريخه وتراثه، مركز الحريري الثقافي، بيروت، 1993، ص491.
22)- «الفجر الصادق»، أعمال السنة الأولى، بيروت، مطبعة ثمرات الفنون، 1297هـ، ص.14، و»الفجر الصادق» هي نشرة سنوية كانت تعدها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عن أعمالها.
(23)- علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914 الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1987، ص. 198.
(24)- انظر احمد ابو ملحم ومحمد امين فرشوخ ، دراسات في أدب النهضة والمهجر ، الطبعة الأولى، دار الفكر اللبناني، بيروت، 2006-ص. 79.
(25)-أنظر خالد زيادة، النهضة والمدينة، عصر النهضة: مصدر سابق، ص. 135.
26)- يحتوي أرشيف المجمع الأميركي للبعثات التبشيرية، على رسالة بعثها بطرس البستاني بتاريخ 10 كانون الثاني 1846 الى عالي سميث الموجود وقتئذ في أميركا، يعلمه فيها بتاريخ 1847 عن إنشاء جمعية تدعى «مجمع التهذيب»، ومن اعضائها ناصيف اليازجي و11 عضواً من البروتستانت الوطنيين والدكتوران كرنيليوس فانديك وهنري دي فورست الأميركيان، انظر يوسف قرما الخوري، الدكتور كرنيلوسن فانديك، ونهضة الديار الشامية العلمية في القرن التاسع عشر ، مصدر سابق، هامش ص. 34.
(27)- المصدر نفسه، ص. 30.
(28)- المصدر نفسه، ص. 31.
(29)- المصدر نفسه، ص. 31.
(30)- انظر عن ز. ك ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث (في لبنان وسريا ومصر) ، مصدر سابق ، ص. 90.
(31)- انظر نقولا زيادة، ابعاد التاريخ اللبناني الحديث، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية العالية، قسم البحوث التاريخية والجغرافية، القاهرة، 1972، ص. 211-213.
(32)-أنظر أسد رستم، لبنان في عهد المتصرفية، منشورات المكتبة البوليسية، بيروت، طـ2، 1978، ص. 344.
(33)- ز. ك. ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث (في لبنان وسوريا ومصر) دار ابن خلدون، بيروت 1978، ص. 94.
(34)- انظر احمد بو ملحم ومحمد امين فرشوخ، دراسات في أدب النهضة، دار الفكر العربي، بيروت، 2006، ص. 113.
– انظر سمير قصير، تاريخ بيروت، مصدر سابق، ص. 189.
– كانت الغاية من انشاء المجلة المذكورة تعزيز الفكرة الوطنية وانتشار الدعوة الى التسامح والعمل من أجل تخلي المجتمع عن التقاليد القديمة المهلكة والتراكيب المضادة للتقدم، وكان شعارها «حب الوطن من الإيمان»، وغايتها كما عينته صفحتها الاولى نشر المعارف العمومية من علمية أدبية وتاريخية ومدنية وغير ذلك. حتى يزيد الوعي الوطني والشعور بضرورات المدينة الحديثة وانجازاتها، (انظر جورج انطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد واحسان عباس، بيروت، دار العلم للملايين،1962، ص. 112.
(37)- تشتمل «الموسوعة» على ابحاث في العلوم والطب والأشغال الهندسية والأفكار الليبرالية السائدة في اوروبا واميركا وكانت الغاية منها تغيير عقول الناطقين بالضاد وقرّائها وجعلهم قادرين على ولوج عالم العلم والاختراع الحديث، واكسابهم طريقة عقلية دقيقة للتفكير والعمل.
(38)- انظر احمد بو ملحم ومحمد أمين فرشوخ، دراسات في أدب النهضة، مصدر سابق، ص. 121، وعلي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798- 1914، مصدر سابق، ص. 257.
(39)-المصدر ذاته، ص. 119.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading